133

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genres

وفي أول عهده بالمناصب الوزارية لم يكن مصطفى يصانع أو يجامل أو يخشى سطوة أحد من الإنكليز، أو يسكت عن إساءة من ناحيتهم، أو خطأ يقترفه كبير فيهم؛ بل كان الوزير الحريص على كرامته، الحفيظ لهيبة منصبه وسلطته؛ فقد قرأ وهو وزير المواصلات يومئذ في تلغرافات الأهرام الخاصة ذات صبح مقالا أو خلاصة من مقال أو تصريحا منسوبا للمستر فرسكويل المدير العام للسكك الحديد المصرية في ذلك الحين مع أحد مراسلي الصحف البريطانية، وهو أن السكك الحديدية المصرية قد اختلت اختلالا شديدا منذ تربعت الوزارة النيابية دست الأحكام، فلم يكد الوزير يصل إلى مكتبه حتى استدعى إليه المستر فرسكويل، فلما حضر قال له: «إني أقترح عليك يا مستر فرسكويل أن تختار أحد أمرين: إما أن تكتب إلي قبل الساعة الواحدة كتابا تكذب فيه تصريحك المنشور في التيمس، أو أن أحيلك في الحال إلى مجلس تأديب!»

وانصرف المستر فرسكويل حائرا لا يدري ماذا هو صانع إزاء هذا الوزير الجديد الذي لا يضع إنكليزيته موضع الاستثناء، ويعامله كمرءوس من عرض المرءوسين سواء بسواء. ولكن لم يلبث أن خطر له خاطر، فعمد إلى تنفيذه؛ وذلك هو أن يزور صديقا إنكليزيا مثله يشتغل بالمحاماة، راجيا إليه أن يقصد النحاس باشا فيتوسط له عنده، فلما كاشف صديقه هذا بما جرى، ذهب الصديق إلى النحاس باشا، فدخل عليه وبسط الأمر له، فقال له مصطفى باشا: «إني أعجب لك كيف وأنت محام تجيء لتناقشني في مسألة موظف تحت إدارتي، فإن كانت لديك نصيحة للمستر فرسكويل، فانصح له بأن يكتب لي الكتاب الذي طلبته منه.»

وقبل الساعة الواحدة بعد الظهر كان عند مصطفي باشا الكتاب الذي أراده ...

وفي ذلك الحين بدأت الرجعية تتحسس منافذ لتسرب منها إلى محاربة الروح النيابي في البلاد، ومناوأة الدستور، وتحريش بعض الهيئات والجماعات بالوزارة الديمقراطية الأولى؛ فألبت الأزهر على سعد وهاجت حفائظ طلابه وأوقعت الفتنة في صفوفه، ولكن سعدا عرف كيف يلجأ إلى الحكمة، ويجنب الاستهداف لمؤامرات الرجعية وكيدها الأثيم.

ولكن بينما كانت البلاد مقبلة على شئونها، مستقبلة الدورة الثانية للبرلمان بنشاط واستجمام، وبينما روح الأمل يسري في النفوس ويغمر جميع المرافق، والطمأنينة على الدستور تملأ القلوب، كانت الأيدي الأثيمة تدبر في الظلام جريمة نكراء، وهي اغتيال حياة السردار. وقد نفذت فعلا تلك الفكرة الإجرامية الشنيعة التي عدتها الوزارة موجهة إليها بالذات، فلم تدخر وسعا في تعرف أشخاص المجرمين للضرب على تلك الأيدي الآثمة.

ولكن الحكومة الإنكليزية وجدت في ذلك الحادث المستنكر الفرصة التي كانت ترتقبها لمهاجمة الحكم النيابي، والقضاء على الدستور الذي تبين لها أنه جاء على عكس ما كانت تريده أن يجيء، أداة مناعة للوفد وسلطانه، لا أداة تفرقة للإجماع وتوهين بنيانه. فتقدم لورد اللنبي بإنذاره المعروف، إلى سعد في مكتبه، في عديد من رماحه وحرابه؛ فتلقاه سعد بذلك التهكم المرير، وذلك الجلد الرهيب الذي عرف عنه في أخطر المواقف وأعظم الخطوب.

وأردف اللنبي ذلك الإنذار بمطالب مرهقة، فلم تقبل منها الوزارة دفعا للعدوان إلا ما لم يكن له مساس بحرمة البلاد وسيادتها، ولكن السلطة الغاشمة راحت تبالغ في الأعنات، وتسرف في الاشتطاط والإرهاق، فلم يتردد سعد في اعتزال الحكم حرصا على مصير البلاد، إذ تبين أن المراد من ذلك كله هو إقصاؤه منه، وتنحيته عنه؛ فاختار أخف الضررين ليسلم مستقبل البلاد من مجهول الخطر، ومبيت الكيد، ومضمر البلاء.

وقد تبين فيما بعد أن الإنكليز كانوا قد أعدوا من قبل ذلك الإنذار لهذا الغرض بالذات، وأخذوا يتحينون الفرص لاستخدامه، حتى كان مصرع السردار الناهزة المرتقبة، فاقتنصوها اقتناصا.

وما فضح المصريون هذا السر وإنما فضحه محرر «التيمس» في رسالته التي وجهها إلى مجلة «العالم الإسلامي» في باريس؛ بل فضحه لورد اللنبي نفسه في حديث له مع مسيو بيرو بقوله: «إن الإنذار كان عند مقتل السردار معدا في مكتبي لأقدمه عند الفرصة السانحة.»

ويومئذ خلا الجو للرجعية، فساد الإرهاب، وحلت بالبلاد «نكسة» مروعة، وتولت الحكم الوزارة الزيورية، فلم تقو بادي الرأي على مقاومة البرلمان فأجلت انعقاده. وحين بدأ الشيوخ والنواب يفزعون إلى العرش في سبيل إنقاذ الدستور من العبث الظاهر في ذلك التأجيل، عمدت الوزارة إلى حل المجلس، وشرعت تمهد لانتخابات جديدة على مزيج من قانون الانتخاب القديم والقانون الجديد، ولم تحترم ذلك القانون المباشر الذي كادت تتم إجراءات تنفيذه.

Page inconnue