وقد وصف مصطفى تلك الفترة الرجعية بقوله في بعض مراجعاته للماضي وأدواره المتعاقبة:
لقد فعلت الوزارة الزيورية ذلك أملا في أن يأتي مجلس مزيف، لا يعبر عن إرادة البلاد. وقد ظهر بعد أن هذا ظن خاطئ وتعلق بالأوهام.
وفي ذلك الحين أنشئ حزب «الاتحاد» في غفلة الأيام، ونشأ في مهاد الدسائس ليكون سنادا للرجعية، واتخذ من ضعف الحكومة واستسلامها وسائل بغيضة لسوق الناس إليه، وابتزاز الأموال، لكي يقوم الحزب، ويظهر جريدته، ولكن عوامل فنائه كانت تتبعه وتحيط به، فما كان لهذا الحزب من حقيقة إلا في أخيلة عباد المناصب وعبيد الشهوات.
وبلغ الفساد يومئذ بهم مبلغا جرأهم على إجراء الانتخابات في جو من الإرهاب والوعيد، واستخدموا جميع أساليب التضليل والاستهواء، ولكن جاءت النتيجة مكذبة لآمالهم، مبددة لأحلامهم؛ إذ كانت الأغلبية للوفد، وانتخب سعد رئيسا لمجلس النواب، فأظهر من فوق كرسي الرياسة سماحة خلق وكريم صفح، حيث شكر للمجلس انتخابه لرياسته، وأعلن أنه لا يمثل في موضعه هذا حزبا ولا جماعة، ولكنه يمثل الدستور ويرعى القانون. فكان جوابهم أنهم جاءوا عشية اليوم ذاته يحملون مرسوما بحل المجلس، وكانت السابقة الأولى في التأجيل والحل مشجعة على الحل الثاني ضد أحكام الدستور.
لقد حاولت الرجعية المختنقة أن تمد في أنفاسها الخبيثة، وتطيل في حياتها الشريرة؛ فنشرت في البلاد جوا غامرا تطرق أثره إلى الأخلاق يضعفها، وإلى الروابط الاجتماعية يفرقها، وإلى ثقة الناس بعضهم ببعض يزعزعها، ولكن الله غالب على أمره، وفي الأمة إباء لا يبقى على الضيم، ولا يصبر على الهوان، فبدأت النفوس الوطنية يقرب ما بينها، وراحت الأيدي الطاهرة تتصافح، وبدأ «الائتلاف» ينشر أروقته، حتى إذا توثقت عراه، لم يبق إلا العمل على مكافحة هذه الشرور، ودفع تلك المساوئ التي آذت الأمة في مظهر حياتها أبلغ الإيذاء.
وحل عيد الجهاد الوطني في سنة 1925 - الثالث عشر من نوفمبر - والرجعيون يحاولون بمكرهم السيئ أن يصدوا الأمة عن الاحتفال به في النادي السعدي، ومن قبلهم لم تستطع السلطات العسكرية البريطانية أن تتعرض لذلك العيد، وهي في أشد قسوتها، ولكن غرور «الاتحاديين» زين لهم أن لا شيء يعجزهم في هذه البلاد، وما هم بمعجزين في الأرض ولا في السماء.
عمدوا إلى بيت الأمة يحاصرونه، وإلى النادي السعدي يدفعون أعضاءه من دخوله؛ فكانت مأساة، انتهت بدخول بعض الأعضاء إلى النادي والاحتفال بهذا العيد وأنف الطيش راغم.
وكانت تلك عظة لهم لو انتفعوا بالعظات، ولكنهم رجعوا إلى طبيعتهم فأحالوا البرلمان قلعة عسكرية، وجرحوا عزة الجنود؛ فبعد أن كانت وظيفتهم الدفاع عن شرف البلاد، طلبوا إليهم أن يطعنوا البلاد في حياتها الدستورية، ويحولوا بين النواب وبين دارهم، ولكن هذا التصرف لم يقابل بغير الاحتقار، فاجتمع البرلمان اجتماعه الاعتيادي في فندق الكونتننتال، واتخذ قرارات حكيمة حكم فيها على الوزارة الزيورية بالسقوط، وأعلن أنها ثائرة على الدستور.
وقد كتب سعد يومئذ في إحدى صحف الوفد بحثا ضافيا بسبيل الثورة الرجعية على الدستور، كان له أكبر وقع في البلاد. ونحن ناشرون هنا فقرة منه:
كيف يسوغ في أمة دستورية ارتكاب كل هذه الجرائم، ثم يبنى على أساسها تشريع يحلها، ويثبت أركانها، ويضاف إليه ما يعزز جانبها، ويمتد به شرها، من شروط تقلل عدد الناخبين وتفتح أبوابا واسعة أمام الفاسدين من الحكم وذوي الغايات والأهواء من الأفراد؟!
Page inconnue