كلمة الإهداء
تصدير وتصوير
سر الزعامة
العوامل والمؤثرات في نشأة الزعامة
الصفات والخواص المشاهدة في الزعامة والزعماء
الشخصية البارزة وصفاتها ومختلف مظاهرها
قوة الإرادة وضبط النفس
اللباقة والروح المرحة
الأسلوب والتنظيم وحاجة الزعامة إليهما
أخطار الزعامة والعوامل السيئة التي تتأثر بها
الزعامة والزعماء في النظام الديمقراطي
المرأة والزعامة
الزعامة في الشرق
الثورة المصرية في أدوارها الأولى
سعد زغلول في دور التكوين
زعامة سعد وظهور مصطفى النحاس
مصطفى النحاس نشأته وتكوينه
مصطفى النحاس في حياته العملية
مصطفى النحاس في عهد الثورة
سعد ومصطفى يبنيان للديمقراطية والدستور
مصطفى النحاس
مصطفى النحاس في الكفاح للدستور والاستقلال
مصطفى النحاس وتوافر صفات الزعامة فيه
كلمة الإهداء
تصدير وتصوير
سر الزعامة
العوامل والمؤثرات في نشأة الزعامة
الصفات والخواص المشاهدة في الزعامة والزعماء
الشخصية البارزة وصفاتها ومختلف مظاهرها
قوة الإرادة وضبط النفس
اللباقة والروح المرحة
الأسلوب والتنظيم وحاجة الزعامة إليهما
أخطار الزعامة والعوامل السيئة التي تتأثر بها
الزعامة والزعماء في النظام الديمقراطي
المرأة والزعامة
الزعامة في الشرق
الثورة المصرية في أدوارها الأولى
سعد زغلول في دور التكوين
زعامة سعد وظهور مصطفى النحاس
مصطفى النحاس نشأته وتكوينه
مصطفى النحاس في حياته العملية
مصطفى النحاس في عهد الثورة
سعد ومصطفى يبنيان للديمقراطية والدستور
مصطفى النحاس
مصطفى النحاس في الكفاح للدستور والاستقلال
مصطفى النحاس وتوافر صفات الزعامة فيه
مصطفى النحاس
مصطفى النحاس
تأليف
عباس حافظ
كلمة الإهداء
إلى الأمة المصرية التي أنجبت سعد زغلول، والتي أنبتت مصطفى النحاس، والتي أخرجت صحبه وزملاءه القادة الأبرار المخلصين.
أقدم هذه الرسالة الصغيرة الموجزة، منبعثة من أعماق صدر وطني مؤمن بهؤلاء الأبطال الأمجاد المغاوير الصادقين. •••
وإلى الأجيال القادمة، والغد المؤمل، والمستقبل الوارث للحاضر وعمله.
أزجي هذه الصورة الدقيقة المصغرة، من ريشة صادقة، ساذجة، غير حاذقة ولا ماهرة.
لتكون رسما للحاضر في صلته بالماضي المنشئ، والغد المستثمر، في حقل الحياة، على دورة الدهر، وكرة السنين.
عباس حافظ
تصدير وتصوير
ليس هذا الكتاب ترجمة حياة؛ لأن البطل الذي تناول بطولته بالبحث، والزعيم الذي شمله بالتحليل والدراسة - حي بيننا، نرجو بقاءه، وندعو الله أن يطيل في فسحة عمره ليخدم الأمة أكثر مما خدمها، ويفيض عليها بأغزر مما أفاض. ولا تكون التراجم ومدونات الأعمال وإقامة أدق الموازين، إلا بعد أن ينتقل الأفراد الخلقاء بها إلى ذمة التاريخ، ولا يزال لهذا البطل الذي انتوينا دراسته غد مرقوب، وحياة قادمة مرجوة الخير، وعمل عظيم طيب الغرس، حسن المجتنى، منتظر القطاف، موعود الثمر.
وإنما النية في هذه الفصول المحدودة، والأبواب المتعددة، تصوير البطولة من المعالم، ورسم الزعامة من الخطوط التقريبية، وتعيين النبوغ الوطني من ناحية رفعة مادته، وصدق معدنه وخاصيته، على ضياء ما ظهر من مزاياه وجملة موهبته، وبسبيل النجاح الأخير لجهوده في قضية الحرية والاستقلال.
ونحن فيما نصفه من عمل هذه البطولة وجهدها، إنما نصف الجيل الحاضر المندمج فيها، ونسجل آثار الماضي المشتمل عليها، الدافع إليها، وندون المزايا والمواهب التي اجتمعت لديها؛ ليكون هذا الكتاب فاصلا بين الترجمة والتاريخ، ووسطا بين التقرير والتسجيل والتدوين.
وما هو في الحق إلا تحية للفوز المكسوب، والنجاح المربوح، وتصوير للتقدير العام، والإيمان الشامل بالزعامة التي بلغت بالأمة هذا النصر المبين.
وقد جرينا فيه على نمط من التناول جعلنا مفتاحه البحث في معاني الزعامة وحدود البطولة، ثم تطبيق موجباتها ومطالبها على زعامتنا، والتماس نواحيها في أبطالنا وقادتنا، جلاء لحقائق البطولة عامة، وتصويرا لمظاهرها ومظانها ومواقفها في بطولتنا الوطنية خاصة، حتى يكون الكتاب درسا وتطبيقا، وبحثا وتحقيقا، وتعريفا وتصديقا، ومعالم ومقتضيات، وعبرا مواثل وعظات، ومرشدا للمستهدين والمسترشدين.
وقد جعلنا شخصية مصطفى النحاس ومبلغ بطولته ومحل زعامته من الزعامات، مقدمة الدرس ونظريته، والتمهيد للبحث ونقطته؛ لأنه الشخصية التي استحوذت على إعجاب الجيل ومحبته، والعظمة الصادقة التي وجدت الملايين من الناس بها مؤمنين.
وفي الحق إن عظماء الأمة وزعماءها هم المرائي البلورية التي يرى الناس على صفحاتها الشفافة وزجاجاتها الصقيلة الملتمعة، خواطر أذهانهم، وحقائق أنفسهم، وأطياف أخيلتهم، بل إن كل فرد منا مدفوع بفطرته إلى التماس العظمة عند غيره ليرقد تحت ظلالها، ويستريح من هم الحياة ومتاعبها تحت شجرتها، والناس من قديم الزمان عشاق البطولة، رواد الفضيلة، منتجعو نجعات النبوغ والتفرد والاستباق، فكلما جاءتهم نباغة أكبروها، فإذا ارتفعت مراتبها إلى الدرجات العليا احتشدوا حولها، وأسلموا أنفسهم إليها حيارى من أمرها، معجبين بقوة تركيبها، مبهوتين يتساءلون كيف تهيأ لها أن تبلغ هذا الأفق البعيد، وهم يتحاملون ليصعدوا، وتلهث أنفاسهم وهم لها طالبون.
ولكن البطل العظيم إنما يفتح عينيه فيرى الأشياء على حقائقها، منكشفة على أنواره المسلطة عليها، ظاهرة الأسباب، واضحة المعالم، مجلوة الأجزاء والدقائق والمفردات، على حين يذهبون هم يلتمسون رؤيتها فلا يبصرونها، ويفتحون أعينهم على سعة أحداقها فلا يرونها، ثم هم لا يسلمون من الخطأ وإن حرصوا؛ لأنهم يحاولون كل شيء، والعظمة لا تحاول شيئا، كما لا يحاول السكر أن يكون حلوا، ولا الملح أن يكون أجاجا؛ ولأن العظيم هو الذي خرج من مصنع الطبيعة جاهزا مفصلا على قد الزمن الذي ظهر فيه، ووفق مطالب العصر الذي احتاج إليه.
وكذلك كان مصطفى النحاس فينا عظيما، بل كذلك اتصل هو بنا واتصلنا نحن به، إذ وجدنا عنده شرح حياتنا، وبلاغ آمالنا، وبيان ما يعتمل في نفوسنا، ونحن فقد لا نعرف كيف نتحدث إلى الدنيا بما نريد، ولا نبين عما نقصد، ولا نجيد شرح ما يضطرب في أعماقنا، ولكن العظيم لا يلبث أن ينبري ليكفينا متعبة الإبلاغ، ويريحنا من مشقة التأدية، ويغني عنا مجهدة التفسير والبيان؛ لأنه قريب من نفوسنا، متصل بدقائق شعورنا، محتل موضعه من إحساسنا ووجداننا، وكل الذي هو طيب بفطرته، كبير في تأثيره، حسن في تقديره، واجد مكانه، مصيب موضعه، مقتعد مطمأنه، وإن التفاحة الصالحة لتخرج بذورها، وأما الفاسدة فلا تخرج شيئا؛ وإنما تخدم مع ذلك التفاح الطيب الصالح؛ لأنها تدل عليه، وتشير إلى الفارق بينها وبينه، ويوم يجلس الرجل منا في رحاب الحياة مكانه، ويقعد مقعد الصدق الذي أعد له؛ يروح الخصيب، ويمضي الباني المنشئ، ويغدو المحدث الفاعل المنتج، وإذا كان النهر العظيم هو الذي يخط بمجراه ضفافه، ويقيم شاطئيه، فإن طيبة الرجل العظيم هي التي تجد مصبها إلى النفوس، وتشق عباب الحياة إلى القلوب والأفئدة، ويوم تبلغ الغاية، ويرتفع منها المد، ويتعالى النوء والموج والفيض، هنالك الخصيب العميم، والحقل الناضر، والحراث الشاكر، والمستثمر العريف للصنيع.
ولقد أفاض علينا مصطفى النحاس من طيبة نفسه؛ فطابت به نفوسنا، وجرى إلى أعماقنا مجرى النيل إلى أرضنا، فكان فينا كوثر خير نحن الأعزة به، وكان فيضا روحيا عميقا، نحن به ناعمون.
لقد جاءنا مصطفى بطيبة مخلصة طاهرة، لا تتكلف صنعة ولا تزويرا ولا خبا، فلم نتكلف نحن لها رضى ولم نصطنع لها حبا، هو أعطانا كل نفسه، فأعطيناه نحن صفوة أنفسنا؛ وهو عظمة صراح متجلية على نورها، ظاهرة الجزئيات والكليات من صقل جوهرها، ونحن نبادلها المصارحة في المودة، والمودة في القربى، وكلما اشتد عليه الخطب، اشتد له عندنا الحب، وكلما أصاب النصر في المعركة، التفت حوله الأفئدة صافة مشتبكة، كأن كل فؤاد قد انتصر، وكل إحساس بالفوز ظفر؛ بل إن الشدائد لا تقع عنده جديدة عليه، وإنما هي الجديدة علينا، المباغتة لنا، وقد يفرح هو بها، ونحن نجزع عليه منها، ويوم يخرج منها الفائز المنتصر؛ يعطينا مع الفرحة بانتصاره أبلغ الدروس وأروع العبر.
ولسنا نعلم في نزاهة الزعامة صورة صريحة المعالم، صادقة الأجزاء، خالية من المحسنات، بادية بطبيعة ألوانها، هي أروع من نزاهة زعامة مصطفى وطهارتها، ومن كان للحياة واهبا، فلن يكون العرض الزائل موهوبا، ومن ترك شأن نفسه، مؤثرا شأن الناس عليه، فلن يكون آخذا وهو المعطي، ولن يستطيع أحد في هذا العالم أن يكون عليه متفضلا وهو المانح أعز شيء يملك: روحه التي بين جنبيه، وذلكم هو أكبر العطاء، وأعظم جلاله أنه النزيه الخالص الموهوب لا يسأل عليه أجرا ولا جزاء.
وما مصطفى إلا منحة من الله لمصر، ومن يأت من عند الله للناس منحة، يأت صفيا من الشائبة، لا يجدي عليه ممنوح، ولا تمتد إليه كف بموهبة. ولقد قيل في إبان العهود الغابرة: لقد «ثبتت» بحكم القضاء نزاهته، وما درى الذين قالوا ذلك أن هذه النزاهة نزلت إلى الدنيا بحكم الله «ثابتة» ...
وأعجب ما في هذه الزعامة التي نحن بسبيل تقديرها أنها بناء شاهق من جلال الخلق، وأن قوة الخلق في جلالها وطبيعة خواصها كالحرارة والضياء والشمس والهواء، وعناصر الكون والقضاء، والسر في أنك تحس وجود أحد الناس، ولا تستشعر وجود سواه، كامن في سر الجاذبية، مبثوث في طبيعة المغناطيس، والحق هو قمة الحياة، وأسمى ذروة الوجود، والصدق في القول والإحسان في العمل هما التطبيق للحق، والمعراج إلى قمته، والإسراء إلى ذروته، وإن الطباع البشرية لتتفاوت في درجات هذين العنصرين ومبالغهما، فمن خلصت طبيعته وتطهرت فطرته، جرى من منابعه في أعلى جبال الحق، منصبا في طباع الناس وفطرهم انصباب الماء من الآنية العالية إلى الأوعية المنخفضة، ولن يستطيع في العالم شيء أن يقاوم هذه القوة المكينة في بناء الرجل العظيم؛ لأنه أبدا القوي الغالب، وأنت فقد تلقي بحجر في الفضاء فيرتفع لحظة في الطباق، ولكنه لا يلبث أن يرتد إلى الأرض لا محالة، وكذلك أنت العاجز حيال الشخصية القوية الغالبة، فمهما حاولت أن تحيلها عن طبعها وخيمها، أيأستك من محاولتك، وظلت على طبعها الذي فطرت عليه، بل إنها لتسري في كل من حولها، وتتغلغل خفية إلى أعماق أصحابها وأهلها، وترسل الحياة تدب في أفقها ووسطها، وتشع بنورها على محيطها، وتغمر الفضاء الرحيب بإحساسها، وتتخذ الوادي كله مجالا لروعتها، ومظهرا لآيتها وعظمتها. وإن النفس القوية النقية من أدران الحياة لتتحد مع الحق وتمتزج بالعدل اتحاد المغناطيس مع القطب، وتروح إزاء الذين يبصرونها أشبه شيء بجسم شفاف، صقيل الأديم، رائق الزجاجة، قائم بينهم وبين الشمس؛ فمن أراد منهم إلى الشمس سفرا، اتخذ ذلك الأديم الشفاف إليها مجازا ومعبرا.
وكذلك كان مصطفى النحاس الواسطة بيننا وبين أشرف الغايات، وكان الضمير الحي الذي به نشعر، والوجدان العام الذي به نرتبط.
وأحسب الميزان الصادق لقياس الرجل العظيم على حقيقته، وقوة شخصيته، وخطر رسالته في هذا العالم ومهمته، هو مبلغ مناوأته للحوادث، ومحاربته للزمان، واستقباله للخطوب، واضطلاعه بالنوب والمحن والشدائد، ففي ذلك جميعا يرتفع الرجل العظيم عن مستوى عامة الناس وأمثالهم؛ لأن أخوف ما يخافونه هو الزمن، وأعدى أعدائهم الدهر، وأكبر دعائهم لله النجاة من المحن، والخلاص من الأحداث الشداد، وأما العظيم فذلكم هو الذي يتخذ ظروف الزمان حاشية له تمشي في ركابه، ويرغم الأحداث على أن تظهر للناس ما بطن من خلقه وسر نفسه ولبه ومبلغ سخريته من المشاق والصعاب والعقبات.
ولقد عرفنا مصطفى النحاس يمتحن بالمحنة وهو الصابر، ويرمى بالخطب المفاجئ، وتحيط به الأزمة المباغتة؛ فلا يني يخرج منا جميعا بفوز، ولا يزال يجالدها حتى يعود من المجالدة بانتصار.
ونحن جميعا في مصر المؤمنون بحقنا، ولكن مصطفى النحاس ظل على الخطوب المترادفة أشدنا به إيمانا، حتى لقد جعل حقوق بلاده في الحرية والاستقلال فكرته التي يقضي عليها نهاره، ويسهد لها زلفا من ليله، وينام بها لمشاهدة أحلامه ومعارض رؤياه، بل لقد ظلت عنده اللغة التي يعطيها أكثر كلامه، والموضوع الذي يحشد له أكبر اعتزامه، بل لقد عاش هذه السنين كلها من أجلها ولها بكليته، ونحن قد عشنا لها بكل جزئياتنا؛ وكانت لها نفسه جميعا، ولنا بجانبها آمال نفوسنا، ومشاغل عيشنا، وهماهم حياتنا وأطماعنا.
وكذلك أعطى الزعامة مواهبها، وأدى لها واجبها، وحشد لها مطالبها، ورفرفت من فوقه روح سعد الذي اصطفاه، يطالعنا منها ومنه بقوتين: قوة الذكرى، وقوة الإيمان ... حتى أدى رسالته، وبلغ طلبته، وحقق لبلاده ما كانت تصبو إليه.
ولا يزال أمامه عمل عظيم، ومهمة خطيرة، وشأن جليل، هو استثمار ما استعاد لوطنه، وحسن القيام على ما استرد لقومه، وإنفاذ وجوه الإصلاح الذي يحتاج إليه العصر، وتوفير مقتضيات الحياة للجيل الحاضر، والبناء للأجيال القادمة، وترك أغنى التراث للمستقبل والذراري المنحدرة في مواكب الزمن وقافلة الأبد ومسيرة الحياة.
وقد يحسن أن نقدم لهذا الكتاب بفصول في تعريف الزعامة وكشف أسرار الشخصية القائدة، وتعيين مطالب العظمة وقيادة الأمم والجماهير؛ لنسير على ضياء هذه المعاني في فهم هذه الشخصية العظيمة التي يحيط بها تاريخ مصر الحديث في مرحلة الجهاد لحريتها المقدسة.
سر الزعامة
الزعيم هو الفرد الذي يصيب نفوذا خاصا وسلطانا معينا على جماعة من الناس، وأكثر الأفراد في هذا المجتمع يصيبون نفوذا على بضعة أفراد على الأقل في نديهم أو جمعهم أو محيطهم، ولكن هذا النحو من النفوذ لا يسمى زعامة، إذ لا يتوافر معنى الزعامة إلا باجتماع النفوذ الخاص، ووجود الجماعات الكبيرة والطوائف الكثر الآحاد.
والزعامة على هذا القياس هي الشخصية الفعالة النافذة في نفوس الجماعات، وهي من هذه الناحية تتألف من معالم خلقية تؤثر وتعمل وتنفذ، ومن معالم خلقية تطيع وتمتثل وتستجيب؛ أو هي التفاعل بين أخلاق وصفات معينة، وبين أخلاق أخرى في الجمع أو الكثير من الوحدان، بحيث تتأثر هذه بتلك، وتنزل على مشيئتها راضية.
ولا ريب في أن الشخصية نوعان: النوع المؤثر والنوع المتأثر، أو القيادة والتبعية، وأن للزعامة صلة وثيقة بالذاتية - أو الفردية الشخصية - وبعنصرها المكمل لها، وهو «الاجتماعية»؛ وأنه إذا كانت الذاتية تشير إلى تلك المزايا والصفات الممتازة البارزة التي تجعل فردا من الأفراد ممتازا عن غيره بينا عن سواه، فإن الاجتماعية هي جملة الصفات ومظاهر السلوك التي تتشابه وتتماثل في الأفراد جميعا.
إن صاحب الصفات الذاتية هو القادر بفضل ذاتيته هذه على تأدية عمل ما من سبيل تختلف، وبقوة أسمى وأعظم من سواه من الناس أو الأفراد المحيطين به، وهو من هذه الناحية الخليق بالزعامة، الجدير بالسيادة والتفوق والقيادة، وإن كان كثير ممن أوتوا هذه الذاتية قد تخلفوا فلم تنتج ذاتيتهم زعامة في الناس ولا سلطانا محسوسا بارزا.
وأما عنصر الاجتماعية فهو الذي يعين الفرد على فهم الناس، والاتصال بهم، والاندماج فيهم، وإدراك حاجات نفوسهم ومطالب أرواحهم وآمال خواطرهم ومختلج أمانيهم، وإيجاد الوسائل والأساليب التي تخرج بهم من المآزق الشداد، والمحرجات الرهيبة، أو تحقق لهم ما يبتغون، وتسير بهم إلى الغاية التي لا يستطيعون وحدهم لها طلبا.
ومن لا تتوافر الاجتماعية له فهو العاجز عن قيادة الناس، والزعامة على الجماهير، والظفر بالسلطان الروحي عليهم؛ وإن كانت الاجتماعية بذاتها لا تخلق زعامة ولا تخرج ممن أوتيها سيدا مطاعا قائدا.
والزعامة من ناحية أخرى هي وليدة حياة الجماعة، وثمرة ما يطرأ على القيم الاجتماعية من التغييرات؛ فكلما اعتدي على قيمة اجتماعية أو هوجمت أو أريد أن تزول؛ نهض لها من يدافع عنها، ويذود عن مستواها، ويحارب في سبيل الحرص عليها، ومن شأن هذا أن يخلق زعامة ويجيء بالقائد المدافع الذواد، كما أن مهاجمة القيم الاجتماعية في سبيل إصلاحها أو القضاء عليها، قد تأتي بالزعيم الخليق بأن يتولى الهجوم وينظم العدوان.
وكذلك يكون قائد الوطن المعتدى عليه زعيما، كما يكون القائد المعتدي المهاجم بدافع الوطنية المستعلية الغازية الفاتحة زعيما، وإن كان الأول في جانب الخير والفضيلة، والآخر مع الشر والسوء.
إن الوطنية لتبتدئ جميلة جليلة زاهية الألوان، ولكنها قد تستحيل في النهاية موحشة مرهوبة ضارية، فهي في أدوار تكوينها تطل على أكثر نواحي الخير والفضيلة وكرائم الأخلاق، وفي مراحل شبابها تبدو حالية بأفخر زينة، متهادية في أفتن مشية، وإن جمالها في هذا الدور من حياتها هو في حدتها وروعة رسالتها، وإيثارها وإبائها، وتفانيها ووفائها، وضحاياها وشهدائها، وتلك هي وطنية الفضيلة الاجتماعية، وفناء الإنسان في الإنسانية القومية، بل وطنية الدفاع عن الوطن في غير هجوم، والذود عن الوطن في غير طمع، والكفاح عن الذمار في غير جشع ولا استكثار ولا استعمار ولا عدوان.
هذه هي وطنية الأمة التي استقلت فرضيت باستقلالها، وقنعت إذا تحررت بالحرص على حريتها، ولم تمدد عينها إلى أكثر مما يصون ذلك الاستقلال، كما هي وطنية الشعب الذي اعتدي على استقلاله، فهو يطلبه ويجاهد في طلبه، ويلهم الأفراد العمل له والسعي في سبيله، وطنية الشعب المستعر الجوانح، الحاضر الحماسة، الباذل التضحية، المستعذب الإيثار، المختفي الأنانية، المقبل على البذل والفداء.
ولكن الوطنية إذ تفرغ من كل هذه المعاني وتستتمها، وتنعم بالاستقلال ومزاياه، ويتزاحم على صدرها المجد وأحلامه، والطمع وتكاليفه، والتوسع ومطالبه؛ قد يحتمل أن تستحيل إلى حاسة باغية عادية، موحشة ضارية، وتصبح وطنية الأقوياء الذين يذهبون يجربون قواهم في غير أوطانهم ولا يقنعون باستكمال حريتهم، فيخرجون للعدوان على حرية غيرهم؛ فتنقلب الوطنية بهم جشعة متمادية، كلما زادوها استزادت، وكلما أكلت طلبت من الطعام زحاما من الألوان.
الوطنية المدافعة عادلة، والوطنية المهاجمة ظالمة، أو نصفها في جانب العدل، ونصفها في جانب الظلم.
والوطنية الأولى فاضلة، والوطنية الأخرى تمادت مع الفضل حتى رذلت، وتناهت مع غرور القوة حتى لتنتهي في الأعم الأغلب إلى التدهور والفناء.
إن وطنية الهجوم باطلة، وهي لذلك لا تعمر.
وإن وطنية الدفاع حق، وهي لذلك باقية ليس لها على الدهر من زوال ولا انتهاء.
ولكن لكل منهما قادة وزعماء؛ وإنما الفارق بين الزعامتين في الناحيتين هو المسافة بين الخير والشر، والفاصل بين الفضيلة والرذيلة، وقد كان نابليون زعيما، كما كان واشنطن محرر أمريكا زعيما؛ والفرق بين زعامتيهما هو في تاريخهما، وإن كانا فيه خالدين، فقد ترك واشنطن صفحات بيضاء نواصع زاهيات، وما ترك نابليون غير كتاب سطوره من دم قان نجيع ولا يزال هذا باديا في جيلنا؛ فإن موسوليني زعيم، وهيلاسلاسي كذلك زعيم، والفارق بين الزعامتين مثل الصبح ظاهر ...
واشنطن - محرر أميركا.
وكم من أفكار طيبة، وآراء سديدة صائبة، ونظريات جميلة زاهية خلابة، وآمال تتزاحم على نفوس الجماعات، وأماني عذاب تتراقص أمام الأذهان، وتبدو فاتنة ساحرة البيان، ثم لا يزال الناس يتمثلونها في سكرات الخيال، وينظرون إليها نظراتهم إلى المحال، ويحسبون تحقيقها ضربا من ضروب الأحلام، فإذا ما ظهر الفرد القوي الشخصية، الباده الخليقة، المستحصد العزم، العميق الإيمان بصواب ذلك ونحوه، وحكمة أولئك وما يتصل بها؛ توثبت النفوس، واستحمت المشاعر، وتوقدت العزمات، وبدأ المسير إليها، وآذن الرحيل وراح الناس ينطلقون نحوها، ويتبعون هذا الحادي القوي الحداء، الجهير الصوت، المفتول الساق، الجلد على طول المسير، وهم مؤمنون مقدما بأنهم بالغو الغاية السامية آخر الجهاد من أجلها والنضال.
ولقد أصبحنا نعيش في عصر الزعامات، فإن الجيل الحاضر قد أضحى يحيا، ويتحرك، ويعتمد في حياته، على المجهود المشترك، ويجد نفسه وسط مجاميع متعاونة؛ وهيئات متآزرة، حتى ما من ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية إلا كان مجهود المجموع هو مظهرها الغالب، وطابعها الظاهر، وصفتها العامة! بل لقد تعدت هذه الظاهرة إلى الناحية الفرحة اللاهية من الحياة، فغمرت الأندية والمجامع الرياضية وفرق الألعاب وجماعات اللاعبين.
الزعيم هو إذن القوة المشرفة على الجماعة؛ لكي تتعاون وتتناصر وتتضافر في سبيل تحقيق غاية معينة، وتنفيذ غرض مشترك، بل هي تلك القوة النفسية المؤثرة في المحيط، النافذة بسلطانها في الأفق والبيئة، الجامعة في يدها لكل قواها وموارد نشاطها ومستودعات مواهبها، الدافعة بها نحو غرض واحد ومطلب عام، العاملة على أن يؤمن كل فرد بأن مصلحة الجماعة ينبغي أن تتقدم مصلحته، وأن المثل الأعلى يقتضي اختفاء الأثرة، ورياضة النفس على الغيرية والإيثار والاستعداد للبذل والتضحية والفداء.
إن الجماعات إنما تعمل وتتقدم وتنجح وتحقق غاياتها وأمثلتها العليا باتحاد الجهود الفردية، واستثمار الرغبة الصادقة المنبعثة من أرواح الآحاد الذين يؤلفونها، واستخدام القوة الخفية الكامنة في الأفراد الذين يكونونها، وهذا يقتضي أن يكون للجماعات روح معنوي دافع ملهم محتث، يجمع جهودهم كلها لتحقيق الغرض العام، ومن مهمة الزعامة أو وظيفتها الاجتماعية في الشعب أو الأمة أن تخلق هذا الروح، وأن تبثه وتنميه وتعمل أبدا على توجيهه؛ وبغير الزعامة لا يمكن أن يكون للروح المعنوي وجود أو حياة.
وإذا صح أن النهضات العامة هي في الغالب ظل رجل واحد، وغراس مجهوده، وثمر زرعه بمفرده؛ فلا ينبغي أن ننسى أن نجاحها وتوفيقها وفوز هذا الزارع الأكبر، والغارس المثمر، هو أيضا فضل من حماسة الجماعة المتأثرة به، وصدق انبعاث النفوس على هداه، وحرارة المشاعر التي ألهبها، والأحاسيس التي ابتعثها، فوجدت في البيئة والمحيط تلبية ومستجابا.
وليست هذه الحماسة في الواقع وليدة الإرشاد فحسب وثمرة التوجيه، ولكنها أيضا نتيجة دعوة عامة واستجماع لكل قوى الرغبة في القيام بعمل صح الاعتقاد بخطره وتم الإيمان بنفعه ومست حاجة العصر إليه، وهي الرغبة التي يغذيها الزعيم ويتعهدها ويسقيها ويرعاها برعيه؛ فتنشأ من ثم هذه الحماسة المتقدة التي تسري في الجماعة وتدفع بها إلى المسير على حداء الإيمان واحتثاث اليقين.
إن مجهود الزعامة ليجد فسيح ميادين ، ويشمل عديد وجوه، ويغمر أفقا واسع النطاق؛ فإن الزعامة هي التي تضع التصميمات، وترسم الخطط وتحدد السياسات، وتعين المناحي والأساليب، وهي التي تنظم جهود الجماعات، وتوزع التبعات والمسئوليات، وتراقب الظاهرات والبوادر والمقدمات، وتشرف على الحركة الإجماعية والتقدم العام، كما تدرب الذين يلتفون حولها على حمل الأعباء، والاضطلاع بالفعال الجسام، بل هي أخيرا التي تبعث قوى الأفراد جميعا وتحفز المواهب الكامنة، والنباغات الهاجعة، والمزايا المستكنة، والكفايات التي بحاجة إلى التشجيع والبروز لتشترك في الغاية العامة، فيغمرها روح واحد ويشملها انسجام تام؛ فإن هذا الانسجام هو خلق جديد في ذاته، لقوات جديدة في نفسها، تروح بمثابة احتياطي ومدخر، ومستودع زاخر، لا ينفد منه المورد ولا ينضب المعين.
إن سلطان الزعامة هو الذي يدفع القوى العامة في الجماعة إلى مستوى رفيع، وهو الذي يرد الموافقة السلبية رضى إيجابيا، ويحيل النفور رغبة، والسكون حركة، والبرودة اشتعالا، والفتور حماسة وسعيرا، وقلة المبالاة اقتناعا ويقينا، والجمود عملا، والخصومة مودة، والعداوة مقلمة الأظفار.
بل إن سلطان الزعامة لأشبه شيء بفتح السيال الكهربائي الذي يحرك مختلف أجزاء الآلة وأجهزتها الدقائق، ومركباتها المتعددة؛ فتؤدي كلها وظائفها، وتبرز طاقتها، وتحدث حدثها المطلوب.
وليس من شك في أن الأفراد في الجماعة إنما يتحركون بالدوافع النفسية والبواعث الروحية، فتنشأ من هذه الدوافع والبواعث قوة إضافية، ومحركات جديدة، وتحتشد قوات أخرى لم تكن من قبل في التقدير والحسبان.
ومن هذا يخلص لك أن الزعامة هي المقدرة على التأثير في الجماعة لحملها على التعاون والتضافر في سبيل تحقيق غاية تدرك هذه الجماعة أنها أصلح شيء لها، وأنها وفق أمانيها، ورمز آمالها، ومجموعة رغباتها ومطالبها في الحياة.
وقد يكون هذا التعريف لسلطان الزعامة وسرها الخفي وأثرها الأكبر جديدا، إذ شاهدت الإنسانية قبل اليوم زعامات من غير هذا الطراز، بل لا نزال نشاهد الآن في بعض البلاد المتحضرة أمثلة لا تندمج تحت هذا التعيين ... زعامات آمرة ناهية، متحكمة طاغية، حتى في الخير وإليه، وحتى بالعنف والحمل عليه؛ أي أنها زعامات خلت من الشرط الأول الذي تتم به الزعامة الهادية المستجاب لها في غير اصطناع، المطاعة في غير غضاضة ولا ألم إرغام، وهذا الشرط هو أن يقابل الزعامة رضوان الجماعة، ويتلاقى عندها الانبعاث الصادق والطاعة، فقد أصبحت فكرة الزعامة في النظام النيابي متركزة في هذا المعنى بالذات، قائمة على هاتين الدعامتين المتقابلتين: رضوان الجماعة، وتوجيه الهداة القائدين.
وتقوم الزعامة عند حاجة الشعب إليها، وتظهر في الوقت الذي يتلفت الناس حولهم باحثين عنها، ملتمسين معونتها وهداها، فقد رأينا أكثر الزعماء يبرزون في مواقف الخطر العام، وساعات الفزع المنتشر، ومنتهى السرعة الواجبة لدرئه، والدافع الملح لمعالجته، ويوم تقتضي الظروف الزعيم المنشئ الباني المصلح القائد السائر بالجماعة إلى أمثلتها العليا؛ ينبري من لدن الطبيعة وبرحمة من الله، الرجل الذي تجد الجماعة فيه مطالبها فترتضيه لها، فإذا ما كان الزمن معه، ظهر ووثب وطفر، وكانت رغبة الشعب قوية متجلية، تقدم ليملأ الفراغ ويحتل المكان.
وفي حياة سعد زغلول ومصطفى النحاس يتمثل هذا بكل جلاله، ويبرز بكل قوته، فقد توافرت في زعامتهما العناصر المناسبة لتكوين الزعامات تلبية لمقتضى العصر وحاجة الجيل ومطالب التوجيه، بل كانت السفينة بحاجة إلى الربان، فاهتدت إلى القبطان ...!
وليس من ريب في أن هناك أمثلة لزعماء متعددي الشكول والصنوف والألوان، ولكن الواقع المشاهد أن كل زعيم هو نتيجة اجتماع ظروف الزمن، ومهيئات الموضع، والمزايا النادرة فيه، والخواص الرائعة التي تصطفيه الجماهير من أجلها وتجتبيه، وليست واحدة من هذه جميعا كافية بمفردها لقيام الزعامة، ولا وجودها كفيلا بإظهارها، وإنما لا بد من التلازم فيها جميعا والاقتران.
الزعيم الخالد سعد زغلول.
وهذا من شأنه أن يجعل الزعيم مولى للشعب، وعلى عهد الجماعة الحريص الأمين، والمرشد الذي يهديهم إلى تأدية الغرض المطلوب، وبلوغ الهدف المقصود.
ومتى اجتمعت في الزعيم قوة الشخصية بقوة النفس الجياشة المتحفزة المعلنة عن ذاتها بسحرها الخفي وجلالها الباده، مع توافر قوة العزم لديه وصلابة التصميم على تأدية الرسالة التي يؤمن بها كل الإيمان، والمجاهدة في سبيل مثل عال يعتنقه أصدق الاعتناق؛ فإنه في الساعة المنتظرة واللحظة الواجبة ليقفز إلى الموضع الخليق به، والمكان المعد له في لوح الأقدار، وسياق الحوادث، ودورة الزمان.
ولكن ينبغي أن نفصل هذا الطراز من الزعماء المفرغين في قوالب البطولة النفسية عن طراز النابليونيين والطغاة والعسفة والجبابرة، أو معاشر الذين استبدت الأثرة بهم، وإن أبرزوا وجوها عديدة من الزعامة، ولكنهم تراموا على إجابة السلطان بالعدوان أو استضعاف الجماهير، والبغي على الجماعات، وانتهاز الفرص، واقتناص السوانح؛ غير أن أكثر هؤلاء - إن لم نقل كلهم - انتهوا إلى فشل ساحق وخاتمة سيئة.
وقد يريد هؤلاء الخير في بداية أمرهم، ويتوخون الصالح العام، ولكن شهوة السلطان وظمأهم إلى الطاعة عند الجماهير، ومخافة ضياع الأمر من أيديهم، تنتهي بهم حتما إلى الأثرة التي دفعت بهم، فيأبون إلا الحرص على السلطان والاحتفاظ بالنفوذ مهما كلفهم ذلك من ثمن، واقتضاهم من تكاليف جسام.
موسوليني - زعيم إيطاليا.
ولا تلبث الجماعة في النهاية أن تسائل نفسها: هل نحن حقا نستمد من هذا البطل القوة الدافعة والخدمة الجليلة التي كنا ننتظرها، والمجد القومي الذي كنا نحلم به؟ وهل هو حقا يخدم غرضنا ومصلحتنا، ولا يخدم أغراضه هو ومصالحه، ويشبع شهوته، ويرضي ذاته على حسابنا؟ وأكثر ما يكون الجواب العملي على هذه النجوى المخافتة قيام الجماهير على هذا الطاغية وإسقاطه من أوج مكانته بعد زوال الحلم الجميل الذي رفعه مكانا عليا.
ومهما تكن الدوافع التي تحفز الجماعات إلى المسير وراء هذا النوع من الزعامة الأثرة الغاشمة، فإن الحركات التي تنشأ منها وتبدو في بعض الأحيان بظاهر من الخير وأغشية من الإحسان، إنما هي هزات وقتية لا تلبث أن تزول فتستيقظ الجماعات من سكرتها على حقيقة مؤلمة، وتعاود سيرتها الأولى، فلا تسلم زمامها إلا في حدود مشيئتها ومطلق رضاها؛ ليكون الزعيم الذي ترتضيه هو رمز أمانيها والفرد الذي تتمثل فيه إرادة الجميع.
ومن ثم كان الزعيم الذي تنتخبه الجماعة بمحض إرادتها وتضع فيه كل ثقتها، أنزع إلى النجاح وأدنى إلى التوفيق في مهمته التي ألقى إليها كل قلبه، وادخر لها كل جهوده، وأفنى في سبيلها عصارة روحه؛ لأن أثره في كل إصلاح بارز، ونفوذه عند الجماعات المخلصة الواثقة به شديد الأثر، قوي التوجيه، بالغ السلطان.
العوامل والمؤثرات في نشأة الزعامة
يرد العلماء الذين بحثوا في سر الزعامة وتقصوا نشأتها والتمسوا بالمشاهدات والاستقراءات والإحصاءات الاهتداء إلى العوامل والمؤثرات في إيجادها، وتكوين الصفات الواجبة لها، يرد هؤلاء العلماء نشأة الزعامة إلى عوامل مختلفة، ومؤثرات متعددة منوعة، منها الطبيعية؛ وهذه تتصل بالوراثة والبيئة والإقليم، والاستعدادات الفطرية، والغدد والإفرازات، ومنها الاجتماعية كالظروف المهيئة والفرص السانحة، وأثر البداوة والحضارة والمحيط الاجتماعي والبيئة الثقافية، والأفق المنزلي ونوع الأصحاب والرفقاء والخلطاء واللحظات الموقظة، ونقطة الدوران الفجائية، ومنها الشخصية كالنزعات والأهواء والميول والاتجاهات الخاصة، وقوة النشاط ونسبة الذكاء والأخلاق القويمة من التكوين من نحو حب الاستكمال والقدرة على التمام والرغبة في الإجادة والإتقان، وكقوة الاحتمال، والصبر الرفيع، والتجلد المتناهي، والمثابرة والدأب الملح على الاستمرار، والشجاعة وانتفاء التهيب والمخافة، وقبول تحمل التبعات والاضطلاع بالمسئوليات والإخلاص، وصدق النية والأمانة والنزاهة ونقاء الذمة والعطف على الناس، والثبات على الفكرة أو المبدأ والوفاء للعقيدة، والتصميم على الرأي وقوة العزيمة وعمق الإيمان، وضبط النفس والاتزان والتزام السكينة، ومقاومة الانفعالات واللياقة والكياسة وحسن التصرف، ومعالجة الأمور بالحكمة وفصل الخطاب.
على أن هذا التقسيم التقريبي للعوامل المؤثرة في نشأة الزعامة وخلقها كما ترى لا يزال متداخلا مشتبكا متصلا بعضه ببعض، فما سميناه طبيعيا منها لا يخلو من صلة بما دعوناه اجتماعيا من بينها، كما أن من العوامل الشخصية ما يرتبط بالمؤثرات الطبيعية، ويتولد عنها ويجد منها التعهد والتنمية والغذاء والوراثة والاكتساب.
ولو أردنا أن نتحدث عن كل عامل من هذه العوامل المختلفة في فصل قائم بذاته، وبحث مستقل بمفرده، لترامت حدود هذا الكتاب في مقدماته قبل أن يدخل في تخومه ويعالج الموضوع الرئيسي الذي وضع بسبيله.
ولكن لا ضرر من أن نتناول هذه العوامل في شيء من الإيجاز يكفي لشرحها من حيث اتصالها بالفكرة التي بعثتنا على إخراجه إلى الناس، في عجلة ومبادرة حتى يوافي مناسبته ويلحق وقته، ولو قد استأنينا له ووجدنا الفسحة الواسعة الخليقة به، وتوفرنا عليه دون سواه، واستنفدنا فيه الزمن الطوال، والدراسة المتقصية، والبحث المستفيض، والعلاج المدقق؛ لكان خيرا من هذا وأحسن مردا، وأوفر مادة، وأروع بناء. •••
كان أول من عالج بحث عامل الوراثة في خلق الزعامة وتنشئة الزعماء العالم المشهور فرانسيس غالتون الذي راح يطبق علمه البيولوجي على الحياة الإنسانية، فذهب إلى أن العبقرية أو الحد المتناهي في العقل والذكاء هو أثر فطري حيواني طبيعي، محتوم الأثر، معلن عن ذاته، مهما قامت في وجهه العقبات والظروف غير المساعدة، وأما غياب الصفات الوراثية الرفيعة السامية فلا ينتج تفوقا، ولا يعمل على إيلاد نبوغ وإحداث عبقرية، ولا يخرج نباتا صالحا زكيا.
ولكن الدراسات الحديثة بعد غالتون قد تقدمت شوطا آخر في فهم عامل الوراثة أكثر مما كان مفهوما في بداية البحوث الخاصة به، وأصبح المقرر اليوم أن ناموس الوراثة ليس بالعامل المخيف العنيف المستبد الذي يؤيس الذين لا يكسبون رضاه، ولم تشع على حياتهم من أثره ابتسامته ووميض حظوته.
واليوم إذا أنت سألت كيف ينشأ النبوغ، وتحدث العظمة، ويصيب الفرد السمو والرفعة والقوة الدافعة إلى الصعود والعلاء، أجابك العالم البيولوجي أن النوابغ والأفراد الصالحين السامين المتوفقين هم نتاج اشتراك صفات الأبوين واقتران نطفهما وتلازم عناصرهما، بحيث إذا وجد نقص في أحدهما، استكمل من الآخر نقصه، وبحيث يعمل المؤثران معا؛ أي أن ذلك وليد اتحاد البذرتين وتكاملهما وتفاعلهما في إنشاء الأجنة والتأثير في الذراري والولدان.
وقد يتولد الرفيع أحيانا من الرفيع وأحيانا يأتي من الصغير والضئيل القيمة، كما يبدو ذلك في خليقة شكسبير وظهور كيتس الشاعر ومولد لينكولن، فقد نبت هؤلاء في أسرات صغيرة، ونشئوا كما نشأ عشرات من النوابغ والعظماء في عشيرات دنيا، وإن كانت هذه الظاهرات قد لا تبدو شذوذا إذا نحن استطعنا أن نعرف تاريخ أرومة الفرد وتسلسله وأجداده من أجيال عدة وسلالات كثيرة متعاقبة.
ومن النظريات التي تبدو صحيحة على وجهها ولكن ينبغي ألا تؤخذ بظواهرها فيما يتصل بالزعامة وعامل الوراثة - قولهم إن المثل يولد المثل، والنظير يخلف النظير، فإن النوابغ والعبقريين لا يتحتم دائما أن يولدوا وينتجوا نوابغ وعباقرة مثلهم، بل الواقع المشاهد أنهم أندر ما يفعلون ذلك، وقليلا ما تنحدر منهم أشباههم في هذا الناحية، وقد ينتج الآباء الصغار الشأن ذرية رفيعة نابغة متفوقة، وفي الحق أن كثيرا من عظماء الدنيا ونوابغ العالم كانوا أبناء لآباء أقل منهم شأوا ودونهم مكانة ورفعة، وإذا كان من الخطأ في الحكم أن يقال إن الأفراد الأفذاذ النوابغ لا بد من أن يكونوا نتاج آباء أفذاذ من قبلهم، فإن من الصواب والحق أن يقال مع ذلك إن نسبة كبيرة من النوابغ والمتفوقين كانوا نتاج آباء ممتازين لا من آباء من عرض الجماهير.
ومن النظريات الخاطئة أيضا القول إن ناموس الوراثة هو العامل الأكبر في شئون الناس وبنائهم وخليقتهم، وإنما يصح اتخاذ الوراثة كأحد الاعتبارات في بحث أصل العظيم ومنشأه ومنبته، ولكن لا يصح الغلو في تقدير أثره والاعتماد عليه في البحث والاستقراء كل الاعتماد.
لقد أسرف غالتون في تطبيق نظريته في الوراثة، فلا ينبغي أن نترسم أثره ونغلو غلوه، ولما كان من الأفراد من يولدون وينشئون من الأكواخ، ثم إذا هم يبرزون في الحياة بمقدرة خارقة للمألوف، ومواهب فوق مستوى الناس، كما أن فيهم من ينشئون في القصور، ويتربون في حجور النعماء؛ فمن الخير أن ننظر إلى منابت الزعامة والشخصية البارزة نظرة ديمقراطية، ونعتقد أن النوابغ كثيرا ما ينبتون من العامة وأشخاص الشعب والطبقات الدنيا في الجماعات والأمم والصفوف الخلفية في الحياة. •••
وقد ارتقى الطب الحديث أخيرا من ناحية إدراك علم واسع بأثر الغدد المختلفة في الجسم، وامتد البحث في تأثيرها إلى استقراء مفعولها في إنتاج الزعامة والنبوغ، وذهب العلماء الباحثون إلى أن في الجسم نحو اثنتي عشرة غدة تسمى «الهرمون» أو الغدد المهيجة؛ لأنها تهيج أو تنشط الأجهزة العضوية في البدن، فإذا أحدثت فيه نشاطا خارقا للمألوف، ساعد ذلك على النبوغ والتفوق، وإذا قصرت في إحداثه، أثرت في قوى الفرد ومبلغ نشاطه، كما أن زيادة نشاط الغدد يستتبع زيادة مقدرته على الأحداث وشدة تحمله للمجهود، وتدفع به إلى طريق ضبط النفس وقوة الإرادة والاضطلاع بالأعمال الجسام.
وأشهر هذه الغدد هي الغدة الدرقية، وقد سميت بالدرقية؛ لأنها تشبه الدرقة أو الترس، وإن لها لعاملا غير مباشر - وإن كان خطيرا - في تكوين الزعامة والنبوغ، ويتطلب الجسم مقدارا معينا من إفرازات هذه الغدة ليظل في حالته الطبيعية، فإذا قل أو نقص اضطرب الجسم تبعا لمبلغ القلة ومقدار النقص، وتحطم الزعيم أو النابغة وانهدم كيانه إذا لم يجد لهذا النقص في إفراز هذه الغدة سدادا عاجلا؛ لأنه يجلب الاضطراب العصبي، ويحدث سرعة التأثر والبادرة والهياج والانفعال، كما يفقد قوة الشخصية ويتحيفها ويهدمها هدما، ويعطل ملكة الاتزان التي تعد من صفات الزعامة والنابغين.
ويقرر الطب الحديث أنه لولا الغدة الدرقية، وعملها في الجسم لما كان هناك عمق في التفكير ولا ملكة تقدير الجمال، ولا ذكاء ولا فهم ولا إدراك، بل لا شيء مما تمتاز به النفس الحساسة أو الذهن الذكي الأصمع السريع الشعور.
وهناك غدة صغيرة تتصل بالغدة الدرقية، ومن وظيفتها إمداد الدم والخلايا بالمقادير الضرورية للجسم من الجير، فإذا قل الجير عن تلك المقادير حدث الاضطراب العصبي، وغلبت على الشخص سرعة التهيج والانفعال، ولا خفاء في أن هذه الأعراض والحالات لا تتفق مع صفات الزعامة ومطالبها الأساسية.
وفي الجسم كذلك غدد تسمى الغدد النخامية، وهي مستقرة في قاعدة المخ، وإلى عملها ينسب كثير من المزايا والصفات كقوة الإصرار وشدة العزم، وهما صفتان تبرزان في النوابغ والزعماء، ولإفراز هذه الغدد - وهو البلغم - تأثير مقو منشط لسائر أجزاء البدن كله وكافة أعضائه، ولا شك في أن لجوار هذه الغدد للمخ صلة بالنشاط العقلي ووفرته أو نقصه تبعا لمقدار إفرازها.
وإذا ما قل ذلك أفقد الفرد قوة ضبط النفس، وأحدث لديه نزوعا إلى الكذب والسرقة والإجرام؛ لأن للإفرازات النخامية أو البلغمية عاملا كبيرا في فضيلة الثبات وقوة الشخصية وغيرها من مزايا الزعامة وخواصها المتعددة.
وتعمل الغدد الأدرينالية القائمة فوق الكلية، بما تفرزه من الأدرينالين أو الكنظر، عملا مباشرا في إحداث النشاط والزعامة والنبوغ؛ لأن مادة الأدرينالين في أوقات الخطر، والحاجة إلى مزيد من المجهود، والحمل على النفس بالعمل الملح والدأب المتواصل، تزيد في مقدار السكر الذي يسري في الدم فتنشط الكريات الحمر، وتزيد حركة التنفس وعمل القلب؛ ولذلك يعطي الأدرينالين للمرضى كمنبه قوي في حالات الإغماء والغشية وضعف القلب وخفوت حركته.
وقد يحول بين الفرد وبين بلوغ الزعامة ومكانة الرياسة ومواضع التفوق والسمو والعلاء نقص في إفرازات البنكرياس - وهو غدة كبيرة في الجهاز الهضمي - وهذه الإفرازات هي الأنسولين، فإذا قل الأنسولين في الجسم عن المقدار الواجب له زادت كمية السكر التي في الدم زيادة عالية، وأحدث مرض البول السكري، وهو من الأمراض التي تعوق النشاط وتفقد المرء قوة الجلد على الدأب والإكباب على العمل ومضاعفة الجهود.
وجملة القول في أمر الغدد وأثرها في تكوين الزعامة والنبوغ أن لهذه الغدد فعلا غير مباشر، ولكنه كبير الخطر في تكوين الصفات التي ينبغي أن تتوافر في الزعماء والنوابغ أو تعطيلها، فلا يستطيع الفرد الذي يقل فيه مفعولها أو يختل نظامها أن يجد الطريق إلى البروز في الحياة والنجاح.
وينبغي أن تتوافر للشخصية القوية الفرصة إذا أرادت أن تبلغ مكان الزعامة، كما أن نوع الزعامة ودرجتها يتبعان نوع الفرصة وطبيعتها، فإن الفرص التي تسنح للزعامة في بلد من البلاد أو بيئة من البيئات، لا تتواتى ولا تصلح لمثلها في غيرها من الآفاق والأجواء، وقد كانت الفرص المواتية لخلق الزعامات في عصور الجهل الماضية تختلف عنها في عهود العلم والنور والتحرير والتهذيب.
وفي إيطاليا اليوم تنحصر الفرصة في إملاء الفاشية وتعاليمها، وفي الروسيا تقتصر على حظيرة الشيوعية، كما تنزل في ألمانيا على حكم النازية، وإذا لم يكن مال ولا صحة ولا تحرر من قيود الحياة العائلية وهموم العيش والحاجة وآلام الحرمان، فإن الفرصة لبلوغ مكان الزعامة وموضع الرياسة تروح بعيدة للغاية أو تكاد تكون مستحيلة السنوح، وفي البيئات التي تسودها العصبية الدينية، أو يغمرها الركود العقلي وتغشاها الجهالة، قلما تتواتى الفرصة لقيام الزعماء الأحرار وبروز القادة المتمردين على أجيالهم.
إن طبيعة الفرص هي التي تحدد الاتجاه الذي تسير الزعامة فيه، وهنا يقول غالتون: إن في العالم أفرادا يبلغون النجاح ويبرزون مواهب نادرة وصفات العبقرية في أي ظرف من الظروف مهما كان نوعه أو شأنه أو ما يحيط به.
ولكن الذي لا مراء فيه أنه في البيئة التي يسودها الرق والاستعباد، يندر أن يتاح لأحد الرقيق أن يظفر بمكان الزعيم، ومن قبائل أفريقيا وبين همجها يحول إيمان الزنوج والهمج بالخرافة وغرائب المعتقدات دون ظهور الزعماء؛ لأن كل من ينادي بجديد أو يدعو قومه إلى شيء مستحدث يتهم بالسحر ويحكم عليه بالإعدام.
وقد تتفاوت الأصقاع والبلاد والأقاليم في مبالغ إتاحتها الفرص لظهور النوابغ وبروز الزعماء، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن الحواضر والمدائن أكثر بعثا ودفعا وتنمية لمحصول النبوغ من سواد الريف وآفاق القرى، وأن المدن الصغيرة والبنادر المتوسطة الحال أكثر إخراجا للنوابغ والزعماء من كبريات المدن ومزدحم القواعد والحواضر الكثيرة السكان.
وللتربة أيضا عامل بين الأثر في تكوين الزعامة، وإيجاد الفرص لظهورها، وقد أورد العلماء في ذلك شيئا كثيرا بالنسبة لأنواع التربة ومختلف أحوالها وخواصها وأشكالها وطبائعها، فقالوا مثلا: إن الأصقاع الجبلية والتربة الكثيرة الأنجاد والهضاب أو التربة القاسية العنيفة، تختلف كثيرا عن البلاد الكثيرة السهول والتربة المنبسطة التي يندر فيها الجبال والمرتفعات، والأقاليم التي يجد الفرد فيها مطالب القوت سهلة هينة مأتية بقليل من العمل ومن غير كدح ولا إجهاد.
وليس من ريب في أن الريف يرد على الأجسام، ويملأ الأبدان قوة وبأسا، ويجعل الأعضاء مفتولة شديدة المراس، ومن يعيش في أحضان الطبيعة - كما يقولون - يعيش قويا شديد المحال ذا مرة مليئا بالحياة ...
ومما يعين على تكوين الزعامة أو بلوغ الفرد موضعها أن تتوافر له الفرصة الثقافية؛ أي أن يكون من خلفه تركة غنية من نوع اتجاهه وقبيل صناعته أو استعداده، وفي كثير من الأسرات يبدو التفوق عند عديد من أفرادها، وينبغ من أصلها أكثر من واحد، ويبرز عدة من أعضائها؛ فترى أحد الإخوة نابغة في ناحية ما، وأخا آخر بارزا في صناعة معينة، وأختا بارعة في فن من الفنون، بينما العم والخال والأقارب الآخرون قد نجحوا كذلك في مختلف الميادين.
وقد قال الأستاذ ويل ديورانت في كتابه تاريخ الفلسفة - وهو بسبيل الكلام عن أرسطو - إنه نشأ ونما وسط رائحة الأدوية، فكان ذلك فرصة أعانت على أن يكون له ذهن علمي واتجاه بحث وتفكير، كأنما كان معدا مجهزا من النشأة ليكون مؤسسا للعلم، إذ شب على قوة الملاحظة من الحداثة.
وقد أسلفنا عليك أن الفرد الرفيع المواهب تنقصه الفرصة إذا هو ولد ونشأ في محيط راكد وبيئة جامدة آسنة، وقد تكون الأحوال السياسية أو النظام الاقتصادي في البيئة كاتمة الأنفاس موصدة الأبواب في وجوه سائر الأفكار الجديدة، فلا يصيب الذين يخالفونها ويتمردون عليها غير النفي والتشريد والعذاب الشديد، وقد تقطع السبيل على كل فرصة أمامهم غير فرصة المماثلة بينهم وبين أفقهم والنزول على حكم محيطهم.
إن الفرصة أو الظرف المهيأ المساعد تقتضي بيئة من الأكفاء والنظراء؛ حتى يحتك الفولاذ بالفولاذ، ويشتبك الصلب بالصلب، وتصطدم الآراء وتتعارض الأفكار، ويقوم الجهاد بين متنازع الحجج ومختلف المذاهب والنظريات، ويكون ثم تقدير للعقول ووزن عادل للمواهب والجهود وثمرات الأذهان، وليس معنى الفرصة هنا إلا وجوب الإقرار والاعتراف بالحاجة التي تطلبها البيئة، وبالأفراد الذين يستطيعون قضاءها، وفي مقدورهم حل مشاكل الجماعة وقضايا البيئة ومطالب المجموع.
ويراد بالفرصة الاجتماعية كذلك سنوح الظروف للسفر والتجوال في الآفاق واكتساب الخبرة والاحتكاك بالنوابغ والقادة والزعماء في مختلف الأقطار، والإقدام على الزج بالنفس في مواقف ومواطن تبعث المواهب الكامنة، وتوقظ المشاعر الهاجعة، وتوقد خبوة الذكاء.
ويندمج في معاني الفرص مطالب المرانة والتدريب؛ لأن النبوغ مهما كان محله من الرفعة لا يزال بحاجة إلى المرانة، والعبقرية وإن بلغت الذروة لا يزال ينقصها التدريب وتعوزها الرياضة، وقلما رأينا المقدرة الذاتية مغنية عن التعاليم، بل إن النابغة الخلي من المرانة لأشبه شيء بمعزف فيه كل الأصوات، وسائر الألحان وطبقات الموسيقى، وجملة الأوتار، وإنما تنقصه اليد العازفة والأنامل الموقعة الخفاف، فضلا عن أن المرانة تستوجب التناسب والملاءمة، فكثيرا ما يخطئ المدرب أو القائم بالتمرين فهم تلميذه؛ فيدربه على ما لا يتفق مع استعداده، ويسلك في رياضته وتمرينه أسلوبا غير مناسب لمواهبه، أو يحاول أن يجعل منه صورة أخرى من نفسه، وهو مخلوق لغير ذلك، مفطور لكي يبلغ غير مبالغه.
وقد يحرم الفرد الفرصة المؤاتية للرياسة والاستعلاء؛ لأنه جاء فوجد أناسا أقوى منه وأقدر وأكثر فضلا في الميدان، وقد اعترف الناس بهم وازدحموا من حولهم، وقد شهدنا نوابغ صالحين لم يستطيعوا الظهور؛ لأن ظل عظماء استبقوهم تعرض فحجبهم عن الأنظار.
ومن معاني الفرص أيضا مواجهة العظيم للصدمات والظروف القاسية والضربات العنيفة الأليمة المدمية حتى يألف الخشونة ويعتاد الجهاد والمجالدة، ولا يستنيم للراحة والترف ويسكن إلى الطراوة والعيش الناعم الظليل، كما تشمل الفرصة قيام الزعيم بمنجاة من الحاجة والكدح للرزق، والتماس العيش والأقوات للذين يعولهم من الأقارب وأهل العشيرة، فكم من رجل كان ينتظر أن يصبح في قمة الرياسة وذروة النبوغ قد حيل بينه وبين هذا باضطراره إلى العمل لكي يعول الآخرين، والبحث عن رزق الضعفاء من ذوي نفسه وقرابته.
وقد يكون معنى الفرص أحيانا ظهور حادث يقتضي مواهب عاجلة للبروز بالنسبة له، من نحو أزمة سياسية، أو نشوب حرب فجائية، ففي هذه الحالات تتمخض الطبيعة عن الرجل الخليق بالظرف، والبطل المنتظر في اللحظة الواجبة.
وقد تخلق الفرص العارضة ومحض المصادفة، زعامة لا تلبث أن تستبي الجوانح، وتصيب أكبر الإعجاب والتقدير، كأن يصاب أحد اللاعبين في الحلبة بإصابة أو أذى، فيقال لأحد الأفراد: خذ مكانه في اللعب لسداد موضعه، فإذا هو لا يكاد ينزل إلى المستبق حتى تبعثه حرارة اللعب وحماسته إلى بذل جهود لم تكن منتظرة منه، وإنه ليشاهد يجري أسرع مما كان معروفا عنه، ويصيب الهدف ناجحا موفقا، ولم يكن ذلك في الحسبان.
لقد واتته الفرصة في غير انتظار، وكان له من مادته ومقدرته ما أعانه على الانتفاع بها، والملاءمة بينه وبينها، وحسن القيام عليها، ومن شأن الفرص أن أكثرها وأغلبها يجيء على هذه الصورة، ومن الناس خلق كثير يتركز كل جهدهم وينحصر كل اهتمامهم في حل مشكلة أو علاج مسألة من المسائل؛ حتى ليقع منهم موقع الدهشة البالغة أن يكتشفوا اهتمام الجماهير بهم، وينتبهوا إلى حفاوة الجماعات بأمرهم والازدحام عليهم من كل حدب ومكان، وأنت فلتتصور كيف كانت دهشة الطيار لندبرج المشهور قاهر المحيط لذلك الاستقبال الرائع المجيد الذي قوبل به عند وصوله إلى مطار ليبورجيه في باريس في مساء الحادي والعشرين من شهر مايو سنة 1927، فقد كان بلا شك يتوقع شيئا من هذا، ولكنه لم يكن ينتظر هذا اللقاء العظيم، ولا تلك الضجة الداوية بداية أنه قبل سفره عبر المحيط على متن طائرته، أخذ معه كتب توصية ورسائل تعريف به ...!
وكثيرا ما تكون الفرصة حاضرة وإن لم تبد كذلك، ولم ينتبه إليها على أنها كذلك ... ولكن الفرد المتيقظ المتنبه الساهر هو الذي يعرفها من أول وهلة، فيتقدم إليها جريئا ويحسر عن وجهها القناع بكل جسارة وإقدام.
ولتأثير القرناء من الحداثة والخلطاء من الصغر قيمة كبيرة في التمهيد للنبوغ، والتوطئة للرياسة، والبناء للزعامة، فكم من نابغة أو عظيم كان لأهله والذين خالطهم من النشأة وتأثر بهم فضل كبير في بلوغه الذروة من المجد، ووصوله إلى النجاح في الحياة.
ولقد رأينا آباء تركوا الحرية لبنيهم من النشأة وفق ملكاتهم، أو تعهدوا هذه الملكات من الطفولة بالتشجيع والعناية والاحتثاث؛ فكان من أولادهم فيما بعد عظماء وزعماء وقادة ونوابغ صالحون، كما شهد كثير من هؤلاء فيما تحدثوا به عن نشأتهم وذكريات حداثتهم بفضل آبائهم عليهم في تكوين الصفات والسجايا والخلال والنزعات التي أعانتهم على بلوغ الفوز المبين.
ولا ننسى كذلك تأثير الأمهات في تكوين ولدانهن وتنشيط ملكات أبنائهن، فقد رأينا المخترع إديسون يعترف بأن أمه كان لها الفضل في إيقاظ ملكاته وكوامن مواهبه، كما شهدنا كثيرا من العظماء والنوابغ يقرون في ذكريات صباهم بما كان لأمهاتهم عليهم من فضل عظيم.
وقد كتب ويلسون رئيس الولايات المتحدة الذي ظفر بالشهرة العالمية في مؤتمر الصلح بشروطه الأربعة عشر وتقرير المصير، فصولا رائعة في فضل والده «ودرو» عليه، وتعهده لملكاته من النشأة، وقيامه على رياضة ذهنه واستعداده من الطفولة الباكرة، كما اعترف جورج واشنطن محرر أمريكا العظيم بأن كل مجده وشهرته ومكانته من أمته كان من ثمرات غرس أمه في نفسه في الأعوام الأولى من حياته.
ومن المحقق أن للزوجات والشريكات في الحياة أثرا في مجد عدد عديد من الزعماء وعظماء الرجال، كما كانت زوج «لافايت»، فقد وصفها بقوله: «لقد كانت ملك خير.» وحتى لقد قاسمته السجن وشاطرته المحبس في أيام بلواه وفترة محنته وشدائده.
وقد يكون لبعض الأقارب أحيانا كالأعمام والأخوال أو الأجداد في هذه الناحية أثر كبير، كما يكون للمعلمين في المدرسة والأساتذة في المعهد، ولبعض المعارف أو أصدقاء العشيرة والمترددين على البيت والجيران في الحي أو المنزل القريب.
وربما اجتمعت كل هذه المؤثرات في حياة الفرد من النشأة أو في الشباب، فأحدثت السلطان البارز في تكوين زعامته، وأعانته باجتماع عواملها المختلفة على البروز فوق قمة النجاح. •••
وقد تظهر البواعث بالاكتساب، أو قد تنبثق فجأة في بعض النفوس انبثاق الشهاب، وتستولي على المشاعر مفاجئة، وتدب إلى الأذهان طارئة وتستأثر بكلية الوجدان في لحظات مباغتة لم تكن في الحسبان.
وقد ينبعث الدافع في ظروف معينة تعرض للأفراد، ونقط دوران في حياتهم وسير أعمارهم؛ فتعطف بهم عما كانوا منطلقين صوبه، وتعدل بهم إلى طريق جديد لم يكونوا سالكيه أو مفكرين فيه، وقد يقع هذا بسبب حادث خطير أو حادث يسير، أو لسبب من أهون الأسباب، فيكون ذلك بداية دور جديد في حياة الفرد أو منعطف عند نقطة دوران.
وربما عرض يوما لفرد يعيش في نعماء ويتقلب في سراء ويحيا في حجر الآلهة - كما يقولون - ما يحفزه إلى قلب حياته وتغيير مجرى عيشه، وقد برز هذا بجلاء في حياة الفيلسوف العظيم «تولستوي»، إذ كان لا يزال بعد طالبا في الكلية، ففيما هو عائد ذات ليلة من مرقص في صميم الشتاء، والزمهرير شديد يهرأ الأبدان، إذ رأى سائق مركبته وكان في انتظاره قد جمد في مكانه من شدة القر؛ فتأثر بمشهده على تلك الصورة أشد التأثر، ومضى وهو في المركبة عائد إلى داره يسائل النفس قائلا: لماذا ينعم هو الذي ما أحسن يوما في حياته، ولا عمل صالحا، ولا أجدى على المجتمع، بكل المناعم والمزايا التي هو بها مستمتع، بينما هذا السائق وأمثاله من أبناء الشعب الذين يؤدون أشق الأعمال، ويحملون المجتمع كله على أكتافهم، يعيشون جياعا تطحنهم الفاقة ويهرؤهم الزمهرير؟! فلم تلبث هذه النجوى أن أولدت حافزا قويا في نفسه، حمله على أن يتنازل عن فكرة الفروق بين الطبقات، وجعل منه فيلسوفا جديدا ونصيرا للفلاحين، ومتحدثا باسم الجماهير، وذوادا عن حقوق الشعب في الوجود والحياة.
توماس إديسون - زعيم المخترعين.
وكان نبوغ المخترع العظيم توماس إديسون راجعا إلى تأثير حادث صغير عرض له في دور الحداثة، وذلك أنه كان يشتغل ببيع الصحف في القطر ومركبات السكة الحديد، ففي ذات مرة وإنه ليخترق القضبان إذ بصر بطفل يلهو عن كثب، وقد أوشك قطار قادم مسرعا أن يدهمه، فألقى إديسون برزمة الصحف جانبا في مثل ومضة البرق، وعدا نحو الغلام فاحتمله قبيل أن يدهمه القطار، ومضى به إلى أبيه، وكان هذا ناظر المحطة، فأراد أن يجزيه أجر ما أحسن إليه، فأذن له بالجلوس في كل يوم بضع ساعات في مكتب التلغراف أو كشك الإشارات ليتعلم هذا الفن على عماله، فكان ذلك الحادث هو الذي أولد في نفسه الدافع القوي الوثاب الذي جعل منه على الدهر أكبر المخترعين في العصر الحديث.
ويمتد بنا نفس الحديث وتترامى حدود الكتاب، إذا نحن فصلنا الأمثلة على تولد الدوافع فجأة ونقط الدوران في حياة النوابغ والعظماء، فحسبنا أن نجمعها جهد الحصر، ونعرضها في غير تمثيل.
فقد يكون المرض باعثا، وقد تكون الهزيمة الأولى في مطامع الحياة العملية دافعة إلى التغيير وتجديد القوى والعزمات، وقد تكون سرعة الملل من الدوافع التي تدفع بالفرد إلى الاهتداء إلى الأمر الذي يرضيه، أو الطريق الذي يسهل عليه السير فيه، أو الاتجاه الدائم له، أو الصناعة التي يحسن فيها أعجب الإحسان.
وفي أحلام الشباب، وتصورات الحداثة، وأماني الصبا، أقوى البواعث والدوافع إلى النبوغ وإحداث العظائم، والإجداء على الإنسانية والإحسان إلى الجماعات ...
الصفات والخواص المشاهدة في الزعامة والزعماء
وينبغي أن تتوافر في الزعامة وأهلها من عظماء الرجال وقادة الجماعات صفات معينة، وخواص نفسية كثيرة، ولسنا نعني بوجوب توافرها أن كل زعيم يتحتم أن تجتمع لديه بجملتها، ولا أن كل نوع من أنواع الزعامة في الناس يقتضي احتشاد هذه الصفات لديه جميعا؛ وإنما نحن فيما نورده في هذا الباب من ذلك مستقرئون تراجم العظماء، مثبتون الصفات والمواهب التي ظهرت في خلق كثير من الزعماء، مستدركون هذا الاستدراك لخطأ الذهاب إلى التعميم؛ لأن الواقع هو أن بعض ضروب الزعامة قد يحتاج إلى هذه الصفات، والبعض الآخر قد لا يكون بحاجة إلى هذه الخواص مجتمعة متوافرة.
لقد دلت دراسة سر الزعامة الناجحة على أن التفوق الشخصي ينبغي أن يكون من لوازمه وبواعثه وأسبابه، توافر مقدار غير اعتيادي من النشاط البدني وقوة الأعصاب، فإن الذين ينهضون نهوضا غير مألوف فوق سواد الناس وجمهرة الخلق يشاهدون عادة أملك للانبعاث، وأقوى جسوما، وأحضر نشاطا، وأمتن أعصابا، وأعظم جلدا من الأفراد الاعتياديين؛ إذ ثبت أن المقدرة على التأثير في الناس راجعة إلى المقدار الذي يملكه الزعيم من هذه الصفة؛ فإن النشاط يحفز النشاط، والقوة تلهم القوة، وليست حماسة الجماهير إلا وليدة المقدرة الغزيرة في زعمائهم، والنشاط الحي الزاخر عند قادتهم، وكل إنسان منا بلا ريب قد أدرك من سير حياته كيف أن تأثير عمله ومقدرته على الدأب، واسترواحه إلى الكد والمتابعة، مرتبط بحالته العصبية، ومبلغ قوته ومدخر نشاطه، وأن التراخي وسرعة الشعور بالتعب ووشيك الإعياء من أقل الجهد وترك العمل يسير وئيدا على هونه - هي أعدى أعداء الزعامة، وصفات معطلة لها، وأعراض تنفي وجودها، وترسل عليها أقتم الظلال والألوان.
وينبغي ألا ننسى أن من أهم مقتضيات الزعامة في تأدية دورها كمنشط للجماعة، وملهم القوة للأنصار والأتباع، ومستثير للحماسة ومشعل للنفوس، أن تكسب نشاطها ألوانا من الحمية، وتلبسه ثوبا من القوة والحيوية، ويحسن لهذا بالزعيم أن يعنى بمظهره الشخصي؛ ليكون مظهره توكيدا لقوته وشدة بأسه ومراسه، والنشاط الزاخر في كيانه، ومما يساعد على إثارة الحماسة في نفوس الناس أن يبدو زعيمهم مليئا بالقوة، مترعا بالنشاط، مفعما روحا وشبابا وحياة.
ولا ينقص من شأن الزعيم وقدره أن يحيط قضيته التي يجاهد لها ببعض الضوضاء والحركة والفتون؛ لكي تبدو ساحرة لافتة الأنظار مثيرة النشاط والحمية والوقدة في نفوس المقودين؛ لأن الناس إنما يرجون ذلك منه ويتوقعونه ويتلقونه بفرح وانبعاث معه وقبول.
وليس معنى هذا بلا شك أن يستخدم صفاته الشخصية ومواهبه المغناطيسية الجذابة لخدمة نفسه، واكتساب الإعجاب بشخصه، وإنما معناه أن يجعل نفسه رمزا لمثله الأعلى وقضيته.
ولا خفاء في أن الجماهير تحب أن تقاد، وأن قيادة الزعيم لهم لتبعث في أعماقهم إحساسا ما كان لينبعث وحده، لولا هذا العامل الخارجي الكبير السلطان، وإنهم ليجدون في متابعة زعامتهم التعبير المقنع الكافي لما كان يعمل في نفوسهم، ولا يجد أداة لذلك التعبير، فلا يلبثون أن يصبحوا قوة محسة خارج أنفسهم فيشعروا بأنهم وحدة حسية انسجمت واتحدت مع قوة أكبر منهم، ومن ثم تبرز وحدة المجموع كتلة متراصة يشد بعضها بعضا كالبنيان المكين.
ولا يكفي أن تحب الجماهير أن تقاد، بل تجب قيادتها وجوبا؛ فإن أكبر الخطر على بعض الزعماء أن رسالتهم تظل ذهنية فحسب، وتبقى حججا تعرض، وآراء تبسط، ونظريات تشرح، أي تعيش في أفق الفكر دون سواه؛ إذ المشاهد أن أمثال هذه الرسالات تخمد وشيكا، وتبرد ويعاجلها الفناء؛ لأن الناس إنما يتحركون بتحرك مشاعرهم، وتجيش حماستهم بمس النواحي العاطفية العميقة الأغوار في طباعهم، وإن للقوة والنشاط لسريانا من الزعيم إلى نفوس الناس وقلوبهم، وسلطانا عظيما على الأرواح، فإذا ما استطاع فرد أن يستخدم هذه القوى في إكساب قضيته هذه الفتنة العاطفية، واجتذاب الجماهير إليها بهذا التأثير؛ فهو الزعيم الحكيم الذي يعرف فن القيادة والسلطان.
وليس العمل وحده يكفي بالنسبة للزعامة، ولكن ينبغي إبرازه في مظهر السمو والتمام والإجادة والإتقان، فقد أثر عن العالم لويس باستور أنه في شبابه كان في إمكانه أن يدخل الامتحان، إذ كان الرابع عشر في الترتيب خلال السنة الدراسية، ولكنه لم يشأ أن يدخل الامتحان قائلا إن عمله لم يكن من الإحسان والإجادة بدرجة كافية، فأرجأ ذلك إلى العام التالي، وقد وصل ترتيبه في التقدم إلى الرابع بعد الرابع عشر؛ وذلك لأنه لم يشأ أن يقنع بمجرد المرور في الامتحان.
إن قولنا نحن «هذا يكفي» رضوانا منا بتأدية عمل ما، لا يصلح شعارا للزعماء؛ إذ يجب أن يكون مبدأهم مواصلة العمل والانكماش فيه، حتى يبلغوا به درجة الكمال ومرتبة التمام.
وهذا يستتبع وجوب العناية والتدقيق، وهما من خواص الزعامة والذين يتطلعون إلى قمتها العالية، كما أن النشاط قد يظهر في المداومة والانتظام؛ فقد لبث الفيلسوف هربرت اسبنسر عدة سنين لا يستطيع بسبب صحته أن يشتغل أكثر من ساعة واحدة في اليوم، ولكنه مع ذلك تمكن من إخراج مقدار عجيب مدهش من المؤلفات في تلك الفترة من السنين.
والجلد على العمل وقوة احتمال الدأب والكد من صفات الزعامة وخواص الزعماء، وهي خلة تابعة لقوة النشاط والحيوية الزاخرة فيهم، والبنية القوية المكينة لديهم، وقد قيل عن نابليون إنه إنما نجح في حروبه وفاز في معاركه بفضل شبابه وصحته، ووفرة حيويته، ومقدرته على احتمال المجهود البدني احتمالا يجاوز كل الحدود، حتى لقد كان يركب جواده فيظل فوق صهوته يوما كاملا، وينام عندما يريد النوم في غير غلبة للنعاس عليه، وقد أوتي معدة تأكل أي شيء وتهضم أي طعام.
ويروى عن مصطفى كمال - أتاتورك - أنه ظل يشتغل ثماني وأربعين ساعة بلا انقطاع في وضع ملخص لمشروع نهضة تركيا الحديثة، حتى لقد جعل يستبدل سكرتيرا بآخر كلما أعياه الجهد وأضناه الاستمرار، بينما ظل هو بنشاطه العجيب الذي بدأ العمل به، بل بتلك القوة الزاخرة الماثلة الحاضرة التي تجلى بها في معركة سقارية المشهورة الخالدة في التاريخ.
مصطفى كمال - زعيم تركيا الحديثة.
وكذلك يقال عن الرحالة الرائد المشهور جون ويسلي إنه قطع على صهوة الخيل أكثر من مائتين وخمسين ألف ميل أو مسافة تعادل عشرة أمثال خط الاستواء، وإنه جعل يخطب ويعظ خمس عشرة مرة في الأسبوع باستمرار وانتظام زهاء خمسين سنة متوالية، وقد ظل خلالها يخوض المستنقعات، ويعبر الأنهار ويقرأ ويطالع وهو على صهوة جواده، حتى إذا بلغ الثمانين، جعل يشكو من أنه يستطيع أن يطالع ويقرأ أكثر من خمس عشرة ساعة في اليوم!
وقد وصف فيكتور هوجو بالنشاط والقوة البدنية المتناهية حتى لقد قال عنه أبوه إن شعر رأسه ولحيته كان أكثف من أشعار الناس ولحاهم كثيرا، حتى لقد كانت الموسي والمقص يتثلمان من خشونة شعره، وكانت له أسنان الذئب حدة، حتى ليكسر بها أجمد الجوز قشرا، وقد قال عنه الأديب فلوبير إن له قوة من الطبيعة وعصارة الشجر في دمه، وكانت خاصيته البادهة تناهي القوة والبأس كما كانت العافية تغمر بدنه وتفيض منه، وقد بقيت بشرته إلى شيخوخته متوردة بلون الشباب اصطباغا واحمرارا ...!
وإن التغلب على العقبات وتخطي الصعاب والحوائل، واجتياز الحواجز والموانع، لهي جميعا من أسرار الزعامة وصفاتها البارزة، وإن أكثر انتصاراتها لهي نتيجة العزم المستحصد، والإصرار المستأسد، والنية النافذة، ومن يرد النجاح قويا دءوبا مثابرا مصرا مصمما، يأته النجاح في النهاية مهما لاقى على طريقة، وقد قال الزعيم بوكر واشنطن محرر الزنوج في أمريكا: لقد بدأت كل شيء بهذه الفكرة، وهي أنني أستطيع أن أبلغ النجاح، وكان مقياس السمو عنده والرفعة وإتيان العظائم والجسام خليقا بالتدبر، حريا بالإعجاب به والتقدير، إذ كان يذهب إلى أن النجاح لا يقاس بالمركز الذي وصل المرء إليه، بل بالعقبات والصعاب التي تغلب عليها واجتازها في سبيله إلى ذلك المركز.
فيكتور هوجو - في منفاه.
وفي الحق إن التشبث بالغرض صفة عالية تقترن بالعظائم، وتلازم العزمات القوية المثابرة، ولا تطيق الفتور والوني والتثبيط، ولا تعرف اليأس والقنوط والتسليم، وكلما اشتدت المعركة وحمي الوطيس ، اتقدت العزمة والتهبت المشاعر واستعر الوجدان وازداد الكر والفر والإقدام.
وكثيرا ما يجد النشاط العظيم مضطربه في الشجاعة الدافعة الجليلة التي تستفيض إلى الزعامة وتبلغ مواضعها، وتلك هي الشجاعة التي لا تخشى شيئا ولا تنزوي متراجعة من أمر مهما تعاظمها، بل إنها لتسير حتى إلى التضحية والاستشهاد في سبيل فكرة رفيعة أو مبدأ عظيم أو قضية عامة خطيرة الشأن بقدم ثابتة، وأحسب هذا النوع الروحي من الشجاعة مقدسا؛ لأنه يكتسب شيئا من قداسة الدين، ويصبح إيمانا لا يتزعزع ويقينا لا يهن، ولو راجعت قوائم الضحايا والشهداء لأدركت أن الدافع الذي احتثهم على التضحية بأرواحهم من الجلال بحيث يلوح أشبه شيء بالدوافع الدينية، وكم من امرئ واجه خصومه بشجاعة فجردهم من أسلحتهم وقلم من أظفارهم، وأطفأ من حدة خصومتهم، وشدة لددهم، بفضل شجاعته وقوة إقدامه.
ولطالما كانت الشجاعة في مواجهة الأعداء والخصوم هي الصفة البارزة في أخلاق كثير من الزعماء الناجحين، وهذه الشجاعة التي تلازمها المثابرة ويصاحبها الدأب والثبات، تجد غذاءها بلا ريب من معين النشاط ووفرة القوى البدنية، إذ ليس شيء هو أشد تأثيرا فيها، وأذهب لمدخرها من التعب والكلال والجهد وتراخي البدن، وإن إشراق الطلعة ونشاط المظهر ومداومة المجهود، إنما تستمد من قوى لا تعود إلى الأذهان بقدر ما تعود إلى الجسوم والأبدان، وساعة يبتدئ الزعيم يسائل نفسه: هل هذا الذي أحاوله خليق بأن يحاول؟ يكون الرجحان في أمره أنه بلا شك قد أصبح بحاجة إلى الراحة والاعتزال! •••
وليس في الدوافع المختلفة التي تحرك الناس في إثر الزعيم دافع هو أعظم أثرا من أن يجدوه أمامهم في المواقف الرهيبة، والأحداث الكبار، متقدما مستبقا حمالا للأعباء الثقال متزن الخطى أمام صفوفهم وهم من خلفه تابعون، إذ يوم يشهدون ذلك منه لا يبقى فيهم فرد متخاذل ولا امرؤ متراجع الخطوات، بل كلهم يومئذ متقدم منبعث إلى حمل مسئوليته والاضطلاع بواجبه ومهمته.
ألا إن الرجل الذي يخشى حمل المسئولية عن نفسه وعن الآخرين لا يمكن أن يكون زعيما، ولا أن يروح يوما على الطريق المؤدية إلى الزعامة، فلا معدى عن المخاطرة وتحمل الأخطار، وإطاقة الأعباء الكبار؛ لكي يكون المرء زعيما ويتصدى لقيادة الناس، وإن كان من الحكمة ألا يجازف المرء ولا يخاطر إلا وهو عالم بمبلغ ذلك وشأنه وحقيقته وحد خطره.
إن تحمل المسئولية الشخصية حتى إلى حد المخاطرة بالحياة هو ميسم الزعامة وعنوان العظمة وصفة القادة الشجعان المغاوير المكافحين، ويوم قال الناس للعلامة باستور وهو يشتغل بالبكتريا - أو الجراثيم المعدية الفاتكة: إن هذا العمل الذي تتولاه خطر شديد العدوى، لم يكن جوابه غير أن قال: «وماذا يهم هذا أو يعني؟! إن الحياة وسط الأخطار هي والله الحياة، بل هي الحياة الحقيقية، حياة التضحية، حياة المثل والقدوة والأسوة، الحياة المثمرة المنتجة النافعة ...!»
وتعدد الجوانب من مزايا الزعامة وصفاتها الأولى، وذلك أن تظهر قوة الزعيم في أنحاء متعددة، وتتجلى في مظاهر كثيرة، وتسير في اتجاهات مختلفة، وقد يلوح هذا التعدد في وقت واحد، فيكون الرجل العظيم مديرا وحاذقا للإدارة، وماليا عريفا لفنون المال واستثماره، أو يكون رئيسا وكاتبا وخطيبا، أو محاميا مدرها ساحر البيان.
لقد اشتهر روسو بمقدرته في الفن والأدب والفلسفة والاجتماع؛ كما تفوق ميشيل أنجيلو في الرسم والموسيقى والنحت والهندسة؛ وكان تيودور روزفلت في آن واحد عالما طبيعيا، وسياسيا قائدا، وكاتبا فحلا، ومحاضرا واسع العلم، وقد قيل عن العلامة «بوز» الهندي إنه - بجانب علمه الواسع بالمعارف الطبيعية - المهندس والكهربائي والمثال والخبير بالعاديات والفنون.
ولا خفاء في أن هذا التعدد لجوانب المقدرة في الزعامة يصونها من الصدأ، ويحميها من التثلم، وذهاب الحدة والإرهاف؛ كما أن هناك نزوعا من ناحية هذا التعدد إلى المخالطة بين العمل واللهو بنسب متساوية أو بنسب واجبة، فلا تقطع الأيام في عمل دائم متواصل لا استجمام منه، ولا متعة خلاله، ولا رياضة نفس ورفاهة بدن.
وقد رأينا زعماء كثيرين اشتهروا بجانب فضلهم وجلال زعامتهم بالبراعة في بعض الملاعب، والحذق لجملة من الرياضات المنوعة؛ فمنهم السباح الماهر، والعداء الحاذق، والموسيقي البارع، والملاكم الفواز على الملاكمين.
جان جاك روسو.
وهناك وجه آخر من هذا التعدد الطبيعي؛ وهو قابلية الزعيم للجلوس في أية جماعة، والاختلاط بأية ندوة، والاحتفاء بمقدم أي قبيل من الناس حتى لقد قيل عن أحد الزعماء إنه كان السهل اللين العريكة، الرقيق الحاشية، العذب المحضر، المؤنس المقبل على الرفقة والجماعة بنفسه الصافية الشفافة الأديم.
وكذلك يروح تعدد جوانب القوة والنشاط شهادة بارزة على صلتها الوثيقة بالزعامة، إذ ليس من ريب في أن النشاط هو الدينامو أو المحرك أو الأداة الثابتة في جهاز الشخصية القوية، أو هو الدافع الباعث الذي تستمد منه الصفات الأخرى في الزعامة قواها وحياتها ومظاهرها المتعددة.
النشاط الحيوي هو البداية بالنسبة للزعامة، ولكنه ليس مع ذلك النهاية في مجموع صفاتها ولوازمها الكثيرة ومقتضياتها المنوعة؛ لأنه لا يكفي لضمانها، فقد يسير النشاط في ناحية من الخطأ، وقد يضل الطريق السوي، وإنما يجب أن نعترف بقوة الذهن أو الذكاء والعلم وأصالة الرأي والحكمة والسداد.
وأبرز العناصر التي تتركب منها قوة الذهن وتتصل بتكوين الزعامة هي قوة الملاحظة، وبعد النظر، وصحة التقدير، وملكة التصور والتفكير، وقوة العارضة والمنطق، وما يتفرع عن هذه من المزايا والصفات المتقاربة والملكات المجاورة المتماثلة.
وإذا أردت منا أن نعرف لك الملاحظة، قلنا إنها إدراك الاتجاهات العامة، والتبصر في الدقائق، ورؤية التفاصيل، وكشف الجزئيات، وهي ترى النتائج الكبرى التي تترتب على عمل ما، وتكشف دقائق اللحظة وكل ما يحيط بها؛ وهي تبتدئ باستخدام الحواس في فهم الأشياء، ثم تمتد بعد ذلك إلى إدراك الصلات والعلاقات والروابط بين بعضها وبعض؛ بل هي التحري والتساؤل والتقصي والاستقراء جميعا؛ لتكوين المبادئ ووضع الخطط ورسم السياسات المختلفة.
وقد قال العلامة شارلز داروين على الرغم من حيائه وتواضعه إنه لم يفترق عن مجموع الناس وسوادهم في شيء أكثر من أنه ألف أن يلاحظ الأشياء التي تفوتهم وتعزب عن بالهم ولا تتصل بحسهم، وأن يعنى باستقرائها عناية التدقيق وطول البال.
الملاحظة تمهد وتوطن للعمل الصالح، وتعبد الطريق للفعل الصحيح والمسلك الصائب الحكيم؛ وهي تكفل للمرء علم ما يحتاج إلى علمه لملاقاة الطوارئ، وملاقاة الحوادث ومواجهة المفاجآت والخطوب، كما أن التساؤل يوسع مدى العمل، ويستكمل الملاحظات ويكسب المعرفة الضرورية لقيام الزعامة وبروزها، فقد كان الزعيم لنكولن يألف الإكثار من الأسئلة والمبالغة في التقصي، واستجواب الذين يتقدمون إليه بالأنباء والأخبار والمعلومات، وقد تمكنت منه هذه الملكة من النشأة والطفولة، فكانت كلمات مثل «استقلال» و«مستقل» تشغل خاطره الصغير وتشوقه إلى فهم معانيها، فكان لا ينفك يسأل عن معناها، فلما أجيب إليه لبث مستيقظا ساهرا الليل كله يستوضح لنفسه المراد من كلمة الاستقلال والمقصود، حتى بلغ شأو الرجولة فأضحى رجلا أكبر ملكاته ومواهبه سرعة ربط الألفاظ من معانيها واختيار أبسط الكلمات للتعبير حتى يتيسر لأكثر الناس فهم الأفكار والأحاسيس التي كان يريدهم على فهمها، وكان يقول عن نفسه: إنني لا أرتاح لحظة ولا أسكن ولا أهدأ من ناحية فكرة تعرض لي، وأريد بثها ونشرها، حتى أسايرها شمالا وأتابعها جنوبا وأحدها شرقا وأبلغ تخومها مغربا.
وكذلك وصل لنكولن إلى المعرفة الصحيحة الدقيقة لاستخدام الكلمات والألفاظ في أدق مواضعها وأسهل مبانيها وأسلس نظامها، وذلك ببحثها أولا وفحصها واستجوابها وتحري جميع وجوهها وتقصي سائر نواحيها؛ فعرف بذلك كيف يفكر تفكيرا واضحا رائقا، ويفوق كثيرا من الزعماء في التعبير عن أغراضه ومعانيه بأحسن منهم أسلوبا، وأصفى منهم كلما، وأسلس منهم تعبيرا، فمثلا لقد راح يستجوب نفسه، ويسائل خاطره من ناحية فلسفية، وعلى صورة عجيبة منطقية، عن معنى «الأمانة»؛ فذهب إلى أن الأمانة هي فضيلة سلبية، إذ إن معناها هو «ألا تسرق»، ولكن العدل بخلاف ذلك فضيلة إيجابية، وهي لهذا مولدة للقوى محركة حافزة دافعة.
إبراهام لنكولن.
إن أكثر الناس سطحيون، فمن الصفات النادرة التي تخلق بالزعامة قوة الملاحظة؛ فهي المزية الكفيلة بأن تفتح أمام الزعيم آفاقا جديدة من الفكر قلما يستطيع الناس أن يرقوا إليها إذا لم يتوفر لهم الهادي الأمين.
وأما بعد النظر فذلك هو المقدرة على رؤية أمر من الأمور من جميع جوانبه في غير ميل أو تجانف إلى جانب واحد منها، وإنه ليقي الرجل منا السقوط في الفخاخ التي كثيرا ما يقع الناس فيها بقصر نظرهم وضيق أذهانهم، كما أنه يعين المرء على التسامح ولا يجعله يضيق بشيء، ويفسح له مدى التفكير ومضطربه.
ومن مزايا بعد النظر أنه يسبق الحوادث، ويستشف الحجب، ويعين على توقع الأمور القادمة، ويوم قام الرحالة الكشاف المشهور أمندسن يريد القطب الجنوبي أخذ معه سبعة وتسعين كلبا من كلاب الأسكيمو الخفاف الأقوياء، ولم يكد يسير جنوبا حتى راح يقيم فوق تخوم الجليد مستودعات للميرة والمئونة معلما لمواضعها بالأعلام والرايات والبنود ومختلف الإشارات، حتى إذا عاد من كشف المتجمد وجدها في أماكنها لم تصب بسوء، وكذلك أكسبه بعد النظر والفراسة والتوقع صفة الاستعداد للحوادث وأعانته جميعا على النجاح.
الرحالة أمندسن - كاشف القطب.
ويقتضي النظر البعيد وسبق الأحداث خيالا قويا وحكما متزنا، فإن مزاج هاتين الملكتين من شأنه أن يوفر الاستعداد، ويكفل التأهب وييسر الاحتياط للمجهول، والتعرف من المنتظر وغير المنتظر على السواء.
ويشمل الذكاء وقوة الذهن ملكة التقدير الصحيح للأشياء، سواء منها القيمة والتافهة، فإن هذه الملكة هي خير معوان على صواب الحكم وسداد البت في الأمور، والوصول إلى نتائج حاسمة وقرارات فاصلة، ويقتضي التقدير من الناحية النفسية وزن الشواهد والأناة في البحث وطول التفكير، كما يوجب التدقيق في التفاصيل والجزئيات، بل الاهتمام بالتوافه والشئون الصغيرة، فكثيرا ما رأينا العظماء يرون في التافه ما يؤدي إلى الخطير، ويشهدون في الأمر الصغير ما يحدث كبير الأثر، وقد كان أندرو كارنيجي يقول: «احذروا من التوافه وصغار الأمور.» ومرد ذلك إلى أن الاستخفاف بها قد ينقلب خطرا، ويستحيل شرا عظيما، وقد يكون في الكلمة أو النظرة أو الحادث البسيط ما يؤثر في مصير فرد أو مصير أمة بأسرها، وإن صغار الأشياء هي التي تخلق الإنسان أو تحطمه، وتبنيه أو تهدمه، بل إن التوافه هي التي تشترك مع العظائم في تقرير المصير، وبناء الإرادة، وطريقة المسير إلى الغد المجهول ...!
الشخصية البارزة وصفاتها ومختلف مظاهرها
الشخصية هي مجموعة أخلاق الإنسان في نظام مستكمل، وكل مجتمع، ووحدة مؤتلفة. وقد يكون المرء - من حيث المعاني النفسية «البسيكولوجية» للشخصية - قويا أو ضعيفا؛ أما الفرد ذو الشخصية الضعيفة فهو الذي لا يعرف ذهنه، ويجهل اتجاه نفسه، وتكون الأخلاق الشخصية فيه مفككة منحلة واهية الروابط والصلات، مضطربة في غير تواصل ولا نظام، ومثل هذا لا تتاح له يوما فرص الزعامة؛ أما الفرد صاحب الشخصية القوية فهو الذي يحس دافعا عظيما، وحافزا قويا في أعماقه، بل هو الذي يعرف ماذا يريد، ويدرك ماذا هو طالب، ويتبين كيف هو محققه، وهو الذي لا يتردد ولا يتوانى ولا يتراجع إذا أراد شيئا وابتغى أمرا؛ لأن كل صفاته الشخصية مجتمعة معا منظمة، حسنة السياق مؤتلفة الترتيب.
ومن ناحية المعاني النفسية على هذا القياس قد يكون المجرم صاحب شخصية قوية، فترفعه شخصيته إلى مرتبة «زعيم عصابة»؛ وذلك لأن دافعه الرهيب لا يلبث أن يجمع إليه أتباعا، ويجتذب نحوه أنصارا ومشايعين، ولكنه إنما يقودهم إلى الجريمة، ويسير بهم إلى السوء، ولئن كان على طريق الخطيئة أو شريرا بتفكيره وانبعاثه، فهو مع ذلك يقتضيهم الاحترام له ومهابته والإعجاب به، بل قد يرتفع إعجابهم بالزعيم لقوة شخصيته إلى حد العبادة والإيمان العظيم.
ومن الناحية الاجتماعية تعد الشخصية هي مجموعة الأخلاق الفردية من جهة القيمة الاجتماعية، فقد يكون الفرد صاحب شخصية نبيلة خيرة، أو أخا شخصية شريرة سيئة، فمن أوتي الشخصية الشريرة هاجم القيم الاجتماعية، ومن أوتي شخصية طيبة بنى قيما اجتماعية جديدة، وأتى فيها بحديث وطريف.
ومن ثم تنشئ الشخصية القوية فرصا للزعامة، وتمهد لها أحسن تمهيد، وتقوم بمثابة لازمة من لوازمها المتعددة؛ لأن هذه الشخصية هي التي تضع الحجر الأساسي في بناء الزعامة الاجتماعية المنشئة المصلحة، فإذا ما اجتمعت الطبيعة والقوة الشخصية لزعيم كانت زعامته باجتماعها موفورة مستكملة تامة البنيان.
ولا ريب في أن جوهر الشخصية كأحد عوامل الزعامة وأفاعيل تكوينها هو الإخلاص؛ إذ هو الأمانة والصدق، وأنت إذ تصف رجلا بأنه امرؤ يحفظ كلمته؛ إنما تمدحه بأنه المطمأن إليه، الموثوق به. ومن أجمل الصفات أن يقال عن امرئ إنه الوفي الواضح كالنهار.
الصدق أو الإخلاص أو الأمانة هي أن المرء لا يمكن أن يظهر بغير ما يبطن، أو يبدو على غير حقيقته، أو يتراءى بأنه يعرف أكثر مما هو في الواقع عارف، بل هي أن المرء يلقي بنفسه وبكل قلبه وشعوره وحقيقته في عمله ومسلكه ومظهره، وفي ذلك يقول هنريك إبسن: كن كما أنت بكل نفسك ولا تكن باديا من ناحية واحدة، أو من أجزاء متفرقة.
على أن الفرد الذي يصبح زعيما اجتماعيا لا يلبث أن يجد نفسه أمام مسألة تطلب الحل، وهي إلى أي مدى يصح له أن يركن إلى أنصاره، ويطمئن إلى أشياعه والتابعين له، وهل يجوز له أن يصارحهم بكل نقائصهم وعيوبهم وهناتهم فيغضبهم وينفرهم ويفضهم من حوله، بل يخلق منهم بالصراحة خصوما له وحاقدين؟ أم ينبغي له أن يكون «دبلوماسيا» على حد التعبير الجديد، وأن يكون الفرد دبلوماسيا معناه أن يعمل بروح المتهرب من الحقائق، المتحاشي لمواجهتها، المتطامن للأكاذيب في بعض الأحايين.
إن الركون إلى الأنصار يوجب الصراحة، وينطوي على خطر التنفير والإغضاب، ولكن الزعامة القوية هي التي لا تخشى هذا الخطر، وتعرف كيف ترتفع فوق الدبلوماسية وتسمو على صفات السياسة؛ لأن من يصانع مرة لا يلبث أن يجد نفسه مصانعا في أمور كثيرة، وذلك من شأنه أن يذهب بالهيبة، ويجرد الزعامة من قداستها بين الناس.
لقد كان إخلاص إبراهام لنكولن وصدقه وصراحته العوامل التي حببته إلى الملايين، فكانت كلماته خلية من المظاهر إذا هو تكلم، نقية من شوائب المواربة أو المداجاة إذا هو تحدث إلى الناس، وكان مسلكه حيال الجماهير يوحي الأمانة، ويحملهم على التصديق والاقتناع والإيمان، حتى لقد سمي «آب ... الأمين»، وقد وصفه أحد الذين سمعوه وهو يخطب الجماعات فقال: لقد كانت قطرات العرق تسيل من جبينه إذا هو اهتز وتمايل مع نغمات خطابه وتيارات فكره، ولم يكن يخطب بلسانه وحده، ولكن بكل قطرة من دمه المتدفق في كيانه، حتى لقد كان كل سامع في الحشد المجتمع يحس أنه معتقد صحة كل كلمة تخرج من بين شفتيه، وأنه كمارتن لوثر ليفضل أن يذهب إلى المشنقة على أن يمحو حرفا واحدا منها ...!
إن نقاء الذمة يثير الاحترام ويكسب الإعجاب ويوجد الأنصار والمشايعين، ولقد مشى لنكولن على قدميه ستة أميال بعد جهد النهار ومتاعبه ليرد بضعة دراهم إلى سيدة اشترت شيئا من المتجر الذي كان يعمل فيه، فتقاضاها خطأ أكثر مما يجب أن تدفعه. وقد اشتهر لنكولن وهو محام بأنه لا يقبل المرافعة في غير القضايا الصالحة، حتى قيل عنه في القضايا الحسنة: يعد لنكولن أحسن محام في أمريكا كلها، وفي القضايا السيئة يعد «دوجلاس» أكبر المحامين فيها على الإطلاق، ولا عجب في أن رجلا مخلصا نقي الذمة كإبراهام لنكولن ليس في وسعه أن يضع كل قلبه في الدفاع عن الشر والباطل، بل لو فعل لكشف عن حقيقة القضية من عجزه عن الإقناع، وقد سئل يوما أن يدافع عن متهم كان مقتنعا بإدانته، فقال: إن الرجل مدان وأنتم تستطيعون الدفاع عنه، ولكن أنا لا أستطيع؛ إذ لو حاولت أن أتكلم فإن المحلفين المستمعين لي سوف يرون أنني أعتقد إدانته فيدينونه. ولا غرو، فإن النزاهة الصحيحة أو الذمة النقية لا تعرف الخداع ولا تجيد المداجاة، وإن الزعامة الصالحة الناجحة الموفقة لا يمكن أن تبنى على التستر والغش والدهان.
إن أرفع مستوى الإخلاص والأمانة والصدق إنما يكسب الاحترام؛ لأنه لا يرتضي تسامحا ولا تساهلا ولا مصانعة إذا ما كان في شيء من ذلك أقل مساس بالمبادئ، ولأن الأمانة لا يمكن أن تبيع نفسها، وهي كذلك لا تضحي بالحاضر من أجل مغنم قابل أو لكسب محتمل، فقد كتب إلى لنكولن في سنة 1860 صديق له يقول: إن أصوات طائفة من النواب يمكن ضمانها إذا نحن وعدنا زعيمهم أو رئيسهم تقلد منصب وزير المالية، فلم يكن من لنكولن إلا أن بعث إليه بكتاب يقول فيه: أنا لا أرتضي مساومات ولا أتقيد بها، فلا تعط وعودا كهذه ولا تصارح بأدنى ارتباطات ...
إن الشخصية القوية الكفيلة باكتساب الحب والاحترام والتفاف الناس حولها ليست جافة ولا صلبة ولا خشنة العاطفة، بل هي الشخصية الحنون العطوف الجاذبة، هي الشخصية التي تعرف هموم الناس ومتاعبهم وخيباتهم وهزائمهم، وهي الشخصية التي تشاركهم في أفراحهم وأحزانهم، وتشاطرهم سراءهم وضراءهم، بل هي التي تمد يدها فتأخذ بأيديهم، وتتقدم إليهم فترفعهم فوق نفوسهم، وتعينهم على السخرية من المكاره والخطوب.
على أن هذه العاطفة في نفس الزعيم ليست مشابهة لمثلها في نفوس السواد من الناس، ولكنها عاطفة متزنة رزينة لا تسرف على نفسها، فتتشابه والحساسية اللينة المتمادية المتجاوزة الحدود؛ لأن العطف المنظم الذي يتوخى صلاح الذين يبدى لهم في المحن ويظهر لهم في الكوارث وعند مس الحاجة، هو العطف المشاهد في الزعامة، المشهود له المعترف به عند أنصارها والمشايعين.
ويجب إذن أن يكون اشتراك الزعيم مع الناس في شعورهم منظما مشدود الأعنة، مكبوح الجماح، وإلا فسد ولم يحدث الأثر المطلوب، كما أن العطف لا يكون تمثيلا ولا رئاء الناس، إلا إذا كان من جانب زعامة غير صحيحة ولا صادقة المنبعث ولا قوية التكوين.
ومن صفات الزعامة الرشيدة الصالحة، الجنوح إلى الاختلاط بأنصارها وتفقد أحوالهم والتماس معرفة شئونهم وحاجاتهم، والرفق بالصغار قبل العناية بالكبار منهم؛ لأن ذلك يكسب قلوبهم، ويؤثر في نفوسهم أبلغ الأثر، فإن الناس يودون أن يفعلوا أو يكونوا، كما يعتقدون أن الزعيم الذي يعنى بهم ويشترك في العاطفة معهم يريدهم أن يفعلوا ويكونوا، فإن هذا يهيئ لهم إحساسا يعيشون به، وينمي في نفوسهم العاطفة التي تقبل عليه، ويعين أمامهم ما يراد منهم، ويبصرهم بما هو منهم مرتقب وفيهم منشود، وإنهم ليشعرون بالاغتباط والفرح إذا هم انطلقوا يحققون آمال الزعيم فيهم، ورغباته إليهم، بل يومئذ يشعر الناس بأن هناك حاجة إليهم، وأنهم مطلوبون، ولهم قيمة وفيهم رجاء وأمل وخير مرقوب.
ومن أخص مميزات الزعامة ولاؤها لمبادئها ووقوفها بجانب عقائدها متأبية الانحراف عنها ولو قليلا، مهما كلفها ذلك من جسامة التضحية أو تقاضاها من بالغ المقاومة والمجالدة والجهاد.
ويروى عن صمويل جومبرز أنه وقف في وجه الرئيس تافت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وقفة رجل مخلص لمبادئه محارب لها، لا يرتضي أن يزحزح عنها قيد أنملة، فقد قال له يوما الرئيس تافت: إذا أنت حذفت المادة كذا من مشروع القانون المقدم منك إلى المجلس، فلست أمانع في إقراره، فكان جوابه: ليس في وسعي أن أفعل ذلك أيها الرئيس، ولا في رغبتي أن أقوم به، بل أرى من الضروري حتما أن تبقى تلك المادة حيث هي لا يمسها شيء، فسكت الرئيس تافت لحظة كأنما يفكر، وراح يقول: حسنا، أحسب الموقف وقد وصل إلى هذا الحد يضطرني إلى توقيع هذا المشروع.
وقد جعل الولاء للمبادئ أو الثبات على الفكرة التي هي موضع الإيمان عند صاحبها واليقين، هنريك إبسن، رجلا عظيم القدر خالد الذكر في العالم، وهو القائل: أعظم الرجال شأنا هو من يقف وحده بجانب عقيدته.
وقال ودرو ويلسون في بعض خطبه وهو يواجه خصومه وأنصاره على السواء: لكم إذا شئتم أن ترفضوا هذا الذي أعرضه عليكم، بل في وسعكم أن تمتنعوا عن متابعتي وترفضوا المسير في إثري، وفي استطاعتكم أيضا أن تقيلوني من عملي، وتنزعوني من منصبي وتنفضوا من حولي، ولكن ليس في وسعكم ولا مقدوركم ولا مستطاعكم أن تحرموني من قوتي وتجردوني من سلطاني ما دمت الثابت الصامد الواقف بجانب ما أراه حقا وعدلا، وفي صالح الشعب وخير المجموع.
ومن شأن الزعيم الموقن بفكرته ألا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا أن يتراخى ويتردد ويبطئ في خطاه، وإنما يعمل ما يراه حقا وصدقا بكل ما فيه من قوة، لا يحول دونه اعتبار الشرف أو العار، أو اعتبار الحمد والذم، أو المديح والقالة السيئة.
إن الوقوف بجانب الفكرة مثار الإعجاب ومكتسب الاحترام، وهو يورث صاحبه عادات وصفات ومزايا تجعل زعامته شريفة نبيلة بالغة رائعة، ألم تر إلى كلمة أحد زعماء الحركات الوطنية، وهو يقول في بعض خطبه الحماسية الرنانة المتسعرة: «في وسعكم أن تحرقوا جثتي حتى تستحيل رمادا تذروه الرياح، بل في ميسوركم أن تسحبوا روحي التي بين جنبي إلى هوة الظلام واليأس، حيث تظل معذبة إلى الأبد، ولكنكم تحاولون عبثا أن تطلبوا مني تأييد فكرة أعتقد خطأها حتى ولو بتأييدي لها قد أستطيع أن أحقق ما أعتقده حقا وصوابا.»
والناس مجبولون على التأثر بهذه الصفة إذا برزت في زعمائهم؛ لأنها تنطوي على اليقين بأن الإنسان على الحق، وأن الحق لا ينبغي أن يتطامن برأسه مستذلا أمام السلطان مهما كان عظيم الأثر.
الإيمان هو عنصر من عناصر الشخصية يدفع صاحبه إلى أفق بعيد من القوة والنفوذ، ويحدوه إلى أنبل العمل وأمجده، وهو في الزعامة وحدودها ينطوي على الثقة بقوتها في ذاتها، والثقة بالطبيعة البشرية، والثقة بأن هذه الطبيعة تستجيب لكل ما هو رائع وبديع جليل في الفن والحق، بل هو الإيمان بالحياة وبالمقدرة على الاستتمام والاستكمال، وبأن الجهود المتواصلة مؤدية إلى الغرض مفضية إلى الغاية، مهما قامت العقبات وتكاثرت الحوائل والمصاعب، ذلك الذي يرد الشيخ شابا، وينفخ من روحه في النفس فتضطرم وتستعر، وتستثير الإعجاب وتملأ النفوس التي كانت متشككة من قبل إيمانا ويقينا، وقديما قيل عن هذا الإيمان الصادق العميق إنه الشيء الوحيد في هذا العالم الذي يجدر أن يعاش له، ويخلق بالمرء أن يحيا من أجله؛ لأنه الإيمان بأن الله مع المجاهد، وقوى الطبيعة في صف المكافح للخير، المستبسل في سبيل المجموع، بل هو الإيمان الذي يحرك الجبال، ويعين على مخاض الأهوال، والذي أحال ألوفا من الأناسي الاعتياديين إلى قديسين وأبرار وشهداء.
إن الإيمان يلهم الشجاعة على الوقوف بجانب العقائد وملازمة المبادئ، وينفي الأوهام ويحمي عن صاحبه خاطئ التصورات وخدع النفوس، ويمنع عنه سلطان الإغراء والإرهاب، ولئن قام يوما في سبيل المبدأ حائل أو اعترضته عقبات وصعاب، فإن الإيمان بها في النهاية ولا شك متخط منتصر غالب، وإن الناس ليموتون ميتة طبيعية أو ميتة سياسية، ولكن الفكرة هي التي تعيش، والعقيدة هي التي تحيا، والإيمان هو أبدا الخالد ليس له فناء.
بل إن الإيمان هو الذي يجعل للعين نظرة رهيبة غير مألوفة، بل خارقة للمألوف، ويكسب النفس بريقا وهاجا كأنه من نور السموات، فيثير الرهب ويبعث الجلال، ويقيم أرفع قواعد الزعامة، وأمتن أسسها؛ لأنه يستحوذ على القلوب أي مستحوذ ويستولي عليها أيما استيلاء ...
ومن هذا كله يخلص لك أن الشخصية هي صخرة طارق التي تنهض عليها كل زعامة قوية معمرة ثابتة، وأنها الصامدة للشدائد والأزمات ومحن الظروف وتجاريب الأيام، وإنها لترفع رأسها الجليل المهيب، فتعلو به فوق سحب الشك وغمائم الوسواس والتردد والارتياب، وإنها لتملك تلك القوة المتحدية للزمن الساخرة من أفاعيله الهزاءة بتصاريفه المستصغرة لأحداثه، وإنها أخيرا التي تتمثل وتتجسم فيها تلك القوة المتغلبة على اليأس والقنوط، والتي تعين على كل عظيمة اجتماعية، وكل عمل إنساني صالح جليل ...
قوة الإرادة وضبط النفس
لكي تأمر وتقود، ينبغي أن تزجر النفس وتقوى عليها، وتمتنع عن الاستماع إليها، وقد يلوح في هذا الشرط الأساسي الذي وضعناه للزعامة بعض التناقض، وشيء من الغموض والاستبهام، ولكنا إنما أردنا بذلك زجر المشاعر وضبط الانفعالات، وكبح جماح النفس الرامحة، كما قصدنا به إلى ادخار قوى النشاط بتوفير النفس على العمل تحت إمرة الإرادة العاقلة، والعقل الحكيم والرأي المتزن، إذ لا غناء لمن يبتغي الرفعة على الناس والسمو عن المستوى العام، عن رياضة نفسه في كثير من الاتجاهات، ومنعها عن الاسترسال في عديد من الظروف، ومن يرد أن يشعل في ذات نفسه شهب الإحساس القوي النفاذ، وأضواء الفراسة المتغلغلة إلى الأعماق، فلا ينبغي أن يكون موزع العقل، مشتت الحس، متفرق الخوالج، مضطرب الوجدان.
وليس من شك في أن المشاعر والبواعث النفسية والانفعالات الطليقة من القيد، المسرحة من اللجم، المرسلة على هواها، من شأنها أن تسرف وتتجاوز الحدود المعقولة، وتفسد على صاحبها حكمه على الأشياء، وتعمي بصيرته عن محجة السداد، وتنقص من القيمة، وتقلل من القدر، وتذهب برفعة المكان.
إن زجر الانفعالات والأحاسيس إنما يزيد في القوى النفسية المدخرة، ويرسل حول النفس مهابة وجلالا؛ لأنه لا يحيلها مكشوفة ظاهرة على الأبصار، ويجنبها في كثير من الأحيان موارد الخطأ، ويحميها من مهاوي الضلال، وليس من ريب في أن الاحتفاظ بما يختلج في النفس، أو الحرص على كتمان ما يعتمل في الخاطر، يكسب الشخصية عمقا، ويحيلها بعيدة الغور لا يبلغ أحد منها مواضع الأعماق.
إن قوة الإرادة تمنع من التهالك والتهافت والفضول والصغار، وتصون الشخصية بكل ما لها من وقار، وهي من جهة الزعامة تكبح جماح الأحاسيس الأثرة، وتزجر المشاعر الأنانية، والمآرب الذاتية، وتختزن قدرا احتياطيا عظيما من القوى الروحية لوقت الشدائد وحين الأزمات، وهي ملاك سيادة الإنسان نفسه، ومن ثم ملاك سيادة النفوس، وسلطانه على الأرواح، وهي قوام الاحترام الذاتي والاعتداد بالكرامة، والترفع عن كل حقير وصغير مهين.
ولعل أبلغ ما قيل في فضل عمق النفس وبعد غورها ما قد أثر عن بنيامين فرانكلين، وهو «لا تدع الناس يعرفونك تمام المعرفة، فقد جبل الناس على مخاض الجداول الضحضاحة القليلة العمق بالأرجل والأقدام ...!»
ولقد أرتنا الحوادث كيف كان ضبط النفس معوانا لبعض الرجال على الوصول إلى مكان الزعامة بفضل كبح النفس في المواقف العظيمة، وساعات الاضطراب الاجتماعي وإزاء الأحداث الخطيرة، فإن التماسك والاتزان والرشد من شأنها جميعا أن ترفع صاحبها عن مستوى الناس إذا ما ذهب كل فرد هائما على وجهه، وساد الأفق فزع، واختلط على القوم أمرهم، وحارت العقول أين السبيل إلى النجاة وأين مكان الحق وموضع الصواب؟ وكم من امرئ استطاع بقوة الاتزان، وضبط النفس أن يسمو بشخصيته على آخرين كانوا أكبر شأنا منه وأرفع خطرا.
وقد يكتسب الاتزان وضبط النفس بالرياضة على احتمال الآلام، والصبر للشدائد، ومغالبة الخطوب، والابتسام للصعاب والأحزان والتجاريب القاسية، تلك البسمات الدائمة التي لا تفتر عن الثغر ولا ينطفئ من الوجوه لها وميض.
ولعل مقاومة فنون المال ومغالبة سحر الذهب النضار أروع مظاهر ضبط النفس وقوة الشكيمة والبأس، على فرط ما لذلك السحر من سلطان على النفوس، ورغم قيمة المال في نظر المجتمع وتقديره، وبخاصة في هذا العصر المادي المتحجر الذي فتنه المال أيما فتون، ولقد كان جواب أجاسيز العالم الأمريكي إذ عرض عليه مركز يدر عليه المال الوفر أن ليس لديه فسحة من الوقت ليشتغل بالمال، وأن الحياة أغلى وأرفع قيمة من أن تنفق في هذا السبيل، ولقد جعل أجاسيز دأبه في الحياة ومبدأه أن ينصرف عن أي عمل عقلي بمجرد أن يصبح ذلك العمل مجزيا أو عائدا بفائدة مادية أو له قيمة تجارية ما.
وثم أيضا فتنة تقتضي مقاومتها شكيمة قوية وضبط نفس شديدا، وهي فتنة المديح وسحر الرتب والأوسمة والألقاب، فقد رفض إديسون درجات الشرف حين عرضت عليه، وهو يشتغل بتجاريبه العلمية ومخترعاته، كما أبى العلامة أينشتاين أن يستمع للمديح العام الذي لهج الناس في العالم به، وأطالوا في ترداده تنويها بفضله وإقرارا بعلمه، حتى لقد قيل عنه إنه لا يعرف عدد الجامعات التي منحته ألقابا فخرية، وجعل إذا هو تحدث عن الوثائق الرسمية والبراءات الخاصة بدرجات الشرف وألقاب الفخار التي انهالت عليه يصفها بقوله: «لفائف الفخر» التي لا تصلح لغير لف الحوائج، وكان يتحاشى عرضها على الزوار، ويأبى فرجة الناس عليها إذا ما أقبلوا عليه مسلمين.
العالم الرياضي أينشتاين.
وكم من عظماء أحالهم ضبط النفس أو الزاجر القوي من الإرادة زاهدين في متع الدنيا متبتلين للعمل منقطعين لخير الإنسانية! وكم من زعماء عرفوا كيف يمسكون بغضبهم، ويهدئون من ثائرة نفوسهم، ويكبحون جماح هواهم، فعاشوا طيلة أعمارهم مثال النزاهة والعفة والنقاء!
ويروى بسبيل مظاهر الاتزان وجمال السكينة النفسية وضبط النفس أن الملكة فكتوريا كانت لذلك كله في حداثة سنها مثالا عجبا، فقد تجلت تلك الصفات عليها وهي شابة عند اعتلائها عرش بلادها، فأكسبتها هذه المظاهر الرائعة إعجاب الملايين من أفراد شعبها العظيم، حتى لقد قيل إنه ندر ما أبدت فتاة أو امرأة في مثل سنها من السيطرة على إرادتها، والاتزان في حركتها وفطرتها والهدوء السابغ عليها، والسكينة الضافية على مسلكها، ما أبدت الملكة الصغيرة في تلك المناسبة.
وقد وصف الكاتب الإنكليزي الكبير «ليتون استراشي» في كتابه عن ترجمة حياتها، مظهرها الرائع على أثر نعي الملك الراحل وارتقائها العرش خلفا له، فقال: إن جموع الأشراف والأعيان والأساقفة والقواد والوزراء كانوا حاشدين في انتظار قدومها، فلم يلبثوا أن شهدوا الأبواب قد فتحت، وإذا بفتاة قصيرة القامة ناحلة البدن متشحة بالسواد قد دخلت عليهم وحدها، فمشت إلى مقعدها بجلال غير مألوف ومهابة نادرة، فرأوا حيالهم طلعة ليست جميلة ولكن أخاذة، وجدائل شقراء كالذهب، وعينين زرقاوين نجلاوين، وأنفا دقيقا أقنى، وفما مفتوحا تبدو منه نواجذه العليا، وذقنا دقيقة، بل رأوا فوق ذلك جميعا أبلغ أمارات النقاء والوقار والجلال والصبا، وفي أتم الهدوء ورباطة الجأش سمعوا صوتا عاليا ساكن النبرات لا يضطرب ولا يتلجلج وهي تقرأ بأتم الوضوح وأجلى البيان، ثم لم يكد الاحتفال ينتهي حتى رأوا ذلك القوام الصغير ينهض من مجلسه، وبذلك الجلال ذاته والمهابة نفسها، ينثني منصرفا من المجلس كما دخله أول مرة ...
ولعل أقرب شبه إلى هذا المثال البديع على الاتزان في الحداثة والوقار والجلال في موقف من هذه المواقف الرهيبة، ما كان من ملكنا المحبوب، وصاحب عرش بلادنا المفدى، الملك الشاب الجميل الجليل فاروق، الذي أحبته أمته وهو أمير، وتطلعت بأبصارها وقلوبها إليه وهو في المهد صبي، وفي الطفولة عزيز، وفي الحداثة مليك منتظر، تتلهف على سماع أخباره، ويشوقها علم حركاته وسكناته، وملاعبه ودراسته، فلما قضى أبوه الملك الكبير الرهيب، أحست البلاد حنانا بالغا على ملكها الشاب، وشعرت برفق متناه به، مخافة أن يكون الموقف أكبر من سنه، والحادث العظيم أشق عليه، فإذا هي تحس مع الأسى له، الإعجاب الرائع به، وتشعر مع الحزن لحزنه بالإجلال لجلاله ورهبه، فقد تلقى الحادث وهو عن البلاد مغترب، بكل الرزانة الملكية الخليقة به، وسلك في تلك المناسبة أروع مسلك، وزان الإمارة باتزانه، وجلت الملكية بهدوئه السامي ورباطة جأشه العجيبة وقوة جنانه، ورفعة وجدانه، حتى تضاعف حب الشعب له، وازدادت الأمة تفانيا فيه وولاء.
جلالة الملك فاروق عند حضوره من إنجلترا يوم 6 مايو سنة 1936، في طريقه إلى ضريح المغفور له والده لزيارته.
ولا غناء للزعامة عن الحلم والتغلب على الانفعال وقهر سورات الغضب؛ لأن من يحتد ويغضب يفقد حجته ويضيع قضيته، وقد حدث يوما أن الكاتب الأمريكي العظيم رالف والدو إيمرسون وقف خطيبا في جمع من الناس وراح يلقي عليهم كلاما يسوءهم، وقولا لا يروقهم، فما لبثوا أن قابلوه بالهتاف الساخر والضجيج المتعالي، والاحتجاج الثائر، حتى أكرهوه على النزول من فوق المنبر، فنزل غاضبا متهيجا، وانصرف إلى داره منفعلا ثائر الإحساس، ولكنه ما لبث إذ بلغ البيت أن شهد الكواكب الساطعة تطل عليه من خلال أغصان الشجر وأفنان الدوح كأنما تقول له: ما بالك هكذا أيها الإنسان الصغير متهيجا ثائرا لهذا الأمر التافه؟ فما عتم أن هدأ وسكن.
وقد وصف أحد الزعماء بأنه قد أوتي المقدرة العجيبة على ضبط حركات وجهه وخوالج سحنته، حتى إنه إذا أراد أن يخفي مشاعره لم تبدر منه مطلقا بادرة من هزة أو اختلاج تنم عما في نفسه، وتكشف عما يضطرب في خاطره ويجري في خلده. كما قيل عن الرئيس هوفر إنه قد ظل أبدا الحريص على ضبط النفس، فما شوهد مرة منفعلا ولا رؤي ذات يوم غاضبا أو خارجا عن طوره، وما تكلم يوما كلمة لم يتدبرها مليا قبل أن يدعها تخرج من بين شفتيه.
ومما يذكر عن أخلاق فورد صاحب مصانع السيارات المشهورة أنه لم يشاهد يوما طائر الفرح بعظمة عمل أداه، ولا رؤي مطلقا العنان لسرور بالغ أو فخار ظاهر أو خيلاء متناهية إذا سمع يوما مديحا لعمله أو ثناء بالخير عليه.
ومن أدلة السمو الخلقي والحلم الرفيع أن يظل الرجل منا باسما بسمة السخرية حيال من يحاول إغضابه ويستثير غيظه، إذا كان هذا الشخص دونه قدرا ومكانة، فقد قيل عن بوكر واشنطون زعيم زنوج أمريكا ومحررهم العظيم من رق البيض: «لقد كان أبدا الباسم الرفيق المتلطف، لا يجادل ولا يماري ولا يشتجر.»
هنري فورد - ملك السيارات.
ولا ننسى أن مراعاة شعور الغير والأناة والتؤدة في الحكم على الرأي العام صفة من صفات الزعامة، كما أن الامتناع عن إظهار الرأي أو المصارحة بحقيقة الإحساس والشعور حتى تحين المناسبة وتسنح الفرصة الملائمة يقتضيان درجة خاصة من ضبط النفس، وفي ذلك يقول بوكر واشنطون: لقد طلب إلي كثيرون أن أقول كلمة في الصحف بسبيل إهدار دماء الزنوج في بعض الولايات، ولكني ظللت معتصما بالصمت في ذلك الحين؛ أي بينما كانت هذه الجرائم تقترف جهرة وعلانية؛ لأنني كنت أعتقد أن الرأي العام لم يكن في حالة تدعه يستمع إلى رأي في هذا الشأن، ولا يرتضي مناقشة فيه، وإنما يحسن الانتظار حتى تهدأ المشاعر، ويزول الهياج، ويعاود الناس الحكمة والسكينة.
ومن الزعماء من يفسد أمره بكثرة الكلام، ولا يعرف كيف يحتفظ برأيه في ذات صدره، ومنهم من لا يبلغ مكانا طيبا؛ لأنه قد ألف أن يقول للناس عن آرائه فيهم ويتحدث عن شئون الغير في غيابهم، ولا يقدر على إخفاء أمر أو كتمان شيء، ومن ثم لا يحس الناس له ذلك الجلال الذي يغمر الزعيم المتئد الوقور الذي يتحدث بميزان، ويتكلم متحفظا غير متهافت على الإعلان والبيان.
وقد يكون ضبط النفس متناهيا إلى حد القسوة والتجهم والعبوس والخشونة، وقد يصبح قانونا نفسيا شديد السلطان ونظاما جافا لا هوادة فيه، حتى لقد قيل عن الزعيم لينين إنه أخذ نفسه بمنتهى الصرامة إذ عرف أنه لا شيء ينقذ الثورة الروسية من الفشل، وهي المهددة بالجوع والغزو والانتكاس، غير العمل الصارم القاطع الموحش الذي لا تسامح ولا هوادة ولا رفق فيه.
لينين - زعيم الشيوعية.
وأشد ما يثير ضبط النفس الإعجاب والإكبار إذا هو ارتقى إلى مرتبة «التضحية»، فإن التضحية هي أسمى مظاهر التغلب على النفس وأرفع درجات ضبطها وقمعها، وإن لقاء الصعاب ومواجهة الشدائد والصبر على الآلام البالغة كانت ولا تزال أبدا صفة من صفات الزعامة، وقد غلا سير توماس مور في إبرازها من فرط ولائه لمليكه حتى لقد قيل إنه حين ألقي في غيابة السجن، ولم يكن يستحق ذلك العقاب، راح يحتمل هذا الظلم صابرا متجلدا وينظر إليه نظرة فلسفية، ويقول لو لم يلق الملك به في حصير أليم لالتمس هو ذلك الحصير بنفسه أن كان في السجن تدليل على ولائه لجلالته ...!
محمود إسماعيل.
وقد تتصل الزعامة أحيانا بالقوى الخارقة للطبيعة، وبتحدي القوانين والاستخفاف بالمبادئ والأفكار العامة، وبالجرأة المتوقحة المتناهية التي تكسب صاحبها الرهب والمهابة وتجعله يبدو غامضا، ويلوح سرا مستغلقا على الناس لا يعرفون حقيقته، ولا يدركون خافيته، وإن اعتقاد موسوليني بأن قدرا حارسا حاميا يرعاه هو الذي جعله غريبا على الناس، بعيد الغور لا يسبر عمقه، ولا تفهم حقيقته، وقد بعث موسوليني على أثر محاولة اغتياله في مدينة بولونا برسالة إلى رئيس الشعبة الفاشية فيها يقول: إن الحادث الإجرامي الذي وقع في اللحظة الأخيرة هيهات أن يحجب مجد اليوم المشهود وروعته، أو يغطي على عظمته وجلاله، وإني باعث إليك بالرصاصة والشريط الذي مزقته لتحفظهما مع التذكارات الفاشية في مدينتكم، وأود منك أن تحمل إلى جميع إخواننا كلمة واحدة، هي الحق الصراح، وهو: «لن يمسني سوء حتى أتم واجبي وأؤدي مهمتي، وليس في الدنيا قوة تستطيع أن تحول بيني وبين هذه الغاية، وإن الرصاص ليتهاوى من حولي، ويبقى موسوليني سليما ما به من بأس ولا أذى ...»
ولعل أعظم امتحان لمبلغ ما عند المرء من بعد الغور وعمق الإحساس، ورباطة الجأش، ومنتهى سكينة الأعصاب، لقاؤه الموت وموقفه في محضر المنون، ففي ظرف كهذا يتجلى المعدن الذي تتركب منه الأبطال، والمادة الخفية التي تفرغ في قوالبها النفوس العظيمة الكبار، فقد فحص الطبيب نبض «جوزيه ويزال» الزعيم الوطني في جزر الفيليبين، قبل إنفاذ الحكم فيه بالإعدام، فوجد «دقاته منتظمة هادئة لا تدل على انفعال ولا خوف ما!» وقد وصف مسلكه قبل إعدامه فقيل إنه أبى أن يدخن أو يشرب نبيذا أو يطيل السهر ليلا، فبقيت أعصابه هادئة ساكنة، أبعد ما تكون من الاضطراب، وقد وضع لنفسه في السجن قبل تنفيذ الحكم نظاما خاصا شعاره فيه «الحمية والاعتدال والتعفف، في غير إضاعة للوقت ولا تبديد للصحة»، ثم راح يستمسك بهذا النظام استمساك المتصوف الزاهد المتبتل، حتى لقد جعل من بين القواعد التي يسير عليها ألا يرفع صوته إذا هو تحدث، فكان لذلك يتكلم بكل هدوء وسكون واتزان.
وليس من ريب في أن أروع مشاهد الشجاعة، والسكينة والجلال عند لقاء الموت، ما كان من «محمود إسماعيل» في مسيره إلى آلة الإعدام بخطواته الثابتة، وصعدته إليها بجلده العجيب، بل ما كان من كلماته الجلائل الرائعة قبل أن يضع الجلاد الحبل في عنقه، فقد كان ذلك حدا بعيدا من الشجاعة يكاد يداني الأسرار الإلهية الرهيبة، ويدق على الأفهام تصوره، ويستغلق على المشاعر تخيل مداه.
تلك حالة نفسية لا توصف ولكن تحس، إذ ليس في اللغة ما يؤدي معانيها، ولا تحتوي من الألفاظ ما يقرب صورتها إلى الأذهان، ولكن الذين يحسونها يموتون، ويطاح بهم على المشانق، فيذهب سرها معهم دفينا.
وبسبيل هذا المعنى ميتة الشباب الشهداء من طلاب الجامعة المصرية في نوفمبر سنة 1935، فقد أبرزوا في لقاء الموت شجاعة رائعة لا توصف، وثباتا عجيبا لا يكون في أسنانهم، ولا ينتظر من غضاضة أعمارهم، فمن ذا الذي ينسى تلك الشجاعة العجيبة التي أبداها الشهيد عبد المجيد مرسي في لقائه الموت على الكوبري، وهو يغرق منديله في دمه ويرسله مشربا بقاني لونه إلى زعيمه، تحية الشجاعة للوفاء، ورمز التضحية إلى الحب والولاء؟ ومن ذا الذي لم يتأثر ولم يتفجع لما كانت الصحف ترويه عن شجاعة عبد الحكم الجراحي وهو يكتب في محضر الموت رسالة بالإنكليزية إلى إنجلترا، يصف فيها اعتداء الشرط الإنكليز عليه، وكيف تلقى الموت بابتسام ...؟!
عبد الحكم الجراحي.
طه عفيفي.
عبد المجيد مرسي.
وقد زخرت ذكريات الثورة المصرية منذ سبعة عشر عاما بشواهد غزار من هذه البطولة والشجاعة الثابتة في مواجهة الموت، فقد كان الشباب والولدان يتساقطون صرعى تحت وابل الرصاص، وهم مصفقون هاتفون من فرح، منادون لمصر بالحياة، ولوطنهم بالحرية والاستقلال.
جوته.
ومن خواص ضبط النفس وردعها وامتلاك ناصيتها، أنها جميعا تعين على الحركة والتقدم «في غير عجلة، ولكن بغير تردد ولا جمود»، كما قال شاعر الألمان الأكبر جوته، بل كما كان دأبه وشعاره، وأنها تعطي صاحبها شيئا ليس عند غيره، وتختزن لديه ما ليس في مدخر سواه، وتقيم ستارا كثيفا يخفي حقيقته العميقة عن الأبصار، ويوم يصبح المرء كذلك، عميقا بعيد الغور، لا سبيل إلى اكتناه سره، وإدراك بعد غوره، واختراق أديمه إلى صميمه ولبه، يلوح للناس كأنه قد ملك شيئا ليس عندهم، ومن ثم يصبح موضع اهتمامهم، ومحل عنايتهم، ويقبلون عليه ملتفين حوله، مسلمي نفوسهم إليه، وهذه هي الزعامة المعمرة الخليقة بقيادة الناس ...
اللباقة والروح المرحة
ومن صفات الزعامة أيضا من الناحية النفسية اللباقة أو الكياسة، أو حاسة مراعاة التناسب، كما أن من صفاتها الظرف أو الروح المرحة، أو نزعة الفكاهة، أو حاسة تناول الأشياء بغير تناسب، وهاتان الحاستان قد تلتقيان في نفس الزعيم وإن كانتا في الحياة ذاتها جد مختلفتين، بل تكادان تكونان متناقضتين؛ فأما الأولى فهادئة مع تحفظ ورزانة واتزان، وأما الأخرى فصريحة متكشفة معلنة مرفوعة القيود والتكاليف.
وكلتاهما تنظر إلى الأشياء مجردة عن صلتها بالأشخاص، فإن من ينظر إلى الحياة كأنها جزء لا يتجزأ من شخصه أو نفسه، لا يصيب مكان الزعامة فيها؛ إذ يفقد صفة من أبرز صفاتها، والذين أوتوا اللباقة والروح المرحة هم الذين لا يدعون النفس تقف في طريق نظراتهم إلى الحياة.
اللباقة أو مراعاة التناسب صفة بارزة من صفات الزعماء؛ لأنها تنطوي على المماثلة والمقاربة بين النفس والغير على صورة تمنع الغير من النفور والتبرم والإعراض، كما تنطوي على مراعاة وجوه نظرهم، واحترام مشاعرهم، والنظر إليهم بعين الاعتبار.
فهي - أي اللباقة أو الكياسة - مرادف للطف التناول، ودقة الشعور، ورجاحة اللب، وحسن البداهة؛ لأنها في الواقع تأدية الشيء البسيط المعقول، البعيد من أية لائمة، المتحاشي الوقوع في معاب، وقد روي عن دوايت مورو أنه حيث وصل إلى المكسيك ليكون سفيرا فيها للولايات المتحدة لم تلبث لباقته في اختيار السبيل إلى مباشرة مهام منصبه أن أعجبت المكسيكيين، ونفت من نفوسهم كل ريبة في أنه إنما جاء ليستغلهم من أجل بلاده، وذلك أنه ظهر أمامهم يوم وصوله في بذلة الصباح، ولم يلبس الثياب الرسمية التي يرتديها السفراء وأشباههم عادة في مثل هذه الظروف، فقد سأل السفير قبيل وصوله عما إذا كانت الثياب الرسمية من عادات المكسيكيين أم عادات الأمريكيين، فقيل له إنها عادة أمريكية، فقال: حسن، إذن سأرتدي الثوب المناسب لوقت الوصول، وكان وصوله صبحا، فارتدى من ثم بذلة الصباح.
وقد تقتضي اللباقة أو مراعاة المناسبات والظروف والأحوال، التضحية بكسب قليل عاجل في سبيل الظفر بكسب كبير آجل، ولا تمتنع عن التمهل والتسويف، حتى تسنح فرصة أكثر ملاءمة، ويجيء ظرف أنسب وألطف مردا.
وفي معاملة رئيس طيب القلب ولكنه يحب أن يتراءى رئيسا كبيرا، ويحرص على مظاهر رياسته، لا نحسب ثم غناء عن اللباقة ولطف التناول ودقة المأخذ، إذ هنا يقتضي الأمر الحذر من التنفير، وتحامي الإضجار، وإحداث الجفوة، والتمهل والأناة ريثما يعود ذلك الكبير فيتصور أن الفكرة التي تقدمت إليه ممن دونه هي في الواقع فكرته، وقد حدثنا أحد المرءوسين الذي أوتوا اللباقة ولطف الحس بما قد جرى له يوما مع رئيسه بسبيل ما نقرر هنا ونبين، فقال: «لقد ذهبت إليه ببرنامج وضعته بنفسي لإجراء تغيير كبير في النظام المتبع؛ فلقيني في الحال بنفور ورفض حاد، حتى لقد هممت بادي الرأي أن أقابله بالمثل أو أحتد عليه، ولكني تمالكت نفسي فاحتملت الصدمة العنيفة صابرا غير معترض، ورحت أحاول تخفيف وطأة هذا اللقاء الجاف، فغيرت موضوع الحديث، وأخذت في موضوع كنت أعرف أنه يهتم به ويتبسط فيه، وبعد ستة أشهر عدت بالبرنامج ذاته بعد أن وضعته في شكل أخف وصورة أزهى مما كان من قبل، فلم يتردد في إقراره قائلا إن شيئا كهذا كان قد دار في خلده قبل أن أعرضه عليه!»
ومن اللباقة مراعاة وجوه الشبه ونواحي التماثل في طبيعتنا البشرية، كأن يحب كل منا مثلا أن يكون ذا اعتبار، أو شيئا مذكورا، أو إنسانا له شأن وخطر ووجود، فإذا ما راعى المرء هذا عند الناس وحسب له حسابه وجد الإعجاب به عندهم، وقوبل بالرضى والالتفاف حوله.
وكثيرا ما نرى الزعامة موقرة كرامة الغير مجتنبة كل ما قد يحملها على الزهو، رائضة نفسها على كراهية الخيلاء، وتحاشي الكبرياء على الناس، والزعامة الصادقة هي التي تضع الأفراد في مواضعهم من التقدير الصحيح، وهي التي تعطي كل ذي حق حقه، وتمدح الذي يستأهل أن يمدح، وتستثير كل ما هو بديع سام رفيع في الطباع البشرية، وهي التي تبعث الأمل، وتتولى الإيحاء والإلهام، وتنشط الأرواح، وتستوقد النفوس والعزمات، وتحمل المرء على أن يعتقد أنه خير مما هو في الواقع، ومن ثم تبث في نفسه روح التطلع والطموح إلى الإجادة والرفعة والإحسان.
وقد تجلى أثر اللباقة في شخصية رجل كبنيامين فرانكلين فهو القائل: لم أكن يوما في بسط أية فكرة جديدة أحسبها مثيرة جدلا، مقيمة بعض الاعتراض، أستخدم عبارة «بالتأكيد» أو كلمة «بلا شك» أو ما يماثلهما من العبارات التي تظهر الفكرة مظهر الحقيقة القاطعة والرأي المجزوم به، والفكرة التي لا يأتيها الباطل من أي وجه من وجوهها؛ وإنما كان دأبي أن أقول في هذا المعرض «أظن» أو «أفتكر» أو «إن الأمر كذلك إذا لم أكن مخطئا» أو «يلوح لي أنه ...» إلى أشباه هذه العبارات التي لا تفيد القطع والجزم والتحتيم، وقد أفدت من هذه العادة كثيرا في بث آرائي، والتمهيد لأفكاري، والتوطئة لمقترحاتي التي كنت أقدمها إلى الناس واستحثهم على الرضوان بها، وإذا كانت الغاية الأولى من الحديث وتجاذب أطراف الكلام هي أن تستقي علما أو تبث علما، وأن تقنع وتستحث، أو تسر وترضي، فإني أرجو إلى العقلاء والمراجيح والعاملين للخير والفائدة العامة ألا يضعفوا سلطانهم، ويوهنوا مقدرتهم على الخير والإحسان والإفادة باتخاذ سمات الحزم والقطع والتحتيم في أحاديثهم، وإلقاء آرائهم كقضايا مسلم بها؛ فإن ذلك في الغالب منفر للنفوس، مثير الاعتراض، غير مؤد إلى الغاية من الحديث والغرض من الكلام، وهو أن تستقي علما أو تبث علما، أو تريد إقناعا، أو مجرد تسلية وإرضاء.
وتقتضي اللباقة كذلك البعد مما يزري، وتجنب ما يستكره، واتخاذ الطريق المأمون من الخطر، وترك التحرش وإثارة الحفائظ، فإن ذلك جميعا ينجح المقصد، ويبلغ الغرض، ويصلح ما فسد ، ويمحو من الآثار الماضية كثيرا، وقد كان «بوكر واشنطن» محرر زنوج أمريكا حاذقا لهذا الأسلوب مفتنا فيه، محسنا به كل الإحسان، فقد وقف يوما يخطب اجتماعا من البيض في الولايات الجنوبية، فكان استهلال خطابه «إنني أضرع إليكم بالنيابة عن ستمائة وخمسين ألفا من أبناء جلدتي في ولايتكم هذه، هم اليوم جثي ركع عند أقدامكم، وإن مصائرهم ومستقبلهم اليوم في أيديكم، ولقد نبئت أنكم قوم إخوان مروءة وشجاعة وكرم، فأنتم أرفع من أن تسيئوا إلى الضعيف، أو تضطهدوا البريء، أو تظلموا من لا منة له ولا بأس ...»
وقد أوتي هنري فورد لباقة عجيبة في مسلكه إزاء رجل وقف يوما خطيبا يندد بعصر الصناعة، ويزعم أنه إنما أفاد الذين استغلوه للإثراء وكسب المال، وأن التقدم الصناعي في العالم الحديث كبير الخطر سيئ العاقبة، وأن الأوتوموبيل سوف يذهب بفضل الطبيعة، ويفسد الغرائز أشد الإفساد، فقد حدثنا فورد في كتاب عن نفسه بسبيل هذا الحادث فقال: «وكنت أخالفه في هذا الرأي من أساسه، واعتقدت أنه قد استرسل مع عاطفته في فكرة أبعد ما تكون من الحق والصواب، فلم أفعل أكثر من أنني بعثت إليه بأوتوموبيل طالبا إليه أن يجربه ليتبين بنفسه هل يعينه على فهم الطبيعة وإدراكها أكثر من قبل وأسهل، فكان ذلك الأوتوموبيل الذي استنفد فترة طويلة من وقته في المرانة على تحريكه وإدارته، هو الذي جعله يغير رأيه ويعدل عن فكرته ...!»
وقد يستوجب العمل السياسي لباقة أو كياسة دقيقة، إذ لا غناء للسياسي أو الموظف الدبلوماسي كالممثل أو السفير عن هذه الصفة في علاج الدقائق وتقدير الأشياء ومراعاة اللباقة، واعتبار المصلحة القومية والصالح الدولي، إذ ينبغي له عند تمثيل أمته ألا يغفل عن حساب مصلحة الأمم الأخرى ومواقفها وأحوالها وسياستها واتجاهاتها. وقد أثر عن الرئيس روزفلت في سنة 1907 بسبيل الحركة العدائية التي قامت في كاليفورنيا ضد هجرة اليابانيين أنه استخدم أعجب الكياسة في إطفاء تلك الحركة والخروج من الأزمة بسلام.
وقد تحدث هو عما فعله في هذا السبيل فقال: «لقد بينت لأهل كاليفورنيا أنني مشترك معهم كل الاشتراك في الرأي بصدد نزوح اليابانيين إليهم في جماعات كبيرة وزرافات متعددة، ولكني أود أن أحقق غرضهم على صورة من الكياسة والرفق والأدب ترضي مشاعر اليابانيين كل الإرضاء، ومن ثم استطعت أن أحملهم على العدول عن فكرة إصدار تشريع يمنع الهجرة اليابانية إلى بلادهم، وتمكنت من إبرام اتفاق مع اليابان تقضي نصوصه بأن يمنع اليابانيون أنفسهم طوائف عمالهم من النزوح إلى بلادنا، وإلا اتخذت حكومتنا في الحال التدابير لإصدار قانون بإخراج اليابانيين جميعا من أراضيها، وهكذا كان من الخير أن تقف اليابان بنفسها تيار هجرة أهلها إلينا، ولا نتولى نحن صده ومقاومته.»
وقد يكون فقدان اللباقة أو الخلاء من الكياسة خطرا على الدولة سيئ النتائج وخيم العاقبة، فإن الخلاف بين الأحزاب السياسية أو التناحر والخصومات بين الزعماء السياسيين قد يكون راجعا إلى فقدان اللباقة والافتقار إلى الكياسة أكثر مما يرجع إلى الاختلاف على المبادئ والتباين في المذاهب والاتجاهات.
وفي بعض الأحيان يعمد السياسي الحازم اللبق الحكيم إلى استخدام الكياسة بكلمة طيبة، أو بإظهار الصبر والأناة، أو بإقامة الأمثولة الصالحة، أو برواية نادرة فكهة تناسب المقام، ومعنى هذا أن استخدام الكياسة يقتضي بوجه عام براعة كبيرة، وحذقا عظيما، ومهارة بالغة.
فقد جاء إلى الزعيم الأمريكي إبراهام لنكولن خلال الحرب الأهلية وفد من النواب يحتجون ويتذمرون، فلم يكن منه إلا أن ردهم من حيث أتوا راضين مقتنعين، إذ راح يقص عليهم القصة الآتية، أو يستشهد بها على سبيل الاستعارة والتمثيل، قال:
أيها السادة، افرضوا أن كل الثروة التي تملكونها كانت ذهبا خالصا فأسلمتموه جميعا إلى بلوندين الحاوي الماهر في الرقص على الحبال ليحمله مجتازا به شلالات نياجرا وهو فوق الحبل، فهل تهزون الحبل أو تروحون تتصايحون به «يا بلوندين، استو قليلا في مشيتك، أو انحن قليلا في خطرانك، أو اعتدل هونا ما في تنقيل خطاك؟!» كلا، ولكنكم تقفون بلا ريب لاهثي الأنفاس، فاغري الأفواه، معقودي الألسنة، مبتعدين من الحبل حتى يجتازه بلوندين بسلام، ذلك مثل أضربه لكم لكي تعلموا أن الحكومة تحمل عبئا ثقيلا على عاتقها، وهي تؤدي عملها بكل قصارى جهدها، فلا تزعجوها بكثرة الكلام وطول الصياح، وإنما التزموا الصمت حتى تحملكم إلى بر الطمأنينة بسلام آمنين.
ويوم تستحيل اللباقة إلى ملق ومداهنة وتمويه وخداع تفسد على الزعامة أمرها، وتروح عيبا من أسوأ عيوبها، وكذلك إذا هي غالت وبالغت أو وقفت عند حد الأدب والمصانعة، أو إذا هي حالت دون بلوغ محجة الصواب وتقرير أحكم الخطط وتدبير أرجح الوسائل، فإن ذلك كله من شأنه أن ينقص من قيمة الزعامة في الميزان.
وليس من شك في أن الظرف، أو روح الفكاهة، أو الروح المرحة إذا تهيأت للزعيم أعانته كثيرا على عمله، ومهدت له أحسن تمهيد، ويسرت له الصعب، وسهلت له الشأن العسير، فهي أولا لا تجعله في كل الأحوال والظروف يبدو العابس المتجهم، الجاد الرزين، ولا تدع الناس ينفضون من حوله، وإنما تحببهم إليه، وتزين لهم الطاعة له والنزول على أمره.
وليس يخفى أن الذين هم في مراكز السلطان والنفوذ في الناس لا يزالون غرضا لكثير من الإغراءات، عرضة لبعض الهوى، كأن تأتي عليهم لحظات يحسون فيها أنهم أعظم شأنا مما يحسبهم الناس، وأقوى إرادة وأشد إصرارا وأفخم مظهرا وأروع رواء، فلا يني هذا الغلو في تقدير عظمتهم أن يكشفهم ويسيء إليهم ويفسد عليهم كل إفساد، ولكن الظرف أو روح الفكاهة هو الذي يمنع ذلك ويحول دونه ويصلح ما فسد منه؛ لأنه يمكن للزعيم من جعل مشاعر أنصاره وأشياعه والتابعين له ودية متحببة صافية الأديم، وهذا قد يقتضيه في بعض الأحيان ألا يتكره من أن يشعرهم في المناسبات بأنهم أسمى منه، وأنه إنما يستمد مكانه من فضلهم، أو أنهم أعرف منه بما هو مطلوب وأعلم بما هو واجب.
ولعل النادرة التي نبسطها فيما يلي خير مثل يساق على تواضع الزعماء، وعملهم على إقناع أنصارهم بأنهم أعلم منهم وأكثر فضلا.
حين انتخب ودرو ويلسون حاكما لولاية نيوجرسي أدبت له مأدبة حافلة تقدم الخطيب الأول فيها إلى المدعوين قائلا على سبيل تعريفهم بويلسون: «إنه الرئيس العتيد للولايات المتحدة.» وكانت تلك فرصة عظيمة أمامه يحسن انتهازها، فوقف أمام الحشد الحاشد يقول بعد الشكر والتمهيد: «وإني لأحسبني من ناحية واحدة - وأرجو أن يكون من ناحية واحدة لا أكثر - أشبه شيء بقوم سمعت عنهم قصة فكهة أنا محدثكم الساعة بها، كان لي صديق سافر إلى كندا مع جماعة من الصائدين، وكان بين القوم رجل خطر له أن يأخذ معه نوعا من الشراب، يسمى «السنجاب»، ولما سئل عن سر هذه التسمية قال إنه إنما سمي السنجاب لأنه يجعل الذين يشربونه يحسون الرغبة في تسلق الأشجار فعل السناجب.
وفي ذات يوم راح هذا الشريب الملح على «السنجاب» يشرب حتى فقد صوابه ونزفت الخمر لبه، ولم يكد يؤذن الموعد المضروب للسفر في القطار مع إخوانه، وكانوا قد تواعدوا على أن يتوافوا إلى القطار قبل قيامه، حتى راح من فرط سكره يركب قطارا مسافرا إلى الجنوب على حين كانوا هم شخوصا إلى الشمال!
ولما أقبل صحبه وأدركوا ما جرى، خشوا عليه العاقبة وأشفقوا من أن يمسه سوء، فبعثوا ببرقية إلى «كومساري» القطار الذي ركبه صديقهم يقولون فيها: «ارجع رجلا قصيرا يدعى جونستون بين الركاب؛ لأنه ركب خطأ، وهو يريد قطار الجنوب؛ لأنه ... سكران!»
فجاءهم الرد من ملاحظ القطار يقول: «نريد معلومات وافية، ففي القطار ثلاثة عشر رجلا لا يعرفون أسماءهم ولا وجهات سفرهم!»
أما أنا فمتأكد أنني أعرف اسمي، ولكني لست متأكدا من معرفة وجهتي وطريقي «بالدرجة» التي يصفها الخطيب!»
وكثيرا ما يروح الضحك عن عطف، والابتسام عن رفق ولطف، والفكاهة عن إشفاق، والتصوير المرح لبعض المواقف - معوانا على حل المشكلات، وقضاء الأغراض، ومزيلا لما قد تأثرت به النفوس في الجماعات أو استولى منه اليأس على الجماهير، إذا هو استعين به في اللحظات الدقيقة والظروف المناسبة، أو اللحظة البسيكولوجية كما يقولون، وإذا لم يكن أيضا منطويا على سخرية من أحد الحاضرين أو استهزاء ببعض السامعين، فإن الضحك من الناس قد يجوز بين الأصدقاء والخلطاء، ولكن الضحك أو التعبير الفكه الذي يعمد الزعيم إليه ينبغي أن يقتصر على العموميات، ولا يتعدى إلى الشخصيات، فيكون مجرد فكاهات بسبيل الاستشهاد بالتجاريب الشخصية، أو تصوير للمواقف العامة.
وبين الزعماء فريق قليل من الذين آتاهم الله أرواحا خفافا، ونفوسا لطافا، وسحرا نفاثا، وتعبيرا حلوا جميلا ينفذ إلى الأعماق، وهؤلاء إذا خطبوا الناس أو تصدروا المجالس أو حضروا الندي، فلا يعدمون نوادر يمزجون بها خطبهم، وعبارات مونقة يلقونها في وسط كلامهم مما يناسب المقام ويلائم الظرف ويندمج في الموضوع، ثم لا يزال نجاح النكتة التي من هذا النوع، ومبلغ تأثير النادرة أو العبارة الفكهة التي من هذا القبيل، متوقفا على مقدار البراعة في الأداء، والمهارة في الإلقاء، وحسن الاختيار للمناسبة، وهذه لا تتواتى إلا للبرعة والظرفاء من الزعماء والقادة المحببين.
ولا يزال الناس في مصر يذكرون كيف كان سعد - رحمه الله - المتفوق في هذه الناحية، الفذ في هذا السبيل، فلم تكن خطبة له تخلو من فكاهة يضج لها السامعون ضحكا، ويدوي له الهتاف من أجلها غامرا الفضاء، ولعله كان أول من ذكر ذلك التعبير التهكمي البديع الذي سار من بعده مسار الأمثال، وهو قوله عن الذين كان يساق بهم مقرنين في الأغلال أو الحبال إلى ميادين العمل مع السلطات البريطانية في الحرب الماضية «متطوعو السلطة!»، فإن التعبير عنهم «بالمتطوعين» جد بديع، ونكتة ظاهرة، لما انطوت عليه من التناقض البليغ والمغالطة الفاضحة.
بل كم كان لسعد زغلول في سائر خطبه الرنانة من ألفاظ وكلمات خلدت تخليدا من بعده، فمن ذا الذي ينسى تعبيره عن سفر عدلي باشا للمفاوضة مع الإنكليز يوم كانت الخصومة محتدمة بشأن السفر ورياسة الوفد المسافر، وهو قوله: «جورج الخامس يفاوض جورج الخامس!» فقد عاشت هذه الكلمة الفذة إلى اليوم، ولا تزال مذكورة على الشفاه، وسوف تنحدر مع الزمن إلى الأجيال القادمة.
وثم كلمة أخرى له جاءت عفو الخاطر، ووقعت موقع المحز، وصادفت أنسب موضع، وذلكم قوله وقد انبرى الخطباء يلهجون بمديحه: «لقد أخجلتم تواضعي.» فإن هذا التعبير كما ترى بديع مونق لطيف الأداء، حسن الاستعارة، جديد المعنى، فاتن الثوب والغشاء والتلوين.
وكان لسعد في المواقف الخطيرة شجاعة رائعة تلهمه الكلمة النادرة، وتبعث في نفسه التهكم اللاذع، وتطلق مقوله بالفكاهة المرهفة، ومن أمثلة ذلك ما كان منه يوم دخل عليه في رياسة مجلس الوزراء لورد اللنبي وقد أقبل في عديد من الفرسان المسلحين يستبقه النفير يملأ الفضاء بصوته المرنان لكي ينذر سعدا ذلك الإنذار المعروف عقب حادث مصرع السردار، فقد تلقاه البطل الشجاع الثبت سعد قائد الحركة الوطنية في البلاد بكل سكينة وهدوء وابتسام مسائلا: ماذا ...؟! هل أعلنت الحرب ...؟! فلم يسع لورد اللنبي إزاء هذا التهكم البديع إلا أن يصمت حائرا مرتبكا قبل أن يستجمع نفسه من أثر هذه المباغتة غير المنتظرة.
فرانكلين روزفلت - رئيس جمهورية الولايات المتحدة.
وكانت مجالس سعد وأسماره تفيض بعذب الكلام، ولطف الحديث، وحلو الفكاهة، وكان منزله في مسجد وصيف أو بساتين بركات للاستجمام، فترات تجرد من التكاليف، وعيش نضير مع أضيافه الذين يصطفيهم لذلك ويأنس إليهم؛ فكانت تنعقد يومئذ جلسات بديعة، يشترك فيها الأصفياء من كل حلو الحديث، وبارع النكتة، وحاضر البديهة، ويلازمه خلالها الشاعر حافظ إبراهيم - رحمه الله - وكان من أبدع الناس كلاما وألطفهم مدخلا على القلوب، والدكتور محجوب ثابت بقافاته الحلوة، وعثنونه البديع، وكلماته النافية للهموم المروحات عن الصدور.
ومن أحاديث خليفته «مصطفى النحاس» لمع من أفذاذ الكلم، وأماليح القول، وبوارع الفكاهات، فلا يخلو مجلسه من لطف الإشارات وعذاب الأحاديث، وغرائب التعبير، وحسن البيان.
وممن اشتهر في عصرنا الحديث بهذه الصفة التي تلازم فريقا كبيرا من الزعماء، الرئيس فرانكلين روزفلت، فهو على ما به من عاهة، أقدر من حمل تكاليف الرياسة، وأحذق من أدرك مطالب الحكم وصان تبعاته، ثم هو بجانب ذلك الرجل المفراح الضحوك البارع الأحاديث، ومن المأثور عن موظفي مكتبه وأفراد أسرته والمتصلين بعمله قولهم إن أسرع طريقة لمعرفة مكانه إذا افتقدوه هو الانتظار حتى تدوي أصداء ضحكة رنانة من القلب، فيعرفوا مصدرها؛ فحيث تنبعث يكون! وهو يعالج تخفيف وطأة عمله بهذا الروح المرح، ويروض كثرة تكاليف منصبه بهذا المنشط البديع.
ومن مزايا الروح الفكه عند الزعماء أنه يساعد على معرفة المواقف الضعيفة التي تقتضي التقوية والتعزيز، والتوطيد في الحين المناسب والظرف المواتي، إذ لا شك في أن بعض هذه المواقف تلوح في وقت ما مربكة محيرة، ولكنها مع الوقت تعود فتبدو طبيعية أو مألوفة ليس منها بأس ولا ضرر، ومن المواقف ما يتراءى غير مناسب؛ لأن الناظر إليها لم يؤت الفسحة الكافية لاستعراضها بالرأي الصحيح والعناية الواجبة.
وإذا اقترن روح التقدير الدقيق للأشياء، أو الكياسة واللباقة، بروح الفكاهة أو النظر المرح إليها، أعانتا معا على بلوغ الزعامة قمة نفوذها في النفوس وسلطانها على الأرواح.
الأسلوب والتنظيم وحاجة الزعامة إليهما
لا غناء للزعامة عن الأسلوب والتنظيم لكي تصيب النجاح وتبلغ الهدف وتوفي على الغاية، وتنبغي مراعاة هاتين القاعدتين في الزعامة ذاتها، وفي الهيئة السياسية أو الاجتماعية التي ترأسها، أو تتولى الإشراف عليها، وتقودها إلى الغرض المرجو والمقصد المنشود.
أما من حيث الأسلوب والتنظيم بالنسبة للزعيم نفسه، فمظهر ذلك في ترتيب أوقاته، وتنظيم ساعات عمله، وتنسيق برنامج عمله اليومي، وتوحيد طريقته في التفكير، ومنحاه في النظر إلى الأشياء وتقدير الأمور وتدبير الشئون. وأما من جهة الجماعة نفسها أو الهيئة التي يليها، ففي بناء وحدة قوية، وإنشاء نظام مكين ثابت، وتعيين نيابة صالحة عنه، وتمثيل مناسب كفء للقيام بمهمته، وحسن اختيار أعوانه، وتسلسل القيادة في صفوف الموالين والتابعين؛ لتكون ثم رياسات فرعية، وشعبات منظمة متعاقبة متتالية، كما يتجلى ذلك أيضا في مبلغ تنشيط القوى العامة، وإثارة الحمية للعمل، وبث روح التآلف والتضامن، وبعث الملكات والكفايات الكامنة إلى الظهور والإنشاء والتكوين. «مكان لكل شيء وكل شيء في مكانه» هذا هو مفتاح الأسلوب وشعاره والمراد منه، فإن العقل الذي يشتغل كالساعة هو أروع مظهر لمعنى الأسلوب وفضله، وأدق التعريف لصفته وطريقته، ويبدأ الأسلوب بالصغير والتافه، وينتهي بالكبير والعظيم والخطير من الأمور، ففي هذا التدقيق الكلي يبرز جلال الزعامة، وعليه ينهض أساس كل رياسة ناجحة مهتدية إلى الطريق.
وقد وضع الفيلسوف «كانت» نظاما ثابتا لحياته لم يكن يرتضي فيه تغييرا أو تحويرا يوما من الأيام، حتى قيل إنه كان يخشى التغييرات التافهة مخافة أن تؤثر في صحته أو تعوق سير دراسته، فكان الشديد على نفسه المتزمت العنيف، لا يعرف في أسلوب عيشه تساهلا، وحتى كاد يجعل «التدقيق» أول صفات العلم ومزاياه، وكان يصر على أن يحتذي مريدوه وطلاب العلم عليه حذوه في هذه الصفة التي كانت عنده بارزة.
وكان بنيامين فرانكلين يمتحن مبلغ تدقيقه في مسلكه وتصرفاته بين حين وآخر بأغرب ضروب الامتحان ليصلح من أخطائه، ويهذب من أغلاطه، ويمحو من هناته. وكان فريق من العظماء والزعماء والنوابغ الكبار يحفظون «يوميات» يدونون فيها كل أعمال يومهم ساعة فساعة، حتى وقت النهوض من الفراش، وما قرءوه قبل الفطور وبعد الفطور، وجملة ما يفعلونه سحابة النهار، وكان دأبهم في هذا التدوين مراعاة الدقة التامة في نظام العيش وأسلوب الحياة.
وروي عن باستير العالم البحاثة الكبير أنه القائل: «إن الفرصة الحسنة لا تواتي غير العقل المنسق المنظم.» ولقد اتهمه أصحابه بالبطء ونسبوا إليه يوما التراخي من فرط هذا التدقيق العجيب الذي أخذ نفسه به في كافة بحوثه وأعماله، ولكن الذين تدبروا مزية هذا الأسلوب وفضله ونفعه راحوا يقولون إنه ما كان يقرر شيئا إلا وهو المتثبت منه المتأكد كل التأكيد، وقد قال فيه أحد الكتاب الفرنسيين: «يحفظك الله يا باستير لفرنسا ويمد في أجلك، ويبقي فيك على هذا التوازن العجيب بين العقل النير الذي يتأمل ويرقب ويلاحظ، والعبقرية الملهمة التي تحس وتكشف وتهتدي، واليد الحاذقة الحكيمة الموفقة التي تنفذ وتستكمل في أتم تدقيق عرف عن العلماء إلى الآن!»
ومن فضل الأسلوب الشخصي وأثره أنه يكسب صاحبه الاتزان، ويجنبه السرعة، ويباعد بينه وبين الزلل، كما أنه يدخر قواه، ويفسح له في وقته ومداه، ويساعده على معرفة العمل الذي في وسعه أن يؤديه، والزمن الذي تستغرقه بدايته ومنتهاه، بل إنه ليعين على الافتنان والتجويد والإتقان، ويجعله يألف حسن التنسيق والترتيب والتوضيح والبيان.
ولا يكون الأسلوب إلا حيث تكون المهارة، وحيث يسير التدقيق يسير الحذق والبراعة، وفي رفقته يمشي أبدا بعد النظر وفضيلة الاستقلال، وهو مرتبط بجملة من المعالم الخلقية، والمزايا النفسية، والمواهب الشخصية، بحيث تكسب المرء درجة من السلطان، وحدا من السيادة أو الزعامة، لا يمكن التفوق عليها بسهولة من طريق آخر.
ولا خفاء في أن وضع برنامج دقيق للعمل اليومي من شأنه أن يزيد في محصول العمل ونتاجه، ويكثر من قطوفه وثماره، كما أن الأسلوب يقتضي أيضا تنظيم الوقت تنظيما اقتصاديا. وقد كان شارلز داروين العالم المشهور صاحب مذهب «النشوء والارتقاء» - على الرغم من ضعف صحته، وهو ما يجعل عمله بطبيعة الحال محدودا - ينظم كل ساعة من ساعات نهاره لعمل ما أو مهمة معينة، ولا يقنع منها بغير أكبر ربح وأجزل فائدة، وكان يعتقد أن التدقيق والعناية معوان على توفير شطر كبير من الوقت؛ لأنه لا يضطر المرء إلى عمل الشيء «مرتين»، وأحسب داروين هو القائل: «لقد جهل قيمة الحياة من يرضى أن يضيع من وقته ساعة واحدة.»
وقريب من الصفات والمعالم الخلقية التي تحدو المرء إلى اتباع أسلوب معين في حياته الخاصة، ما يتصل بمقدرته على تنظيم الأفراد وتوحيد أمرهم في جماعة معينة، وجمع شتاتهم لتأسيس هيئة عامة، فإن ذلك يقتضي نشاطا وقوة وذكاء ومقدرة على توحيد الجهود واحتثاث الأفراد على العمل معا، وهي ما يسمونه «المقدرة التنفيذية» أو حزم الإدارة، وعزم الأمور، وأصالة التوجيه، وحكمة القيادة.
موسوليني.
وفي عصرنا الحديث لا يستطيع أحد أن يصعد إلى مرتبة الزعيم أو القائد المنفذ إذا لم يحسن توزيع المسئولية ورياضة أصحابه وأنصاره على حمل التبعات. وقد قال أحد أصحاب الأعمال الناجحين في هذا المعرض: «إن السبب في نجاحي حتى أصبح لي هذا المصنع الكبير هو أنني استخدمت لكل فرع منه رجالا أكفاء وأشخاصا خبراء عارفين لمطالبه، إذ لا يتيسر لفرد واحد أن يعرف كل شيء في متجر يحوي ألوفا عديدة من السلع والصنوف، ولقد أصبحنا في عصر «التخصص»، وأمسينا بحاجة إلى أن نحسن علم ما نحن بحاجة إلى علمه أشمل العلم.»
ومن ثم ليس للزعيم المنظم غناء عن الاستعانة بأهل النظر وذوي الخبرة وأصحاب الخطر والمكانة في الناس فيجمعهم إليه، ويؤلف بينهم حوله، ويسند إلى كل طبقة منهم عملا خاصا، ومهمة مستقلة بذاتها. وقد قيل عن الزعيم لينين في هذه الناحية إنه في كل ناحية من نواحي الحياة يلتمس مشورة الأخصائيين ويركن إلى آراء الثقات، حتى لقد افتقد في الشئون العسكرية عون القواد الذين كانوا في المناصب على عهد الحكم القيصري القديم، وإذا رأيته يستشير «ماركس» الألماني مثلا في المسائل الثورية والشئون الانقلابية، رأيته كذلك يستنصح تايلور الأمريكي مثلا بسبيل حسن الإنتاج الصناعي ووسائل تقدمه وتنميته، وهو لا ينفك يتحدث عن فضل الخبراء من سائر الصنوف والألوان: الحاسب والمهندس والزارع والأستاذ على السواء.
ومن مزايا الزعماء الكبار وأساليب نجاحهم العناية التامة بالدقائق والجزئيات، ولا نحسب موطنا تظهر فيه قيمة هاتين الصفتين ومبلغ نفوذهما وأثرهما العظيم هو أنسب من مواطن التجرد للإصلاح الاجتماعي، ومواقف الجهاد المجتمع الصفوف لتحقيق غاية عامة، ففي هذا المجال تتجلى فضيلة التدقيق، وقيمة العناية الكاملة بكل صغيرة وكبيرة.
وشاهد ذلك فيما قرأناه ذلك الوصف البديع الذي وصفته السيدة بنكهرست الإنكليزية التي كانت تدعو إلى منح النساء في إنجلترا حق الانتخاب، ففي ذلك تقول تلك الزعيمة العجيبة: لقد كنا نعرف أننا نستطيع تنظيم مظاهرة كبرى تفوق كل المظاهرات العظيمة التي كان الرجال يقيمونها في سبيل الظفر بحقوقهم الانتخابية في خلال القرن التاسع عشر، فقد قيل إن أعظم مظاهرة قامت من قبل واحتشدت في «هايد بارك» كانت تبلغ اثنين وسبعين ألفا أو نحوها، فاعتزمنا - نحن النساء - أن ننظم في ذلك الموضع بالذات مظاهرة تضم مائتين وخمسين ألفا على الأقل، وحددنا يوم الأحد الحادي والعشرين من يونيو سنة 1908 موعدا لإقامتها، ولبثنا أشهرا طوالا نعمل في هذا السبيل لكي نجعل ذلك اليوم مشهودا جليلا خالدا في تاريخ الحركة النسوية، حتى لقد أنفقنا في الدعاية والإعلان وحدهما ما يزيد على مائة ألف جنيه ، وملأنا جدران لندن وكافة المدائن الكبيرة إعلانات ضخمة منوعة، كما وضعنا خريطة تبين فيها الطرق التي تسير فيها المواكب السبعة إلى موضع الاجتماع في «هايد بارك»، وخريطة أخرى لتوزيع الأماكن في ذلك المتنزه بين الحشود والمواكب المتفرقة، ونظمنا أنفسنا أعجب التنظيم وأبدعه حتى لقد قضينا أسبوعا كاملا قبل الميعاد نخرج كتائب من النساء تخترق الشوارع حاملات الألواح والإعلانات في كل مكان ...»
هتلر - زعيم ألمانيا النازية.
ولا مراء في أن الجماعات الكبيرة المنظمة من شأنها أن تمتص وتبتلع وتجتذب، وهي في ذلك كله قوية الأثر، شديدة الامتصاص، رهيبة الجاذبية، ومن ثم قد تنتزع الزعامة المتفردة المطلقة بقوة هذا الامتصاص آخر شيء من النشاط عند الأفراد والتابعين، وتستنفد كل ذرة من قوى الأنصار والمنضوين تحت رايتها، كما قد ينتهي الغلو في التنظيم إلى جعلهم مجرد آلات مسخرة وأجهزة آلية فاقدة الإرادة، ومثل هذا مشاهد في الجماعات الكبيرة التي يقودها هتلر، كما هو ظاهر كل الظهور في النظم الفاشية تحت سلطان الزعيم الإيطالي موسوليني، فإن الرجال والنساء والشباب والشيب مندمجون في هذه النظم اندماجا كليا ينزع منهم كل إرادتهم، ويجردهم من كل استقلال المشيئة وحرية التصرف والسلوك والتفكير.
ولكن الزعيم الحذر الشديد اليقظة غير المجازف ولا المتهور، حري بألا يغلو في بسط سلطانه، خليق بألا يتناهى في إملاء إرادته، حتى لا تكون قيادته قيادة استعباد، ونفوذه نفوذ مستبد طليق الهوى.
وقد رأينا قبل الآن زعماء عدوا من خيرة المنظمين للجماعات، ثم لم يستطيعوا في بعض الأحيان أن يجنبوا أنفسهم الجنوح إلى انتزاع إرادة الناس انتزاعا، والحمل على قواهم بأشد العنف والإجهاد، وقد قيل عن الرئيس «هوفر» إنه كان يتولى كل شيء في الجماعة، وينفرد بكل صغيرة وكبيرة من السلطان حتى لينفرد بالأمر المطلق في تحريك أقل شيء، وتنفيذ أتفه الشئون.
وأخطر ما تنبغي الإشارة إليه بسبيل التنظيم هو حسن اختيار الأكفاء لتوزيع التبعات عليهم، فقد شهدنا زعماء حكماء يحسنون انتقاء الأفراد الذين يعرفون أكثر منهم في النواحي المختلفة من حياة الجماعة ويدركون ماذا ينبغي من العمل، وما يجب من التصرف، أسرع وأتم وأكمل من إدراكهم. والقاعدة التي راضوا أنفسهم في ذلك على اتباعها هي أن يجعلوا صحبهم وزملاءهم كبارا مثلهم ذوي تبعات معينة عليهم، بارزين بجانبهم، ماثلين أمام الشعب بأخطارهم وكفاياتهم ومواهبهم المنوعة.
وقد كان من هذا الطراز من الزعماء سعد زغلول، إذ جعل من دأبه وديدنه توزيع التبعات بين صحبه وأنصاره الكبار، وخلى بينهم وبين مواهبهم يبرزونها في كل ما يسرت له، كما كان يشجع على إبرازها، ويأخذ بأيدي الموهوبين والأكفاء ليصعد بهم إلى القمة، ويعلو بهم إلى الأوج. وكان الوفد المصري هو ثمرة هذا التنظيم النيابي في هيئته، ونتاج هذا التنسيق الحكيم في سائر نواحيه وفروعه، حتى لقد عد الوفد بشهادة خصومه من خير الهيئات السياسية تنظيما، وأمتنها في تدبير الخطط إحكاما، وأروعها في العمل أساليب.
وقد سار خليفة سعد على آثار سلفه؛ فاستطاع أن يبقي الوفد على هذا النظام التقليدي المكين بعنايته البالغة بالروح المعنوي في وسط الجماعة، ويقظته التامة لمطالب التوزيع في المسئوليات، وتقسيم الواجبات، وحسن سير العمل في كل موقف وظرف وحين.
وقد مات بوكر واشنطن فظن خصوم حركته في أمريكا أن عمله قد انتهى بنهايته، والحركة منطفئة بانطفاء سراج حياته، ولكن لشد ما بهتوا وعجبوا أن رأوا ذلك النظام البديع المكتمل قد عمر بعده طوال السنين.
وهذا هو ما كان خصوم الوفد يتوقعونه عقب رحيل سعد من هذه الدنيا، ولكن خاب فألهم، وطاشت أحلامهم، وظل الوفد قائما على شأنه، مستوليا على مكانته، ملتفا حواليه من الأمة التي عرفت كيف تصونه وتحوطه بسياج من الإيمان، وسور منيع من اليقين.
وبفضل التنظيم الداخلي في الجماعة أو الهيئة أو الحزب لا يلبث الزعيم أن يجد نفسه على رأس حشود من أشباهه، وجموع زاخرة يحتذون حذوه ويسيرون على منهاجه، فهو قائم على رأسهم، ولكنه في الواقع موزع فيهم، كثير بينهم، متعدد الصور والأمثال في وسطهم، وإنما نجاح ذلك كله رهن بمجنح الزعيم واستعداده واتجاهه، فإذا ابتغى من هذا جميعا محض مجده الذاتي ومجرد شهرته وغايته، ففي أكثر الأحايين ينتهي الأمر به إلى السقوط والتلاشي والفناء، أما إذا كان هدفه الأوحد منه هو إنجاح قضية ما، أو الفوز بمقصد عام وأمنية قومية، فليس أمامه سوى العمل على تنمية الكفايات من حوله، وادخار القوى المنشئة بجانبه، ولا غناء في سبيل النجاح عن إطلاق اللجم وإرسال الأعنة، والسماح للأفكار الجديدة والمثل العليا أن تعيش وتحيا بفضل احتثاثه وحفزه وتشجيعه.
وأنت فقد تسأل كيف يتسنى للزعيم أن يتعهد الهيئة التي يقودها بالتنمية والتعزيز والتكثير، هل يعمد إلى زيادة عدد أفرادها، والإكثار من أعضائها، وتضخيم حجمها، حتى تتفيل وتتناهى جسامتها البارزة، أم يتولى الإشراف على الكفاية، وتغذية مصادر الإنتاج، والعناية التامة بالعمل والإنشاء والخلق والبناء؟ ونحن مجيبوك بأن الزعيم الطليق المنفرد يفضل الوجه الأول، وأن الزعيم الديمقراطي هو الذي يؤثر السبيل الثانية. وقد رأينا زعيما مثل فرانكلين يأبى قبول مزيد من الأفراد في عضوية حزبه أو ناديه «الجونتو»، على رغم الإقبال على الدخول في حظيرته، مكتفيا بالقدر الذي اندمج فيه، مستغنيا عن الإكثار بترقية الكفايات وحسن القيام على النظام؛ لأنه المعوان الأوحد على النجاح.
إن أكبر مظاهر الزعامة الديمقراطية لتتجلى في رغبة الجماعات في العمل معا، ومعرفة وجوه القوة ووجوه الضعف فيها، واكتشاف الميول التي لا تجد سبيلها، والنزعات التي لم تبلغ غايتها، والعمل على توجيه الجهود والقيام ككتلة واحدة تامة الأجزاء مرصوصة البنيان.
ومما يعيب بعض الزعامات أنها قد تروح جنوحا إلى الترفع عن الجماعة واعتزال الصفوف، والتواري بالحجاب عن الجماهير، ومحاولة السمو على الأفراد، وأنها قد تنادي بوجوب التضافر أو التعاون، ولكنه لا يعدو أن يروح تعاونا من جانب واحد وتضافرا يؤدي كل فرد منهم ما يريده الزعيم ويشاطره ويبتغيه، وقد كان تيودور روزفلت أكبر من أدرك وجوب قيام العناصر الديمقراطية في الزعامة فقال: «لقد تعلمت درسا غاليا لا يقوم بثمن ولا يقدر بقيمة، وهو أن ليس من أحد في وسعه أن يؤدي أرفع خدمة للمجموع ما لم يتعاون وصحبه وزملاءه عليه، فإن كلمة «خذ وهات» هي شعار التعاون الصحيح، ووجه التضافر التام الكفيل بأحسن الثمر.»
إن الأسلوب والتنظيم إذن مشتركان اشتراكا فعليا حقيقيا في العمل على إنجاح الزعامة، وتيسير السبل أمامها نحو الفوز المبين، وبلوغ الغاية النهائية الحاسمة ...
أخطار الزعامة والعوامل السيئة التي تتأثر بها
كثيرا ما نقرأ أو نسمع خلقا من الناس في حديثهم عن زعيم أو قائد جماعة أو ذي سلطان يقولون: «لقد ورم رأسه» أو «هو المسرف في تقدير نفسه»، أو أنه عنيف في الحمل على أنصاره وسوق أتباعه، أو هو «لا يستمع إلى نصح ناصح، ولا يستجيب إلى مشورة مشير»، أو «إذا أردت أن تكون ذا قربة منه وحظوة لديه، فأمن على كل كلمة يقولها، وصانعه في كل ما هو صانع»، أو «هو يحاول أن يجعل كل إنسان طائر النفس شعاعا من خيفته»، أو «إذا رأيته غاضبا فلا تقترب منه، والتمس عياذا ونجوة من سورة غضبه»، أو «هو بالنساء أبدا مشغول الخاطر مفتون».
هكذا يقول الناس في أحاديثهم عن زعماء كثر أو قواد أعلام، وهذا بلا ريب بعض ما يذم الزعماء به، فإن هناك ما هو أكثر من هذا وأسوأ قيلا، وكله يدل على أن الزعماء هم أبدا موضع دراسة الناس وملاحظاتهم أكثر مما يتصورونه حاصلا، كما ينم على أن الذين يبلغون مراتب السلطان على الغير قد تتطرق إليهم صفات غرائب عليهم، وتتسلل إلى نفوسهم عوامل سيئة تبديهم في صور شوهاء للأبصار، وتتعرض زعامتهم لأخطار متعددة وآفات كثر وأذى شديد.
وقد يكون الزعيم في إنفاذ سلطانه على الناس مستمدا مكانه ونفوذه من رضاهم التام وبيعتهم الكاملة، وثقتهم الغامرة الشاملة، ومع ذلك نراه مجاوزا كل حدود نفسه إلى الإضرار بسلطانه، وتسوئة مكانه، والإيذاء لأنصاره وأشياعه وأعوانه.
وليس من شك في أن أية لوازم وخواص تجعل الزعيم معنيا بنفسه إلى حد الغلو والسرف والإفراط، ناظرا إلى إرضاء عاطفته وحدها وشخصه ذاته، تصبح خطرا يتهدد زعامته ويوشك أن يفسد صلاته بالذين من دونه، ومثل ذلك أن يكون غير متزن الذهن، أو مريضا ببعض العلل النفيسة، أو معوضا عن مناقص فيه ومعايب بوسائل غرائب، ووجوه شذوذ، أو أساليب مضللة، أو أسير عادات سيئة ولازمات فاسدة؛ فإن ذلك ونحوه من شأنه أن يحيط مكانه في الناس بخطر شديد لا يلبث أن يذهب به وينزعه منه نزعا.
على أن حالات الشذوذ الباثولوجية - الناشئة من بعض العلل والأدواء - هي كقاعدة عامة أقل من حالات الإفراط والغلو في خواص ولوازم اعتيادية تفسد السلوك وتتنكب الطريق السوي، والسبيل القويم، ومن ثم تقيم حواجز وحوائل أمام سلطان الزعيم ونفوذه.
ونحن معالجون في هذا الباب من الكتاب كلتا الناحيتين، متوخين شرح الظواهر الغالبة في ناحية الاضطرابات الخلقية والعلل والمساوئ التي قد تتعرض لها الزعامة أحيانا، فتفسد عليها محلها من النفوس، وتؤثر في مكانها من الجماعات أسوأ الأثر.
وليس يخفى أن من أول واجبات الزعماء أن ينظروا إلى الناس كغايات في أنفسهم لا كآلات وأدوات في سبيل تحقيق الغايات التي يفرضها الزعماء عليهم فرضا، ويريدونهم عليها إرادة إكراه وقسر وغلاب، وأن أية صفات أو منازع من شأنها أن تحيل الزعيم مزهوا بذاته عنيفا على الناس شديد الوطأة بالغ القسوة، تجعله بلا ريب يجنح إلى تغليب رضوان ذاته وإشباع نفسه، على إرضائهم، والظفر بسكونهم إليه.
وكذلك يمكن القول بأن الشخص السليم العقل الصحيح الموفور العافية إنما يجنح إلى النفوذ بالحض لا بالإكراه، وبالاحتثاث لا بالضغط والإجبار، وباللين والعرف لا بالاستبداد والعنف.
ولا ينبغي أن ننسى أن للسلطان إغراء، وأن في هذا الإغراء الخطر كل الخطر على الزعامة إذا هي لم تتئد وتأخذ نفسها بالرياضة وكبح الجماح.
وقد يعترض مع ذلك بأن الاتزان العقلي لا ينتظر من الزعماء؛ لأن الصفات التي جعلتهم زعماء هي بطبيعة الحال التي جعلت لهم ذلك التفوق الرفيع على الناس، فهم بها أغنياء عن التماس صفة أخرى على التعيين، ولكنا نستطيع بكل سهولة أن نستشهد بأمثلة كثيرة لزعماء يرجع سلطانهم إلى أنهم جعلوا من رذائلهم فضائل، وتخذوا من مساويهم حسنات، أو إلى اعتمادهم على خواص معينة فيهم تناهت في الغلبة على سواها، وانمازت عن غيرها، فأصبحت هي البارزة البادهة الغالبة.
وفي الحق إذا نحن نظرنا إلى الفرد من ناحية كفايته وصلاحيته للزعامة، وإلى المجموع من حيث بحثه عن الزعيم الموفق الناجح القوي المكين، بدا لنا أن الإفراط في بعض الصفات وتناهي الحد في بعض المزايا والخواص، هو وحده الخطر الذي يهدد الزعامة، وإنه من الخير لها أن تكون على توازن في الصفات، وتعادل في الخواص والمزايا؛ لتستقيم على وجه صالح، وتأخذ أقوم طريق.
ونحسب تقسيم العوامل المختلفة التي تؤثر في الزعامة سيئ الأثر تقسيما علميا، وجها من البحث ليس من شأننا، وإنما يصح أن نعرض لها في لغتنا ليكون ذلك مفتاحا لمن يبتغي في هذا الباب توسعا ويطلب مستزادا.
ولكن لعل أكثر هذه العوامل اتصالا بالموضوع الذي نحن بسبيله هي شهوة السلطان، وسرعة تغلب العاطفة، والمخاوف الملحة الدائبة، والإحساس بالعجز، واختلاف الشفائع والمعاذير، واختلال الوظائف الجنسية، والنزوع إلى العنف والقسوة.
ونحن متناولون هذه العوامل بالبحث إيجازا واختصارا ...
إن الرغبة في الرفعة والرياسة والسؤدد هي من غير شك أحد الدوافع الرئيسية في الإنسان، بل هي الحافز الذي يؤثر في مسلكه، ويطبع تصرفاته بلونه، ويسيطر على جميع حركاته وسكناته، وهو بلا ريب دافع طبيعي ضروري في الحياة، فكل منا يريد أن يذكر ويشاد باسمه؛ بل كل منا يريد أن يحسن في عيني نفسه ويشعر بأن له في ذاته شأنا وفضلا، والزعيم بطبيعة الحال يصيب أكثر من غيره الفرصة التي ترضي في نفسه هذا الشعور وتشبع هذه الحاسة باستخدام الزعامة وتنفيذ السلطان، ولكن هذا الحب للرفعة والرياسة والسيطرة من السهل للغاية أن يخرج زمامه من اليد، وتتسرب لجمه من القبضة، ويوم يصبح مركز الزعيم أو مجرد استحواذه على السلطان السبيل الوحيدة لإبراز السيادة، وإظهار إرادة التملك، وإبداء مظاهر النفوذ؛ تتمثل أخطار الإفراط، ويخشى من عاقبة السرف والغلو ومجاوزة الحدود.
وقد يتخذ هذا الغلو أو هذا الإفراط أشكالا متعددة، فمثلا قد يجد الزعيم في ذات نفسه الشعور بالغبطة بسبب الترفع عن السواد، والإحساس بالسمو عن الجمهرة، والزهو على الناس، والترفع عن مخالطتهم، وما يتبع ذلك من إظهار التنزل إليهم تفضلا منه وتكرما، والنزوع إلى الغرور والعجب والخيلاء والعزة والكبرياء، وقد يقتضيهم حدا مفرطا من التضامن فيه والولاء له، فيضطر بذلك إلى تقريب الملقة وإحاطة نفسه بجموع المزدلفين والمتمسحين بالأعتاب، أولئك الذين لا هم لهم إلا التأمين «بأي نعم» على كل ما يقوله، والتمداح لكل ما يفعله، والطبل والزمر أبدا من حوله، وقد يأبى إلا متابعة هواه، وتغليب إرادته على إرادة سواه، والتكبر على النزول على نصيحة النصاح ورأي الصحب والخلطاء والمشيرين.
وأنت فقد تجد أحاسيس الغيرة من الآخرين الذين قد يتطلعون بأبصارهم إلى مركز زعامته ومحل رياسته، بارزة عند بعض الزعماء كدليل على الرغبة في التفرد بها والاستئثار المطلق، دون منازع أو شريك.
هذه هي طائفة من الحالات التي يستبد فيها الكلف بالسلطان بنفس صاحبه، فماذا يصح أن يصنع في علاجها، وما سبيل العمل على إزالتها واستئصالها من أصولها الدفينة وجذورها المستسرة ...؟
أولا دعنا نسأل لماذا نجد بعض الزعماء يظهرون أثرتهم من خلال زعامتهم على هذه الصورة المكشوفة البينة؟ هل ذلك راجع إلى محاولة التعويض عما في نفوسهم من الإحساس بالعجز، أو عما كان في صغرهم وحداثتهم من الضغط والتضييق والاحتجاز، أو ما غشي عهد تربيتهم ونشأتهم من خنق العاطفة، وتعطيل الملكات، ومحاربة الصفات الطيبة، والانبعاثات الحسنة الخيرة الفاضلة؟!
هذا هو ما ينبغي أن نفهمه ونتبين دقائقه قبل أن نعمد إلى المعالجة والإصلاح والتقويم، وقد يقتضي الأمر في بعض الأحيان وجوب حمل الزعيم نفسه على الشعور بهذا النقص فيه، وقد لا يغني في هذا مجرد الإيحاء الأدبي، أو التنبيه العقلي، فإن جذوره قد تكون متغلغلة في أعماق نفسه وأغوار منازعه ورغباته، وليس ثم كبير فائدة في محاولة التقويم والعلاج ما لم تفحص البواعث والأسباب فحصا، وتكشف على حقائقها تماما.
وقد تتكشف هي أحيانا وتتبدى للزعيم ذاته دون تنبيه أو إهابة بسبب حوادث تقع له، وخيبات تطالعه، كأن يسقط في الانتخابات عند محاولة إعادتها ، أو يلقي أمرا إلى الذين يتشيعون له فلا يهرعون إليه، ففي هذه الحالة ونحوها قد يهديه منطق الحوادث إلى مواجهة الحقيقة، والاعتراف بأن علاقاته بالمقودين لم تعد قوية مكينة صالحة، وإلى البحث في ذاته ومسلكه وتصرفاته عما عسى أن يكون العيب فيه والنقص الذي أدى إلى هذا الفشل الأليم.
وأحيانا أخرى قد يستطيع الناصح الأمين، والصديق المخلص، والمشير الغيور، أن يقنع الزعيم بأن تناهيه في حب السلطان مزيل له معجل به، وقد يكون هو على الأيام قد شعر بالخطأ وأدرك من تلقاء نفسه الغلط والمعاب، فإذا جاءت النصيحة من المشير مطابقة لما في صدره، مماثلة لما في خاطره، لم يبق غير التماس الأسباب التي أدت إليه، والبحث عن البواعث عليه، وحينئذ تنبغي معالجتها، ويصح العمل على إزالتها، وليس من الميسور هنا بيان الخطوات التي تتخذ في هذا السبيل؛ لأن لكل حالة علاجا، ولكل علة من العلل أشفية ودواء.
بيد أنه في الإمكان إبداء جملة من الملاحظات على وجه العموم، فقد يكون من الخير أحيانا أن يعمد الزعيم المستهتر - أي المولع - بالسلطان إلى توسيع مرمى تفكيره ومدى نشاطه حتى يتيسر لكلفه بالسلطان أن يجد أكثر من مجال واحد أو متنفس بذاته أو اتجاه ليس غير. ومما يصلح شأن الزعيم المفرط في الإعلان عن نفسه، المسرف في تحكيم نفوذه، المجاهر بأن عمله هو كل حياته، أن يوجد لنفسه ملهاة أو تسلية ما أو «غية» ينشغل بها قليلا عن حصر كل تفكيره في ذاته، فتخفف من حدة إحساسه بسلطانه، وارتكاز كل عاطفته في زعامته، وتهيئ له جوا أوسع للتأمل، ومرمى أفسح جوانب للتفكير المتزن، والخاطر السديد الراجح، كما تستنفد فرط نشاطه والزائد عن الحاجة من قوته في سبل لا تغري بالإسراف في إعطاء فكرة السلطان أكثر مما تستحق.
وليس بعيدا من الصواب ولا من المشاهد المحسوس في الجماعات الكبيرة والهيئات الواسعة النطاق، ألا يكون للزعيم سبيل منظم للاتصال الدائم الوثيق بأتباعه والمشايعين له، فلا تسنح له الفرص، ولا تتهيأ له الظروف لدراسة شعورهم نحوه دراسة جدية دقيقة، وفهم أحاسيسهم من نحو تناهيه في النفوذ واستبداده بالسلطان، فلا يتاح له اكتشاف ذلك إلا بعد فوات الأوان، حيث يصبح من الصعب عليه أن يزيل ما علق بأذهانهم من هذه الناحية، وحل في صدورهم من هذا السبيل.
ومن ثم تنهض حجة القائلين بوجوب إيجاد وسائل صالحة منظمة لاتصال الزعامة بأشياعها، والاجتماع بممثلي الجماعات المنضوية تحت لوائها، حتى يرى الزعيم الأمور على حقيقتها، ويمسك بالمرآة أمام الطبيعة لتنعكس له عن صدقها ودقائقها ومعالمها، فإذا ما رأى في نفسه اعوجاجا قومه، أو تناهيا في السلطة انحرف عنه إلى جانب الاعتدال والاتزان.
ومن أكبر المبررات البسيكولوجية لإقامة هيئات تمثيلية فرعية وإنشاء لجان متعددة، أن ممثلي الجماعات والناطقين باسمها والنواب عنها يستطيعون - إذا شاءوا - أن يحدوا من مناحي سلطان الزعيم وغلو اعتداده به، وأن يجعلوه دائما مدركا لرغباتهم، شاعرا بأمانيهم ومطالبهم، عليما بما ينبغي لهم قبله من حقوق.
ومن أساليب الوقاية قبل العلاج، أن يدرب القادة وهم في مطالع أمرهم، ويراض الرؤساء والذين ينتظر أن يصبحوا يوما في مواضع الزعماء، على أن يفهموا هذه الحقيقة الكبرى التي ينبغي لكل زعيم النزول عليها والائتمار بها، وهي أن الزعيم في الأمة هو خادمها الأمين على ما استودعته، العامل بمشيئتها؛ لأن مشيئة الشعب فوق مشيئته ...
لقد أسلفنا عليك ما للانفعال وسرعة الغضب من أسوأ الآثار وأكبر الأخطار على الزعامة، والآن نقول استكمالا لهذا الباب من الكلام إن هناك مظاهر أخرى لسرعة البادرة وتقلب الأهواء ينبغي التوقي منها والعمل على درء أسبابها، فثم مثلا سرعة الهياج، وعاجل الحدة، وتقلب المزاح، وانتياب الكآبة والوجوم والاغتمام، أو الانتقال السريع بلا سبب ظاهر ولا علة واضحة من التهلل والتطلق وإشراق الطلعة إلى الاكتئاب والتجهم والإطراق، وقد يصبح هذا في الحالات الشديدة عارضا مرضيا، وهو معروف «بالسوداء»، وهي حالة دقيقة تستوجب أبلغ العناية وأدق العلاج.
وثم حالة أخرى، وهي حالة النشاط العصبي الأهوج الذي لا يكف ولا يهدأ، أو فرط الانشغال المجرد مع العجز عن تركيز القوى في عمل ما أو مهمة معينة، وقد تلوح هذه النزعة الظاهرة القافزة للناظر في بعض الأحيان انبعاثا قويا، ونشاطا عظيما زاخر الأمواه، غزير التيار، ولكنها إذا ما اقترنت بالعجز عن التركيز والتمام، أو لم تتجاوز حد القدرة على الابتداء بعمل وتركه، والشروع في أمر والانصراف عنه؛ كانت مظهر تقلب خطير يحتاج إلى العناية والعلاج.
وقد تكون أسباب هذا التقلب كثيرة ومنوعة، وهي في أغلب الحالات ترجع إلى علل «عضوية»، وقد تكون عوارض لأمراض تتصل بعسر الهضم، والارتباكات المعدية، أو اضطرابات الغدد، أو الاختلال في الوظائف الجنسية، أو الشيخوخة وتقدم السن، أو التعب والإعياء، كما قد تكون مظاهر انزعاج وانشغال واضطراب نفسي عميق الأثر. ومثل هذه الحالات من شأنها أن تدع الأنصار والأشياع لا يجلدون على احتمال الأهواء الغريبة التي تولدها، والأوهام والأطوار الشاذة العجيبة التي تقترن بها في أغلب الأحيان.
على أنه ينبغي التمييز مع ذلك بين سرعة التقلب الذي تتجه آثاره وتحكماته نحو الناس فيضيقون بها ويستشعرون ضغطها وثقل وطأتها، وبين فورة العاطفة لفكرة ما أو قضية معينة تنزل من النفس منزلة التقديس، ففي هذه الناحية ليس من المحتم ارتقاب الثبات الرزين، ولا من المرغوب فيه إيثار السكينة الجامدة، وإنما لا ينفي هذا وجوب إنصاف الزعيم في هذه الناحية بحسن وزن الأمور، وأصالة الحكم، ودقة التقدير، بل المنتظر من الزعامة الرفيعة السامية أن تكون مفعمة العاطفة قوة ونشاطا وحماسة وفيضا روحيا، وأن تضع كل همها ومدخر قواها في تلك الفكرة المقدسة أو القضية العظيمة الشأن؛ لأن فورة الإحساس بسبيلها قوة مرهوبة، وحماسته من أجلها هي كل فضلها وسلطانها؛ بل إن سرعة التقلب عنده في هذا المعنى تجدي عليه أحسن الإجداء، وترد عليه خير مرد.
لقد أصبحنا نعرف اليوم أن المخاوف - وإن لم يعترف الأفراد بها في الغالب - قد تلعب دورا كبيرا للغاية في إفساد الصلات الإنسانية وتوهين الوشائج العظيمة الأثر بين الناس، ولئن كان يلوح غريبا مستغلقا على الذهن أن يقال عن فرد يتولى قيادة مجموع من الناس إنه يعتريه الخوف أحيانا، وينتابه الفرق والخشية والتوجس في بعض الظروف، فمما لا شك فيه أن ذلك هو الواقع، أو كثيرا ما يكون الصحيح، ونحن باحثون هنا في بعض أنواع الخوف التي يتأثر بها فريق من الزعماء والمتولين الرياسة في الناس.
فأولا قد يخاف بعض الزعماء ألا يكون الخليق بأداء مهمته، القدير على الاضطلاع بعمله، وقد يخشى ألا تكون لديه المؤهلات لها، أو أنه على وشك الفشل فيما بدأه، والخيبة المخزية فيما هو ماض فيه، وقد يتألم من إدراكه أنه ليس بالمتكافئ وأصحابه، المتساوي وزملاءه، في الحظ المظفور به من التربية والتعليم، أو من حيث الأصل والمحتد والنسب في المجتمع، أو في السمت والهيئة والمظهر، أو في الخبرة والشهرة بين الأنصار والأعوان.
وقد يحس الخوف من أن مركزه ليس مضمونا بسبب عجزه عن إرضاء الذين من فوقه أو من دونه، وقد يبلغ منه هذا الشعور أحيانا مبلغ المرض الفكري المثير لأشد الألم، المحدث لأعجب الأوهام والأخيلة والتصورات المزعجة، حتى ليتوهم أن ثم ائتمارا خفيا للإيقاع به، أو كيدا مبيتا لإحباط عمله وإفساد الأمر عليه؛ كما قد يكون في باب الخوف أو من بعض صوره وألوانه، الغيرة من أفراد يلوحون كأنهم موشكون أن يظفروا بمكان مساو لمكانه أو فوق ذلك مظهرا.
ولا خفاء في أن هذه الخوالج ونحوها مما يذهب بفضيلة الثقة بالنفس ويحطم قوة الاعتداد بالذات، ويصرف جميع القوى إلى جهة الشيء المرهوب، وناحية ما هو مثير للخوف والوهم، ويخمد الحماسة، وتخبو به الحمية، ويتلاشى من أثره النشاط؛ بل هي عامل سيئ، وحائل كبير دون بروز المواهب، وظهور القوة الشخصية، وإن كانت هذه الخلجات في العادة مسرفة معطاة أكثر مما تستحق من العناية، بل قد لا يكون ثم مبرر لها ولا عذر، وقد تدل على أن صاحبها لا يواجه الحقائق كما ينبغي بشجاعة وتؤدة واتزان أن تواجه.
وما أحوج رجل كهذا إلى مساءلة نفسه: ما هذا الذي أنا منه خائف، ولماذا أنا منه وجل ...؟! فإن المواجهة الصادقة لهذا السؤال كثيرا ما تكشف عن مبلغ الوهم فيه، وتبين للمرء أن لا شيء ثم يستوجب مخافة، أو إذا كان الأمر مستدقا بعيد الغور، فإن مجرد محاولة الاهتداء إلى السر وكشف الدافع قد يشجعه على معرفة ما في مكنته أن يتوسل به لإزالة أسباب هذا التوهم الملح الذي أوجده الخوف والإيجاس.
ولكي نبين كيف تفعل المخاوف والصدمات القديمة في هدم النفوس، وكيف تحدث حالات الرعب والفزع التي وقعت للناس في الطفولة، ثم مع الزمن والتقدم في العمر ذهبت نسيا منسيا، من سوء الأثر في الحياة العملية وعهود الرجولة أو الشباب - نقص الآن عليك قصة رجل اعتاد في الاجتماعات الكبيرة الجلوس قريبا من محل الخروج وباب الانصراف، حتى لقد غلبت عليه هذه العادة فلم يكن يخالفها في أي اجتماع، أو يشذ عنها في أية حفلة من الحفلات، ثم حدث يوما أن طلب إليه عند إعداد برنامج احتفال ما أن يلقي خطابا باسم الجماعة التي يمثلها فيه، وكان الحفل سيقام في بعض المسارح الأهلية، فلما نهض ليخطب القوم لم يلبث أن تولاه رعب شديد، وشعر كأنه قد وقع في فخ، وراح يدور بعينيه حوله ملتمسا سبيلا إلى الخروج، وقد بلغ منه الروع كل مبلغ حتى لقد جرى تاركا المسرح لا يلوي على شيء إلى الشارع في فزعة الهارب الباحث عن النجاة.
ولما ثاب إلى نفسه تبين له أن هذا الذي كان منه لا يمكن أن يكون مجرد فزع من وقفة المسرح، وذهب يستشير أحد الأطباء النفسيين، فلم يلبث هذا أن كشف سر هذا التوهم العجيب، فقد حمله الطبيب على أن يتذكر حادثا معينا وقع له في طفولته، فتذكر أنه حبس ذات مرة وهو في البيت صغير في غرفة مظلمة عقابا له على هفوة اقترفها، ففيما كان جالسا وسط الظلام في جوف ذلك المحبس الصغير، هاجمته فأرة كبيرة فروعته وأخافته أشد الخوف، وقد ظل أثر هذه الصدمة أو الهزة المروعة باقيا دهرا طوالا مع زوال الحادث ونسيانه، حتى اتخذ خوفه من الاحتجاز في مكان محصور حالة باثولوجية عنده ؛ أي أصبح «مرضا» متأصلا فيه، متمكنا منه، ولكنه وقد انكشف سر الحادث الذي وقع له في الطفولة، وفهمه هو حق الفهم، واقتنع بصحته تمام الاقتناع، لم يلبث أن كف عن خوفه، وعدل عما كان ملازما له.
وكثيرا ما يعتري بعض الزعماء والموكلين بالرياسات أو المشرفين على مجاميع من العمال أو الموظفين حالات توهم غريب يخيل لهم أنهم مطاردون أو مضطهدون أو غرض أعداء مستخفين وخصوم يسخرون منهم، وهي حالات نفسية مرضية، ناشئة من اضطراب ذهني كلما حاول المرء الخلاص منه أو تهدئة ثائرته وإزالة أعراضه، جنح إلى تفكير خاص أو تعليل ما للموقف الذي يشاهده، أو الحالة الراهنة التي تحيط به.
ومثل المصاب بهذا ونحوه قد يرى مثلا رجلين قد وقفا في ناحية يتحدثان أو يتخافتان بقول، فيقر في خاطره أنهما لا بد من أن يكون حديثهما عنه، وأنهما بلا شك يتساران بشأنه، ويتهامسان عليه أو يكيدان له كيدا.
وقد يحيي أحدا من الناس فلا يسمع هذا تحيته، أو يكون منشغلا في تلك اللحظة بالذات فلا يردها بمثلها أو أحسن منها؛ فيتبادر في ذهنه حالا أن ذلك الشخص يكرهه أو ينقم عليه، وقد يرى في أشياء أخرى من هذا القبيل أو من محض المصادفة ومجرد الاتفاق ما يبعثه على الظن بأن القوم يدبرون له مؤامرة أو يبتغون به ضرا أو يكنون له العداوة والبغضاء.
والعلة هنا أكثر ما تكون في حالة الشخص ذاته، ومن ثم ينبغي تشخيصها، ويجب فحصها والعناية بعلاجها، وقلما تكون في الحوادث والوقائع والملابسات التي يتوهمها، ويرجع بواعثها إلى ذلك الذي يدور في خلده ويضطرب به وجدانه.
وهذا ما يحدو بكثير إلى الاعتقاد بأن هذه الخوالج والتوهمات راجعة إلى بعض عيوب أو مناقص في الأشخاص لا يريدون الاعتراف بها، ولا ينزعون إلى التصديق بأنهم متأثرون بها؛ فلا يسعهم إلا محاولة الاعتذار عنها أو التعليل لها بأمثال هذه الأوهام الكاذبة، وبرد اللائمة على غيرهم فيما يعانون منها؛ مع أن الواقع أن العلة فيهم، وأنهم مرضى بمخاوف تصورية ليس لها من حقيقة ولا أساس.
ويروى عن أستاذ في بعض الكليات أن رئيس الجامعة تحدث إليه يوما في أمر توليه مقاليد منصب العميد فترة قصيرة من الزمن في غيبة عميدها الأصلي، ولم يكن الأستاذ قد جرب ولا اختبر من قبل أعمال الإدارة، فلم يكد يتلقى هذه الفكرة حتى أحس فعلا وسواسا شديدا يوحي إليه الريب في مقدرته على الاضطلاع بذلك الواجب، والقيام بذلك العبء؛ فلبث مترددا غير مستقر على رأي قاطع في قبول المنصب أو رفضه، وأخيرا انثنى رئيس الجامعة يقول له: «استمع لي أيها الأستاذ ... كلنا يخطئ، وما من أحد سلم من الغلط، وأنا أخطئ وأنت بلا ريب سوف تخطئ، ولكني واثق أنك ستؤدي عملا حسنا في هذا السبيل، وستجد مني كل معونة وتأييد.» فلم ين الأستاذ أن وجد في هذه الكلمات الطمأنينة إلى القبول؛ لأنها قوت إيمانه بنفسه، وأزكت ثقته بذاته، فأحسن كعميد غاية الإحسان.
وهكذا لا تخلو هيئة من الهيئات الكبار من أناس خلقاء بالقيادة، أحرياء بالرياسة، ولكنهم يخشون المحاولة، ويخافون العمل، ويقوى في نفوسهم الشعور بالعجز، والإحساس بالقصور، فلا يملكون الفرار منه، والتخلص من تأثيره، وقد يكون سبب هذا الشعور فيهم عاملا نفسيا، ولكن هذا العامل يمكن أحيانا التخلص منه بالمحاولة والرياضة وغلبة الإرادة.
ويصح للزعيم إذا هو رأى رجالا يتوسم فيهم المقدرة على حمل المسئوليات الجسام والبروز إلى مواضع القادة في الصفوف، ولكنهم يتراجعون دون المحاولة، ويتأبون الرياضة على الاضطلاع بها - أن يعينهم ويأخذ بأيديهم ويساعدهم على قفز الحواجز، والوثوب فوق الحوائل، واقتحام العقبة، إذ من السهل للغاية المرور على رجل من هؤلاء يقول إنه لا يريد تقدما، ولا يحب استعلاء؛ ولكن من الخير، بل كل الخير، في محاولة اكتشاف الباعث الذي يبعثه على رفض احتمال المسئوليات الكبار، حتى يتبين تماما أنه في رفضه ذاك غير متلمس معاذير عن قصور لا أصل له، وعجز متوهم متخيل لا يستند إلى حقيقة.
وليس لهذه النفسية «المنكمشة» المنزوية من دواء ناجع غير تجديد الإيمان، وتقوية الثقة بالنفس، كما أن النجاح في أول مهمة من شأنه في هذه الحالات أن يأتي بعد ذلك بالعجب، ويبني المرء من جديد، ويخلقه خلقا آخر، ويرفع عنده من اعتداده بنفسه وإيمانه بقواه، فما هو إلا دور تردد ووسواس إذا عولج معالجة صالحة مناسبة، أعقبته أدوار يقين وثقة وإيمان واطمئنان ...
والمراد بتلمس الحجج والمعاذير هو الخيبة في عمل ما، ثم التماس التعليل لعمله، ومحاولة الاعتذار عن فعله، كما هو العجز عن تأديته، ثم الذهاب إلى اصطناع الشفائع عن تركه. وليس من شك في أن هذا النزوع يصبح خطيرا سيئ النتائج إذا هو جعل الشخص يخدع نفسه بأنه قد واجه الحقائق مواجهة صحيحة، في حين أنه في الواقع قد عمي عن خطر معقباتها وبالغ نتائجها، أو قد ترك أسباب حالة ما أو بواعث حادث من الحوادث من حساب اعتذاره، ومحاولة التشفع له، أو إيجاد الحجة لتبريره.
وليس معنى هذا كله سوى أن الفرد إنما يحاول إقناع نفسه بأن ليس على مسلكه من غبار، وأنه على صلات طبيعية بالناس؛ مع أنهم في الوقت ذاته قد يكونون على بينة من أن هناك ولا بد نقصا أو اختلالا أو اضطرابا في صلته بهم.
ونحسب الشواهد على هذا الانتحال للمعاذير غير المنطقية عديدة تتوارد على خاطر كل امرئ منا إذا هو فهم ما نقصد إليه، وأراد التمثيل له والتدليل عليه، فلا حاجة بنا إلى إيراد شيء منها، وإنما تجدر بنا الإشارة إلى النتائج التي تترتب على قيام هذا النزوع في نفوس بعض الزعماء، فمن ذلك أنه يجنح بهم إلى الرغبة دائما في تجاهل الحقائق الخطيرة، والعوامل الهامة عند التفكير في أمر ما، أو محاولة الوصول إلى قرار فيه؛ إذ معنى هذا أن الزعيم المتأثر بهذا النزوع يدرك ما يريد، ويفكر فيما يبتغي، ويتصرف كما يشاء، ثم يروح يستخدم الاعتبارات والبينات الموافقة الملائمة لتأييد ذلك التصرف الشخصي، ويزيد ذلك المسلك بذاته، كما أن هذا النزوع ينمي في نفسه الميل دائما إلى لوم الغير على المحاولات الخائبة التي لا ينبغي أن تكون اللائمة فيها على أحد سواه.
وكثيرا ما رأينا زعماء لا يعنون العناية الواجبة بتحديد مدى التبعات أو المسئوليات التي يخصون بها الذين من دونهم، ويوزعونها على الذين يعملون بإمرتهم؛ لأنهم وجدوا أن ذلك من شأنه أن يدعهم أطلق حرية، وأفسح مدى، وأوسع سبيلا، للإنحاء باللائمة على مرءوسيهم إذا لم يؤد أحدهم المهمة الموكولة إليه على النحو الذي يريدونه، والصورة التي يرتقبونها، ومن ثم قد شهدنا فريقا من الزعماء والقادة والمدبرين لا يميلون إلى تدوين قراراتهم أو مشيئاتهم كتابة؛ لأن ذلك يجعلها محدودة قاطعة واضحة المعالم والحدود غير تاركة سبيلا إلى التأويلات والتعللات التي قد يلجئون فيما بعد إليها تبريرا لتغيير قراراتهم، أو توجيه اللائمة حين الخيبة والإخفاق.
ولا يصعب على الزعيم أن يتوهم أو يوهم أن مجرد المشيئة هي التنفيذ في التقدير والاعتبار، أو معنى ذلك أن يذهب به الظن إلى أن تصريحاته بسبيل سياسته وكلماته الرنانة في إعلان حسن نياته، هي التنفيذ في ذاته والعمل نفسه والإنجاز سواء بسواء، وقد لاحظ الفيلسوف باكون «أن أصحاب السلطان هم بخاصة عرضة للتوهم بأن حسبهم هم التوجيه إلى الغاية دون احتمال تكاليف الوسيلة ومقتضيات الواسطة!»
والمشاهد في كثير من الأحيان أن فريقا من الزعماء في الأحزاب والهيئات الكبيرة قد اعتادوا أن يختفوا خلف أغلاط القادة المنفذين الذين من ورائهم، مدعين أنه بما أن ذلك كان من خطة الحزب أو سياسة الهيئة كما أعلنوها هم وصارحوا بها، فقد كانوا يعتقدون أن ذلك هو الواقع فعلا والحاصل تماما، فإذا ما تقدم الذين تولوا التنفيذ معترضين بأن الخطأ لم يكن من ناحيتهم ولكنه في مبلغ توجيههم؛ قالوا: لقد كان بابنا مفتوحا لكل صاحب فكرة أو متقدم برأي، وكان يجب أن يرجع إليهم قبل الإقدام التماس النصيحة.
والواقع أن الغالب على الزعامة التي من هذا الغرار أن حجتها الدائمة قولها: إننا أعرف من سوانا بما يصح وما لا يصح ونحن أخبر وأدرى، وفي هذه الحالة يغلب على الزعيم أن يكون منصرف الذهن إلى تقدير أصالة رأيه واستقامته وحكمة تفكيره، أكثر منه إلى خير الناس ونفعهم؛ أي أنه في ذلك إنما يعنى أولا بانتحال الشفيع عن الاستبداد بالرأي وإيجاد المعاذير عن تفرده بالسلطان.
ألا إن الزعيم الذي يغلو في تصور مبلغ التأييد الذي يملكه، ويسرف في الاعتقاد بخطر قضيته ومبلغ قيمتها في نفوس أمته، ويحسب النصر منه قريبا حتى ليجده عند أول زاوية وأدنى منعطف؛ هو زعيم لا يستطيع مواجهة الحقائق، وإنما هو في هذا الخيال البعيد خادع مخدوع، كثير الشفائع منحول المعاذير.
وإنما الواجب أن يكون في مجلس المشورة من الزعامة كل العناية والاحتفال في المواقف الدقيقة والمسائل الخطيرة بتدبر الحقائق ومواجهتها بأمانة وإخلاص حتى وإن لاحت كريهة مؤلمة، وبالصراحة والصدق في بحث الأسباب والعلل والأغراض ومحتمل النتائج، بل إن الزعيم العارف المأمون السبيل الحكيم في تصرفه هو الذي يعود إلى الشعب في المواطن العظيمة مستلهما شعوره، ملتمسا مشيئته، باحثا عن اتجاه تفكيره؛ فإن ذلك كفيل بأن يؤمنه العثرة، ويجنبه الزلل، ويسلك به أقوم المسالك، ويعرفه مزاج الناس ومبلغ استجابتهم لزعامته.
هذا مبحث طبي من بعض نواحيه، كما هو نفسي من نواحيه الأخرى، ولسنا نبغي الإطالة فيه، وإنما نذهب في تناوله موجزين، فإن علاقة الحاسة الجنسية بمزاج الشخص وأخلاقه ومسلكه وتصرفاته ليست مجهولة من كثير من الناس، ولا مستغلقة على الأذهان.
وليس من شك في أنه من الصعب أن يعمل فريق من الناس تحت إمرة رجل محتبس الشهوة، أو مختل الحاسة، فإن ذلك يورث سرعة البادرة، وضيق العطن، وشدة التبرم والضجر، كما يكسب الخشونة وجفوة الطباع.
على أن الذي ينبغي ألا ننساه بسبيل هذا البحث هو أن الجانب الجنسي من الطبيعة البشرية هو من القوة وشدة الأثر ودقة المسرى بحيث يجب على كل فرد أن يجعل له منفسا، ولمطالبه فسحة وموضعا، حتى تهدأ وتسكن ولا تحتجز فتضطرم وتتأجج بها الأعصاب.
ومن ثم لا بد من أن يروح الجانب الجنسي من حياة الزعماء منظما على نحو لا يغض من أقدارهم، ولا يعيب أشخاصهم، ولا ينتقص من كرامتهم؛ فإن ذلك - بلا ريب - معوان على تجديد النشاط وادخار القوى وسلامة البدن؛ كما أن ترك هذا الجانب غير مقيد ولا مزجور من شأنه أن يجعل الإفراط والإسراف والإجهاد والحمل عليه بالعنف مستنزفة تلك القوى ناضبة المورد جافة المعين.
بيد أن زعماء أطهارا استطاعوا الالتجاء إلى «الاستعاضة»؛ فأغنتهم عن إلحاح هذه الحاسة وسلطانها، وكانت استعاضتهم عن طريق المحبة «العائلية»، أو بالانصراف مع الرياضة الدقيقة وأخذها بأتم الاعتدال، إلى متابعة غايات مثلى والتفكير الكلي المستحوذ في مقاصد سامية، وأمثلة عليا، فتيسر لهم بذلك إدماج الدافع الجنسي في مجموع دوافعهم الأخرى حتى تلاشى فيها جميعا، ولم يعد له من أثر فيهم ولا سلطان.
ومعنى ذلك أنه في الإمكان صرف هذا الدافع، والحكمة في رياضته كشهوة السلطان تماما، وتحويله إلى وجه الاعتدال والعفة والتصاون، وذلك من طريق الحب العميق الصادق، أو بالإيمان البعيد الغور بكبار الأماني وسامي المثل وعليا المطالب، أو بمحض تقدير الجمال وتذوقه والمتع البريئة بتأمله وتملية العين منه؛ إذ ليس من شك في أن من خواص الجانب الشهوي أو العاطفي من الطبيعة البشرية، المساهمة في ترقية مدارك المرء، وتهذيب أحاسيسه، وتزكية مشاعره، وإغناء وجدانه، وإكسابه عمق الشعور، ورقة الطباع، وفضيلة العطف والمودة والرفق والحنان، والاستجابة لتقدير الجمال في سائر أشكاله وجملة نواحيه.
الجنرال بريمو دي ريفيرا الإسباني.
غير أنه لما كان هذا الجزء من طبيعتنا شديد الإلحاح في دوافعه، وجب أن يكون أصحاب الشخصيات القوية، أو معاشر الزعماء، على معرفة وعلم قبل كل شيء بطبائعهم، وفهم صحيح صادق لمقتضيات تغليب الدافع الأكبر في نفوسهم على هذا الدافع الملح الدائب، أو الاستعانة بالاعتدال في الاستجابة له على تجديد قوى نشاطهم، فتروح جهودهم في عملهم ومطالب زعامتهم متواصلة متحفزة في غير انقطاع ولا سكون.
وجملة القول في هذا الباب أن عوامل الرياضة المجدية في توهين الدافع الجنسي وتسكين ثائرته وترويض شموسه، هي فترة الإدراك وضبط النفس والتوجيه الحكيم والمجاهدة الفاضلة.
ومن الأعراض التي كثيرا ما تظهر على فريق من الناس بسبب الحاجة إلى إشباع هذه الحاسة، النزوع إلى إيلام الغير والقسوة عليهم والميل إلى تعذيبهم وإيذائهم، وهي حالة نفسية يعرفها العلماء باسم «الساديزم»، ويعنون بها إيلاف اللذة بتعذيب الآخرين، والمشاهد غالبا في هذا المرض أن المصاب به يجد هذه اللذة ولا يشعر ببواعثها الخفية ودوافعها الكامنة.
ولا ريب في أن حالة كهذه إذا أصابت زعيما كانت نقمة ووبالا عليه، والواقع أن ذلك مشاهد عند الزعماء الذين وصلوا إلى الزعامة عقب نزاع طويل على بلوغها، ومجالدة عنيفة شاقة في سبيل الصعدة إليها، وقد نسمع هؤلاء في بعض أحاديثهم يقولون: «لقد حاربت لكي أصيب ما قد أصيب، فليخض الآخرون جميعا المخاض ذاته، وليقاسوا ما كنت مقاسيه»، أو «العنف والجهد والدأب تفيدهم وتجدي عليهم»، أو «إذا نحن دللناهم ولايناهم وتسامحنا معهم، أفسدناهم أي إفساد»، وذلك كله ونحوه يحمل عارض «الساديزم» أو الحالة التي نعنيها، حالة القسوة التي يظهر بها بعض الزعماء، والجبروت الذي يجنحون إليه في معاملة الذين يقودونهم، ومسلكهم إزاء الناس وحيال الجماهير.
ولا خفاء في أن هذا المسلك سيئ النتائج وخيم العاقبة، أو عقيم خال من النفع والفائدة؛ لأن القسوة في التدريب، والعنف في المرانة، لا يؤديان ما يؤديه الإشراف الرفيق، والتوجيه الحكيم، والرياضة الطيبة الصالحة.
ومن أسلحة هذا الأسلوب الخطر في عنفه وقسوته وشدة وقعه سلاح «التهكم والسخرية»، وهو سلاح يجد فيه بعض الزعماء السرور والرضى والاغتباط مع أن أثره في نفوس الأتباع والمقودين سيئ للغاية منفر، عامل على الانفضاض والكراهية، وقد رأينا رئيس هيئة كبيرة يدفع إلى أحد مرءوسيه بمهمة لتنفيذها قائلا له: «إليك عملا تستطيع أن تتمه في عشر ساعات، ثم لم يكد الرجل ينصرف من حضرته حتى التفت إلى بعض الجالسين إليه فقال: إن هذا العمل لا يمكن أن ينتهي قبل أربع وعشرين ساعة، ولكن من الخير له أن يحاول محاولة الشياطين ليرى كيف هو صانع ...!»
ويوم يجد الزعيم منتهى الفرح من مشهد آلام الأشياع والأعوان وعذابهم وبلائهم، ولم يعد هو يقاسمهم إياها، أو يشاطرهم نصيبا منها؛ يصبح مركزه في خطر من محتمل ثورة النفوس عليه، وانتقاض الجماعة على زعامته.
ومن المحقق أن كل إنسان نزاع إلى رسم صورة في خاطره للشخصية العظيمة التي يريد احتذاءها، أو يبغي مشابهتها، فإذا ما اختلفت هذه الصورة المتخيلة مع الحقائق التي يراها الناس عيانا، كان هذا الاختلاف خطرا سيئ النتائج، وكلنا - ولا ريب - قد عرف أشخاصا أقزاما منتفخي الأوداج، يعطون أنفسهم أهمية وخطرا أكثر مما لهم؛ لأنهم يتمثلون أنفسهم كنابليون، وقد شوهد هذا في موسوليني وحركاته ومسلكه إزاء أصحابه وأشياعه، وفي متبداه على الجماهير، وخطراته ومشيته بين أسمطة الحشود الحاشدة حول مواكبه.
وكلنا كذلك عرف أناسا يتمثلون أنفسهم «دون جوان»، ويحسبون أنهم «سحرة» النساء وسباءو قلوبهن، وغزاة أفئدتهن، وآخرين يتراءون أو يحبون الظهور على الناس خطباء مفوهين كجوريس أو دي فاليرا أو لويد جورج أو سعد زغلول؛ فلا يكون بينهم وبين هذه الصور التي يبتغون تقليدها غير الغنة ومشابهة الجرس، واستخدام اللوازم، ثم هم بعد ذلك أعجز المقلدين.
ولعل علاج هذه الحالة هو في رياضة النفس على معرفة قيمتها الحقيقية باكتشاف أسباب هذا النقص فيها، ومواجهة الحقائق وإن لم تألم من صدمتها، فإن مواجهتها حقيقة بأن تروض المرء على قبول قيمته، والسكون إلى ما يسرته الطبيعة له في هذه الحياة.
الزعامة والزعماء في النظام الديمقراطي
لا يتيسر لأحد في النظام الديمقراطي؛ أي في البلد الذي يسوده الروح النيابي، ويقوم الأمر فيه على قواعد الدستور، أن يكون زعيما وطنيا، ما لم يكن في الوقت نفسه سياسيا في رياضة العقول واجتذاب القلوب وعظم التأثير في الأذهان.
وهذا الرأي يسترعي النظر إلى ما هو معروف عن النظام النيابي مشاهد فيه، محس بالنسبة إليه، وهو أن الزعيم يواجه في الواقع حائلا عظيما عجيبا في ذاته يقف له في الطريق يمنعه الوصول إلى أوج المكان الذي يطل منه على الجميع، وهذا الحائل هو أن كل فرد يعتبر نفسه صالحا طيبا كفوا كالآخر تماما، وأن الجميع متساوون نظراء أمثال من هذه الناحية، فمن يبغ أن يبلغ الزعامة فيهم يتحتم عليه أن يدلل على أنه أحق بالقيادة من الآخرين.
وليس يكفي مجرد الرغبة في الوصول إلى الزعامة، وإنما يجب أن تتمثل الرغبة عملا رائعا، ومسلكا فريدا، وتصرفا بادها، واتخاذ أساليب مقبولة، ووسائل صالحة، وطرقا واضحة الحجة، بينة المناهج، مزدانة الحواف والجنبات بالزهر والرياحين.
لقد كانت القوة أو المقدرة على تصريف الشئون قبل أن تنتشر الأفكار الديمقراطية في العالم انتشارها اليوم ويتسع لها المدى اتساعه الأخير، يظن أنها محض القوة، وكان يلوح أن القوة هي التي صنعت الحق، وفي مجتمع تسوده هذه الفكرة، كانت الزعامة بطبيعة الحال تلوح في التصور وتبدو في الاعتبار مظهر الظفر بالقوة واستخدامها، والمقدرة على التملك والتفرد والسيادة والسلطان.
وفي الواقع لا تزال تصوراتنا وأفكارنا وأخيلتنا في معاني الزعامة وتعريفها متأثرة كثيرا بفكرة الماضي ونظريته من حيث السيادة والنفوذ.
ولكنا نعيش اليوم في عصر ديمقراطي مقر معترف به، بل نحيا في عهد يجد الفرد فيه حقوقه وامتيازاته مصونة مؤيدة، صريحة معلنة. وقد أصبح المجتمع يرتضي ويسلم بحق الفرد في الحياة والحرية وطلب السعادة والتماس الهناء، وإن كان هذا التسليم نظريا على الأقل؛ إذ أصبح من القضايا المسلم بها أن الناس قد ولدوا أحرارا متساوين، وأمسى مفروضا أن لكل شخص قيمته في ذاته، ولفرديته وحقوقها كل الشأن وأكبر الحساب. ولا تزال فكرة المساواة آخذة في النمو والازدياد والقوة والاطراد والتحقيق والتنفيذ مع تطور الحياة ومر السنين.
وإذا كان الأمر كذلك في المجتمع اليوم، أفلا يقلل قيام المساواة العامة الضرورية في النظام الديمقراطي والحياة النيابية من الفرص المهيئة لنهوض الزعامة، كما يضعف من حاجة الناس إليها، والتماسهم لوجودها، وافتقارهم إياها؟! بل أليس من شأن تشدد المجتمع الحديث في اعتبار حقوق الفرد وامتيازاته قاعدة لكل القيم الاجتماعية، وأساس كل تقدير للأشخاص، أن يؤثر أكبر التأثير في فكرة الزعامة ووسائل قيام الزعماء؟!
لقد يلوح هذا صحيحا على وجهه، مستقيما على ظاهره، ولكن الواقع هو بالعكس؛ إذ الحقيقة أن الفرص المساعدة لقيام الزعامات في المجتمع الديمقراطي اليوم قد أصبحت أكثر من قبل، وزادت زيادة متناهية، وإنها لتنمو كذلك وتتوافر وتسنح كثيرا، إذا ما فهمت الزعامة على حقيقتها من ناحية مقتضياتها النفسية وجوهرها الصحيح ومعدنها السليم.
إن الخطر الحقيقي الذي تتعرض له الديمقراطية هو خطر انتشار الصغار والتفاهة، وشيوع التماثل والتناسق، وقبول الحياة للاستمرار على وتيرة واحدة ونظام رتيب، وقيام أقيسة عامة للقيم والمراكز والأخطار. ووجه الخطر من ذلك كله هو من حيث فقدان الإمامة والهداية والتوجيه، والنشاط الروحي والحماسة النفسية، والشعلة التي تلهب الحياة العامة وترسل وقدتها في كل القلوب والأذهان.
الخطر الحقيقي هو ما يخشى على الحياة في النظام الديمقراطي من الركود والأسن، وما قد يغشاها من الجمود والنوم والإغفاء والبلادة واليأس والكلال والإعياء.
وفي سبيل درء هذا الخطر لا غناء عن بذل الجهود الفعالة الإيجابية المثمرة لإنقاذ المجتمع من مظاهر هذا الخطر وبوادره وكافة نواحيه؛ إذ لا بد من قوة توجيه تدفع بالنفوس إلى العظائم، وتسوق الأفراد إلى البذل والتضحية والإيثار، وتضرم نار الحماسة في الجماعة ليسيروا نحو المثل العليا، ويحدثوا الجسام، ويتطلعوا إلى الكمال.
وإذا صح أن الديمقراطية لا تيسر للزعامات طريقها، ولا تفتح السبل أمامها، ولا تمهد لها أطيب المهاد، بل قد لا تشجع - كما هو الظاهر - على قيامها، وتستريب بالذين يبلغون مكانها، وتتشكك في الأفراد المبرزين الذين ينهضون ليحتلوا فيها مواضعها؛ إذا صح هذا أو نحوه مما هو مشاهد اليوم في الديمقراطية أو محسوس من ناحيتها، فإن الدافع مع ذلك هو أن الفرص التي تتهيأ في النظام الديمقراطي للفرد الذي يستطيع التدليل على حقه في امتلاك النفوذ، وإصابة الرياسة، والظفر بالسلطان، لا تزال كثيرة، وفرة، مأتية، متوالية السنوح، لا تكاد تضارع، ولا مثيل لها فيما مضى من العهود وأدوار الحياة.
وما ذلك إلا لأن الديمقراطية مهما بدت في الظاهر قائمة على المساواة والتماثل والتجاوب والانقياد، فلا تزال في الحقيقة قائمة على مجموعة مركبة من أفراد يحنون أو يتطلعون إلى إبراز أنفسهم بوسائل أو أساليب لا يكادون يشعرون بها، ولا يتعمدونها تعمدا، ويريدون أن يشبعوا ما يعتمل في نفوسهم، وما يضطرب في أخلادهم من آمال وعلالات وطموح إلى التفوق والتبريز والعلاء.
وليست الفرص التي تسنح لبلوغ الزعامة ومرتبة القيادة منحصرة في الميدان السياسي وحده، وهو الميدان الذي تتبادر إليه الأذهان رأسا كلما جاء ذكر الديمقراطية، أو عرض حديثها للمتحدثين، فإن الزعامة السياسية في الحق خطيرة الشأن عظيمة القدر مرهوبة الجانب كبيرة السلطان، ولكن الواقع أنها ليست سوى ميدان من عدة ميادين يمكن الإنسان أن يعلن فيها عن نفسه، ويبرز في ساحتها إذا واتاه البروز.
إن فرص الزعامة والتفوق والغلبة لتصيح عالية الصوت، طالبة الظهور، منادية الأكفاء والأفذاذ إليها، في كافة النواحي وجملة الميادين؛ إذ في كل ميدان منها يعمل الناس، ويحاول أفراد منهم تأدية رسالاتهم، والنبوغ بينهم والاستعلاء، وهم يريدون من أعماقهم أن ينهضوا فوق المساواة الاسمية، أو المساواة القانونية، لإظهار سمو أقدارهم عنها، وحقيقة رفعتهم فوقها، من حيث المقدرة والنباغة والاستعداد.
ولكن لكي يبلغوا هذا الذي يتطلعون إليه ينبغي أن يقادوا، ويجب أن يذعنوا إلى الزعامة، ويدخلوا في صفوف المؤمنين بها، والنازلين على أمرها، والمرتضين لوجودها، حتى يتسنى لها أن تنظم وجودهم، وتقسمهم طرائق وهيئات وجموعا، وتستخدم كفاياتهم في سبيل الصالح العام والغايات الاجتماعية المنشودة في الحياة.
إن هذا التقسيم ضروري في الجماعة لأجل إيجاد الصلات والروابط والعلاقات المنظمة للعمل، المرتبة لتوزيع الجهود، الصالحة لإبراز العبقريات والنباغات والأكفاء، الكفيلة ببلوغ طباق جديدة من الفكر والنظر، والوصول إلى آفاق بعيدة من الأماني والآمال والأغراض.
وما مثل الزعيم في ذلك كله إلا كمثل المرشد أو الدليل المحترف في تسلق الجبال والهضاب، فإن الدليل لا يعتبر بالضرورة أحسن ولا أمهر ولا أسمى من الذين يتقدمهم إلى صعود الجبل ويستبقهم جانب الهضبة أو صخور الهرم، وإنما هو المفروض فيه فقط - وهذا وحده كاف - أنه العليم العارف الخبير بصعود هضبة خاصة أو مرتفع معين أو قمة معلومة، فهو لهذا يستبق المتسللة، وطلاب الصعود وملتمسة الارتياد، تنظيما للصعدة، واستهداء بالخبرة، واسترشادا بالدليل.
غير أن هناك أيضا بطبيعة الحال الطلائع الأولون، والرادة المقتحمون ، والكشافة السباقون، الذين يظهرون من حين إلى حين، فإن هؤلاء بلا ريب هم المتسلقون الكبار، والمرتادون الأفذاذ، والسائحون الكشافون النوادر، ومثلهم كمثل الأنبياء والهداة الأولين.
فنزيلوس - زعيم اليونان.
ولا شك في أن الحياة تتطلب هذين النوعين، والدنيا بحاجة إلى هذين الصنفين، وإن كانت الفرصة لنوع الأدلاء والمرشدة في النظام الديمقراطي أكبر بوجه خاص، وأكثر سنوحا، وأوفر ظهورا؛ إذ في وسع الدليل عندما تتضافر الجماعات على الجهود والدأب والعمل المشترك الموحد الاتجاه، أن يباعد بين المتسلقين في أثره والتابعين له والمترسمين لخطاه، وبين الخطأ والزلل، ويجنبهم الوقوع في الأغلاط الخطيرة المهلكة، وقد يحدوه نشاط المجموع، وتحفزه طاعتهم وامتثالهم إلى البلوغ بهم أعلى القمم وأسحق القلل، والوصول بهم إلى ذرى لم يبلغها أحد من قبلهم، أو ما كانوا لولاه لها بالغين.
ولا يخفى أن الصعوبة الكبرى ليست في تردد الأمة الحرة في الانقياد للزعامة، وتراخي الشعب الديمقراطي في الاستسلام لها، والسير في إثرها؛ بل هي في الخوف من أن يعمد الذين تحتاج الأمم إلى قيادتهم وتطلب إليهم احتلال مكان الزعامة فيهم، إلى أخذ كل شيء في أيديهم، والاستيلاء على كل سلطة لأنفسهم؛ فيروحوا طغاة أكثر منهم زعماء، وبغاة عتاة جبابرة، لا هداة أخيارا صالحين.
ومن الحق بل من الواجب أن يكون عبء الإثبات ومهمة التدليل على صلاحية الزعامة وطيب نوعها وحكمة اتجاهها واقعا في الجماعات الديمقراطية على الزعيم نفسه، فهو الذي ينبغي أن يبرز حقيقته للناس في عمله، ويدلل على نوع زعامته بمسلكه وتصرفاته.
وينبغي ألا ننسى أن الشعوب الديمقراطية العريقة قد تلقت دروسا تاريخية في هذه الناحية، ووجدت العبر المواثل لها في ماضي حياتها، فأضحت بحق تخشى قيام الطغاة والجبابرة، وتشفق من النزعات الاستبدادية التي طالما خلقت من قبل أسرات متحكمة، وأرستقراطيات وراثية، وبغاة مطلقي السلطان.
ومن ثم قد أصبحت هذه الشعوب تطلب - ولها الحق فيما تطلب - من كل زعيم يتولى قيادتها أن يبرر وجوده، ويثبت استحقاقه لمكانه، ويدلل على شفيعه لاحتلال موضعه، بأن يظل أبدا راعيا لحقوق الأمة وسلطتها، ذاكرا حقوق الأفراد وآمالهم، وأمانيهم ومطالبهم، مخلصا لبلاده، متفانيا في وطنه، بعيدا من نزوات الشهوة والمآرب والأغراض.
وليس هذا بناف ما للزعماء من سمو المواهب، ورفعة النفوس، وبعد البصيرة، وأصالة الرأي، وما هو باعتراض على وجود هذه الملكات والصفات فيهم، ولكنه بالعكس يدلل على وجوب توافرها، مثبت لضرورة اجتماعها؛ لأنها هي المعوان لهم على مجانبة الخطأ، والبعد من إغراءات السلطان.
وسوف يظل الزعيم الصادق العظيم الخليق بموضعه هو الفرد الرفيع العلي، المكين في الجماعة؛ بل سوف يظل خير من يتولى القيادة بفضل هذه المواهب وقوة هذه الملكات وجلال هذه الصفات، وإنما العبرة في الطريقة التي يستخدم بها تلك المواهب، والأسلوب الذي يتخذه في إبراز تلك الملكات والغايات والأغراض والمقاصد التي يتوخاها باستغلال تلك الصفات والميزات جميعا، فإن ذلك هو في الحق والواقع امتحان الزعامة ومبتلى فضلها ومقياس شأنها؛ إذ على كيفية الانتفاع بالمقدرة والحذق والمواهب التي تتوافر في الزعيم لخير المجموع وصالح الشعب وفائدة الجماهير، يتوقف مكانه عند الناس، ومحله من النفوس، ونجاح زعامته في البلاد، وتوفيقه إلى ما يصون هذه الزعامة من السوء، ويحفظ لها الموضع ويطيل لها في البقاء.
المارشال بلسودسكي - زعيم بولونيا.
ومن هنا كان من حق الزعامة أن ترتفع بمكانها عن مواضع الصفوف، بل من واجب الصفوف أن تسمو بزعيمها عن مكانها هي ومحلها، وتقيمه في المحل الأرفع، وتقدسه تقديسا، وتمجده كل التمجيد؛ لأنها إنما ترعى فيه رمزها، وتنظر فيه إلى مثلها الأعلى ونبراسها، وتعتبره مجتمع آمالها وأمانيها وصورة فذة مفردة من صور نفوسها، وخوالج مشاعرها، وما يعتمل منها في القلوب والأذهان.
نعم هو إنسان مثلها، وبشري كما هم بشر مثله، ولكن المثل العليا تحتاج إلى هذا التقديس؛ لأنه إنما يتوجه إلى المبادئ التي تتمثل فيه، ويراد به المعنى الجليل الذي يطل منه، وليس في ذلك ريح الوثنية، ولا ظل لمعنى العبودية؛ لأنه ليس عن خوف، ولا هو من رهبة، ولكنه احترام ذاتي، احترام الأمة لكرامتها، وإدراك نفسي عميق لقيمتها، وهو مظهر عزة الناس بأنفسهم، وتقديرهم وإيمانهم بما يعتنقون من مبادئ وتعاليم، وما يبتغونه من مقاصد سامية ونبيل غايات، ومراتب رفعة وكمال.
ومن أكبر الخطر على الزعامة نفسها أن تنزل بأقيستها وأغراضها إلى مستوى الجماعات التي تتولى قيادتها، فإن ذلك ذاهب بجلالها، مضعف لشأنها، مفقد لسلطانها العظيم، وإنما ينبغي للزعيم أن يكون أعرف وأخبر بأتباعه وأنصاره وأشياعه وجماهيره منهم هم بأنفسهم، وأن يكون نظره إليهم وتصوره لهم وعمله ومجهوده من أجلهم مقترنا بالواقع، ملازما الحقيقة، متطلبا الخير، متطلعا إلى التقدم بهم إلى الأمام، فإن مهمة الزعامة أو واجبها الأول هو أن تحمل الناس على الولاء والتفاني في أغراض ومقاصد عظيمة خليقة بهم كأفراد أحرار مسئولين، وجماعة مستقلة تريد أن تحتل بين الشعوب مكانا عليا.
وفي الحق إن الأمم في الاستجابة إلى زعمائها والاستماع إلى أصوات قادتها، إنما تستجيب لما هو أحسن في نفوسها، وتستمع إلى ما هو أنقى وأسمى في أدوارها ومشاعرها وحواسها، وهذا وجه آخر من قولنا إن سريان الشخصية واتساع مدى سلطانها وترامي حدود نفوذها، وهو السريان الذي يساعد الزعيم على إيجاده عند التابعين له والسائرين في أثره، إنما يتلاقى في وقت واحد مع أكبر آمالهم في العيش، وأعز أمانيهم في الحياة؛ بل إن هذه الوحدة التي يجتمع الزعيم مع أنصاره وجماهيره عندها، وحدة الشعور، ووحدة الأماني والآمال والمطالب والدوافع، هي أكبر مبرر لوجود الزعامة، وخير مدلل على وجوبها في النظام الديمقراطي؛ إذ ليست الديمقراطية سوى العلاقة النفسية التي تربط أفراد المجتمع، والصلة الروحية التي تشد بنيانهم العام، والآصرة المعنوية من الرخاء والمساواة في الحقوق، والاشتراك في الجهاد للمثل العليا التي تتطلع المجاميع إلى بلوغها، وليس الزعيم الديمقراطي في الواقع سوى الوسيط أو المعوان الذي يساعد الجماعة على الارتباط بهذه الصلة، والتزام هذه الرابطة، والتضافر على بلوغ تلك الأمثلة.
وهذا هو المراد بما يقال أبدا عند إظهار حسنات الزعامة الديمقراطية وإبراز فضلها والتنويه بخيرها، من أنها هي التي تحدث وقدة النشاط في الجماعة، وتستثير الحمية في النفوس، وتكسب الأمم روح المرح والأمل، وتبعث عاطفة الإيمان واليقين؛ لأنها في الحق، إذا بلغت أشدها وظهرت في رأس الجماعة بخير مراتبها وأحسن درجاتها، أكبر معوان لنا على السمو فوق أنفسنا، وهي لهذا السبب وحده - إن لم يكن لسواه - من أكبر واجباتها لكي تنجح وتعمر في البلاد الديمقراطية أن تعمل في كل ناحية، وتشرف على كل فرع من فروع الحياة، وتوجه الآخرين أحكم توجيه، وترشد الناس جميعا إلى ما ينفعهم. ويرد عليهم أحسن مرد، وهي ليست موكلة كما يظن بالقضايا الخطيرة وحدها، والحركات الكبرى دون سواها؛ وإنما هي - كما قلنا - المشرفة على كل شيء، الباعثة النشاط والسداد والحكمة في كل ناحية، أو هي «الراعي» العام الذي يرتاد للجماعات أطيب مرتاد، ويرعى مرافقها أتم الرعاية ... •••
وأنت قد بدا لك من هذا الذي استرسلنا فيه بسبيل الديمقراطية وموضع الزعامة منها، أن الفرص السوانح للزعامة كثيرة تحت هذا النظام وفي جواره، وأن الخطر الوحيد الذي يخشى على الديمقراطية من ناحية الزعامة هو في فتون السلطان وإغرائه الزعامة بالتناهي فيه، وحب الاستمساك به، والاستحواذ المطلق عليه، ونحن نريد الآن أن نبين لك أن هذا الخطر بالذات قد ظهر في كثير من الديمقراطيات قديما وحديثا على السواء، حتى في أول عهد الإنسانية بالثورات، وإبان استرداد حقوقها الطبيعة من الغشم والمستبدين بالسلطان؛ فقد حشد التاريخ سير زعماء بدءوا مخلصين للجماعات أمناء على حقوق الشعوب، ثم لم تلبث أثرتهم أن طغت على جانب الخير فيهم فبغوا الانفراد بالنفوذ، وراموا الحرص على كل السلطان، وفي سير دانتون ومارات وروبسبيير من زعماء الثورة الفرنسية الكبرى أصدق الصور على هذه الحقيقة الملابسة للديمقراطيات.
دانتون.
مارات.
روبسبيير.
وفي العصر الحديث قد رأينا زعماء مضت خططهم بادي الرأي صالحة لخير المجاميع، ثم ما لبثوا بفعل التخدير الروحي الذي استعانوه على تملك نواصي الجماعات، والأخذ بمقاود الأمم، خلال النشوة المذهلة، والثمل بأحلام المجد والعظمة، وأماني الخير والرخاء، أن انقلبوا مطلقي السلطة، منفردين بالأمر، وإن أبقوا في الديمقراطية على ظل واهن، وتركوا النظام النيابي قائما بهيكله دون جوهره. وقد صبرت الجماعات لهذا التحول الجديد، وارتضت إلى حين هذا الانقلاب الظاهر؛ لأنها ظلت في ثمل بالمجد المنتظر والعلاء المتطلع إليه، والرفعة التي يتحدث لها عنها في لغة من الشعر، وبيان كالسحر، وتصوير يستبي القلوب، ويستحوذ على الوجدان.
وفيما شهدنا من فعال بلسودسكي زعيم بولونيا، وبريمو دي ريفيرا في إسبانيا، وفنزيلوس في اليونان، ومصطفى كمال في تركيا، وهتلر في ألمانيا، وموسوليني في إيطاليا، أدلة ماثلة على الديمقراطيات التي تتعرض للخطر الذي أشرنا إليه، وشواهد نواطق عن احتمال اتجاه الزعامات الديمقراطية إلى ما يسمونه السلطان المطلق للخير، أو الدكتاتوريات الخيرة الحسنة القصد الطيبة المراد.
ولكن هذه الأحداث ليست في الواقع كما قدمنا غير هزات عارضة، وفترات قصار، تمر على الجماعات، فتدعها تستسلم لحرمانها من حقوقها، وتسلم كل السلطات وهي مصدرها، تحت تأثير الحلم الذهبي المصور لها، فإذا لم يتحقق، اقتصت من الذين خدعوها، واستعادت سلطانها المغصوب.
ولقد كان القدر الرحيم متلطفا بنا، راعيا لأمرنا؛ فنشأت عندنا الديمقراطية، قبل أن يتوطد لدينا الاستقلال، وكان خصومنا يظنون أننا سوف ننشغل بها عن طلبه، أو ستشغلنا هي بأنفسنا، وتبذر بذور الشقاق والفرقة بيننا، فلا ننصرف إلى استكمال استقلالنا؛ فأطلقوا لنا أولا المشيئة في إقامة الديمقراطية ونظامها، وافتتاح الحياة النيابية ومطالبها، فوضعنا دستورا وأنشأنا برلمانا، ثم وقف خصومنا عن كثب يشاهدون ماذا ترى نحن صانعون ...؟!
ولكن الدستور الذي أريد به أن يكون أذى وبلاء انقلب خيرا ووفاء، بل إن الدستور الذي قصد به أن يروح أداة تفريق، لم يلبث أن استحال أداة توحيد ووسيلة إجماع، ومظهر تكاتف وتضافر والتئام؛ لأنه جاء فغربل الجماعة، ونخل الحياة، ونفى ما لا خير فيه، وأبقى على الخير الصالح وأبرز الطيب الماكث في الأرض، وجعل الزبد جفاء.
كذلك وقتنا الديمقراطية من بداية أمرنا؛ فاستروحنا إليها، وحذقنا في وقت قصير مطالبها ومقتضياتها، وصنا بها إجماعنا، وحفظنا بفضلها كثرتنا؛ فلم يلبث القدر الرحيم مرة أخرى أن أراد أن يزيدنا بها استمساكا، وينمي في نفوسنا قوة الحرص عليها، فجعل خصومنا غضابا منها، مؤتمرين بين حين وآخر بها، حتى لقد راحوا يعطلون أداتها، ويغرون أعوانهم بسحبها وحرمان البلاد منها، فاشتدت اللهفة مع الحرمان، وازداد بفضلها اليقين والإيمان، وتوالت فترات الجهاد والكفاح لاستردادها، فكان انتصار الديمقراطية في كل مرة ملهما بأن النظام الديمقراطي هو أصلح النظم، ما دام هو المستهدف أبدا لأعنف العدوان.
وقد نشأت الزعامة عندنا في وسط الثورة، فكانت بطبيعة الموقف من النشأة زعامة تستند إلى المشيئة العامة، وتعبر عن إرادة الأمة؛ بل وقاها سلطانها الروحي الغامر الشامل في الجماعة من فتون السلطان المادي في الحكم والأمر والنهي وطلب الطاعة، إذ كانت خارج الحكم المستغنية عنه، المعتزة بمكانها دونه، ثم إذ جاءت الديمقراطية وحل عهدها، أكسبها الحق في الحكم فهي تشدد فيه؛ لأنه حقها، ولا يمكن أن تتركه لغيرها، فيتولاها بلا حق فيه، ومن يغتصب حقا فهو المسيء حتى وإن ابتغى به الإحسان ...
ومن ثم جربت البلاد الطغيان ليكون درسا لمعناه وخبرة بوجوهه وامتحانا بمواده، وليظل النظام الدستوري الديمقراطي هو الموئل الأوحد من شره، والملاذ الأكبر المستعاذ به من سوئه وأذاه.
وهكذا خدمت الديمقراطية الزعامة فينا، وصانت بالدستور - وهو أداتها الأولى - إجماعنا، فكان الوفد المصري مع زعامته الأولى صاحب الفضل في إنقاذ الديمقراطية من خصومها المتكاثرين.
وقد أثبتت الحوادث بعد ذلك أن الديمقراطية هي التي أنقذت الاستقلال أيضا وهيأت له، وأعانت على الظفر به، وبذلك اكتسبت الزعامة الثانية - أو زعامة مصطفى النحاس - قوتين مجتمعتين: القوة التي تستمدها من الديمقراطية، والقوة التي تستعين بها من الاستقلال، بل بهذا وحده انتفى الخطر الذي تتعرض الجماعات له، وقامت زعامتنا على أوطد أساس، ونهضت فوق أقوى القواعد لأعز مكان.
لا خوف إذن علينا في عهدنا الجديد من النزوع إلى التفرد، ولا خشية من الجنوح إلى الاستئثار؛ لأن نظامنا النيابي هو بالنسبة لنا ساحل الأمان وصخرة النجاة.
المرأة والزعامة
لو أردنا أن نستوفي الحديث في هذا الكتاب عن المرأة في ميدان الزعامة، وساحات التفوق والنبوغ، وأقطار السيادة والنفوذ والسلطان، وفي مختلف نواحي الحياة التي اشتركت فيها مع الرجل ونافسته وتلاقت فيها معه أو زاحمته فقهرته - لامتد بنا نفس الكلام، وخرج السياق الذي ينتظم البحث من حدوده التي أردناها، كتوطئة كاملة للمراد الجليل الذي توخيناه، وتمهيد واف للدراسة التي قصدنا إليها، إلى مدى وسيع لم تكن نيتنا الضرب فيه، وأفق بعيد من موضوعنا الذي نعالجه.
ولكن حسبنا منه لمعا خاطفة، ومرا سريعا، من أقصر طريق.
لقد استطاعت المرأة عبر الأجيال الماضية وأدوار التاريخ المتلاحقة أن تشارك الرجل في أخشن مظاهر الحياة، وتساهم معه في ميادين البطولة والشجاعة والإقدام، وتبرز أعجب الجلد بجانبه على احتمال أعنف البلاء وأقسى الآلام، فقديما كان النساء في الإغريق يشتركن في المعارك محاربات، وكانت لهن في ذلك جولات وصولات، والحديث عن المرأة «الأمازون»؛ أي المحاربة، مدون في أساطير الأولين.
وقد كانت المرأة العربية في عصور الجاهلية والإسلام تخرج مع الرجال لحضور المعارك والملاحم تشجيعا للفوارس والأبطال، يملأن الفضاء بالنشيد، ويهتفن بالأهازيج، ويلهبن النفوس حماسة، ويضرمن الحمية في الأرواح.
ولقد قهرت «تاميريز» ملكة الحيثيين الملك سيروس ونكلت بجيشه الضخم وجحفله الجرار، كما ظهرت «سميراميس» ملكة بابل، واشتهرت بالبطولة ومطلق السلطان.
ولا يزال اسم «جان دارك» أو فتاة أورليانس، التي ألهمت الخروج من خدرها لإنقاذ فرنسا من أعدائها الإنكليز الذين اكتسحوا أرضها وأغاروا على ذمارها، علما على الشجاعة المتناهية التي يحيط بها الرهب والجلال، وتبدو من فرط جلالها سرا من الأسرار.
وقد جندلت «خولة» العربية فرسان الروم في حرب فتح الشام على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وكانت شجاعتها مضرب الأمثال، كما طعنت المجاهدة الشجاع «شارلوت كورداي» الذباح المشهور في الثورة الفرنسية «مارات»، وراحت تتلقى الموت بعد ثأرها لقومها بابتسام، وسخرت «ماتاهاري» الجاسوسة المشهورة النادرة البسالة في الحرب العظمى من الحلفاء، ومكرت بهم أعجب المكر، حتى لقيت الموت رميا بالرصاص.
جان دارك.
وفي عصرنا هذا اشتركت نساء الصين في الحرب الوطنية الأخيرة منضويات تحت لواء الزعيم «سن يات سن» محاربات مع الجيش الجنوبي حتى استولين على ما يقرب من ثلثي الصين؛ كما استمات النساء في الثورة التي نشبت في جمهورية «نيكارجوا »، ونهضن في إثر زعيمتهن «ناتالي جراسيا»، وقد ذهبت هذه في الحرب مستشهدة.
وما نسي أحد كيف راحت البلجيكيات الباسلات يدافعن عن بلادهن، ويصمدن مع الرجال لصد جيوش الألمان عن أرضهن غير منزويات من وابل النيران ومدرار الرصاص يحصدهن حصدا.
وقد كان بروز المرأة بهذه الشجاعة في مواطن القتال حافزا بعض الدول إلى استخدام النساء في الجيوش كمحاربات، فضلا عن أعمالهن في الإسعاف والتمريض، وكان أسبق الدول إلى ذلك فنلندا، وهي الجمهورية التي انسلخت أخيرا من الروسيا، فقد جيشت كتائب من النساء المقاتلات، وجهزتهن بأحدث أدوات الحرب ومعداتها، وكذلك بولونيا والصين واليابان وروسيا السوفيتية.
الطيارة الجريئة إيمي جونسون المعروفة اليوم بمسز موليسون.
وقد نبغ النساء أيضا في أكثر الميادين التي ظهرت فيها مغامرات الرجال وألوان بطولاتهم وضروب جسارتهم وجزافهم بالحياة، فاليوم ما أكثر النوابغ والبطلات في فنون الطيران والسباحة وألعاب القوى في سائر الممالك والأقطار، ومن ذا الذي لا يعجب للمغامرة الأولى «إرهارت» الطيارة الأمريكية المقدام التي اجتازت المحيط الأطلسي على متن الفضاء شاقة طريقها وسط العواصف والكسف وكثائف السحاب، والطيارة الإنجليزية إيمي جونسون التي انتزعت يوما من زوجها الطيار الكبير موليسون بطولة الطيران الطويل المدى من لندن إلى الكاب، والطيارة النيوزيلندية «جين باتن»، التي طارت من إنجلترا إلى أوستراليا عدة مرات، وكانت الناجحة الموفقة الظاهرة على سائر النابغين في الطيران والنابغات؟!
ومنذ عدة القرون والأجيال اشتغلت المرأة بالسياسة وتدبير الملك وحمل الصولجان، واقتعدت العروش ولبست التيجان؛ فأبدت من المهارة والدهاء والبراعة والنبوغ ما لا يزال ذكره مستفيضا في التاريخ.
ومن هؤلاء الملكة اليصابات التي جلست على عرش إنجلترا في القرن السادس عشر، وأدارت الملك أحسن الإدارة، ورفعت في عهدها لواء الأدب، ومكنت لبلادها من سيادة البحار، ومن قبل نبغت كليوباطرة في مصر، وبلقيس في مملكة سبأ، كما نبغت في الأجيال الحديثة «فيكتوريا»، وكان عصرها في إنجلترا أزهر العصور.
وقد ظهرت المرأة أيضا في مضمار الأدب والعلم، وآفاق الفكر والعمل المنتج، وعالم الاختراع والابتكار، ومن النساء اللاتي نبغن في هذه النواحي «فلورنس نايتنجيل» التي أوحت بالفكرة الإنسانية السامية الجليلة، وهي إنشاء جمعية الصليب الأحمر، ومدام دي ستايل الكاتبة الفرنسية الخالدة التي حملت على نابليون وهاجمته، ونكرت بطولته، و«جورج ساند» التي أحبت الشاعر الفرنسي البديع «الفرد دي موسيه»، واشتهرت بقصصها الممتع الفاتن، وكاترين منسفيلد الأديبة النيوزيلندية صاحبة القصص الرائعة الفياضة بالفن والإعجاز في تصوير الشخصيات ورسم ألوان الحياة، والتي قضت بالسل من بضعة أعوام، ومسز برواننج الشاعرة الإنكليزية المبرزة في العصر الحديث، ومسز رينهارت الكاتبة الأمريكية المشهورة، وأرسالا بروم الأديبة الإنكليزية المحدثة، والسيدة إيني بيزانت زعيمة المذهب الصوفي في أدايار بقرب مدراس في الهند، وهي امرأة أرلندية الأصل، اختارت الهند موطنا لها، فبلدت بمدراس ورأست المذهب الصوفي، ويوم نعيت إلى غاندي صديقها الحميم الذي تأثر كثيرا بتعاليمها، قال في رثائها: «إن لها فضلا علينا لن ينساه الشعب الهندي آخر الحياة.» وقد قضت أخيرا وهي في الخامسة والثمانين، وكانت جنازتها حفلا رهيبا مشهودا في الهند.
السيدة إيني بيزانت.
وقد استفاض تاريخ الأدب العربي بسير مشهورات النساء في الشعر والنثر وجملة الفنون.
وفي ميدان العلم نجد عشرات من المبرزات، وحسبنا أن نذكر فضل مدام كوري كاشفة مادة «الراديوم» التي غيرت وجه العلم الحديث.
وفي السياسة ظهرت المرأة أيضا وتألق نجمها، وتجلت براعتها، وبدا حذقها، حتى أصبحت تجلس اليوم في البرلمان الألماني والبريطاني والأسوجي والشيكوسلوفاكي نائبة عن الشعب، وثم امرأة كانت تحكم ولاية «تكساس» في أمريكا، وأخرى كانت وزيرة في فنلندا، ومس بونفيلد التي كانت وزيرة للعمل في وزارة العمال البريطانية الماضية، والسيدة خالدة أديب التي كانت وزيرة للمعارف في تركيا، والسيدة كوربت أشبي زعيمة الحركة النسوية في إنجلترا ورئيسة الاتحاد الدولي للحرية والسلام، والتي عينتها حكومتها عضوا في المؤتمر البريطاني في مؤتمر خفض السلاح، والسيدة «ساروجيني نايدو» الزعيمة الهندية والشاعرة الوطنية المشهورة، والعضو في المؤتمر الوطني الهندي الأعلى، والتي سجنت في الثورة أربعة أشهر أو تزيد، ولكن أفرج عنها وأطلق سراحها وكان الحكم عليها بالسجن سنة كاملة، وقد اشتغلت المرأة بالسفارة ومناصب السلك السياسي والتمثيل الخارجي.
وإذا كانت المرأة قد أدركت شأو الزعامة في مختلف وجوهها، ومترامي نواحيها، كما رأيت فيمن أسلفنا ذكرهن، فإن للمرأة فضلا عظيما على الدنيا، وحسنات جلى على الإنسانية، إذ هي التي أنشأت الزعامة أما، ورعتها والدة، وأعانتها زوجا، ورفهت عنها كشريكة في الحياة.
مس بونفيلد - وزيرة سابقة في بريطانيا.
وقد قدمنا لك في الفصول الأولى من هذا الكتاب أمثلة من الزعماء وكبار الهداة في العالم وسادة العلماء وأهل الاختراع الذين كان لأمهاتهم أو جداتهم أو قريباتهم أو أزواجهم فضل كبير في بروز نجومهم، واشتهار أمرهم، والنجاح العظيم الذي بلغوه.
ألا إن المرأة في هذه الناحية هي الخلاقة للزعامات، المنجبة للنبوغ، الشريكة المساهمة في تهيئة الظروف والعوامل الصالحة لبروز الملكات وإظهار كوامن المزايا والاستعدادات، حتى ليكاد تاريخ العالم يلوح كأنه تاريخ الأمهات؛ لأنهن اللاتي يهدين إلى العالم أفذاذ الرجال، ومصابيح الهدى، وأعلام الفضل والعظمة والنبوغ.
وفي سير هؤلاء أو أكثرهم يبدو أثر الأم الرءوم المتعهدة المنشئة، فهي التي كان لها الفضل في ظهور رجال كبار، وعظماء مثل كرومويل، وإبراهام لنكولن، وتوماس إديسون، وأوليفر لودج، والجنرال بوث، وهو القائل: «كنت في حداثة سني أشكو أحيانا إلى أمي من ثوبي المهلهل ومظهري الرثيث، وخوفي من إثارة السخرية مني في نفوس رفقائي ولداتي في المدرسة، فكنت أقول لها: أخشى أن يظنوا أننا فقراء، فكانت تجيبني قائلة: ولماذا تريدهم أن يظنوا غير هذا؟! إننا حقا فقراء ... وإني والله لمدين بالكثير من نجاحي في الحياة لذلك الحب المطلق للحقيقة، وذلك التمجيد السامي لها، وكان ذلك أظهر صفاتها وأبرز خلالها، لقد كانت أمي مثالا عاليا للتضحية وإنكار الذات!»
وينبغي ألا ننسى فضل النساء كزوجات، فكم في التاريخ من سير سيدات فضليات أعن أزواجهن في الحياة على البروز، وحفزنهم إلى السبق والنباغة وكن كواكب سعود لهم، ونجوم هدى في مضربهم في الصحراء، وذهابهم في التيه، واقتحامهم لأشد المكاره، وتخطيهم لأقسى العقبات، بل لقد كن لهم بمثابة الواحات النضر الفيحاء يرقدون تحت ظلالها الوارفة إذا مسهم اللغوب ، ويفزعون إلى مائها الصادر إذا أحرقهم الظمأ، ويلتمسون عندها الراحة واستعادة النشاط والاستجمام.
وإذا ذكرنا جوزفين وما كان لها من الفضل على نابليون، واليمن الذي بارك حياته، وكوكب السعد الذي كان ملازمه، حتى إذا ذهب عنه تخلى الحظ عنه؛ وإذا نوهنا بالسيدة «أنيتا غاريبالدي» التي شاركت زوجها قائد الحركة الوطنية في إيطاليا، وأحد مؤسسي وحدتها الحديثة، وشاطرته جهاده في سبيل بلاده، وأسهمت معه في الحروب والمعارك للدفاع عن أمته ووطنه، حتى لقيت حتفها في بعض تلك الحروب، وإذا أشدنا بفضل زوجة «غاندي»، وما احتملت بجانبه من آلام، وما قاسته في الحركة الوطنية من سجن ومعتقل ومطاردة ومختلف ألوان الظلم والعدوان، وما كابدت من مشاق وقسوة تكاليف، وكيف ظلت أبدا بجانبه ترعاه وتعنى به، وتعاني الشظف احتراما لمبادئه، فإنا - ولا ريب - ذاكرون ما وقع لنا نحن بسبيل ذلك في نهضتنا الوطنية وثورتنا الرهيبة لاسترداد حقوقنا في الحرية والاستقلال.
مدام كوري العالمة في ثياب الدكتوراه.
ولا شك في أن التاريخ الوطني لهذه البلاد سيفرد صفحات نواصع للسيدة الجليلة، والعقيلة الطاهرة، والوطنية الباهرة، والمجاهدة العظيمة، أم المصريين، وشريكة سعد، السيدة صفية زغلول، فقد حملت العلم في صدر جنسها، وأفاضت على الثورة من جلال نفسها، ومفعم وجدانها وحسها، وآثرت على نعومة الحياة خشونة جهادها، وأشبعت الأمومة من حنانها على شباب بلادها، كأنهم بعض فلذات كبدها، حتى استحقت مع الفخار هذا اللقب العظيم ... «أم المصريين».
الشاعرة الوطنية الهندية الكبيرة السيدة ساروجيني نايدو.
لقد جاء سعد زغلول مختارا من الطبيعة لأسمى المعاني في الحياة الإنسانية، وظهر عند اشتداد الظلمات ظهور الكوكب الساطع والنجم الثاقب في فحمة الليل، وبرزت هذه السيدة من خدرها في أثره كالزهرة السنية، يشعان على المجتمع سويا، هو من لدن العناية الإلهية مختارا، وهي من القدر الرحيم «صفية»، وهما معا رسولا الجهاد ورمزا الحرية، اقترنا في خطة القدر ليكونا معا لمصر؛ فكان له منها الحليف في الشداد، والمعوان على الجهاد، وكان له منها فخار الأزواج، أنساها الذراري، وأغناها عن الولدان والبنين.
كان سعد المسافر في الصحراء، وكانت صفية على طريقه وفي وعثاء سفره الواحة الخضراء؛ كلما أجهده المسير وأتعبه الإدلاج والإسراء، عطف على الجنة الفيحاء ليستريح تحت الظلال، ويعب عندها ويعل من العذب الزلال، ويستجم للسفرة التالية، ويتزود للشقة القصية، ويمتار للمرحلة النائية، ويجد عندها خير ما يجدي على الرحل والمسافرين.
كاستوريا غاندي - زوجة الزعيم غاندي.
وفي الحق ما أحوج الرجل العظيم إلى المرأة العظيمة، فهي بلسم جراحه من سهام الأعداء، وسلواه الآسية في الوعكة والداء، وعزاؤه إذا شح أو عز عليه العزاء! ويوم تجيء السيدة العظيمة للرجل العظيم نعمة من السماء؛ يركب الطريق إلى النجاح، ولا يبالي أن يعود من المعارك مثخنا بالجراح؛ لأن هناك روحا بجانبه تمسح عن نفسه، وتفيض على إحساسه، بل إن هناك لعاطفة متلاشية فيه، وشخصية يحتويها وتحتويه، وفهما سريعا يفطن إلى معانيه، وحبا يغمره، وبرا يشمله، ووفاء يغذيه، ونصيرا غالبا حافزا أبدا إذا احتاج إلى النصير.
وفي تاريخ العظمة والنبوغ والزعامة رجال هوت بهم نساؤهم، ورجال كانت نساؤهم كواكب سعودهم، وكان نصيب سعد هذا النجم السائر بسعده، والكوكب الهادي إلى مجده، والقرين الحافز إلى مضاعفة جهده، وكأنهما على موعد من الأقدار تلاقيا، ووحي من السماء تدانيا؛ ليكون هو عميد أسرة من الملايين، ولتكون هي فيهم الأم الرءوف الحنون، وهما نعم الوالدان لشعب من البررة الأبناء المخلصين.
وكذلك هيأ القدر الحارس لسعد الزعيم القرينة الصالحة لمثله، والزوج الخليقة به، والشريكة المعوان له، إن طلب الصبر عندها وجده، وإن اقتحم المخاطر، لم تمنعه ولم تصده، شجاعتها كشجاعته، ووطنيتها من وطنيته، وبسالتها قرينة بسالته، وفطنتها شعاع سني يجاوب تيار فطنته، ومواهبها جميعا عند مشيئته، وهي زوجه وابنته وصديقه وشريكته، وهو عندها الزوج والوالد والصديق والشريك والولي الأمين ...
وقد خاضت هذه السيدة الفاضلة مع سعد مكاره وخطوبا، واحتملت الآلام معه حضورا ومنأى وغيابا، حتى أكرهت خصوم زوجها على احترامها، وأخبرتهم بشهامتها، وقوة صبرها، وعزتها وإبائها، على أن ينظروا إليها بعين الإجلال والتقدير.
وأشد ما تكون أم المصريين بروزا في الطليعة، واستباقا في صدر الجماعة، واجتماع بسالة وصبر وشجاعة، في عهود المحن العامة، وفترات الحكومات الغاشمة، والشدائد الكارثة الطامة، فإن أولئك جميعا أكبر مجال لوطنيتها، وأفسح الميادين لصولة حميتها، وظهور عظمتها وبسالتها، وإنها لتتقدم إلى المخاطر وتتجلى في المكاره، وتصمد للشدائد والعواصف، وإنها لتحنو على الضعفاء في المحن، وتأسو جراح المنكوبين ساخرة من الحتوف، هازئة بالمصاعب، مستخفة بالمشاق، لا تبالي مقاومة، ولا تعبأ مناواة، ولا تعرف الرجوع إذا ما أهاب بها الوطن أن تقدمي، ولا تحفل أساليب الغاشمين.
وقد احتملت في العهود الغابرة نصيبها الكبير من مساويها، وشطرها من مناكرها، وأرصدت الأشراط على دارها، وأقيمت القوات في طريق مسيرها، فلم يصدها ما منعت السياسة الغاشمة عن عمل وطني تؤديه، وإقدام رائع تبديه، وعزاء مرفه للجرحى تقدمه، وبر بالأرامل والأيامى والمعوزين تزجيه، وإحسان تقوم به في مقدمة المحسنين.
ومنذ رحل سعد إلى جوار الله، وهي كما علمت مصر وعرف العالم كله السيدة الراجحة الرأي، الكبيرة الفؤاد، المعروفة بالأصالة والسداد، أخذت من العلم بأوفى الأنصبة، واشتركت في النهضة بالنبوغ والموهبة، وأسهمت في الجهاد مع خليفة سعد ومتمم رسالته وصاحب بيعته، ورجحت بعشرات الألوف من الرجال، وأظهرت في الملمات شجاعة الأبطال، وكانت أبدا حربا على الظلام والمتجبرين.
ولا يزال فضلها بارزا على الحركة الوطنية بما ظلت على السنين تبثه في النفوس من روح الإيمان، وتتعهد به النهضة من المثل العالية، والوطنية السامية، وما تمحضه الزعامة من حكيم الرأي، وصادق الفكرة، وسديد الإلهام، ومتواصل التأييد.
واليوم في ثوب هذه السيدة الجليلة ذكريات سعد كلها، ورائحة سعد بأنفاس عطرها، وعظمة سعد بروعتها وجلالها، وأفق سعد الذي كان يعيش فيه، وملاذه الذي كان يحتويه، فلا عجب إذا كان المصريون جميعا لشخصها مكبرين، ولمكانتها العالية حافظين، ولا غرو إذا أكبروها مرتين، مرة في سعد لها، ومرة في ذاتها لفضلها، واجتمعوا على الولاء لها شيوخا وشبابا وعذارى وبنين.
وأمام هذه السيدة العظيمة تقف الإنسانية وقفة الاحترام؛ لأنها مثال رفيع لنبالة المرأة، ووطنية المجاهدة، وشجاعة السيدة، وسمو عاطفة الوفاء، وحنان غريزة النساء، ومعنى جديد في الشرف، وظاهرة جليلة في حياة المجاهدين. •••
وقد بينا لك في صدر هذا البحث أن حشد أسماء النساء اللاتي نجحن في العالم كزعيمات غير ميسور؛ لأنه يروح مستطيلا خارجا بالكتاب عن حدوده، وهنا نقول إنه ما من شك في أن عددهن مقدور له بالطبع أن يزيد ويترامى كلما تعددت الظروف المهيئة التي تعين النساء على أن يتساوين، أو يفقن الرجال في الزعامة والصدارة والسلطان، وهذه الظروف والعوامل - بلا ريب - ستزداد مع تطور الحياة الحديثة وعلى مر السنين.
حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة أم المصريين.
ولا خفاء في أن ما قدمناه في فصول الكتاب بسبيل الزعامة وأسرارها وصفاتها وشروطها، ينطبق على النساء كذلك في موضع الزعامة، وإنما يختلف الفريقان، المرأة والرجل في هذا الموضع، من حيث الأخطار التي يتعرض لها كل منهما، فإن مساوي الزعامة وأخطارها بالنسبة للمرأة أكثر عددا، وأدق صفة، وأعمق غورا، وأفعل نتائج ومعقبات.
ومما يلاحظ غالبا في زعامة النساء أن الزعيمة تجد من النساء أنفسهن انتقادا أكثر مما يوجه إليها من قبل الرجال، فهي من ثم مطالبة بأن تؤدي عملا أخطر وأفضل مما يؤديه الرجل لو أنه في نفس الموضع، بل هي مقتضى منها أن يكون تفوقها غير منازع فيه، وسمو نفسها فوق كل شك أو مظنة، وإخلاصها لا يرقى إليه أقل اتهام أو أدنى ارتياب، ولعل سر الانتقاد القاسي المرير الذي ينبعث من جهة النساء نحو المرأة الزعيمة هو أن النساء قد ألفن من قديم الزمان أن يشهدن الرجال مديرين، ويرين الرياسة لهم، والزعامة أبدا فيهم؛ ومن ثم إذا وقع ذلك لإحداهن، قام في أخلادهن النزوع إلى الموازنة على ضوء زعامة الرجال في بحث زعامة المرأة، فرحن يقتضين منها الخلو المطلق من العيوب في غير تسامح ولا تساهل، ومضين يتعقبن الهنات واللمم وأتفه العيوب.
ومما يعاب على زعامة المرأة أن النساء في هذا الموضع يجنحن إلى الاشتطاط في الرقابة على الذين من دونهن، والغلو في التدقيق، والمبالغة في الملاحظة، إلى حد التجسس والتفقد المتسلل في الخفاء، وهو - بلا ريب - عيب عام فيهن، وأكبر مظهر له وأغلب عارض من أعراضه ما يشاهد في البيوت من السيدات ومسلكهن مع الخدم، ولعل ذلك الجنوح هو الذي يفسد على الأتباع عملهم ويعطل ملكاتهم، لما فيه من الاحتجاز والتضييق على الحرية، ومنع التابع من استخدام مواهبه في مدى فسيح ومضطرب واسع النطاق.
السيدة كوربيت آشي: زعيمة الحركة النسوية في إنجلترا، ورئيسة الاتحاد النسوي الدولي.
ويؤخذ على زعامة المرأة أيضا أنها تنزع إلى الشك في مقدرة النساء من أشياعها، والعاملين تحت إمرتها، ذاهبة إلى أنها تعرف بنات جنسها حق المعرفة، وليس من ريب في أن هذا النزوع لا يتفق والزعامة المتوخية لنفسها النجاح، باجتذاب النفوس إليها واستمالة القلوب والأرواح؛ فإن الثقة بالغير تقتضي غير هذا النزوع المتشكك، وتستوجب الشعور بأن الولاء يمكن اكتسابه، والإخلاص الصحيح ميسور لمن يطلبه، بأمثل وسائله وأصلح أساليبه، ولا خفاء في أن الميل إلى الانتقاص من أقدار الناس بسبب علل وبواعث ودوافع ملازمة حتما لطباعهم وغرائزهم وبشريتهم هو نقص في الزعامة، وعيب ينبغي للزعامة العاقلة الحكيمة أن تحاول جهدها اجتنابه؛ لأن الحكمة في رياضة الطبائع لا في مقاومتها، وفي استمالة الطبيعة البشرية بإدراك حقائقها، والنظر إليها من نواحي محاسنها ومساويها بالسواء لا في تجاهل المساوئ ومطالبة الطبيعة بما ليس في الإمكان.
ومن المقرر أن في النساء مزايا هي عادة أبين وأظهر منها في الرجال، كما أن في هؤلاء مزايا لا تظهر على كثرة في النساء، وإن اجتماع العزم المتحمس النشيط الصادق الانبعاث إلى الغاية المنشودة بالحرارة والشعور نحو الجماعة والرغبة في التضافر معها لإقامة وحدة مجهود واتجاه، هو عنوان الزعامة الصالحة الرشيدة، واجتماع هذه الصفات قد يتوافر في المرأة كما يتوافر في الرجل، وإن اختلفت النسبة وتباين المقدار.
ومن هنا كان نزوع النساء اللاتي يتولين الرياسات والزعامات في محيطهن نحو تقليد الرجال واحتذائهم والتشبه بهم في السياسة والمسلك والطريقة والأسلوب والمنهاج، مفسدا لطباعهن، متلفا لخواصهن، محدثا أسوأ النتائج.
وإنما كل المطلوب من المرأة هو المحافظة على جوهر نسويتها، حتى تكون المرأة الزعيمة هي أبلغ النساء أنوثة، وأصدقهن حرصا على جنسها وطبيعتها؛ فلا تقلد نماذج لا تتفق وذوقها وميولها الطبيعية، بل ينبغي لها أن تتابع دوافعها، وإملاء شعورها، حتى تكتسب إخلاص جمهورها أو أشياعها وأنصارها بالعاطفة والحماسة والمودة وحاسة الولاء.
وقد أثبت التاريخ أن أرقى النساء الزعيمات وأرفعهن زعامة وأكبرهن سلطانا هن اللاتي «بقين أنفسهن» طيلة الحياة؛ أي لزمن حقيقة طباعهن، ولم يتكلفن ضد نزوعهن وفطرتهن، بل هن اللاتي ظللن فخورات بنسويتهن غير مزورات على الناس ولا مزيفات.
الزعامة في الشرق
ظهور غاندي
كان الشرق مهد الحضارات، ومعلم الدنيا فيما غبر من الأجيال، بينما كان الغرب يعيش على البداوة، وتسوده الهمجية، وتغمره الجهالة، وتتعاقب عليه القرون المظلمة، وقد ظل أمر الشرق في سمو وصعدة حتى أوفى على الغاية، ثم مضى يكر راجعا، ويهبط منحدرا؛ على حين بدأ الغرب يستيقظ، وراح يفيق من هجعته ويستوي على سياقه، ويتحرك ويمشي، ثم يثب ويطفر، فدارت بذلك دائرة السوء على الشرق وأهله، وتقدم الغرب يرقى ويسمو صعدا، وتزدحم بشعوبه أرضه وأقطاره، وذهب يلتمس آفاقا جديدة، ويرتاد لمنازله ومعايشه، وينتجع لمتنفس زحمته، والتخفيف من ضغط سكانه، فبدأ تاريخ الاستعمار من ذلك الحين، وهو تاريخ حفل بكثير من مشاهد الوحشية والمجازر الدامية والفواجع المتناهية؛ وما نعرف في ذلك التاريخ فتوحا ولا غارات ولا منزل دولة غربية ببلد من البلاد، خلت من هذه الحوادث البشعة، ومخاض الدماء الجارية، والاستعانة بكل وسائل الهمجية والعدوان.
ولعل القرن التاسع عشر كان بين القرون الأخيرة أحفلها بنشاط الاستعمار، فإن الدول العظمى راحت تتقاسم خلاله خريطة الدنيا جملة، على نسب متفقة مع شأن كل منها وقوته وسلطانه؛ فسقطت بذلك أمم كثيرة في أيدي المستعمرين ووقعت فريسات للمطامع، ونهبا مقسما بين الدول المستعمرة، وكانت الدولة المغيرة تجد في ذلك متعة الظفر بأمم كبار، ومتعة المجد بالغلبة على حضارات قديمة، والسيادة فوق شعوب ذات عظمة ماضية وتاريخ مجيد.
وكانت بريطانيا العظمى المتفوقة على دول الغرب جميعا في حصصها من الغنائم ، وأنصبتها من التقسيم، ومكاسبها من الاستعمار؛ إذ أتيح لها في ظروف عجيبة، وبمدخل غريب، وأساليب تجارية داهية، أن تستولي على الهند في آسيا الشرقية، وهي أكبر من بلادها بأضعاف متعددة، ولها في الحضارة القديمة مكان بارز، وموضع رفيع، ومجد تليد، وكان عمل الكشاف الأكبر روبرت كلايف وحيلته العجب في التمكين لسلطان بلاده في أرض الهند، نهاية في براعة العبقرية الاستعمارية وحذق المغيرين، وافتنان الساسة في ناحية الوطنية المهاجمة المعتدية المستعلية.
روبرت كلايف.
ولكن الوطنية المدافعة - وطنية الشعب المغلوب على أمره - لم تمت تحت وطأة الوحشية الاستعمارية، وإنما ونت يومئذ وانزوت لكي تجد مسارب لها خافية، ومنافس لها متوارية، ومكامن لها في أعماق النفوس وأغوار الجوانح والقلوب.
ومهما يفعل الظلم وتحدث وطأة المستعمر، فإن الوطنية في الحق لا تموت، وإن لاحت يوما متراخية، أو ظن أنها قد أسلمت أنفاسها وسكنت نأمتها؛ لأنها إنما تسكن حينا على الألم، وتكمن حينا على المضض، وتختفي دهرا ما لتحتقن وتنحبس، ثم تنفجر في الساعة المعلومة وتنبجس، وتقذف من جوفها الحمم المدمرة فعل البراكين. •••
كذلك ظلت الهند إلى نهاية القرن الماضي تحت نير الاستعمار البريطاني صبورة محتملة، ساكنة على الأذى، مقيمة على الضر؛ بينما كانت الأقدار تهيئ لها الظروف الصالحة لظهور الزعيم المناسب لها، والقائد الوطني الذي يلائم حياتها ويتفق وبيئتها ومحيطها، بل لقد احتاج الأمر إلى فترة من الدهر يقضيها ذلك الفرد الذي ارتضته الطبيعة لزعامتها خارج حدودها، للمرانة على القيادة، والتدرب على الجهاد، والاستعداد للموعد المعلوم والأمر المنتظر؛ فهيأت له موضعا خارج الهند يتدرب فيه ويتجهز، وينغمس - بادي الرأي - في الحضارة الغربية ليعرفها معرفة المجرب، ويمتزج بالمدنية الإنكليزية ليعاينها معاينة الخبير المحنك، حتى إذا استكمل علمه بها، واستتم تدربه للدور الخطير الذي أعد له، ويبتلى بالظلم ذاته الذي أرسلته العناية الإلهية لمحاربته حتى يمتحنه في نفسه، ويشهده بخبرته وحسه، أطلعته فجأة في ساحة الجهاد ليؤدي رسالته إلى وطنه، ويستحوذ على إعجاب الدنيا كافة بأمره العجب وخليقته المستغربة، ودينه الجديد ...!
وهكذا ظهر غاندي - الذي عرفناه - ذو العينين السوداوين الناعمتين النجلاوين البارزتين في وجهه الناحل الصغير، وبدنه الهش الدقيق، ليس عليه غير لفافة من قماش خشن تستره وهو فيها أشبه شيء بالعراة الحفاة الضاربين في قلب المجاهل والبيد، هكذا ظهر غاندي الناسك المتبتل المتقشف الذي يأكل الأرز والفاكهة، ويشرب الماء واللبن، وينام على الأرض، وهو قليل النوم، كثير العمل والدأب، كأن ليس لبدنه حق ولا حساب عليه؛ بل هكذا ظهر غاندي الذي شهدناه يكاد يروح أشبه شيء بطفل في سذاجته وبساطته، وبراءة نفسه وطهارة شعوره، بل غاندي الوديع الرقيق الحاشية حتى في معاملة خصومه، الفاتن الشخصية، كما قال جوزف دوك أحد الذين صادقوه ولازموه من الإنكليز، حتى ليستحيل ألد أعدائه مؤدبين حياله من فرط أدبه وسحر جاذبيته، غاندي الصادق الحريص على إخلاصه وصدق فطرته، حتى إن أي تجانف عن الحق - كما قال صديقه الآخر اندروز - لا يجد قبولا لديه بتاتا، وإن كان تافها لا قيمة له.
مهاتما غاندي.
هكذا ظهر غاندي المتواضع الحيي غير المتكلف، حتى ليكاد يبدو أحيانا المتهيب المتردد، وإن أحسست أنت منه النفس الأبية التي لا تقهر ولا تذل، الشجاع الصريح لا يعرف تراخيا ولا مساومة ولا مكابرة في الباطل، أو مداجاة في الخطأ، ولا يعرف النزعات «الدبلوماسية»، بل ينكرها ويمقتها، ولا يعمد إلى التأثير الخطابي بفخم الكلم وحماسة العبارة، وإنما يعافها ولا يتقبلها ولا يفكر لحظة فيها، وينزوي بشعور باطني من مظاهر الحفاوات والترحاب به في المجامع والندوات العامة، ولا يدع دوي الهتاف باسمه، ولا صاخب الصياح من حوله، في حشدة الجماهير، وتزاحم الناس عليه، يحجب صوت ضميره، ويبدد نجوى نفسه التي بين جنبيه.
هذا هو الرجل الذي وصفه «دوك» صديقه بقوله: «إنه ليس بالخطيب المتقد المتحمس، وإنما هو الهادئ الساكن المعتمد في خطابه على مجرد ذكاء سامعيه، ولكن سكينته هذه تضع الموضوع الذي يناقشه أو يتحدث عنه تحت أسطع الأنوار ومتوهج الضياء وفي أصرح البيان، وإن تموجات صوته لا تكاد تختلف أو تتغير، ولكنها مع ذلك الصادقة البالغة الصدق، المخلصة الجهيرة الإخلاص، وهو لا يكاد يحدث حركات ولا إشارات بيديه وذراعيه إذا هو خطب الناس، بل لا يكاد يحرك خالجة فيه، ولا أنملة واحدة من أنامله، وإن كانت كلماته الواضحة، وعباراته القوية الجزلة، وجمله الموجزة القاطعة، تحمل في طياتها قوة الإقناع، وتنطوي في تضاعيفها على روعة الحجة الصادقة وجلال القول الفصل المبين.»
هذا هو الرجل الذي حرك نفوس ثلاثمائة مليون من خلق الله وبعثهم على الثورة، وحفزهم إلى النهوض؛ بل هذا هو الرجل الذي هز الإمبراطورية البريطانية من القواعد، وأدخل على السياسة الإنسانية أقوى دافع ديني شهدته الدنيا من ألفي سنة!
هذا هو المسيح في الوطنية، جعلها دينا من الأديان، وأحاطها بأعمق الإيمان، وحرسها بأروع اليقين.
وهو الآن في الثامنة والستين، إذ كان مولده في شمال الهند في اليوم الثاني من شهر أكتوبر سنة 1868، وكان منشأه في قوم أخيار صالحين، تمتد تجارتهم ما بين عدن وزنجبار، وكان والداه من الخاصة، ينزعان نزعة استقلالية حرة في حياتهما، حتى لقد اضطرا يوما من الأيام إلى الفرار نجاة والتماس خلاص، وكانا يدينان بمذهب الأحمسا (Ahimsa) ، وهو مذهب هندوكي ينادي بتحريم الأذى لكل ما فيه روح وحياة، بل هو ذلك المذهب القائم على الوداعة والحب الذي قدر لغاندي أن يكون المنادي به في العالم كله، والذي أدمجه فيما بعد في عقيدته الوطنية الجديدة؛ فسمي من ذلك الحين «بالمقاومة السلبية»، أو «الرغبة الكلية عن العنف والعدوان».
وقد سافر إلى إنجلترا لاستكمال دراسته وهو في التاسعة عشرة من العمر، وكان قد تزوج وهو صبي صغير في الثانية عشرة على عادة قومه، وإن كان المتأفف الكاره لهذا البكور في القران، فالتحق أولا بجامعة لندن، ثم درس فيما بعد الحقوق، وعاد إلى الهند في سنة 1891 بعد قرابة أربع سنوات قضاها في سبيل العلم مغتربا، وهو يومئذ معجب بالحياة الإنكليزية، متعشق لحضارتها الزاهرة، وإن ظل الحريص على موثقه لأمه وعهده في الحرص على دينه.
ولم يلبث أن نزح إلى جنوبي أفريقيا، حيث كان ألوف من أهل الهند قد استوطنوا التماس الرزق ، وبحثا عن القوت والمعاش؛ فوجد الحكومة تضطهدهم وتطغى عليهم بما تصطنع في تكريههم المقام بأرضها من شواذ القوانين.
عند ذلك بعثه غضبه لكرامة بني قومه على الدفاع عن أولئك المظلومين المعصوف بهم، فلم يحفل بما كان يكسبه من صناعة المحاماة يومئذ، وكان مورده منها نحو خمسة آلاف أو ستة آلاف من الجنيهات في السنة، وآثر الفاقة وارتضى الحرمان، مودعا النعماء، مغادرا حياة الرغد؛ ليقاسم بني وطنه الألم والجوع والظلم والتشريد.
وكان قد تأثر يومئذ بقراءة «تولستوي» وفلسفته في الاشتراكية المسيحية، وقد رأينا كيف راح تولستوي في سنة 1910 - أي قبيل موته - يكتب إلى غاندي خطابا مستفيضا وقد سمع بحركته وجهوده ومناداته بمذهب «المقاومة السلبية»، فهو يمدح غاندي فيه، ويثني خيرا عليه ويقول إن ذلك المذهب هو في الواقع «شريعة الحب»، بل الإلهام الذي يبعث على وجوب ارتباط البشر بالروح، وهو المسيحية الوطنية التي دان بها الزعماء الروحيون في العالم جميعا.
غاندي، عند مروره بمصر.
ومن ذلك العهد بدأ غاندي جهاده النفسي الذي صحبه وعكف عليه عكوف المؤمن العميق الإيمان من سنة 1907 إلى سنة 1914، غير جازع ولا آبه بما لقيه من سجن وإيلام وتشريد وتعذيب، ويومئذ عاد إلى الهند تستبقه الشهرة بأنه الزعيم الهندي الجديد.
وإذا كان القرن التاسع عشر قرن الوطنية المهاجمة، والنزوع الاستعماري الموحش الرهيب، فقد جاء القرن العشرون ليكون بداية ظهور الوطنية الدفاعية في الشرق، وانبثق نور الزعامة في أكثر نواحيه.
وكان أروع مظهر لتلك البداية ظهور غاندي في الهند قبيل الحرب العظمى، وكان قد سبقه جوكهيل مؤسس الحركة الوطنية الهندية، بل ذلك الأستاذ الشيخ الجليل الذي نسيته «الهند الفتاة»، ولم تعرف حقه الأجيال المحدثة، وإن كان غاندي قد عرف له سابقته في الجهاد، وأخذ عنه في صباه وحداثته، وعتب على بني قومه نسيانهم لذكراه، وجحودهم لفضله الذي يستحق التقدير.
ولم يكن غاندي يومئذ يكره الإنكليز، بل لقد شخص في مبتدأ الحرب العظمى إلى عاصمة بلادهم لتنظيم فرقة من بني وطنه لأعمال الإسعاف، وكان يعتقد عن صدق نية أنه فرد من أفراد الإمبراطورية البريطانية، وأن من واجبه الاشتراك في الدفاع عن مصيرها، وقد وصف فيما بعد شعوره ومبلغ خدمته للإنكليز، فقال في رسالة له سنة 1920 مخاطبا معاشر البريطانيين إنه لم يخدم «إنكليزي» الدولة بأصدق مما خدمها هو، مخلصا لها الخدمة، ممحضا إياها الولاء، حتى لقد جازف بحياته أربع مرات في سبيلها، وقد ظل يعتقد وجوب التعاون معها حتى تكشفت هي على حقيقتها؛ فلم يلبث أن زال من نفسه ذلك الاعتقاد، وتلاشى ذلك الإيمان.
ولم يكن غاندي هو وحده المخدوع يومئذ من هذه الناحية، بل لقد كانت الهند كلها قد انخدعت في سنة 1914 بتلك الكلمات السامية التي كان الحلفاء ينادون بها في جوانب العالم وأنحائه، وهي أنهم يحاربون من أجل الحق والعدل، ويريدون إنقاذ السلام في العالم وتنجية الحضارة والمبادئ الإنسانية العالية.
وكانت الحكومة الإنكليزية - وهي تسأل الهند معونتها - قد راحت تمنيها أجمل الأماني، وتعدها أكبر الوعود، وترسم لها الغد المنتظر بعد النصر في أزهى الألوان، وأجمل الزهر والورود والرياحين.
فما كان من الهند إلا أن بادرت إلى النداء، وأجابت السؤل غير مترددة ولا وانية، فساهمت بنحو مليون مقاتل، وبذلت أسخى بذل، ورضيت بأكبر التضحيات، وانتظرت صبورا مترقبة متلهفة على تحقيق تلك الوعود.
ولكن اليقظة كانت خطيرة، والحقيقة التي مثلت للهندسة 1918 مخيفة صاعقة قاسية؛ فقد تنكرت بريطانيا لها بعد النصر، وراحت تنظر إليها النظر الشزر، وتناست وعودها الماضية، وحنثت في عهودها الكثيرة، وتأهبت لملاقاة الموقف بأشد العنف وأقسى العدوان.
هنالك انفجرت الثورة في الهند، وقام غاندي ليتولى قيادتها إلى ساحة الجهاد وميدان الكفاح والنضال، ولكنه في سنة 1919 لم يشترك في الثورة القومية اشتراكا فعليا ظاهرا، وإنما الذي أسهم فيها كل الإسهام، وتقدم إليها بكل عزم وجرأة وإقدام، رجل آخر من طراز آخر، وهو لوكا مانيا بال جانجدبار «تيلاك»، رجل نادر خارق للمألوف نشاطا وقوة واعتزاما، رجل اجتمعت فيه المزايا الثلاث؛ العقل الكبير، والإرادة القوية، والخلق الرفيع؛ بل لعله كان أذكى من غاندي أو على الأقل أكثر «شرقية» منه وأعرف بالثقافة الآسيوية، إذ كان أديبا ورياضيا من كبار علماء الرياضيات، وقد ضحى بكل أطماعه الشخصية لكي يتوفر على خدمة بلاده.
وكان مثل غاندي أزهد الناس في الإعلان عن ذاته والتماس المجد لشخصه؛ لأن كل مطمحه هو نجاح مثله الأعلى وانتصار فكرته حتى يستطيع اعتزال الميدان السياسي، ويعاود عمله العلمي ودراسته وبحوثه القديمة.
لقد كان تيلاك يومئذ زعيم الهند جميعا، وليس يدري أحد ماذا كان سيحدث لو أن الأجل أنسأه وامتد به فلم يخترمه الموت في سنة 1920؟!
ولكن الظاهر أنه لو كان تيلاك عاش واستطال الأجل به لظل غاندي - الذي كان يعترف له بعبقريته، وإن اختلف عنه اختلافا جوهريا من ناحية أساليبه ومبادئه وسياسته واتجاهه - الزعيم الديني للحركة الهندية، بل يومئذ ما كان أروع مشهد الهند وهي تسير خلف هذه الزعامة المزدوجة، ولو قد كان ذلك لراحت الهند القوية المرهوبة لا تغالب؛ لأن تيلاك كان زعيما عمليا بالقدر ذاته الذي كان به غاندي زعيما دينيا أو زعيما روحيا، عظيم السلطان على الأرواح والأذهان.
غير أن القدر حال دون ذلك، وهو ما يؤسف له، لا من أجل تيلاك نفسه، بل من أجل الهند جمعاء، بل من أجل غاندي بالذات؛ لأن غاندي أصلح ما يكون زعيما للصفوة المختارة، أو زعيما للطبقة المتعلمة، وكان هذا هو جل ما يبتغيه غاندي نفسه ويتمناه، بل كان هذا أوثق شيء بالنسبة له وأنسب موضع لطبيعته، وكان - بلا ريب - سيروح السعيد المغتبط يترك صاحبه «تيلاك» يقود الأكثرية ويسود الدهماء، وكان غاندي بالأكثريات دائما قليل الإيمان، بينما كان ذلك شأن «تيلاك» وديدنه؛ فقد كان يؤمن بالجماعات، وكان «ديمقراطيا» بالغريزة، وسياسيا لا يبالي الاعتبارات الدينية، مناديا بأن السياسة لم تخلق للقديسين ولا لرجال الدين، ولو عاش هذا الرجل لضحى بكل شيء في سبيل انتصار وطنيته؛ لأنه وإن كان في حياته الخاصة مثال الرجل النقي الأمين المستقيم، لم يكن ليتردد في القول بأن في السياسة كل شيء جائز، وكل أمر مقبول.
ولكن غاندي لا يرى هذا الرأي ويأبى إلا أن يسمو بمبادئه الخيالية إلى أبعد الآفاق، فلم يتفقا ولم يتلاقيا عند رأي واحد، وإن ظل كل لصاحبه محترما قادرا حق التقدير؛ فقد كان غاندي يشعر بأنه إذا ما تعارض الحق والصدق مع الحرية والاستقلال في ناحية الأسلوب ووسائل الجهاد، فإنه بلا أقل ريب يفضل التزام الصدق والحق على الحرية بل على الوطن ذاته، على حين كان تيلاك يرى العكس، ويعتقد أن وطنه مقدم فوق كل شيء في هذه الحياة، وأن مصلحته تستبق كل اعتبار في الوجود.
وقد قال غاندي في ذلك: «إنني مقترن بالهند؛ لأنني معتقد تمام الاعتقاد أن عليها رسالة تؤديها إلى هذا العالم ... وليس لديانتي أو عقيدتي حدود جغرافية ولا تخوم، وإنما إيماني بها يعلو على كل شيء حتى على الهند نفسها.»
ولعل هذا هو سر خطط غاندي في جهاده الوطني، وتعليل مسلكه في محاولة تحرير بلاده، بل لعل فيه سر فشله الأخير وإخفاق جهوده؛ لأن هذه الكلمات النبيلة السامية هي مفتاح الرسالة الغاندية التي تولى أداءها هذا الزعيم الجديد الغريب على هذه الدنيا، الطارئ على هذا العالم، فإن عقيدة غاندي أشبه ببناء ضخم شاهق مؤلف من طبقتين؛ الطبقة الأولى منه هي القاعدة أو الأساس، أو هي الجزء الديني من تلك العقيدة، والطبقة الأخرى الناهضة من فوقه هي الجزء السياسي الاجتماعي، ومعنى ذلك أن غاندي ديني بالفطرة، فهو من ثم زعيم سياسي بالضرورة، وقائد وطني لمجرد الحاجة ومراعاة للظروف، وقد تتغير هذه وتتبدل، ويبقى غاندي الأصيل، غاندي الديني، قائما لا تحويل له ولا تبديل.
غاندي في تنسكه الديني.
وإن غاندي في ديانته وإيمانه لينزع بقلبه الإنجيلي منزع المسيحية المتسامحة إلى أبعد الحدود، بل هو تولستوي جديد، تولستوي آخر، ولكن أرق حاشية، وأروع وداعة، أو إن شئت فقل أكثر مسيحية؛ إذ لا ينبغي أن ننسى أن تولستوي لم يكن مسيحيا بالطبيعة والفطرة، وإنما كان كذلك بالمجاهدة والرياضة وقوة الإرادة.
وأقرب وجوه الشبه بينهما وأبرزها اشتراكهما في النعي والتنديد والنقمة من الحضارة الحديثة بسبب ما حوت من مفاسد ومضال ومساوي وأكاذيب.
ومنذ بدأ روسو سخريته من الحضارة، وهي في أوروبا مرمى سهام أكبر العقول في الغرب وأعظم الأذهان، فإن هؤلاء هاجموها طلقاء الفكر، وحاربوها غير هيابين ولا مشفقين، وحين بدأ الشرق يستيقظ ويحس شيئا من القوة يعاوده، ويشعر بالتمرد على الظلم والطغيان والعذاب الذي سامه الغرب، وألح به عليه، باتساع نطاق الاستعمار، واحتداد جشعه ومطامعه، لم يكن بحاجة إلى أكثر من أن يتصفح سجلات تاريخ أوروبا نفسها؛ لكي يتبين آثار مدنيتها الكاذبة، وما أحدثته في الدنيا من أذى وشر وضر وبلاء مستطيل.
وقد فعل غاندي ذلك، بدليل أنه في كتاب «هندسواراج» - أي «استقلال الهند» - قد راح يعدد كتبا وتواليف مما كتب الغربيون، ومن بينهم لفيف من الإنكليز أنفسهم، في تجريح المدنية الغربية واستنكارها والتنديد بها، وإظهار ما فيها من شرور ونقائص ومعايب وسيئات.
ولكن ليس ثم أبلغ من هذه الناحية ولا أنطق دليلا ولا أقوى حجة وسجلا وتدوينا مما كتبته أوروبا نفسها بمداد من دماء الشعوب التي اعتدت عليها وظلمتها وأفسدتها كل إفساد باسم أكذب الدعاوى وأعجب المبادئ على الحق اجتراء، وبخاصة في الفترة التي استغرقتها الحرب الماضية، فانكشفت أوروبا خلالها عن أكاذيب ووحشية وضراوة وجشع شديد، تلك الحرب التي زعم الغرب أنها حرب الحق والعدل، حرب الحضارة واستنقاذها، بل الحرب لتخليص المدنية من أعدائها الألداء؛ فقد هوت أوروبا يومئذ من السوء والرذيلة والشر إلى أبعد الأغوار وأسحق قرار، حتى لقد بلغ بها الجنون أن دعت شعوب الشرق إلى الفرجة عليها وهي متجردة عارية مهتوكة الحجب مهلهلة الثياب، فرأوها على حقيقتها بادية للعيان، وأصدروا عليها حكمهم الصحيح.
وفي ذلك قال غاندي سنة 1920: «لقد أبدت لنا الحرب الأخيرة بأبلغ برهان قيمة الحضارة التي تسود أوروبا اليوم، فقد حطم المنتصرون فيها كل فضيلة من فضائل الأخلاق باسم الفضيلة نفسها ... فما من أكذوبة تورعت عنها، وما من جريمة اقترفت إلا كان الباعث من ورائها جشعا ماديا يدفعها، إن أوروبا اليوم مسيحية اسما فقط، وهي في الحقيقة والواقع وثنية اتخذت المادة لها ربا معبودا وإلها من دون الله!»
المدنية في نظر غاندي هي مدنية بالاسم فقط، أما في الواقع فهي أشبه شيء بما تسميه الهندوكية القديمة «القرون المظلمة»؛ لأنها أقامت «المادة» أو الحياة المادية غرضها الأوحد في الحياة، ولأنها أصبحت تسخر من الروحانيات، فهي جحيم للضعفاء والطبقات الفقيرة والكادحين للأرزاق والأقوات، وهي تعتصر حيوية الإنسان وتمتص دماءه امتصاصا، وسوف تحطم نفسها بنفسها على الأيام.
الحضارة الغربية هي عدو الهند اللدود، وخصمها الحقيقي الأوحد، وهي في ذلك أكثر من الإنكليز، فإن هؤلاء - أفرادا - لا بأس بهم، وهم - مجموعا - ضحايا هذه الحضارة والمرضى بها، والعناة من شرها وأدوائها. وإن غاندي ليسخر من بني وطنه الذين يريدون أن يطردوا الإنكليز من بلادهم ليتولوا هم ترقيتها وتحضيرها وفق أقيسة الغرب وحضارته؛ فإن ذلك في نظره كمثل اكتساب طبيعة النمر وضراوته، وإن غاب النمر نفسه وتوارى في حد ذاته، ومن ثم كان واجب الهند وغرضها الأوحد أن تصد تيار هذه الحضارة بل تمحو كل أثر لها من الوجود.
وأشد ما يكره غاندي من هذه المدنية قلبها وجوهرها أو «ميكانيكيتها» الحديثة، فإنها اليوم تعيش في عصر الحديد، بل عصر الآلات، حتى لقد استحال قلبها فولاذا أصم جامدا، وأصبحت الآلات هي المعبود الضخم العظيم، ومن ثم كان جل ما يتمناه غاندي هو أن يرى الآلات قد محيت آثارها جميعا ومسحت من الهند مسحا.
وقد يعترض عليه المؤمنون بناموس التقدم والارتقاء مسائلين: وماذا ترى يكون مصير الهند إذا استغنت هي عن الآلات؟! فيجيب غاندي على هذا السؤال بسؤال آخر، وهو: ألم تكن الهند موجودة قبل وجودها؟! لقد ظلت الهند ألوف السنين تقاوم وحدها طوفان الدول، وتقلب السلطان، وصروف الدهر، وغير السنين، حتى تعاقبت تلك جميعا وبقيت هي ماثلة حاضرة، ولقد مثلت الهند على الدهر فضيلة القناعة وضبط النفس، وتواتى لها من ذلك الرضى والهناء، فهي ليست بحاجة إلى أن تتعلم شيئا آخر من الأمم، أو تتلقى درسا آخر من الشعوب، وهي في غنى عن الآلات، فإن سعادتها الغابرة كانت قائمة على المحراث والمغزل والفلسفة فحسب، فما عليها إلا أن تعود إلى مصادر سعادتها الماضية، ولا يمكن أن يتم ذلك عاجلا، ولكن لا بأس من أن يحدث تدريجا وعلى مهل.
فليس للقرون في اعتبار الهند حساب، كما أن غاندي يؤمن بأن استقلال الهند حتى تعيش هذا العيش وتكتفي بهذا النحو من أسلوب الحياة، لا يمكن أن يأتي عنفا، ولكنه إنما يتواتى بقوة الروح، فإن هذا هو سلاح الهند الوحيد، سلاح الحب والحق، أو ما يسميه هو بلغته «السايتا جراها»؛ أي قوة الحب وسلطان الإيمان، وما اصطلحنا نحن عيه بقولنا «المقاومة السلبية» وإن كان غاندي شديد الكراهية والنفور من هذا الاصطلاح؛ لأنه يستنكر «السلبيات»، إذ هو الرجل المحارب المكافح الذي لا يحس الكلال، ولا يكف عن المقاومة، وهي المقاومة التي تعمل وتكد وتجاهد، المقاومة العقلية النشيطة التي لا تجد متنفسها في العنف ووسائله، بل في الحب والإيمان والتضحية والفداء.
وهو في ذلك يقول: لا تأتي القوة من القدرة البدنية، ولكنها تأتي من الإرادة القوية الغلابة التي لا تقهر. وليست الرغبة عن العنف معناها الاستضعاف والذل والخضوع لإرادة المسيء، وإنما معناها الاعتصام بكل قوة النفس وإرادتها حيال المتجبر والطاغية، وضد الظالم العاتية، وفي استطاعة الفرد وحده إذا هو عمل بهذا واتبع سبيله لأنه قانون الحياة وشرعة الوجود، أن يتحدى قوة أكبر دولة، فيسقطها إذا هي كانت ظالمة، ويعيد بناءها إذا هي اتبعت طريق العدل والإحسان.
وغاندي في ذلك إنما يبني هذه العقيدة على مزايا «الألم» وقوته وفضله، فيقول إن الألم هو الناموس العظيم، بل هو سر الحياة البشرية وقانونها الأبدي وشرعها الثابت؛ فإن المرأة تتألم وتتلوى وتتعذب في المخاض لكي يحيا وليدها، كما تأتي الحياة من الموت، وكما تنمو السنابل بتلاشي البذرة. وما من بلد نهض يوما وارتقى إلا وقد تطهر ونقي بمخاضه نيران الألم وانصهاره في أتون العذاب، فمن المستحيل الاستغناء عن قانون «الألم»؛ لأنه الشرط الذي لا غنى عنه في هذه الحياة، وليس معنى «الرغبة عن العنف» كمحرك بالغ الأثر إلا أنها الرضوان بالألم ... ولقد وضعت أمام الهند ناموس «التضحية» بل ناموس الصبر على الألم، وإن الأولياء والقديسين الذين كشفوا هذا القانون وسط أشد أنواع العنف وأقسى ضروب الأذى والطغيان، كانوا والله أعظم عقولا وأكبر عبقرية من «إسحق نيوطن»، بل كانوا أكبر محاربين وأروع مكافحين من ويلنجتون ذاته. ولم يقصد هذا الناموس بالأولياء والصالحين وحدهم، ولكنه مراد بالناس جميعا، والخاصة والعامة بالسواء. «فإذا اتخذت الهند العنف عقيدة لها فلن أرضى لنفسي المقام بها، ولا أحب العيش فيها، ويومئذ لن تثير في نفسي فخارا بها، ولن يبقى لها في نفسي أي موضع؛ لأن وطنيتي خاضعة لديانتي، مقيدة بعقيدتي، وأنا في نسبتي وتعلقي بالهند كمثل الطفل المتشبث بثدي أمه، وما ذلك إلا لأنني أشعر بأنها ترضعني أفاويق الغذاء الروحي الذي أحتاج إليه، فإذا هي خذلتني كنت كاليتيم البائس الذي لا يجد وليا ولا نصيرا، ويومئذ فلتكن قمم «الحملايا» المغطاة بالجليد موئلي وملاذي، أجد لديها ما هي مكسبتي وماسحة عن روحي الدامية ...!»
وكذلك راح غاندي يمزج الوطنية بهذا العنصر الديني العجيب، ويقود الهند به إلى الجهاد، وقد طالما لقي في سبيله الألم، وزج به في غيابات المحابس، وقد حار خصومه في أمره، ولم يعرفوا ماذا يصنعون به؛ فكانوا كلما سجنوه عادوا بعد حين فأطلقوا سراحه، وهو في السجن والسراح هو لا يغالب ولا يقهر ولا ينثني عما هو ماض فيه يأسا أو قنوطا.
وقد جرت هذه المبادئ الدينية التي اختلطت بوطنية الهند إلى الاستعانة بوسائل مناسبة لها، وهي المقاومة السلبية «وعدم التعاون»، وفي حماسة الثورة راحت هذه التعاليم تغمر النفوس في الهند جلدا على الألم، واستماتة بالتعذيب، وتدفع الشباب إلى الشهادة، وتحبب إلى نفوسهم الموت في سبيل الوطن ولقاء المدافع رحب الصدور، ولكن لا تلبث بعد الثورة أن تحمل الناس على التساؤل في قيمتها ومبلغ نفعها، وتثير في النفوس الشك في صلاحيتها والمداومة على التدرع بها، كما أن اختلاف النحل في الهند وكثرة الملل، وتعدد الطوائف والديانات، ظل أكبر حائل دون الوحدة الروحية التي نادى غاندي بها وأهاب ، والتي جعلها صيحته المترددة الصدى في كل مكان.
وقد تولى غاندي الدفاع عن الطبقات الصغيرة، تلك الطبقات العامة المهينة التي وطئها الظلم بأقدامه، وديست بالصغار، وسمي أهلها «بالأنجاس» و«المنبوذين»، ولم يكن هذا الإحساس جديدا عليه في الكبر، ولكنه نشأ معه من الحداثة، حتى لقد اعتزم وهو في الثانية عشرة أن يمحو هذه الوصمة عند الهند، ويزيل هذا العار من حياتها الاجتماعية، بل لقد بلغ من سخطه على هذا التفريق الشنيع بين الأخ وأخيه في شركة الوطن الواحد أنه كان يقول إن بلاده تستحق كل ما أصابها من ظلم الغير وطغيان الأمم جزاء لها وانتقاما منها على هذا النظام الفاسد المنكر الشنيع، وهو في ذلك ينادي مصارحا؛ إذا كان الهنود قد أصبحوا عبيدا أذلاء للأمم الأخرى، فقد حق ذلك عليهم جزاء وفاقا، وحل بهم انتقاما من رب عادل منتقم للضعيف، أفلا ينبغي لنا نحن «الهندوس» أن نغسل أيدينا الملوثة بالدم قبل أن نطلب من الإنكليز أن يغسلوا هم أيديهم؟ ... إن «المنبوذية» قد حقرتنا في أعين الأمم، وحقرت شأننا في العالم، وما دام الهندوس قائمين عنادا وتشبثا على الاعتقاد بأنها جزء من دينهم، فسوف يظل بلوغ الاستقلال مستحيلا علينا مهما صنعنا ومهما جاهدنا، إن الهند لأثيمة مذنبة، ولم يفعل الإنكليز بها أسوأ مما فعلت هي بنفسها، إن أول واجب علينا أن نحمي الضعفاء ونذود عمن لا نصير لهم ولا معين، ولا نؤذي إحساس أحد من الناس، ولن نرقى عن مستوى الحيوان حتى نتطهر من الخطايا التي اقترفناها في حق إخواننا المساكين.
ومن ثم راح غاندي يجاهد في سبيل جعل الهند وحدة كاملة، سامية فوق اختلاف الملل والنحل والأديان؛ لأنه أقام جهاده الديني أو رسالته الروحية فوق وطنيته، وهو في ذلك يقول: «الوطنية عندي هي حب الإنسانية؛ فأنا وطني لأنني إنساني محب لخير الناس، وإذا كنت قد اشتركت في السياسة، فما ذلك إلا لأن السياسة قد أصبحت اليوم تلتف علينا كالتفاف الحية لا سبيل إلى الخلاص منها مهما حاولنا، وليتني أستطيع أن أتغلب على هذه الحية التي أحاطت بي ... إنني أحاول أن أمزج السياسة بالدين.»
وأكبر الظن أن هذا الذي أصر غاندي عليه واستنفد كل قواه فيه، هو الذي أدى في النهاية إلى فتور حركته، وانقطاع ما كان موصولا من رسالته، ومكن لخصومه من إحباط مساعيه وإفساد مهمته؛ لأن غاندي قد قام يطلب أمرا عسيرا للغاية، ويجعل هذا الأمر نقطة ارتكاز في سياسته وما كان منتظر لغاندي أن ينجح وشيكا؛ لأن الحاسة الدينية شديدة متأصلة في الهند، والاختلاف الطائفي فيها غائر الجذور، بعيد العمق، متشعب، كثير النواحي، متعدد الوجوه، بسبب كثرة النحل والملل، حتى لتبلغ العشرات، مما لا يتسنى التغلب عليه، ولا يمكن معه إيجاد الوحدة الوطنية الكفيلة في قضايا الاستقلال بالنجاح.
وقد انقطعت اليوم أخبار غاندي، وعقب فشل مؤتمر المائدة المستديرة أخلد إلى رسالته الروحية؛ ولكن أكبر ظننا أن فتور حركته هذا إلى حين، وأنه سينبعث مرة أخرى فيملأ سمع الدنيا بحديث نهضته وجديد ظهوره.
على أن «غاندي» لم يعد اليوم اسما لشخص من الأشخاص، ولكنه مثل وقدوة، وعقيدة ومبدأ، ودين جديد ورسالة، ولكنها رسالة لا تنحصر في الهند، ولا تحتبس داخل حدودها وإنما تسري رويدا في العالم، وتتمشى على مهل لتغمر الدنيا كافة؛ لأنها رسالة الحق غير المسلح، الحق الوديع الراغب عن العنف، حيال القوة المدججة، القوة الغاشمة التي تدعي أن الحق لها ما دام السيف في كفها، والقذيفة فوق كتفها، والمدافع من حولها، وفي البحر لها الجارية المسلحة والسفين.
هي رسالة عامة للإنسانية، وإن كانت الهند هي مهدها ومحل ظهورها، بل ضحيتها وتفديتها، وقد تكون رمز صليبها، كأنما قدر على كل صاحب رسالة أن يكون ضحيتها، قبل أن تنتشر وتهب الدنيا قوة وحياة جديدة.
ولكن اعتقادنا أنه لن يطول الزمن على الهند حتى تصل إلى الغاية التي توسلت برسالة غاندي إلى بلوغها، وهي «الاستقلال»، فإن أوروبا التي سوف تدميها الحروب والثورات، وتنهك قواها الفاقة والإعياء، وتتلاشى هيبتها القديمة في عين الشرق الذي طالما بغت عليه واستبدت به، لن تستطيع في أرض الشرق وأقطاره وآفاقه مقاومة أماني شعوبه المستيقظة، وأممه الناهضة.
بيد أن هذا إذا هو وقع فلن يكون كبير الخطر ولا عظيم القيمة ولا خطير النتائج - مهما كان من فضله في اشتراك بضعة شعوب جديدة في مجمع الإنسانية وجوقة العالم والمسرح الدولي - إذا لم تصبح رسالة الشرق أو رسالة غاندي أو هذا الروح الآسيوي، هي الأداة لمثل أعلى جديد في الحياة والموت، بل في العمل والتصرف والسياسة وسائر نواحي الحياة بالنسبة للإنسانية جمعاء والعالم بأسره.
نعم، لن يكون لمجرد نجاح الشرق في استغلال ضعف الغرب قيمة ولا خطر إذا لم تتحقق هذه الرسالة؛ إذ كل ما سيكون في الأمر يومئذ أن قويا ضعف، وضعيفا قد استحال قويا، وأن الدائرة إنما دارت على الجهاز القديم ذاته، والمبادئ العتيقة نفسها؛ وإنما الخطر الكبير والشأن العظيم هو أن تتغير نظرات الإنسانية إلى الحياة، وتتحول إلى مثل جديدة على ضياء الرسالة الغاندية التي أراد بها غاندي إنقاذ العالم لا الهند وحدها، ونادى بها كمبدأ عام قد حان للإنسانية كافة اعتناقه.
لقد أصبحت القوة المادية طاغية سائدة متفوقة، وقد هبت ريحها العاتية تريد أن تذرو حصاد الحضارة وتبدده تبديدا، ولم تثر هذه الزوابع والعواصف فجأة أو لوقتها وساعتها، ولكنها نتيجة اجتماع أجيال عديدة من زهو الأمم بذاتها، وفخار الشعوب بأنفسها، ذلك الزهو الذي غذاه روح الثورة الفرنسية الكبرى ووثنيتها الجديدة للمبادئ الخيالية، بل نتيجة قرون متوالية من الحروب الوحشية والديمقراطيات المزيفة، انتهت إلى هذا القرن «العشرين»، قرن الرأسمالية الموحشة في ميادين الصناعة، قرن الطبقات الممولة الجشعة النهمة القاسية، بل قرن الماديات والاقتصاديات، حيث السلطان العقلي للمادة دون سواها، وكان طبيعيا أن ينتهي ذلك كله إلى هذا النزاع الرهيب والصراع المخيف الذي يوشك أن يحطم أوروبا كل محطم، ويفني قواها كل إفناء.
لقد أصبح كل شعب في أوروبا يريد أن يقتل الآخر باسم المبادئ ذاتها والدوافع نفسها التي تخفي في ثناياها غرائز قابيل قاتل أخيه، وأضحى الكل سواء منهم النازيون والفاشيون والبلاشفة، بل سواء منهم الطبقات المظلومة والطبقات الظالمة، يدعون أن لهم الحق في استخدام «القوة»، بينما هم يأبون على غيرهم هذا الحق المزعوم.
منذ نصف قرن مضى كانت القوة هي التي تسود الحق، فأصبح الأمر اليوم أسوأ وأضل سبيلا، وأصبحت القوة هي الحق! بل لقد انقضت القوة على الحق فأكلته!
وليس في أوروبا ملاذ من هذه الحال ولا أمل في إصلاحها ولا رجاء ولا بريق ضياء، حتى الدين نفسه لم يعد له على النفوس من سلطان، فإن أهله قد راحوا يضعون نصحهم وموعظتهم في لفائف وأغشية، أو في جرعات مخففة؛ لكيلا يغضبوا «القوة» ولا يستهدفوا لعداوة السلطان، بل إن أهل الدين أنفسهم والقوامين عليه لا يضعون المثل ولا هم القدوة الحسنة، بينما يتحدث أنصار السلام أوهى الحديث عنه، حديث قوم عن شيء لم يعودوا مؤمنين به، إذ لا يدلل على الإيمان غير العمل والجهاد والغيرة الصادقة.
هذه هي رسالة الهند، كما قال غاندي، وجوهر رسالتها هو «التضحية بالذات»؛ إذ هو في ذلك يقول: «أرجو أن ينمو هذا الروح، روح التضحية، كما أرجو أن تزداد أيضا الرغبة في الألم والرضى به، فإن هذا هو الحرية الصميمة، وليس ثم شيء أسمى من ذلك ولا أعلى، حتى الاستقلال السياسي نفسه ... لقد آمن الغرب بالقوة والثروة المادية، ومهما يصح مناديا إلى السلام ونزع السلاح، فإن وحشيته ستروح أعلى صوتا وأشد صياحا، وإنما نحن الضعفاء المساكين في الشرق هم الذين ينبغي أن ينقذوا العالم من هذا الجنوح المتأصل الرهيب.»
هذه هي رسالة غاندي، وقد تكون بطيئة المسرى، ولكنها مع ذلك قد تحركت في الشرق، ولا بد من أن تصل إلى غايتها في يوم من الأيام. •••
في سنة 1921 عاد إلى الهند رجل كان يطوف أوروبا وقد لبث أعواما طوالا لها طائفا، وفي آفاقها متنقلا، يجمع الحكمة، ويجد في التجوال الخبرة بالدنيا، والتجربة للحقائق، ورؤية الحياة في مختلف نواحيها، رجل فيلسوف لم يلبث أن ملأ اسمه سمع الإنسانية، واشتهر ذكره في العالم كله، وهو طاغور أو «رابندرانات طاغور» بكامل اسمه، فإن هذا الشاعر الفيلسوف قد دهش عند مآبه إلى بلاده من التطور العقلي الذي بدا أثره في قومه، وكان قبيل رجعاه قد أبدى قلقه من هذه الناحية في رسالات بعث بها من أوروبا إلى أصحاب له في الهند وأصدقاء.
ومن ذلك الحين اختلف طاغور وغاندي في وجهة النظر ومنزع التفكير، وهو خلاف خطير، بل اختلاف فكري بين رجلين عظيمين، لم يجعلا له أي أثر في احترام كل لصاحبه وإعجابه به؛ وإنما ظلا على الرغم منه يتبادلان الإكبار والاحترام؛ اختلاف جوهري كان محتوما أن يفرق بينهما أبد الدهر، افتراق الفيلسوف عن القديس، أو افتراق بولص عن أفلاطون.
شاعر الهند الأكبر رابندرانات طاغور.
لقد كان طاغور ينظر دائما إلى غاندي كقديس أو ولي، ويعده أسمى من تولستوي، وأبهر منه ضياء، ذاهبا إلى أن غاندي صادق الطبيعة، نقي من الشوائب، بسيط للغاية، بعيد من التكلف؛ بينما الأمر عند تولستوي غير ذلك، فإن كل شيء عنده هو الثورة المزهوة المتكبرة ضد الزهو والكبرياء، والكراهية حيال الكراهية، والشدة ضد الشدة؛ أي أن كل شيء عند تولستوي عنيف قوي صارخ، أما غاندي فكل شيء عنده وديع هادئ ساكن رهيب السكينة والجلال.
وقد كانت نية طاغور حين غادر فرنسا عائدا إلى الهند أن يؤيد غاندي صادق التأييد، ويظاهره على أمره بإخلاص، ولكنه بعد ثلاثة أشهر لم يلبث أن أذاع رسالة عنوانها «نداء الحق» كانت هي الإيذان بالفراق بين الزعيمين، وإن كان قد استهلها بأبدع مديح في غاندي وإبراز فضله.
وبقي غاندي أيضا محبا لطاغور لم يتغير عليه، ولم يتنكر له، وإن اختلفا مذهبا وتباينا تفكيرا، وإنك لتشعر من كلمات غاندي أنه لا يحب أن يدخل في جدل أو مهاترة مع طاغور، وكان غاندي إذا رأى بعض الأصدقاء يريد أن يغير قلبه على صاحبه، بترديد أقوال فيه أو ألفاظ صدرت منه، يأمره بالكف عن ذلك ويشرح ما لطاغور من فضل عليه.
ولكن كان الخلاف محتما أن تتسع شقته ويترامى مداه، فمن سنة 1920 وطاغور ينعى على غاندي انصراف فيض حبه وإيمانه العظيم نحو السياسة ولتحقيق أغراضها منذ وفاة «تيلاك»؛ ولا يخفى أن غاندي في الواقع، ومما أسلفنا عليك من أمره، لم يدخل ميدان السياسة متهللا متفتح القلب لدخوله، راضيا مغتبطا بالاشتراك فيه؛ وإنما وجد الهند بعد رحيل «تيلاك» قد خلت من زعيم سياسي، وكان لا بد من أحد يتقدم ليشغل مكانه، ففعل ذلك بالضرورة، وهو يعلم أن السياسة كالحية الكبرى، من تلتف بجسمها عليه فلا فكاك له.
ولكن طاغور كان ينتقد غاندي حتى على قبوله العمل السياسي مكرها مضطرا، وقد كتب في سبتمبر سنة 1920 يقول: «إننا بحاجة إلى كل القوة المعنوية التي يمثلها مهاتما غاندي، والتي لا يستطيع أحد في العالم سواه تمثيلها»، وإنه لمن تعس الهند أو سوء حالها أن كنزا غاليا كهذا يلقى فوق ظهر سفينة ضعيفة واهية كالسياسة لتتعرض أبدا للطمات الأمواج ومتقاذف العواصف ومتدافع التيارات والشهوات؛ بل إن ذلك لنكبة خطيرة في الواقع وحادث جد مؤلم للهند التي يعتقد طاغور أن رسالتها هي «إيقاظ الموتى وبعثهم إلى الحياة من جديد بجذوات النفس وحماسة الروح»، فهو لذلك يأسف أشد الأسف على تبديد هذه الموارد الروحية الزاخرة في مشاكل ومسائل وقضايا ليست لها قيمة إذا هي نظر إليها على ضوء الحقيقة المجردة المطلقة، وهو يرى من الجريمة تحويل القوة الروحية إلى قوة مادية.
وهذا هو ما أحسه طاغور حين بدأ غاندي ينادي إلى «عدم التعاون»، وحين ثارت القلاقل أو أثيرت باسم «الخلافة» وحين وقعت مذابح «البنجاب»؛ لأنه كان يخشى من نتائج هذه الحملة وفعل هذه الدعوة في نفوس الجماهير السريعة البادرة القابلة للالتهاب كهشيم الحصاد والحطب اليابس، وكان يريد ويود لو أن العقول انصرفت عن طلب الانتقام وحب التشفي والعيش على الأحلام والأماني والآمال في خلاص من الظلم هيهات أن يتم، وإنصاف هو بعض المستحيل، إلى نسيان الماضي، والإغضاء عن مظالمه ومساويه، لبذل الجهود كلها في تربية روح جديدة للهند، وإذا كان طاغور قد أعجب بتعاليم غاندي وحمية روحه واستجابته لمبدأ التضحية بالذات، فقد كان يكره العنصر «السلبي » الذي تنطوي عليه فكرة عدم التعاون، بل كان يتراجع وينزوي مستنكرا متأففا مشمئزا من أي شيء يحمل معنى «السلب»، وينطوي على النفي من أية جهة فيه أو ظل له.
وقد بعثه هذا إلى المقابلة بين المبادئ الإيجابية التي تنماز بها ديانة البراهمة التي تقول بقبول مسرات الحياة ومناعمها ولكن بعد تنقيتها وتطهيرها، وبين الروح السلبية التي تحويها «البوذية» التي تقول بإنكارها وقمعها وزجرها والانقطاع الكلي عنها إلى عيش التبتل والتنسك.
وكان جواب غاندي أن الرفض في هذا ضروري كالقبول، والسلب فيه حيوي كالإيجاب، وأن التقدم الإنساني إنما يتم ويقع باجتماعهما واشتراكهما معا، وأن الهند قد فقدت قوة المناداة «بلا» فجاء هو ليرد إليها ما فقدته، وإن استئصال العشب والكلأ هو في وجوبه وضروريته كالحرث والزرع.
ولكن طاغور لا يؤمن بهذا ولا يقتنع به؛ لأنه في تأملاته ونظراته الشعرية إلى الحياة إنما ترضيه الأشياء كما هي، ويجد المسرة والغبطة في الإعجاب بانسجامها، ويروح يشرح وجهة نظره في سطور بالغة الجمال ولكنها منفصلة بعيدة من الحياة الحقيقية وواقعية الأشياء، حتى لتشبه كلماته رقص «ناتاراجا» أو ألفاظ رواية من صنع الخيال، وإن طاغور يقول ويجاهر بأنه إنما يحاول أن يؤلف بين روحه وبين نزعة المرح التي تغمر العالم، ولكنه لا يستطيع ذلك؛ لأن في فؤاده على الرغم منه روح المقاومة، فهو يقول: «في ظلام يأسي أرى ومضة ابتسام، وأسمع صوتا يهتف بي: إن مكانك مع الأولاد لتلعب على شواطئ هذا العالم، وأنا ثم معك.»
وهكذا يلعب طاغور ويلهو بالحياة كالأطفال يتراقصون في الشمس ويضحكون وهم يختفون، إذ كل الخليقة عند طاغور سعيدة هنية رغيدة، حتى الأزاهر وأوراق الشجر ليست عنده سوى ألحان وأنغام لا تنقطع، بل إن الله ذاته في نظره «الحاوي» الأكبر الذي يلعب بالزمن، يرمي بالنجوم والكواكب من أفلاكها، على مجرى الظواهر، ويسقط زوارق من الورق مفعمة ملأى بالأحلام في نهر القرون والأحقاب، حتى ليقول: «وحين أتضرع إليه أن يدعني أتبعه وأضع بعض اللعب التي اخترعتها في أحد قواربه المرحة، يبتسم فأسير خلفه متشبثا بذيل ردائه.»
كذلك يعتقد طاغور أن هذا هو موضعه، ولا يرضى أن يختلط بالناس ويمتزج بالجماهير، وإنه ليقول في ذلك: «ولكن أين أنا وسط الزحام الحاشد محصورا من جميع جوانبي؟! ومن ذا في وسعه أن يفهم الضوضاء التي أسمع؟! إذا أنا سمعت أغنية استطاع معزفي أن يلقط النغم واستطعت أنا أن أشترك في اللحن وأساهم في النشيد؛ لأنني مغن، ولكن وسط جلبة الزحام يضيع صوتي ويتبدد جرسي وأحس دوارا برأسي.»
وقد حاول طاغور في بهرة الصياح والجلبة المنادية بعدم التعاون أن يجد نغما صالحا يشترك فيه فلم يفز بطائل وراح يقول: «إذا أنت لم تستطع أن تساير معاصريك في أشد أزمات تاريخهم فاحذر أن تقول إنهم على خطأ وإنك أنت على حق، ولكن اترك مكانك من الصفوف، وعد إلى زاويتك أيها الشاعر فانتبذ من الناس مكانا قصيا واستعد لتلقى سخرية الناس منك واشمئزازهم.»
هذا صوت شاعر كجوته، ولكنه جوته الهندي، بل من ذلك الحين ونفس طاغور هي كذلك، فكأنما راح الشاعر يودع العمل ليفرغ بكليته إلى الشعر والتأمل؛ لأن العمل أصبح «سلبيا» في كل ما حوله، وهو لذلك يتراجع إلى نسيج السحر الذي ينسجه بنفسه، ولكنه لا ينسحب فقط ولا يتراجع فحسب، وإنما قد أرادت الأقدار به - كما يقول - أن يسير بقاربه ضد التيار ذاته، وكأنما قد راح يومئذ بجانب قيامه كشاعر السفير الروحي للشرق عند الغرب، فقد عاد من أوروبا يومئذ حيث كان ينادي الناس إلى التعاون على تأسيس جامعة دنيوية، فإذا القدر الساخر يضحك منه إذ يأبى إلا أن يدعه ينادي بالتعاون في ناحية من العالم، بينما يدفع بغاندي مناديا بعدم التعاون في الناحية الأخرى منه!
لقد أفسدت هذه الفكرة «الغاندية» عليه عمله في الحياة كما أفسدت عليه نظرته إليها، فشعر بأنه قد جرح منها مرتين، أو جرحا مزدوجا؛ لأنه كان يعتقد وجوب الاتحاد الحقيقي بين الشرق والغرب، ويؤمن به كل الإيمان.
وكان يومئذ يقول: لقد ساد الغرب العالم في عصرنا الحالي؛ لأن له رسالة ينبغي أن يؤديها، وعلينا نحن أهل الشرق أن نتعلم منه ونأخذ عنه، ومما يؤسف له بلا ريب أننا قد فقدنا ملكة تقدير ثقافتنا؛ ولهذا لم نعرف كيف نضع الثقافة الغربية في المحل الواجب لها، ولكن القول بأن من الخطأ التعاون مع الغرب هو تشجيع شر أنواع النزعات الإقليمية - أي الشعور القومي - ولا يمكن أن ينتج هذا غير الفقر العقلي للإقليم نفسه، إن هذه المشكلة هي إحدى المشاكل العالمية، إذ ليس في ميسور أمة من الأمم أن تهتدي إلى سبيل خلاصها بانتزاع نفسها من الأمم الأخرى وقطع روابطها بها؛ إنما ينبغي أن ننجو جميعا، أو نفنى كلنا معا ...»
وكما رفض جوته شاعر ألمانيا الأكبر تحريم الثقافة الفرنسية والمدنية الفرنسية في سنة 1813، رفض طاغور في القرن العشرين نفي الحضارة الغربية وتحريمها. ولئن كانت فكرة غاندي في الواقع لا تقيم حائلا ولا تبني سدا منيعا بين الشرق والغرب - كما ظن طاغور - فإن هذا الشاعر جعل مع ذلك يقول إنه يخشى أن تفسر هذا التفسير إذا ما ثارت ثائرة الوطنية الهندية وجاشت قدرها فوق نار الحماسة ووقودها، ويشفق من نمو روح العزلة في الهند والانفصال عن بقية العالم، ويصارح بمخاوفه هذه حين جاء الناس يلتمسون نصيحته ويطلبون رأيه، وهو في ذلك يقول: «إذا لم يكن ما أقول صحيحا، فما المراد من مقاطعة المدارس والمعاهد والكليات؟! ألكي يقدم الطلاب تضحية، ولكن علام هذه التضحية التي يراد أن تتقدم منهم؟! هل هي في سبيل تلقي تعليم أرقى من تعليمها وأكمل وأوفى؟! أم هي - كما هو الواقع - انقطاع عن التعليم كلية؟!»
وقد جاءه جمع من الطلاب في سنة 1921 قائلين له إنهم على استعداد لترك مدارسهم إذا هو أمرهم بذلك؛ ولكنه رفض وأبى، فغادروه غضابا هائجين، واتهموه في وطنيته.
وغضب طاغور من هذا التعصب للرأي، واتهم الحركة غير التعاونية بأنها المسئولة عن بثه في النفوس؛ فكان جواب غاندي على هذا الاتهام: «لست أريد أن يكون بيتي مسورا من جميع جهاته، ولا نوافذي محشوة مغلقة، أريد أن تهب ثقافة جميع البلاد وتخفق أرواحها من حول بيتي طليقة المهاب فسيحة مدى الأنفاس ... ولكني لا أريد أن تكتسحني هذه الثقافات الأجنبية وتطير بي في الفضاء ... إن عقيدتي ليست تعاليم السجن ولا هي عقيدة المحبس والاحتجاز، ولكن لها مدى فسيحا لكل شيء حتى لأحقر مخلوقات الله، وإنما هي مع ذلك في منعة من زهو الجنسية وكبرياء الدين والمذهب واللون.»
وراح غاندي في جوابه ذاك يتشكك في مزايا الثقافة الإنكليزية، ويستريب بفضل التربية الإنكليزية قائلا إنها قد أحالت شباب الهند «خصيانا» ضعفاء؛ ولكنه أسف لما اتهمه به طاغور من أن وجه نظره ضيق لا يتسع لحرية الرأي.
على أن طاغور لم يكن يخشى غاندي نفسه، وإنما كان يخشى الغانديين وإيمانهم الأعمى به، ويظن الخطر العظيم في استيلاء غاندي على النفوس، واستبداده المطلق بالعقول؛ فكتب بيانه الخطير «نداء الحق»، وقد ثار فيه على هذا النزوع الرهيب، ذاهبا خلاله إلى أن الحركة الاستقلالية الهندية الأولى في سنتي 1907 و1908 كان يتولاها زعماء قد تأثروا بمبدأ كان نتاج قراءة الكتب، وثمرة مؤلفات بيرك وغلادستون ومازيني وغاريبالدي، فكان يفهمها الخاصة ولا يدركها العوام، ولكن جاء غاندي فحنا على الدهماء ولبس من لباسهم، وتزيا بزيهم، واندمج في غمارهم، وخاطبهم بلغتهم وعلى قدر عقولهم، فلم تلبث كل القوى الكامنة في النفوس أن هبت على ندائه، وبرزت على دعوته، وقد فرح طاغور لهذه الحياة الجديدة التي بدأت تظهر في بلاده، فعاد إليها من الغرب ليشهدها بعينيه، ولكنه ما لبث أن أحزنه مشهدها من قرب، فتلاشى فرحه وتبددت مسرته؛ لأنه رأى جوا خانقا حوله، وجمهورا يعيش تحت طاعة عمياء لسلطان زعامة تنادي بتعطيل الحياة وشل حركة الوجود.
وهكذا كان نقد طاغور موجها ضد تعصب الجماهير أولا وقبل كل شيء، ولكنه كان يمس غاندي أيضا باعتباره زعيمها، وصاحب السلطان على نفوسها، والمستبد بعقولها ومشاعرها؛ ليصرفها عن الاشتراك في الحضارة مع الإنسانية كلها، طالبا إليهم أن «يغزلوا فقط وينسجوا» مضربين عن شراء ما تخرجه الآلات وما تصطنعه ضخم الماكينات.
ولذلك يتساءل طاغور قائلا: أهذا رسول عصر إنشائي جديد؟! وإذا كانت الماكينات الضخمة تنطوي على خطر بالنسبة للغرب، أفلا تنطوي الآلات الصغيرة بالنسبة لنا نحن على خطر أكبر؟! إن يقظة الهند ينبغي أن ترتبط بيقظة العالم، وكل أمة تحاول أن تحتجز نفسها عن العالم، وتعيش بمفردها إنما تعتدي على روح العصر الجديد. بل لقد مضى طاغور يتحدث عن العظماء الذين لقيهم في حياته، أولئك الذين حرروا قلوبهم من أغلال القومية وقيود النزوع الوطني لكي يخدموا الإنسانية عامة، ثم ينثني يقول: «أفقدر على الهند وحدها أن تتغنى بهذه الأنشودة «السلبية» وتعنى فقط بخطايا الغير وظلمهم، وتجاهد في سبيل الحرية والاستقلال «السواراج» على أساس الكراهية والمقت والعداوة والحقد والبغضاء، إن الطائر إذ يستيقظ في عشه على مطلع الفجر لا يفكر فقط في الطعام والغذاء، وإنما تستجيب أجنحته إلى دعوة السماء، ونداء الفضاء، وشجي التغريد، وحلو الغناء؛ فلا تني حنجرته الدقيقة أن تمتلئ بالشدو الفرح والأغاريد العذاب، تحية لليوم المستهل والنهار المشرق وسطع الضياء، وها هي إنسانية جديدة ترسل نداءها، فليكن جواب الهند عليه متفقا مع طبيعتها، وليكن ردها هكذا: «إن واجبنا الأول في فجر هذا العهد ومطالعه أن نذكر الله الواحد الأحد الذي تتساوى عنده الطبقات والأجناس والألوان، والذي بخافي حكمته ومختلف قواه يكفل لكل طبقة حاجها، ويمد الجميع بعونه، فلندعه وهو الحكيم الواهب الحكمة أن يوحد قلوبنا ويؤلف بيننا، ويشد ما بيننا بفضل المودة والوئام ...»
وهكذا نرى كلمات طاغور، وهي أجمل ما توجه من الكلم إلى أمة من الأمم، أشبه شيء بقصيدة من خيوط الشمس، وأشعة الضياء، ومسكوب النور، محلقة فوق كافة الخلافات الإنسانية ومصارع البشر، ولكن النقد الوحيد الذي يمكن أن يوجه إليها هو أنها أعلى مما ينبغي، وأرفع محلقا مما يلزم، وأنها أسبق على الفكرة الأولى، فكرة التحرر أولا من الظلم والقيود والأغلال، ثم التوجه بعد ذلك إلى مطلب السلام والوحدة البشرية والإخاء العام؛ أي أن «غاندي» ينبغي أن يسبق طاغور، ويجب أن يأتي أولا ليؤدي رسالته، فإذا ما فرغ منها وانتصر بها وفازت الهند بحريتها وسراحها، جاء دور طاغور أو دور «الزعيم الإنساني» الذي يتغنى بأنشودة «البشرية» وترنيمة الإخاء والحب والوئام التام الذي يسود العالم من جميع نواحيه.
إن عيب طاغور الوحيد هو أنه الطائر الشاعر، أو «القبرة» الصداحة الشادية، كما يقول «هايني» في وصف موسيقار بارع، بل الشاعر الجالس فوق أطلال الزمن يغني ويشدو ويعيش في الأبدية، ولا ينظر إلى حاجة الساعة التي هو فيها والعصر الذي يحتويه، وإنما كل تطلعه إلى الغد يرسمه في أغانيه جميلا ساحرا فاتنا يأخذ بالأبصار والألباب.
أما غاندي فهو الرجل الذي يفكر في حاجة الوقت الحاضر ومطالب الساعة ولوازم اليوم الذي هو فيه، فهو من هذه الناحية ينقصه التحليق الشعري الذي أوتيه طاغور، ويعد هذا من صاحبه «لعب أطفال» لا يستحق عليه جوابا، وإن كان متفقا معه في أن حرية الروح هي أوجب ما تكون، وأحق شيء بالحرص عليه قائلا في ذلك: «لا ينبغي لنا أن نسلم عقولنا لقيادة أحد من الناس، فإن الاستسلام الأعمى للحب قد يروح أحيانا أضر وأبلغ أذى من التسليم الإجباري للطمة الطاغية، إذ ثم أمل في نفس المستعبد بحكم الجبروت والطغيان، ولكن هيهات أن يكون ثم أمل لعبيد الحب والطاعة العمياء ...!»
إن طاغور هو «الديدبان» الأعظم، والحارس الذي ينبه إلى مقترب الأعداء، وهي التعصب المذهبي، والجمود الاجتماعي، والجهل والانحطاط. ولكن غاندي لا يشعر بمثل مخاوف طاغور، وإنما ينادي العقل، ويطالب قومه بالتفكير، ومن الخطأ عنده أن يقال إن الهند إنما تحركت بحكم الطاعة العمياء، وإذا كانت قد اعتزمت القناعة بالمغزل، فإن هذا الاعتزام منها جاء وليد تدبر طويل وأناة وتفكير. وإن طاغور ليتحدث عن الصبر، ويقنع بالشدو الجميل وعذب التغريد، ولكن هناك كفاح وصراع، وجلاد وجهاد، فليس على الشاعر المغني إلا أن يضع معزفه جانبا ويطرح قيثارته، وليعد إلى شدوه وغنائه إذا ما انتهى الصراع وكف الكفاح، وساعة يشب في الدار حريق، يجب على جميع سكانها أن يخرجوا فيحملوا الدلاء ملأى ليطفئوا النيران. «إن الهند في حريق، وأهلها في مجاعة، وبنيها في مسغبة، والجوع والفاقة والمتربة هي الحجج التي تجتذب الهند إلى عجلة المغزل، أما شاعرنا هذا - أي طاغور - فيعيش في الغد، ويحيا في المستقبل، ويريد منا أن نحذو حذوه ونتمثل به، ويروح يصور لنا الطير في بكرة النهار تغني راضية قانعة وهي في السماء صافات، ولكن هذه الأطيار قد أصابت طعام يومها في الليلة الماضية قبل أن تأوي إلى الوكنات فوق الأفنان. ولطالما شهدت - هكذا يقول غاندي - أطيارا من فرط الألم والإعياء وضعف القوى لا تستطيع أن ترف بجناحيها أو تعلو قليلا بخوافيها والقوادم. إن الطائر الإنساني في سماء الهند ليستيقظ في عشه أضعف مما كان لحظة مأواه إليه ورجعاه، حتى لكأن الحياة في نظر هذه الملايين قد استحالت يقظة أبدية أو غيبوبة دائمة. ولقد طالما عجزت عن مواساة المعذبين؛ لأن آلامهم لا تجدي فيها أية مواساة، ولا يصلح لها أي عزاء.» «أعطوهم عملا ليجدوا قوتهم ويأكلوا ... وقد يسأل سائل: لماذا أغزل وأنا لست بحاجة إلى العمل التماس القوت؟! والجواب عليه هو لأنك تأكل سحتا وتطعم مما ليس لك؛ ولأنك عائش على استغلال بني وطنك، ألا ابحث في مصدر كل درهم يصل إلى جيبك تجد الحق فيما أقول ... يجب على كل فرد في الهند أن يغزل ... بل فليغزل طاغور كما يغزل الآخرون ... وليحرق ثيابه المشتراة من الخارج، هذا هو الواجب اليوم، وأما الغد فالله يكفله والسماء تتولاه.»
تلك هي كلمات غاندي، وما أرهبها من كلمات موحشة محزنة تستفيض فجيعة وأسى وبلاء! بل ها نحن منها إزاء شقاء الإنسانية مرتفعا متقلبا فوق أحلام الشعر وأماني الخيال ... فمن ذا الذي لا يشعر شعور غاندي، ومن ذا الذي لا يتأثر بشجوه وندائه ونجواه؟!
وينبغي ألا ننسى عند محاولة فهم غاندي وإدراك لب رسالته أنه لا يقصد من «عدم التعاون» إيذاء الإنكليز خاصة، ولا هو بموجهه ضد الغرب عامة؛ وإنما هو يقيمه حيال الحضارة الحديثة، الحضارة المادية، وما يلازمها من جشع وطمع واستغلال للضعيف وعدوان عليه ووطء حقوقه بالمناسم والأقدام، أو بعبارة أخرى هو محاربة لخطايا أوروبا وأغلاطها، وكفاح ضد ذنوبها ونقائصها وآثامها، فهو من هذه الناحية خير لأوروبا ضمنا ونفع لها وإحسان بالسواء.
تولستوي الذي تأثر به غاندي.
وهو في ذلك يقول: «إن «عدم التعاون» عندنا هو عبارة عن انزواء في أنفسنا وعزلة موقوتة لكي تتمكن الهند فيها من جمع شتات قواها قبل أن تضعها في خدمة البشر؛ إذ يجب أن تتعلم الهند كيف تحيا قبل أن تتطلع إلى أن تموت في سبيل الإنسانية.»
ومن هذا يبدو لك أن غاندي إنساني في تفكيره كطاغور، ولكن إلى حد ما، ومن ناحية مختلفة عن صاحبه؛ فهو إنساني أو «عام» من جهة شعوره الديني، بينما ترى طاغور إنسانيا من جهة عقله ووحي خاطره وجوهر تفكيره، ومن ثم كان غاندي إنسانيا على طراز القرون الوسطى، على حين نرى طاغور إنسانيا على غرار العصر الحديث.
وهذا بلا شك ينتهي بنا إلى أن عيب غاندي هو أن رسالته إلى الهند جاءت دينية أكثر منها وطنية أو عامة، وهذا هو الذي جعلها تخفق مرات متعددة، وتتعثر على الطريق أحيانا كثيرة، وتظل تخمد وتخبو، ثم تشتعل وتستعر، ثم تعود خابية هامدة.
ولا يزال أمامها إلى اليوم شوط طويل إذا قطعته أحدثت في العالم تطورا رهيبا، وانقلابا خطيرا، لا يتيسر لأحد اليوم معرفة مداه.
الثورة المصرية في أدوارها الأولى
من بداية القرن التاسع عشر، قرن الاستعمار، وتكاثر المطامع في التوسع والزحام على ترامي السلطان باسم توازن القوى بين الدول العظمى، كانت مصر مطمح بصر إنجلترا، وقبالة عينها الاستعمارية، ومشروعا في برنامج سياستها الثابتة.
ولكن مصر كانت يومئذ قوية شاعرة بقوتها، طموحا هي كذلك إلى التوسع صوب الشرق واكتساب السلطان في أهله، والتطلع إلى المجد برياسته، فبقيت إنجلترا مصطبرة لها، تترقب نواهز الظروف، وسانحات الفرص، وغير الحوادث، وتقلبات الأيام.
ونمت هذه الطماحة في صدر إنجلترا عقب مد قناة السويس، إذ تبين أنها الطريق السلطاني إلى مستعمراتها في الشرق وأملاكها التي راحت تزداد اتساعا وتترامى حدودا على ممر السنين.
ولو قد ظلت مصر طيلة القرن الماضي محتفظة بقواها، عاملة على مكانتها، واجدة من فوقها السلطان الحازم، واليد القوية المدبرة؛ لجعلت مفتاح قناة السويس في كفها، ويومئذ لما كان في إمكان أحد أن يمسها بأذى أو يبغي بها السوء، أو يريدها بعدوان.
ولكن مصر في داخليتها عقب النصف الأول من القرن الماضي راحت تضعف، وأحوالها مضت ترتبك، وماليتها جعلت تزداد سوءا على توالي الأعوام، إذ حملت على مجاراة أوروبا واحتذاء حضارتها في نزوة من نزوات الفتون بزخارفها وزينتها؛ حتى لقد اشترت المدنية الأوروبية بالدين، وجلبت مظاهرها نسيئة، وطفرت في ذلك كله طفرة خطرة، وتناهى بها الإسراف في الزينة والتطرية حتى غرقت في الديون إلى قمتها بسرف مترفيها، واستهدفت لغائلة الاستعمار الذي كان بالمرصاد لها، يترقب الظروف المواتية لينقض عليها انقضاضا.
وكان في أوروبا دولتان تتنافسان في الاستعمار وتتزاحمان، وكلتا الدولتين تود لو تصيب مصر في حوزتها، ولكن إحداهما في محاولة سابقة قبل سنة 1807 استطاعت أن تسحق أساطيل الأخرى في مياهنا، وتضطر جيوشها التي احتلت أرضنا إلى المآب في خيبة اليائسين، وظنت المنتصرة على عدوتها أنها قد أمست قادرة على غزونا، فأرسلت إلينا حملة بحرية لاحتلال بلادنا، ولكن جيوش محمد علي الكبير هزمتها وردتها عن الإسكندرية ورشيد خائبة فاشلة.
هاتان الدولتان هما فرنسا وإنجلترا، اللتان حاولتا في بداية القرن التاسع عشر امتلاك مصر وسيادتها، فانقلبتا خاسرتين في زحمتهما وغيرتهما، ولكن بقيت كل منهما تنظر إلى مصر طمعا وأملا.
وحين جلب إسماعيل على البلاد أفانين الحضارة بركوب الدين وضخم القروض، تحفزت المتنافستان فرنسا وإنجلترا، وهما دائنتان ملحتان في طلب السداد إلى التدخل والرقابة على المالية المصرية، فكان تدخلا ثنائيا، ولم يلبث أن طغى نفوذ المراقبين الفرنسي والإنكليزي، فراحا يصرفان الأمور جميعا، ويشتركان في الوزارات، ويقيمان سلطانهما في كل ناحية.
وكانت حالة مصر في نهاية حكم إسماعيل قد بلغت أشد السوء وتناهت إلى أعظم البلاء، فكان الفلاحون - كما وصف ويلفرد بلنت حالهم قبل سنة 1882 - في أشد الضنك يومئذ وأقسى الفاقة والهون، وكان المفتش إسماعيل صديق المشهور لا يزال في أوج عزه وذروة سلطانه، وحملة القراطيس الأجانب يجأرون مطالبين بدفع الأقساط، والمجاعة على الأبواب.
وكان من الأمور النادرة يومئذ أن يرى الإنسان شخصا في الحقول معتما أو على جسده أكثر من القميص، وقد غصت الأسواق في الريف بالنساء توافين من القرى لبيع ثيابهن وحليهن الفضية للمرابين «الأروام»، إذ كان جامعو الضرائب في القرى يسيطون الناس، ويعملون في ظهورهم «الكرباج» لانتزاع الضرائب، والأيدي منها صفر خالية.
كذلك كانت الحال في نهاية حكم إسماعيل، فلما خلع وتولى الأمر توفيق وكان حاكما ضعيفا خائر العزيمة؛ تفاقم الخطب، واشتدت الضوائق، وتغلغلت الرقابة الأجنبية في التدخل وإقامة السلطان على البلاد.
وكان المصريون مرهقين يتألمون ولكن في صمت، ويعانون البلاء ولا يرفعون الصوت، ولكن الأقدار بعثت إليهم بمن يبث فيهم أول أحاسيس الثورة، ويوحي إليهم أن البلاد ليست ملكا خاصا لحاكمها، ولا هي بضيعة لواليها، ولا هم بعبدان له ولا رقيق.
كان ذلك المعلم الأول هو السيد جمال الدين الأفغاني، فقد راح ذلك الفيلسوف الحكيم الأبي يبذر بذور النهضة الفكرية في البلاد، ويتحدث إليها عن الحكم النيابي ومزاياه، ويجمع إليه التلامذة والمريدين، ويوحي إلى توفيق بالرأي الصالح والنصيحة المسددة، ولكن القنصل البريطاني المتحكم يومئذ في إرادة الوالي الجديد ما لبث أن دس على ذلك المعلم الأول، وتلميذه الكبير الشيخ محمد عبده؛ فنفى المعلم من مصر جملة، وأبعد الأستاذ الإمام - أو تلميذه المصري - إلى بلده في البحيرة وهي محلة نصر، وكان ذلك أول عقاب للكشافين الأولين الذين أقامتهم الأقدار طلائع في الثورة المصرية للحرية والاستقلال.
وفي ناحية أخرى من الحياة ظهر رجل آخر يلائمها، وقائد كبير يناسبها، ظهر أحمد عرابي في الناحية العسكرية جنديا شهما ينكر الظلم، وينفر من الجور، ويغار على قومه، ويتوجع لما أصاب بلاده من العسف والإرهاق والطغيان.
وكان الجيش المصري يومئذ في أيدي رؤساء وقواد من الجركس والأتراك والأروام، يظفرون هم بأكبر المراتب فيه، ولا ينال المصريون من ذلك غير يسير، وكان أحمد عرابي الذي وجد عنتا واضطهادا من أول عهده بالحياة العسكرية ؛ بسبب نقمة هؤلاء عليه وكراهيتهم له لما ظهر من أنفته وبغضائه للظلم، قد أصاب في زملائه والجنود المصريين من أبناء قومه محبة ومكانا بارزا، فراح يمثل الجماعة في المطالبة بالمساواة والمناداة بالمعدلة والإهابة بالوالي إلى الإنصاف.
فما لبث أن نشأ في البلاد روح ثائر مضطرب خليط بين حركة سياسية تريد أن يكون الأمر لحكم الجماعة، وحركة عسكرية في الجيش ترمي إلى المساواة وإقرار العدالة.
وجاء اليوم الرهيب الذي يبدو فيه ذلك الروح ماثلا متجليا، جاء اليوم الذي شهدت فيه ساحة عابدين كتائب الجيش وحشود الشعب من خلفه وقد ملئوا رحابها، وعلى رأسهم الزعيم عرابي على صهوة جواده؛ ليعرضوا مطالب الأمة على واليها، ويستحثوه قضاءها باسم العدل والحق والقانون.
كان ذلك هو اليوم التاسع من شهر سبتمبر سنة 1881، بل كان ذلك اليوم الخالد هو الذي أولد الدستور وأقام الحكم النيابي، وبرز فيه انتصار الجماعة، وارتفع فيه صوت الشعب يملأ الفضاء ويقتضي الاحترام، ويوجب الاستماع إليه والإذعان.
وقد تألف عقب ذلك فعلا مجلس نيابي، ووضع دستور نظم الحدود بين الحاكم والمحكوم، ولو أن الأمر يومئذ ظل متروكا للنظام النيابي، لتغير تاريخ مصر في العصر الحديث.
ولكن الدسيسة بدأت تعمل نقمة من الدستور، كما نقمت منه بعد ذلك أكثر من مرة؛ لأنه سياج الاستقلال وسور الحرية، والحصن المنيع لوقاية كيان الجماعة. واختارت الدسيسة الاستعمارية لقضاء غاياتها فكرة خطيرة وأداة رهيبة وحيلة ماكرة، وهي أن العرش في خطر وأن الحاكم يوشك أن يحاط به، وأن حياة الأجانب في البلاد يخشى عليها السوء والغوائل والعدوان.
وهكذا رأت إنجلترا التي كانت راصدة لمصر منذ فجر القرن التاسع عشر أن الفرصة قد سنحت لها بعد سنين طوال وأدوار متعاقبة، حاولت في غير مرة أن تتملكها فلم تنل منها حين كان لها جيش قوي يحمي الذمار، ويصون الكيان، وأن الظروف قد واتتها لتحقيق ذلك الحلم الطويل والأمنية الصبور المتئدة المترقبة، فلم تتردد في الاستعانة بالدسيسة على معاودة الكرة والرجوع إلى المحاولة، وهي أكبر أملا وأيقن بالنجاح.
وبدأت دسيستها بتأليب الدول على مصر وإثارة سخط الرأي العام في أوروبا عليها بتصويرها في صورة الثائرة على الأجانب، الهامة بهم، الموشكة الانقضاض عليهم، ولم تكتف بذلك التأليب المحرش المخيف، بل راحت تدبر في الإسكندرية مذبحة رهيبة، فكانت حوادث 11 يونيو سنة 1882 التي سفكت فيها دماء عدة مئات من الأجانب والوطنيين.
وانثنت إنجلترا عقب تلك المذبحة تنادي الدول إلى وجوب التدخل لكبح جماح الثورة، والدفاع عن العرش، وحماية أرواح الأجانب، وكان غرضها الخفي من هذه الدعوة أن تعود فتحتال حيلتها لكي تستأثر هي بالتدخل وحدها إذا حان الحين وتواتت اللحظة المناسبة.
وتوافت الدول يومئذ إلى مؤتمر الأستانة لتقرير خطتها إزاء مسألة مصر؛ ولكن إنجلترا الداعية إلى عقده كانت تخدع به لتخفي نيتها، وتحجب مقاصدها خلف هذا الستار الذي أقامته.
ووضع المؤتمر قرارا، وكان القرار ألا تنفرد دولة باحتلال مصر أو جزء منها، ولا تحاول الظفر بامتياز خاص لا يخول لرعايا الآخرين.
لكن إنجلترا راحت خلال ذلك تعد العدة، وتتخذ الخطط، وتضع التدابير، وتعزز أسطولها المرابط في المياه المصرية، ومضت تقذف الرعب في صدور الأجانب المقيمين بالبلاد، موحية بأن حياتهم في خطر إذا هم لم يبادروا بالرحيل.
فهاجر هؤلاء آحادا وجموعا، خيفة من مزعوم الخطر على حياتهم من جانب مصر نفسها التي آوتهم، فعاشوا فيها في ظل ظليل. وأمرت إنجلترا رعاياها كذلك بمغادرة البلاد ليخلوا لها وجه مكرها، تصنع به في مصر ما تشاء.
وما لبثت أن ذهبت تتلمس الأسباب، وتنتحل العلل، وتختلق الذرائع للعدوان على البلد الأمين؛ فزعم أمير البحر «سيمور» الراسي بأسطوله في المياه المصرية أن جنودنا قد أخذت تحصن القلاع، وأن في هذا التحصين تهديدا لبوارجه ونذيرا بشر وسوء، وطلب في بلاغ بعث به إلى قائد موقع الإسكندرية الكف عن ذلك التحصين، وإلا أطلق النيران على الحصون فجعلها دكا وحطمها شر تحطيم.
فلما أجيب بأن الأمر لم يكن ما زعم، عاد إلى الوعيد، فقال في بلاغ آخر له بأنه سوف يضرب القلاع في صباح الحادي عشر من شهر يوليو إذا لم يسلم إليه رأس التين لتجريده من السلاح.
وكان هذا تحرشا ظاهرا، واستنفارا بلا سبب؛ فلم يلبث أن اجتمع مجلس الوزراء برياسة الخديو توفيق باشا، وبعث إليه بالجواب التالي:
لم تفعل مصر شيئا يبرر إرسال الأساطيل إلى مياهها، ولم تقدم حكومتها على أمر يستوجب ما طلبه الأميرال سيمور؛ فإن الحصون باقية على حالها، ولم يحدث فيها غير ترميمات تقيها التداعي وتحميها من الانهيار، فضلا عن أننا في بلادنا، ولنا الحق في أن نستعد لكي نرد عادية كل من يحاول تكدير علاقات السلام، ولا يسع مصر ما دامت متمتعة بحقوقها، حريصة على شرفها، أن تسلم حصنا واحدا من حصونها، ولا مدفعا من مدافعها؛ إلا إذا أرغمت على التسليم، وهي تحتج على التصريحات التي أعلنتها اليوم، وتلقي مسئولية جميع النتائج التي تحدث من إطلاق القنابل أو هجوم الأساطيل على الأمة التي تطلق أول قذيفة في السلم على مدينة الإسكندرية الهادئة، منتهكة بذلك حرمة القوانين الدولية وقواعد الحروب.
لقد كان ذلك هو صوت الحق والعدل والقانون والسلام، ولكن القوة الغاشمة لا تحفل شيئا من ذلك ولا تأبه به، فلم تعبأ إنجلترا هذا التحذير الحكيم، وأصرت أساطيلها على ضرب المدينة الوادعة.
ففي بكور اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1882 بدأت أساطيل سيمور ترمي حصون الإسكندرية بشواظ من نار، فأجابتها الحصون بمثلها، ولكن قذائف الأسطول كانت أفتك وأشد حصيدا.
كان ذلك اليوم بداية الاحتلال، ولكنه كان أيضا بداية التمرد عليه، والغضب منه، والدفاع حياله؛ بل بداية الوطنية المصرية في صدق منزعها، وصفاء جوهرها، وجلال معانيها، وكان يوم الشهادة والتضحية والثبات؛ فإن التاريخ ولا ريب سيفرد صفحات نواصع لأولئك القليل من الجند المغاوير، ومساعير الحرب الشم الصلاب الذين استشهدوا في سبيل الدفاع عن الحصون، وأبوا التسليم في المعاقل، وأصروا على أن يصمدوا فيها لقنابل الأسطول البريطاني وقذائفه، حتى تتهدم من فوقهم، وتسقط دكا فوق أشلائهم الممزقة.
كان ذلك يوما مشئوما، ولكنه كان أيضا يوما جليلا عظيما؛ فقد استطاعت «القوة» وفي جانبها الظلم والباطل والطمع والعدوان ، أن تفتك «بالحق» وفي جانبه العدل والشجاعة والشهامة والمروءة والإقدام، وبقدر ما كسبت «القوة» في الظاهر، ربح الحق كذلك في الباطن وإن بدا خاسرا صريعا؛ إذ سجل لكرامته، وأثبت لعزته، وكتب ليومه ووقفته، بدم الشهادة الزكي، ومداد الأرواح الذاهبة، وصمدة الوطنية للموت في أشرف مصارعه، وأسمى أنواعه، وأرفع معانيه.
واليوم بعد أن ذهب أكثر من نصف قرن على مصرع أولئك الشهداء الأوائل، وذهاب أولئك الضحايا الباكرين، وقد تم لبلادهم ما بدءوه هم وانتهوا منه في يومهم بدمائهم؛ بل اليوم وقد ظفر وطنهم بحقه الذي استشهدوا غضابا له، وقدموا نفوسهم رخيصة في أعينهم بالنسبة لقيمته - ينبغي أن نسجل في هذا الكتاب لجلال تلك البداية المشرفة للوطنية المصرية في أروع المواطن وأرهب الأيام، ويجب أن تستشعر نفوسنا الاحترام والإكبار لذكراهم، وأرفع التقدير لميتتهم، وهم في أحر مسرى الدماء لم يموتوا فاترين ولا لفظوا أنفاسهم الأخيرة باردة، ولكن سقطوا في ميدان الشرف مسبغي السروج، ملتمعي اللجم، مشتعلي النفوس، متقدي الأنفاس، مغسلين في دمائهم، مكفنين في لفائف من المجد، ملففين في أكفان من نسيج الملائكة.
وقد تلا ضرب الإسكندرية دخول الإنكليز القاهرة في الرابع عشر من سبتمبر سنة 1882، وبين هذين اليومين التاريخين كانت حرب وجرى قتال، وبرزت فيه الوطنية المصرية صادقة، ولكنها تجاهد في غير أمل، مخلصة ولكن في موقف يأس، ومن حولها عناصر جبانة ومكر وختل ودس، فكان دفاعها في الواقع استماتة؛ لأن عدوها قد أصبح في أرضها، ولأن قوته وموارده وسلطانه من وراء البحر أكبر وأزخر من قوتها، وكان موقفها في الحق موقف الاستبسال المؤمن بالهزيمة، ولكنه القانع بشرفها، المؤثر لمواجهتها على التسليم بغير مقاومة، والإذعان بغير عناد، والامتثال المتطوع الراضخ المهين.
كذلك كان موقف «عرابي» من تلك النكبة التي رأى وطنه قد أصيب بها، ولم يكن هو سببا من أسبابها، ولا كان يدور في خاطره أنها سوف تطم على بلاده وتفجأ قومه وتنزل بدياره؛ فقد أراد من بداية الأمر خيرا، وابتغى عدلا وحقا، ووقف موقف صدق، ولكن بريطانيا الطامعة كانت على مرصد ، فرأت في هذه الثورة الداخلية فرصة لتحقيق مطامعها التي طالت عليها السنون ودورة الأعوام.
وأنا لست من الذين يذهبون مذاهب الاتهام في أمر عرابي ووطنيته ويقولون بخيانة العصر وغدر بنيه، ولكني أعتقد أن «عرابي» كان جنديا وطنيا وعسكريا شهما أبيا، ولكنه لم يكن «سياسيا»، ولا أخا مكر وحيلة، ولا ذا لباقة ولطف مدخل ودقة علاج؛ فاندحرت جنديته، وانهزمت وطنيته البريئة في موطن لم يكن منتظرا لها فيه الغلب، ولا متوقعا لمثلها النصر والكسب؛ لأنه موطن التكاثر بالقوى والمغالبة بالموارد، والفوز فيه محقق للإنكليز، والخسر فيه مؤكد للمصريين.
أحمد عرابي باشا.
ولكن عرابي الذي غلبت فيه الروح العسكرية على السياسة وأفانينها، رأى المغير على وطنه قد نزل بأرضه؛ فدافع عنه مستبسلا في استماتة اليائسين، ويكفي للشهادة على بسالته واستيئاسه ما أقامه من الاستحكامات في «كفر الدوار» لصد القوات الإنكليزية الزاحفة عقب ضربة الإسكندرية بقيادة الجنرال ولسلي في شهر أغسطس من ذلك العام المشئوم.
لقد أوجد عرابي خطوطا حصينة في ذلك الموقع، وأكثر فيه من أساليب الاستحكام، مبالغة في الدفاع، وحرصا على بلاده، ولئن كان من الميسور للإنكليز القضاء على خطوط دفاعه، والتغلب على وسائل تحصنه واستحكامه، فلا شك في أن ذلك كان مقتضيا منهم عدة الضحايا، مستنفدا منهم بالغ القوة، مؤخرا لهم طويلا عن الزحف والاقتحام؛ إذ كان عليهم إذا هم راموا التقدم من هذه الناحية أن يخترقوا الدلتا، ويعبروا عدة ما فيها من الترع والأقنية والجداول ومجاري الماء، وهي كما لا يخفى عائق كبير في طريق الجيوش المغيرة والقوات الزاحفة المتغلغلة في البلاد.
وقد فطن الإنكليز لمناعة هذا الموقع عليهم، فلم يطيلوا المكث حياله، وإنما بادروا إلى التحول عنه والتماس مدخل إلى القاهرة سواه، فراحوا يحاولون الزحف من طريق الشرقية، ومن ورائهم الأسطول يقي ظهورهم من جانب قناة السويس؛ إذ كانت الخطة المرسومة من قبل لاحتلال مصر هي الدخول إليها من ذلك الطريق، وجاء الابتداء «بكفر الدوار» تجربة أو خدعة لكي يصرف «عرابي» كل قواه في التجمع عند موضع واحد ، وتركيز جهده في ذلك المكان بالذات، على حين يغيرون هم من طريق القناة ليخلو لهم وجه الزحف بغير مقاومة ولا اعتراض.
ولو كان عرابي بعيد مطارح البصر لكان أول شيء عمد إليه يومئذ هو البدار إلى القناة لردمها، ولكنه استمع إلى القائلين له إن القناة ينبغي أن تظل سليمة؛ لأنها طريق العالم، وسكة الدنيا، ومنفذ الإنسانية جمعاء؛ فارتبك ولم يدر ماذا هو صانع، وقد وجد نفسه وحيدا وسط غمرة مظلمة، بين عدو أجنبي مغير على الوطن، وبين دولة مصرية للأسف تناصره عليه وتحتمي به منه، وتحسب نجاتها من خطره على يديه، بل ألفى نفسه مترددا بين شعوره الوطني، وبين خيفته من غضب الإنسانية واستهدافه لنقمة الحضارة إذا هو سوى التراب على ذلك الطريق الجديد.
ومما يستحق الذكر بسبيل هذا أن «جون نينه» الذي كان مرافقا «لعرابي» أكد في كتابه عنه أنه في الوقت الذي بلغ فيه الأسطول البريطاني بورسعيد يحمل ولسلي وجنوده، تلقى عرابي من فردينان دلسبس حافر القناة الرسالة التالية:
لا تحاول سد قناتي فإني هنا، ولا تخش شيئا من هذه الناحية، فإنهم لن يستطيعوا إنزال جندي إنكليزي حتى يكون إلى جانبه جندي فرنسي، وأنا مسئول عن كل شيء.
ويقال إن دلسبس بعد أن احتل الإنكليز القناة راح يعلن أن نزوعه إلى جانب «عرابي» كان ناشئا من مجرد خشيته على القناة أن ينالها عرابي بسوء، وأنه لما رأى الإنكليز كافين للدفاع عنها وحمايتها كف عن ذلك النزوع.
لقد كان عرابي كما قلنا وسط غمرة محيطة به، فلم يلبث أن جاهد بآخر قواه لينهزم شريفا، أو يدافع غير منتصر، إذ لم يعمد إلى تهيئة خطوطه الدفاعية في التل الكبير إلا بعد أن كانت القوات الإنكليزية قد احتلت قناة السويس، وعرت الحدود الشرقية من كل دفاع.
لقد أنقذت إنسانية «عرابي» - وقد تغلبت في ذلك الموقف الدقيق على «وطنيته» - العالم الحديث من خسارة هذا الطريق السلطاني العظيم الذي ساعد الحضارة على الانتشار، ومد لها في السلطان، وكان لها المخرج المأمون من أخطار الطواف بالرجاء الصالح، حتى لقد قال الجنرال ولسلي يومئذ: «لو أن عرابي سد القناة كما كان ينوي لكنا الآن لا نزال في البحر محاصرين مصر، ولكن عرابي تردد أربعا وعشرين ساعة، فكان تردده هذا سببا في نجاتنا.»
كان عرابي وطنيا مخلصا، يحارب وهو ضعيف قليل الأنصار، قوات رهيبة تتسلح للتغلب عليه بعدة أساليب ومختلف وسائل، ولا تكتفي في ذلك بالمدفع والسيف، فإن إنجلترا ذهبت تستعين عليه بما هو أشد من هذين السلاحين فتكا وأفعل أثرا، فراحت تطلب إلى سلطان تركيا أن يعلن المصريين أن عرابي قد شق على خلافة المؤمنين عصا الطاعة وجنح إلى العصيان، كما جعلت تسخر سلطة الخديو توفيق في حض الضباط والجنود والأعيان على خذلان عرابي والانضمام إلى الإنكليز، بل عمدت إلى سلاح آخر - وهو الرشوة - للتغلب عليه، فجعلت ترشو الأعراب في الصحراء، وتشتريهم بالمال حياله، وتستعينهم على ما أرادته به، حتى استطاعت رشا البدو والأعراب من غزة إلى السويس، وقد قال أحد أعوانها في هذه الناحية إنه أنفق عشرين ألفا من الجنيهات على القبائل الضاربة في تلك الأنحاء.
وكذلك ظل قائد القوات الإنكليزية - وهو الجنرال ولسلي - متريثا متمهلا حتى يصيب ثمرات مكائده وأساليبه الخفية، ثم يقدم على المعركة الحاسمة، وقد استبطأته حكومته وقلقت لهذا التمهل منه؛ فجعل يؤكد لها في رسالاته وتقاريره أنه سوف لا يضرب الضربة الأخيرة قبل الثالث عشر من شهر سبتمبر، وهو تاريخ معركة «التل الكبير»، تلك المعركة التي بوغت فيها عرابي في فحمة الليل وسكون الظلام ونومة الجند، فهب مجفلا هو وقواته على دوي المدافع وقصف الرصاص ومحاصد الحياة بمناجل الموت.
وقد رأيت قوما يعيبون على عرابي ما يسمونه «فرارا» من الموقعة وجبانة من الموت، ولكني لا أعتقد ذلك، ولا أقول قولهم، فإن تراجع عرابي إلى القاهرة لا معاب فيه، إذ لم يكن فرار جبن، ولا هرب خيانة، ولا أبوق رعديد، ولكنه أوى إلى القاهرة للدفاع عنها، وإن كان دفاع اليأس كما كان الروح العام في القتال من بدايته، ولو أنه أراد نجاة من الموت بالفرار لالتمس سبيلا أخرى إلى غير القاهرة، ولما عاد إليها راح يستجمع القوى، ويحاول الذياد إلى اللحظة الأخيرة، ولكن الروح المعنوي في البلاد كان قد تحطم بعد أن أضحى العدو المغير على الأبواب، ففزع عرابي إلى سلطان الدولة، ولكنه لم يجد ثم نصيرا.
ودخلت قوات الإنكليز القاهرة في الرابع عشر من شهر سبتمبر سنة 1882، فتمت «المأساة» وحق مصرع الوطنية اليائسة، وابتدأت فواجع الوطنية الحزينة، وطنية المنهزم المتألم، وطنية الحق الذي غلبه الباطل ليتمكن منه إلى حين.
وكذلك فشلت الحركة القومية الأولى؛ لأن بريطانيا تدخلت فأفسدتها في ذاتها، وحرشت بعضها ببعضها الآخر، فأحبطتها بحملتها، ولولا أنها تمكنت من تلك الحركة الوطنية الباكرة واستغلتها لمصلحتها، لكانت مصر اليوم في صف أكبر الدول وأرقى الشعوب. •••
وابتدأ المغير المنتصر يقتص من الصامدين له، ويتعقب الذين ناهضوه وقاوموه؛ فجرت محاكمات، ووقعت عقوبات، واختنق الجو بأنفاس التهم والدسائس، وساد الأفق ظلام مخيم رهيب، توارت فيه الوطنية المصرية تلتمس المنجاة خيفة البطش، وتلوذ بالمكامن خشية الطغيان.
ولكن الوطنية ظلت في قيد الحياة، وبقيت سارية تحت التيار، فكان أول يوم في الاحتلال هو كذلك أول يوم في عذاب الوطنية الحزينة الجريح، الوطنية التي تخشى أن تذهب كلمة ماكرة بحياتها، وتجد أشد ألوان العقاب على مجرد الاتهام أو محض الارتياب.
وأعقب السنين الأولى من «التصفية» التي عمد الاحتلال إليها للاطمئنان بأنه قد استأصل الوطنية المصرية من الجذور، وأخمد حركتها فلم تعد ترسل ولا أنفاسا من لهب، ولا ذوائب من دخان. أعقب تلك السنين عهد لورد كرومر، وهو عهد من عهود السياسة الإنكليزية في مصر لم يمر على البلاد مثيل له؛ فقد جمع يومئذ بين العنف واللين، والصرامة والتسامح، واستعان الترغيب والترهيب، فكان في ذلك كله عهدا أفتك أسلحة من كل العهود، وكان مرحلة من أخطر المراحل التي مرت على الوطنية المصرية في مجتازها إلى الحركة القومية الثانية التي كانت تعدها العناية الإلهية ويتمخض عنها الزمان.
بيد أن الوطنية المصرية لم تلبث أن وجدت معوانا جديدا ، وظفرت بعامل آخر من العوامل الصالحة لها، الكافلة لتغذيتها، وهو «الصحافة» وقيام الأحزاب؛ فقد ظهرت البوادر الأولى للصحافة في تلك الفترة الساكنة في الظاهر، وإن كانت في الباطن فترة تجمع الأبخرة المحتبسة في جوف البركان، وكان لورد كرومر من الدهاء ولطف السياسة وبراعة الوسائل والأساليب بحيث لم يعمد إلى مقاومة هذا العون الجديد، وإنما رأى أن يصانعه ولا يشتد في محاربته، أو على الأقل لا يتظاهر صراحة بمقاومته ومناوأته؛ فبدأت الصحافة تنمو، وراحت تشب وتترعرع وتسري رويدا، وينفسح لها المضطرب، ويتسع لها الفضاء.
وكان الخديو الجديد عباس الثاني الذي تولى الأمر بعد الثورة الأولى قد اتخذ موقفا دقيقا للغاية، وسلك مسلكا يدل على يقظة وحذر بالغ؛ إذ كانت دعوى الإنكليز في احتلال البلاد من أنهم جاءوا لحماية العرش لا تزال الحجة التي يبررون بها بقاءهم، وكانت تلك الحجة هي أصل المصاب وسر النكبة، وكان الخديو الجديد الذي ورث أعقاب ذلك المصاب وتركة ذلك البلاء، يعرف مبلغ الأكذوبة التي تنطوي تلك الحجة عليها، كما رأى نفوذه الذي قيل إن الاحتلال إنما أتى ليؤيده، ولم يجئ إلا ليصونه، قد وجد من مدعي حمايته وزاعم صيانته افتياتا تدريجيا عليه، وقصا على مهل من أطرافه؛ فلم ين أن أخذ يقاوم أحيانا ويدع المقاومة أحيانا أخرى، ويصانع في شيء ويصمد في شيء، وهو بين ذلك عجيب السياسة، غريب الأساليب.
وكان هناك عامل آخر من الخارج يحرض سرا على المقاومة، ويبث في الخفاء روح الاعتراض والمغالبة إزاء سياسة الاحتلال وسلوكه وتصرفاته، وذلك العامل هو الدولة العثمانية بحكم سيادتها التي اعتدى عليها ولم تستطع أن تفعل شيئا، وتريد أن تنجو تابعتها من النير الطارئ الذي وضع فوق عنقها، وقد وقفت هي تشهد ذلك عاجزة.
وكذلك سارت هذه العوامل الثلاثة صدرا لصدر، تتجاوب وتتعاون على المقاومة ولكن في حذر، وفي غير كبير أمل؛ لأن الأمة كانت قد خرجت من الثورة العرابية بكراهية للسياسة، ونفور من السياسيين، وإشفاق من أشباح الماضي القريب وذكرياته الدامية، ولكنها مع ذلك لم ترتض الاحتلال لحظة واحدة ارتضاء تسليم وقبول، وإنما خلت إلى وطنيتها الحزينة وشعورها المكتئب صابرة متجلدة، ولكنه صبر لا يتاخم الذل، ولا يجاوز حدود المهانة والإذعان.
وكما كان الخديو ماضيا في سياسته اللولبية، كانت الصحافة ممثلة في «المؤيد» بادئ الأمر تعمل من ناحيتها ولكن بحذر أيضا ورفق ومخاوف، وكان الصحفي الكشاف من الأزهر كذلك شيخا مجاورا على جانب كبير من الذكاء، وقد أوتي حظا خارقا للمألوف من اللباقة وبراعة التناول ومهارة الأداء.
ذلك هو الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ذلك العصامي العجيب الذي سار بالصحافة في طريقها الجديد لولبيا كروح العصر، مواربا مماذقا وفق طريقته وأسلوبه، ولكنه وطني مع ذلك كله، ووطنيته متمشية مع الزمن ومراعية في مسالكها الظروف والموقف والاتجاه.
وفي ذلك الحين كان في مدرسة الحقوق شاب ذكي يطلب العلم، وقد بدأ يفهم المحيط السياسي الذي يكتنف حياة بلاده، وإن كان فهمه له فهم الشباب قبل أن تصقلهم الخبرة، وتعالجهم التجربة، ويفتح أعينهم على سعة أحداقها الاندماج في البيئة، والتوغل في الدرس والبحث والازدكار.
وفي حمية الشباب، وبشعلة الذكاء والإحساس المستجيب للخطابة والإنشاء، بدأ ذلك الشاب الجديد يبرز من المدرسة ولم يكن قد خرج بعد منها؛ إذ انثنى ينشئ - وهو طالب - صحيفة مدرسية، ومضى في حشد يحشده من إخوانه ورفقائه يقف على طريق الخديو في روحاته وغدواته ليؤدي تحية الوطني المخلص لولي البلاد، ويهتف بحياة حاكمها الشرعي، وينبه ذلك الحاكم المتململ من السلطان المشترك مع سلطانه، بل الجائر عليه في قسمة السلطة والنفوذ، إلى أن هناك جيلا جديدا يستجيب له، وشبابا يتأهب لتأييده.
ذلك هو الشاب مصطفى كامل، إذ ليس من شك في أنه كان زعيم الشباب في الحركة الوطنية الثانية بعد فشل الثورة العرابية، وكان وطنيا مستحمي المشاعر، ملتهب الوجدان، غزير الغريزة، زاخر الفيض بالأمل في نهضة وطنه من كبوته، ويقظته من خمود حركته، والمسير به إلى ربوة الحرية وهضبة الاستقلال.
مصطفى كامل.
والتفتت العوامل الأخرى لهذا الوطني الجديد، فجعلت في الخفاء تشجعه، وراحت سرا تؤازره وتدفعه؛ فما لبث بعد ترك مكانه في المعهد العلمي أن اتصل بالقصر، وأقام علاقة خفية بينه وبين تركيا أو دار الخلافة، وراح هو من جانبه يضع كل قلبه في العامل الوطني البارز للناس، وهو «الصحافة»، فاستطاع بفضل المساعدات التي جعلت تتوارد عليه إنشاء صحيفة «اللواء»، وهي في الحق الصحيفة الوطنية الأولى في ذلك الدور الدقيق من أدوار الحركة المصرية، بل الصحيفة التي راحت تغذي الشعور القومي وتنميه، وتستثيره إلى الإفاقة والنهوض.
وكذلك قامت في البلاد صحيفتان وطنيتان: المؤيد ثم اللواء، ولكن طريقهما في الواقع لم يكن واحدا، ومسيرهما لم يكن مؤتلفا، واتجاههما لم يكن مشتركا ولا متفقا؛ إذ جعل «المؤيد» كل وطنيته في مناوأة الإنكليز لمصلحة الخديو ليس أكثر، وإن كانت وجهة تلك المصلحة متفقة أحيانا ومصلحة مصر نفسها، مصر العانية المتألمة المغلوبة على أمرها المستبد بها من جميع الجهات، وجعل «اللواء» كل وطنيته منصرفة إلى استنهاض الشعب، ومحاربة السياسة الاستعمارية، ومناوأة الاحتلال، وإن ظل بحكم المعونة التي كان يتلقاها من الخلافة يدافع عن السيادة العثمانية، ويدعو إلى الجامعة الإسلامية، ويؤلب الشرق على الإنكليز.
على أن دعايته لتركيا لا تقدح في وطنيته، ولا يمكن أن تكون عابا في حق إخلاصه، أو ذاما بالنسبة لنزاهته؛ لأنه في الحق كان يدافع عن استقلال وطنه، ويريد أن يستعيد الحرية لبلاده، وإنما جعل أمر السيادة العثمانية سلاحا آخر في يده، وظهيرا إضافيا يقوي موقفه، ويشد أزره، ويزيد في بيان أحقية دعوته، كما جعل من سياسته ووجوه دفاعه الوطني الالتجاء إلى أوروبا، لحمل دولها على إنقاذ مصر من الاحتلال.
وكذلك كان مصطفى كامل الداعية الأول لمصر في الخارج، حتى لقد قام برحلات كثيرة إلى أوروبا وطوفات بأرجائها، واتصل بكبار ساستها وأهل النفوذ فيها، وخطب في أكبر ندواتها، وأولم أعظم الولائم لإنارة الرأي العام فيها بسبيل قضية مصر ومأساتها، وكان حركة دائمة ملتهبة على فرط تحوله ودقة بدنه ووهن صحته.
ولكنه لم يكن ليأبه بحق بدنه أو يحفل بقواه؛ لأن روحه كانت زاخرة بالقوة، مستفيضة بالعزم، مترعة أملا ويقينا وإرادة شماء.
وقد حارب كرومر في مصر محاربة دائبة، وقاوم اتفاقية السودان في سنة 1899، واستنكر أشد الاستنكار الاتفاق الودي الذي انعقد بين فرنسا وإنجلترا في سنة 1904، وهو ذلك الاتفاق الاستعماري الرهيب الذي تفاهم فيه المستعمران المتنافسان، وتراضيا على أن تطلق فرنسا يد إنجلترا في مصر، مقابل أن تطلق إنجلترا يدها في مراكش والمغرب الأقصى، وكان مصطفى كامل يظن أن فرنسا قد تعينه وتنتصر لندائه، وكان يتصورها بألوانها القديمة، نصيرة الحرية وحقوق الإنسان؛ حتى لقد قدم في بداية جهاده قبل ذلك بسنين كتاب استغاثة إلى شيوخ فرنسا ونوابها، وشفع الكتاب بصورة رمزية رهيبة بارعة الخيال، صورة مصر سيدة عارية الجسد مكبلة بالسلاسل والأغلال، يمسك بها أسد رابض، وعن يسارها شيخ متكئ على إناء تتفجر منه أمواه النيل، وبجوار الأسد رجل قابض على سيفه وواضع قدمه في الماء؛ رمز الاحتلال!
ولكن مصطفى كامل الشاب لم ييأس، وهو القائل: «لا معنى للحياة مع اليأس، ولا معنى لليأس مع الحياة»، وإنما راح يواصل جهوده ناشرا في العالم ظلامة مصر مستثيرا الدنيا إلى حديث وطنه المعذب الأسير.
ووقعت مأساة دنشواي، وهي قرية صغيرة ذهب إليها بعض الضباط الإنكليز لصيد الحمائم، فنشبت بينهم وبين أهلها مشاجرة صغيرة على صيده، انتهت إلى فاجعة رهيبة بسوء ما صنع الإنكليز؛ فقد ارتكب كرومر فيها أشنع خطأ يرتكبه سياسي في العالم، وتصرف بسبيلها تصرفا مشينا منكرا يلطخ قومه بالعار، إذ أقام محكمة مخصوصة في القرية للانتقام من الذين اتهموا بالاعتداء على أحد الضباط البريطانيين، وراح يرسل المشانق لتنصب في ساحة القرية على مشهد أهلها وأعين نسائها وبنيها قبل أن تبتدئ المحاكمات، وانثنى ينفذ الأحكام غداة صدورها أمام أقارب المحكوم عليهم وأهليهم المروعين البكاة الضعفاء، وصحب الشنق في ناحية، الجلد في ناحية، ووضعت في أطراف السياط قطع من الرصاص؛ فكان المنظر وحشيا ترعش من هوله الأبدان.
وقد وثب مصطفى كامل عقب المجزرة صائحا صيحة داوية، هازا ضمير الإنسانية، كاشفا الأستار عن هذه المأساة النكراء، مثيرا عاطفة العالم اشمئزازا واستحياء؛ فكانت نتيجة صرخته البالغة أفول نجم كرومر وانطفاء كوكبه، وختام حياته السياسية وتحطيم مجده؛ إذ عاد إلى بلاده، وعفي عن الأبرياء الذين ألقى بهم في غيابة السجون، وراحت دماء الشهداء مطلولة غالية الفداء.
لقد كان موقف مصطفى كامل من تلك المأساة وقفة وطني شجاع ثابت ناضح عن بلاده بكل قواه، ولو لم يكن في تاريخه السياسي غير هذه الحسنة لكانت كافية وحدها لإحاطة سيرته بهالة من شعاع المجد ولمع الفخار وضياء الخلود.
وكانت صحة مصطفى كامل في ذلك الحين قد ذوت، وزيت مصباحه كاد أن ينفد، فاخترمه الموت عقب ذلك الانتصار بشهر أو نحوه؛ أي في العاشر من شهر فبراير سنة 1908، فريعت مصر لمنعاه، وسرى الأسى البالغ في صدرها لرحيله، فشيعت جثمانه الذاوي الذابل في أفخم مواكب الموت، وأروع سفرات الأرواح إلى السماء.
كذلك مات مصطفى كامل قبل أن يتجاوز الرابعة والثلاثين، فكان موته رائعا جليلا؛ لأنه حفز الحركة الوطنية وبعثها أقوى مما كانت من قبل، وجدد يقظتها فانتبهت من عنف الصدمة انتباهة مستطيلة في حياة الجهاد ومسيرة القضية المصرية إلى نهايتها المؤملة وغايتها المرتجاة. •••
وكان مصطفى كامل قد وجد أنصارا له في البلاد وأشياعا يناصرونه، منهم الشجاع الجريء الذي يتكشف بمناصرته، ومنهم المتهيب الذي يشايعه مخافتا ويخشى الظهور في زمرته. وكان بين الأنصار الشجعان الكبار النفوس المخلصين حقا لوطنهم، الباذلين في سبيل قضيته عن ندى وسخاء، رجل متعلم مهذب عريق المحتد، حسن الموارد، قويم الخلق، طاهر النفس، محترم الشخصية، لم يتردد في مساعدة مصطفى كامل بكل جوارحه، ولم ينزو عن تغذية الحركة بماله وجهوده، متفانيا في الفكرة الوطنية بكل ذاته؛ ولو رام الراحة وابتغى الوظيفة وأراد السلامة من المخاطر، لكان له في كبار المناصب وفير نصيب.
كان ذلك النصير الكريم هو محمد فريد بك، فقد انضم إلى مصطفى كامل من بداية الحركة ومستهلها، ثم ما لبث أن أوغل فيها وحمل حصته الكبرى من تكاليفها، واضطلع بواجبه الوطني في بهرة ساحتها، واشترك مع صديقه الشاب في جهوده لبث الدعوة لها وتنظيم صفوفها ، والقيام بالرحلات في الممالك الغربية وطوافها، منفقا على القضية الوطنية عن سعة، سخيا لها كأنها صفوة حياته وجوهر وجوده.
محمد فريد بك.
وكان مصطفى كامل قد بدأ يفكر في تأسيس حزب يدعوه «الحزب الوطني»، وكان أول خاطر له عام 1906، وكان يومئذ متصلا بالخديو سرا، فاتفق معه على تنفيذ الفكرة، ولكن لم يتوات له ذلك في تلك السنة، إذ سافر إلى أوروبا لبث دعوته لقضية بلاده.
وعاد في سنة 1907 مريضا ضاويا يبدو أثر السقام على محياه، ولكن فكرة تأسيس الحزب كانت قد اختمرت في خاطره؛ فنشط لتحقيقها، ودعا الأنصار إليها، وألقى بالإسكندرية في أكتوبر من تلك السنة خطابا جامعا أعلن فيه مبادئ الحزب الذي ينادي بتأسيسه، ثم اشتدت وطأة المرض عليه، وألحت ذات الصدر على بدنه، فبادر إلى تنفيذ الفكرة في ديسمبر من العام ذاته، ولم يفارق بعد ذلك سريره حتى تخطفه الموت أوجع متخطف قبل أن يشرف على حزبه الوليد.
وكان محمد فريد الشخصية الفذة بين الأنصار، والرجل البارز الخليق برياسة الحزب بعد صاحبه، فكان انتخابه عقيب وفاة مصطفى كامل بالإجماع، وراح من ذلك الحين يجاهد ويغترب ويطوف، ويشرف على الصحف الثلاث: «اللواء» وأخويه «لاتندار» و«الاستاندارد»، ويبذل فيها من حر ماله كلما احتاجت إلى المعونة والغياث، ولكن الصحيفتين الأخيرتين استنفدتا أموالا كثيرة بغير جدوى، ومتاعب جمة بغير نجاح.
وكان خلف كرومر على السياسة البريطانية في مصر يجري على أسلوب غير أسلوبه، وهو سير إلدون غورست، فبدأ الضغط على الحزب الوطني يحس شيئا فشيئا، ولكن وطأة أساليبه لم تقتل الحركة القومية، بل كانت عاملا جديدا على تنميتها، وظل فريد في رياسة الحزب يكافح كما كافح صاحبه، وإن لم يكن قد أوتي براعته الخطابية وحماسة لغته.
وحدث في أوائل سنة 1912 أن نشر فريد بك مقالا في صحيفة الحزب عن السياسة الإنكليزية وأساليبها في مصر؛ فاستدعته النيابة للتحقيق معه، وخشي هو المعتقل، فنزح إلى الأستانة قبل أن ينال منه. وقد لبث في أوروبا يومئذ مجاهدا بآخر ما عنده، شريدا في الغرب ، محروما من الأوبة إلى بلاده، حتى نشبت الحرب العظمى وهو في ألمانيا، فقاسى خلال أعوامها السود أشد درجات الألم، وقد نفدت موارده من طول إنفاق على قضية وطنه، وسخي بذل وتفان وإخلاص ووفاء.
وقد شاهده بعض بني وطنه في آخر أيامه يسكن غرفة في سطح بيت، وقد أملق وأدنف وحط السقام على بدنه، وهصر الشقاء عوده، وسمعنا روايات كثيرة عن حياة الشظف التي كان يعيشها في تلك الأيام، وكيف كان يقاسي الخصاصة والفاقة معتزا بكرامته، حريصا على إبائه، شديد الأنفة؛ ولكنا نجد الألم في تردادها، ويحزننا قص تفاصيلها؛ لأنها تدل على مبلغ قسوة العصر على بطل وطني شجاع كريم، إذ كان ينبغي أن ينتشله من تلك المخالب الكاسرة التي نشبت في نفسه، وكان بلا ريب غير عادم سبيلا إلى البر به سدادا لبره، والوفاء له كما كان لوطنه من أكبر الأوفياء.
لقد قضى فريد شهيدا، ولسنا نعلم شخصية سياسية في ذلك الدور من الثورة المصرية كانت أنزه ولا أطهر من شخصية ذلك الوطني الذي أفنى حياته في سبيل بلاده، فقد جاد لها بكل ما ملك، وقضى لأجلها مملقا غريبا نازحا في نسيان مطلق من الناس، وإن ذكراه اليوم لعطرة أريجة، عباقة بنفح ذلك الروح السامي الرفيع الذي ضفا على حياته السياسية في عهد كان يمكن أن يسلم بنفسه، ويرتع في بحابح ثرائه، وينكمش لأثرته، ولا يستمع لوسواس إيثاره دون أن يلام أو يجد عاتبا؛ إذ كذلك كان العصر، وهكذا كانت الحياة، ولكنه كان فوق مستوى البيئة، وأسمى من وهدة الجيل، فما من عجب أن يروح في الشهداء والناس له شهود، والحياة ذاتها متفرجة، والجيل نفسه في كنود وجحود. •••
ومن بعد مصطفى وفريد لم يقم على ذلك الحزب رئيس من طراز أحدهما، ولا كفو شخصيتهما، ولا نظير أو ضريب إخلاصهما، وحين يفقد حزب سياسي مهما تكن رفعة مبادئه الرأس الصالح له والقائد الحريص عليه، لا شك يتحطم جملة واحدة، أو يأخذ في الضعف والخمول والانحطاط.
ولسنا ننكر أن الحزب الوطني بقي بعد فريد أعواما، واحتوى أفرادا أخيارا، وأشخاصا إخوان نزاهة وسمو أحاسيس؛ ولكن هؤلاء إنما جاءوا على فترة من السنين، وظهروا على شتيت متفرق وحزب مبعثر منتثر، فلم يستطيعوا أن يهدوه إلى سواء السبيل.
ومنذ أصيب هذا الحزب بنكبته في رئيسيه الأولين، جعلت الأهواء تتلقفه، والمنازع الشخصية تتلاعب به، وأيدي الشر والسوء تتناوله؛ فلم يلبث أن فقد اتجاهه، وضل على الطريق، وذهب أفراده ضاربين في كل ناحية.
وقد تلاشت هذه الجماعة كحزب من زمن بعيد وعهد طوال، وإن بقي ثم أشخاص يتشبثون بأنهم حملة تراثه ووراث تركته؛ ولكن هؤلاء إذا صح ما يدعون، كانوا أسوأ الوارثين.
لقد أصبح هؤلاء المتشبثون ببقاء النسبة فيهم لمبادئ مصطفى وفريد في أدوار متعاقبة وظروف محن طارئة، أدوات في أيدي الوزارات المتحكمة، وذيولا للطغاة والمعتدين.
ولكن يلوح لي أن ذلك الحزب الكبير الذي أسسه مصطفى كامل ومحمد فريد كان قد أتم دوره برحيلهما من هذه الحياة كتمهيد لما بعده، وتوطئة للدور الذي يليه في خطة الأقدار، وسياق الحوادث، ومسيرة الزمن، ومراحل الغد المجهول.
لقد أدى مصطفى كامل وصاحبه فريد الشهيد ما عهدت الطبيعة إليهما بتأديته قبل أن تدخل الثورة المصرية في دور نضوجها، وليس أبلغ في هذا المعنى من كلمة قالها مصطفى كامل نفسه في تفسير رسالته وهي: «إنني أريد أن أوقظ في مصر الهرمة مصر الفتاة، هم يقولون إن وطني لا وجود له، وأنا أقول إنه موجود، وأشعر بوجوده بما آنس له في نفسي من الحب الشديد الذي سوف يتغلب على كل حب سواه، وسأجود في سبيله بجميع قواي، وأفديه بشبابي، وأجعل حياتي وقفا عليه.»
وكأنما كان مصطفى كامل يودع دوره الطبيعي في الثورة حين وقف قبل رحيله من هذا العالم ببضعة شهور يقول على الملأ في خطاب سياسي له: «إننا لا نعمل لأنفسنا، بل نعمل لوطننا، وهو باق ونحن زائلون، وما قيمة السنين والأيام في حياة مصر وهي التي شهدت مولد الأمم كلها، وابتكرت المدنية والحضارة للنوع الإنساني بأسره؟! إن العامل الواثق من النجاح يرى النجاح أمامه كأنه أمر واقع، ونحن من الآن نرى الاستقلال المصري ونبتهج به، وندعو له كأنه حقيقة ثابتة، وسيكون كذلك لا محالة؛ إذ مهما تعددت الليالي وتعاقبت الأيام، وأتى بعد الشروق شروق، وأعقب الغروب غروب، فإننا لا نمل ولا نقف في الطريق، ولا نقول أبدا: لقد طال الانتظار! لقد وجهنا قلوبنا وقوانا وأعمارنا إلى أشرف غاية اتجهت إليها الأمم في ماضي الأمم وحاضرها، وأعلى مطلب ترمي إليه في مستقبلها، ولو تخطفنا الموت من هذه الدار واحدا بعد واحد، لكانت آخر كلماتنا لمن بعدنا: كونوا أسعد حظا منا، وليبارك الله فيكم، ويجعل الفوز على أيديكم، ويخرج من الجماهير المئات والألوف بدل الآحاد للمطالبة بالحق الوطني والحرية الأهلية والاستقلال المقدس.»
كذلك قال مصطفى كامل قبل مماته، كأن نبوءته بسعد المعد المهيأ للدور القادم تطل على الغيب من خلال كلماته، وكأنما كان مصطفى كامل بشيرا بسعد ودوره القادم قبل الإيذان بساعة الرحيل.
سعد زغلول في دور التكوين
كان سعد ربيب الثورة من نشأتها وفتاها البكر وهي في شبابها وريعان قوتها، ورسولها عند إيذان نضجتها، وبطلها الأوحد لتأدية أبلغ جزء في سفر رسالتها، وقائدها المدرب الخبير بحاجتها حين هدأت بعد فورتها، ومنظمها يوم احتاجت إلى التنظيم، وحكيمها يوم استوجبت الحكمة، وما من مطلب لها إلا وجدته فيه وافيا.
وفي الوقت الذي كانت الطبيعة تهيئ فيه البيئة لقبول الفكرة، وتعد الجماعة للنهضة والثورة، وتنضج شعورهم لها على هينة، وتنمي في الخاطر عامة إيمانه بها ويقينه، وتكفل لأدوارها التحضيرية الممهدين والمناسبين لها والموفين بحاجتها ولو راحوا يومئذ ضحيتها - في ذلك الوقت كانت الطبيعة أو القوة المحركة لهذا العالم، والعناية المشرفة على هذا الكون، لا تزال تصنع الرجل الأوحد المنتظر في حينه، المرتقب في أوانه، وقد ادخرته لأخطر مراحلها، وحرصت عليه لأكبر أهوالها، وقدرت في حسابها الذي لا يخطئ أن يكون هو قائد قواتها، وبطل أبطالها، وأن يروح ضمان نجاحها به مواتيا.
لقد جاءت به العناية الإلهية فلاحا من أهل القرى لتستكمل فيه لوازم المحيط، ويتناسب مع أغلبية البيئة، ويشب في أقوى أفق وأصح جو وأوفق وسط؛ ولكي ينشأ صلب العود من بدايته، قوي البدن من حداثته، متفتح الصدر للعواصف من طفولته، يمرح في الحقول، ويرتع في الغيطان، ويسبح في الجداول والأقنية، ويجالد الأقران في الصراع غاضبا أو لاهيا.
جاءت به فلاحا قوي العصب، سليم النسب، منتظم حركة القلب، مفتول الذراع، ممشوق القد، شديد الجلد، مضمور الجسد، في عينيه عمق، وفي وجهه أسد؛ لكي يخيف ويثير الرهب إذا ما حان الدور ووجب، وحتى يتحمل مطال المرانة، ومراحل التدرب، إذ جعلت في خطتها ألا تعجل به شابا فتيا، ولا نحيلا ضاويا، وإنما قدرت أن يتولى الأمر وهو شيخ جاوز الكهولة، وعدى الشباب؛ لتكون آيته أنه الشيخ الشاب، قويا على المحنة والمصاب، جلدا على الصدمات والخطوب، لا حافلا بالشدائد ولا مباليا.
وقد جاءت به كذلك «أزهريا»؛ ليدرس القرآن، ويأخذ عنه قوة البيان، ويكتسب قوة التعبير، وجزالة اللفظ، ولغة الجهاد، وأسلوب الإغراء، وسحر الترغيب، وجلال الترهيب؛ بل ألقت به في صحن الأزهر على حرارة اللهفة على العلم؛ لكي ينضج أكمل نضوج، وينصهر فيه أحر منصهر، ويطيب كل مطاب، ويكب على الكتاب، ويتمرن على الجدل والمناظرة، والمعارضة والمحاورة، والنظرية والبرهان.
لقد كان الأزهر مهد الثورة الأولى، فيه جلس المعلم الأول السيد جمال الدين الأفغاني يلقي من علم الثورة مباديها، ويمهد لها ويغذيها، ويستبي بمنطقه شبابها وذويها، بل كان الأزهر هو يومئذ الثكنة العلمية، وساحة الجهاد وثقافته، ومعهد الدين ورسالته، والوطن وحماسته، وكان الحقل القوي التربة، العنيف الأرض، الصلب الطينة، السميك الأديم؛ فلا عجب إذا كان قد أطلع على أدوار الثورة أبطالا، وأنبت على مر المراحل شخصيات جبارة ورجالا، ونوابغ عظماء الأذهان.
لقد كان الأزهر مستنبت النبوغ ومزرعة التفوق إذا كانت الملكات من ذاتها صالحة، والاستعدادات بالفطرة قوية مستجيبة؛ ولكنه كان مقبرة للضعفاء والعجزة وأهل الأذهان الجامدة. وهو إذا كان قد أخرج نوابغ آحادا، فلكم ذوى فيه من زهر صغير صوح قبل أن تتفتح منه الأكمام! ولكم ذبل فيه من عيدان قبل أن تخرج شطأها وتستوي على سوقها تعجب الزراع!
في تربة الأزهر القوية العنيفة المجهدة، نبغ عبر الأجيال نوابغ عدة، كما تلاشت مصائر ألوف طحنتهم حياة الأزهر تحت أنيابها الحادة، فقد خرج منه قوم صالحون على قلة، وذوت فيه مئات على كثرة. ولا غرابة في أن يأتي النبوغ الأزهري إذن على هذه الصورة الخارقة للمألوف، وأن يبرز النابهون «الأزهريون» فوق مستوى النبوغ المعروف، جبابرة العقول، أفذاذ الأذهان؛ حتى ليغزو النابغة الذي يجود الأزهر به الحياة كلها، ويغمر الجيل الذي يظهر فيه جميعا، ويستبي بسحره العقول، ويبده الأذهان بما يضفي عليه الأزهر من النفوذ والقوة والجلال، ويحدث في زمنه من الأثر العظيم ما يبقى حديث الأجيال، ويظل به منفرد النظير منقطع المثال، حتى تخرج من التربة ذاتها من بعده أنبات أخرى وعيدان.
من الأزهر خرج في القرن الماضي آحاد معدودون من النوابغ، وأمثلة باهرة الضياء، من مصابيح الذكاء، وبرز أفذاذ من الزعماء والمصلحين، والهداة والمعلمين: محمد عبده، وعلي مبارك، وعبد الله فكري، وسعد زغلول، وأمثالهم مئات لا سبيل هنا إلى حصر أسمائهم. والذين أخرجهم الأزهر أقوياء من قوة ترتبه، جبابرة العقول من جبروت بيئته، هم أولئك الذين ساقوا العصر أمامهم، ودفعوا في ظهر الجبل بحوافزهم، وفي خاصرة العصر بمهاميزهم، وأحدثوا نهضات مختلفة الأنواع متعددة الألوان.
كذلك جاء سعد «أزهريا»، تدرب في صحن الجامع الإسلامي الأكبر من الحداثة والصغر، على كل ما سوف يروح من مزاياه في الكهولة والكبر، وما سوف يرد عليه في مسيرة الزمن ودورة الدهر؛ بل لكأنما انحدر من «دسوق» بعد تجويد القرآن في خطة القدر لكي يتاح له الجلوس إلى أستاذ عظيم في الشرق كان قد نزح إلى مصر، ولكنه موشك على سفر، وهو السيد جمال الدين الأفغاني، وكان قد جاء قبل الثورة والمنفجر، يعلم ويحاضر، ويبث جديد الفكر، ويتحدث عن الديمقراطية والحكومة النيابية، والدستور والإصلاح، والدين والدنيا، والخير والشر. وكان لا بد لهذا «الأزهري» الناشئ في تدابير القدر، أن يسمع هذا كله ويتفكر فيه ويتدبر؛ لأنه جاء إلى هذا الجيل ليكون في غده زعيم ذلك جميعا وسائق الجيل إليه والعصر، وقائد الجماعة في النهضة إليه على السنين.
وفي حلقات الأزهر، راح هذا الأزهري «النظيف» الذي قدم إلى القاهرة من صميم الريف وهو في السادسة عشرة على الأكثر، يتلقى العلم الديني، وينهل من العلم الدنيوي، ويصغي إلى أحاديث السياسة، ويعرف شئون البلاد من أفواه المعلمين والأساتذة، وتتوثق العلاقات بينه وبين مريدي الأفغاني وطلابه، وهم يومئذ عديد من النوابغ، كمحمد عبده الذي كانت الأقدار تعده كذلك لناحية من الزعامة، وضرب من الإمامة، ووجه من وجوه الإصلاح والتجديد.
وأحسب سعدا في الأزهر - وقد حدثتك عن نوع تربته وصفة بيئته - لم يحتج إلى طول زمن ورخي آن لكي يبرز ويظهر، فبينما كان أكثر الذين يدخلون لطلب العلم يشيخون فيه ولما يكتملوا، ويذبلون في نواحيه، قبل أن يحين قطاف ما حصلوا، إذ رأينا سعدا في ذلك الوسط الذي انتقته له الأقدار انتقاء، وهيأته له خير متهيأ، ينبغ وشيكا، ولكن في أندر ما يطلع النبوغ من الأزهر، وفي الوقت ذاته أقوى ما يكون مطلعا على ندرته، وأروع ما يروح مظهرا على قلته، وهو ظهور الكاتب المفكر، وخروج الأديب الجديد الأسلوب؛ إذ كانت علوم الأدب ينظر إليها في الأزهر كأن الطالب المعني بها غير صالح، وكأن الذي ينزع إليها أكثر من منزعه إلى علوم الفقه والنحو والصرف، لا يرجى منه ولا أمل فيه، ومن ثم كان الذين ينبغون من الأزهر في هذه الناحية من الدراسة وهذا الوجه من النزوع والاستعداد عددا قليلا، ولكنهم مع هذه القلة يتبدون أفذاذا لا يشق لهم فيه غبار.
كان سعد إذن من النشأة «أزهريا»، ولكن على غرار جديد، ومن طراز نادر؛ فهو لم يتمكث فيه، ولم يطل الاختلاف إليه، كأنما كانت مجاورته له مرورا موقوتا وسياحة قصيرة، وعارضا له حكمته والغاية السريعة منه، وهو تخريج «الكاتب» الذي يلقي بذور الثورة في المحاولة الأولى من محاولاتها، ولا يتعرض كثيرا لأذاها؛ لأنه موفور محتفظ به لمحاولة أخرى على دوران الزمن وسيرة السنين ، يروح هو فيها الباعث الظاهر، والعلة المباشرة، والمشعل المضرم لنارها، والقائد الحامل للوائها وشعارها، والكاتب العريف بأقدارها وتغذية تيارها، والخطيب المعجز الساحر الذلق الزارع اليقين النافث الإيمان.
لم يمكث سعد في صحن الأزهر غير بضع سنين، لا أظنها جاوزت خمسا، وهي فترة بالغة القصر لا تكاد تخرج شيئا بالنسبة لجمهرة المجاورين، والسواد الأعظم من طلابه الذين تطول بهم الآماد في تلك الثكنة العلمية قبل أن يصيبوا أول أشرطة الجنود المجاهدين في الدين، ولكنها في سعد كانت كافية لكي تخرج الكاتب الجديد، والمفكر المستبق جيله، وذا القلم الحامي الملتهب الذي يعد النفوس للثورة، ويهيئ الأذهان.
وهكذا بدأ سعد حياته العلمية وهو في الحادية والعشرين - أي سنة 1880 - كاتبا مفكرا، بعد خمس سنوات فقط في صحن الأزهر، وهي بداية نادرة ومطلع عجيب، ولكنها في حياة سعد وسياق حوادثها وحلقات سلسلتها متناسبة متوائمة مع الدور الذي قدر له أن يلعبه في مصير أمته، والمركز الذي أعدته الطبيعة ليشغله فيما بعد من قومه وبني وطنه، بل هي الوظيفة نفسها التي قدرتها العناية الإلهية لغيره من عظماء العالم وأبطال النهضات وقواد الشعوب في الثورات والحركات العامة، وهي الناحية الوحيدة التي كانت خليقة بهذا الأزهري الجديد أن يجنح إليها في ذلك العصر ووسط ذلك الأفق، حيث كل شيء ينذر يومئذ بسوء، ويتمخض عن ثورة، وينم عن وشك انقلاب.
في الحادية والعشرين أمسك سعد بالقلم ليكتب للناس، ولو أنه كان إنسانا من عرض المجتمع، أو شابا اعتياديا يريد أن يسلك في الحياة سبيلا ذللا، لجنح إلى ممالأة النظام القائم، ومشايعة السلطة الحاكمة، ولكنه كان مطبوعا على الثورة، مخلوقا لها، منتظرا لأوانها، وكان عظيما وهو صغير، قوي الروح وهو شاب، مترفع النفس وهو مبتدئ؛ فكان أول ما كتب للثورة وفي الثورة، وأول ما أرسل قلمه فيه محاربا مهاجما مكافحا هو الاستبداد والظلم والانحطاط والجمود.
لقد راح سعد يبشر للثورة ويوطئ لها، ويجمع الوقود اللازم لنارها، فكتب كثيرا في تأييد الشورى وحكم الدستور وسلطان الجماعة، ونقم كثيرا على الحكم الفردي والنظام المطلق والنزوع إلى الاستعباد.
هذا هو كل ما اشترك سعد به في الثورة الأولى؛ لأنه كان يومئذ حديث السن، قريب العهد بالقاهرة، بعيدا من الطبقة الكبيرة التي باشرت الثورة، غير متصل بالذين تغلغلوا فيها وأعدوا عدتها، وعاشوا في صميمها وتحت حرارتها؛ حتى لقد اتهم بعد الثورة بأنه كان سرا أحد المشتركين فيها، ولكن التهمة لم تلبث أن بدت كاذبة، فلم يصب منها غير مقاساة السجن في بداية حياته، وتجربة شيء مما يتعرض له أبطال النهضات وزعماء الحركات العامة بسبيل ما ينادون الناس إليه، ويدعون الجماعات إلى اعتناقه من الأفكار الجديدة والمبادئ الحديثة والتعاليم.
كان سعد قبيل الثورة العرابية المزمار المتغني بألحانها، والمعزف الصادح بأنغامها، بل كان المصور الصنع الراسم لمعانيها في أفخم ألوانها، وكان جماع الأحطاب الجزلة لنيرانها، ولكنه عند هذا الحد وقف؛ لأن دوره لم يكن قد حان، وأوان ظهوره في أحسنه وأروعه لم يكن آن، وإنما كان حضوره تلك الحركة الأولى في معاني الثورات لحكمة من حكم القدر، وهي أن يشهد شيئا كالثورة ليشاهد أساليبها، ويختبر مزاياها وعيوبها، ويعرف حسناتها وسيئاتها، ويبلو بنفسه وجوه صوابها ونواحي أغلاطها، ويعلم الصالحين لها والأوكال عليها، والخلقاء بالمساهمة فيها، وغير الأحرياء بالانضمام إلى هيئتها، وحتى يكون ذلك كله بمثابة دور تمرين، ومرحلة رياضية، وسياحة فرجة، وفرصة اختبار ومشاهدة؛ لأن الطبيعة كانت تمهد له دورا آخر يكون هو فيه قطبه ومداره، ومظهرا أكبر من ذلك يروح هو رمزه ومصباحه ومناره، فوفرته يومئذ حتى يستوفي حاجتها، وتركته حتى ينضج للظهور، ويستجمع أدوات الإعلان، ويبرز في الحين المناسب والأوان، فيغمر الساحة والميدان، ويكون في القضية المصرية رسول عهد جديد.
جاء سعد مع الثورة الأولى أو التجربة الفاشلة لها، متفرجا كما قلنا من ناحيتها؛ ولكنه جاء أيضا مع بداية الاحتلال ليكون حاضر أمره من مقدمته، مشاهدا لمناظر مصابه ونكبته، حتى لا يتكلم عن الاحتلال إذا ما نهض محاربا للاستقلال، عن طريق السماع ورواية الأقوال، فإن ذلك لا يعطي المتحدث القوة التي تهز القلوب وتضرب على الأوتار، بل لكي يتحدث عن مصاب كان هو أحد شهود رؤيته، وكاد يروح بعض فريسته، بشعور الحاضر الذي تألم، وإحساس الشاهد الذي ابتلي واختبر، واقتناع الذي لم يعد في نفسه أي خالجة ارتياب.
وانطفأت الشعلة التي التهبت قليلا ثم خبت، فأين يذهب سعد وفيم يصح أن يكون؟ فكان جواب الأقدار أنه قد مر دور التجربة، وبدأ دور الاستعداد. وأول شيء يحتاج الرجل المخلوق للثورة هو الصوت الداوي، والجرس المرنان، واستكمال أفانين الكلام، ومعاني البيان؛ ليكون الخطيب المؤثر في العقول، المستحوذ على الآذان، الجياش الصوت يسمع الصفوف، ويصغي إليه الزحام، ويقود الجماهير وفي يده الزمام، ويوحي إليهم اليقين ويشرب أرواحهم الإيمان.
وكان سعد من الأزهر، ومع قوة الاستعداد قد تمكن في وقت قصير من اللغة وتملك ناصية البيان، وقام بنصيبه من الثورة فمثل فيها دور «الكاتب»، وبقي بعد فشلها والاستعداد لغيرها أن يستكمل لوازم «الخطيب»، ولم يكن استعداده الأزهري يؤهله يومئذ لأكثر من أن يكون «معلما» في المدارس للصغار والناشئين، وهذا ما لم ييسر له، ولم يكن صالحا لمثله؛ أو يكون «فقيها» على غرار الأزهريين والمجاورين أنفسهم، وهذا ما لم يتهيأ ليكونه؛ لأنه كان في الواقع «عصريا» حتى في ذلك الدور المحافظ، والبيئة المتشددة في الجمود، بل كان كل تفكيره يومئذ جديدا، وكل منزعه إلى التجديد، وكل مجانحه نحو تهيئة الأذهان لقبول النظريات الحديثة في الحضارة والاجتماع.
أين كان يمكن أن يذهب سعد ليتهيأ لدوره القابل ويتجهز للغد المنتظر، ولم يعد يستطيع أن يواصل شأنه «ككاتب» بعد فشل الثورة ومنزل الاحتلال بالبلاد، إلا إذا كتب في الفشل ذاته وأرسل قلمه في مديح الخيبة نفسها؟ وهذا ما لم يكن شأن سعد، ولا من مثل سعد يكون، ولا هو على طباعه بالجائز، ولا وجد الاحتلال في بدايته أحدا يتطوع له بمديح، أو يسخر قلمه في خدمته، ولا كانت ثم صحف مهيأة كأدواته إلا قليلا، ولكن لغير المصريين.
لقد كان هناك طريق واحد يتناسب وأزهرية سعد وبيان سعد، ويصلح أن يكون مجالا لتمرنه على الخطابة، وفسحة لرياضته على المنابر، وميدانا لتجربة قوة الجدل فيه، ومظهر العارضة البادهة التي أوتيها، وبلاغة الأسلوب التي انماز يومئذ بها، ورصانة المنطق التي كانت بارزة فيه ... وذلك أن يكون «محاميا»؛ ليخرج منها بعد ذلك «خطيبا»، ويكون له في الخطابة ذلك الشأو البعيد.
كذلك كان سعد في المطالع «محاميا»، يدافع عن الحق بالنسبة للفرد، كتدريب له على الدفاع عنه فيما بعد بالنسبة للجماعة، وقد دخل يومئذ على المحاماة وهي صغيرة فكبرت به، قليلة الشأن فعظمت بنباغته وحسن مسلكه وطهارة تصرفه، ومنذ ذلك الحين والمحاماة مصدر النوابغ، ومعين الشخصيات البارزة، ومنبت الصالحين للجهاد والدافعين إلى الثورة، وكبار المشتركين في الحركة الوطنية، والطريق إلى الوزارة، والمعوان على البروز في صفوف المدافعين عن بلادهم والمكافحين.
وقد مرت بسعد مرحلة من مراحل حياته كان فيها ذلك الأزهري القروي الجديد في الذروة من هذه الصناعة، كما كان كثير من قواد الثورات وزعماء الحركات الفردية في التاريخ هم كذلك في طليعة المحامين.
سعد زغلول.
وكان لا يزال ينقص سعدا شيء آخر من باب الاستعداد للدور الذي قدر له القيام به وإن تقدمت سنه وجاوز كهولته، وهو أن يتحدث عن سوء ما صنع الاحتلال ببلاده، ومبلغ تدخله في إدارة شئون الحكم في قومه، ومدى سيطرته، ونواحي الفساد الذي أحدثه في المصالح العامة، ووجوه الاستغلال الجشع السيئ الذي عمد إليه بالنسبة للمرافق وسائر أجزاء الدولة، حديث الخبرة والتجربة، والمباشرة الفعلية، وكان ذلك يقتضي أن يكون «موظفا» قريبا من ممثلي الاحتلال ورجاله، مشاهدا عن كثب أساليبه ووسائله، مصطدما بمساويه ومفاسده، محتكا بجناياته وآثامه، مختبرا لأسراره وأغراضه ومراميه؛ لكي يستعين بذلك كله في دور التمرين على جمع الحقائق، وفهم الخفايا وإدراك السياسة واتجاهاتها ومجاريها وتياراتها، فوق الأديم ومن المسارب الخافية.
كذلك أرادت الأقدار لسعد أن يدخل وظائف الحكومة، وأن يتقلب في مناصبها، ويتنقل في كبارها وخطيرها؛ حتى بلغ مكان «الوزير» فيها، فإذا ما تحدث بعد ذلك عن سيئات الاحتلال ومناكره وجرائمه وكبره، كان لكلامه قيمة، ولحديثه خطر، ولنقده أثر ؛ لأنه كلام وزير جرب واختبر، ومثلت له العظات والعبر، وشهد كل ذلك السوء من قريب.
وكانت مباشرة سعد للوظائف مقتضية منه كذلك أن يستكمل ما نقصه، ويستوفي ما لم يكن أصابه، ويضيف إلى قوة أزهريته لوازم عصريته، وثقافة جيله وعلوم بيئته، فلما دخل القضاء الأهلي حيث المرجع فيه للقوانين الفرنسية، احتاج الأزهري الذي لم يدرس غير لغة دينه أن يدرس لغة قوانينه؛ فتعلم الفرنسية، وأعانه تعلمها والإكباب على دراستها والانكماش في استيعاب دقائقها ومطالبها على توسيع دائرة قراءته، إذ فتح أمامه آفاقا جديدة من العلم، وكشف حياله عن أفكار بكر من المعرفة وأفانين من الثقافة، وندحات مترامية للبحث والاستخلاص، والاقتباس والاستقراء.
كان سعد جديدا في كل ما سلك نفسه فيه، كان جديدا كأزهري؛ لأنه نبغ كاتبا، وأندر ما يكون الأزهريون كتابا. وكان جديدا كمحام؛ لأنه دخل هذه الصناعة وهي منحطة المستوى يومئذ قليلة الشأن سيئة السمعة فرفع مستواها، وعظم شأنها وأحسن سمعتها، فلما عطف على القضاء زانه وسما به، وصان كرامته، وحرص على استقلاله، وله فيه أحكام جديدة ومواقف مشهودة، ليس هذا الكتاب مجال ذكرها، فكان ذلك كله جديدا في القضاء، فانتبه العصر له، وأحسه الجيل الذي يعيش فيه، والتفتت الدولة نحوه لترى من هذا الرجل الجديد الذي برز على مسرح الحياة، واستحوذ على الاحترام في وسطه والإعجاب! فلم تستطع إلا أن تعجب هي أيضا به، ولم تتمالك هي كذلك من احترامه؛ فرفعت وظيفته في القضاء، ثم لم يبق أمامه إلا كرسي الوزارة فبلغه بعد بضع سنين.
وكان سعد جديدا كوزير، إذ عهد إلى «الأزهري» القديم بوزارة المعارف الحديثة، فإذا هو في العلم رجل عصري مجدد، ووزير مبتكر مستحدث، وإذا هو وطني جديد كذلك، وسياسي من طراز آخر غير ما ألفت الدولة من قبله، فإن أزهريته القديمة لم تمنع أن ينادي بجانب جامعة الأزهر إلى تأسيس جامعة حديثة للعلم الجديد، حتى يتحول بالغرض الذي رمى إليه الاحتلال من التعليم بجعله أداة للوظائف، وإقامة المدارس معامل لتفريخ الموظفين، إلى غرض جديد وهو التفوق في العلم للمنفعة العامة، والاستزادة من الدراسة لخير الشعب ومصلحة المجموع وخدمة البلاد.
كان سعد وزيرا مرهوبا، متكبرا كبرياء المقدرة لا كبرياء الغرور، وطنيا حريصا على حقوقه كوزير، محافظا على مكانه كمصري، مستقل الإرادة كرئيس، ممسكا بكرامته لا ينزل بها يوما إلى الإنكليز، فرأى في المعارف دنلوب المستشار يريد أن يسير معه كمسيرته مع الذين من قبله وزراء، له هو السلطان الفعلي ولهم هم البصمة والإمضاء، وهو كل شيء وهم ليسوا شيئا بجانبه، وعنده هو كل السلطان وعندهم هم الخور والتسليم والإذعان؛ فوقفه سعد حيث ينبغي أن يقف، واسترد منه المزيد من سلطانه، وقصره على ما ينبغي لمثله في حدود الاختصاص، ونطاق الواجب، ودائرة القانون.
وهكذا كان سعد في الوظائف جديدا، أدخل عليها في شخصه ومسلكه وتصرفه العناصر الخليقة بها، والمطالب التي كانت تنقصها، فراع الإنكليز أن يروا فيه هذه الشخصية الجديدة، فقال قائلهم - وهو لورد كرومر - في خطاب وداعه بدار الأوبرا في سنة 1907 كلمته المشهورة: «إني لأذكر - أيها السادة - اسم رجل لم أشتغل معه إلا من عهد قريب، ولكن معاشرتي القصيرة له قد علمتني أن أحترمه احتراما عظيما، وإذا أصاب ظني ولم أخطئ، فسيكون أمام ناظر المعارف الجديد سعد زغلول باشا مستقبل عظيم في سبيل خدمة هذه البلاد؛ لأنه قد أوتي جميع الصفات اللازمة لخدمتها، فهو رجل صادق، كفء، مستقيم، مقتدر، بل هو رجل شجاع فيما هو مقتنع به.»
لقد كانت تلك الكلمة اعترافا ونبوءة من رجل سياسي يعرف أقدار الرجال حتى في خصومه، ويزن الناس بأدق الموازين حتى وإن كانوا أعداءه؛ بل تلك كلمة أكرهته شخصية سعد على النطق بها إكراها، وشهادة أجبره هذا الوزير الأزهري الجديد على المصارحة بها إجبارا، والفضل ما شهدت به الأعداء، فقد رأى كرومر حياله عنصرا جديدا في الوظائف العليا؛ عنصر شجاعة لم تكن للذين جربهم من أيام الثورة الماضية، شجاعة الرأي إذا ما اقتنع به صاحبه، فما هو بمردود عنه، بل عنصر احترام للذات وحرص على الكرامة، يأبى فيها التفريط ، وينأى عن التساهل بسبيلها، وكبرياء وترفع لا يعرفان الملق ويكرهان الازدلاف، ويحتفظان بمركز الوزير في بلاده، فلا ينظران إلى الاحتلال إلا النظرة إلى الغاصب المستلب، لا السيد المالك صاحب السلطان.
لقد كان سعد يومئذ شجاعا جديدا، إذ كان العصر كله يومئذ في ناحية الوظائف والموظفين، عصر استسلام وتهيب، وعهد مصانعة ومخافة من السلطة غير الشرعية التي يخشى الاستهداف لغضبها، وتعتقد السلامة في تحامي خطرها، واجتناب التعرض لما تملك من نقمة وعقاب.
وكان سعد يومئذ في الشجاعة جديدا أيضا إزاء السلطان الشرعي في البلاد، إذا اقتنع بفكرة فلا يبالي في تنفيذها أحدا، حتى لقد وقفت شجاعته هذه بجانبه في ذات مرة إزاء الخديو، وكان هذا قد أراد رفض مشروع من مشروعات سعد بشأن الإصلاح في جلسة من جلسات مجلس الوزراء، فلم يمتثل سعد ولم يتهيب الاعتراض، ولم يطق صبرا على هذا الموقف من جانب سموه، فضرب المنضدة بيده مغضبا محتجا وهو يقول: «أنا الوزير المسئول، فلا بد من إقرار مشروعي.»
وقد بهت الوزراء في المجلس، واستولت الدهشة عليهم إذ نكروا هذه الجرأة من سعد، ولكن سعدا لم يألف إيلافهم، ولم يكن ليخنع خنوعهم، ولا عرف الاستسلام معرفتهم، ولم يكن ليسكن إلى المواربة، أو يلقي بالا إلى المجاملة في الحق، حتى لقد وقف في جمعية الاقتصاد والتشريع إزاء «سير برونيات» - وكان يتقلد منصب المستشار القضائي في ذلك الحين - موقفا رفيعا جليلا، يدل على هذه الشجاعة الصادقة التي كانت أبدا مظهرا من مظاهر شخصيته الساحرة البارزة، فقد قدم سير برونيات يومئذ مشروعا بتعديل قانون العقوبات، ودعا كبار الأساتذة والمحامين ليقولوا رأيهم فيه، فلم يكن من سعد إلا أن بادره قائلا: «من الذي وكلكم عن الأمة المصرية لتسنوا لها القوانين، ومن حقها هي وحدها سن القوانين بنفسها؟» فكانت تلك مجابهة قوية تستحق الاحترام والإعجاب.
كذلك كان إعداد المقادير لسعد قبل الثورة: جاءت به من الأزهر صحن الثورة وميدانها، ثم ثنت به على القضاء فكان قاضيا ثائرا على كل ما يمس استقلال القضاء ونزاهته، ثم عطفت به على الوظائف فانتهى إلى مركز الوزارة ليختبر مساوي الاحتلال من قرب، ويجرب عيوبه وجناياته تجربة خبير، بل ليشترك أيضا في تلك العيوب حينا والجنايات بنفسية الموظف أو الممثل القائم بدوره فوق المسرح، لا بنفسية المتفرج المشاهد الذي تبدو له المعايب أوضح وأبرز مما تبدو للممثلين، حتى إذا حان الوقت لمحاربة تلك المساوئ ومقاومة تلك المفاسد، تحدث عنها حديث الملامس لها، البصير بها، المدرك لجميع نواحيها، النادم على ما كان قد ند منه فيها وأخطأ فيه مرمى الصواب.
وبقي لاستكمال استعداده للغد القادم شيء آخر، وهو أن ينتقل من تجربة براعته الخطابية كمحام بصدد قضايا الأفراد، إلى تجربتها كخطيب سياسي بصدد قضايا المجاميع.
وكان قد غادر الوزارة في سنة 1913، وهو العام الذي وضعت الحكومة فيه مجلسا تشريعيا هيكليا، لا تتجاوز سلطته حد الاستشارة غير الملزمة، فوقف سعد حيال ذلك المشروع وقفة المحتج المستنكر، ونظر إليه نظرة الغاضب الساخر، ولكنه مع ذلك لم يستطع التحول عنه، وفتحت «الجمعية التشريعية» - كما سمي يومئذ ذلك المجلس - واشترك سعد في عضويتها منتخبا عن الأمة وهو لا يزال نافرا غير راض عنها؛ لأن القانون الذي سن لها لم يكن سوى «مسخ» بالنسبة للدستور، وراح سعد في البداية عند انتخاب الوكيلين وتحديد أيهما يصح له رياسة الجلسة في غياب الرئيس، ينادي جهير الصوت رفيع الغضب بأن الوكيل المنتخب من جانب الأمة ينبغي أن يكون المقدم عن الوكيل المعين من جانب الحكومة؛ لأن إرادة الأمة مقدمة فوق إرادة الحكومة، وسلطان الأمة فوق كل سلطان.
وعلى ضآلة الجمعية التشريعية وصورية وجودها وفرط القيود المحدودة بها، كان صوت سعد يدوي في جنباتها، وكان منطق سعد يقد الباطل بفأسه قدا، وكأنما هيأت الأقدار لسعد ذلك المجلس الابتدائي كمجال تحضيري يجرب فيه براعته المعجزة كخطيب، ويختبر مبالغ برلمانيته كممثل للأمة، ويدرب ذلاقة لسانه، وحر وجدانه، وقوة يقينه بحق الأمة وإيمانه، على مطالب الغد القادم، والغيب الوشيك الظهور.
في الجمعية التشريعية استكمل سعد كل معدات البطل المنتظر، واستوفى سعد سائر لوازم القائد الثائر، وإن له في جلساتها لكلمات جرت مجاري الأمثال، وآيات نواطق عن بطل الأبطال، وعبارات بلغت الذروة من الحكمة السياسية وقمة البلاغة والبيان.
لقد نضجت مشاعر سعد ومزاياه العقلية وجبروت ذهنه وزئبقية إحساسه، وجياش عاطفته، فأثمرت جميعا ذلك الخطيب النادر الذي يهز القلوب من الأعماق، وينزل صوته الساحر المرنان إلى أغوار الشعور، ويثير في النفوس أبلغ الحماسة، وأشد لهب الحمية، ووقدة الوطنية، وأعلى حرارة الإيمان.
لقد مثل أمام الناس في الجمعية التشريعية الخطيب المتمكن، النفاذ المعجز، الفاتن الحركات والإشارات، المطاوع صوته لخلجات شعوره وأدائه وتعبيره، المتفق جرسه صعودا وهبوطا وحنينا وترجيعا وتدوية وجلجلة وتدويما، نبضات قلبه، وجلال وقفته، وروعة شخصيته، وموضوع خطبته؛ حتى لو أن أجنبيا حضر سعدا وهو يخطب ولم يكن بلغته ملما، لتأثر بسماعه، كأنه المدرك لما يسمعه، وهذا هو نهاية ما تسمو إليه الخطابة وعبقريتها الساحرة ونغمها الرفيع، فكأنما هي عند سعد قد استحالت مقطعات موسيقية ينشجي بها كل إنسان، وترهف لها الأسماع والآذان، وتتحرك لها المشاعر الوجدان.
وكذلك انتهى يومئذ دور الأزهري الكاتب، والأزهري الوزير، والخطيب السياسي، ليبتدئ دور الزعيم، قائد الثورة، وحامل لواء النهضة، ووكيل الأمة، والمتحدث باسم الشعب بعد أن تمهد الأقدار له الحوادث، وتسوق له السياق، وتفسح الميدان لظهوره.
زعامة سعد وظهور مصطفى النحاس
حين نشبت الحرب العظمى في أغسطس سنة 1914، كانت وزارة رشدي باشا قائمة بالأمر، وكان الخديو غائبا في الأستانة، فارتبكت البلاد، واضطربت الحكومة، إذ حالت إنجلترا بين الخديو وبين المآب إلى مصر، لصلته بتركيا المحالفة لألمانيا، ولم تلبث إنجلترا أن فرضت الحماية على البلاد، وغيرت الخديوية، فأبدلت بها سلطنة، وعين الأمير حسين كامل سلطانا، وبقيت وزارة رشدي تتولى الأمر في تلك الفترة العصيبة، وراحت السلطة العسكرية البريطانية تعتقل خلقا كثيرا من مختلفي الطبقات اشتهروا بالحماسة لبلادهم، وعرفوا بنزعاتهم الوطنية فملأت بهم المنافي والمحابس والسجون.
وفي وسط تلك الزوبعة الهوجاء كان رجل عظيم يعيش في أكناف العزلة، مخلدا إلى الوحدة، وهو مع ذلك يتحرق لبلاده، ويترقب السانحة للوثوب، وإن رجلا كسعد عاش طوال عمره على الدأب والجهاد لم يكن بلا ريب يستطيع أن يدع نفسه بلا عمل، أو يسكن إلى الفراغ؛ لأنه من معدن حساس لا يجلد على برودة السكون، ولا يعيش في ظلال العزلة فارغا.
فلا عجب إذا رأينا ذلك الرجل العظيم الذي شهده الناس في المرحلة الرابعة من عمره يجلس إلى درس اللغة الفرنسية، ويتوفر على تفهم أسرارها ودقائقها، قد عاد وهو في الخامسة والخمسين يمسك بالكتاب متهجيا في لغة جديدة لم يكن له بها عهد، وهي اللغة الألمانية؛ لكي ينقذ ذهنه الكبير من ألم العزلة وصدأة الفراغ، ولكي يعرف طرفا من لغة ذلك الشعب الجبار الذي راح يومئذ يقذف بالعالم كله في شعلة نار عظيمة أحرقت جميع نشاط الدنيا، وهدمت الحضارات، وجاءت بأفكار جديدة، ودفعت آخر مراحلها برجل عظيم يحلم بالأمثلة العليا، وهو «ويلسون»، ويحمل رسالة جديدة إلى العالم، صائحا مناديا الإنسانية إلى مبادئ سامية تدعو إلى إنقاذ الشعوب الصغيرة المغلوبة على أمرها من ربقة الاستعباد وتقرير مصيرها واستعادة حريتها الضائعة، وإن كان قد خدع عند التنفيذ، واستغلت مبادئه أسوأ الاستغلال، وجاء التطبيق مصطنعا ملفقا.
وحين وقفت رحى القتال، وخمدت نار الحرب، وتهادن الأعداء في سنة 1918؛ أدرك سعد الذي أوى إلى العزلة ولبث في الوحدة طويلا، أن الفرصة قد حانت، وكان منها على مرتقب، وأن السانحة قد سنحت، وكان لسنوحها بالمرصاد.
لقد أحس سعد يومئذ أن أمته التي أكرهت على دخول الحرب في صفوف الحلفاء إكراها، وأجبرت على المساهمة فيها حتى ضد تركيا المسلمة إجبارا، واستمعت إلى نداء الحلفاء بأنهم إنما يحاربون للحق والعدل والإنسانية وإنقاذ الحضارة ... لقد أحس سعد يومئذ أن أمته التي استنزفت خيراتها، واستنفدت مواردها وأقواتها وأنعامها وبهمها وغلاتها، وسيق شبابها ورجالها وعمالها إلى ميادين القتال وسوح المجزرة، واصطبرت على الألم طيلة السنين، وعانت أشد البلاء متجلدة متحملة - قد حان أن تظفر بأمانيها القومية، وتشترك مع الشعوب المطالبة بالاستقلال والحرية، وتستمتع بجزاء ما أبلت في الحرب وميادينها الرهيبة.
أحس سعد ذلك كله، يوم التنادي إلى الهدنة، فجعل يضع المذكرات والتقارير، ويجمع إليه الأعوان والأنصار، واستقر رأي القوم بعد البحث والمشاورة على أن يتألف منهم «وفد» يحضر مؤتمر السلام نائبا عن الأمة، ومكافحا لقضية مصر أمام الإنسانية المنتصرة الظافرة، وطاف الجمع بالشعب في المدائن والريف يجمعون التواقيع ليعطوا الوفد قوة التوكيل عن البلاد.
وفي الثالث عشر من شهر نوفمبر سنة 1918 بدأ الجهاد الوطني، وظهرت بوادر الثورة، عقب ذهاب سعد مع بعض رفقائه إلى دار الوكالة البريطانية للقاء «المعتمد»، وكان يومئذ رجلا عسكريا، وهو سير ونجت باشا، وطلب السماح لهم بالسفر إلى أوروبا لحضور المؤتمر، والذود عن قضية مصر في الخارج؛ فرفض المعتمد طلب «الوفد» تعنتا وإصرارا.
لقد كان ذلك الرفض بداية نشوب الثورة أو سببها المباشر، إذ كانت في الواقع من حيث معانيها تعبيرا عن ألم وبيانا لأمل؛ فقد احتمل المصريون فواجع الحرب وتكاليفها، وخاضوا أهوالها وحتوفها مكبوتي النفوس، مكبوحي الغرائز، مسلوبي الإرادة؛ فلما انتهت ولم يجدوا تعويضا عن ذلك الألم، جاءت الثورة لتكون تعبيرا بليغا في تأدية معناه، كما أتى الأمل شرحا لمبلغه ومداه ومرماه. واحتاجت الأمة في أملها إلى تجسيم هذا التعبير عنها، فكان سعد هو «الرمز» القومي له، والفرد الأوحد الذي يتمثل الشعور العام فيه، وتتحد كل العناصر في ظهوره، وترتسم كل الأماني في بلاغة منطقه، وروعة صدقه، وجذوة وجدانه، وسحر بيانه، وتتصور في مناسبته للمعنى الجليل الذي دل عليه، والغرض السامي البارز منه؛ فكانت مصر الوطنية ماثلة في سعد الوطني بكل روعة الرمز، وجلال الصورة، وجمال المثال.
وهكذا تناسبت الثورة ورسالتها، والزعامة وصورتها، والبطولة وآيتها، بل هكذا تناسب سعد وأمته؛ قادها فأطاعته، وسار بها فتبعته، ودعاها فلبته، وأراد توحيد كلمتها ونسيان عصبية عناصرها لطوائفها ومذاهبها وملتها، فاستحال الناس مصريين، وكانوا من قبل في التعريف أقباطا ومسلمين.
وقد ظن الإنكليز بعد رفضهم السماح للوفد بالسفر أنهم بنفيهم سعدا والذين معه يستطيعون أن يخمدوا الجذوة، ويشلوا الحركة، ويطفئوا نور الوطنية الذي انبثق وأشع على البلاد فقبضوا على سعد في داره يوم 8 مارس سنة 1919، واعتقلوا معه صحبه وأنصاره، وأرسلوهم إلى «مالطة» في الخفاء.
ولم يكن سعد ورفاقه إذ حملوا من ثكنات قصر النيل إثر اعتقالهم يعرفون وجهتهم حتى أركبوا الباخرة من بورسعيد، ولكن عند تمثال دلسبس جاء الضابط الموكل بحراستهم قائلا لهم: إن طريقكم مالطة، فعرفوا يومئذ منفاهم.
وفي مالطة أقاموا لا يعلمون من أمر مصر شيئا حتى بدأهم حارسهم بقوله: «لقد غادرتم مصر بعد أن صيرتموها شعلة من نار!»
كان نفي سعد هو «الشرارة» التي دبت في الهشيم فأوقدت منه نارا، وقد اندفعت البلاد في وقدة الحماسة وضرام الحمية تبتسم للمنايا، وشبابها ورجالها بل ولدانها يلهون بالموت لهوا، ولا يخافون رهبا ولا سطوة، واستحالت مصر في أيام قليلة أفقا متكهربا، ومسرح حوادث جسام متعاقبة، لم تقتصر على المدائن، ولكنها غمرت الأرض كلها، ريفها وصعيدها، إذ اشترك الفلاحون فيها اشتراكا رهيبا، فراحوا يدمرون المحطات، ويقتلعون القضبان، ويهدمون مراكز البوليس، ويخربون كل تخريب.
ولست مع الذين يحبون أن يتفلسفوا عند الحديث عن سر الثورة المصرية وتعليل دوافعها، فيذهبوا إلى أن قيامها كان يرجع في سنة 1919 إلى الطمأنينة الاقتصادية التي كنا ننعم بها يومئذ بسبب ارتفاع أسعار الحاصلات، وبخاصة ثمن قنطار القطن، وتدفق المال في أيدي الزراع من وفرته وكثرته؛ فإن هذا التعليل «المادي» لأمر روحي وانقلاب نفسي هو في الحق تصغير لمعناه، وتهوين من مبالغه.
ولكني أومن بأن الثورة كانت وليدة الأمل بأن مصر قد حان أن تتنفس في جو حر، وتتمتع بحقها المقدس في الاستقلال؛ فلم تكد الشرارة تدب في الحطب اليابس حتى نهض أهل القرى غضابا متسعري النفوس، بعد احتجاز غرائزهم أربعة أعوام سويا، والحمل عليهم بأقسى ضروب القهر والإعنات جميعا، حتى لم يكن منهم أحد إلا وله دم مطلول، أو ولد ضاع في خدمة السلطة، أو جمل مأخوذ من حقله، أو أقوات انتزعت منه انتزاعا، وهو لبيعها كاره؛ فإن السلطة العسكرية البريطانية استبدت تحت نظام الحماية بالبلاد استبدادا شديد الوطأة، خانق النكاية، متناهيا في الأذى والبلاء والعدوان.
والناس ينزعون إلى الثورة إذ يجوعون وتلح عليهم المتربة، ولكنهم إذا اطمأنوا وتكاثرت أموالهم، خشوا الثورة ولم يندفعوا نحوها، خيفة على ما ملكوا، وحرصا على ما جمعوا واقتنوا، واستمساكا بما وقع لهم من اليسار ونضرة الحال ورغد العيش وطيب الحياة.
لقد كانت الثورة يومئذ ثورة نفوس، وهبة أرواح، وانفجارا رهيبا بعد حبسة مستطيلة واختناق أليم، وغليان قدر على نار مشبوبة لا ينطفئ لها لهب، ولا ينفد لها وقود؛ بل كانت ثورة الفلاح الصغير قبل الزارع الكبير، ثورة المتألم الكظيم إذ ينفجر ويغضب ويحتدم، ثورة المكبوح الذي يجد نفسه في سراح بعد طيلة كبت وقهر، وفترة ضغط واستعباد ومخاض عذاب طويل وآلام.
كان العنصر الروحي في الثورة بارزا على أحسنه، متجليا على أبدعه وأروعه، حتى لقد ساهم الولدان والأصبية في الأزقة في الثورة على أقدارهم، وبحسب مداركهم وقواهم؛ فكانوا يجمعون الأحجار لكبارهم، حتى يقيموا متاريس بأعراض الطرق في وجوه السيارات المسلحة التي تطارد الثوار وتتعقب المتظاهرين.
واشترك في الثورة البنات والفتيات والنساء، فلم تلبث الحماسة الوطنية أن انتزعت من قلوبهن الخوف الطبيعي فيهن؛ فرحن يبرزن جماعات في الشوارع، ويشيعن الجنازات، ويهتفن باسم الشهداء، ويرسلن بحياة الحرية النداء في أثر النداء، ولا يرهبن المدافع تحصد الناس حصدا، أو تمزق الجسوم أشلاء.
لقد هبت الحياة بكل أعمارها، كما وثبت مصر بكلا جنسيها للدفاع عن ذاتها، والذياد عن كيانها وحاجاتها؛ فكانت الثورة نارا مندلعة في كل مكان، من الإسكندرية إلى أسوان؛ وكانت كلما اشتد الإنكليز في محاولة قمعها تفاقمت، وكلما اقترفوا الفظائع في مغالبتها أو إخماد جذوتها، تناهت سعيرا، وتعالت ذوائب، وتسامت فوق كل محاولة.
سعد في ابتسامته الساحرة.
يومئذ اندفعت الحياة العامة كلها نحو الثورة، فتعطلت كل مواردها، ووقفت كل مرافقها، وماجت واضطربت، فلم تعد تجري على سياق منظم أو تسير على نحو معروف، وأضرب الطلاب عن الذهاب إلى المعاهد، وامتنعت جميع الطبقات عن أعمالها حتى الكناسين، وتعطلت المواصلات في المدائن، وأقفرت الحواضر، وبدت الشوارع مرهوبة الصور، مخوفة المشاهد، مكفهرة الأفق، وتتالت الحوادث بسرعة عجيبة في غير تفكير سابق أو تدبير مبيت، ووقعت المذابح في الشوارع علانية، وقتل الضباط الإنكليز في القطر، ووقف العمل في المحاكم والبريد والسكة الحديد، وأصدرت السلطة العسكرية الأوامر بإحراق القرى المجاورة للمحطات التي أعمل فيها الفلاحون التخريب والتدمير؛ فأحرق الإنكليز كثيرا منها، وأغاروا على قرية العزيزية وقرية الشوبك والبدرشين، فأعملوا فيها الحريق، واقترفوا فيها الشنائع النكر والجرائم الرهيبة وأفظع العدوان.
وانقلب أكثر الناس خطباء، حتى من لم يكونوا من قبل قد صعدوا المنابر، أو وقفوا يتحدثون إلى الجماعات، ولكن أولئك كانوا خطباء البديهة المنبعثين بغرائزهم وسليقاتهم، حين يجيش الإحساس، وترهف المشاعر، وتستجيب الألسنة لوحي القلوب، وكان أبرز الخطباء يومئذ هم الشباب، إذ راحوا يقيمون الاجتماعات في المساجد وتتوافى ألوفهم وحشودهم إلى الأزهر، حيث ألفوا البقاء طيلة النهار وزلفا من الليل، متحمسين للخطابة، مستبشري النفوس للتضحية والفداء.
وكانت لغة الخطب جديدة، لغة النفوس، قبل أن تكون لغة الألسنة ملأى بأعجب العبارات، مرسلة مع أروع الأخيلة، محتوية على أسمى التصوير، فكان أدب الثورة رهيبا مثلها؛ شعرا من أصدق نبعاته وأغزر رويه وبحوره وأقنيته، ونثرا بليغا ينزل إلى أعماق القلوب وتتفاهم به العقول، حتى التي لم تكن من قبل تفهم، وتستحمي به الأرواح، ويصور الموت حلوا بديعا خليقا بالإقبال عليه إذا لم يأت طائعا، حريا بالاستباق إليه مع المستبقين.
وكان رأس خطباء الثورة في فناء الأزهر وباحاته هو المرحوم مصطفى القاياتي العضو بالوفد المصري عند تأليفه؛ فإن ذلك الشيخ العالم، والثوري الجليل، والخطيب الأزهري المتقد الأسلوب، الجياش الصوت، كان البارز في الحشود، المسمع الألوف، المتغني بأناشيد الحتوف، وكان المزمار العميق الرنين.
وكان يشترك معه خلق كثير من طلبة المدارس العالية، وشباب الثورة الملتهبي الأرواح؛ كما كانوا إذا استوفوا الخطب، انبعثوا يوزعون المنشورات على الناس، وكانت هذه هي ناحية النثر الفني من لغة الثورة وآدابها، وكان نثرا خطابيا كل العناية فيه بالموسيقى والنغم ورنين الألفاظ ونارية الأساليب.
وكان توزيع المنشورات السرية فنا أيضا، برع فيه الشباب وأجادوه، حتى أحاروا السلطة العسكرية وعيونها المبثوثة في البلاد، فكان من أولئك الشباب من يتنكر في زي متسول خلق الثياب، وينطلق حاملا فوق ظهره خرجا لا يحوي غير كسرات يابسات من الخبز، أو غير قطع من قماش رث أخلاق، متوكئا على عصا، عاري الرأس، حافي القدمين، ميمما صوب الضاحيات القريبة لبث الدعوة إلى الثورة بين القرويين.
جرى ذلك كله، وسعد غائب في مالطة، ولكن المثل الذي أقامه قبل معتقله كان جليلا للغاية، فقد كان شيخا يسند في حدود الستين، وقد وجبت له الراحة، وحق له أن يستجم من متاعب الحياة، ويطلب الدعة والسكون، فنهض يومئذ للمطالبة بحقوق بلاده، ولم يكن شك عند قيامه في أنه ملاق خطرا عظيما، مستهدف لشر مستطير، وما كان يبعد أن يكون الشنق مصيره والإعدام نهايته؛ ولم يكن قد دبر شيئا ولا أعد للغد المجهول عدة، ولا رتب مع أحد ترتيبا، ولا بيت مع الزملاء خطة؛ ولكنه انبعث بقوة الإحساس الذي جاش في صدره، واستجاب للظرف الملائم لظهوره، واعتمد على الله وحده هو معينه ونصيره؛ لأن قوة إيمانه بالحق كانت في نفسه أعظم من أن يخطر بخلده معها أن يفكر في الثورة، أو يحسب لها حسابها، مع وضوح حقه واستحالة الجرأة على إنكاره؛ بل لم يكن به أدنى حاجة إلى تنظيم معدات الثورة، وهي يومئذ قائمة في صدر الشعب، مختلجة في نفس الأمة، فلا يحتاج الأمر إلى أكثر من إطلاق شرارة لتحيلها نارا متلظية متأججة اللهيب.
لقد ظهر سعد، وكان ذلك وحده كافيا؛ ظهر البطل المنتظر، والقائد الثوري المرتقب الذي ظلت الأقدار تهيئ الأسباب لظهوره، وتعد المناسبة لمتبداه ومطلعه. وكانت أول بوادر زعامته الشجاعة الأدبية التي يعطي بها القدوة ويقدم بها المثل؛ إذ لم تلبث السياسة الإنكليزية أن قابلت حركته الأولى بإنذار، وواجهت انبعاثه لأول وهلة بتهديد ووعيد، وكان ذلك ممكنا أن يحمله على القبوع في داره، والانزواء بعد تقدمه، وحساب العواقب قبل معاودة الإقدام.
ولكن سعدا الشيخ كان ينبغي أن يظهر حتى مع الشيخوخة؛ ليكون حافزا الشباب، مستثيرا الأقوياء، مستحميا قلوب الصغار والكبار على السواء، وفي ظهور البطولة على الناس مفاجأة قوية تنسيهم المخاوف والحرص على الحياة، وتبعث فيهم أكبر الشجاعة، وتثير لديهم احتقار السلامة والأمن والسكون.
لقد جاء يومئذ البطل الذي أحس أن رفاهية وطنه تقتضي منه ألا يمضي في دعته، ويسكن إلى صفو عيشه ورغده، وتوحي إليه أنه ينبغي أن يضع حياته وكل ما أوتي في هذه الدنيا من خير في راحة كفه، ويواجه بها غير هياب ولا وجل قصف الرعود، ومجهول المصائب والخطوب، غير جازع ولا متردد.
إن هذه الجندية الخشنة التي تلبس النفس الإنسانية لمكاره الحياة لبوسها وتشتمل بثيابها وأرديتها، هي البطولة، وأول مظاهرها احتقار الدعة والاستهانة بالراحة، وهما صفتان مستمدتان من الثقة بالنفس والاعتداد بالإرادة؛ لأن الثقة بالنفس إنما تركن إلى قوتها ونشاطها وكفايتها لاحتمال الأذى الذي قد يصيبها في سبيل غايتها، كما يستند الاعتداد بالإرادة إلى السخرية بالحياة التي لا تساوي في نظر العظيم العناية بالحرص عليها، ولا توازي هذا التشبث الذي يتشبثه سواد الناس بها، وإن البطل لينطلق في سبيله على أنغام الموسيقى التي تجيش في أعماقه، وتحدوه إلى التقدم، وهي تدق وتصدح في أطواء جوانحه، فيمضي طربا مطمئنا لا يأبه بمكروه، ولا يجزع من خطب، ولا يلقي بالا إلى كيد أعدائه وخصومة خصامه ومناوئيه وإن كانوا عليه متكاثرين؛ لأنه يعرف أن إرادته أعلى من إرادة جميع من تخرج له الأرض من الخصوم والأقران والأعداء والمنافسين.
البطولة لا تستهدي بعض الناس ولا تسترشد برأيهم، وإنما تطيع حاسة خفية في كيانها، ولا يمكن أن تتراءى حكمتها للناس كما تتراءى لذات نفسها ونظرها؛ إذ كل إنسان منا أقدر على الإلمام بمعالم طريقه، وأخبر بسننه وسبيله من أي مخلوق سواه لم يسلك ذلك الطريق ولم ينتهج ذلك السبيل؛ ولهذا السبب نرى العقلاء والبعيدي مطارح البصر يقبلون على البطل، فيجلسون تحت ظلاله، ويسكنون إلى أعماله وأفعاله، ثم لا يلبثون بعد قليل أن يجدوا تلك الفعال متفقة مع آمالهم، والأماني المتغلغلة في صميم ذلك الزعيم مؤتلفة مع أمانيهم هم وعلالاتهم. ولا يني الحريصون الحازمون يتبينون أن أعمال البطل مناقضة لموجبات الحرص ومطالب الحذر والحزم ومقتضيات السلامة والأمان؛ لأن كل فعلة تقاس بمبلغ سخريتها من الخير الظاهر والفائدة السطحية، ولكنها لا تلبث أن تبلغ ثنية الفوز آخر الأمر، فيخرج الحريصون والمترددون من مكامنهم وملاجئ حرصهم ومفازع حزمهم وحذرهم لتحيتها والهتاف باسمها، والانضواء تحت علمها المرفرف الخفاق.
كذلك صحب ظهور سعد البطل المنتظر إقبال كثير من الشيوخ والوزراء السابقين والموظفين الكبار المتقاعدين والأعيان والسروات والأغنياء على الفكرة، والاشتراك معه في الحركة، والمساهمة بالمال والرأي، ولم يكن منتظرا من أمثالهم الانضمام إليه، ولا كان مرتقبا منهم المبادرة إلى تشجيعه والوقوف بجانبه؛ ولكن سعدا كان رجلا يكسب احترام الجميع ويثق الكل بشخصيته وقوته وأصالة رأيه وثقته بذاته؛ فأقبلوا عليه مطمئنين، وتساندوا في غير خوف ولا تردد ولا إحجام.
إن شخصية سعد، تلك الشخصية الجليلة التي تكونت في الأدوار الأولى من حياته العملية منذ خرج من الأزهر إلى الميدان فبلغ مكان الوزير، ثم برز في الجمعية التشريعية ممثلا للأمة، نائبا عنها، متحدثا باسمها، مدافعا عن سلطانها؛ بل تلك الشخصية التي تعهدتها الطبيعة وجهزتها بكل معدات النبوغ ومظاهر الفتنة ورهبة التأثير هي التي نفثت في جميع من حولها، واجتذبت كل المعارف إليها، وقربت البعيد، وآمنت الخائف، وأزالت هيبة المتردد؛ لأن صاحب الشخصية الجليلة مثله كمثل المطر السح المدرار يحيي موات الأرض الجدباء، وكالعين الثرة النضاحة تدع الصحراء حديقة زهراء، وإن روحه المتدفقة لتعم وطنه، وتشمل جواره، وتغمر ناديه، وتملأ محيطه؛ وتبرز للنهضات، فتكون العامل الأكبر في التعجيل بنضوجها، وسرعة نموها، وما خروجه يومئذ للناس إلا كتوافر الدفء المنعش، والجو الملائم، والمناخ المناسب، ينضج الغراس، ويزكي الزروع، وينبت الحب، ويخرج الشطأ ويطلع الثمر، ولن يؤدي مؤداه ولن يسد مسده جميع ما يخترع من الأسمدة، وكافة ما يصطنع من المخصبات؛ لأنه يبرز بسنا ضيائه في الطخية الظلماء، فيرسل من قبسه على القوى البليدة المتواكلة الفاترة، فيجعلها تحتدم وتتحفز، وما الناس قبل مطلع البطل المنتظر إلا كأكوام القش، أو أكداس الحطب؛ فهل ترون الأكداس مشتعلة بذاتها ولو انقضت عليها وهي في موضعها ألف عام؟! أما إذا أرسل الله عليها شرارة من ضيائه، وتلك الشرارة هي البطل أو الزعيم المنتظر، فإنها لا تلبث أن تشتعل وتتأجج، حتى يستطير لهيبها، وتستفيض شعلتها، وتندلع ألسنتها، وكذلك ترى الرجل العظيم بمثابة الشهاب يسقط من السموات، وترى الناس كأكداس الحطب في انتظار الشعلة؛ فما هو إلا أن يسقط عليها من السماء حتى تشب فيها النار، فإذا هي مستعرة محتدمة تملأ الدنيا أوارا ووهجا وسعيرا.
لقد كنا نحن تلك الأكداس ... وكان سعد تلك الشعلة المقدسة!
وقد نهض سعد فتحرك الناس، ونفي من الوطن فثاروا، وغاب في المعتقل فكانت تلك الأحداث الرهيبة التي ندر أن يقع مثلها بين قوات عزلاء وقوات مدججة بالأسلحة، بل لقد شهدنا أكثر الثورات تنهض مسلحة من جانب الثوار والشعوب المغضبة والجماعات المائجة الحانقة، لولا الإيمان الذي يتسلح العزل به، والثبات الذي يدرع به الضعفاء، فيجدي عليهم أحسن الإجداء حيال الرصاص والنيران.
وإزاء غضبة الشعب الصادقة، اضطر الإنكليز إلى الإفراج عن سعد ورفقائه من منفاهم، وأذن لهم في السفر إلى حيث يشاءون.
وكان ذلك في 7 أبريل سنة 1919، فكان يوم فرح عام وابتهاج عظيم، قامت فيه المظاهرات الهاتفة الداوية، وانتظمت جماعات وحشودا حاشدة، وساهم فيها الرجال والنساء وكافة الطبقات، حتى لقد كانت العين تشهد خلال تلك المواكب المستطيلة الجرارة الحافلة عالما أزهريا يأخذ بيد قسيس، وقسيسا يعتنق شيخا، ورجلا يصافح شابا، والولدان من حول المواكب حافون، والبلاد كلها تموج من فرط الفرح وهجمة السرور.
ومن ذلك اليوم انتقل سعد من دور البطولة المنتظرة إلى دور العبقرية السياسية، والزعامة الوطنية، وقيادة الرأي العام.
وفي هذا الدور الخطير من حياة سعد تتجلى مقدرته، وتبرز شخصيته، وتتمثل عظمته، وكأن تلك الاستجابة له من الأمة والتفافها حوله وتفانيها فيه قد أنسته تقدم عمره، وضعف شيخوخته؛ بل أحالته شابا متجددا قويا فياض الحس بالحماسة والحمية والنشاط، فقد ذهب يجاهد ويكافح، ويتحمل من المتاعب والأذى ما لم يكن منتظرا من شيخ في مثل سنه أن يتحمله، وراح يجالد ويصطبر للبلاء كشاب في ميعة الشباب، وعنفوان الأعصاب، وقوة الحياة.
لقد برز سعد بعد سنة 1919 في دور الزعيم السياسي، حيال إنجلترا التي اشتهرت بالمكر والدهاء وبراعة السياسة، فاستطاع أن يحاربها بمثل سلاحها، ويكافحها بأشباه أساليبها، وكانت كلما أوشكت أن تنهزم في الميدان السياسي تعمد إلى مجرد القوة، وتلجأ إلى محض الغشم؛ فتقبض عليه وتنفيه، وتبعده من الأرض وتقصيه، حتى لقد ذهبت به إلى جزيرة نائية في المحيط غير مراعية أي اعتبار لشيخوخته، ولا حافلة تقدم سنه، ولا آبهة بأنه رجل متزوج تنزعه من أحضان زوجه وشريكته؛ فكان يسخر من هذه السياسة اليائسة، ويتهكم بهذه القوة الغاشمة، ويقول باسما بسمة الازدراء: «لتفعل القوة بنا ما تشاء!»
وعادت تنقله إلى جبل طارق وهي لا تدري ماذا تصنع به؛ فقد أحارها سعد في أمرها، وأفسد عليها كل سياستها ومكرها، وأحبط تجاريبها جميعا واختباراتها، فإن شخصيته كانت بعض أسلحته، وقوة حب المصريين له درعه المسردة وبعض خطوط دفاعه الحصين المكين، وبالشخصية الجليلة والحب الصادق العام، أوجد سعد من أشتات الناس أمة متحدة، وأقام رأيا عاما، وألف للدفاع كيانا ونظاما، وكانت هذه كلها قوة معنوية استطاع سعد بعبقريته أن يجعلها في كفه يقودها حيث يشاء، ويتصرف بها كيف يريد.
ومنذ كان سعد في الجمعية التشريعية وكيلا عن الأمة، وهو في دفاعه عن سلطتها، وتمثيله لإرادتها، يرتكز على الشعور الذي كان يكتسبه خارج جدران الجمعية وأسوارها بترديد صوته، وتأييد مواقفه؛ فكان ذلك هو النواة التي أنبتت فيما بعد وعلى مهاب الثورة، الرأي العام.
وكان من فضل الثورة أنها بظهور سعد أحالت هذا الرأي قويا ملموسا واضحا بارزا، وبعد أن كانت أجزاؤه مختلفة منقسمة بسبب الدين، ومخافة الأقلية من الأكثرية، راح سعد يوحد بين العناصر، ويؤلف بين القلوب، وينسيها العصبية الدينية، ويجعلها تقبل العصبية الوطنية، ويتجه بوحدتها الجديدة تحت ظل الهلال متفقا مع الصليب، نحو الدستور والاستقلال.
ويكفي أن يكون سعد مؤلف هذه الوحدة بعد أن كان الإنكليز يظنون أن الخلاف الديني معوان لهم على نجاح سياستهم وتثبيت أقدامهم، يكفي أن يكون هذا التآلف الروحي في ظل الوطن من عمل سعد وسحر شخصيته؛ ليكون شهادة بأنه كان رجلا سياسيا نادرا، وزعيما عبقريا من أروع طراز؛ فقد أوجه بهذه الوحدة الروحية الوطنية صخرة النجاة، وخلع على النهضة المصرية لونا من أبهى الألوان، وأبرزها في منعة وأمان من كل خطر، وترك للقضية الوطنية تراثا فخما تشعر الأجيال بأن أول واجبها هو الحرص عليه؛ لأنه الحصانة الدائمة من كل شر وبلاء.
سعد في تفكيره العميق.
وقد ظهر سعد في الثورة حكيما، بعيد مطارح البصر، وقائدا وطنيا غزير الموارد، قوي السلطان، ملهم الروح، سديد الرأي، صائب الفكر؛ لأنه لم يقف عند إيجاد رأي عام، بل ذهب ينظمه أحكم تنظيم، فبدأ قبله معتقله في مالطة يحصل على تواقيع الأفراد على توكيله عن الأمة في السعي إلى استقلالها التام، فاستطاع سعد بذلك أن يجابه كل معترض، ويواجه كل خصم مكابر، ويثبت أنه وكيل الأمة المعبر عن مشيئتها، المتحدث باسمها، الناطق عن إرادتها ورغبتها الصادقة.
وأنشأ بعد ذلك ينظم الوفد، فجعل له لجنة مركزية في القاهرة، ولجانا فرعية متعددة في عواصم الأقاليم والمراكز والجهات، كما جعل للسيدات لجانا خاصة، وهذه اللجان جميعا بمثابة برلمانات صغرى ووفد محلي ومجامع شورى صغيرة، يتمثل فيها الشعب بكل طبقاته وهيئاته، ويبرز فيها الرأي العام واضحا قويا متماثلا مؤتلفا في غير تخاذل ولا اختلاف.
وهذا هو الذي جعل للوفد قوة ظاهرة في البلاد، وحمل الإنكليز على الاعتراف بأن للوفد نظاما لا يجاريه في العالم نظام، وحتى قال سير فالنتين تشيرول الصحفي السياسي الكبير الذي كتب طويلا في القضية المصرية، حين قارن بين الحركة الوطنية في مصر وبين مثيلتها في تركيا: «إن الأولى تمتاز عن الأخرى بالتنظيم.»
وكان من فضل هذا النظام الدقيق أنه حين اعتقل سعد ورفاقه قامت في البلاد هيئة أخرى من الوفد تحمل علم الجهاد، وتتولى الأمر في غيابه، وتشرف على هذا النظام المكين، وتوجه الروح المعنوي في السبيل الصالحة والطريق القويم ، وحين قبض على أعضاء الوفد «الثاني»، وألقي بهم في غيابة السجون وحوكموا أمام المحكمة العسكرية وحكم عليهم بالإعدام، ثم عدل الحكم اكتفاء بالسجن؛ لم تلبث أن نهضت هيئة أخرى حلت محلها، وتسلمت العلم منها، وأشرفت على حركة الجهاد؛ وكان ذلك كله بترتيب سابق من سعد قبل معتقله، وتنظيم دقيق عين فيه الأشخاص تعيينا، وحدد الأسماء أدق تحديد.
ويكفي هذا للتدليل على أن سعدا أوتي «فن القيادة»، وكان حاذقا لكل أساليب الزعامة الوطنية؛ فإن قوة الرأي العام التي تعهدها سعد من مطالع الثورة ومبادئها وتوفر على تغذيتها، وحشد لها أكبر العناية بها، هي التي سندته في سائر مواقفه حيال السياسة البريطانية، وإزاء الوزارات المصرية التي كانت تصطنع لمحاربته، وتحرش بمقاومته؛ بل هذه القوة الإجماعية البارزة هي التي حملت الإنكليز على التراجع عدة مرات إزاءه، ورده إلى وطنه بعد المنفى في سيشل وجبل طارق؛ فكانت عودته يومئذ انتصارا باهرا له على خصومه واستقبلته البلاد استقبال الأمم للغزاة والفاتحين.
سعد العظيم وهو يخطب ومصطفى النحاس يكتب الخطبة.
وكان من سعد السياسي الذي يعرف كيف يخرج من أحرج المواقف ويعالج أدق المشكلات، ويستعين اللباقة والعبقرية السياسية وفنون القيادة على توجيه الرأي العام في أحكم الاتجاهات - كان من سعد السياسي سعد الخطيب الذي بلغ القمة في خلابة المنطق وبلاغة التأثير وسحر البيان، ذلك الخطيب الذي أنشأته الطبيعة من الشباب، فأقامته في الأزهر يستمكن من اللغة، ثم عطفت به على ميدان المحاماة ليبرز استمكانه فيها، ويتدرب على سحر الخطابة وبواعثها وأفانينها، قد عاد في قيادة الشعب وزعامة الأمة يجد في الخطابة بعض أدوات تأثيره، ومظاهر سلطانه على النفوس واختلابه للألباب.
وقد عد سعد بحق من أكبر خطباء العالم في العصر الحديث، وقرنوه بلويد جورج وبريان ودي فاليرا وجوزف تشمبرلين وكثير غيرهم من الطراز ذاته، ولكنا نعتقد أن سعدا يفضلهم جميعا، ويجب أن يوضع على حدته؛ لأن عبقريته كخطيب لا تقف عند جلال حركاته وقوة بيانه وبلاغة عباراته، ولكنها تتجاوز ذلك كله إلى سحر شخصيته، وإلى فهمه الظروف ، ونفسية الجماهير، ومواطن التأثير، ومستدق الخوالج، والدبيب إلى أعماق الشعور.
لقد كانت كلمات سعد دستورا للوطنية، وخططا للجهاد، وأساليب للكفاح، ووسائل دفاع وهجوم؛ إذا قال أصغت أمة بأسرها، وأنصتت بريطانيا وإمبراطوريتها، واستمع العالم بجملته.
وهو في ذلك كله ينماز عن الخطباء الآخرين من الساسة الكبار في الغرب؛ لأن هؤلاء إنما يخطبون في شئون سياسية أو استعمارية، ويرمون إلى أغراض خفية أو مقاصد يحبكها الدهاء والمكر السياسي، على حين يخطب سعد عن شعور ثجاج وإحساس مستفيض نباع، وخلجات نفس متقدة جياشة متسعرة؛ لأنه يتوجه بالكلام إلى مشاعر الجماهير، ويدق أوتارها الحساسة، وينفذ إلى مساربها الخفية، ويستمكن منها كل استمكان.
وكان سعد على قوة غير مألوفة في الجلد على الخطابة، حتى ليمكث الساعات الطوال، ولقد اعتمد سعد على هذه المقدرة الخارقة للعادة في مكافحة الوفد الرسمي الذي ذهب للمفاوضات الأولى برياسة المرحوم عدلي باشا. وكانت صحف سعد قد حوربت جميعا، وبات ولم يكن له صحيفة ولا لسان حال، فكان يخطب الوفود تلو الوفود من الصباح إلى ساعة متأخرة من المساء في غير كلال ولا تبرم ولا إعياء.
لقد كان سعد في الأدوار التي سبقت قيام الحياة النيابية وفي جلسات البرلمان وفي محاربة الخصوم وكفاح المستعمرين، بل كان إلى آخر خطبة له وهو يودع الحياة، مثال البطل الخطيب، والمنطيق المفوه العظيم، يحمل تحت لسانه وفي تضاعيف صوته موهبة نادرة كانت حرارتها من قبل ذائبة في مداد قلمه، بل كان الخطيب الذي إذا خطب الناس قاد آراءهم وقاد مع آرائهم إرادتهم، وإذا تكلم رفعهم فوق أنفسهم، وأحدث فيهم قوة جديدة لم تكن من قبل تجري في شرايينهم، وإذا رام غزو أذهان سامعيه نثر فيهم روحه، فكلهم إذ ذاك قطعة منه لا تزال تنجذب إليه بقوة مغناطيس منطقه، وجاذبية نفسه، وجلال سلطانه.
وإن تاريخ محاربة سعد لخصومه - وقد أبى القدر إلا أن يكون له خصمان، وأن تنفتح أمامه للعداوة والمناوأة ناحيتان: ناحية الإنكليز، وناحية صنائعهم ومنفذي سياستهم - لهو تاريخ مستطيل، ليس يتسع هذا الكتاب لمثله ، ولكنه - في إيجاز - تاريخ زعيم عبقري بالغ الذكاء، واسع الحيلة، مرن الأساليب، معتد بقوته، مستلهم وحي خاطره، عجيب التفكير في إيجاد الوسائل للخروج من المآزق، والنجاة من المحرجات، وتجنب الصدمات أو التعجيل بها إذا كانت في مصلحته، وخلق الأشكال لمرمى من مراميه، وغاية خفية من غرائب غاياته، ويوم يحاط به، حتى ليظن أنه قد سلم وأذعن، أو هو موشك على التسليم والمهادنة، انسرب ناجيا ليقف عن كثب يلهو بمنظر الذين ظنوا أنهم قد حاصروه وقد راحوا مبهوتين من خدعته في خزي من غلبه على تلك الصورة الفجائية المستغربة.
وقد كان سعد بجانب عبقريته السياسية «الزعيم» الأول للديمقراطية في بلاده، هو الذي وضع نواتها، وهو الذي سقى شجرتها، ورواها وغذاها، وقام على حراستها، وكان البستاني الحاذق الذي يتوخى لها أصلح العيدان، وينتقي لها أغرب وسائل اللقاح والتأبير، ويختار لها أحسن حقول التجاريب. وهو الذي أعمل المهماز في خاصرة النبوغ، فجعله يستبق ويطفر، بما تعهده في ظل الديمقراطية من رعاية وعناية وتشجيع، كلما وقع على كفايات فتية ومواهب مبشرة بخير، رفعها إلى المستوى الخليق بها، وأخذ بها إلى ميادينها الصالحة، ومستبقها المناسب، ومضمارها الفسيح.
سعد قبيل وفاته.
ومن عجيب تصاريف القدر الرحيم الذي كان يلحظ سعدا من النشأة ويرعاه من التكوين، أن البلاد أصابت الدستور وتصريح 28 فبراير سنة 1922 بثمن نفيه إلى سيشل، وأن ذلك الدستور الذي ظن الإنجليز وأعوانهم أنه سوف يروح أداة انقسام ومحل خلاف وباعث تشتت وتفكك، عاد بفضل سعد وقوة نفوذه في الرأي العام، وبعد ذلك المنفى الطويل الأليم في أسوأ أفق وأنأى جزيرة، هو المرجح الأوحد للإجماع، ومظهر مشيئة الأمة؛ فقد نخلت الحياة النيابية الأفراد الذين تقدموا ليحتلوا أماكن فيها، وغربلت الجماعات التي طمعت في التمثيل، فأبقت على الصالحين المخلصين، ونفت من لا خير فيهم ولا رجاء، فانقلب بذلك ما كان الإنكليز يحسبونه وسيلة حسنة لهم، أداة خطر عليهم؛ فجعلوا كلما اكتسح الوفد الانتخابات، يدسون على الدستور ويعملون على تعطيله، وقد عطلوه في أيام سعد ولم يقم غير بياض يوم واحد. ولكن محاربة الدستور جعلته عند الأمة يزداد قيمة ويرتفع قدرا، وينمي الحرص عليه، ويزيد الشعب تمسكا به؛ فبقي سلطان سعد قائما بارزا يملأ المسرح السياسي من جميع جوانبه، إلى أن قضى نحبه في الثالث والعشرين من أغسطس سنة 1927. وكانت مصر من فرط حبها له وسكونها إليه وإيمانها به، لم يدر في خلدها أن رجلا مثله مقدور عليه الموت ككل حي، منتظر له الرحيل من هذا العالم في يوم من الأيام، فلما صدمت بنعيه كاد يذهب لبها من شدة الجزع، وكادت الأرض تميد بها من فرط الألم للكارثة وشدة الأسى من الخطب العظيم.
وفي الحق لقد كان سعد أمة للوطن قانتا، وكان في الدفاع عن مصر طودا ثابتا، ولم يكن إنسانا على ما ألف من خلق الناس، ولكنه كان قطعة بارزة من التاريخ الحديث، بل كان سرا من الأسرار الإلهية لا ندري كيف جاءنا، وكيف ذهبنا به إلى مساكن الأبدية، وكان صورة رائعة حية ماثلة من صور البطولة والعظمة وجلال الشخصية، وكان عظيما في رأس العظماء، وقديما كانت الشعوب لجلال العظمة تذعن وتؤمن وتدين.
لقد طبع سعد العصر كله بطابعه، وأوحى إليه بخاطره، ولون سائر أجزائه بلونه، بل كان الضمير الذي به يحس، والوجدان الذي به يشعر، والنبع الذي منه يفيض وينبجس، وقد مات تاركا أمة حفيظة لتعاليمه، حريصة على مبادئه، مقدسة لذكراه، مجاهدة لاستكمال ما صنع، واستتمام ما بدأ، والمسير إلى الغاية التي كان يعمل لها بقوة اليقين ذاته وروعة ذلك الإيمان.
لقد قاد سعد الثورة موفقا، وقاد السياسة بعد الثورة ناجحا، وكان أكثر نجاحه عائدا لسر شخصيته، وفعل عبقريته، وتعدد مزاياه ومواهبه؛ ولكن لا ريب في أن عوامل خارجية وظروفا مساعدة مواتية اجتمعت له فكانت من أسباب توفيقه وبواعث نجاحه.
ومن هذه العوامل أن الله أتاح له الزوج الموافقة، وحباه بشريكة الحياة المناسبة، وليس من ريب في أن كثيرا من عظماء التاريخ لم يصيبوا الخلود، ولم يظفروا بالمجد، ولم تتم لهم المقاصد، إلا كان بعض الفضل في أولئك جميعا لأزواجهم، وإن كان التاريخ يخص بأكبر الفضل الرجال، وتروح أسماء النساء معلقة في أذيالهم، مجاورة لأسمائهم. وفي تاريخ البطولة عظماء كانت ستعتريهم برودة الحياة، وكانوا سيخسرون الصفحة الناصعة التي أعدت لهم في سفر الخالدين، لو لم تنهض لهم من جوف الغيب سيدات أو زوجات حملن معهم أعباءهم، وضمدن بأيديهن جراحاتهم، وأعددن لهم الخلود مقاما عليا.
كذلك هم العظماء بحاجة إلى أزواج نوابغ كرائم على خلق عظيم، فإن الزوج الذكية للرجل النابغة أو العظيم لهي اللازمة الأولى والمطلب الأكبر، وإن طائفة من العظماء لم تمنحهم الطبيعة هذه المنحة، ولم تحبهم بهذه الهبة، بل رزقوا بنساء شريرات، وأزواج نساء سوء؛ فكن لهم الويل العظيم، والنقمة الكبرى، فلم يلبثوا أن فسدت أذهانهم، وتكدر صفو عيشهم، وخسرت الإنسانية شيئا كثيرا مما كانت به ظافرة لو أنهم نجوا من تلك النقمة الدائمة، والشقوة الملحة الملازمة، والحظ العاثر الأليم.
وحسبنا أن نذكر الناس بحديث امرأة سقراط، فقد كانت اللعنة التي لازمت حياته، وكان عيشه بها أسوأ العيش، وكانت مصيبته ونكبته وبلواه.
وكان سعد من صفوف العظماء الذين منحتهم القوة الإلهية الزوج الصالحة، فقد تزوج يوم كان قاضيا في الاستئناف بسليلة بيت كريم، وسيدة من ربات الذكاء الراجح والعقل الخصيب والخلق الرفيع، ربيت في نشأتها على خير ما يربى البنات، وأدبت أحسن التأديب، وتعلمت الفرنسية والعربية والتركية من الحداثة، فلا غرو إذا هي ظلت شريكة زوجها في عاطفته، وقرينته في مشاعره وإخلاصه لأمته، ومشاطرته آماله وعلالاته، وملازمته في تعاليمه ومبادئه.
وقد كان أهل الغرب يرمون المرأة الشرقية بالجهل ويتهمونها بالجمود، ويتخذون من معنى «الحريم» معنى الموت في البيت، والقبر في الخدر، ويتفاخرون على نسائنا - نحن المشارقة - بأن المرأة عندهم تشارك الرجل في عواطفه، وتساهم في مطالب الحرية، وتشترك في مقتضيات العمران والاجتماع.
ولكن المرأة المصرية في الثورة لم تلبث أن راحت لا تقل عن نساء الغرب في مدى عاطفتها، ونبالة تعاليمها، وسمو أغراضها، وجلال غاياتها، وقد نهضت تشارك الرجل في أسمى حركات العالم ، وأرفع مشاغل الحياة.
وقد نهضت شريكة سعد، السيدة الجليلة أم المصريين، في رأس النهضة النسوية في هذا البلد، روحا عالية تجري وروح زوجها العظيم في منحى واحد، وتماشيها في سنن عال شريف، بل لقد اعتقل زوجها، فظلت على ثبات عظيم ووفاء جليل، وظلت دارها معبدا تخشع عنده النفوس، ومحجا للقاصدين، وبقيت هي منارة عالية ترسل خطوطها وأضواءها فتغمر الجهاد والمجاهدين.
وثم عامل آخر أتاح لسعد رائد التوفيق، وهو قيام صحب مخلصين من حوله، لم يتركوه يوما مع التاركين، وإنما لازموه في السراء والضراء، وكانوا له أشد الأوفياء وأخلص الخلصاء، وكانوا موضع ثقته ومحل طمأنينته على الفكرة وسيرها، والحركة وتقدمها، والنظام الداخلي في الوفد واستتبابه، وكان أولئك الصحب والأولياء قد تغلغلوا في نفس سعد ونفذوا إلى قرارتها، واستمدوا من قواها وحرارتها، واكتسبوا من جوارها ورفقتها، وملازمتها وألفتها، فاجتمعت قواه مع قواهم في تنظيم الوفد على أعجب ترتيب، وتنسيق الجهاد أروع تنسيق، والإشراف على الحركة الوطنية لإحاطتها بنظام فريد في نوعه، بديع في سائر نواحيه، حتى كانت منه «أداة» مرتبة منسقة صالحة، تعمل في غيابه كما تعمل في حضوره، جارية على «أوتوماتيكية» دقيقة للغاية، كسير أجزاء الساعة ودقائقها. كما كان له أكبر الأثر في النجاح الذي صحب سعدا وزملاءه في الانتخابات العامة، والمعارك السياسية العديدة، والمناورات المحكمة المضادة، وتنظيم الحياة الدستورية، والكفايات التي برزت وتجلت في البرلمان، كأن الحياة المصرية قديمة العهد به، وكأن المصريين عريقون في مجالس التشريع، وإن كانوا يومئذ فيه بادئين.
مصطفى النحاس.
وكان من بين أصحابه رجل أراد الله أن يصحبه من البداية، ويلازمه في أكتف غبار المعركة، ويسايره في أشق مراحل الجهاد ليتدرب عليه، ويمزج حياته بحياته، ويأخذ عنه ما أرادت الأقدار أن يأخذه ليجمع إلى الدربة مواهبه، وينمي المواهب برياضتها في جواره، فكان ذلك من توفيق الله الذي اقترن بزعامة سعد ورعاها، وصحب قيادته وماشاها؛ لكي يترك التراث الفخم مطمئنا عليه، ويغادر المكان واثقا من مآله، ويدع الزمام مستريحا إلى الكف التي ستتولاه في حزم ومقدرة وقوة وإيمان.
وكان ذلك الرجل الذي أعدته الطبيعة لمثل ما أعدت سعدا من نشأته وتكوينه هو «مصطفى النحاس»؛ فإن من توفيق الله الذي لازم سعدا طيلة زعامته أنه وجد الشخصية الصالحة التي تتسلم تركته الروحية، وتتلقى تراثه الوطني العظيم، وأنه اهتدى إلى الرجل الخليق بالموضع قبل أن يفرغ له بوقت طويل، قدرته العناية الإلهية كافيا للمرانة على مطالبه، والرياضة على واجباته ومشاهدة تجاريبه، ومعاينة وسائل تصرفه، ولكي يقاسم صاحبه الشدائد التي تقع في طريقه، والمتابع التي يقاسيها في مراحل جهاده، حتى ينضج قبل أن يتلقى مقاليد القيادة، ويكتمل من جميع الجهات قبل أن يستوي في الموضع المقدور له في خطة الكون ومهيآت الظروف وتدبير السماء.
وقد كان من حسن الحظ بالنسبة لسعد أنه جاء ليأخذ في يده زمام النهضة، ويتولى في الأمة أمر الزعامة، ولم يكن أحد قبله عليها، ولا وقعت لإنسان من قبله، ولم يسبقه نموذج من نماذجها، ولا ظهر لون من ألوانها، ولا قالب من قوالبها حتى يمكن أن يكون ثم محل لموازنة بينه وبين الآخر الذي تقدمه، ولا مجال للمقارنة بينه وبين الذي استبقه. ولم تكن الأذهان متأثرة بشخصية ماضية، أو عظمة ذاهبة، أو زعامة سالفة؛ فهي لا تزال تحت تأثيرها، مليئة الذاكرات بصورها، مزدحمة الخاطر بما ارتسم عليها من أفاعيل نفوذها وسلطانها، وإنما أتى سعد في الزعامة منقطع النظير أوحد، قائما بمفرده على جلاله، يبده العصر، وينفرد بإعجاب الجيل، ويستأثر بمحبة الملايين.
ولكن كان من المشقة على الرجل الذي هيأته الأقدار ليخلفه على الموضع ويشغل المكان من بعده أن زعيما كسعد تقدمه، وقائدا وطنيا عظيما كسعد ظهر قبله، وأن ذلك قد يفتح على أبواب من المقابلة، ووجهات من الموازنة، قبل أن يستقر به موضعه، وتظهر فعاله، وتتجلى مزاياه، وتتكشف مواهبه، ويبدي ما عنده من جديد.
لقد كانت مصر في فجيعة المصاب بذهاب سعد ومواجع الأسى لفقده، وقد كانت من قبل تحسبه حيا أبدا، ولا تتصور الموت يوما مدركه، تتمثل زعيمها الراحل في كل لحظة من لحظاتها ، وتتخيله في غدواتها وروحاتها، وتحد عليه أبلغ الحداد، وتتصور جميع فعال بطولته وأداتها، وسائر مزايا زعامته وصفاتها، ولكنها مع ذلك كله، إذ بويع بالزعامة بعده الرجل الأوحد الذي كان خليقا بها، والشخص الذي اختارته الأقدار قبل اختيار الناس له، وقفت تتنفس الصعداء مستريحة لهذا الاهتداء الموفق، مطمئنة إلى هذا الاختيار الحكيم، وكانت قد نسيت لحظة حملت رفات سعد إلى مثواه وهي في جنة الأسى وهزة الصدمة ووقع المصاب، أن أحدا خليق بمكانه حقيق بموضعه، وأن الأمر سينتقض من بعده، ومحل القيادة العامة سوف يظل شاغرا، وأن الحركة الوطنية ستروح معدمة من الرأس القائد، واليد القابضة، والقوة الدافعة، والمرشد الأمين.
ولكن لم تكد الصدمة تخف رويدا حتى بدأت اللهفة تخف شيئا فشيئا، ومضت الحيرة تذهب قليلا قليلا، وإذا اسم «مصطفى النحاس» يتحير على الشفاه، وتجري به الألسنة، ويدور في المجامع، ويطوف الندوات، فيلاقي الرضا، ويجد القبول، ويشهد الإجماع عليه والاتفاق، ويبتسم الناس بمرارة عاجبين لأنفسهم، كيف كانوا لهذه الشخصية الصالحة الموافقة غير ذاكرين.
وكان مصطفى النحاس عن الديار غائبا يوم وفاة سعد، فبوغت بالنبأ العظيم وهو في أوروبا أفجع المباغتة، ونزل منه الخبر الصاعق أرهب منزل؛ لأن المرض الذي أصاب سعدا لم يطل عليه، والعلة التي عاجلته لم تستبق لها بوادر وسمات غير كلام سعد نفسه في ختام الدورة البرلمانية التي سبقت مرضه، فقد كان من خلف ألفاظه أو في تضاعيف كلماته إيذان ببين، وإحساس سابق بوداع، وكلمة نوى بعيدة وفراق؛ حتى لقد عاد الناس حين وفاته يذكرونها، ويعجبون كيف لم يلتقطوا هذا المعنى الخفي فيها، وراحوا لتعزية أنفسهم يدعونها «خطبة الوداع»، وهي في الواقع خطبة النبوءة، وإلهام الروح، وسبق الشعور، واختلاج الغيب في الوجدان.
لقد ذهب سعد عقب انفضاض الدورة إلى «بساتين بركات» انتجاعا للراحة، والتماس أيام صفاء مع خواصه والمحببين إليه، وكان ذلك في 15 أغسطس من ذلك العام، فلم يكد ينفرط أسبوع حتى كان سعد في الذاهبين.
وكان مصطفى النحاس بحاجة يومئذ إلى الراحة؛ فسافر إلى أوروبا مطمئنا على صاحبه العزيز الذي ظل السنين الطوال قريبا منه، وموضع ثقته، ومحل رضاه واعتزازه، وما درى يومئذ أنه سوف يروع وهو غائب بمنعاه، ويفاجأ بأن سعدا قد فارق الحياة.
ولعل كلمة الأقدار في ترتيب الحوادث على هذا السياق الأليم أن يقر الناس مصطفى النحاس على خلافة سعد، وتجتمع نفوسهم على أنه بالزعامة من بعده الخليق الأوحد. وكما كان الأمر من شأن سعد ذاته، فقد نودي بزعامته وهو غائب في منفاه وغربته، وتوافت له شهادة الأمة ببطولته قبل أن يسألها، أو ينبعث إلى طلبها، أو يحتال بنفسه لها - كان أمر مصطفى كذلك بغير خلاف، فقد التفتت الأذهان إليه وهو في سفره، وتذكرته النفوس في منزحه، وأقرته القلوب في غيبته، فلم تكد قدمه تطأ أرض وطنه حتى تلقاه الناس مطمئنين إليه، معترفين بجدارته لذلك الموضع العظيم.
لقد كانت بيعة هذا القائد الوطني الجديد «طبيعية» لم يشبها أدنى تكلف، ولم تجر من حولها أقل محاولة، وإنما اختارت العناية الإلهية فأمن الناس على اختيارها، وتقدمت الأقدار فانتخبت من أعدته لهذا اليوم وهيأته، فأقرت مصر هذا «الانتخاب الطبيعي» مستريحة إليه مطمئنة، واعتمدته اعتماد الثقة واليقين.
ونحن لا ينبغي لنا أن ننسى أن مطالع زعامة سعد كانت على شرف من الثورة، وكانت الثورة قد نضجت، فجاء هو فأخرجها من الأتون مستعرة متلظية، ولكن مطالع زعامة مصطفى بدت في أخطر أدوار السياسة وأرهب حلقاتها، واشتداد تدافعها وتجاذبها، وحر تطاحنها وضراوة حزبيتها، وكانت مقدمة ظهور سعد حيال خصم واحد وهو الإنكليز، بينما هو وسط وحدة تامة، وأمة متراصة، وشعب مجتمع، وكتلة واحدة؛ بينما راحت مقدمة ظهور مصطفى على الزعامة وربوتها، وفي القيادة العامة وذروتها، حيال خصوم متكاثرين، وأعداء هم ألب واحد عليه، كما كان مطالبا من البداية في امتحان خطير من امتحانات الكفاية، وابتلاء من ابتلاءات المواهب؛ ليدلل على أنه الخليق بالرياسة التي جاءت تسعى إليه، الحري بالزعامة التي تقدمت نحوه طائعة.
لقد كان موقف مصطفى النحاس حين بويع بخلافة سعد خطيرا مرهوبا؛ أمامه مثال سعد لا يزال في الأذهان مرتسما، وحياله الخصم الطبيعي - وهو الإنكليز - لا تزال حقيقة سياستهم بالنسبة للمفاوضات الجارية في لندن غير ظاهرة ولا واضحة، وقبالته خصوم الدستور يتربصون الدوائر به، ومنفذو التجارب الاستعمارية يترقبون السوانح للغلبة عليه - فكان من ثم طبيعيا أن يلقي مصطفى النحاس بنظره أمامه وفيما حوله؛ ليتأمل ما هو مقدم على اقتحامه، ويستشرف الساحة المترامية على مدى ناظره، فيحس عظم التبعة التي ألقيت عليه، وجسامة المسئوليات التي وسدت فيه، ورهبة الموضع الذي تبوأه.
فلا عجب إذا هو صارح يومئذ الناس بما في نفسه من ذلك كله؛ لأنه لم يكن بالرجل المزدهي صاحب الخيلاء، ليس له من ذلك غير الفرح به والتهافت عليه، ولكنه كان من بداية حياته العملية رجلا متزنا أريبا قوي الفطنة، مواجها الحقائق، لا يمس عظمته مس غرور، ولا يخدعه شيء من الخارج عما في دخيلة ذاته، وإنما يأبى إلا الصراحة والقول الحق والرأي الجهير.
ولا عجب إذا هو في يوم مقدمه من سفره قد ذهب رأسا ليزور سعدا في قبره؛ لتكون التحية من وراء الصفائح والجنادل، وبينهما برزخ لا يلتقيان، ولكن روحيهما على بعد النوى وطول الشقة تتجاوبان. وفي وسط سكون رهيب، وموقف حزن عميق، والأعين بالدموع سحاحة، والنفوس من جلال المشهد في خشوع، وقد خيم جلال الموت فوق جلال العظمة، وتماثل صمت الحياة بصمتة الأبد - وقف مصطفى بين نوح يغالبه وبكاء يتغلب عليه، واصفا نكبة مصر وأساها، مشفقا من التبعة ووطأتها، قائلا بين إجهاش ونحيب:
كان سعد يحمل العبء عنا جميعا، وقد ألقاه الآن علينا جميعا، إن سعدا يريد منا العمل، إنه يريد من هذه الملايين أن يعملوا، فلنكن جميعا ملتفين حول روحه، إن روحك يا سعد أمامنا ... أنت الإمام دائما ...
آه يا سعد! ... لقد استرحت يا سعد وتركتنا نتعب، تركت الحمل لأبنائك كلهم، كنت زاهدا في الدنيا، وها أنت الآن في الزهد الأخير، لم تتم بعد مهمتك، ولكن روحك ستتمها معنا. إننا جميعا على عهدك حتى الممات، وإذا متنا فإن ذرارينا سيقتفون الأثر. سنعمل حتى نصل إلى ما كنت تصبو إليه لتستريح، وقد كنت تعمل ونحن مرتاحون، فإن نلنا المبتغى استرحنا واسترحت، وإن لم ننله واسترحنا، جاهد أبناؤنا من بعدنا ...
سنكون جميعا كتلة واحدة ويدا واحدة؛ لنعمل مجتمعين عمل سعد منفردا، وسنلتف حول روح سعد ليستريح في مرقده، وسنجتمع كلنا، لا يشذ منا أحد، نجتمع حول مبادئك يا سعد ونسير على طريقك القويم، أما سحر بيانك وقوة حجتك التي كانت تبهر السامعين، فعزاء لنا فيها جميعا، وصبرا جميلا على فقدها. إن قلوبنا قوية ومتجهة إلى مصر التي كنت تحبها وتهش لذكر استقلالها.
إن سعدا لم يكن رئيسي، بل كان أبي، ولقد عاشرته في المنفى فرأيت فيه حنو الآباء على الأبناء. وما كان سعد ليهتز لخطب أبدا، لقد كانوا يأخذونه من بيننا، وينقلونه من منفى إلى منفى، وكانت الكلمات التي يقولها وداعا لنا:
ستعودون أنتم إلى مصر لتتموا عملي، أما أنا فأحب أن أموت بعيدا عن بلادي، حتى تتأجج الوطنية في قلوب بنيها»، ثم كان يقول: «قد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا»
سنجتمع معك يا سعد إن شاء الله في دار الخلد بعد العمل للاستقلال، وسنبذل جهدنا لتحقيق غايتك، ونعاهدك أمام قبرك الكريم على المضي في الجهاد، ونرجو الله أن يثمر عملنا قريبا، حتى تستقر روحك وتهدأ في عالمها الأعلى، فإننا نشعر أنها ستظل مشرفة علينا، ترقب جهودنا، وتغذي نفوسنا، حتى ننال الاستقلال التام ...
وقفة مصطفى النحاس بقبر سعد.
هذه كلمات صادقة حزينة، كل لفظة منها تقطر بكاء، وهي في مجموعها تدل على قوة إيمان بالفكرة، وشدة يقين بثمرة الجهاد، مع تقدير صحيح للمسئوليات التي تقع على العاتق، والتبعات الجسام التي تقترن بالموضع الذي كان هو الرجل المطلوب له والحقيق به.
وقد وصف هذه التبعات ذاتها في أول خطبة له عقب القرار الذي اتخذه الوفد في السادس عشر من شهر سبتمبر سنة 1927 بإجماع الآراء؛ وهو تعيين الأستاذ مصطفى النحاس باشا رئيسا للوفد المصري خلفا للزعيم الخالد سعد زغلول، فقال وسط صمت رهيب ، وسكون غامر، وجلال سائد، وهو متأثر متهدج الصوت، يغالب فيض مشاعره:
إن فجيعتنا متعددة النواحي، متشعبة المرامي، ولكن عزاء نفوسنا الجريحة، وأكبادنا المقروحة أن سعدا العظيم خالد في نفوسنا ونفوس أبنائنا، خالد في نفوس أحفادنا وذرارينا، وإن أكرم ما تطيب به نفسه في فردوسها أن نقوم على الصرح الممجد الذي بناه، وأن نترسم خطاه، ثم نرخص نفوسنا، ونفني أشخاصنا، حتى يتخطفنا الموت واحدا بعد واحد، وراية الشرف خفاقة تتلقاها الأيدي وتفديها النفوس ...
لقد اختار وفد الأمة، وهو - كما قال رئيسنا المبرور - «تنزيل منها، ووكيل عنها، ولسانها الناطق، وترجمانها الصادق»، وشاء أن يندبني لحمل العلم السعدي، والقيام معكم على الميراث الوطني؛ فهالني الأمر، وأكبرت التبعات، وأحضرت نفسي على ما أعلمه عنها من عجز وقصور، وحادثتها ما لهذا العاجز أن يخلف سعدا الذي أفاء الله عليه مواهب مجمعة، وسجايا مؤلفة، ونعما لا تحصى؛ فكان خلاصة أجيال، وكان تاريخا للإنسانية السامية.
ولكن سعدا علمني احترام إرادتكم، والنزول على حكمكم؛ وقد تسمعت ساعتئذ من أعماق سريرتي نجوى سعد وصوت مصر، فأسلمت نفسي للوطن المفدى، وأنا عالم أنها تنوء بهذا العبء الهائل العظيم.
ليس من اختاره وفدكم لرياسته بخيره ولا خيركم، وليس بأقدره ولا أقدركم؛ وإنما أنا ضعيف في نفسي، قوي بكم، معتمد بعد الله عليكم. ولقد ظهرت أمتنا الكريمة جليلة في أحزانها، رهيبة في وطنيتها، وها هي اليوم تغمرني بفضلها، وتحوطني برعايتها، وتحملني أمانتها، وأرى شعوركم يبدو صريحا ساميا، وارتياحكم لقرار وفدكم يتجلى بينكم، ومناصرتكم لي ظاهرة في أقوال خطبائكم، وإقراركم لها، فأنطقوا مصطفاكم ببيانكم، وأوحوا إليه بأفكاركم، واملئوا قلبه بما أفاضته قلوبكم.
كذلك كان شعور مصطفى النحاس حين ألقي زمام الحركة الوطنية في يده، وعهد بقضية أمته إلى ضميره وذمته؛ وكذلك كانت خوالج نفسه في تلك الفترة الدقيقة التي مرت بالبلاد، ووسط تلك المحنة العظيمة التي أصابتها؛ إذ لم يكن مصطفى يومئذ مبتدئا عهدا جديدا منقطعا عن الماضي وما جرى فيه، قادما على أمر لم تسبق فيه سابقة، ولكنه كان مطالبا بحمل أمانة ، والاضطلاع بوديعة، وأمام مبادئ وتعاليم تقتضيه الحرص عليها، والتزام إملائها، والمسير على حدائها، وكان ذلك كله مما يجعل بدايته - كما قلت - شاقة تكتنفها أخطار، وتحيط بها مخاوف، ويترصدها الأعداء والخصوم من كل ناحية.
كان مصطفى النحاس مطالبا بأن يثبت استحقاقه لخلافة سعد أولا، وجدارته ثانيا بالزعامة في ذاته، ولكن الطبيعة التي اختارته لمكانه هذا ورسالته، لم تكن لتتخلى عنه، وما كانت لتخذله، ولو أنها أعانته على أن يدلل على جدارته بخلافة سعد وحدها - من ناحية سيره على تعاليمه، وحرصه على مبادئه، واحتفاظه بنظامه وبنيانه - لكان ذلك كافيا، وكان به الغناء. ولكن العناية الإلهية كانت تريد مصطفى للمعنى الأكبر، وتهيئه لما هو أسمى وأخطر؛ وهو أن تبرزه الأحداث القادمة زعيما طبيعيا، لا رئيس ضرورة، ولا قائد ظروف، وأن تجعله يلاقي في عهد زعامته من المكاره أكثر مما وقع لسعد ذاته، ويتحمل من الخطوب والكوارث وخصومة الأعداء وحقد الحاقدين ومكر المكرة، ما لم يترادف مثله ويصطلح على سعد نفسه؛ ليكون الزعيم الحق الحري بموضعه، الوفي لوديعة سعد إذا ما ذكر الوفاء، الباني المنشئ إذا ما ذكرت محامد الزعامة الصادقة بناية وتجديدا وإنشاء.
ولقد قطع مصطفى النحاس على نفسه عهدا، وربط على نفسه أمام الأمة بميثاق في ذلك اليوم التاريخي العظيم؛ يوم أقرت الأمة مبايعته بخلافة سعد ورياسة الوفد، وهو في ذلك يقول: ... وإني أعاهد أمامكم روح سعد في رفيع عالمها، كما عاهدتها أمام هيكلها، أن أكون للوطن خادما أمينا، وأعمل مع زملائي ومعكم، مستوحين الحكمة والحزم من روح سعد ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، مستضيئين برشده كلما عميت الأمور، وأجلبت علينا الخطوب؛ وأن نحرص على الدستور بكل ما فينا من قوة، محافظين على ائتلاف الأحزاب بكل رغبة صادقة؛ وأن نسير في طريقنا المرسوم، حتى تنال البلاد غايتها من الاستقلال التام الصحيح والحرية الكاملة التي قرن اسم الفقيد العظيم بها وبمجد الوطن. ... لقد علمنا سعد أن الوطنية الصحيحة والحرية المقدسة لا تشوبها أحقاد ولا أضغان، فما كانت وطنيتنا عدوانا، ولا حريتنا بهتانا، فنحن نعرف ما لنا من الحقوق، وما علينا من الواجبات، ولا نحمل لأمة من الأمم بغضا، ولا نضمر لها غدرا، ولكنا نقدس عزتنا القومية، ونحمي كرامتنا المصرية، وننادي مواطنها في قلوب الأمم والشعوب.
هذا هو العهد الذي عاهد مصطفى الأمة عليه، يوم استوى في ذروة الزعامة، وهذا هو الموثق الذي ارتبط أمام الشعب به، حين أرادت العناية الإلهية له الظهور لتأدية رسالته، وآذنت بأن الحين قد حان لبداية مهمته، وإن الخاطر ليعود إليه بعد قرابة تسع سنين، مجتازا في كرته إلى الماضي آيات روائع على كفاية مصطفى لمكانته، وحشودا من الحوادث الجسام المثبتة لمبالغ شجاعته وجلده وثباته وأصالة رأيه ووفرة حكمته، فيحس أن ذلك العهد المقدس كان ميثاقا مع الله، وعهدا مع القدر، وارتباطا لم يخل في أية ناحية منه، ولم ينحرف به صاحبه عن قداسته، ولكنه صانه حتى وفاه، وحرص عليه حتى أداه، ووقف به اليوم على أعلى قمم الزعامة الوطنية، مثلا على البطولة من أندر الأمثال.
ويوم قام مصطفى في مكان الرياسة لم تلبث النفوس أن هدأت بعد جزع، والقلوب اطمأنت بعد قلق، والأذهان سكتت بعد لهفة، والأخلاد قرت بعد اضطراب؛ فقد ظهر الرجل الذي احتاجت الحياة إليه، والزعيم الذي دفعت الأقدار به، ورب الشخصية ذات السلطان العظيم على كل من لم يرتفع رفعتها، ولم يبلغ مستوى أفقها، بل برز القائد الوطني، أو الضمير والعنصر الحساس المتنبه الذي تحيا به الأمم وتعيش عليه الجماعات.
لقد كان ظهور مصطفى النحاس دورا آخر من أدوار الثورة، ومرحلة جديدة من مراحلها؛ فإن الثورات بطبيعتها لا تستطيل، ولكن إذ تبلغ مداها وتفور أشد فورتها، تعود فتعيش في نتائجها، وتظل تحيا في أعقابها، ومن الخطر البالغ عليها أن تتلاشى بعد قيامها، وتتبدد عقب فورانها؛ لأن ذلك ينتهي إلى ردة مؤلمة، ويعقب نكسة وخيمة. ولكن إذا هيأ الله لها في هذا الدور الدقيق القائد الحكيم الذي يتعهد معانيها الكامنة في النفوس، والسياسي القوي الرصين الذي يعرف كيف يغذي مواردها القائمة في أعماق الصدور وأغوار الأرواح ، ويمسك بالروح المعنوي العام فيوجهه أحسن توجيه، ويدفع به إلى خير مندفع، فإن البلاد كذلك تعرف كيف تستجيب له وتتجه معه، وتمضي في أثره، مطمئنة النفس، هادئة الجأش، بالغة الإيمان.
وكان مصطفى النحاس هو ذلك القائد، وكان خليفة سعد هو ذلك السياسي، ولسنا ندري ماذا كانت تكون صورة الحركة الوطنية، وماذا كان يمكن أن تروح نتيجتها لو لم يأت مصطفى النحاس بعد سعد ليقودها، وينبر عقب سعد ليوجهها، وهو الذي جاء طبيعيا في مكانه؛ إذ كان أمام السياسي الذي يتولاها - في خطة الأقدار - دور خطير، ومرحلة شاقة، وصعاب جمة. بل كانت منتظرة مقدمه، مرتقبة زعامته، سلسلة مستطيلة من التجاريب الخطرة، والمحن المترادفة، والخطوب المتزاحمة، ووجوه عديدة من الخصومات، وألوان غرائب من الأذى والبلاء؛ إذا لم يكن باستعداده جلدا لها صرعته، أو صبورا حطمته، أو قويا أضعفته، أو مؤمنا أشد الإيمان بقوته نزعت به إلى اليأس، وأسلمته إلى القنوط، وأزاحته آخر المحاولة من طريقها، متغلبة فائزة، وهو المنهزم المدحور.
وقد شهد مصطفى النحاس بجانب سعد خطوبا، واشترك مع سعد في محن، وتعرض معه للمعتقل والمنفى، واستهدف للآلام والحرمان. وكان مرتقبا له بعد تلك المساهمة الأليمة أن يكتوي وحده بأشباهها أو أشد منها، مقدورا عليه أن يخوض أشد حوالك السنين شقوة وعظم تجربة؛ لكي يتعذب مرتين، ويتحمل من الألم ضعفين، ويذوق من الخطوب مذاقين، وهو ما لم يقع للزعماء في تاريخ الزعامة الوطنية مثله فيما نعرف من سير الحوادث، وقضايا الاستقلال، إذ كان كل زعيم في الغالب يأتي في زمن معين، ويظهر في عصر بذاته، وكانت الزعامات تجيء على فترات انقطاع، ومهلات طوال، وانتظار فسيح المدى؛ فلا تقوم الصلة بينه وبين الزعيم الذي سبقه إلا من بعيد، ولا تتماثل التجاريب في عهديهما، ولا تتشابه الحوادث في دوريهما، وإنما تتفاوت في ذلك كله، وتتباين في أشباهه وأمثاله؛ ليظل كل زعيم ممتحنا غير امتحان سواه، ويروح كل قائد أمام ظروف خاصة به، على قدر تناوله لها، ومكافحته إياها، ومقدار صبره عليها، بروح مبلغ استحقاقه لمكانه ، ومطمأنه في موضعه، ونصيبه من الفوز، وسهمه من النجاح والتوفيق.
ولكن مصطفى النحاس جاء أولا آخذا عن سعد قبل أن يتولى الأمر بنفسه، ثم آخذا ثانيا عن نفسه، بعد أن وكل الشأن إليه، وهذا نادر في الزعامات؛ لأنها لا تتلاحق هكذا، أو لا يندمج بعضها في بعض على هذه الصورة، ثم تتقارب في المعالم، وتتشابه في الصفات واللوازم على هذا النحو الغريب، ولكن كذلك كانت تصاريف الأقدار الرحيمة الحانية على مصر، الناصرة لها، فقد أبت إلا أن ينشأ الزعيم الثاني على إيمان عظيم وثقة كبيرة بصاحبه، وولاء صادق له، وحماسة متقدة للغاية التي يعمل لها والقضية التي يدافع عنها، حتى لقد خشي الإنكليز حين بويع في موضعه من وقوع الرياسة له خيفة مما وصفوه من أمر «تطرفه».
وقضت الأقدار كذلك أن يجعل نظره إلى الفكرة كأنها ممثلة للزعيم، وإلى الزعيم كأنه ممثل للفكرة، وأن يعمل على تعزيز سلطان صاحبه وتوطيد نفوذه بكل وسيلة وسبيل، كأن يتوسط بينه وبين خصومه، أو يجلب له جددا من أنصار، ومزيدا من أعوان ومشايعين، أو يتسمع الأرض بأذنه؛ ليدرك الهمس المخافت، والكيد اللائذ بالخفاء، والدس المتسربل بالظلام، أو يدلي إليه برأيه في أصلح الأعضاء للمهام المعينة، وأنسب الأعوان للأعمال المطلوبة، أو يشير عليه بالأفكار الصالحة والمقترحات الملائمة لبعض الظروف والحالات والأزمات الطارئة.
وكذلك جعلته يوفر على زعيمه كثيرا من وقته، ويقصد من مجهوده، ويغني عنه حمل كل صغيرة ودقيقة في ذاكرته، بأن ينوب عنه في عديد المناسبات والمقابلات والوفادات، ويعمل على تسهيل الأعمال على قدر الإمكان، وموافاته بكل المذكرات والمدونات، والملاحظات والمحاضر التي عني بقيدها، وحفل بتدوينها وإثباتها؛ لكي يكون كل شيء في كتاب مرقوم.
وكان الزعيم يرى منه ذلك فيفرح به ويرتضيه، ويبعثه على التزيد فيه وهو المطمئن إليه، الملمح في أحاديثه أمام الناس إلى مبالغ ثقته به واعتماده عليه؛ لكي يشعرهم بأنه قد وجد الرجل الذي يسلمه الزمام إذا حان الوقت لتسليمه، والشخصية القديرة الكافية لتتولى الأمر عنه إذا آذن الرحيل.
كذلك اندمج مصطفى في سعد قبل أن يحل دوره، فكان محل ثقته وموضع سره، وقد اكتسب من هذا الاندماج أكثر ما عند سعد، فأضافه إلى ما اكتسب هو بطبيعته، فاستتم فيه الزعيم المطلوب للغد، واستكمل القائد الوطني المحتاج إليه في المستقبل، واستوفى سائر مطالب القيادة الصالحة التي قضى الله أن تتولى الجهاد في أحرج المواطن وأسوأ السنين.
وقد انفرطت تسع سنوات اليوم، ومصطفى النحاس في مكان الزعامة وقد عبرها خواض أزمات، ومواجه شدائد، وملاقي مكاره، مكافحا أكثر من خصم، مقاوما أكثر من عاصف، وهو الصبور الجلد الشجاع الجريء في كل موطن وموقف، حتى عرف كيف يسير بالسفينة وسط هذه التيارات الصاخبة، واللجج المتقاذفة، والأعاصير المترادفة نحو الساحل الآمن، والغاية الحسنة، وصخرة النجاة. •••
ولعلنا في هذا الكتاب قد أطلنا في المقدمات، وترامى بنا البحث بعيدا من موضوعه، ولكنا أردنا ذلك ليجيء الكلام دراسة صالحة في باب جديد لم يعالج، وبحثا حسنا في ناحية خطيرة لم تتناول، وليكون الشطر الأول منه بسطا وتقريرا، والشطر الثاني تطبيقا وتقديرا، وليست النية فيه - كما أسلفنا - أن نضع تاريخا أو نسوق الكتاب مساق المديح، فإن التاريخ لا يكتب بعد، والمديح لا يجدي شيئا ولا يرد، فقد أوفى مصطفى النحاس على الغاية التي يستوي عنده فيها الذم والمدح؛ لأن كل الذم أعرج لا يصعد إليه، وكل المديح زيادة لا خير فيها لديه، وإنما أردنا أن نسجل جهودا صالحة أثمرت، ومعارك سياسية انتهت بفوز مبين.
لقد جاء هذا الكتاب «المتواضع» تحية لذلك الفوز وتقديرا لبراعته، وقصا لظروفه وحوادثه، وسردا لجملة حوافزه، فلم يكن غناء عن حديث الزعامة وأسرارها، والقيادة الوطنية وطرازها وغرارها، وبيان صفاتها ومزاياها، ولم يكن بد من حديث الزعيم الذي قاد الأمة إلى هذا النصر، ووجه الشعب هذا التوجيه، وسار بالسفينة وسط الأنواء هذا المسير.
مصطفى النحاس نشأته وتكوينه
كان سعد من أهل الريف، وجاء مصطفى كذلك منه، بل من الإقليم ذاته، ولم يكن بين مولد سعد ومنبت مصطفى غير مسافة قصيرة وأميال معدودة، وكلا المنبتين طيب ، خصيب في الزرع، والحرث والنسل معا، حتى ليعد أخصب أقاليم مصر على الجملة منابت، وأكثرها في النوابغ معدا، وأغناها بالمشهورين والأذكياء ثراء.
من مديرية الغربية كان مجيء الزعيمين، كأنما أريد لهذا الإقليم أن يفخر بما ندر أن يتهيأ لإقليم سواه، وإن كانت أقاليم مصر في المنابت والموالد والمساقط أجوادا طيبة كرائم. ولم يكن الناس يعرفون مولد سعد على التحقيق أيام حياته؛ فقد شغلتهم عظمته عن كل شيء خارج عن دائرة نفسه ونطاق بطولته، ولكنهم عرفوا حين مرتحله من هذا العالم «القرية» الصغيرة التي كانت أول ما شهد فيه نور هذه الحياة، فاشتهرت من ذلك الحين، وترددت على الشفاه، وقام لها في الناس ذكر كريم.
ولكن مولد مصطفى عرف من نبوغه، واشتهر معه من كثرة اختلافه إليه وبره به ومزاره في كل عام، وجعل الناس إذا ذكروا المنبت الذي أنبته، أقروا له شهرته، وارتضوا له إنجابه، ولم يعجبوا له أن يكون للزعامة منبتا.
وبين القرية التي ولد سعد فيها والبندر الذي جاء مصطفى منه - مع التماثل في الإقليم، والتشابه في التربة، والجوار في الجو والأفق - وجه شبه آخر في التاريخ، يردهما إلى عصور فيه زاهرة، وقرون فيه حفلت بالعظائم واشتهرت بأعجب الحضارة؛ وهي عصور الفراعنة وبداية مصر القديمة ذات المجد العظيم.
أما إبيانه - موطن سعد - فكانت في أيام الفراعنة من جملة بحر الروم - البحر الأبيض المتوسط - فلما انحسرت أمواهه عنها بسبب «طمي» النيل، ارتفع نشز من الأرض أو يفاع في البحر أنشئت فوقه تلك القرية، وكانت أرضها تصل إلى بحيرة البرلس، كما كانت يومئذ تابعة لمدينة «فوه» كشأنها الآن، وكانت فوه تعرف يومئذ بمدينة «متليس»، وظلت تنمو وتزدهر حتى اشتهرت في القرن الخامس عشر للميلاد، وأصبحت أعظم مدينة في مصر بعد القاهرة، حتى لقد اتخذت مستقرا للقناصل الإفرنج بعد الفتح العثماني.
ويرجع نسب أهل هذه النواحي إلى «المليذيين» الذين نزحوا إلى مصر في القرن السابع قبل الميلاد على ظهور السفن في عهد «ابسماتيك»، وهم الذين أسسوا مدينة «فوه» - أو متليس كما أسلفنا عليك - وقد دخلوا في دين المصريين وصاهروهم واندمجوا فيهم بعدما أقاموا زمنا مستمسكين بديانتهم، متأبين النزول عن قوميتهم، وقد استعان فرعون بهم فأعانوا، وذلك في رواية المؤرخ المشهور «استرابون»، حتى إن من يتأمل وجوه أهل هذا الإقليم وسكانه - وبخاصة شعرهم ولونه - لا يشك في أنهم من سلالة أولئك النازحين النازلين.
وتقع «منية المرشد» شمال شرق «إبيانه»، وقد زارها ابن بطوطة الرحالة المشهور حين قدم إلى هذه البلاد من «طنجة» في أوائل القرن الثامن من الهجرة، وتقوم إلى اليوم في الجنوب الشرقي من إبيانه - مهبط سعد - تلال قديمة وآكام وربى عالية.
وكذلك كانت «سمنود» معروفة في عصور الفراعنة، وكانت تدعى قديما «جمنوت» - وهي قريبة في الغنة من سمنود - كما كانت تسمى أيضا في التواريخ القديمة «سبنيت»، وقد ذكر العلامة المؤرخ مارييت أن فراعنة الأسرة الثلاثين كانوا من سمنود، وكان جلوس أول ملك من ملوكها على السرير قبل ميلاد المسيح بثلاثمائة وثمان وسبعين سنة، وفي أواخر زمن فراعنتها استولت الفرس على مصر للمرة الثانية، فأقاموا بها بضع سنين حتى جلاهم الإسكندر الأكبر عنها، وانتزع الملك من أيدي الفراعنة الأصليين.
وكانت سمنود مولد المؤرخ «مانيتون» الذي نقل عنه الرومان ما نقلوه من تاريخ قدماء المصريين.
وقد روى المقريزي في خططه أن سمنود كانت في صدر الإسلام من المنازل التي ينزلها العرب لربيع خيولهم، فكان إذا جاء الربيع كتب عمرو بن العاص لقبائل العرب بربيعهم حيث أحبوا، فكانت القرى التي يختارها أكثرهم هي: منوف، وسمنود، وإهناس، وطحا. وكان عمرو يقول للناس إذا قفلوا من غزوهم: «إنه قد حضر الربيع، فمن أحب منكم أن يخرج بفرسه يربعه فليفعل، ولا أعلمن ما جاء أحدكم قد أسمن نفسه، وأهزل فرسه، فإذا حمض اللبن، وكثر الذباب، ولوى العدد، فارجعوا إلى فسطاطكم.»
وروي عن عمرو بن العاص أنه خطب الناس يوما فقال:
يا معشر الناس، إياكم وخلالا أربعا، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى الذلة بعد العزة؛ إياكم وكثرة العيال،
1
وإخفاض الحال، وتضييع المال ، والقيل بعد القال، في غير درك ولا نوال. ثم إنه لا بد من فراغ يئول إليه المرء في توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها.
2
ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه، فيجوز من الخير عاطلا، وعن حلال الله وحرامه غافلا. يا معشر الناس، إنه قد تدلت الجوزاء، ونزلت الشعرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقل الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيته، حسن النظر، فحي لكم على بركة الله تعالى إلى ريفكم، تنالوا من خيره ولبنه، وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها، وصونوها وأكرموها؛ فإنها جنتكم من عدوكم، وبها مغانمكم وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا. وقد حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لهم فيكم صهرا وذمة، فكفوا أيديكم، وعفوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، وتشوف قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية، فاحمدوا الله - معشر الناس - على ما أولاكم، فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم، فإذا يبس العود، وسخن الماء، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوح البقل، وانقطع الورد من الشجر، فحي إلى فسطاطكم، على بركة الله، ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال إلا ومعه تحفة لعياله، على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.
وفي سمنود مساجد كثيرة قديمة العهد، كانت كلما تهدمت، رممت وأصلحت، وفي جهتها القبلية - كما روي في الخطط التوفيقية - «وابور» لورثة البدراوي بك أنشئ لحلج القطن وسقي المزروعات، ولكنه أزيل اليوم وأقيمت في موضعه المدرسة الابتدائية التي أنشأها من قبل وقف البدراوي، وضمت الآن إلى وزارة المعارف عقب قيام مصطفى النحاس باشا أخيرا بالنظارة عليه. وكانت في الجهة القبلية من المدينة أيضا «ورشة» قماش لورثة البدراوي، فأصبح موضعها اليوم فناء للمدرسة، ومضيفة للوقف لإيواء النازلين، ومثوى للطارئين وقرى للطاعمين. وثم كذلك «وابور» كان لرجل من الإنكليز يدعى مستر ماجور في الجهة البحرية، ولكنه آل بعد ذلك إلى رجل فرنسي يدعى مسيو فوميه، من تجار الأقطان، واستحال أخيرا إلى أنقاض دارسة، وفي تلك الجهة أيضا دار أنشأها عبد العال بك، مشرفة على البحر، ذات سياج من حديد ورصيف، وقد رتب صاحبها قراءة القرآن فيها كل ليلة، وهذه الدار قائمة إلى اليوم كما كانت في عهد منشئها الأول، ولكنها أصبحت وقفا، وقد أجرى عليها الواقف مالا لقراءة القرآن وإقامة الأذكار، وهي اليوم مقابلة تماما لدار أسرة الرئيس، ولكن للأسف سوف تزال تلك الأبنية القديمة لإقامة كوبري سمنود الحديث.
وفي سمنود من البيوت المشهورة بيت أحمد البدراوي رئيس المشيخة بحارة الشيخ سلامة، وبيت أحمد الصعيدي بحارة الدوار، ومنزل الشعراوي نصير على البحر، ومنزل السيد عبد العال رئيس مجلس مركزها، ومنزل مصطفى أفندي سبلة، وقد آلت هذه المنازل جميعا إلى ورثة أصحابها، وقد ظلت باقية على حالها، كما بقيت الأزقة والشوارع مسماة بتلك الأسماء.
وتحوي سمنود في رواية الخطط التوفيقية معملا للدجاج، أنشأه البدراوي الكبير، وكان يستخرج منه في كل سنة مائة ألف دجاجة، ولكن هذا المصنع قد أتت عليه الأيام، ثم أعيد إلى مكانه بالذات من عشر سنوات، واسترد سيرته الأولى وشأنه القديم.
وكان عدد المسلمين في سمنود لذلك العهد الذي نروي عنه اثني عشر ألفا، فأصبح اليوم قرابة سبعة عشر ألفا. وكان الأقباط فيها يبلغون خمسمائة، ولكنهم اليوم لا يبلغون على الأرجح أكثر من مائتين، وكان عدد الإفرنج (الأجانب) نحو العشرين، ولكنه كان قد زاد فترة من الزمن، ثم عاد اليوم قريبا من ذلك أو نحوه.
وكانت سمنود تحوي آثارا كثيرة، ولكن اليوم ليس فيها غير أثر يدعى «فدان الحجر»؛ لكثرة الأحجار الأثرية فيه، والتماثيل القديمة والنقوش الهروغليفية التي ترجع إلى حضارة قدماء المصريين. وكانت بجوار هذا الأثر هضبة مرتفعة يقال لها التل، وكان أهل سمنود يقتطعون من ذلك التل الأثري ترابا لتسميد الأرض وتخصيب التربة، ولم يكن ذلك محظورا في ذلك الحين، وقد اغتنى خلق كثير من اقتطاع الأتربة من ذلك التل؛ إذ كانت تحوي آثارا ونفائس من ذهب وفضة، فأصابوها لأنفسهم فيما حملوا من ترابه، ولكنه اليوم قد زال، وأصبح مكانه أرضا زراعية، وإن ظلت مشهورة باسم «التل» إلى الآن.
مصطفى النحاس باشا.
وكان شيخ الناحية في ذلك العهد هو المرحوم علي بك البدراوي، وكان رجلا ذا نفوذ كبير، حتى لقد عهد إليه محمد علي الكبير بجباية الضرائب، وكان واسع الحيلة، شديد البطش، فاقتنى أملاكا كثيرة، وأرضا مترامية الأرجاء، بقي له منها ألف وسبعمائة فدان، غير المنازل والدور، فأوقفها جميعا على وجوه البر وسبل الخير، ولم يجعل لأولاده منها غير مرتبات محدودة تجري عليهم، وقد عهد بهذه الأوقاف أخيرا إلى مصطفى النحاس باشا، فأحسن إدارتها، ورد الحقوق إلى صاحبها، وقام عليها خير قيام.
ويعود تاريخ بناء الدار التي كان فيها مولد مصطفى النحاس وإخوته إلى عهد جده المرحوم الشيخ سالم النحاس، فهو الذي شيدها وجعلها واسعة الرحاب، فسيحة الأفنية، على طراز ذلك العهد وأسلوب عمارته، وهي لا تزال إلى اليوم حسنة الطلاء، مدهونة بالزيت، جميلة النقوش، وقد آلت الدار إلى ولده المرحوم الشيخ محمد النحاس والد الزعيم؛ فابتنى فوقها طبقتين زوج فيهما ولديه المرحوم محمد بك النحاس والأستاذ سالم النحاس، وهي إلى اليوم منزل العشيرة، ولها في سمنود مقام كبير وشأو عظيم، استمدته من مكان عميدها اليوم الذي نبت منها أطيب منبت، ونشأ خير تنشئة، وأرسل اسم سمنود ذاتها مع مطار الشمس، ورفع ذكرها في العالم بجملته.
وكانت سمنود إلى عهد غير بعيد مركز تجارة واسعة للأخشاب، فاشتغل المرحوم الشيخ محمد النحاس والد زعيمنا بهذه التجارة، ولم يكن تاجرا كبير الثروة متسع النطاق مترامي المعاملة؛ ولكنه كان مع ذلك غنيا باسمه الحسن، وشهرته النقية، وسمعته الطاهرة في الأسواق ، وهو أنه التاجر المستقيم، أو «التاجر الذي لا يكذب»، فوثق الناس به، وسكنوا إلى ذمته حتى لقد كان التجار الآخرون إذا جاءهم أحد يريد معاملتهم لجئوا إليه يسألونه رأيه فيه، فإذا ما شهد له أخذوا بشهادته ووثقوا برأيه. ولقد كان في سمنود تجار أخشاب أكبر منه ثروة، وأوسع من متجره نطاقا، ولكنهم لم يصيبوا من حسن السمعة مثل الذي ترامى له، وتسامع الناس به من أمر استقامته ونقاء ذمته، فكان مآل تجارتهم من بعدهم إلى زوال وفناء.
وكانت والدته سيدة تقية، صالحة، قوامة، صوامة مزكية كما كان والده، إذ كان أفق العشيرة كذلك، جوا طاهرا تسوده العبادة، ويغمره التقى، وتراعى فيه الفرائض، وترفرف عليه أجنحة السكينة والدعة والسلام.
وكانت التقوى في آل النحاس مسموعة عنهم في المدينة من قديم الزمن، والتمسك بالدين أول صفاتهم التي عرفوا بها في المجامع والندوات.
وكان لمصطفى أخ من أبيه وهو المرحوم أحمد النحاس، وخمسة أشقة، قضى كبيرهم - وهو محمد النحاس - نحبه؛ فله اليوم من الإخوة الأستاذ سالم النحاس ومحمود النحاس التاجر، وعبد العزيز النحاس بك كبير المفتشين في وزارة الداخلية، وله أخت وحيدة هي حضرة صاحبة العصمة السيدة زهرة النحاس، وكانت زوجا للمرحوم إبراهيم شوقي بك، نجل المرحوم إبراهيم فوزي بك محافظ القاهرة في إبان الثورة العرابية، وكان قد وكل إليه يومئذ بحماية أرواح الأجانب فلم يرق في الثورة دم واحد منهم، ولم يطل قتيل، فكان ذلك حقيقا بفخار، حريا بأن يسجل له صفحة ناصعة في كتاب الشهامة والوطنية ومنعة الجوار. وقد وجدت هذه السيدة الفاضلة عند شقيقها مصطفى أعز الحنان، وأكبر الحب، وأعطف الرحم، وأندى القربى، كما وجد أبناؤها النجباء - وحيد وإخوته - عند خالهم الأب الراعي، والعميد الحنان البر، والولي الكريم.
وكانت وفاة والد مصطفى في سنة 1920، بعد أن رعى مصطفى ولزمه وحنا عليه إلى سن الأربعين، فلم يغادره يوم آذن الرحيل إلا وهو على طريق المجد مصعد، وفي أول النبوغ الوطني متألق النجم، وفي سبيل الوطن مجاهد يسير إلى ربوة الزعامة بخطى فساح، وقد قضت والدته بعد أبيه بثماني سنين.
في سمنود إذن، ذلك البلد الطيب، ملتقى الحضارتين: حضارة مصر الفرعونية، وحضارة مصر العربية، في تلك الوحدة التي أنشأها التسامح الديني، والسهولة الإسلامية، ووصى بها صاحب الرسالة المحمدية قومه، كما رأيت في خطبة عمرو بن العاص فاتح مصر، بسبيل منازل الربيع فيما تقدم لك في سمنود الممرعة الخصيبة، وعلى شرف من أمواه النيل، ووسط الحقول النضيرة، والمروج المترامية - كان مولد مصطفى النحاس، وذلك في الخامس عشر من شهر يونيو سنة 1879، بل في ذلك الأفق المنزلي الوادع الهادئ الذي ترف عليه السكينة، وتملأه أنفاس التقى والفضيلة، فتح عينيه على ضياء هذه الدنيا وليد من أطيب الأعراق، كتبت له العناية الإلهية أنه سوف يصبح الرجل العظيم الذي يتولى أمر أمة مجاهدة لأشرف ما جاهدت له الأمم في هذا العالم، ويسير بها إلى غايتها شجاعا قويا جلدا على الأحداث حتى يدرك النجاح.
لقد اختارت الطبيعة له أحضانها الحانية ليعتنقها من الطفولة، ويمرح في جنباتها صبيا يرتع في الحقول، ويقفز إلى اليم ليتعلم السباحة، ويذهب عاديا في المروج، ليس عليه خفق الرياح، ولا زفيف الهواء، تحت ضياء الشمس يباكرها في مثل نشاطها، ويودعها عند المغيب.
كذلك جاء مصطفى النحاس من أهل القرى مثل سعد آتيا ليكون المولد صحيا، من قلب الطبيعة التي أرادت به معنى من أكبر معانيها، وهيأته لمقصد من جليل مقاصدها؛ لأن الطبيعة تؤمن على مصنوعاتها، وتتخير لأخيار قوالبها، وتتكفل بإفراغها وانتخاب الظروف المساعدة لإخراجها، وقد أرادت أن يكون مصطفى بالنشأة فلاحا ليناسب الأمة التي سيتولى قيادتها، وأعطته كل مزايا القرويين في سراح الأفق، وسعة المحيط، وقوة التربة، وسلامة المناخ؛ ليدرك من الصفات الخلقية والمنازع النفسية التي تهيئ له السبيل إلى البروز، وتفتح له الطريق إلى التفوق، وتعينه على التمرس بالشدائد، والتجلد للصعاب والمشاق، واحتمال كبار الأعباء والصبر على عظائم الخطوب.
نشأ مصطفى في تلك البيئة الطبيعية لكي تتناسب النشأة مع الحياة العملية التي ترتقبه، إذ كان قد خلق ليكافح ويناضل ويجاهد لكبار الغايات وعليا الأمثلة؛ فاقتضى ذلك كله أن يكون قويا بالفطرة، سليم البناءة من الحداثة، مكتمل الخلق من الطفولة، حتى يظل على السنين شابا مدخر القوى، موفور العافية، لا يحسب عمره بالأعوام، وإنما يحسب شبابه المحفوظ عليه بالجدة الظاهرة، والقوة الزاخرة، والخليقة المكتملة، وصحة البنيان.
وإذا كان قد أخذ ذلك كله عن الطبيعة التي ولد في أحضانها ليظل شبابه باقيا، فقد أخذ كذلك عن البيئة المنزلية التي درج فيها الصفات والنزعات الكفيلة ببقاء شبابه، واستدامة قواه، والاحتفاظ بكيانه، إذ تأثر بمحيطه «العائلي» والتقوى الغامرة للأفق الذي نبت فيه، وورث الاستقامة المكينة من أهله؛ فليس أحفظ للشباب من الاستقامة، ولا أعود من التقوى على سلامة الأبدان.
ولقد رأينا جمهرة الناس في بلادنا يذبلون، ويغيض ماؤهم، وتنفد قواهم، وتخبو حرارة نشاطهم، قبل أن يدركوا الخمسين؛ بل يروحون مع مطالع الكهولة شيوخا مدبرين من إسرافهم على أنفسهم، وحملهم على قواهم في مراكض الشباب، وميادين الشهوات، ومطاوعة إغراءات النفس اللوامة، ومتابعة اللهو، وإركاض أفراس اللذة، والمتع الملحة المستبدة المحطمة للأعصاب.
نشأ مصطفى في ذلك البيت الطاهر، ودرج في ذلك الأفق الساكن الوديع؛ فاكتسب الاستقامة، وحرص على الصلاة من العاشرة، حتى لقد سئل فيما بعد عن سر هذا التمسك الصادق بشعائر الله، فقال إنه حين انحدر به أبوه إلى القاهرة ليسلكه في المدرسة، ذهبا من ساعتهما رأسا إلى ضريح سيدنا الحسين - رضي الله عنه - فلم يكد والده يقف به أمام المقام الطاهر حتى انبعث في خشوع يقول: «لقد سلمت لك مصطفى!» فشعر الطفل في تلك اللحظة بوحي خفي دب إلى نفسه، واستفاض في مشاعره، وغمر حواسه؛ فظل يذكر تلك الوقفة الدينية الرهيبة طيلة الحياة، ويتمثل تلك الكلمات تدوي في أذنيه على الأيام، ومنذ ذلك الحين لم يترك فرضا، ولم يهمل ميقات صلاة؛ بل لقد كانت هناك جوائز ومكافآت للصلاة في المدارس الابتدائية والثانوية، فأحرزها جميعا، وفي سائر أعوام دراسته.
هذا هو أول أثر للمحيط العائلي في نفس مصطفى عند طفولته، وهو تأثير خلقي يتصل بالشعور، ويلقي في الوجدان بذور الفضيلة، وتشيع في النفس من أفاعيله كرائم الآداب، ورفعة الأخلاق، والتنزه عن الدنايا، ويضع في أعماق الخاطر قوة الإيمان والاعتماد على الله، وجلال اليقين الذي لا يتطرق اليأس إليه في أشد الحلكات، وأبلغ المحن، وأرهب البلاء.
وكذلك بدت بوادر نفسه الصالحة الطاهرة قبل ظهور مخايل ذكائه ورفعة ذهنه؛ لأن النشأة النفسية إنما تكون من عمل البيت، وصنع المؤثرات العائلية، وأفاعيل الوسط الأول والبيئة الخاصة. وعلى مبلغ هذه النشأة من القوة والنقاء والخير والطبيعة تكون الرجولة، ويروح المصير، ويتيسر النجاح، ويتواتى الفوز والتوفيق.
بفضل التربية المنزلية والتكوين النفسي الأول، ظهر مصطفى النحاس في شبابه موضع الإعجاب، وتجلى في رجلته محل الإجلال والإكبار، وفي زعامته الوطنية كاسب الإيمان ومكسبه، ورابح اليقين وموحيه، والمتجمل بالثبات والمنادي إليه، والرفيع النفس والنفوس ألفاف حوله، والمتغلب على خصومه وإن تكاثروا عليه، بقوة تلك المزايا التي استمكنت منه بفضل النشأة والتكوين.
وخارج البيت لم تلبث استعداداته الذهنية أن ظهرت بادهة مدهشة كمواهب نفسه، ولم تكن في سمنود مدارس كبيرة في ذلك الحين، وإنما كانت ثم مدرسة لتعليم الفرنسية أنشأها قبطيان من أهل المدينة، وهي مدرسة صغيرة متواضعة، لا تكفل تعليما كبيرا ولا حسن تنشئة، ولكن الصبي مصطفى جعل يختلف إليها في طفولته ليأخذ عنها المبادئ الأولية.
وفي تلك الفترة، وقبل أن يبلغ العاشرة، ظهرت مطالع نجابته فجأة، وبوغت القوم بسرعة التقاطه للعلم، وخارق ذكائه، وعجيب حافظته. وقد ذكر كثير من الناس قصة عن طفولته وما كان منه في مكتب التلغراف، وهي في الحق قصة صحيحة غير مصنوعة، وإن لم يأت رواتها على الدقائق الصادقة فيها وحقائق التفاصيل، ونحن موردوها هنا على وجهها الصحيح.
في ذات يوم شهد مصطفى وهو في طفولته عبد الحميد حافظ أفندي المستخدم في مكتب التلغراف يحرك أنامله على جهاز آلي أمامه، فينقل الجهاز إشارات معينة، فوقف يتأمل هذا العمل مليا، وقد هاج حب الاستطلاع في نفسه؛ فكاشف الموظف برغبته، وكان عبد الحميد صديقا لأبيه، فدفع إلى الصبي بكشف طويل يحوي الحروف الهجائية وبجانبها مصطلحاتها التلغرافية، بين شرطة ونقطتين، أو نقطة وشرطة، ونحوها. فلم يكن من الصبي إلا أن أكب من لحظته على حفظها، واضعا كل ذهنه وقلبه في استظهارها، حتى لم يكد يؤذن مغرب الشمس حتى جاء الغلام إلى العامل طالبا إليه أن يسمع عليه ما حوى ذلك الكشف من نقط وإشارات وشرطات.
وما كان أشد عجب الرجل ودهشته لما قال الغلام، فراح يقول له: «كيف تكون حافظتك قد وعت في يوم واحد ما لا تعيه ذاكرة سواك في شهر؟!» فألح مصطفى عليه في سماعه قائلا: «إذا تلخبطت فعاقبني!» فأصغى الرجل إليه وراح هو يتلو ما حوى الكشف من أوله إلى آخره تلوة المستظهر الحفيظ العليم؛ فاشتدت دهشة العامل، وعجب لقوة ذاكرة الغلام الباكرة ووقدة ذكائه العجيب.
وتسامع أصحاب أبيه بما جرى، فأشاروا عليه بأن يعنى بهذه المخايل الخارقة للمألوف، والمواهب النادرة في الغلمة والأصبية، ناصحين له بأن يدخله إحدى مدارس القاهرة ليتلقى العلم بانتظام، ويبرز ما وهبه الله من ذكاء غريب.
ولقد جرى شيء كذلك في طفولة مازيني زعيم إيطاليا العظيم، ومنشئ وحدتها الحديثة؛ فقد كان في السادسة أو الخامسة من العمر وليدا ذكيا باده المخايل، واتفق أن زار البيت أحد أقرباء أمه، وهو ضابط كبير في المدفعية، فوجده في المهد وقد أحاطت به الكتب؛ فعجب لمشهده على هذه الصورة، وراح يبدي الأثر الذي اعتمل في نفسه من أمره في كتاب بعث به إلى والدته بعد سنتين من ذلك التاريخ، وكانت السنيورة مازيني قد طلبت إليه أن ينصح لها أي أنواع الدراسات يصح أن تسلك فيها وليدها العزيز، فقد قال في كتابه إليها:
ألا ثقي بما أنا قائل لك. إن هذا الغلام العزيز نجم سوف يروح كوكبا فرقدا متألق الضياء، وسوف يصيب في يوم من الأيام إعجاب أوروبا المستنيرة كلها، ومن ثم ينبغي للناس جميعا أن يعدوه كشيء هو ملك لهم، لا ملك أحد خاصة، ومن الخير للناس مجموعا، ولمصلحة الإنسانية ذاتها، أن ينتفع بمواهبه الخارقة المألوف التي حبته الطبيعة بها، وأن توجه أحسن التوجيه. وإن عليك لواجبا عظيما، وهو أن تضحي بكل ما يمكن التضحية به في سبيل تربية هذا الوليد وتنشئته.
وقد كانت هذه الكلمات نبوءة من الكولونيل حققتها الأيام، وقد راح في الكتاب ينصح لوالدة مازيني أن تقصر دراسة الطفل على ما يكسبه المعارف الصحيحة والعلم المحض والثقافة النقية من أخلاط النظريات والقضايا الجدلية، وأن تجنبه تناول الكتب الحاوية لصنوف الحوار، ومختلف وجهات النظر، قائلا في ختام رسالته: «إن ذهنا عبقريا كذهنه سوف يسهل عليه أن يختار لنفسه الكتب الصالحة من هذا الطراز في الأوان الموافق، والحين المناسب.»
ولعل والد مصطفى قد وجد نفسه في الموقف الذي وجدت والدة مازيني نفسها فيه حيال ما ذر من ذكاء وليده، وما بدر من مخايل نجابته، فاستنصح الصحب في أمره، واستشار أهل مودته فيما عسى أن يسلكه بشأنه. وكان فيهم صالح باشا ثابت وعبد الحميد أفندي حافظ وغيرهما؛ فكانت النصيحة أن يدخله في إحدى مدارس القاهرة، وكأنما أحس القوم يومئذ حيال هذا الغلام الذكي من الحداثة، القوي الذاكرة في الطفولة، أنهم أمام ظاهرة غير مألوفة، وأن لهذا الغلام شأنا في غده، وهي النبوءة التي كثيرا ما صحبت طفولة العظماء، واستبقت في الصغر مصائر النوابغ والمتفوقين.
وأدى البحث في أي المدارس أصلح له إلى اختيار المدرسة الناصرية، وكانت يومئذ أكبرها شأنا، يختلف إليها أبناء اليسار وأولاد أهل الجاه والعظاميين، وكان ناظرها أمين سامي باشا المربي المعروف.
وكان خروج مصطفى من البلد الذي درج من المهد فيه، والوسط الناضر الذي كان يحتويه، والأفق المنزلي الوادع الذي يكتنفه إلى القاهرة في تلك السن الباكرة، منظرا في البيت مؤثرا، وموقفا أحسبه لا يزال إلى الساعة منطبعا على صفحة خاطره. ولا ريب في أن وداع والدته الحنون الرءوم له كان أليما، ولا بد من أن يكون قد جرى مقترنا بنصائح الأم ووصاتها للطفل الذي راح يغترب عن أفقه الصغير ليعيش في أفق جديد غريب عليه، وسط الحاضرة المليئة بالإغراء، المزدحمة بالمفاتن، الجديدة على طفل من الريف نقي الصفحة بريء الخاطر.
لقد دعت أمه الله له بأن يتولى حراسته ويجنبه السوء ويرعاه، وهي في إشفاق ودموع. وصحبه والده في سفره ليدخله المدرسة وهو مستخير الله في أن يسلك بولده مسالك التوفيق.
وكان مجيء مصطفى إلى «الناصرية» في الثلاثة الأشهر الأخيرة من السنة الدراسية، فأمر الناظر بامتحانه ليعلم أي الفرق هو لها الصالح المناسب؛ فظهر يومئذ أنه يليق للسنة الثانية، فسلك في تلاميذها. وكان من المشقة عليه - ولا ريب - أن يجاري زملاءه وإخوانه فيها، وهو لم يدخلها معهم من بداية السنة، ولكنه جاء من الريف يحمل أول بوادر النبوغ، فلم يلبث أن تفوق على أقرانه جميعا في امتحان النقل إلى السنة الثالثة.
وعاد مصطفى في الإجازة الصيفية إلى سمنود ليجد أحضان أمه المشوقة إليه، وتوق أبيه المتوسم الخير فيه. عاد إلى المروج النضرة، والحقوق الممرعة، وحرارة الشمس الساطعة، ومنظر النهر وأمواهه المتدفقة، ورجع إلى البيت الذي غاب أشهرا عنه، وهو أبدا في خاطره، كما هو في أخلاد أهله؛ ففرح بهذه المتعة النفسية، واستروح لهذه اللقاءة اللاهفة، ومضى يغشى معاهد الطفولة، ويطوف ملاعب الحداثة؛ ولكن بنفسية جديدة، نفسية الصغير الذي نجح في الامتحان، وتفوق على الأقران؛ فحركت هذه المشاعر في نفسه طماحة النبوغ الباكر، ونفث النجاح في روحه أن يطوي وحده السنة الرابعة باستذكار دروسها، حتى إذا حل العام الدراسي الجديد، انتظم في سلك الدراسة الثانوية قافزا طافرا.
مصطفى النحاس.
ولكن أمين سامي باشا لمح في مصطفى تلك البوادر السراع المتوثبة، فخشي أن تخمد تلك الجذوة بإرهاقها، وتخبو حرارتها بالحمل عليها وإجهادها؛ فنصح بأن يسير الطفل في الدراسة سيرة طبيعية، وأشفق والده عليه من تلك الطفرة الخطرة؛ فأشار عليه بالترفق، خيفة الإيغال، وبالتؤدة؛ لأنها أعون على شقة المسير، فأطاع مصطفى ورضي النصيحة، ودخل السنة الرابعة الابتدائية، فكان في نهايتها أول الناجحين.
وكان النظام المتبع يومئذ أن الناجحين في نهاية السنة الرابعة ينتقلون مباشرة إلى الدراسة الثانوية، إذ لم تكن الشهادة الابتدائية قد تقررت بعد ونظمت لها الامتحانات النهائية العامة. ولكن في تلك السنة التي كان مصطفى فيها موشكا أن ينتقل إلى الدراسة التجهيزية، وهي سنة 1891، ولم يكن الصبي قد جاوز الثانية عشرة، تقررت فجأة إقامة امتحان عام لنيل الشهادة الابتدائية، وكان ذلك مباغتة أعدتها الأقدار لتبرز ذكاء مصطفى، ونجابته وبوادر نجاحه، وقوة استعداده، وغزارة ملكاته؛ إذ لم يكن بين مصطفى وتأدية ذلك الامتحان سوى أسبوعين، ولكنها على قصرها لم تكن المهلة القصيرة حيال عزمه الوثيق، وصبره المكين، وجلده الطويل؛ فنجح في الامتحان وبرز على رأس الفائزين فيه.
كذلك أتم مصطفى الدراسة الابتدائية غريبا في القاهرة، قادما إليها من صميم القرى، وكان في الناصرية «بالقسم الداخلي»؛ أي يبيت فيها ويجد طعامه. وكانت الأقسام الداخلية في معاهد العلم مواطن إغراء خطر، وفتون شديد السلطان على النفوس الساذجة، والصفحات النقية البريئة، بسبب اختلاط الطلاب ومعيشتهم الاشتراكية، وكانت الناصرية كما قدمنا مدرسة أبناء الذوات، وأولاد الأغنياء النازحين من الريف، وقد اشتهر طلابها بالترف والنزوع إلى المراح، والاستجابة للهو والعبث، والاستماع إلى المفاتن والمغريات.
ولكن مصطفى الذي انحدر من سمنود وفي خاطره دعوات والدته ووصاة أبيه، وفي أعماق نفسه أثر البيئة الصالحة التي عاش فيها، والأفق المنزلي الوادع النقي الذي كان في المولد يكتنفه، لم يتأثر بما كان يجري من حوله في ذلك الوسط المدرسي الجديد عليه؛ إذ كانت نفسه الطيبة من الطفولة منصرفة إلى الدرس، منكمشة في التحصيل، منشغلة بالطموح، مليئة بالتطلع والنزوع إلى التفوق، وقد تمكنت منها العبادة، وتأصل فيها الوازع الديني؛ فلم يكن في ساعات فراغه ينزع إلى اللهو كأثر من حوله، وإنما كان يروح إلى الصلاة في المواقيت، أو يطالع بعض الكتب المدرسية يستزيد منها ويزكى بها، ويجمع إلى ما تلقنه في المدرسة ما يعالج هو بنفسه فهمه بلا معلم ولا ظهير.
وفي المدرسة الابتدائية، ظل مصطفى في هذه «المناعة» الخلقية من المغريات ووساوس الغرائز، وبنجوة من الجموح الذي ينزع إليه أكثر الولدان بسبب كثرة الاختلاط والاندماج؛ بل لقد اكتسب فيها ما لم يكن يألفه من قبل، وهو الصبر على الحرمان، والرضوان بالشظف، وإيلاف التخشن، والجلد على التقشف إذا ما اضطر إليه.
فقد حدث يوما أن كان الطعام المقدم إلى الطلبة في القسم الداخلي في الفطور حساء عدس، فعافه مصطفى ولم يمدد إليه يده، وحان طعام الغداء فوجد الخضر المقدم على المائدة كراثا مسلوقا فلم يذقه، وفي المساء كان العشاء فضلة ذلك الكراث في الأوعية وبقاياه، فلبث ينظر مليا إليه، وكان الجوع قد اشتد به؛ فلم يلبث أن «هجم» على «الكراث» فأكل منه وأساغه واستمرأه مكتفيا به.
مصطفى النحاس وهو في سلك القضاء.
ومن ذلك العهد ألف الرضا بكل الأطعمة، فليس له «صنف» مخصوص، ولا لون من الأطعمة هو أحبها إليه.
وانتقل مصطفى إلى المدرسة الخديوية، فأظهر فيها التفوق ذاته، والنبوغ الباده بكل أعراضه ومزاياه، وكان دخوله المدرسة في قسمها الداخلي «بمصروفات»؛ ولكن أمين باشا سامي الذي أدرك نبوغه وعرف ذكاءه وتبين مواهبه أراد تشجيعه وجعله قدوة حسنة لسواه؛ فطلب أن يبقى «مجانا» هو ورفيق له يدعى محمد فهمي ياقوت، فسمح له بذلك.
وفي المدرسة الخديوية، كان مصطفى في الحق قدوة مثلى، ونموذجا طيبا للطالب العاكف على دراسته، المنصرف إلى العلم بكليته، العزوف عن النزق واللهو، المقبل على المطالعة والمزيد من المعارف، وقد أحبه رفقاؤه لمواهب ذهنه وعاطفته، وتأثروا في رحاب المدرسة بشخصيته، واعترفوا جميعا برقة حاشيته، ووفاء طبيعته، وكرم شمائله، وحبه الصادق للعدل، حتى ليذهب إلى حماية أي طالب يستهدف لأذى رفقائه، أو تساء معاملته في حلقات اللدات والأقران.
وكان مصطفى في الخديوية وقورا، وملامح وجهه تكسوها الرزانة والسكون، وإن أشعت عليها في أكثر الأحيان ظلال ابتسامة حلوة ساجية، وإيماضة رفيقة هادئة، وكان متحدثا فصيحا؛ فإذا ما تناقش والصحاب في مسألة من المسائل، نم وجهه وصوته وحركاته وإشاراته عن اتزان باكر، وتمكن من موضوعه، وفهم صحيح لكلياته وجزئياته.
وكان كل همه في الدرس والمذاكرة، ولم يكن ليشترك مع الأقران في لهوهم ومراتعهم، حتى إن نقاء حياته أرسل أفقا من الطهر والنقاء فيما حوله، وطهر جوه ومحيطه.
وعقب دخوله المدرسة الخديوية شاء اللورد كتشنر أن يأخذ من المدرسة عددا من طلابها لإلحاقهم بالمدرسة الحربية، وكان مصطفى من بينهم؛ ولكنه كان يؤثر مواصلة دراسته والانتقال منها إلى المدرسة العالية، فرفض النقلة إلى المدرسة الحربية، وعند ذلك ظن الموظف الإنكليزي الذي يحاول تنفيذ مشيئة المعتمد البريطاني أنه مستطيع أن يؤثر في هذا الطالب الذي اجترأ على الرفض، من ناحية ضعيفة، يحسبها مطعنا قابلا للجرح؛ فقال له إن كل تلميذ يتعلم هنا «بالمجان» لا بد من أن يلتحق بالمدرسة الحربية، ولكن مصطفى - في شمم وعزة وشجاعة - راح يجيب قائلا: «ما طلبت أنا المجانية عن فاقة، ولا سألتها عن عوز؛ ولكن ناظر المدرسة هو الذي شاء ذلك مكافأة للمتقدمين، وجزاء للمتفوقين.»
فأسقط في يد المفتش، ولم يحر جوابا.
وظل مصطفى متفوقا على أقرانه في المدرسة الخديوية، على رأس الفرق جميعا، حتى أصاب «البكالوريا»، وانتقل إلى مدرسة الحقوق، حيث المضطرب فسيح لبروز النبوغ، والمجال متسع أمام الذكاء الوقاد، والشخصية القوية من النشأة، فلم يلبث مصطفى أن ظهر بأول مقدمات «الزعامة»، ومطالع قيادة المجاميع، وقد ظل على تفوقه أول فرقته في جميع سني الدراسة، وهو البارز على رأس إخوانه، الظاهر وسط الحلقات، حتى أحرز «الليسانس» وكان أول الناجحين.
وكانت بوادر زعامته في هذه الفترة الباكرة من حياته، بسبيل مصير طلاب الحقوق وخريجيها إذا ما فرغوا من دراستهم القانونية؛ فقد وقف مصطفى النحاس يومئذ موقفا رائعا من أمر هذا المصير وسبيله، وأبدى من الرزانة والرصانة والثبات على الحق ما كان مقدورا له أن يبدي في مجال السياسة بعد ذلك، ومواقف الوطنية الصادقة، حتى لم يعد عن ذلك الأمر إلا وهو الناجح الموفق المنتصر.
وتفصيل ذلك أن خريجي الحقوق كانوا يومئذ يعينون «كتبة» في النيابات بمرتب شهري لا يتجاوز خمسة جنيهات، وكان ذلك الإجراء سوء تقدير لهم، ووضعهم في غير مواضعهم، وإنزالهم في خدمة القانون دون منازلهم الخليقة بهم، فلم تكد نتائج الامتحان النهائي تظهر، وتعرف أسماء الناجحين فيه، حتى دعا مصطفى أفراد فرقته الذين نالوا الليسانس معه إلى حفلة أقامها لهم في القناطر الخيرية، فجاءوا متوافين إليه ملبين.
وحين اكتمل عقدهم نهض مصطفى فيهم قائلا لهم إنهم بنيلهم إجازة الليسانس قد أصبحوا من رجال القانون في البلاد، وإنه من الجرم أن يقبلوا وظائف كتبة في النيابات براتب خمسة جنيهات، فقال قائلهم: «وماذا نصنع إذن؟» قال: «أريد أن نقاطع الوظائف الحكومية، ونخوض معترك الحياة العامة أحرارا طلقاء المشيئة غير مقيدين.»
فاستقبل فريق منهم الفكرة راضيا محبذا، على حين لزم فريق الصمت وأطالوا السكوت، فعاد الزعيم الشاب يقول: «أما من جهتي فإنني أرفض الدخول في هذه الوظائف من الوجهة المالية، فإذا كان فيكم من تضطرهم حالتهم المالية إلى التوظف وهم كارهون، فليعلنوا ذلك من الآن، فنحلهم من الاشتراك معنا؛ فإن ذلك خير من أن ينشقوا علينا بعد أيام، فيعوقوا علينا سير حركتنا، ويفسدوا علينا تضامننا.» فقال أربعة منهم إن ضيقهم المالي يكرههم على قبول هذه الوظائف صاغرين، فقال الزعيم الشاب المتحمس لفكرته، الحريص على كرامته: «هذا حسن، فليتحد الباقون، وليتناصروا، وليكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.»
وما لبث نبأ هذه الحركة أن اتصل بولاة الشأن المصريين والإنكليز، فخشوا العاقبة وعهدوا إلى ناظر مدرسة الحقوق بأن يدعو مصطفى النحاس إليه فيبحث معه الأمر في رفق، فلما دعاه الناظر ذهب إليه، ولكنه لم يكد يدخل عليه حتى وجد حوله وكيل المدرسة وبعض الموظفين الإنكليز، ومن بينهم مندوب من قبل دار الوكالة البريطانية.
وراح القوم يسألونه عن الباعث الذي بعثه هو وزملاءه على القيام بهذه الحركة، فبسط لهم الأسباب في لهجة الجد والحزم والغضبة الصادقة للكرامة.
ولما فرغ من قوله وهم مرهفو الأسماع له، انثنوا يقولون له: «وماذا تريد أنت لكي تكف عن دعوتك هذه؟»
فقاطعهم قائلا في حماسة الأبي المترفع: «لست أبغي شيئا لنفسي خاصة، ومهما عرضتم على زملائي فإنني شخصيا لن أقبل التوظف في النيابات، وإنما الذي أطلبه لإخواني هو أن يعينوا في وظائف «مساعدي نيابة» بمرتب خمسة عشر جنيها في الشهر.» فقالوا: «إن هذا الطلب صعب التحقيق ، إذ ليس يتيسر الترقي بهم إلى وظائف مساعدي النيابة دفعة واحدة.»
فجعل مصطفى يناقشهم في ذلك وهم يناقشونه طويلا حتى أقنعهم برأيه، وألزمهم وجهة نظره، فارتضوا تعيين الخريجين في وظائف «معاوني» نيابة بعشرة جنيهات في الشهر.
وكذلك انتصر مصطفى ورفع من شأن إجازته، ونجح في زعامته الباكرة ومطالع قيادته، ووفق في الدفاع عن حقوق الجماعات بقوة يقينه، وجاذبية شخصيته، ورفعة نفسه عن الصغار والمادية، ونفاره من المساومة، ووقوفه موقف الشهامة والكرامة والإباء.
وكذلك بدرت نزعة الزعامة في نفس مصطفى وهو في العشرين أو قرابتها. وقد اقتضت منه الزعامة الباكرة يومئذ الوقوف بجانب الحق، فوقف بجانبه رافع الرأس، قوي المنطق، باده الحجة، بل لقد أريد على الكف عنها بالمساومة والإغراء؛ فأبى الإذعان إلى ما أريد عليه، فكانت تلك صورة مصغرة من زعامته الوطنية حتى توانت له الظروف المهيأة، وحان مطلعه على رأس الأمة ليقودها بتلك الزعامة الحريصة الحفيظة النزيهة ذاتها إلى ساحة الجهاد، وميدان الفوز والنجاح.
وقد رفض وهو قائم في ذلك الموقف الخليق بالإعجاب دخول الوظائف، وكان دخولها يومئذ مرمى آمال الشباب، وغاية أماني الطلاب، رفض الوظيفة ولم يكن أهله أغنياء مكثرين حتى يستغني عنها الاستغناء كله؛ ولكنه كان أبيا على المساومة، بعيد مطارح الأمل، قصي مسافة الأماني، يحس في أعماقه أن الميدان الحر أوأم له، وأصلح لمثله، وأكثر إبرازا لمواهبه.
رفض مصطفى وظائف معاوني النيابة، وأبى راتب عشرة جنيهات في الشهر، ولو أنه ارتضى ذلك وقبله، لأعطي أكثر من ذلك وأكبر أمدا، ولكن بثمن زعامته الأولى في حلقة الشباب، وبتضحية الفضيلة النامية في نفسه، الثجاجة من منابع إحساسه، الغزيرة المورد والمعين ...
لقد كانت عشرة جنيهات في الشهر يومئذ راتبا حسنا، يقر عين كل شاب، ويرضي أمانيه؛ إذ لم تكن في ذلك الحين أزمات اقتصادية، ولا ضوائق متراخية الآماد، ولم تكن ثم قيود مالية على العلاوات، وحد من الترقيات، كما ترادف ذلك وتكاثر في العهود الأخيرة، حين اشتد الزحام على الوظائف، وكثر على الحكومة وخدمتها الزمر والحشود وجموع المتهافتين.
وهكذا استكمل مصطفى حياته الدراسية بإبراز مظهر جديد من مظاهر الإباء والرفعة، وفرغ من دور النشأة أحسن ما يكون الفراغ، وانتهى من مرحلة التكوين أجل ما تروح النهاية؛ فكان ذلك كله توطئة مناسبة لما كان يرتقبه في حياته العملية من مواقف عظيمة، وأحداث كبار، وفعال جسام.
لقد استقبل مصطفى النحاس حياته العملية شابا مستقيما، والاستقامة في الشباب قوة لا يستهان بها، ومزية ترجح على كل المزايا، وعدة لا تتخاذل أمام الطوارئ والحادثات، واستهل مصطفى الدور الثاني بعد التكوين فتى قوي الإرادة. وقديما كانت قوة الإرادة أكبر معوان على النجاح في الحياة، إذ بقوة الإرادة استطاع النوابغ والعظماء أن يشقوا طريقهم في الصخر، ويبلغوا غاياتهم البعيدة بالدأب في غير كلال، والمثابرة في غير يأس، والإقدام دون تردد أو إحجام.
مصطفى النحاس - من صورة زيتية.
وقد تجلت في مصطفى النحاس على نهاية هذا الدور غيرته الصادقة على «الكرامة»، وأنفته من الصغار، والتنائي عما يخدش العزة؛ فراح يستفتح حياة العمل في الميادين الحرة عيوفا، كريما، قوي النفس، لا ينزل عن كرامته، ولا يترخص فيها، ولا يقبل التساهل فيها والتفريط.
لقد كانت تلك بداية صالحة موائمة لما كان ينتظر أن يكون من أمره في الغد القريب، وكانت تلك نشأة قوية رفيعة تخلق بشاب أعدته العناية الربانية لكي يمسك بزمام الزعامة في أمة تصبو إلى أعز غاية في هذه الحياة، وهي «الحرية»؛ وتجاهد لأشرف مطلب، وهو «الاستقلال».
فلننتقل إلى دور الحياة العملية لنرى كيف سلك مصطفى فيه، وماذا كان من أمره خلاله، قبل أن يؤدي رسالته الوطنية إلى الناس ...
مصطفى النحاس في حياته العملية
رأينا كيف أبى مصطفى النحاس عقب تخرجه في الحقوق الوظيفة التي عرضت عليه، وكيف دافع عن حقوق الجماعة التي كان هو منها؛ فلما نجح في دفاعه لم يشترك فيها، وترك الزملاء - بفضل ذوده عنهم - يدخلون الوظائف فرحين راضين جذلين.
وقد كان ذلك منه في الحق شيئا جديدا على العصر، مخالفا لروح الجل؛ ولكنه كان في أمر مصطفى النحاس طبيعيا، متناسبا وخليقته، موائما لرفعة نفسه القوية، المستمدة سموها من أعماقها، المستعينة على اقتحام الحياة الحرة بقوتها من داخلها واعتدادها بذاتها. وقد نجح مصطفى في أول قضية تناولها ووقف موقف الدفاع فيها، قبل أن يجتاز باب المدرسة لآخر مرة، تلك هي قضية الخريجين وظلامتهم؛ فقد كسبها لهم، ثم أبى أن يشاركهم الكسب الذي أحرزه، فكان ذلك النجاح علامة على الغد المنتظر لهذا الشاب الجديد على عصره، وبشيرا بمصير هذا الفتى المنفرد عن جيله.
لقد كانت هذه البداية مقدمة جليلة صالحة للكتاب الضخم الحافل الذي سوف تكتبه الحياة في مسيرها لهذه الشخصية القوية من النشأة، المهذبة المجملة من الفطرة والتكوين.
وقد حفظت له الطبيعة مكان السبق من الطفولة، والموضع الأول في مجاز كل امتحان في الحداثة، وجاءت به من الصغر صبيا غير اعتيادي، ولا أمره في الدراسة بمألوف، وكان انتقاله من دور الإعداد والتهيئة، إلى دور الجد والعمل، منتظرا أن يجيء متناسبا والمطالع، متكافئا والمقدمات، وإن كانت قد شوهدت أمثلة شذوذ في هذه الناحية؛ فقد قص التاريخ شواهد من حياة نوابغ كانوا في المدرسة وسط الغمر، غير بارزين بين اللدات والأقران، ثم نضجوا بعد ذلك واستبقوا، وكانت براعتهم في فنونهم خلال حياتهم نادرة عجيبة المثال؛ كما رأينا خلقا كثيرا من الناس كانوا في الحياة المدرسية سابقين أوائل طلاعي القمم في مجتاز الامتحانات، ولكنهم إذ انتقلوا إلى الحياة العملية لم يلبثوا أن تخلقوا واحتوتهم لجة الحياة فلم يظهروا، وقضوا أعمارهم تسلمهم المعايش من فشل إلى فشل، وتهوي بهم الخطى من إخفاق إلى إخفاق.
ولكن هذا الشذوذ في النبوغ، بين إبطاء تعقبه سرعة، وبين سرعة يعقبها تراخ وسوء منقلب، لا يرتفع بطبيعة الحال إلى خطر النبوغ المنظم المستوي على نهجه، الذي تأتلف نتائجه مع البوادر والقرائن والمقدمات.
وقد كان أمر مصطفى النحاس من البداية في النبوغ منظما مستقيما على الطريق، وقد فرغ من دور المدرسة، ووجب أن تكون بداية الدور التالي بارزة بظاهرة عظيمة، وشأن كبير، وتناسب كامل رفيع.
لقد آثر مصطفى العمل الحر، واليوم، ونحن ننظر إلى ذلك بعد مدار السنين، ومشاهدة ما كان منه عبر الأعوام، لا نعجب لذلك الإيثار؛ لأنه جاء مطلعا ملائما لحياة الرجل الذي أعدته الأقدار محاربا في سبيل الحرية، مجاهدا لها، مناديا بها، باذلا من أجلها عصارة النفس وخلاصة الروح، مدافعا عنها بكل قوى الإيمان واليقين.
وكان موقف مصطفى بسبيل الدفاع عن حقوق حملة إجازة القانون والنتيجة الناجحة التي انتهى إليها، قد عرفا يومئذ في الأوساط القضائية وغيرها؛ فكان ذلك مبتدأ جميلا لخبره، وفاتحة طيبة لمستهل عمله، فعرض عليه المرحوم محمد بك فريد رئيس الحزب الوطني العمل بمكتبه لقاء مرتب حسن؛ ولكنه أجاب بأنه على استعداد للتعاون معه، لا أن يعمل أجيرا عنده، قائلا إنه قد رفض التوظف في الحكومة حتى لا يقيد نفسه، فلا معنى إذن لتقييدها بالتوظف لديه.
كذلك كان مبلغ إباء مصطفى النحاس للقيد، ونفوره من الأغلال، ونزوعه إلى سراح الإرادة، وحرية العمل؛ بل هكذا بدأ الحياة العملية برفض الوظائف مرتين، والتأبي على التقيد في حادثتين متعاقبتين، فأثبت هذا النزوع فيه شدة حبه للحرية، وإيثاره للاستقلال؛ كما أثبت قوة الاعتداد بالذات، والاعتماد على النفس، أمام غد مجهول ومصير مسدل الحجب.
ولم يلبث مصطفى النحاس أن اقتحم ميدان المحاماة اقتحاما، يعمل فيه مستقلا، وينزله منفردا، ولا يعتمد في الجولة خلاله إلا على إرادته، ولم يكن مضى على نيله شهادة الحقوق غير بضعة أشهر. وكان أول ظهوره في المنصورة، وهو الشاب الصغير الذي لم يتجاوز الحادية والعشرين.
ولم يبدأ مصطفى عمله محاميا ناشئا، ولكنه بدأه جديدا، بدأه محاميا قادما بخليقة بادهة، وعنصر رفيع، ومبادئ سامية؛ بل بدأه محاميا كبيرا قبل أوانه ناضجا قبل إبانه، مكتملا وهو في نشوئه، فقد برزت مواهبه في ذلك الدور الباكر من حياته، وانكشفت صفاته ومنازعه ومزاياه التي كانت تبدو جواهر خامة غير مصقولة، وهو في الطفولة؛ واجتمعت من صفات الاستقامة، والصدق، واحترام الواجب، وإكبار الحق، ونصاعة الخلق، والحرص على الكرامة، والثقة بالنفس، وحدة الذكاء، وقوة الحافظة - اجتمعت من أولئك كلها، الشخصية اللازمة للمحامي الجديد على جيله ، المستبق فوق سنه، القدير وهو في بدايته.
وما عتم أن ذاع اسم مصطفى النحاس في المنصورة، واشتهر بنزاهته وعرف بكفاءته، وراح موضع احترام القضاة والمتقاضين، وعجب الناس لهذا الشاب المحامي وهو على غير ما ينتظر من المحامين الناشئين: يقدم قضاياه إلى المحكمة مؤيدا لها بمراجع وأسانيد وموسوعات وأمهات كتب وفقه قانوني يحملها غلام المكتب إلى الجلسة؛ ليبرزها بنصوصها من أسانيدها أمام القضاة إبراز المتمكن من موضوعه، الواسع الدراسة لقضاياه. فكان القضاة يستمعون إليه في إعجاب، وكان أصحاب القضايا يتقاطرون عليه من أقاصي الوجه البحري ومختلف نواحيه ليسلموه قضاياهم، وهم مطمئنون إلى نزاهته، ساكنون إلى مقدرته، معتقدون أنه المحامي الشاب الذي ارتفع بالمحاماة من اعتبارها كحرفة أو مهنة إلى فن رفيع، يشتغل به صارفا كل نفسه إليه، واضعا كل قلبه في مقتضياته ومطالبه.
لقد كان مصطفى النحاس في الحادية والعشرين محاميا لا يقنع بأنه قد وجد في المحاماة «مرتزقا» يكفل له العيش، ويدر عليه الكسب؛ ولكنه يأبى إلا أن يراه «فنا» وأن يكون صادقا لفنه، أمينا عليه، حفيظا له، رافعا من مستواه؛ فأقام بذلك المثل الحسن للمحامي، وأبرز القدوة المثلى للمشتغل بالقانون.
وكان مبدؤه من نشأته في هذا الفن الرفيع هو البحث عن الحق والعدل، مهما كان من صعوبة القضايا وتعقدها، ومهما كان الحق في بعض الأحيان متعارضا مع القانون؛ فلم يكن ليتردد في الدفاع عن الحق والعدل حتى يغلبهما على القانون. وإذا كان بعض القضايا من جهة القانون مكسوبا، ولكنه من جهة الحق يبدو خاسرا غير رابح، ظل يكافح ويناضل حتى يرد الحق إلى نصابه؛ وإذا أعوزه صدق نية المتخاصمين، تخلى عن الدعوى، وأبى السير فيها، مضحيا بما يجلبه عليه قبولها من وفير الربح، وجزيل الأتعاب، وضخم الجزاء.
هذا هو المثل الرفيع للمحامي الشريف، بل المحامي الذي لا ينظر إلى المحاماة كمهنة، ولكن ينظر إليها كفن، ولا يمد عينيه منها لمجرد الكسب والانتفاع، ولكن يرتفع بها عن المادية إلى مستوى الواجب، وإملاء الضمير، والبحث عن الحق من أجل الحق ، وإقامة العدالة؛ لأنه يجب أن تقوم العدالة.
يجب أن يكون المحامي بحاثا عن الحق والعدل، فلا يترافع ضد ضميره، ولا يغلبه الطمع في الكسب على التطلع إلى الفوز بإزهاق الباطل، وجعل كلمة الحق هي الغالبة. ولا يصح أن يكون المحامي مداجيا، فيعمد إلى التعمية أو يلجأ إلى إخفاء الحقائق، كما أن بلاغته ولسنه وقوة منطقه وكفاءته وبراعته ينبغي أن تنصرف جميعا لخدمة الحق والعدل دون أي اعتبار آخر، أو تفكير في شيء سواهما بأية حال من الأحوال.
وهذا لا يتعارض - بلا ريب - مع واجب الدفاع باعتباره حقا مقدسا لكل متهم، وإنما يجب أن يلبس المحامي كل حالة ثوبها الحقيقي، ويصورها في صادق صورها، ويصرف همه وعنايته إلى شرح الظروف الصحية المحيطة بالقضية وملابساتها، فإن هذه قد تكون عوامل تقتضي الرحمة، أو ظروفا توجب التخفيف.
على هذه المبادئ السامية جرى مصطفى النحاس في المحاماة، وهو يومئذ شاب مبتدئ يتطلع إلى النجاح في الحياة، وقد نجح فعلا ذلك النجاح الوثيق المكين القائم على أمتن القواعد، الرفيع كأمتن البنيان، على حين يذهب كثير من الشباب غير ذلك في فهمهم لمطالب النجاح ووسائله، إذ يعتقدون أن الاستقامة على طريق الحق والصدق قلما تجدي على صاحبها في هذا المعترك الصاخب المزدحم العنيف، وأن على قدر ما يكون المرء مصانعا كبير الحيلة أخا مداجاة ملتمسا الكسب بكل وسيلة، يدنو من النجاح وشيكا، ويوفي على الغاية منفرج الخطوات.
نجح مصطفى النحاس في بداية حياته العملية كمحام من طراز بديع، أو محام مثال على النزاهة ورفعة المبادئ؛ حتى راحت القضايا تتدفق عليه، وكان يمرض من كثرة العمل وطول الدأب والانكماش في قضاياه.
وكان نجاحه في المحاماة سبيلا في خطة الطبيعة إلى البروز في ميدان آخر غيرها، وكان هذا البروز مقدورا أن يأتي سريعا، فاقتضى ذلك أن يروح النجاح الأول عظيما بالغا، مترامي الخبر في المجامع، متناقل الأحاديث مع الدهشة والإعجاب في مختلف الأوساط.
لقد أرادت العناية الإلهية أن يكون مصطفى النحاس قاضيا ليحكم بالحق والعدل، بعد أن كان المدافع عنهما تحت المنصة وأمام السياج، ويكفي أن يكون محاميا في الرابعة والعشرين أو قرابتها فيختار لوظائف القضاء، يكفي هذا ليكون دليلا على النبوغ السريع، والتفوق النادر، والنجاح الباده، من المطالع، بل لقد كان انتقال مصطفى من المحاماة إلى سلك القضاء ظاهرة جديدة في الوسط القضائي لم يشاهد لها مثيل ولا شبيه؛ لأنه كان أول محام، أو المحامي الوحيد الذي عين قاضيا ولم يكن قد مضى على إدراج اسمه في المحاماة أكثر من ثلاث سنين!
ولم يحاول مصطفى هذا التعيين، ولم يسع إليه بنفسه، ولا استعان فيه وساطة الوسطاء؛ بل لقد أباه واشتد في إبائه، ورفضه معتزا بمحاماته، قانعا بحريته، معتدا بنجاحه في صناعته، لا يبتغي عنها تحويلا؛ ولكن الحكومة هي التي سعت إليه، وهي التي طلبته للقضاء، مكبرة ما كان في المحاماة منه، وما زالت به تحاول إقناعه بالقبول من هاهنا وهاهنا حتى رضي أخيرا، احتراما لإرادة من لم يستطع لمشيئته عصيانا، وهو والده، إذ خوطب في الأمر ليستعان به عليه.
كان ذلك في يناير سنة 1904، ومدير الإدارة القضائية في وزارة الحقانية يومئذ هو المغفور له عبد الخالق ثروت باشا. وكانت الوزارة بحاجة إلى قاض جديد، فكتب ثروت باشا إلى محام قديم في المنصورة يدعوه إلى لقائه، فلما اجتمعا قال مدير الإدارة القضائية: «إننا نريد أن نعين أحد المحامين في سلك القضاء، وقد سمعت ثناء كثيرا على الأستاذ مصطفى النحاس، ولكني علمت كذلك أنه رجل صلب يكره الوظائف، ويعتز بحريته، وقد دعوتك لتخاطبه في هذا الشأن، فلعلك مستطيع إقناعه بالقبول.» ولكن الزميل القديم أجاب بأنه يخشى ألا ينجح إذا هو سعى وحده في هذا السبيل، وأنه يرى أن يلجأ إلى والده ليحمله على الرضا؛ فاستصوب ثروت باشا الفكرة وحسنت لديه.
وسافر الزميل إلى المنصورة، ثم قصد منها إلى سمنود لمقابلة الشيخ محمد النحاس، وقص عليه نبأ لقائه لثروت باشا والحديث الذي دار بينهما؛ فأرسل الوالد إلى ولده يستقدمه سريعا إليه، فقدم مصطفى إلى سمنود ليرى ما الخبر، وما كاد يلتقي ووالده، حتى ابتدره هذا بقوله: «إنني أقسم يا مصطفى أنك لن ترفض ما سأطلبه إليك.» ثم راح ينبئه بما كان بين ثروت باشا وزميله. وسمع مصطفى القصة وهو في صمت، حتى إذا فرغ والده من الحديث، راح يظهر الرفض والتأبي، ولكن ما زال به والده يلح عليه حتى وعده القبول.
وجاء مصطفى إلى القاهرة وذهب لمقابلة ثروت باشا، فأراد أن يمتحن مبلغ خلقه وقوة نفسه، فقال له: «لقد دعوناك لكي نتحدث في أمر تعيينك إما قاضيا، أو وكيل نيابة.» فلم يكد مصطفى يسمع ذلك حتى استوى ناهضا من مجلسه وهو يقول: «إنني لم أقبل المجيء هنا إلا بإلحاح شديد، وبعد أن قيل لي إن الاتفاق قد تم على دخول سلك القضاء، أما والأمر كما تقول، فإني أرفض بتاتا الوظيفة التي تعرضونها، وإني راض كل الرضا بحالتي في المحاماة، وبالحياة الحرة التي أدعو الله أن يديم علي نعمتها.» فأعجب به ثروت باشا أشد الإعجاب، وقال له: «أقسم لك إنني إنما أردت بهذا امتحان أخلاقك.» ثم مد يده إلى درج مكتبه، فأخرج منه المرسوم القاضي بتعيينه، فدفع به إليه.
فهل رأيت مبلغ الخلق الرفيع الذي صحب مصطفى من النشأة والشباب، وكيف حبب إليه الحرية فغالى بها، وبغض إلى نفسه الوظائف متأبيا على قيودها، حتى ليرفض وظيفة قاض وهو لم يقض في المحاماة غير ثلاثة أعوام، يرفضها متشبثا بنعمة الحرية ساكنا إليها في وقت كانت فيه الوظائف غاية مطمح الشباب، وأزهر أحلام الصبا، ولم تكن الحكومة قد ازدحمت زحامها اليوم بالموظفين؟!
الشيخ الجليل محمد النحاس والد مصطفى النحاس.
هل رأيت الشاب الذي يستعان بأبيه على إبائه، فلا يجد أبوه من حيلة غير القسم عليه؟ والذي يظهر الكراهية للوظيفة حتى ولو كانت وظيفة قاض وهو لا يزال مبتدئا لم يقطع في المحاماة شوطا طويلا، على حين نجد الذين يصيبون من المحاماة مراكز في القضاء لا يظفرون بها إلا بعد مضي آماد طوال عليهم وهم في صفوف المحامين.
هذا هو مصطفى النحاس الذي كان يومئذ معدا لما هو أخطر من ذلك وأكبر شأنا، وأعظم تبعة، وهو أن يكون زعيم أمة في ساحة الجهاد الوطني، وخليفة زعيم عظيم جاء من قبله فترك مجالا للمقارنة رحيله، وغادر سبيلا للموازنة ذهابه من هذا العالم. وكان لا بد من أن تتماثل الصورتان في بعض المعالم، وتتقاربا في بعض النواحي والأجزاء؛ لكيلا تفقد الزعامة في الأمة هيبتها الجليلة، ويتناقص سلطانها الرهيب.
مصطفى النحاس قبل الزعامة.
هذا هو مصطفى النحاس من بداية الشباب، وأول السلم الاجتماعي، ومطلع الحياة العملية: نفسا نقية من الشوائب، مجملة بكرائم الأخلاق، وذهنا خصيبا حديد الذكاء، مرهف الذاكرة، ومنطقا رصينا قويا رائع التدليل، وقلبا رحيما حانيا غزير العاطفة يفيض على من حوله، فيملأ الأفق مودة وألفة ورفقا وتفاهما ووفاء.
وإلى هذا كله في تقسيم الصفات الحسنة، والمزايا الرائعة - نزاهة ناصعة، واستقامة جامعة، وقوة تصميم، ورفعة إباء، وصحة اعتزام، وحكمة اتجاه وأصالة رأي، وصفاء ذهن، وترفع عن «المادية» إلى حد احتقارها إذا هي تعارضت مع الواجب والضمير.
كذلك هو مصطفى النحاس المحامي حين دخل سلك القضاء في سنة 1904، لتتجلى مواهبه النفسية ومزاياه الذهنية في كرسي القاضي لأول وهلة، وتبدو في أحكامه مدللة على أنه مثال القاضي الذي تطمئن العدالة في مجلسه، ويصان قدس الحق في مكانه، ويجد القانون عنده أقوى الحراس الثقات الحافظين.
وما نسي الناس إلى اليوم أنه كان في ماضيه قاضيا، فإن مصطفى النحاس القاضي قد ترك أجمل الصفحات في تاريخ القضاء المصري واستقلاله، وضرب للناس أحسن الأمثلة على نزاهة القاضي واستقامته، وحرية ضميره، وقوة إرادته، حتى ليتنادروا إلى اليوم بأمثلة من أحكامه، ويتناقلوا في المجامع روايات متعددة عن مواقفه، ويضيفوا إلى ما عرف على الصحيح من حوادثه ضروبا متخيلة من الحكايات والأمثال والوقائع ليس إلى تحقيقها من سبيل، فيصدقها المتسامعون بها؛ لأن الصحيح منها لا يقع دون المتخيل، والفعلي فيها ليس أقل في إثبات فضله من المنحول في ذلك والمصنوع، وهي على حد سواء في النتيجة منها، والمغزى المراد بها، وهو شخصية القاضي العدل ، النزيه ، المستقل، الحكيم ...
لقد قضى مصطفى ثلاث سنين يدافع عن الحق والعدل خلف السياج، ووراء حرم القضاء، حتى رفعته قوة دفاعه عنهما من فوق السياج إلى الحرم ذاته، والجلوس فوق منصته ليحكم بالحق والعدل، وهو انتقال خطير وتحول بالغ الشأن بالنسبة لشاب في نحو الخامسة والعشرين.
ولكن مصطفى كان قبل أوانه، ناضجا قبل حينه، قوي الخليقة في جيله، فذ المثال في زمنه، روحه أكبر من العهد الذي يعيش فيه، عهد الاحتلال بكل جرائمه وجناياته ومساويه، ونفسه أرفع من البيئة التي ظهر فيها لكي يرسل عليها من أشعة نفسه المنيرة، ويغمرها بتيار زاخر من شخصيته الصادقة، ومجموعة المزايا والمواهب النفسية العالية التي انتقتها الطبيعة لهذا الشاب المهيأ لأمر عظيم.
كان مصطفى النحاس مثال القاضي العادل إذا ما ذكرت الأحكام، ومثال القاضي الجديد التفكير الصائب المرمى العميق القرار إذا ما ذكرت المبادئ؛ على حين هو الشاب الحدث الذي لا ينتظر من مثله مع صغر سنه وفي مقتبل عمره، أكثر من مراعاة حرفية القانون، والرجوع إلى سوابق الأمثلة من مجموعة الأحكام الماضية.
ولكن مصطفى من بداية عمله في القضاء راح في كثير من أحكامه يضع مبادئ، ويسن قواعد، ويأتي بتفكير رائق جديد يقوم كالسابقة الصالحة المتخذة عند الآخرين.
وقد كان من بين المبادئ التي سنها في أحد أحكامه ما يدل على تأصل الروح الدستوري في نفسه من الشباب، ومبلغ احترام الفكرة النيابية عنده من البكور، قبل أن يوضع الدستور وتبتدئ الحياة النيابية في البلاد بعدة السنين؛ فقد كان أول قاض يصدر حكما يقضي باعتبار مجالس المديريات هيئات ذات شخصية معنوية. وكان هذا الحكم خطيرا في بابه، وجديدا لا سابقة له، فضلا عن أنه ينم على اتجاه نفسه، وتيار روحه، ومنصرف ذهنه، ويضع حجرا أساسيا في بناء القواعد الدستورية التي كان القدر لا يزال يهيئ لها العوامل والأسباب.
وكان مصطفى النحاس القاضي في كثير من أحكامه واضع مبادئ، ومنشئ سابقات خطيرة، ومحدث حيثيات تصلح مراشد ومراجع في دور القضاء، وقد أصدر يوما وهو في دائرة ابتدائية حكما في بعض القضايا عدلته محكمة الاستئناف، ولكنها أمام روعة ذلك الحكم وقوة تخريجه وعمقه لم يسع رئيسها - وهو يومئذ يحيى إبراهيم باشا - إلا أن يبعث إليه بكتاب شكر وتقدير وإعجاب.
ومن الأدلة البارزة على تعمقه في البحث وغوصه في الدراسة أنه أصدر حكما اعتبر فذا فريدا في مسألة الوقف، وهو يقضي بأن الوقف لا يملك بمضي المدة قطعا؛ لأن الوقف نظام شرعي، والشريعة لا تعرف التملك بمضي المدة، ولا يقاس هذا على ما قرره الفقهاء من عدم جواز سماع الدعوى بعد مضي ثلاث وثلاثين سنة.
وكذلك لم يكن مصطفى النحاس قاضيا من عرض القضاة، ولكنه كان قاضيا من طراز نادر، قاضيا غير مألوف، قاضيا في الصدر من أساطين القضاء، في كل ما يجب للقاضي من الصفات والخواص، وما ينبغي أن يتجمل به من رفعة الشخصية، وجلال الخليقة، وسمو الإحساس، وقوة العارضة، وشدة الحرص على الحق والعدل، والنزاهة والاستقلال بالرأي، والاستجابة لإملاء الضمير، واحتقار جميع العوامل الأخرى والاعتبارات، ونصاعة الصفحة، وحسن السيرة، والإخلاد إلى استيعاب القضايا وتوفيتها كل الدراسة الواجبة.
وقد بلغ من حرصه على درس القضايا أن جعل يتناول ملفاتها جميعا، فيكب على بحثها ودراستها وتلخيصها في كل دائرة يجلس فيها، وكان زميلاه يتركان له ذلك اعتمادا عليه وثقة غالية به. وكان المتبع من قبل أن يتقاسم القضاة الثلاثة في الدائرة القضايا بينهم درسا وتلخيصا قبل الجلوس لنظرها.
وليس أروع ولا أجل من قاض يستدرك على نفسه حكمه عقب النطق به، حرصا على الحق والعدل، ومخافة من إيذاء الناس فوق ما ينبغي أن يعاقبوا به، حتى وإن كانت القضية صغيرة، والمحكمة ابتدائية، والمجال أمام المحكوم عليه متسعا للاستئناف والمنجاة من خطأ غير مقصود.
ولو أن قاضيا آخر في موضع مصطفى النحاس، وأدرك هذا الخطأ لحظة الفراغ من إصداره، لما فعل أكثر من ترك الأمر لدور الاستئناف، حيث يتسع المجال إذا شاء للمتهم في التخلص من الحكم الابتدائي الذي جاوز القانون في الحدود والعقوبات.
ولكن مصطفى النحاس القاضي أبى إلا أن يستدرك ما فاته، ويذكر ما نسيه، ويلاحظ بنفسه على ما حكم هو به، إراحة لضميره، واستماعا إلى صوت نزاهته، وانبعاثا مع العدل الذي استمكن روحه من شغاف شعوره ودقة إحساسه.
فقد حدث أن كان من بين القضايا المعروضة عليه وهو قاض ابتدائي «إصابة خطأ»، فأصدر في الجلسة الحكم على المتهم بالحبس مدة عينها في حكمه، ولكنه لم يكد ينطق به، حتى أحس أنه قد جاوز الحد المقرر للعقوبة في القانون، فلم يكن منه إلا أن دار في الحال بعينه إلى كاتب الجلسة فقال: «أثبت أيها الكاتب أن هذا الحكم خطأ، وأنه يجب على النيابة أن تستأنفه!»
وهذا - بلا ريب - تصرف كريم، وعمل عظيم، وموقف نادر، وانبعاث لم يسمع أحد بمثله، وهو يدل على «مروءة» متناهية، فإن المروءة هي في ذاتها مجموعة كل مكارم الخلق، وموجز سائر الفضائل والآداب، ويشف عن أمانة القاضي العادل النزيه الشجاع الصريح الذي لا يخشى أن يقول «أخطأت» إذا هو أخطأ، ولا ينزوي من قول الحق حتى على نفسه. وقد أوجب على النيابة الاستئناف ليستوثق من أن الحكم سوف ينظر من جديد؛ لأن النيابة قد تقتنع بالحكم لما فيه من تزيد أو تجاوز للعقوبة الصغيرة، ومخافة من أن يقنع المحكوم عليه بذلك الحكم فيرضاه ولا يعمد إلى استئنافه. ولكن مصطفى القاضي بهذه الوسيلة الكريمة وضع النيابة أمام الأمر الواقع، وأصلح ما أفسده عن غير عمد بنسيانه، ورفع قضاءه بهذا المسلك النبيل فوق كل مأخذ أو لائمة.
ولم يكن مصطفى النحاس إلى تلك المرحلة من حياته قد عرف سعدا أو التقى به، ولكن القدر الذي كان مهيئا لهما اللقاء عند أشرف الغايات والتعاهد على الجهاد في سبيل أعلى المطالب، والكفاح لتحقيق أسمى الأمثلة - كان في ذلك الحين يمهد للتعارف بين الزعيم وخليفته، والبطل وحامل رسالته، والقائد الوطني الأكبر ورافع رايته، فجعل مصطفى وهو في المحاماة يتتبع الأحكام التي كانت تصدر عن المستشار سعد زغلول بك، ويعنى بقراءتها، ويتوخى الاسترشاد بها، لما كان يحسه من حسن التقدير لها والإعجاب بها، وما كان يجد فيها من المبادئ الجديدة والمثل العالية.
واتفق أن عين مصطفى النحاس قاضيا في ميت غمر في الوقت الذي كان فيه سعد وزيرا للمعارف؛ فازداد إعجاب الأستاذ مصطفى النحاس بسعد، والإكبار له في أعماق نفسه؛ لأنه ما لبث أن رأى ذلك الوزير الجديد من طراز آخر غير طراز الوزراء «الصم البكم» - كما وصفهم الإمام محمد عبده في ذلك الحين.
ولم يمض على سعد في وزارة المعارف وقت طويل حتى شرع في حركته المعروفة يومئذ بنهضة الكتاتيب، فراح يطوف الأقاليم داعيا الشعب إلى الإقبال على التعليم.
وشاءت الأقدار أن يزور سعد خلال طوفته مركز ميت غمر، فما كاد أهلها يعلمون بنبأ مقدمه حتى أعدوا مظاهر الحفاوة به، وتأهبوا لاستقباله. واشترك مصطفى النحاس في إعداد العدة لهذه المناسبة العارضة التي هيأت له لقاء ذلك الرجل الذي كان له في نفسه موضع إعجاب، ومحل تقدير قبل أن يتقلد الوزارة، ثم ارتفع مكانه عنده وسما موضعه من تقديره، إذ رآه وزيرا جديدا في خدمة بلاده.
وقدم سعد فاستقبله أهلها بتكريم وترحيب، وكان الأستاذ مصطفى النحاس في صدر مستقبليه؛ لأنه كان قاضي المدينة، ومن ثم أكبر الشخصيات فيها مكانا، فكانت تلك هي المرة الأولى التي تلاقى فيها الرجلان اللذان كانت العناية الإلهية تعدهما للقاء آخر عند عمل خطير وكفاح شريف في سبيل غاية سامية.
وقد أخذت لسعد ومستقبليه يومئذ صورة شمسية، وقد جلس مصطفى بجانب سعد، ولا يزال لهذه الصورة التاريخية حافظا.
ومرت الأيام، وتقلد سعد وزارة الحقانية، وكان القاضي مصطفى النحاس قد نقل إلى القاهرة، حيث عين عضوا في إحدى دوائر المحكمة الأهلية؛ فحدث في ذات يوم أن اختلف مصطفى مع رئيس الدائرة - وكان المرحوم علي ثاقب بك - بشأن حكم في قضية كان رئيس المحكمة يريد الحكم فيها بالإدانة، ولم يكن هذا رأي مصطفى أحد عضويها، فأبى رئيس الدائرة إلا أن ينطق بالحكم في الجلسة قبل أن يناقش زميله في الخلاف بين الرأيين؛ فلم يكن من مصطفى النحاس إلا أن التفت إلى الكاتب في جرأة الشجاع وشجاعة الجريء النزيه، وأهاب به قائلا: «أثبت أيها الكاتب أن رأيي لم يؤخذ في هذه القضية.»
وترامى نبأ هذا الخلاف إلى سعد وهو وزير للحقانية، فأمر بدعوة الأستاذ النحاس إلى لقائه، فذهب مصطفى فدخل على سعد مكتبه، فسأله عن تفصيل ما جرى بينه وبين رئيس الدائرة، فقال إنه قد اصطلح معه وزال ما كان من خلاف بينهما، ومن ثم لا يرى وجها لإثارة تلك المسألة من جديد، فقال له سعد: «إني كوزير للحقانية من حقي أن أطلب إليك بسط التفاصيل لي.» فلم ير مصطفى غير النزول على رغبته، فمضى يقص عليه ما جرى.
وحين فرغ من ذلك أخذ سعد يناقشه في المسلك الذي اختاره، ويسأله ألم يكن من سبيل أمامه غير ذلك السبيل الذي سلكه في هذا الخلاف صونا لكرامة القضاء، وحرصا على جلال سلطانه وهيبته بين الناس.
فراح مصطفى يشرح الموقف من جميع نواحيه، ويبين الظروف والملابسات التي أحاطت به، حتى سلم سعد أخيرا بأن تلك الظروف لم تكن لتسمح بسلوك غير ذلك المسلك الذي لجأ مصطفى إليه كارها.
وعند ذلك حدق سعد بصره في هذا الشاب الجديد المستوى حياله في شجاعة الرأي، وقوة الاعتداد بالذات، والحرص على الكرامة، والثقة بالنفس في أرهب المواطن، وأنشأ يقول: «الآن، وقد انتهيت من البحث معك كوزير للحقانية، فإن لدي نصيحة أبوية أريد أن أسديها إليك، وهذه النصيحة هي ألا تكون شديدا مع زملائك.» فأجابه مصطفى غير متردد: «إنني لا أستطيع أن ألين فيما أعتقد أنه حق وعدل!» فقال له سعد: «إني لا أنصح لك بأن تلين في الحق، فحاشا لله أن يكون هذا هو مرادي، ولكني إنما أطلب إليك ألا تكون شديدا في معاملة زملائك، ولا تحسبن أنني أبرئ نفسي بهذا القول، فأنا مثلك شديد في معاملة زملائي، ولكم بلغت مني الحدة أحيانا حتى لكدت أهم بضرب زملائي المستشارين، ثم إذ أخلو إلى نفسي بعد ذلك وأفكر فيما بدر مني، لا ألبث أن أحس الندم على حدتي، والأسف على شدتي في معاملة الزملاء ... فلا تكن مثلي.»
وقد ظل سعد يذكر ذلك اللقاء على كرة السنين، حافظا في خاطره استقامة مصطفى النحاس، وشدة تمسكه بالحق، وحرصه على كرامة القاضي الشجاع الأبي العادل النزيه، ولسنا نرى شيئا أجمل من هذا التماثل الخلقي بين هذين الرجلين اللذين اجتمعا في تلك المناسبة العجيبة: وزيرا للقضاء، وقاضيا شجاعا شهما شديد الإباء؛ ليتحدثا فيما بينهما عن الحق والشدة فيه، والغضب له، والحرص عليه، وهما يومئذ لا يدريان أنهما على الأيام مجتمعان للحق ذاته ولكن في أتم معانيه، متلافيان عند التشدد فيه وبالغ الاستمساك به، ولكن تشدد المجاهد المكافح، واستمساك المناضل عن حق أمته كاملة، بقوة الإيمان وثبات اليقين.
وما أعجب حديث سعد وهو يومئذ أكبر من مصطفى سنا! إذ ينصح له بألا يشتد هكذا مع زملائه، وهو في الوقت ذاته معجب به، مكبر لموقفه، راض عن مسلكه، بل ما أروع انتقال سعد من الكلام كوزير، إلى الحديث كصديق ذي نصيحة، ناسيا الفارق الكبير بين الموضعين، غير ملق بالا إلى شيء غير موقف هذا القاضي المبتدئ الذي يسلك نفس مسلكه، ويعامل زملاءه في الحق عين معاملته، ناصحا له بأن «لا يكون مثله»، وهو لا يعلم يومئذ أنه سوف يكون غدا مثله حتما، بل سيروح أقرب شبها منه، وأدنى تماثلا إليه، وأنه سوف يحل محله، ويخلفه على تراثه الوطني العظيم.
لقد تلاقى الرجلان يومئذ بالروح، واجتمعا يومئذ في أشرف معاني الفضيلة، وأجمل مكارم الخلق، وأبلغ مظاهر العظمة التي كانت الطبيعة قد هيأت لها أكبر فرص الظهور عند نضجة الحوادث، واكتمال الظروف، وقيام المناسبة الصالحة.
وقد اعترف سعد وهو وزير للحقانية بأنه لا يملك أن يكون «متسامحا» مع زملائه في الحق، وأنه على هذه الخليقة باق، ولهذه النزعة ملازم؛ ولكنه لا يحب أن تكون في مصطفى متمكنة منه، شديدة الأثر في نفسه، مقترنة بمعاملته وتصرفاته، كأنما هو لا يخشى على نفسه من نتائجها، ويشفق على القاضي المبتدئ منها، ولا تكون هذه الخشية السريعة عليه إلا وليدة الإعجاب، ونتيجة الغيرة والحرص وحسن التقدير.
على أنه مع سياق الحوادث، وعلى مر السنين، بقي الرجلان على تلك الشدة المتناهية في الحق، هي سياج دفاعهما عن بلادهما، وموضع مناعتهما ضد كل فتون أو إغراء، وحيال كل إرهاب أو وعيد.
وقد تجلى حرص مصطفى على الحق وحفاظه للعدل وهو في مركز القضاء، في كثير من الحوادث، وعديد من القضايا، وكانت هناك اعتبارات كثيرة تحيط بتلك المسائل، حتى لو أن قاضيا آخر يومئذ في موضعه لسلم على الأرجح بما أبى هو فيه التسليم.
ولا يزال الناس إلى اليوم كلما تذاكروا عهد مصطفى في القضاء يتناقلون حديث موقفه في قضية المرحوم محمد محب باشا، مثالا على مبلغ حرص القاضي النزيه على استقلاله، والتمسك بوحي ضميره، والاعتداد الرفيع بقوته وسلطانه فوق منصته، في غير إشفاق ولا خوف من أكبر سلطان.
وكان مصطفى النحاس يومئذ قاضيا في محكمة عابدين، وكان من بين القضايا التي عرضت عليه قضية رفعها أحد الأعيان على المرحوم محمد محب باشا مدير الغربية في ذلك الحين، بتهمة الاعتداء عليه، فلم يكد أنصار محب باشا يعرفون أن القضية سوف تعرض على مصطفى النحاس حتى أيقنوا أنه سوف يحكم فيها بروح العدل والإنصاف، وأنه سوف يكون شديدا في الحق لا يعرف فيه أي اعتبار، ولا يبغي عنه أي حول، فأرادوا أن يزحزحوه عن موضعه، فعمدوا إلى الدسيسة عليه، إذ أرجفوا بأنه من أشياع الحزب الوطني، وأنه سوف يغلب منزعه السياسي هذا ويستجيب له، فيحكم على محب باشا بالإدانة.
وعند ذلك سعت بعض الجماعات سعيها، فدعا المغفور له رشدي باشا - وكان وزيرا للحقانية في ذلك الحين - الأستاذ مصطفى النحاس قاضي عابدين إلى لقائه، فلما تلاقيا أفهمه الوزير في سياق حديثه أن المطلوب منه في قضية محب باشا الحكم له، أو التنحي عن نظرها.
فكان جواب مصطفى: «أما من حيث الحكم فسيجيء مطابقا لما يقضي به الحق وترضاه العدالة، فإذا كان محب باشا بريئا برأته، وإذا كان مدانا عاقبته. وأما من ناحية التنحي عن نظر القضية فإن هذا لن يكون، ولكني مع ذلك لست أريد أن أعرضكم لخطر يهددكم؛ ولهذا سأرفع إليكم استقالتي عقب إصداري الحكم في القضية مباشرة!»
فلم يكد رشدي باشا يسمع هذا القول الرائع الجليل من هذا القاضي الأبي الشهم النزيه الجريء في الحق - وكان رشدي رجلا ذا عاطفة سريعة التوقد، وشيكة الاستحماء والانبعاث مع الحماسة والاستجابة للجرأة في الخير - حتى ذهب يقول: «امض في القضية كما يوحي إليك ضميرك، وثق أنك إذا استقلت فإنني مستقيل معك!»
وقد قيل إن رشدي باشا ذهب يومئذ إلى السلطان حسين فحدثه بما علم وبسط له ما جرى؛ فغضب السلطان غضبة شديدة للحق وانثنى قائلا: «أنا أؤيدكما بكل قواي ...»
وبعد أيام صدر الحكم في القضية بإدانة محب باشا وتغريمه، فأثار ذلك اهتماما كبيرا عند الجمهور وراح حديث المجالس، وطافت أنباؤه الأندية والمجامع، وشغلت البلاد كلها بخبره، إذ كانت تلك هي المرة الأولى التي يعامل فيها مدير إقليم بل حاكم مقاطعة، في ظل الاحتلال، هذا النحو من المعاملة، كأنه بعض أفراد الناس، وشخص لا حساب له في موازين الأخطار والأقدار.
وعقب صدور الحكم أنعم السلطان حسين برتبة «البكوية» على القاضي العادل النزيه مصطفى النحاس، دليل تقدير وبرهان رضوان.
وليس من ريب في أن هذا الحادث الذي ظهر في حياة مصطفى النحاس وهو في سلك القضاء، قد ظل معناه قائما في نفسه، متابعا أبدا مسالكه وتصرفاته، باديا على أروعه في سياسته ووطنيته وزعامته، فقد فطره الله رجلا لا يعرف في الحق أشخاصا، ولا يعبأ من أجله أقدارا، ولا يبالي في الحرص عليه أخطارا، ولا يصانع فيه ابتغاء رضا أو مخافة إغضاب.
هكذا برأ الله مصطفى النحاس، وذلك هو طبعه ودأبه منذ بدأ حياته العملية، وقد صدمه هذا بحوادث كثيرة، وجلب عليه عداوات متعددة، وأفقده أصدقاء من أهل النفوذ وأصحاب السلطان؛ فآثر الصدمة في نفسه على قبول الصدمة للحق، وترك الحق ينتصر ويتغلب ولو على حساب راحته الشخصية، وأمانه من المخاوف، وسلامته من المكاره والأخطار .
مصطفى النحاس.
ولقد نشأ مصطفى على احترام الواجب، وتقديمه على كل اعتبار سواه، مهما جل خطره، وعظم شأنه، وكبر حسابه، وإن له في الحرص على الواجب مثل عقيدة «مازيني» واستمساكه، فلا يتردد في تأديته، ولا يؤثر عليه لوازم المجاملة، وتكاليف الآداب، وإملاءات التقاليد.
ولعل أبرز مثل على احترامه للواجب، وتقديمه على المجاملة، وعلو خلقه عن صغار الازدلاف، ومهانة النزوع إلى التقرب أو التماس الحظوة - ما حدث له في أسوان قبل أن ينقل إلى ميت غمر حيث تعارف بسعد كما أسلفنا عليك. فقد كان قاضيا في أسوان، ومكلفا بجانب ذلك نظر قضايا محكمة الدر؛ ففيما هو عائد ذات يوم منها، وآخذ طريقه إلى محكمة أسوان، إذ نبئ أن المستشار القضائي - وهو يومئذ سير أ. مكلريث - قد قدم بطريق النيل لزيارة المحكمة؛ فتلقى مصطفى النبأ بكل هدوء، وتابع سبيله إلى المحكمة دون أن يعطف على الشاطئ لتحية المستشار، وعقد الجلسة كعادته وكانت مدنية، وانكمش في نظر قضاياه.
وما لبث أن حضر المستشار ومعه محمد توفيق رفعت بك - الآن باشا - وكان يومئذ مفتشا بالمراقبة القضائية، وكانت الجلسة منعقدة، فلم يفكر مصطفى في رفعها لاستقبال الزائرين الكبيرين، ولكنه ظل ينظر القضايا في هدأة وسكون كعادته.
وجاء الرجلان فجلسا وراء القاضي بعد استئذانه، وجلس معهما وكيل النيابة وكان يترجم للسير مكلريث ما يدور في الجلسة، حتى فرغ القاضي من نظر أربع قضايا أو خمس، فانسحب المستشار ومن معه إلى غرفة القاضي حيث لبثوا في انتظار فراغه من عمله.
لقد فعل ذلك القاضي مصطفى النحاس في لقاء المستشار القضائي، وهو ما لم يؤلف من القضاة في أمثال هذه المناسبات، إذ كان المتبع أن يرفع القاضي الجلسة في الحال، ويلحق بالمستشار أو المفتش لتأدية التحية له والترحاب به، وسماع أية تعاليم يروقه أن يصدرها، أو ملاحظات يطيب له أن يبديها.
ولكن القاضي مصطفى النحاس - كما رأيت - لم يفعل شيئا من ذلك، بل لم يرفع الجلسة عقب انصراف المستشار، وإنما استمر على عمله حتى فرغ من القضايا المعروضة عليه جميعا. وطال انتظار المستشار فانصرف إلى الباخرة التي أقلته، وكانت ملقية مراسيها بالشاطئ، وأسرع وكيل النيابة إلى مصطفى يقول له معاتبا: «أهكذا تدع الرجل ينتظرك طويلا حتى مل الانتظار فانصرف؟!»
ومن ثم رأى مصطفى أنه - وقد فرغ من تأدية واجبه - يصح أن يذهب لزيارة المستشار والسلام عليه، فانصرف إلى داره حيث تناول الغداء واستراح بعد الطعام، وقبيل المغيب ذهب إلى حيث ينزل المستشار على شاطئ النيل، فلما رآه استبق السلم للقائه، وتلطف غاية التلطف في تحيته واستقباله، وقدمه إلى جليسه، وكان هذا هو الطبيب الخاص لجلالة ملك إنجلترا، وقد جاء إلى مصر لزيارتها والطواف بها ومشاهدة ربوعها وآثارها، فجلس الثلاثة يتحدثون مليا، فأبدى المستشار إعجابه بمصطفى النحاس في عبارات إطراء لم يقتصد فيها، وكلمات مديح كثير.
وفي اليوم التالي دعاه لتناول الشاي معه، وتقابل توفيق رفعت بك مع مصطفى النحاس، فنبأه بأن المستشار كان قد قرر نقله من أسوان إلى الوجه البحري، إذ علم أنه قد قضى في أسوان عاما ونصف عام، ولكنه سمع من السياح ثناء عاما على محكمة أسوان وقاضيها الشاب، وعرف أن المحكمة أصبحت بين الأماكن التي يزورها السياح لمشاهدة سير القضاء المصري، وبلغه أن هيبة هذا القاضي الشاب في نفوس المتقاضين قد تركت أجمل الأثر في نفوس السائحين، فقرر لهذه الاعتبارات بقاءه في محكمة أسوان إلى آخر موسم السياحة؛ لأن في بقائه عنوانا حسنا للقضاء المصري، ومثالا رائعا على عدالته ونزاهته ورفعة مستواه.
وقد بر المستشار بوعده، فلم يكد ينتهي شهر مارس وتخف حركة السائحين حتى نقل مصطفى إلى محكمة ميت غمر - التي أسلفنا حديثها إليك - مكتسبا احترام الإنكليز بجانب احترام مواطنيه، بارزا في عالم القضاء بخليقته القوية، وشخصيته النزيهة، وكرامته العالية.
لقد لزم مصطفى من نشأته الحق والعدل والواجب، واجتمع له في نفسه اتحاد العقل والقلب؛ فكان ذا العزم القوي والخلق، وأخا الإرادة الثابتة التي تبلغ بصاحبها غايته فوق الأحداث ورغم المخاطر والمشاق والصعاب، لا يحول دون عزمه حائل، ولا يقع جاثيا على ركبتيه أمام أكبر الخطر، وإنما يواجهه غير متراجع ولا متردد.
إن احتقار الخوف هو مبدأ القوة الأدبية في النفوس العظيمة والشخصيات القوية، وإذا لم يصل احترام الحق والعدل في النفس إلى هذا الحد، وكان الخوف مالكا لها مستوليا عليها، فلا أمل في بلوغ العظائم، ولا رجاء في الصعود إلى قمة الحياة.
نشأ مصطفى قويا، والقوة هي الشجاعة أو عظمة النفس، وهي فضيلة اجتياز العقبات التي تحول دون تحقيق الخير وتأييد النظام واحترام القانون. وليس الانحراف عن الحق والعدل، والخروج عن النظام والقانون إلا سقوطا وضعفا، وإنما أدلة القوة هي العمل في دائرة القانون، وملازمة الحق، واحترام الواجب، والاستماع أبدا لإملائه.
ومن استسلم لغضبه زل، ومن ملك نفسه كان قويا معتدلا، والاعتدال قوة وشجاعة، بل قوة منظمة مرتبة، على حين يروح التهور ضعفا وعجزا؛ لأنه قوة غير منظمة، لا ضابط لها، ولا حسيب عليها ولا رقيب.
وقد نشأ مصطفى يحس في أعماقه بقوة ضابطه لنفسه، تشتد لاجتياز العقاب والتغلب على الصعاب في غير عنف؛ لأنه قوة تندفع بغير رشد، وتنطلق مجاوزة الحد، وتحتد فيدركها الوهن والضعف، وما النشاط إلا القوة بمعناها الصحيح، ولكن العنف هو الذي يوهم أصحابه أنهم في أنفسهم أقوياء وما هم في الحق كذلك، وإنما هم يخلطون فلا يميزون بين المبادئ لدقتها على أفهامهم، وبعدها من مداركهم، فهم أناس ينقصهم ذوق الحياة ...
إن المبادئ هي التي تملأ القلب قوة فيعمل مستضيئا بنورها، سائرا على هداها. وهذا هو أمر مصطفى النحاس من بدايته: نشأ أخا مبادئ، فاستضاء بمصباحها في طريقه المصعد إلى الذروة، غير ضارب في بيداء مترامية، ولا مستمع لوساوس مخافتة منادية، ولا مستجيب إلى إغراء يتبعه أذى، وضلال يبعده عن الحق والعدل والواجب.
مصطفى النحاس.
كان مصطفى النحاس من البداية قويا، وكانت قوته حيث لا تفريط ولا إفراط، بل حيث يقوم الاعتدال زينة للنفس، وحلية معنوية تأخذ بالأبصار، وحيث العدل والحق هما المسيطران على تلك القوة، وفي ذلك يقول أحد الفلاسفة: «إذا كان في يدي مطرقة مثلا وأمامي طفل نائم وسنان، فلا شك في أنني مستطيع إذا نمت إرادتي أن أهشم رأس ذلك الطفل بضربة واحدة، ولكني لا أفعل ذلك مهما بلغت قوتي؛ لأن أمام عيني خيالا يردني ويحبسني عن إتيان ذلك أو محاولته، ولا قبل لي بدفعه؛ لأن قوته فوق قوتي، وسلطانه أعلى من سلطاني، فهو قادر على أن يجردني مما أشعر به من قوة وبطش. وما هذا السلطان القاهر الذي لا يعلمه الطفل نفسه، إلا حق ذلك المخلوق الذي هو من نوعي في الحياة، والعدل الذي يقر له بالوجود.»
ومن صفات الحق أن يكون عاما؛ أي أن يكون الناس جميعا حياله سواء؛ يستوي في ذلك الغني والفقير، والعالم والجاهل، والرفيع والوضيع، وأن يكون مقدسا كقدس القانون نفسه؛ لأنه ضرورة مفروضة مطلقة، تبقى ولو جحدها جاحد أو اعتدى عليها المعتدون.
على هذه المبادئ نشأ مصطفى النحاس، وبقوة الاستمساك بها نجح في المحاماة، وإن لم يطل مكثا عليها، ولم تتراخ السنون عليه فيها، وكأن شأنه السريع في مضمارها، كشأن سعد في دخولها، وهي يومئذ صناعة صغيرة فكبرت به، خاملة فأنقذها من خمولها، قبيحة السمعة فأضفى عليها من جمال سمعته.
وكان هذا التناسب بين الزعيمين في بداية الحياة العملية نادرا في تاريخ الزعامات المجاهدة، ولكنه وقع في هذه الناحية على ندرته ليؤدي معنى جليلا، وهو الاشتراك في التجربة ذاتها لمعرفة الحقائق المتصلة بالحياة نفسها، حتى يبلو كل منهما عند صاحبه ما يجده هو في ذات صدره وخاطره، فتتكون منهما وحدة فكرية يتفاهمان بها أحسن مما يتفاهم الناس وهم متماثلون متشابهون في الذهنية والاتجاه العقلي ومنحى النظر والتفكير.
وبهذه المبادئ نفسها دخل مصطفى النحاس دائرة القضاء كما دخلها سعد من قبله، لتحقيق المعنى ذاته، وتجربة الاستعدادات والملكات المشتركة بينهما، واستكمال التماثل الذهني بينهما قبل أن يتلاقيا في الثورة؛ فيجد سعد نفسه تهوي إلى هذا الرجل أكثر من سواه، وتنجذب إليه أشد ما يكون الانجذاب بين النظائر والأشباه.
ولو لم تستبق الثورة، لكان من المرجح أن يروح مصطفى وزيرا على دورة السنين ، أو يبلغ في القضاء عليا مناصبه على أقل تقدير؛ ولكنه لبث في القضاء قرابة خمس عشرة سنة، ولم يتول منصبا سياسيا فيها، ولم يلجئه الارتباط بتكاليف المنصب السياسي والقيام في غمرة تيار الحياة الرسمية إلى الاشتراك في أغلاط الحكم يومئذ ومساويه تحت الاحتلال، وإنما لزم موضعه من القضاء مستقلا فيه، فإذا ما اصطدم بسلطان خصوم الاستقلال، احتمى بجلال القضاء وضرورة بقائه بمنجاة عن أي عبث أو تدخل، واعتمد على قوة خلقه وإبائه والتزامه جانب الحق والعدل والواجب في تنفيذ مشيئته، واحترام كلمته، وسلوك نهجه، في حزم دون تهور، وشجاعة دون حمق، واتزان بغير تسرع ولا إحجام، وثقة دائمة بالله اكتسبها من النشأة بالصلاة والعبادة والنزاهة والسير على صراط مستقيم.
لقد كان بعده من الوظائف وهو محام، ثم سلوكه دائرة القضاء يوم أكره على الوظائف إكراها، مزية كبيرة أنبتت في أعماق نفسه روح الاستقلال والتزامه والحرص عليه بكل شجاعته ونزاهته وإقدامه؛ لأنه سوف يوكل على السنين بأكبر قضية من قضاياه؛ قضية استقلال أمة صممت على كسبها، ولم يبق إلا أن يبرز لها جماعة المحامين المدافعين المخلصين المشربي النفوس بروح الحق والعدل والواجب؛ ليسيروا بها رغم الصعاب والمشاق إلى معاركها الفاصلة، وأدوارها الحاسمة، ونجاحها المؤكد، وفوزها الوثيق.
لبث مصطفى النحاس في وظائف القضاء زهاء خمس عشرة سنة - كما أسلفنا عليك - يعطي من قضائه أروع الأمثلة على النزاهة، ومبالغ احترام الحق، والتمسك بالعدل، والتشبث بالواجب، ويعيش عيشة موظف معتدل الراتب، هو كل معتمد عيشه، ومساك حياته، لا يستمتع منه بترف، ولا ينعم منه بغير الرغد المكفول من الاستقامة، والهناء الموفور من الرضوان بالكفاف، ويقوم على تربية أولاد أخته، وكانوا يومئذ أحداثا وأصبية في المدارس، وهو الحاني الحدب عليهم، الرقيب على دراستهم؛ إذا احتاجوا إلى معلم خاص كفله لهم، وإذا أرادوا ما ينفعهم ويجدي على دراستهم لم يتردد في توفير أسبابه لهم، في بلاغة الحنان القوي المشرف الرقيب، لا حنان الضعف والرأفة المؤذية ومفاسد التدليل.
كان مصطفى النحاس يعيش في ذلك الدور من حياته عيشة بسيطة راضية، وكان آخر عهده بالقضاء في طنطا رئيس دائرة، وقد اعتاد أن يذهب إليها كل يوم من القاهرة، ثم يعود منها بعد الفراغ من عمله؛ إذ كان يسكن في منزل متواضع بحي شبرا، تنزل به السيدة الكريمة شقيقته لتقيم مع بنيها إذا هي تركت سمنود إلى حين.
ولئن كان مصطفى قد أخلد في ذلك الدور إلى عمله في القضاء، فلم يكن منقطعا مع ذلك عن الحياة العامة، ولا منصرفا عن متابعة سيرها، وتأمل أحوالها، ومراقبة أطوارها؛ لأن وطنيته كانت تعتمل في نفسه، وحاسته القومية تختلج في صدره، وشعوره بالظلم الواقع على بلاده، الماثل لعينه في كافة نواحي وطنه، كان يستنفر فيه غضبة القاضي بجانب ألمه الوطني، ويثير في نفسه النفور والتأذي والتذمر، فيدور بعينه يلتمس سبيلا إلى التنفيس عن صدره، والترويح من مبالغ ألمه وكظمه، والاشتراك - ولو من بعيد - في الدفاع عن بلاده.
كان هذا الدور في حياة مصطفى النحاس دور الوطني المتألم لبلاده، رأى حركة مصطفى كامل وجماعته فأعجب بها، واطمأن إلى قيامها، وجعل يشجعها رويدا، ويدنو منها على كثب دون أن يسلم إليها نفسه بكليتها، أو يظاهرها بصراحة مظاهرتها، وإن اتصل برجالها وعرف أفرادها، وتبادل معهم الرأي، وتجاوب إحساسه مع إحساسهم، واتحدت نفسه مع نفوسهم، في وحدة شعور، وتماثل عاطفة، وتقاسم ألم لوطنهم المغتصب السليب.
مصطفى النحاس في عهد الثورة
في أواخر هذا الدور جعلت العناية الإلهية تمهد فيه للغد القادم، وتعد معدات اليوم المحتجب وراء أستار الغيب، فأخذ مصطفى النحاس يظهر في الساحة العامة، ولكن على قدر، ويختلط بالمشتغلين بالمسائل السياسية، ولكن في حزم واتزان، وكان لا بد من التعرف للشباب، والبروز في ندواتهم، والظهور في أوساطهم؛ لأنهم في حساب الطبيعة كانوا عدة الثورة وجهازها، ومواكبهم ستروح غدا مهرجان زفافها وأعراسها؛ فاتصل بطلبة المدارس العالية، وكان وكيلا لناديهم، وهو يومئذ مجتمع الشباب المتحمس ومهطع الوطنية الشابة الفتية، وأتون العاطفة العامة المتقدة، ومركز المجتمع الذي تحتشد لديه جميع قوات الغد القريب.
وفي الوقت الذي كان فيه سعد يتأهب للخروج من عزلته، ويتحفز للوثوب من عرينه، على دوي صوت ويلسون في مؤتمر السلام عقب الهدنة، وهو الشيخ الحكيم المجرب - كان مصطفى، ممثل عنصر الشباب، تحت تأثير العامل ذاته، وفي الحماسة نفسها للفكرة في مثل أهبة الشيخ وتحفزه، على بعد ما بينهما، وفي غير تكاشف بما يختلج فيهما، وكأنما مهدت الطبيعة يومئذ لقيادة البلاد في الثورة زعامتين: زعامة الرجولة في سعد، وزعامة الشباب في مصطفى، ثم راحت تقدم زعامة الشيخ؛ لأن معها الحكمة والروية والأناة والتدبير، وأخرت زعامة الشباب حتى تكتسب أولئك جميعا من المستبقة المتقدمة؛ لتكون أنفع وأفضل وأزكى وهي الخالفة الآتية من بعدها في دورها الطبعي عبر السنين، وبينما كان الشيوخ يجتمعون عند سعد ليتشاوروا في أمر بلادهم، كان الشباب يتلاقون في طنطا عند الشاب مصطفى النحاس القاضي، وكل جمع يفكر في أي المسالك يسلك للنهوض لحق بلاده، والبروز للإهابة بوطنه، وإعلان الدنيا عن حقوق مصر الطبيعية في الحرية والاستقلال.
فيا له من اتفاق غريب، ومصادفة عجيبة، كأن قلب سعد النابض الخفاق، قد لقي على بعد المزار قلبا يلتقط نبضاته، ويهتز بصدى خفقاته، أو كأن الطبيعة أعدت العدة اللازمة واحتياطيها، والقوة ورديفها، والزعامة وخلافتها من أول تصميم، ومن بداية التجهيز والتهيئة والاستعداد؛ إذ ما كادت مبادئ ويلسون تذيع في العالم وتشتهر، حتى فكر مصطفى النحاس بك قاضي طنطا مع بعض صحب له وجملة من أصدقائه في القيام بعمل يسمع العالم كله صوت مصر عاليا، وصرختها المستغيثة في جنبات الأرض داوية.
وبعد أن تشاوروا فيما بينهم وعجموا عيدانهم وأجمعوا نيتهم، راحوا يفكرون في نوع العمل وأحسن وسائله وأكفلها بتحقيق النتيجة المنشودة، فما لبثوا أن رأوا أن أي عمل قد يقومون به هم وحدهم، قد لا يجدي نفعا، ولا يؤدي نتيجة؛ لأنهم شباب لا يعرفهم الشعب، ومحدثون غير مسموعي الكلمة في الناس.
واجتمع يومئذ رأيهم على أن ليس لهذا العمل العظيم والمهمة الخطيرة غير رجال كبار، ومراجيح ذوي أخطار، وشخصيات بارزة ملء الأسماع وقبلة الأبصار، فيكون لحركتهم تأثيرها المطلوب في أوروبا ووقعها المرغوب في البلاد.
لقد كان ذلك أول مظاهر الإخلاص للفكرة، وصدق الإحساس للوطن، إذ كان شعورا رفيعا نقيا، متجردا من الأنانية، بعيدا من حب الذات، خليا من دوافع الغرور ومغريات الزهو، لا ينظر إلى العمل وحده، ولا يبالي الفكرة بمفردها، ولكن ينظر كذلك إلى موجبات نجاحها، ويتعرض وسائل فوزها، ويدرس ما لها وما عليها؛ ليستوثق من قيمتها وما يحتمل من خطرها، ويتثبت من الطريق قبل المسير فيه.
كان ذلك وطنية حازمة، بقدر ما هي وطنية صادقة، بل كان تفكيرا سديدا، وبحثا مدققا، ووزنا للأمور صحيحا راجحا، خلص من النزق، وتجنب وساوس الأنانية وهمسات الأثرة، وخدع الاعتداد غير الناضج، والثقة العجلى المتهورة. ولم يكن ذلك كله عجيبا من أولئك الشباب الذين اجتمعوا لبحث الفكرة ودراستها؛ لأنهم كانوا جميعا بين قاض ومحام وموظف كبير، ممن عرفوا في محيطهم بالاتزان والنضوج وحسن الرأي وسلامة التقدير.
ورأى مصطفى النحاس بك يومئذ هو وأصحابه الذين اجتمعوا على تلك الفكرة أن السلطات العسكرية لن تسكت عن أولئك الذين سوف يتولون تنفيذها، ولن تخلي بينهم وبين القيام بها، بل هي حتما مطاردتهم، عاملة على قمعهم وتعقب آثارهم، وقد تعمد إلى اعتقالهم في المحابس، أو تنفيهم من الأرض، وتشردهم كل مشرد، ولا تتركهم حتى تدرك ثأرها منهم، وتنتقم شر انتقام.
مصطفى النحاس.
في هذا كله فكر مصطفى وأصحابه، وعرضوه على أخيلتهم، وتصوروه في أخلادهم، لا من خوف ولا من رهبة، ولا تقديرا لمعاني الانزواء، وتبريرا لنية الإحجام؛ ولكن عن حزم الشجاعة، وفي أروع مظهر من مظاهر الشجاعة الحازمة.
لقد فكروا في ذلك كله لتجتمع نيتهم على أمر خطير؛ هو مهمة الشباب، وبطولة الوطنية الحكيمة، ومظهر الإيثار المتفاني في المجموع، وهو أن ينزلوا يومئذ إلى الحومة، فيحتلوا مكان الغائبين، ويتولوا العمل عنهم، وينهجوا النهج ذاته، وينشروا الرسالة الجديدة في كل مكان.
ولما اتفقت الآراء بينهم على هذه الخطة الحازمة والتصميم الحكيم، بدءوا يفكرون في الشخصية البارزة ذات السمعة الذائعة التي يصح أن يكاشفوا صاحبها بما قد جاش في صدورهم، واختلج في جوانحهم، وسرى في أخلادهم من أفكار وخطط وتصميمات، فاجتمعوا على أن سعد زغلول هو الرجل الأوحد للفكرة، وبطل الساعة المرتقب، وصاحب تلك الشخصية الخليقة بالاعتزام والإقدام.
فكروا يومئذ في سعد، بينما كان سعد نفسه يفكر تفكيرهم، ويجيش في صدره ما كان يجيش في صدورهم، وكأنما تلاقت نفس مصطفى ونفس سعد في موجة من موجات الإلهام الروحي والوحي النفسي، وكأنما تجاوبا واتحدا في مسرى تيار واحد وسيال خفي عظيم الخطر، بالغ القوة، شديد الهزات، وكأنما تعارفا في الوطنية الصادقة قبل أن يتعارفا ويتصلا في حقيقة الحياة.
وشرع الجمع يبحثون في الخطة المثلى للوصول إلى سعد وإقناعه حتى لا يردهم خائبين إذا هو ظنهم شبابا إخوان سذاجة، وحسب أفكارهم مجرد أحلام مما يختلج في الأخلاد الصغيرة، وصور وهمية من خدع الأذهان.
فقال مصطفى إنه يعرف سعدا منذ كان وزيرا للحقانية، ولكنها معرفة رسمية سطحية، لا تمكنه من مفاتحته في أمر خطير كهذا الذي ائتمروا له واجتمعوا عليه، وقال أحدهم - وكان موظفا كبيرا - إنه يعرف عبد العزيز فهمي بك معرفة وثيقة تبيحه الحديث إليه في الموضوع، وإنه يرجو إذا تمكن من إقناعه واكتساب عطفه أن يحمله على مفاتحة سعد باشا بدوره، فوافق الجمع على العمل بهذا الرأي، وعهدوا إلى زميلهم بزيارة عبد العزيز فهمي بك، والبحث معه في هذا الشأن العظيم.
وفي اليوم التالي عاد إليهم الزميل، فنبأهم بأنه قد ذهب للقاء عبد العزيز فهمي بك، وخاطبه في شأن المهمة التي ذهب إليه من أجلها، ولكنه ما كاد يبدأ الحديث حتى قاطعة وأبى الإصغاء إليه قائلا: «إنه من العبث التفكير في هذا الموضوع، ولا فائدة من الاهتمام به؛ لأن مصر ضعيفة لا حول لها ولا قوة حتى تستطيع تحرير نفسها، مهما نادت، ومهما صاحت، ومهما احتجت وبذلت من تضحية ...»
سعد ومصطفى.
فلما سمع مصطفى ذلك غضب وثارت ثائرته، وجاشت حماسته، وقال لصاحبه: إنك يا عزيزي لم تعرف كيف تقنعه وتثير حميته، فدعني أزره معك لعل مجهودي يعزز مجهودك فنفوز بغايتنا، ووافق الجميع على هذا الرأي، واعتزم مصطفى تنفيذه من الغداة.
ولقي مصطفى عبد العزيز فهمي بك، فأعاد عليه الكرة هو وصاحبه الذي ذهب معه؛ فأبدى لهما ما كان قد أبدى من قبل من التردد قائلا إنه لا يظن أن حركة كهذه يمكن أن تؤدي إلى نتيجة عملية، فقال له مصطفى: «نحن نعلم أنكم بإقدامكم على هذه الحركة ستضحون تضحية غالية، وأن الإنكليز حتما عامدون يومئذ إلى القبض عليكم ونفيكم، بل قد يصنعون بكم شرا من هذا وأعظم بلاء، ولكن تضحيتكم هذه ستضرم نار الحماسة في قلوب أبناء الوطن وشبابه، فنخوض نحن الميدان من بعدكم، ستذهبون أنتم ونقوم نحن على آثاركم.»
هذه أول صيحة من صيحات التفدية انبعثت من أعماق مصطفى النحاس قبل مشتعل الثورة، بل لقد كانت هذه هي الثورة في كل جلالها قد اضطرمت في نفس رجل وقلبه، وجاشت في أعماقه وأغوار روحه صيحة الوطني الصادق الذي لا يتردد في بذل كل شيء مهما عز من أجل وطنه، وأي رجل هو يومئذ وليس يملك غير راتبه، ولا هو معتمد إلا على ربه، ولا مستند إلا إلى قواه ومشيئة الله فيه؟! رجل محدود الموارد، مجهول الغد، أعزب، ولكنه في التبعات أكثر من متزوج؛ لأن أبناء أخته عنده في معزة الابن والولد، وفي التشبيه قطع أو أفلاذ من الكبد، وله في بقية من أسرته بر وتعهد، وحنان غير مقطوع أبدا ولا ممنون.
ولكن كل هذا لا شيء، وسناده فيه هو الله قبل كل سند؛ بل ليس في العالم حائل ولا راد مهما عظم واشتد، كان يمكن أن يقعد بهذا الرجل يومئذ عن النهدة للبلد، والوثبة للوطن الراسف في القيد، فقد جاشت بالوطنية روحه، واشتعل بنارها خاطره وصدره، وانبعثت مع دافع العناية الإلهية عزمته وقوته؛ فاعتزم ثم تقدم وهو يعلم أن من ورائه الفاقة والشظف والبأساء والضر والحرمان، وأن من أمامه المعتقل والمحبس والمشرد والمنفى والإعدام ...
وإزاء تلك الصيحة الصادقة المنبعثة من أغوار الصدر، لا عجب إذا تطلق وجه محدثه وأبرقت أساريره، وأنشأ يقول لمصطفى وصاحبه: «الآن لقد اطمأننت إليكما»، فقال مصطفى في دهشة: «وماذا تعني وأي اطمئنان تريد؟!»، فقال محدثهما مخافتا بصوته: «اسمعا! لقد فكرنا نحن فيما فكرتم فيه أنتم، ونفذنا الفكرة»؛ فازداد عجب مصطفى وراح يقول: «نفذتم الفكرة؟! وكيف كان ذلك؟!»، قال محدثهما: «إني أنا وسعد باشا، وعلي شعراوي باشا، ومحمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك نوالي الاجتماعات منذ أيام لتأليف وفد يشخص إلى أوروبا لبسط قضية مصر أمام ساستها، هذا سر بيني وبينكما، فاكتماه في أعماق قلبيكما، والزما أنتما وصحبكما كل هدوء الآن، ولا تكثرا الترداد علينا حتى لا نلفت الأنظار وتحوم الشكوك حولنا، أستودعكما الله ...!»
وانصرف مصطفى مفعم الصدر جذلا، ممتلئ الخاطر فرحا واغتباطا؛ فإن فكرته وجدت مستجابا خفيا من إلهامات النفوس وإيحاءات الأرواح قبل أن تتلاقى عندها الأذهان، ويتلقفها المنطق والشرح والبيان، نعم، لقد فرح مصطفى واغتبط في موقف رهيب تسائل النفس فيه قبل كل شيء: وماذا في الغد المنتظر؟ وترمي الأرواح بإحساسها عبر ظلمات الغيب لتخترق الأستار مخافة المجهول وخشية المحجب. وقد تنزوي إزاء هذا الظلام المترامي من فرق ورعب، ولكن مصطفى يومئذ كان قد فرغ من أمر نفسه فلم يعد يستمع إلى الخوف أو وسواسه، وأقبل على أمر عظيم يقتضي إنكار ذاته، فوجب أن يكون لها أشد المنكرين.
تقدم مصطفى ليضحي فلم يتراجع، ونهض ليكافح ويجاهد فلم يتراوح ولم يتشكك ولم يتردد، وحسبه أنه اعتزم، فما يبالي غدا على أي جانب مصرعه، ولا يحفل في الخطر اكتنافه ولا مدفعه، ويوم تتقدم النفوس الصادقة إلى عمل عظيم كهذا، ورسالة خطيرة من رسالات الحب والواجب والإيمان، ينزل الله عليها سكينة رهيبة، ويفرغ عليها صبرا جليلا، ويمدها بروح من عنده فتبتسم للمخاطر، وتسخر من الأهوال، وتضحك من المكاره، وتتصور لها المخاوف والأهوال على الطريق في صور صغار دقاق، فلا تنزوي حيال صورها، ولا تحس من الخشية ظلا واهنا من أثرها، وإنما تدفع بها من الداخل، حافز كبير وباعث روحي عظيم، فلا تبالي ماذا هي صانعة، ولا تعبأ ماذا في القدر مخبأ، ولا تحفل ماذا يحمل الغد في أطوائه؛ لأن شجاعتها هي عدتها، واعتمادها على الله هو سندها العظيم.
تقدم مصطفى النحاس القاضي الشاب بالفكرة ذاتها التي اختلجت في نفس الوقت في صدر سعد زغلول الشيخ ليكون للفكرة عنصرا الحياة نفسها: الشباب والشيخوخة، والقوة والحكمة، والنشاط والتؤدة، والسرعة والأناة، والصياح والسكون، والجيل القادم والجيل الذاهب؛ وليكون للفكرة كذلك قطباها المتلاقيان، وزعيماها المنتظران، وقائداها المتتابعان ليقود أحدهما؛ لأنه المجرب، ولكي يكون للشباب المعنوي في شيخوخته عجب، ويظل الآخر بجانبه، وموضع سره، ومحل إيثاره وحبه، وفي مجال مرانته وتدريبه، حتى يتولى الأمر عقب ذهابه، جامعا إلى حكمة الشيخ الذي اشترك معه قوة الرجل الذي أعدته الأقدار من بداية الرسالة الوطنية ليكون زعيما احتياطيا ريثما يحل أوانه، ويؤذن زمنه، ويأتي دوره المطلوب.
لقد أراد الله أن تكون الحركة المصرية موفقة من أولها، فاختار لها الترتيب الكفيل بنجاحها، ووضع لها النظام المنسق الضروري لحسن مسيرها، وتعاقب أدوارها، ومختلف مراحلها، وسيق بسعد لقيادتها، حتى يتحقق به معنيان، ويبرز به عاملان خطيران: وهو أن يكون في الحياة محركا عظيما، وأن يروح في الممات أعظم منه حيا؛ إذ يستحيل بموته قوة غير منظورة، وسلطانا روحيا خفيا، وفكرة خالدة غير فانية، وعقيدة هي في تركيبها الخطير مزاج من تعاليم دنيا ودين.
فرح مصطفى النحاس يومئذ أصدق الفرح؛ لأنه متقدم إلى جهاد محفوف دون شك بأكبر الخطر، وقد يكون هذا الإحساس قد اختلج يومئذ في صدر سعد الأكبر، ولكن أمر سعد لم يكن كأمره، فقد كان سعد وزيرا سابقا برز خطره، وارتفع شأنه، وخشي جانبه، وعنده ما يعتمد عليه، وفي ملكيته ما يستند إليه، وله جلال الشيخوخة التي يحسب حسابها، مهما كان العنف عند السلطات العسكرية هو أداتها وأسلوبها، على حين لم يكن مصطفى يومئذ سوى قاض في المحاكم الابتدائية لا يملك غير راتبه، ولم تسبق له في معارك السياسة سابقة، ولم تعرف الجماهير عنه شيئا خارج ساحة المحكمة وما بين المتقاضين، ثم هو إلى ذلك كله شاب لم يتقدم طويلا في مراحل الحياة، وليس للشباب عند بطش الباطشين كبير تقدير ولا عظيم حساب.
مصطفى النحاس.
فرح مصطفى بالفكرة، ولكنه أمسك بفرحه في صدره مخافة عليها من الخطر، قبل خيفته هو على نفسه، فقد كان كل خشيته يومئذ أن ينكشف خبرها فيعاجلها الفشل، وهو يطوي الجوانح على أكبر الأمل في نجاحها، وإن جاء هذا النجاح بثمن نفسه التي بين جنبيه، وعرضه للخطر أشد تعريض.
وقد قدر لمصطفى وأصحابه يومئذ أن يكونوا منقذي الوفد قبيل تأليفه، وهو عمل عظيم قد يجهله إلى اليوم أكثر الناس، وإن كان مصطفى نفسه قد عرض له في بداية زعامته خلال خطابه، إذ قال: «في اليوم العاشر من شهر نوفمبر سنة 1918 علم أحدنا أن دار الحماية قد وصل إليها نبأ اجتماعات سرية تعقد بمنزل سعد باشا، وهي تتتبعها وتتربص بها، فأسرعنا إلى إخبار الجماعة، فأجمعوا أمرهم على الظهور بنياتهم، فطلبوا في اليوم التالي - وهو الحادي عشر من نوفمبر، يوم عقد الهدنة - مقابلة سير ونجت المندوب السامي، فتحددت المقابلة يوم الأربعاء الثالث عشر من نوفمبر.»
ولكن لهذا الحادث قصة تدل على مبلغ الحرص الذي كان يحسه مصطفى وإخوانه على الفكرة، ومقدار الحذر عليها من السوء، وإحاطتهم لها بكل بلاغة اليقظة والسهر والحراسة والكتمان.
فقد ظلوا عقب معرفتهم بنبأ الاجتماعات التي كانت تعقد سرا عند سعد متكتمين للخبر، وهم في فرح بالغ به، متأهبون لأول إشارة من كبارهم الذين يتوافون سرا للتفكير والتدبير، متحفزون مستعدون لأية تضحية تطلبها الوطنية منهم، حتى كان ذات يوم لقي فيه أحد مندوبي المقطم زميلا لمصطفى في الجماعة التي تعاهدت على الجهاد، وتقدمت بأنفسها للجماعة الأخرى التي فكرت مثل تفكيرها واعتزمت عين اعتزامها، وكان ذلك الزميل جالسا في الديوان، فجاءه المندوب كعادته ليلتقط الأخبار منه على ما جرى مندوبو الصحف عليه كل يوم، فتناول الحديث بينهما أمر الهدنة التي عقدت في ذلك اليوم بالذات بين الحلفاء والألمان، وما سوف يكون للحرب العظمى من التأثير في مصير الشرق ومستقبل أمصاره، فقال المخبر إنه قد اتصل به أن دار المندوب السامي البريطاني - وكانت يومئذ تعرف بدار الحماية - قد تلقت معلومات عن اجتماعات سرية تعقد في دار سعد زغلول، وأن السلطة العسكرية تراقب الدار ليل نهار لتنقض انقضاضتها في الوقت المناسب.
وما كاد الموظف الكبير يسمع هذه الأنباء حتى نهض لساعته وقصد إلى مصطفى النحاس فقصها عليه، وكان يكفي علم هذه الأخبار لإثارة المخاوف، وإلقاء الفرق في الروع، واختلاج الوساوس في الصدور لحمل النفوس على الرجوع، ولكن مصطفى كان قد انتهى من اجتياز دور التفكير، ومرحلة تقليب وجوه الرأي، إلى دور الاعتزام الصادق، وتوطين الروح على الإقدام في غير تقاة ولا تردد، وتجشم الطريق وإن لقي عليه أشد المكاره، واجتمعت على قوارعه الحتوف والغوائل، وأشق الصعاب وأكبر المصاب.
هنالك لم يفرغ مصطفى، ولم يسائل نفسه ماذا تريد ليقيها، ولم يطالبها بما تبغي ليكفل لها السلامة والأمان، ولكنه فكر في شيء واحد لم يشرك فيه أمرا من أمور نفسه، ولا اعتبارا من اعتبارات شخصه، وهو ينبغي أن تسلم الفكرة من الخطر، وتصان حتما من الأذى، فلم يلبث هو وأصدقاؤه أن أجمعوا النية على أن ينقلوا الخبر إلى الجماعة الكبيرة في الحال.
وعرف سعد وصحبه النية التي بيتها الإنكليز لهم، فلم يحجموا ولم يترددوا، ولم توسوس المخاوف في صدورهم، فقد كانوا هم كذلك قد فرغوا من مساورة النفس وهمس المخاوف، إلى الشجاعة الصلبة الساكنة التي تنظر إلى الغد باطمئنان، وتعتزم العمل بأقوى اليقين وأعظم الإيمان، فقرروا وجوب الظهور وسرعة التكشف، حتى لا تفجأهم السلطة العسكرية فتسوق بهم إلى المعاقل والسجون قبل أن ينظموا الصفوف، ويمهدوا السبيل، ويبدءوا المسير.
لقد ساق القدر مصطفى يومئذ لإنقاذ الوفد قبل تكوينه، فكان المستبق إلى الفكرة أولا، ثم المستبق إلى نجاتها ثانيا، وهو يومئذ قاض، أو موظف مقيد بوظيفته، ولو أن رجلا آخر في مكانه، وفي مثل ظروفه الخاصة وإقلاله، وضعف سنده المادي واعتماده، ومحدود راتبه وماله - لراح على الأرجح متخوفا، وانثنى عن الفكرة قانعا منها بسلامة الإياب.
ولكن مصطفى أعد لها من التكوين، وهيئ لها بالفطرة والاستعداد، وخلق من أجلها ليكون زعيمها وبطلها؛ فكل حساب المخاوف ومطالب السلامة ومقتضيات الأمن والدعة ليس لمثله، ولا لرجل على غراره، ولكنها للاعتياديين الذين يعيشون لأنفسهم، ويسكنون إلى ذواتهم، ويطلبون مآرب عيشهم في غير خطر ولا رهبة ولا اقتحام عقاب.
وحل الموعد الذي ضربه سير ريجنالد ونجت باشا لسعد وأصحابه في دار الحماية - وهو قبل ظهر الثالث عشر من نوفمبر سنة 1913، وكان يوم أربعاء - وكان ونجت باشا يحسب أنهم أرادوا لقاءه للتهنئة بعيد عقد الهدنة، وكانت قد عقدت منذ يومين، ولكن ما كان أشد دهشته إذ تبين له أنهم جاءوا ليعلنوا في صراحة وشمم حق مصر في استقلالها التام، طالبين إليه السماح لهم بالسفر للسعي في الاعتراف بهذا الحق المقدس العظيم.
لقد كانت هذه الخطوة وثبة جريئة، وثبة الشجاعة التي تستفيض في مسارب الحس، وتستولي على مكامن الشعور، فلا يعود الإنسان معها يبالي خطرا أو يعبأ بمكروه، بل هي الوثبة الأولى للثورة؛ لأنها كانت في ذاتها ثورة، ثورة فرد مع صديقين له أمام أكبر دولة في العالم، خرجت من أكبر حرب بأعظم انتصار عرفه التاريخ؛ فهي منتشية بخمرة الفوز، ثملة بحميا النصر المبين؛ ليتقدم إليها وهي في لذة سكرتها، وحرارة جوانحها من صهباء نجاحها، وتمام عظمتها - رجل أعزل، لا سلاح له في يده إلا سلاح الحق؛ ليقول لها في شجاعة وكبرياء: «الآن لقد حان أن نتفاهم، واليوم وجب أن نصفي الحساب!»
لقد كبر على سير ونجت أمر هذا الرجل العجيب، ونكر منه كيف يجترئ كل هذه الجرأة وهو من القوة سليب، واستعظم منه أن يقف هذا الموقف، ويدلي أمامه بذلك البيان، وأحس حيال كلماته المنبعثة من أعماق إيمانه بشيء من التردد، ومسة من الارتباك؛ فاستمهله حتى يرفع الأمر إلى حكومته.
كان ذلك أول عهد الدنيا بالوفد، فهو يومئذ سعد زغلول وصاحباه، وليس من ورائهم أحد؛ لأن البلاد كانت لا تزال هادئة، والشعب كان لا يزال بأمر تلك الخطوة غير عليم ، ولم يكن يعرف الخبر غير الذين علموا بمستبقه، وألموا بتمهيده.
واتصل بسعد وصحبه عقب تلك المقابلة أن سير ونجت تساءل عن الصفة التي تخول لهم هذا المظهر، فأجيب بأن سعدا هو وكيل الجمعية التشريعية المنتخب، وأن رفيقيه نائبان فيها، وأن لهم بهذه الصفة حق التكلم باسم الوفد، فرأى سعد وإخوانه أن يضيفوا إلى وكالة الأمة النيابية وكالة خاصة منها للمهمة العظمى التي أخذوا على أنفسهم القيام بها، فكونوا وفدا منهم يضم أربعة آخرين من إخوانهم، وأعدوا صيغة لتوقيعها من أفراد الأمة وبنيها بتوكيلهم ومن يضمونهم إليهم في السعي إلى استقلال البلاد، حيثما وجدوا إلى السعي سبيلا.
وما كادت تظهر تلك التوكيلات حتى أقبل الناس عليها جماعات ووحدانا، وانتشرت في طول البلاد وعرضها انتشارا أزعج السلطة العسكرية؛ فأمرت بمنع التواقيع ومصادرتها. وقد قال سعد في مذكراته بسبيل ذلك الحادث التاريخي العظيم الذي يرتبط بمولد أكبر هيئة وطنية في سجل قيادات الحركات الوطنية في العالم الحديث:
أقبل الناس على التواكيل يمضونها، وأخذ وفودهم يردون علينا من كل الجهات ... ثم علمت بأن مستشار الداخلية المستر هينز أخذ يستحضر الأعيان ويهددهم بألا يشتركوا في هذه الحركة، وأن يمتنعوا عن توقيع التوكيلات ... وكتب المستشار للمديرين يأمرهم بأن يمنعوا الناس من التوقيع على التوكيلات، فباشر حكام الأقاليم هذا المنع وصادروا ما وجدوه منها بأيدي الناس، وقد كتبت في هذا الخصوص خطابين متتابعين إلى وزير الداخلية، فرد عليهما بأن المستشار إذا كان أصدر هذه الأوامر بالمنع والمصادرة؛ فإن ذلك لأن البلاد تحت الأحكام العرفية، ولأن هذه التوكيلات اعتبرت مخلة بالنظام العام.
ولست أريد أن أتحدث عن الحركات الخفية التي بدت يومئذ في ناحية أخرى لأجل تكوين وفد آخر يرأسه الأمير عمر طوسن. وكان بعض الأشخاص ممن ينفسون على سعد مكانه، ويغارون من سعد أن يكون ذلك في الأمة موضعه، هم الذين يغذون تلك الحركة الانقسامية، ويدسون على سعد عند الأمير ليوغروا عليه صدره، لست أريد الحديث عن تلك الحركة العارضة، فقد فشلت وهي في بدايتها، وحبط ما صنع فعلتها، وانفرط عقد الوفد الآخر من تلقاء ذاته، وتداعى هيكله القائم من رمال.
ولكني أحب أن أقف هنا لحظة أمام عاملين كبيرين كان لهما أكبر الأثر في تكوين الوفد وشد بنيانه، وإنجاح شأنه وإبراز سلطانه، ولست بواجد أبلغ في وصفهما، ولا أروع سحرا في بيانهما، من كلمات مكرم عبيد سكرتير الوفد نفسه، بسبيل تكوين الوفد وسر عظمته، فهو في ذلك يقول:
أما العامل الأول فهو أن سعدا لم يكن وحده صاحب الرأي في تكوين الوفد وقيادة الحركة، بل كان له شريك فيهما معا، وهذا الشريك هو الذي خلقه الله للرجل عونا وإلهاما وحنانا؛ هي الزوجة التي حظيت من سعد بقربه، وتسمعت همسات قلبه، هي صفية زغلول أم المصريين.
لم تكن صفية زغلول لتجهل الخطر المحدق بزوجها كزعيم لهيئة ثورية تعمل تحت سلطان الأحكام العرفية، ولم يكن سعد ليخفي عنها شيئا من ذلك وهي التي اقتسمت معه الحياة بما فيها من خير ومن شر، فلما بدا له أن يقود حركة الاستقلال، ويؤلف وفدا للمطالبة به، فاتح زوجه في الأمر، وقال لها في صراحة قاسية دامية إنه بذلك إنما يضع رأسه في يمينه، فما كان منها إلا أن قالت: «ضع إذن رأسي في شمالك.»
وإني لأذكر فيما أذكر أننا عندما كنا في السويس في طريقنا إلى المنفى وصلت إلى سعد رسالة قرأها متجهم الوجه دامع العين، فلما لحظت منه ذلك هممت بالقيام حتى لا أتطفل على مكنون شعوره، فاستبقاني قائلا: «هذا خطاب من صفية، وهي تقول إنها عولت على البقاء في مصر حتى لا يخلو محلي في بيت الأمة، وإنها مطمئنة إلى وجود أولادي معي ليعنوا بصحتي.»
قال ذلك في صوت متهدج، فلم أقدر - علم الله - على النطق بكلمة، بل لاحت أمام عيني صورة هذين الزوجين الشيخين اللذين لم يبق لهما إلا حبهما لبعضهما، وقربهما من بعضهما، فهي له وهو لها الوالد والولد، وهي له وهو لها الساعد والسند ...!
جالت هذه الصورة المفزعة في نفسي، وعجبت للعاطفة التي تجعل من الحب والحياة شيئا يسيرا، وعجبت للوطن كيف يطغى حبه على كل حب فيرتضيه الإنسان حلوا أو مريرا، ولكني عجبت وما عجبت، فقد كنت أنظر إلى الوطن بملء نفسي، فأحسبني به كبيرا، ولم أكن إلا صغيرا!
مرت هذه الخواطر بفكري، فبقيت حائرا بين روعة الشعور ورحمته، وظللت صامتا لا أبدي حراكا، فسألني سعد في صوت عميق لن أنساه: «ما لك ساكت يا مكرم؟! ألا تظن أنها أحسنت صنعا؟!» عندئذ لم أطق صمتا، بل أجبته في صوت يرتجف: «نعم أحسنت فعلا.» وقلت في نفسي إنها لعظيمة جديرة بعظيم!
بقي العامل الثاني، وهو أيضا ذو صلة حيوية بتكوين الوفد ومصيره، فقد اقترح على سعد باشا أن يضم ثلاثة من الحزب الوطني إلى الوفد، فأصر سعد، وكأن الأقدار الرحيمة كانت تلهمه هذا الإصرار إلهاما - أصر سعد على أن يكون أحدهم مصطفى بك النحاس. ويقول سعد في مذكراته إنه تفاوض مع كل من مصطفى بك النحاس، وحافظ بك عفيفي من الحزب الوطني، فقبلا الانضمام، وإنه استعمل حق الرياسة في ضمهما إلى الوفد.
ومنذ ذلك الحين بقي مصطفى مع سعد، فظل الزعيم في كنف الزعامة، يأخذ عنها ويتزود منها، حتى شاء الله أن نفقد سعدا، فوجدنا مصطفى.
السيدة الجليلة أم المصريين في سنة 1920.
ودخل الناس يومئذ أفواجا في عقيدة الوطن، ووجدوا في الوفد الناشئ رمزه العالي، وتجسيم فكرته المقدسة. فكان الوفد من تلك النشأة الرهيبة والمولد الجليل، وسط المقاومات المخيفة، والأخطار المحدقة المكتنفة، وطنية الفطرة، وكان سعد ومصطفى وزملاؤهما فيه هم أمثلتها وحراسها وثقاتها، والوفد عقيدة الطبيعة، وأولئك حملة رسالتها؛ لأنه في ناحية الفطرة، الغريزة المدافعة عن ذاتها، وفي ناحية الطبيعة، المكافح عن حقها بكل قوتها. ولقد خاض الوفد من ذلك الحين خطوبا ومكاره، وتغلب في مدار السنين على محن وأهوال، وانطلقت به الفلك في موج كالجبال، فلم يكن العجيب له أن يكافح، ولا الغريب في أمره أن ينتصر؛ لأنه بقوته الروحية الغزيرة فيه منيع، وبذهاب قواعده العميقة في أغور الأرض التي قام من أجل الذود عنها ، باذخ شاهق يرد الطرف وهو حسير.
لم يصطنع الوفد أحد، ولم يأت به من عند نفسه إنسان، ولكنه جاء من وحي الطبيعة، وصرخة الغريزة، ومضب الحياة، فإن كان الوفد في العرف نظاما سياسيا، فهو في عمل النواميس أيضا نظام طبيعي؛ وإذا كان الوفد ظاهرة طبيعية، فهو كذلك ظاهرة حيوية؛ لأنه دليل على الحياة المتنبهة في هذه البلاد، وميزان حرارة إحساسها، ومقياس شعورها، المتصل بالطبيعة، المدافع عن الكيان والحياة والوجود.
والوفد منيع ... لأن نواميس الحياة معه، وقوات الأمة كلها تتبعه، ومظهر إجماع الشعب ضاف عليه، وما خلا الوفد شذوذ عن الطبيعة، وهيئات مصنوعة، والذين يزعمون أن «الحزبية» تجمع «الكل» ومساويها شركة بين الجميع، يكذبون على الواقع، ويتجنون على الحق والاختبار؛ لأن الصفة «الحزبية» وما تقتضيه من عدوان بغير حق، وظلم بلا جريرة، وبغي بلا إثم، وتحيز بلا سبب، لم تلابس الوفد يوما في أمر من أموره، ولم تشتمل على حركة من حركاته، وإنما هي أبدا شأن الأحزاب الموضوعة، وصفة الهيئات المصنوعة، وديدن الجماعات الصغيرة غير الطبيعية، ولم يتألف الوفد على نحو ما تتألف الأحزاب، ولكنه نبت نباتا، ونشأ ولم يدر أحد كيف نشأ، وإنما رآه الناس قد جاء عند الحاجة القصوى إليه، وتمخضت أكبر الحوادث عنه، وبما مع الحياة التي طلبت وجوده، ولم تجتمع على أحد من الأحزاب من الخطوب ما اجتمع عليه، فما ونت الشدائد عن خدمته، كشأن كل شيء طبيعي ينتفع بها، وأحسنت الخطوب إليه ككل نظام فطري تحسن إليه. ولقد نما لأن ملء نفسه شباب، وسناده قوة الحياة، ولم يثبت غيره ولم يأخذ في نماء؛ لأنه يمثل شيخوخة الحياة وجزءها البالي، ونفايتها الطريحة الملقاة. وكل ما يجيء زائدا عن الحاجة أو دون حاجة تدعو إليه، محتوم عليه الفناء، مقدور له التلاشي على الدهر والعفاء.
الوفد فكرة طبيعية قديمة لا حدود لقدمها، كما هي كذلك فكرة شابة دائمة لا يذبل شبابها. في عهد الرومان، وفي عهد الفرس، وفي عهد المماليك، وفي كل زمن كانت مصر أسيرة فيه غير مطلقة ، كان «الوفد» قائما، ولكن باسم غير هذا الاسم، ومظهر مغاير لهذا المظهر، وقوة متفاوتة وهذه القوة؛ لأنه التعبير الطبيعي عن حاجة الجيل ونهضة العصر، ظل متنقلا في قطار الحياة، ومواكب الأجيال؛ لأن الطبيعة تكره الشيخوخة، وتنزع أبدا إلى التجديد، تحرص دائما على الشباب.
وكل فكرة طبيعية كالوفد لا تلبث أن تجد أنصارها، ولما كانت مسايرة للحياة، كان من الطبيعي أن تتقدم الحياة كلها إليها بكل طبقاتها ومجاميعها، وهذا هو مظهر روعتها ومقياس طبيعتها وصدقها وصحتها؛ فالذين يدركون سائر كلياتها وجزئياتها يقومون حراسا عليها، وثقات حفظة معلمين مرشدين إليها، والذين يدركون مغزاها الطبيعي لأنه متغلغل في طبيعتهم، متجاوب مع فطرتهم، يتبعونها ويطيعون معناها، ويلبون نداءها، ويعطونها احترامها وولاءها. فالتابع فيها إذن والمتبوع سواء؛ لأنها شاملتهم جميعا، وهم حولها بمختلف جموعهم وطبقاتهم؛ فعند الحراس عليها إخلاص ووفاء، وعند التابعين لها طاعة وولاء، والفكرة نفسها هي فوق الجميع قادة وجندا، وزعامة وحشدا؛ لأنها سائرة بهم إلى الانتصار.
هذا هو الوفد إذن قادته وجنوده، ومن أكبر فخاره ومحمدته، وأسطع دليل على طبيعيته، أن يجتمع حوله المتعلمون والعامة، الذين يدعوهم الكارهون «رعاعا» تهوينا من شأنهم، وتهانفا بوصفهم، فكذلك هي الفكرات الاجتماعية، بل هذا هو في الواقع مقياس صوابها، وميزان صدقها وصحة النزوع إليها؛ لأن الوطنية ليست مسألة تعليمية، ولكنها مظهر عاطفة إنسانية، ومجال غرائز عليا، وفي مثل هذا يتماثل الناس متعلمين و«رعاعا» وخواص وعوام، وما قامت في الدنيا نهضة وطنية إلا ومن حولها «الرعاع» وغير الرعاع؛ لأن الأمم والرعاع مترادفان، والشعوب والجماهير معنيان متحدان، بل الرعاع هم في الواقع الذين أنجحوا النهضات؛ إذ كانوا أبدا روحها ووجدانها، وعصبها وكيانها، وهيكلها وبنيانها، ولم يتبعوها على وسواس العقل، وإنما تبعوها على إيمان العاطفة، وصوت الإيمان أغلب أبدا على وساوس الأذهان.
إن كل نهضة وطنية نجحت في التاريخ كان فيها عنصر الدهماء أو الرعاع أو العامة، هو الذي يمثل الولاء والطاعة، وكان فيها عنصر القادة أو الخاصة هو الذي يمثل الإخلاص والوفاء، فمن غادر يوما إخلاصه سقط من موضعه؛ لأن العاطفة لم تعد تتبعه، وليس في الوطنية إكراه، كما لا إكراه في الدين، وقد تبين في الوطنية الرشد من الغي، ومن شأن هذا أن يصحح المقاييس ويضبط الموازين.
لقد أثبت الزمن أن الوفد عقيدة تتفانى فيها الأشخاص، وتختفي فيها الفردية، ويبرز فيها الإجماع، فكان ذلك كله إلى اليوم هو سر قوتها، وباعث جلالها وروعتها؛ إذ تبين بالتجربة والخبر أن الوفد هو شخصية العصر، وطابع الجيل، ومظهر الحياة المصرية. وحسبه هذا برهانا على صفته الطبيعية، ودليلا «ضمنيا» على شذوذ الآخرين.
الوفد هو الصخرة التي يقف من فوقها الشعب المصري بكل طبقاته ومعلميه ورعاعه، تتقاذف عليها الأمواج، وتترامى حولها اللجج، وتتكسر تحت سفحها الزوارق والمراكب، وهي قائمة عالية، تهزأ بالأعاصير والرياح العاتية؛ لأن كل إعصار سوف يهدأ، وكل عاتية إلى صحو وسكون.
واجتمعت للوفد يومئذ مئات الألوف من التواقيع، على رغم ما لقيت حركتها من المجاهدة والمغالبة، والمنع والمصادرة؛ فبادر سعد بمطالبة السلطة العسكرية بإعطائه هو وصحبه جوازات السفر إلى الخارج، وكانت السلطة تسوف وتتلكأ، وترجئ كلما ألح عليها سعد وردد طلبه، حتى كان أول ديسمبر فكتب سير ونجت إلى سعد يقول إنه على استعداد لقبول ما يقدم إليه من المقترحات بشأن نظام الحكم في مصر، بشرط ألا تكون غير متفقة مع نظام الحماية، فأجاب عليه سعد في الثالث من ديسمبر بأنه لا يسوغ لي ولا لأحد من أعضاء الوفد أن يطلب طلبات غير مطابقة لمشيئة الأمة التي عبرت عنها في توكيلها لنا.
ومن ذلك الحين بدأ الوفد يصدر الاحتجاجات، ويرفع المذكرات إلى رؤساء الحكومات وقناصل الدول بمطالب البلاد إلى مؤتمر السلام، حتى كان اليوم الثالث عشر من يناير سنة 1919، فوقف سعد في دار الباسل مناديا بحقوق البلاد، قائلا: «ليست فكرة الاستقلال جديدة في مصر، بل هي قديمة يتأجج الشوق في قلوب المصريين إلى تحقيقها كلما بدت بارقة أمل فيه، وتخبو ناره كلما استطاعت القوة أن تخمد أنفاس الحق، ولقد كان الوقت الحاضر أنسب فرصة لتحقيق هذه الفكرة ؛ لأن رابطة السيادة التركية أخذت تتضاءل حتى لم يبق شك في انقطاعها، وإن الاحتلال الفعلي لا يجد فرصة أنسب من هذه الفرصة لتحقيق كلمة لورد سالسبوري الذي قال في الثالث من نوفمبر سنة 1886: «نحن لا نبحث إلا عن الخروج من مصر بشرف!»
انقلب هذا الاحتلال الذي لم يكن له حق في البقاء إلى حماية في بادي رأي الإنكليز، ومن غير اتفاق مع مصر، ولكن الحماية هي أيضا أمر باطل بطلانا أصليا أمام القانون الدولي، ومخالف مخالفة صريحة للمبادئ الجديدة التي خرجت بها الإنسانية من هذه الحرب الهائلة؛ فنحن أمام القانون الإنساني قد أصبحنا أحرارا من كل حكم أجنبي، فلا ينقصنا إلا أن يقر مؤتمر السلام هذا الاستقلال، فتزول العوائق التي تقف بيننا وبين الاستمتاع به فعلا؛ ولهذا الغرض السامي المطابق لما في نفوس المصريين جميعا ألفت أنا وأصحابي الوفد المصري لنسعى في الوصول إلى الاعتراف بهذا الاستقلال، وتشرفنا بتوكيل الأمة إيانا في سبيل هذه الغاية السامية.»
وكان لهذا الخطاب دوي كبير وصدى متجاوب في البلاد، فقد كانت العاطفة مكبوحة، والآمال في الصدور محتجزة محتبسة، فلما ألقى سعد كلماته تلك، انبجست لها العاطفة، واستحمى الشعور، واضطرمت الصدور لهيبا.
وفي السابع من شهر فبراير عاد سعد فوقف وقفة أخرى، وقفة تاريخية رهيبة خالدة في جمعية الاقتصاد والإحصاء والتشريع، وسط جمع جامع من الوطنيين والأجانب، وراح يهاجم الحماية مهاجمة علنية صريحة، مناديا بأنها حماية باطلة لا وجود لها قانونا، بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها، ولا يمكن أن تعيش بعد الحرب دقيقة واحدة!
وعلى هذا الصوت الداوي اهتزت مصر جميعا، وشاعت كلمته الخالدة في الندي والأوساط، وتناقلها الأجانب مقرونة بالتقدير والإعجاب بشجاعة سعد ووطنيته الصادقة الجريئة الباسلة.
وفي خلال ذلك قدمت وزارة رشدي باشا استقالتها أكثر من مرة احتجاجا على منع رئيسها وزميله عدلي باشا من السفر إلى الخارج للمفاوضة فيما عسى أن يكون عليه نظام الحكم في البلاد، وعلى منع وكلاء الأمة من السفر كذلك؛ فأخذت السلطات المختلفة تسوف في قبول الاستقالة، وحين تقبلتها في النهاية لم تستطع أن تؤلف غيرها، فبقيت كراسي الحكم خالية.
وفي السادس من شهر مارس استدعت السلطة العسكرية سعدا وصحبه، وأنذرتهم بألا يضعوا الحماية موضع البحث، أو يعوقوا تأليف الوزارة الجديدة، متوعدة إياهم بأشد العقاب العسكري، فهم سعد بالكلام، فأجيب بأن لا مناقشة.
وعاد الوفد إلى مقره فأرسل احتجاجه على تلك المعاملة الشاذة التي لم تراع فيها المجاملة مع وكلاء الأمة التي يتكلمون باسمها، كما أرسل احتجاجا إلى الحكومة البريطانية على تلك التصرفات الجائرة.
ولم يكد يمضي على ذلك الحادث يومان حتى اعتقلت السلطة العسكرية سعد باشا وثلاثة من صحبه في قصر النيل، ومن ثم نفتهم إلى مالطة، فكان ذلك هو الشرارة الكهربائية التي أوقدت نار الثورة في البلاد، ونهض الناس فجأة غضابا ثائرين، مرتخصي الحياة، بذلة المهج، ملاقي المنايا في بسمة الباسمين.
في تلك الأيام كان مصطفى عضوا في الوفد، وإن كان لا يزال موظفا في سلك القضاء، وقد حضر الثورة من مطالعها، واندفع في قلبها شجاعا لا يعرف الخوف، شهما متجلدا لا يحس أقل تردد، مضحيا بكل شيء وإن كان في عنقه أرواح صغار، ونفوس أبرياء، وعشيرة تعتمد عليه.
في تلك الأيام نسي مصطفى مطالب عيشه، وأعباء حياته، وواجبات البيت ومقتضياته، فلم يعد يذكر غير مصر وحقها المقدس، وواجب الدفاع عنها بأغلى الأرواح وأعز الأنفس، تاركا مصيره ومصير الولدان الذين في عنقه إلى الله وحده، هو نعم المولى ونعم النصير.
وفي وسط الثورة ذهب مصطفى النحاس القاضي يشرف مع بعض أصحابه على حركة الإضراب، ويتصل بلجنة الموظفين، وكان يتناول المنشورات السرية التي تطبع يومئذ في القاهرة، فيحملها إلى طنطا في أثوابه، أو خلسا من مراقبيه والموكلين به؛ ليلقي بها إلى لجنة المحامين، وفيها يومئذ الأستاذان عبد السلام فهمي جمعة، ومحمد نجيب الغرابلي؛ لتوزيعها على الناس في سواد الريف وصميم القرى والمدائن، حتى انقلبت طنطا يومئذ مرجلا غاليا، وأتونا صاهرا، وموقدا متأجج النيران.
وفي صدر المظاهرات الرائعة التي كانت تطوف القاهرة ذهب يشترك فيها مع القضاة الأهليين، مرتديا شارة القضاء، رافع الرأس، منتهيا من أمر نفسه، ملقيا بكل روحه وحياته وعاطفته فدى لوطنه، وغذاء لعقيدته، ووقودا لمبادئه.
لقد ظل قلب مصطفى النحاس خلال أيام الثورة خفاقا نابضا، مستحمي الدم في الشرايين، وقد راح ينظم الحركة، ويتعهد الثورة، ويغذي الحماسة بالوقود. وقد تكشف يومئذ بجهاده، وتبدى بوطنيته وحماسته لبلاده، غير عابئ الوظيفة، ولا حافل الراتب، ولا مكترث بمساك الرمق والقوت.
في تلك الأيام الرهيبة كان مصطفى النحاس يعيش في عالم جديد، ويجول في محيط غير مألوف، ويحيا في فلسفة روحية تسخر من كل خطر، وتزدري كل مكروه، وتحتقر كل خطب أو مخافة؛ فقد رأى الشهداء صرعى والوميض على شفاههم، وحياة مصر هتافا يتصعد مع أرواحهم إلى السماء؛ فلم يعد للحياة عنده شأن، ولا للوجود قيمة أو اعتبار.
لقد خلص مصطفى يومئذ بكل نفسه لمصر وحقها، فلم يعد يكرثه مصيره هو وحقه، وغده هو وقوته ورزقه، وإنما كل تفكيره في الثورة ولها، وحرصه على الثورة ونجاحها، وإن تخطفه الموت مع من يتخطفهم من الشهداء، أو مع من فدوا بلادهم بأرواحهم أكرم الفداء.
ولم يختف مصطفى وبقية أعضاء الوفد الذين لم يحملوا إلى مالطة مع سعد والآخرين ليعملوا سرارا، ويلوذوا بالمكامن ليلا، ولكنهم راحوا في أتم الشجاعة يعملون في وضح النهار، ويرسلون الاحتجاجات إلى سمع العالم كله على نفي إخوانهم، والغضب من تلك المعاملة الباغية التي عوملوا بها؛ فكانت تلك أيام نشاط متقد مستعر تلتهب فيها الأرواح، كما تضطرم فيها الأذهان، وقد نسي الناس فيها الخوف، ومتى تلاشى الخوف من النفوس، فكل شيء هين، والمنايا جميعا رخاص، والحياة مبذولة بسخاء.
وفي السادس عشر من شهر مارس سنة 1919 استدعت القيادة العامة بقية أعضاء الوفد، وكان بينهم مصطفى، فحملتهم تبعة الثورة القائمة، فكان جوابهم أن سبب الهياج المحتدم أمران: أولهما منع الوفد من السفر، وثانيهما القبض على سعد وزملائه.
ولكن الإنكليز لم يعالجوا الحال بعلاجها حتى قدم اللورد اللنبي وهياج الخواطر يضطرم اضطراما، فأجمعت الآراء على أنه ليس ثم سبيل إلى تسكين ثائرة النفوس غير الإفراج عن المعتقلين، وإباحة السفر إلى الخارج للمصريين.
وفي ليلة السابع من أبريل أذعنت القوة للحق، فأعلنت الإفراج عن سعد وصحبه، وأباحت السفر إلى الخارج، فأدركت الأمة بواكير انتصارها، ولبثت يومين كاملين في أفراح قائمة، وعيد وطني جليل المعالم، خالد مشهود.
وفي التاسع منه ألفت الوزارة الرشدية الثانية، وسافر الوفد بعد يومين شاخصا إلى مؤتمر السلام.
وكان مصطفى بين الذين سافروا. لم يتردد في الذهاب، ولم ينثن عن الرحيل، وهو لا يزال موظفا، مرتبطا بالوظيفة، لا يدري في خاصة نفسه ما مصيره، ولا يحفل من ناحية عيشه ماذا غده، وهو ليس بالغني فيهدأ لغناه، ولا بالطليق من التبعات، فيسكن خاطره لخلوه منها؛ ولكنه مع ذلك كله سافر تاركا أولاد أخته في حراسة الله، مغتربا عن أب شيخ في سمنود يخشى عليه، ويحنو إليه، ويريد أن يبقى بجانبه، وعن والدة حنون رءوم تدعو الله له في الصلاة في السحر وهدأة الليل وعند الدلوك.
وما كان أشد فرحه وجذل نفسه إذ تلاقى وسعدا في مالطة والسفر ميممين باريس! فقد كان ذلك لقاء بالغ الأثر في النفوس، مترامي الفرحة في حنايا الصدور؛ ولكن ذلك الفرح مع ذلك كان رهيبا جليلا، اختلط به الشعور بجسامة التبعة، ورهب المسئولية التي تتصل بذلك الأمر العظيم الذي ذهبوا لمواجهته، وأقبلوا عليه بسمع الدنيا وبصرها، وتوافوا إليه كأنهم ذاهبون إلى عالم مجهول، ومرتاد بعيد لم يكشفه من قبلهم الكاشفون.
سافر مصطفى إلى باريس طالبا إلى وزارة الحقانية أن تمنحه إجازة، وكانت الحكومة قد تنبهت إلى اشتغاله بالسياسة، وأمرته أن يعود إلى عمله؛ ولكنه عاد يطلب مد إجازته، فرفضت سؤله وأحالته على المعاش بقرار من مجلس الوزراء في شهر يوليو سنة 1919 دون أن تستصدر مرسوما ملكيا بهذه الإحالة، كما يقضي القانون في عزل القضاة؛ لأنهم يعينون بمراسيم ويفصلون بمثلها؛ فكان فصله من القضاء من الوجهة القانونية البحتة فصلا باطلا، وهذه الحجة القانونية هي التي استند إليها فيما بعد بصدد قضية معاشه.
أحيل مصطفى النحاس بك إلى المعاش على تلك الصورة، فتدهور راتبه إلى نحو خمسة عشر جنيها في الشهر، هي كل ما بقي له في هذه الحياة، وعليه تبعات كبار لعشيرته، وفرائض جسام لأهله وذوي قرابته، ولكن بقي له مع ذلك عون الله ورحمته وأزره وسنده، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ومن يعتزم مثل عزمه فهو المطمئن، ما دام له مثل شجاعته وصبره وجلده وقلبه، فلا عجب إذا تلقى مصطفى هذه الصدمة، واثقا بالله، وبالقلب الذي بين جنبيه، والاعتداد بالذات الذي يملأ جوانحه قوة، وينعم صدره بريق رجاء.
فصل مصطفى من خدمة الحكومة ليدخل في خدمة الأمة، وهو انتقال خطير وتحول رائع، وفي خدمة الأمة تلقاه سعد فرحا به؛ لأنه وثق به من البادرة، وسكن إليه من البداية، ورأى فيه النصير المعوان، والظهير الصادق، والمساعد المتفاني بكليته، فعينه سكرتيرا للوفد بجانب عضويته، وجعله موضع سره، ومحل ثقته، ومورد مشورته، وقربه منه تقريبا.
وكان ذلك عند مصطفى فوق كل وظيفة، وعزاء عن كل حرمان، وأمانا من كل خيفة؛ فأقبل على خدمة بلاده، يبذل لها بقية ما عنده؛ وهي نفسه، ويدفع إليها بآخر ما لديه؛ وهو حياته ودمه وأعصابه، وكل ما في أعماقه من قوة وجلد وإيمان.
وقد صحت مخاوف الوفد وظنونه، إذ حين وصلوا إلى باريس، وجدوا أبواب المؤتمر موصدة في وجوههم، ورأوا الصحف نفسها لا تصيخ إلى شكاتهم، وأبصروا ذلك الرجل «الرسول السياسي» الذي كانوا يعتمدون على نصرته لحقهم، وهو ويلسون، قد بادر إلى الاعتراف بالحماية البريطانية المفروضة ظلما وعدوانا على بلادهم، وإذا هم وسط أفق خانق محتبس، لا تشع في جوانبه ومضة رجاء.
ولكنهم لم ييأسوا، وإنما راحوا يقدمون مطالبهم إلى مؤتمر السلام ورؤساء الحكومات، ثم لا يجدون مع ذلك سميعا؛ إذ تبين أن تلك الأناشيد التي كان الحلفاء يتغنون بها، وهي أناشيد الدفاع عن الحق والعدل والإنسانية، والحضارة والإخاء، لم تكن سوى خدع سياسية، وأكاذيب ضخمة من زخارف يلهون بها المظلومين، ويخدعون بزيفها الأبصار والأخلاد، ريثما ينتهون فيما بينهم من توزيع الغنائم والأسلاب، في شراهية الجياع، وشهوة الغالبين.
وفي مصر كانت الثورة قائمة في النفوس، وإن سكنت مظاهرها العنيفة، وهدأت حركتها الفائرة، بعد أن بلغت آخر مداها، وانتهت إلى أقصى عنفها وشدتها؛ فإن الثورة لا تنقضي مرة واحدة، ولا تخبو جملة؛ ولكنها تعيش دائما في طور جديد، وتحيا ولكن حياة عقلية عميقة متزنة بعد الهزيمة المستطيلة، راجحة بعد الترنح الشديد، فلم يسع الإنكليز أمام هذه الثورة الساكنة الرهيبة في سكونها، البارزة الجلال في إجماع الأمة على مطالبها والثقة بوكلائها، إلا محاولة معالجتها في رفق، وتناولها ببعض الرياضة والمصانعة.
ومن ثم جاءت لجنة ملنر إلى مصر، متجاهلة وكلاء الأمة في باريس، فلم تكد تنزل بالبلاد حتى واجهتها مقاطعة تامة وإعراض شديد، وارتفع حيالها صوت واحد، وهو أن الوفد وكيل الأمة المختار للمطالبة بالاستقلال، فهو وحده الذي يرجع إليه.
وقد حاولت اللجنة أن تجد سبيلا إلى مشورة أو تبادل رأي، فأخفقت كل الإخفاق، واضطرت إلى المآب فاشلة.
ولكن بعض الوسطاء استطاعوا يومئذ إقامة الصلة بين الوفد وبينها، فدعته إلى المفاوضة في لندن، فسافر سعد إليها في السابع من شهر يونيو سنة 1920 في رفقة من أعضاء الوفد ورجاله.
وقدم الوفد إلى لجنة ملنر في السابع عشر من يوليو مشروعا لمعاهدة كان يومئذ يعتبر ممثلا لأقصى مطالب مصر، وإن لم يكن يحقق الاستقلال تماما. ولكن الوفد أراد يومئذ به إقناع الإنكليز بالعدول عن الحماية التي اعترفت الدول بها، وأصرت إنجلترا على فرضها، وأبت إلا بقاءها بعد خرجتها من الحرب ظافرة.
وجرت المفاوضات بين الوفد واللجنة، فقدمت هذه مشروعا من عندها في أغسطس سنة 1920، فاقترح الوفد وقف المفاوضات ريثما يستشير الأمة فيه.
وكان مصطفى النحاس قد رجع إلى مصر قبل إخوانه الذين ندبهم سعد لعرض المشروع الأخير على الأمة، وهم محمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك، و«المرحوم» عبد اللطيف المكباتي بك، وعلي ماهر بك، فتولى مصطفى عرض المشروع ملتزما مجرد عرضه، في غير تحبيب إليه أو إغراء بقبوله، وكان سعد قد عهد إليه بذلك ، فحرص على أن يكون العارض فقط، دون إملاء أو ترغيب فيه من جانبه.
كان مصطفى أمينا في رسالته، حفيظا لحدود مهمته، حريصا على تأدية ما عهد إليه، على حين راح الآخرون يعلنون الناس أن المشروع لا يخلو من مزايا صالحة، وفوائد ظاهرة واضحة، فكان رأيهم نازعا إلى ترويجه.
ولم يشترك مصطفى النحاس في الترويج، ولكنه - كما قلنا - كان «عارضا» فقط؛ فكان موقفه غير موقفهم، ونظره إلى ما أبدت الأمة على المشروع غير نظرهم؛ إذ بينما اعتبر هو ذلك «تحفظات»، ذهبوا هم يصورونها في صور «رغبات»، وشتان بين المأخذين، وما أبعد المسافة بين الرأيين.
وقد ظل هو على رأيه، كما بقوا هم على تفسيرهم، حتى ركبوا جميعا البحر عائدين إلى سعد بما حملوا من نتائج سفارتهم، وفي عرض البحر أنشأ مصطفى يتحدث إليهم في أمر المهمة التي اضطلعوا بها، وراح يقنعهم بوجوب تدوين محضر بما جرى بسبيل رسالتهم، وما زال بهم حتى أقنعهم بالفكرة، فرأوا أن ما سموه «رغبات» لم يكن في الواقع سوى «تحفظات»؛ أي «شروط» لا سبيل إلى قبول المشروع إلا بالاستجابة إليها، وإنزالها منازل القبول والرضوان.
وقد كان عمل مصطفى في هذا الشأن محل تقدير سعد وموضع إعجابه، وإن كان ذلك التشعب في الرأي بداية الخلاف، بعد أن عمدت السياسة الإنكليزية إلى المطاولة، ولم تشأ مواجهة الحقائق الماثلة التي اعترف بها اللورد ملنر في تقريره، مصرحا بأن الحركة المصرية هي حركة وطنية جدية، وأن الوفد المصري هو الحائز وحده لثقة المصريين.
وقد حرص سعد على حدود توكيله، فلم يشأ أن ينزع منازع فريق من أصحابه، فاشتد الخلاف بينهم وبينه، ولم يبق بجانبه يومئذ غير مصطفى وويصا وسينوت.
ومن ثم ابتدأ الانشقاق، وكان ذلك ظاهرة نفسية مفاجئة، ولئن كانت لا تخلو حركة الانقسام يومئذ من عنصر الحسد والنفس على سعد مكانه، وانفراده بالزعامة والسلطان الروحي على الشعب؛ فلم تكن في صميمها غير ردة نفسية أصابت الذين اختلفوا مع سعد ونفضوا أيديهم من يده، فقد أحسوا عند أول صدمة أن الطريق وعر، والشقة متطاولة، والغاية بعيدة، والمطلب عسير.
لم يكونوا يومئذ «خوارج» ولا «خونة» ولا «منشقين»، كما كانت الأمة تسميهم من غضبها، وكما كانت تصفهم من ألمها وأثر موقفهم السيئ من نفسها؛ ولكنهم كانوا يحسبون الغاية يسيرة المبلغ، قريبة الموضع، فأقدموا مع سعد ليبلغوها، وأقبلوا خفافا سراعا لإدراكها، وإذا هم يجدون الطريق طويلا، والمصاعب كثيرة، والأخطار مخوفة، والمكاره متعددة، فاستضعفوا، وخبت الجذوة التي كانت مشتعلة في نفوسهم، وتناجوا بأن الخير في الرجوع، والسلامة في الإياب، والأمان في المعاد نجيا.
لقد كانوا يتوقعون أن ينجح المشروع، فتنتهي قضية مصر وشيكا، وتحمد العاقبة، ويئوبوا غانمين؛ فإذا الحوادث تأتي بغير ما كانوا يظنون، وإذا البوادر تدل على أن دون الغاية أهوالا جساما، ومخاوف كثيرة، وجهادا محفوفا بالمكاره والمتاعب والخطوب، فراح اليأس يدب في قلوبهم، ولكنهم جعلوا يخفونه في الترائي بمظهر الحكمة، وصورة التروي، وبعد النظر والكياسة في المأخذ، والترفق في التناول؛ وسموا ذلك كله «سياسة»؛ ليشتهروا بأنهم البرعة فيها، الحاذقون لها، إخوان عبقرية في مجالها وأفانين.
وكان انفصالهم هذا، بتلك المظاهر والصفات، فائدة «غير مباشرة» لخصوم البلاد؛ فسمعنا لأول مرة الإنكليز يتحدثون عن الجهاد قاسمين أهله إلى «متطرفين» و«معتدلين»، وهم بذلك يعنون أن سعدا والذين ثبتوا بجانبه - مصطفى وزملاءه - هم المهيجون المتشددون الغلاة في مطالب بلادهم، وأن سواهم ممن تراجعوا تهربا من عناء الجهاد وأخطاره، وطول الطريق ووعثائه وصعوبة المسير فيه، هم أهل الاتزان والاعتدال الذين يصح أن يكون الكلام معهم؛ لأنهم «عقل» القضية المصرية ومنطقها، وليس الآخرون سوى «عاطفتها» الهائجة، وحاستها المائجة، وغريزتها الموحشة العنيفة، الراكبة رأسها، المتهورة لا تعرف الاتزان.
على أن سعدا لم يبال هذه النكسة التي أصابت فريقا ممن وضعوا من قبل أيديهم في يده، وإنما مضى في طريقه، ومن حوله مصطفى وأصحابه، وكان مصطفى يعذر لو أنه في تلك الوقفة الرهيبة قد تراجع، إذ كان دون الجماعة كلها في الرزق موارد، وفي العيش استغناء.
كان مصطفى أخا فاقة، مفصولا من وظيفته، قليل المعاش، كثير النفوس المعلقات في رقبته، كبير التبعة إزاء أهله وعشيرته. وكانت تلك كلها شفائع له لو أنه التمس مآبا، وخشي ذهابا، وخاف عقابا؛ ولكن مصطفى لم يكن بالذي تقدم ليرجع، وأقدم ليحجم، وسار ليلوي عنقه مرتدا.
لقد جاء مصطفى لمعنى كبير، وغاية بعيدة، جاء ليشارك سعدا، ثم ليخلفه يوم يذهب، ويتقدم هو يوم يغيب سعد ويحتجب؛ ليسير بالقضية في طريقها غير خائف ولا متهيب، فهو منذ اندفع كان مؤمنا بأنه سوف يتعذب. فلم يباغت بالصدمة الأولى حتى يتراجع؛ لأنها كانت في حسابه، واحتمالها في تقديره، وتوطين النفس على أمثالها عدته قبل الانبعاث مع سعد وإقدامه ومسيره.
كان مصطفى قد انتهى من التفكير يوم اجتمع مع بعض أصحابه على هذا الأمر العظيم والشأن الجلل، فلم يبق إذن أمامه شيء يحتاج إلى تجديد تفكير أو معاودة بحث أو مراجعة خاطر، فقد أقدم وهو عالم بما قد يكون من إقدامه، وهو ضحى وما به استرداد لتضحيته، أو نكول عن تفديته؛ وعزاؤه يومئذ أن ما قد يصيب سعدا يصيبه، وليس هو بأحسن من سعد، حتى يستريح وهو الشاب، لكي يضنى ويشقى سعد وهو الشيخ، ويوم يجد المرء على الخطوب رفيقا، ويظفر في مجاز الشدائد بشريك أو صديق، تخفف الرفقة من الألم، وتكسر الشركة من حدة العذاب، ويسهل الطريق الوعر على المسافرين.
وفي ذلك العام، عام 1920 بالذات، فقد مصطفى والده، إذ قضى الشيخ في سمنود، ورحل عن هذه الحياة الأب البار الحنون، والمرشد الهادي، والناصح الأمين، مات الرجل الذي كان أعز صلته بهذه الدنيا، وأقوى آصرته بهذه الحياة، الرجل الذي كان له أكبر الفضل عليه في تكوين نفسه، وتربية حسه، ورياضة وجدانه، وغرس إيمانه، وبث تقواه، مات النصير الروحي الكريم عليه، الباذل النفس له، الحار الدعوات في خلواته إلى الله من أجله؛ فكان ذلك مصابا عظيما لا يجدي فيه الجلد، ولا ينفع الصبر، ولا يواسي الإيمان. وكان حزن مصطفى على أبيه بالغا متناهيا لا حدود له ولا مزيد عليه؛ حتى لقد قال لبعض صحبه في الجواب على تعزيته إنه مع إيمانه العظيم بالله لا يجد مخففا من حزنه، ولا مسكنا من حرق أساه، لا في «المنقول» ولا في «المعقول».
وكان فقدان أبيه أيضا يصلح شفيعا للرجوع مع الراجعين، والانزواء مع المنزوين؛ لأنه يزيد في مسئولياته «العائلية»، وتبعات البر بذوي رحمه، وبخاصة والدته العزيزة التي فقدت زوجها الشيخ الحنان الكريم.
ولكنه مع قيام هذه المسئوليات الكبار ثبت بجانب سعد ولزم مكانه، ولم يفقد في الجهاد ذرة من إيمانه، ولم يزعزع طول الشقة ووعورة الطريق من جلده وقوة جنانه، وظل قائما يعمل بحزم وعزم وعمق يقين.
وفي وقت فراغه من عمله في الوفد راح يعاود المحاماة، فاشتغل بها فترة من الزمن، ولكن بالقدر الذي لا يحول دون مواصلة جهاده، وإلى الحد الذي لا يعوقه عن عمله الوطني، ولو أنه أعطى المحاماة يومئذ كل جهده، وأكب عليها بكل نشاطه وجلده، وانكمش فيها غير فارغ لغيرها، لكان كسبه منها وفيرا، وإثراؤه منها نتيجة لازمة، ولكنه سكن إلى القناعة إيثارا للواجب الوطني، فلم يدع الصناعة تستنفد كل قواه، وإنما جعل الفريضة الوطنية هي الجائرة على صناعته، الآخذة من مرتزقه، القائمة في المحل الأول من منازعه ومجانحه ومدار حياته؛ فظل مكتبه في شارع المدابغ ينتظره كلما أسلمته شدائد الجهاد وخطوبه إلى معاودة المحاماة، فلم ينتقل منه إلا من عمارة إلى عمارة، وبين رقم 21 ورقم 30، وفي ذلك المكتب ذكريات وعهود لا تمحوها الأيام ولا يعدو عليها النسيان.
وعلى أثر الصدمة الأولى عاد سعد إلى مصر، ولم يكن قد رآها منذ احتمل إلى مالطة معتقلا، فاستقبلته البلاد استقبالا باهرا، هزها هزا، وأوقد حماستها كل متقد «وأظهرها أمة عظيمة في وطنيتها، حكيمة في أفرادها، نبيلة في مقاصدها»، رائعة الحمية، مكينة البنيان.
ولكن القوة لم تلبث أن عادت تتجاهل مشيئة الأمة، وتقاوم إرادتها، وترجع إلى سابق سيرتها، وأساليبها الغاشمة وأدواتها، وتلا سفر الوفد الرسمي إلى لندن برياسة عدلي باشا للمفاوضات، قدوم جمع من أعضاء البرلمان البريطاني لمشاهدة الأحوال السياسية في البلاد عيانا، والوقوف على حقائقها عن كثب؛ فإذا هم حيال مظهر رائع لإرادة الشعب ووطنيته المتدفقة، وحماسته المشتعلة المشرقة، ولهفته الصادقة على الحرية والاستقلال؛ فرجع القوم إلى بلادهم متأثرين بما شاهدوه، وقدموا تقريرا إلى الحكومة البريطانية، ونشروا خلاصته على الرأي العام؛ فكان له عامل كبير في تقديره لحقيقة الحركة المصرية وميول المصريين.
وحبطت المفاوضات الرسمية مع عدلي باشا، فقدم استقالته في الثامن من شهر ديسمبر سنة 1921، وبدأت السياسة البريطانية تجرب مرة أخرى أساليب القمع والعدوان، وخطة الإرهاق والمقاومة مع الذين جعلت تدعوهم «بالمتطرفين». وأصدرت في الثامن عشر من ديسمبر أمرا بمنع اجتماع عام دعا سعد إلى عقده جميع الهيئات على اختلاف طبقاتها في الثالث والعشرين منه، بنادي سيروس في القاهرة؛ ولكن الأمة لم يزدها التحكم والتعنت والمقاومة إلا ثباتا ومصابرة، والتفافا حول خدامها الأمناء، وزعمائها الأوفياء.
وأثار ذلك غضب السلطة العسكرية، فبعثت بإنذار إلى سعد في الثامن والعشرين من ديسمبر تقول فيه إنه يحظر على سعد زغلول باشا بموجب الحكم العرفي أن يخطب في الناس، أو أن يشهد اجتماعا عموميا، أو أن يستقبل الوفود، أو أن يكتب إلى الصحف، أو يقوم بعمل من الأعمال السياسية، وعليه أن يغادر القاهرة بلا إبطاء ويقيم في منزله في الريف تحت مراقبة المديرية.
لقد كان ذلك كتابا من الكتب النادرة في العالم، كتابا قلما يوجد مثله في التاريخ الإنساني كله، كتابا تستحيي الإنسانية أن يحتفظ به في قيد حياتها، ومستودع ماضيها، وسجلات حضارتها؛ لأنه يمنع رجلا من الاتصال مطلقا بالعالم، ويصادر فيه كل الحريات التي أباحتها الطبيعة له، ولا يسمح له بغير أن يأكل ويشرب، وكتابا ينزل الإنسانية التي شرفتها الطبيعة منزل «الحيوانية» الدنيا التي لا تعقل ولا تفكر، كتابا مهينا للقوة المادية التي بعثت به، قبل أن يكون مؤلما للرجل الذي تلقاه منها؛ لأنه معيب شنيع في حقها، وشرف كبير له؛ إذ أعلن في تضاعيفه مبلغ خوفها، وعندها الأساطيل والمدافع والأسلحة على اختلافها، من رجل أعزل من هذه جميعا وضروبها وصنوفها، ليس عنده غير الكلمة المرسلة، والفكرة الماثلة، والحق المبين.
وغضب سعد من هذا الكتاب، وكبر عليه أن يتلقى أمرا كهذا وهو وكيل الأمة وزعيم الشعب؛ فأجاب عليه في كتاب خالد، من تلك الكتب الرائعة في تاريخ الشجاعة الإنسانية، والاستهانة بالأمر الظالم مهما كان شأن مصدره، يقول فيه: «إن هذا الأمر ظالم أحتج عليه بكل قوتي، إذ ليس هناك ما يبرره. وبما أنني موكل من قبل الأمة للسعي في استقلالها، فليس لغيرها سلطة تحيلني من القيام بهذا الواجب المقدس؛ ولهذا سأبقى في مركزي، مخلصا لواجبي؛ وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء، أفرادا وجماعات، فإننا جميعا مستعدون للقاء ما تأتي به، بجنان ثابت، وضمير هادئ، علما بأن كل عنف تستعمله ضد مساعينا، إنما يساعد البلاد على تحقيق أمانيها في الاستقلال التام ...»
فهل رأيت مبلغ قوة سعد الروحية إزاء نذير القوة المادية الرهيبة؟! لقد كان هذا الرد من رجل أعزل على بريطانيا ربة القوات العديدة في البر والبحر والهواء، أسمى ما تبلغ الشجاعة الأدبية إليه في القلب المطمئن، والخاطر الهادئ، والضمير الساكن، والثبات العجيب.
رفض سعد الخضوع لذلك الأمر، وهو يعلم ماذا سيكون من ورائه، كما رفض مصطفى وبقية أصحابه، إذ جاءتهم كتب مثله تحمل نذرا كنذيره. وقد أشفق سعد عليهم، فطلب إليهم ألا يتأسوا بأسوته، مخافة على أولادهم، وحنانا على ذويهم، ورثاء لأهليهم وعشيرتهم الأقربين. وطال الموقف بينه وبينهم: هو يرجو ألا يتابعوه، ويسألهم ألا يتأثروه؛ وهم متشبثون بالرفض، مصرون على الإباء. بل لقد راح أخيرا يقول لهم: «أنتم شبان لا يأخذكم الضعف الذي قد يأخذ الشيوخ في ملاقاة الخطوب، فالرأي لكم وأنا عند ما تتفقون عليه، ولكن اعلموا أنني لا يمسني ضعف، ولا تميل نفسي إلى أن أستبقي بقية من التضحية الواجبة.»
وكان صوت مصطفى صارخا قاطعا في أن يكون الجواب رفضا محضا، وعلى اللورد اللنبي أن ينفذ أمره بالقوة إذا شاء. وقد تحدث أحد الذين شاهدوا ذلك اليوم الخالد في بيت الأمة، حين وصلت تلك الكتب المنذرة، عن نفسية مصطفى يومئذ فقال: «لقد أقبل باسما وعيناه تلتمعان وفي يده كتب . ويعرف كل الذين عاشروه أن له ساعات هي ساعات الحوادث الجسام، تظهر فيها على وجهه، وفي عينيه، وفي كل حركات جسمه، أدلة الحماسة بالغة، حتى ليظن مشاهده أن الإحساس الذي يسير في صدره أقرب إلى أن يكون فرحا بمصارعة الحوادث منه توجسا منها واغتماما بها؛ لأنه ألف الصراع إيلاف الشباب ركوب الأخطار.
لقد دخل في تلك اللحظة وفي يده تلك الكتب، ثم وقف وجعل يلقيها لأصحابها إلقاء وهو يقول باسما: «أوامر من السلطة العسكرية»! وهو غير مكترث ولا حافل، وقد عرف من قبل ما حدث، فما زاده علمه بها إلا استخفافا وسخرية واستهزاء.»
واعتقل سعد في صباح الثالث والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1921، فكان مسلكه ساعة معتقله مشهدا من مشاهد البطولة الجليلة التي يحدثنا عنها التاريخ في سير العظماء الذين ضربوا أروع الأمثال على رباطة الجأش وشجاعة القلب وسكون الأعصاب في أرهب المواطن وأكبر الأخطار.
لقد جاءوه صبحا فأيقظوه من نومه، وساروا به إلى سيارة مغطاة فاحتملوه فيها وهو لا يدري إلى أين المساق، وقد نزل من حجرته يمشي هادئا مشرق الجبين متزن الخطو، جليل السمت، مهيب الطلعة، لا أثر في حركاته لجزع أو اضطراب، وقد دس يسراه في جيب معطفه، وفي يمناه عصاه يحركها بانتظام، غير حائم النظر، ولا زائغ البصر، ولا مترنح اللمحات.
سعد وصحبه وهم في المنفى.
وفي المساء اعتقلوا مصطفى النحاس، فما جزع ولا فرق، ولا حفل بما صنعوا به، وإنما تلقى الجنود برباطة جأش، وابتسام رهيب، وشجاعة عجيبة، وثبات رفيع، وسكينة بالغة، كما ألقوا القبض على بقية أعضاء الوفد الآخرين فكان جلدهم حاضرا، وموقفهم محاطا بروعة وجلال.
وفي منفى سيشيل تبتدئ قصة إنسانية من أرفع مآسي التاريخ، قصة أبطال وطنيين حارت بريطانيا ربة الحول والطول والسلطان في أمر مقاومتهم، فتوسلت بأصغر وسيلة للخلاص منهم، فزادتهم بصغار وسائلها قوة على قوتهم، وثباتا إلى ثباتهم، وخرجت هي من المحاولة بفشل ساخر من قوتها، ضاحك من سلطانها وجبروتها، وتركت تجربتها في النهاية بخزي ظاهر، وخجلة واضحة، وتراجع صغير .
في منفى سيشيل، وهي إحدى جزر المحيط الهندي، تجلت مبالغ شجاعة الشجعان، وبطولة الأبطال، ومصبر الصابرين؛ كما برز الإخاء الإنساني في أوضح صوره، والوفاء في أبلغ مظاهره، والتضحية الوطنية متجاوزة أبعد الحدود.
وقد وصف مكرم لحظة من لحظات المسير إلى ذلك المنفى القصي المجهول، بلغة عاطفته، وعاطفة لغته، فكانت كلمته في ذلك سحر البيان:
لا تقاس الأيام بمجموعها، بل بنوعها، فقد تمر عليك أيام لا تحسها؛ لأنه لا نصيب لك فيها، ولا يحس بك أحد. وقد تمر أيام تبذل فيها من العمل ما يملأ وقتك، ومن الشعور ما يملأ نفسك وحسك، وعندئذ يحس بك كل أحد ...!
تلك الأيام هي التي نعيش فيها للوطن، فيعيش الوطن فينا وبنا.
تلك الأيام قد تكون ساعة، أو لحظة، نتعلم فيها كيف يكون حب الوطن طاهرا ... فوالله إن ساعة من طهر، لهي خير من ألف شهر ...!
دعوني أقص عليكم كيف مرت بي هذه الساعة الطاهرة، فإني لن أنساها مدى العمر: «في ليلة حالكة السواد، شديدة البرد، خرج ستة من المصريين يتقدمهم رجل كأن الله خلق الاستقامة من قوامه، والهيبة من وقع أقدامه، رجل توجه الشيب شيخا جليلا، فبلغ من العمر كثيرا، ولم يبلغ منه العمر كثيرا ولا قليلا، هذا الرجل هو سعد زغلول، وكان بجوار سعد رجل مد إلى الأمام صدره، كأنه يرى في عيني فكره عدوا يتحداه ولا يخشى خطره، وهذا الرجل هو مصطفى النحاس، وإلى جوارنا ثلاثة اختارهم الله قبلنا إلى خير جوار، هم المغفور لهم المبكى عليهم، عاطف بركات باشا، وفتح الله بركات باشا، وسينوت حنا بك. وكان حولنا نحن الستة ضباط وجنود من الإنجليز مدججين بالسلاح، فسرنا وساروا معنا من معسكر الجيش الإنجليزي في السويس إلى ميناء السويس في طريقنا إلى المنفى البعيد، إلى المجهول المجيد!
ولما وصلنا الميناء وجدنا زورقا أعدته السلطة العسكرية لنقلنا إلى الباخرة في وسط البحر، فركبنا الزورق الصغير ولم يكن فيه إلا نحن الستة وعدد كبير من الضباط والجنود الإنجليز، وبحار مصري واحد بجوار «الدفة».
وبينما نحن في الزورق في طريقنا إلى الباخرة، سمعنا في سكون الليل هامسا محتبسا، فنظرنا وإذا بالبحار المصري الجالس بجوار الدفة قد وضع رأسه بين يديه وهو يبكي بكاء مرا.
نظرنا إليه ونحن لا نكاد نملك حواسنا، ونظرنا فإذا بالضباط الإنجليز مطرقو الرءوس خاضعون أمام هذا البكاء الطاهر المليء بالمعاني.
بكى الرجل فسرى البكاء منه إلى نفوسنا، حتى ذهبت شعاعا وانحدرت دموعا ...
فوالله لقد أحسسنا أن مصر، وقد رأت قائدها وأركان حربه مأسورين، قد بكت في هذا الرجل أسرها، وتوسلت به إلى الله تطلب نصرها.
بكى الرجل فاقترب إليه أحدنا، وحاول أن ينفحه مبلغا من المال يعينه على عيشه، فرمى الرجل بالمال من يده وكأنه نار تحرقه، رافضا أن يأخذ لبكائه ثمنا، وأن يستعيض عن شعوره مالا أو بدلا.
لا أذكر من اسم هذا الرجل إلا أنه محمد، ولكني أعرف أنه الوطن تجسد في محمد، وأني ما حييت سأذكر أن محمدا بكاني، وأن محمدا آخاني!»
وفي عدن، على الطريق إلى سيشيل، أراد الإنكليز أن يعجموا عود سعد، ويمتحنوا مبلغ وطنيته وجهاده، ويستطلعوا مدى رباطه وعناده وجلاده، فبعثوا إليه في الثالث عشر من شهر فبراير سنة 1921، وهو محتبس في حصن عدن، من يحادثه في الشئون الشاغلة، والمطالب القومية، ويمنيه بأسمى المقامات في البلاد. فلم يجد أمامه إلا قناة صلبة لا تغمز، وعودا ثابتا لا يهز، بل لم ير حياله غير حفاظ للأمانة كامل، ووفاء لمصر جليل، وقول صريح لا تردد فيه؛ فقد أعلن سعد محدثه، في شجاعة وصدق، وجهرة وإيمان ويقين، أنه لا يبحث إلا عن شيء واحد، وهو استقلال بلاده!
لقد لجئوا إلى «مساومة» حقيرة مع رجل صادق في وطنيته، فكان ذلك جوابه على مساومتهم، جواب عظمة وشرف وطهارة ونزاهة وقوة إيمان. كان ذلك جواب زعيم أمة لا يعرف مساومة في حقها، ولا يشتري راحة نفسه ببيعها، ولا تخيفه المخاطر المجهولة التي يساق إليها، فيسلم على أول الطريق، ويذعن عند أول تلويحة، وتتمثل له المكاره، وتتخيل لديه الغوائل والآلام وألوان العذاب التي تنتظره، وهو شيخ تجب له الراحة، مريض تنتابه العلل، ضعيف البنية عرضة للسقام، فيشتري نفسه ببيع بلاده للمساومين.
لم يكن سعد هذا الرجل الذي يجرب هذه التجربة، ويغرى هذا الإغراء، ولكنهم كانوا حائرين في الواقع حياله، فعمدوا إلى هذه المساومة وهم عارفون نتيجتها، مدركون على الأرجح كيف ستروح الفاشلة المحطمة. وقديما رأينا الحيرة تذهب بأهلها أعجب المذاهب، وتسلك بهم أبعد ما يكون السلوك من النجاح.
وكان منزل سعد وصحبه بعدن في الرابع من شهر يناير سنة 1922، وكان مقامهم بحصنها مقام الأسرى والسجناء، وكذلك لبثوا حتى الثامن والعشرين من شهر فبراير، فساروا بهم إلى سيشل، وكان ذلك هو يوم إعلان استقلال مصر، بتصريح من الإنكليز، تصريح 28 فبراير المشهور، الذي ألغى الحماية، ووعد بإلغاء الأحكام العرفية ريثما تصدر الحكومة الملكية الجديدة قانون التضمينات، بل التصريح السياسي العجيب الذي جاء من جانب واحد، ثم أحيط في الوقت ذاته بأربعة تحفظات، كان كل تحفظ منها سخرية كافية من ذلك الاستقلال.
لقد أقاموا هذا التوفيق المصطنع بين يوم الاستقلال ويوم الأسر، فكان توفيقا في معناه، ساخرا من معانيهم، وكان صغارا على هامش جدهم، وأضحوكة بجانب مرارة عملهم وشناعة تصرفهم؛ ليكون في القاهرة معالم زينة، وفي عدن سفرة أليمة، ورحلة حزينة، وتشريد بعيد.
وفي سيشل، الجزيرة النائية، القائمة وسط الأوقيانوس العظيم، الحارة الرطبة في آن واحد، تلك الجزيرة الخاملة التي اشتهرت بسعد، كما كانت جزيرة القديسة هيلانة في المحيط الأطلسي، على الجانب الآخر من أفريقيا، خاملة، فاشتهرت بنابليون؛ تبارى الحب في مبالغ الإيثار، وتنافس الإخاء في إنكار الذات، وتزاحم الإخلاص على التضحية، وتدافع الوفاء عند الحاجة إلى التلبية. وفي سيشل، تلك القطعة الناتئة في بهرة المحيط، اجتمعت في ستة أصدقاء إخوة أعزاء أبرار، كل الأسنان ومختلف الأعمار؛ شيخوخة وكهولة وشباب، كلها في ذاتها متفانية، وكلها على بعضها حانية، والجميع تسرى عنهم أشد الألم روحانية عميقة مواسية، فهم في سياحة من سياحات النفوس، مهما تلق من عذاب، ومهما تصادف من محن وأهوال وخطوب، تجد عزاءها البليغ في رفقتها، وسلوتها الحاضرة في شركتها، وكلما كان الخطب موزعا هان، وكلما كان الألم مشتركا، راح المحتمل اليسير.
في سيشل جرت قصة من أروع القصص، قصة الحب الإنساني في أسمى مراتبه، وعليا درجاته، وأروع صوره وآياته، وهو الحب الأخوي في خاصة ذاته، والحب الوطني في عمومياته، وقد تلاقى الحبان في نفوس ستة أبطال شجعان؛ فعرفوا بذلك الحب المزدوج العظيم كيف يصبرون لأشد الألم، ويتجلدون لأقسى العيش، ويصمدون لأعنف البلاء والامتحان.
إن ذكريات سيشل لتزخر بأعجب الأمثلة على الإنسانية الرفيعة إذ تمتحن بالألم، وعلى الأخوة الوفية إذ تبتلى بالشدائد، وعلى الرفقة في العذاب إذ تبتسم للعذاب، وعلى النفوس العالية كيف يزيدها تقاسم الآلام علاء.
لقد كانت أيام سيشل عهد كرب ونكد، وصبر وتجلد، وأرق وتسهد؛ ولكن كانت أيضا أيام مجد لسعد وأصحاب سعد، وقد اندمج هذا المجد في معاني الخلد، بالنسبة للذين رحلوا من هذه الحياة بعد سعد، وبقي هو قائما إلى اليوم لمصطفى ومكرم، هو جوازهما إلى كل قلب، ومدخلهما على كل نفس، وسبيلهما إلى كل عاطفة.
وقد خدمهم في سيشل الوفاء المتقاسم، وبر بهم الولاء المتبادل، وإن راح كل منهم ناسيا بره، ذاكرا بر أخيه، وحنان رفقته. فأما سعد فقد جعل يتحدث إلى الناس في المناسبات قائلا: «لقد مكثنا معا في تلك القرية، وكان وجودنا معا يخفف كثيرا من الألم، إذ كان إخواني يبذلون غاية جهدهم في مواساتي ومجاملتي، وقد كان مكرم بك عبيد في السفينة بجانبي، هو الذي يواسيني بلطفه، وحسن مجاملته، وكان في الحقيقة لي أبر من ابن.»
ويتحدث مكرم فيقول: «كنا في ذات ليلة من ليالي يوليو سنة 1922، وكان الرئيس متعبا مريضا منذ أيام، وكانت قلوبنا هالعة عليه؛ فتركنا بعد طعام العشاء على أن ينام مبكرا عسى أن يختلس لنفسه ساعة من الراحة، إذ كان لا ينام أكثر من نصف ساعة طول ليله. وبينما نحن نتأهب لدخول مخادعنا، إذا بالرئيس يخرج إلينا فاقد النطق، محتبس التنفس، وهو يكاد يشرف على الموت.
ولا تسل كيف قضيناها ليلة سوداء نغالب الموت فيها ويغالبنا، حتى انجلى وجه الصباح، وبدأ الرئيس يسترد بعض قواه، فإذا به يطمئننا على نفسه، ويؤكد لنا أنه لا يخشى الموت في سبيل بلاده، وأن في موته بمنفاه حياة لأمته. ولم تكن هذه مجرد ألفاظ، إذ ما لبثنا أياما حتى وزنت ألفاظه بميزان الحوادث، وامتحنت شجاعته امتحانا ما كان أقساه لولا أنه لاقى صخرة لا يلين جامدها؛ فقد كان سعد لا يزال مريضا، وقد جاءه تلغراف يعرض عليه أن يتنازل عن الاشتغال بالسياسة مقابل نقله إلى فيشي بأوروبا في أقرب فرصة! ... فلتصوروا لأنفسكم ما كنا فيه وما كنا نعانيه، ثم تخيلوا شيخا مريضا في منفاه، يرى في هذا النبأ باب الفرج بل باب الحياة، ثم تأملوا جوابه، فقد كان جوابه أخيرا، جوابه أولا، وهو الرفض بإباء وكبرياء.
إن للقوة أن تفعل به ما تشاء، وقد فعلت، وللمنية أن تهدد حياته، وقد هددت، ولكن للأمة كرامة، وقد حفظت، وديونا، وقد أديت ...!»
لقد تفانى الرفقاء في المنفى أعجب التفاني، وحملوا الآلام الطوال بينهم أروع المحتمل، وراحوا يتناسونها في حلقات الدرس وجلسات السمر. فكان سعد بعد الفراغ من الطعام يجلس إلى مكرم لدرس اللغة الإنكليزية. وينصرف المرحوم عاطف بركات إلى درس الفرنسية على مصطفى النحاس.
وإذا تنفس الصبح، نهض مصطفى يؤدي بعض الألعاب والحركات الرياضية مع المرحوم فتح الله بركات، والأستاذ مكرم عبيد. وكثيرا ما كان يشترك مع فتح الله في لعبة «الدومينو»، ولم يكن يجيد غيرها من الألعاب.
وأجل ما بدا حنان مصطفى، وأروع ما تجلى تقديره للصداقة والحب والود والبر بالصحاب، يوم أصيب صاحبه مكرم «بالملاريا»؛ فكانت تلك فترة جزع وروع ومخافة، وكان يعوده طبيب إنكليزي من أطباء الجيش البريطاني برتبة «الميجور»، وكان الرفقاء لا يفارقون سريره، ولما اشتدت العلة عليه، نقل إلى المستشفى، فعارض سعد وإخوانه في نقله، وقالوا إنهم لا يخشون العدوى منه، بل هم على استعداد تام للعناية جميعا به، والسير على تعاليم الطبيب وأوامره، ولكن الطبيب أصر على النقل، فلم يجدوا بدا من التسليم والإذعان.
ونقل مكرم إلى المستشفى فوق محفة يحملها أربعة من الجنود وعليه ملاءة بيضاء، نقل مكرم على تلك الصورة بين أصوات الألم من إخوانه والنوح والأنين؛ ولكن مصطفى أبى إلا أن يتبعهم، وأصر على أن يلزم أخاه مكرم في نقلته. وجرت مشادة بين الرفقاء وبين الطبيب في أمر السماح لمصطفى بالمسير مع القوم إلى المستشفى لملازمة سرير صاحبه، فلم يلبث الطبيب أن أذعن لصوت الجماعة، وأمام وحدة الشعور والحنان.
وظل مصطفى بجانب مكرم راعيا حانيا ممرضا مطببا، وجعل يكتب إلى أصحابه من المستشفى منبئا بسير صحة المريض العزيز، حتى قيض الله له النجاة من العلة، فتماثل وعاد إلى أصحابه ناجيا، وقد قص مصطفى بعد ذلك ما كان في المستشفى فترة إقامتهما؛ فقال إنهم وضعوهما في غرفة يقفل عليها باب ضخم من الحديد، وكانت تلك الحجرة معدة فيما مضى للمرضى من الأسرى الأتراك في الحرب الماضية الذين كان يؤتى بهم يومئذ إلى عدن. فلم يكد الصديقان ينزلان بها حتى هجمت عليهما جيوش جرارة من الحشرات والبعوض والهوام وما إليها، فجعلا يدافعانها بكل ما استطاعا فلم ينالا منها كثيرا ونالت هي من دمائهما، حتى اضطرا إلى الاستغاثة، ومن القسوة البالغة أنهم لم يصرحوا لهما باستخدام الكلل «الناموسيات»، إلا بعد أن بح صوتهما من فرط الصياح، خشية أن تبلغ أسماع المسترقين للسمع والمترصدين.
ولم يكن سعد وصحبه أحرارا في إحضار مال من القاهرة للنفقة على أنفسهم كما يشاءون، إذ كانت قد صودرت حساباتهم في المصارف قبل حملهم من وطنهم إلى ذلك المنفى البعيد، فكانت الحكومة الإنكليزية مقررة لسعد مصروفا شهريا قدره خمسون جنيها، ولكل واحد من رفقائه ثلاثين، وكانت أجرة المنزلين اللذين يسكنونهما في سيشل، ونفقات الطعام والشراب وأجور الخدم تدفع من تلك المرتبات!
إن قصة سيشل هي في الحق أسمى ما كان من مشاهد البطولة، وأرفع ما عرفت الدنيا من قيمة العظمة الإنسانية، وأنبل ما أظهرته الشجاعة الوطنية في مجاز المحن والآلام؛ قصة الشيخوخة المريضة وكيف تحملت أشنع المعاملة، واصطبرت لأسوأ الأذى ، وتجلدت للأسر والقيد والعنت والضيق والبغي والعدوان؛ قصة الرجولة التي نسيت حق نفسها في التفاني في البر بسواها، والحدب على غيرها، والإيثار لمن عداها؛ بل قصة الشباب في أروع ثباته وأرفع قوته ونبالته، وأكبر سخرية من الألم والعذاب ...
وسوف تظل ذكريات سيشل في التاريخ الإنساني للوطنية كمثل لأقسى ما كابدته، وأشنع ما قاسته، في سبيل قضاياها المقدسة، ومبادئها العالية، وإيمانها الوثيق، ويقينها بحقها المقرر، وشهامتها السامية، وجدها الرفيع المكين.
لقد نفي نابليون إلى جزيرة هيلانة منهزما مدحورا، فمرض فيها مرض الموت، وكان ذلك مطلب الذين نفوه، وأمنية الذين اعتقلوه. ونفي سعد إلى سيشل منتصرا قاهرا، في معارك نفسية، ووقائع روحية، هو المسلح فيها بأغرب الأسلحة، وهو الحق الأعزل، والقوات المخاصمة له لا تدري ماذا تستخدم من أسلحتها - على كثرتها - حيال هذا الجندي المسلح، ولكن على طراز غير طرازها، ومن دروع ولأمات غير ما ألفت هي من دروعها وتروسها وأسلحتها ومجناتها، وهي أخشى ما تكون عليه إذا مرض وإن رامت تعذيبه، وأخوف ما تكون على صحته وإن بغت إيلامه، وهي أحرص ما تكون على حياته وإن قست عليه. ولقد أرادت بنفيه مجرد الدرس الأليم لتكون العبرة البالغة؛ فتلقى هو الدرس وألمه، ولكن خيب الغرض منه، وفوت غايته، بل لقد انتفع هو بالدرس ونتيجته، إذ عرف منه مبلغ قوته، ومدى جلده وثباته، وأدرك بالتجربة أنه أقوى من خصمه على بطشه، وأجلد على آخر ما عنده من امتحان وبلاء.
وقد احتمل مصطفى النحاس بجانب سعد كل ذلك وأكثر منه؛ لأنه كان شابا محدودا، ورجلا ذا مسئوليات أبوية؛ فلم تنقطع مع احتماله تلك الآلام الشداد ومرارتها، مسئولياته تلك ومقتضياتها، فكانت نفسه موزعة بين سيشل النبيذة الطريحة في وسط المحيط، وبين ذلك البيت الصغير الهادئ في حي شبرا، حيث تقيم تلك القطع الصغيرة من الإنسانية، أولاد أخته الذين تولى تربيتهم، وأعطاهم جزءا من روحه لرعايتهم وتنشئتهم، وقد حمل من وسطهم ظلما وعدوانا إلى غربة قصية ومنفى بعيد، فلم يبق لهم غير معاشه القليل، وإلا أتعاب مكسورة لا تزال في ذمم المتقاضين.
ولكن مصطفى انتفع بالمنفى انتفاع سعد به؛ لأنه جرب قبل أن يصل إلى مكان القيادة العليا كافة لوازمها، وامتحن بأشد تكاليف عذابها وآلامها. وقد عجمت السياسة البريطانية عوده فخشيت مما عجمت. واطمأن هو إلى قوته التي اختبرت، وأدرك أن كل شيء في سبيل مصر محتمل، وكل تضحية من أجل وطنه هينة، وأن المقاومة الروحية هي في معركة القوة والمادة، المنتهية أبدا بالفوز المبين.
وفي مصر على أثر هذا الحادث العظيم، ظهرت قوة الوفد بأجلى مظاهرها، وبدا نظامه العجيب على أكمله، وتجلى تسلسل القيادة فيه باهرا يشده الخصوم، ويكبت الأعداء؛ إذ نهض الذين بقوا من أعضاء الوفد بأعباء الجهاد رافعين رايته، منظمين قيادته، وانضم إليهم آخرون، غير مشفقين من شبح السجن، أو منزوين من تصور الاعتقال، وظل بيت الأمة قبلة الوطنيين تبعث منه أم المصريين نداءاتها الصادقة إلى الشعب فتهز بها القلوب التي في الجنوب، وتوقد في الأرواح الشعل واللهب، وتضرم الحماسة في النفوس أي إضرام.
وحين اعتقل أعضاء الوفد الثاني في سلسلة القيادة المنظمة، حل محله وفد ثالث، متلقيا علم الجهاد منه، وهو عليم بالأخطار التي تحدق به، مقبل عليه بشجاعة يغذيها اليقين، ويمدها الإيمان؛ فكانت تلك الشجاعة موضع إعجاب الأمة، ونبع حماستها المستفيضة بغير انقطاع.
وخلال ذلك أعلن تصريح 28 فبراير، فأزعجت الأمة تحفظاته، وتلقته بفتور غير منخدعة بالمظاهر والزخارف التي أحيط بها، والتغييرات الشكلية التي أدى إليها، وظلت في موضعها من الجهاد تواصل الكفاح غير مذعنة ولا قانعة ولا متوانية.
وتحت وزارة ثروت باشا ألفت يومئذ لجنة لتحضير الدستور، فكان أعضاؤها جميعا من غير رجال الوفد والمنتسبين إليه، فرضوا أن يضعوا الدستور في غياب الرجل المكافح المغوار الذي كان السبب فيه، وصاحب الفضل به، في غياب سعد ومصطفى وصحبهما وهم في المنفى القصي والمعتقل البعيد، الذين كانوا في صدر المطالبين به والعاملين عليه والمنادين مع الاستقلال التام إليه، فكان ذلك على أقل تقدير له، جحودا ونكرانا لحق الغائبين.
وترامت عند ذلك الأنباء بمرض سعد في سيشل، فقلقت الخواطر، وهاجت النفوس؛ فما زالت الأمة تحتج وتطالب برد سعد ورفقائه حتى رأت السلطات إزاء هذه المطالبة الملحة نقله إلى جبل طارق، دون رفقائه الذين لازموه، وصحبه الذين واسوه، ورفقائه الكرماء عليه. وفي ذلك يقول سعد: «ولقد مكثنا ممنوعين من الكلام عن الصحة، وكنا نحتار حيرة شديدة حين نسأل بالتلغراف من مصر عن الصحة والطقس، إلى أن كتب إلينا الحاكم العام للجزيرة بأن حكومة جلالة الملك قررت أن يسافر زغلول مع خادمه سفرا يستغرق ثلاثة أسابيع سويا على سفينة قادمة في غداة اليوم التالي إلى سيشل لتحمله إلى تلك الجهة؛ فغضب إخواني لهذا التقسيم وحزنوا وطلبوا أن يسافروا معي، مع أن الجواب يقول إنه لصحة زغلول تقرر نقله إلى جهة أخرى، كأن صحة إخواني لم تكن تقتضي ذلك، والحقيقة أنها كانت تقتضيه، ولكنهم لم يريدوا أن يقروا بهذا الاقتضاء.
أما إخواني فقد حزنوا واستاءوا واحتجوا؛ لأنهم شعروا بألم شديد لانفصالي عنهم، وكانت نتيجة ذلك أن منعوهم من السفر معي، ولم يريدوا أن أنزل في السفينة نهارا خشية احتشاد سكان الجزيرة، فأنزلت في زورق ومنع إخواني أن يصحبوني إلى السفينة الحربية، فسرت بهذا الزورق إلى السفينة ... وقد سألت عن الجهة التي نحن متوجهون أو مسوقون إليها، فقالوا: «لا يمكننا أن نقول لك ذلك»، فمكثت وحدي بين السماء والماء، لا جليس ولا أنيس لي مطلقا، وكان فكري محصورا فيما هي الجهة التي أنا مسوق إليها؛ وكنت قد سمعت قبل السفر إشاعة بأنها «جبل طارق»، التي سمعت عنها من بعض أصحابي أنها صخرة جرداء شديدة الحر، بها حصن، وعلى كثب منه قرية صغيرة لبيع الدجاج والبيض. مكثت حائرا في أمر الجهة التي أنا مسوق إليها، وكلما تصورت أنها جبل طارق، اشتد كربي ... مكثت ستة عشر يوما حائرا أتصور جبل طارق، ولم يحدث لي في حياتي قبل هذه أن تألمت أكثر مما تألمت في هذه المدة ...»
وكان نقل سعد إلى جبل طارق في الحادي عشر من أغسطس سنة 1922؛ وكان أخذه من بين مصطفى وصحبه أليما لنفوسهم، ممضا محزنا لهم، شديد اللوعة، يغالبونها، ويحاولون إخفاءها، حتى كانت لحظات الوداع، فتلاقى بصر سعد بأبصارهم، فعرف في الحال مبالغ آلامهم، وأعماق حزنهم، ففاضت من عينه عبرة ساخنة، وكان صمت ذلك الفراق أبلغ من كل قول، وأروع وأصدق من كل كلام.
وقد نزل سعد ببيت أعد له في جبل طارق، ذي حديقة، ولم يكن أسيرا في مقامه بها ولا سجينا، ولكنه مع ذلك كان متألما متبرما، حتى لقد قال يصف منزله يومئذ بتلك الصخرة: «لقد كانت هذه أسوأ مدة مرت بي في السجن، وأما المدة التي تلتها فإني كنت متألما جدا لانفصالي عن إخواني حتى اضطررت إلى رجاء حرمي أن تلحق بي، فلما حضرت خف عني الألم. ولقد أقمت في جبل طارق من الثالث من سبتمبر سنة 1922 إلى 30 مارس سنة 1922، ثم أفرج عني في ذلك التاريخ ...»
وتعاقبت يومئذ الوزارات، ولم تنطفئ حماسة الأمة ولا هدأت ثائرتها ولا فتر جهادها، بل تبين فشل الأساليب التي اتخذت حيالها لتوهين قواها وصرفها عن زعمائها؛ فأفرجت السلطات عن بعض أعضاء الوفد المعتقلين، وأعلنت إطلاق سراح سعد من منفاه الأخير، وصدر الدستور في التاسع عشر من أبريل سنة 1923، وأفرج عن مصطفى ورفقائه المبعدين في سيشل، فوصلوا إلى أرض الوطن في السادس والعشرين من شهر يونيو من ذلك العام، كما أفرج عن سائر السجناء في ألماظة، فاكتملت بخروجهم، وتوافدهم هيئة من الوفد، وراحت تتولى قيادة الأمة إلى غايتها السامية حتى عاد سعد في السابع من شهر سبتمبر من تلك السنة، فخرجت مصر جميعا إلى لقائه وتحيته واستقباله، فكان ذلك يوما خالدا في التاريخ.
لقد وصلت الثورة يومئذ إلى حد حاسم، ومرحلة فاصلة، وظفرت الأمة بنصر عزيز، وتمكنت من التغلب على كل ما كان يعترض سبيلها، ويراد به توهين قواها، والقضاء على آمالها. وكان من الخير لو أن السياسة البريطانية كفت يومئذ عن التبييت للحركة الوطنية، والتزمت مواجهة الحقائق الماثلة، وانصرفت إلى التحبب إلى مصر وأهلها، والتعاهد معها على ميثاق من الحلف والمودة والتعاون الوثيق، ولكن السياسة البريطانية لم تقنع بالخسر الذي أصابها، والنجاح الذي ظفر به خصومها؛ فهادنتهم أو سكتت قليلا عنهم، ريثما تجد سانحة أخرى للبطش، وناهزة جديدة لمواصلة التجربة.
وفي حياة سعد ومصطفى كان قد انتهى دور من أدوار الألم، واستكمل فصل من فصول الكفاح العنيف؛ فما من خطب ألم بسعد إلا كان مصطفى فيه شريكا مساهما، ولا من محنة أصابت سعدا إلا كان صاحبه العزيز مكتويا معه بلفحها. وقد جعلت منهما هذه الرفقة في الألم والعذاب شركة نفسية غريبة، حتى لو أن أحدهما هو المطلوب بمفرده لهما، لما رضي الآخر أن يحرم من نصيبه منهما؛ فإن الحب الوطني قد ألف بين قلبيهما قبل أية صلة من الفكر، أو شركة في العقيدة. وقد وصف الساحر الخلاب مكرم عبيد هذا الحب في بعض سحره العجب، فقال:
منطق القلب هو الحب، والحب أس الفضائل جميعها، وهو واحد وإن تعددت أنواعه وأسماؤه؛ فحب الله هو الدين، وحب الفضيلة هو الأدب، وحب الوطن هو الوطنية، وحب العشيرة هو القرابة، والحب الجنسي هو الذي اصطلح الناس على تسميته حبا أو عشقا، وحب الصديق هو الصداقة، وهكذا كل العواطف يجمعها شعور واحد، هو الحب؛ ومصدرها واحد وهو القلب، والقلب من الله، والله محبة كما جاء في التوراة ...
إن عاطفة الحب في أساسها عبارة عن تمازج الأرواح؛ فقد يكون خاصا، ويدخل في ذلك حب الأسرة وحب الصديق؛ أو عاما، وهو المحبة الوطنية أو الدينية أو غيرهما، ولا تظنوا أن المحبة العامة مجرد عاطفة خيالية، كلا بل هي في بعض الأوقات - وبخاصة في أوقات الحماسة - أوقع في القلب، وأكبر أثرا في النفس من المحبة الخاصة، بل إن الإنسان كثيرا ما يضحي بالمحبة الخاصة في سبيل المحبة العامة، فيضحي بمصالحه وأولاده ونفسه في سبيل حب بلاده، أو فكرة سامية أخذت بقياده.
ولست أحتاج إلى الذهاب بعيدا للتدليل على هذا الحب العجيب، والدرجة القصوى التي قد يصل إليها؛ فإن المثل الحي قريب منا، في بلادنا ونفوسنا، وإن شاءوا دليلا ماديا فليبحثوا عنه في قبورنا وسجوننا.
إن حب المصري لأخيه المصري في تلك السنوات الأخيرة ليس مجرد عاطفة وطنية، بل هو حب المؤمن لأخيه المؤمن، وإنما المؤمنون إخوة؛ وحب الجندي لأخيه الجندي، فهو إذن حب قوي، تجمعه فكرة واحدة، وجيش واحد، وقائد واحد. وقد ذهب هذا الحب بأبنائنا فسفكوا في سبيله دماءهم، وضحوا من أجله بحريتهم.
وإن شئتم مثلا آخر يدلكم على مقدار هذا الحب العام، فهاكم ما جرى لنا في «ممباسة» عند عودتنا من سيشل، فكلكم تعرفون أن الهنود على اختلاف طوائفهم، أكرمونا إكراما عظيما، وأضافونا في بيوتهم، بعد أن رفض الإنجليز أن يقبلونا في فنادقهم؛ لأننا شرقيون محتقرون! وعندما سافرنا من ممباسة ودعنا أولئك الإخوان، وكانوا يبكون، وكنا نبكي دموعا حارة، كأنما قد تركنا ثم أعز أحبابنا. والواقع أننا أحببناهم وأحبونا؛ لأنه جمعتنا بهم جامعة عامة، هي جامعة الشرق الواحد، وجامعة الظلم الواحد ...
مكرم عبيد.
إن أحسن وصف لهذا الحب العام هو ما جاء في الكتب المنزلة، من أن أصحاب الإيمان الواحد، أو الفكرة الواحدة، هم إخوة وأقرباء، وكنت قبل الآن أحس بكثير من الدهشة عندما كنت أقرأ في الإنجيل الشريف أنه قيل للسيد المسيح: إن أمك وإخوتك بالباب يطلبونك، فأجاب بلهجة شديدة قائلا ما معناه إن أمه وإخوته وأقرباءه هم الذين يتفقون معه في الرأي والعمل الصالح، نعم هم الأقرباء الحقيقيون تجمعهم صلة النفوس، لا صلة الأجساد.
ولا يغرنكم قولهم إن الحب لأعمى، فلا يعمي البصائر إلا الكره والحسد، ولا يعرف الصفات أو الفضائل الإنسانية في إنسان إلا من كان له صديقا صدوقا، وأمكنه أن يطلع على دخائل قلبه ومكامن نفسه. أما العدو فلا يرى في عدوه إلا عكس هذه الصفات، كما أن من يعرفك معرفة سطحية لا يرى فيك إلا الصفات السطحية، فالحب إذن بصير «لا تخفى عليه خافية»، ولو أنه لا يهتم لدقائق السطحية التافهة.
لقد امتزج سعد ومصطفى بالروح، وتحابا أصدق الحب بالتماثل والتناسب، وأخلص كلاهما إلى الآخر أسمى الإخلاص؛ لأنه الإخلاص المنزه عن المصلحة، المطهر من شوائب الغرض والمنفعة، فانتهى ذلك الدور من حياتهما، وسعد زعيم الثورة ومصطفى وقادها، كلما طلبت غذاء التمسه لها واحتطبه من أجلها؛ بل انتهى ذلك الدور وهما مشتركان في الألم والنفي والعذاب؛ ليتم لهما النصر فيشتركا في تنظيم الفوز، واستثمار النجاح، وإقامة القواعد في الدور التالي لحياة جديدة، هي حياة الديمقراطية والدستور، يقيمان لها العمد، ويرفعان الدعامات، وينهضان بالصرح والبنيان.
سعد ومصطفى يبنيان للديمقراطية والدستور
جاء تصريح 28 فبراير المشهور عملا من جانب واحد، وكان العمل على هذا النحو تنفيذا لما أشار به لورد اللنبي كعلاج موقوت لصعوبة العمل يومئذ من جانبين؛ فهو مع اعترافه الرسمي باستقلال مصر يحمل في ثناياه كذلك الاعتراف الضمني بأن مشيئة مصر لا تزال تنقصه، وأنه لا يزال خاليا من الطابع الذي يقر إرادتها، ويجمع إلى الاعتراف البريطاني كلمتها، بل الكلمة النهائية التي تضع كل شيء في موضعه، وترد الأمر إلى طبيعته.
وقبل أن تعمل الحكومة البريطانية بمشورة اللنبي كان لورد ملنر قد نبه بلاده إلى أنه لا يمكن أن تكون التسوية مرضية إذا هي كانت مجرد فرض تفرضه بريطانيا على مصر، وإنما الخير والحكمة في البحث عن حل يقوم على اتفاق بين الجانبين؛ أي عمل مشترك من طريق التفاهم والتعاهد والوئام، ولكن الحكومة البريطانية اقتصرت بعد ذلك على العمل منفردة، فكان ذلك التصريح، وكان النقص فيه بارزا في مجيئه بهذه الصفة.
وقد اعترفت بريطانيا في ذلك التصريح بحق الشعب المصري في حياة نيابية وحكم دستوري، وكان هذا الإقرار الضمني فيه هو كل ما يمكن أن ينتفع به، فظلت الأمة على معارضتها وجهادها، وبقيت على موقفها من ذلك التصريح ونقصه وبطلان صفته.
وابتدأ الحكم الدستوري قبل أن يبتدئ الاستقلال، ولكن ذلك لم يقنع مصر ولم يحملها على الاستسلام، وإنما رأت أن تتخذ الدستور طريقا للاستقلال، فحرصت عليه، ورضيت به، وجعلته معبرا عنه، ومظهرا له؛ لأنه نظام حكم الجماعة، ومرآة مشيئة الأمة، ومتجلى إرادة البلاد.
ولم يكد حكم الدستور يقوم في حراسة سعد وبزعامته حتى راح يطبع حياتنا العامة بطابعه، ويتغلغل فيها بكل مؤثراته ودوافعه، ويضفي عليها بكل روحه ومنازعه، فقد استحال سعد زعيم الثورة زعيما للديمقراطية، ولم يكن ذلك غريبا على نفسه، ولا مختلفا وطبيعته، ولا جديدا على تفكيره وخلقه وتكوينه؛ إذ نشأ من عرض الشعب، وقاد الشعب في الثورة، واتصل بروح الشعب في مسرى كهرباء حسه، ولهيب نفسه، وشعلة وجدانه، ونادى الشعب إلى حقوقه، وليس من بينها ما هو أكبر ولا أبرز من حق حكمه بنفسه، وتدبير شئونه بذاته، وتصرفه في أمره حرا طليقا لا مرد لمشيئته.
سعد ومصطفى في البرلمان.
وبفضل سعد وديمقراطيته العميقة فيه، وابتدائه الحياة الدستورية أحسن مبتدأ، ووفرة الاستعداد في كثير ممن حوله للنبوغ في الحياة النيابية، والتفوق والبروز في النظام الديمقراطي، لم يطل الوقت حتى أدرك كل مصري حتى العائشين في صميم القرى وسواد الريف، أن الحكم الدستوري هو وحده الذي يبرز وجوده، ويعبر عن إرادته، وأن حكومة الجماعة هي خير وأصلح من حكومة الأفراد؛ لأنه في الأولى يستطيع أن يقول: حقا «إنني أنا الذي أحكم؛ لأن إرادتي هي المملية، ومشيئتي هي الحاكمة، ورغبتي هي الأمر النافذ والسلطان المطاع».
لقد أصبحنا من ذلك العهد نعيش في عصر دستوري، بل نحن اليوم جيل ديمقراطي بكل روحه، ومعنوية وجوده، حتى في الفترات التي احتجب الدستور فيها، وتحت حكم لا يستند إليه؛ إذ جازت الحياة المصرية دور الاختبار بالنسبة لأنواع الحكم الصالحة لها، وانتقلت إلى دور اليقين بأن النظام النيابي هو النظام الأمثل لها، ونوع الحكم المتمشي مع طبيعتها، المظهر لسائر وجوه إرادتها؛ فهي لا تستريح، ولا تهدأ، ولا يستتب الأمر بها، إذا ما اعتدي على هذا النظام، أو نزع منها إكراها وإرغاما بالقوة الغاشمة.
وقد يعرض نوع من الحكم يجيز الحريات العامة ويرد المظالم، ويسير بالعدل بين الناس، ويلتزم المبادئ الدستورية؛ ولكن ذلك كله لا يجعل الحياة المصرية مستريحة إليه، ولا يغريها بالسكون إلى غيبة النظام النيابي نفسه، إذ مهما تكن الحكومة حسنة، فلا تغني مزاياها عن روح العصر ، وهو الدستور؛ ولا يمكن أن تكفل جميع مطالب الديمقراطية الصحيحة التي لا سناد لها ولا قوام إلا بالنظام النيابي الذي يبرز مشيئة المجموع.
وقد يكون عهد مصر بالنظام الدستوري قصيرا، لم يتجاوز من الوقت الذي نحن بصدد منه إلى اليوم اثني عشر عاما، تخللتها فترات حورب فيها وهو قائم، وأخرى اعتدي عليه فيها فغاب واحتجب، وفترات غيرها انتهكت فيها قداسته، فوئد أو مزق تمزيقا، ولكنه على قصر عهده لم يقع للبلاد غنيمة باردة، ولم يتهيأ لها محض مصادفة، ولم تذهب في بعض الطريق فعثرت عليه لقى، أو التقطته على القارعة التقاطا، ولكنها جاهدت من أجله وحاربت، وناهضت حكومات عديدة قبله وأسقطت، وقد وقع لها الدستور غاليا، واشترته بثمن، ولكن من الدماء؛ وأصابته، ولكن بمخاض العذاب والآلام وصنوف البلاد.
وكان من الطبيعي عقب قيامه لأول عهد البلاد به في عصرها الحديث أن يحسب له حساب الفترات الأولى من البداية حتى ينهض على ساقيه، ويستتب الأمر له، ويستقر على أوطد قواعده، كما كان شأنه في الأمم قبلنا. تعثرت به في بداية الأمر وأخطأت، وامتحنت فيه بدروس متعددة وابتليت، فكان لذلك كله قيمته في تعزيز معانيه، وغرس أصوله والتمكين لبنيانه، وأثره العميق في تأصل روحه، وارتفاع شأنه عند الشعوب التي ارتضته أساسا للحكم فيها، وعملت على الاحتفاظ بناموسه، مهما كلفها ذلك من تجاريب واختبارات ومغارم وتكاليف فادحة.
كان ذلك طبيعيا لو أنه جرى عندنا على ما قد جرى عند غيرنا، ولكنا حوسبنا على الخطأ من أول الأمر ولم يكن خطأنا؛ بل لقد حوسبنا حتى على التجاريب المناوئة التي اصطنعت لمحاربته، وعلى وسائل المقاومة والمؤامرات التي كيدت له، واتهمنا بأننا لا نصلح له، واتهم هو بأنه لا يصلح لنا، مع أن الفترات التي استطاع هذا النظام - على قصرها - أن يسير فيها هادئا خالي الطريق من العقبات، والتي تيسر لها خلالها أن نسكن إليه، ونطمئن إلى قيامه، كانت أدل شيء على مبلغ استعدادنا الكبير لمطالبه، وأقطع برهان على صلاحيته لهذه البلاد.
لقد آمنت البلاد من مشاهدة الثمرات البواكير للحكم الدستوري وأيقنت من اختبار نتائجه الأولى، أن هذا النظام هو وحده الذي ينبغي لها؛ لأنه هو المبرز لمشيئتها، والمظهر لإرادتها، والممكن لها في الاستمتاع بكل ما تستمتع به حر الأمم ومستقل الشعوب.
لقد ظن الإنكليز في السماح لنا بالدستور مع تصريحهم المشهور أنه سوف لا يلبث أن يفرقنا طرائق وشيعا، ويقسم بعضنا على بعض جماعات وأحزابا، ويفسد علينا وحدتنا التي جمعتها الثورة وهيأتها، وأننا سوف ننشغل بالاشتجار عليه فيما بيننا عن الكفاح حيالهم من أجل قضيتنا؛ ولكن الدستور في الحق، وإن أدى إلى بعض هذا أو شيء منه، قد بر بنا، وحفظ وحدتنا، وأبقى على إجماعنا، وأثبت قوة صفوفنا، ومبلغ إيماننا؛ لأنه كما سبق أن بينت غربل الحياة المصرية غربلة، ونقى الحياة تنقية، فأبقى على الصالح الجيد المخلص النافع، ونفى من حظيرته الفاسد والمدخول والغريب والضار المؤكد الأذى، ولم يلبث أن أصبح هذا الدستور الذي ظنه خصومنا أداة هلاكنا السياسي، أداة نجاتنا، وسبيل إنقاذنا، ومحل مناعتنا، ومستودع قوتنا، فذهبوا من ذلك الحين يضمرون السوء له، ويعملون على محاربته، ويستعدون وسطاءهم وأعوانهم على تعطيله وتشويهه أو محاولة محوه محوا، وذهبنا ندافع نحن عنه قائما بكل قوانا، ونقاوم في سبيل استرداده إذا هو يوما تعطل أو غاب أو بدل تبديلا.
وقد يحسب قصار الأبصار أن العراك على الدستور قد شغلنا عن الكفاح طويلا عن الاستقلال، ولكنه حسبان المخطئين؛ لأن المعارك الدستورية كانت في ذاتها معارك للاستقلال؛ لأن الدستور ظل أبدا طريق قضيتنا، وسبيل أمانينا وعلالتنا، والباب المفضي إلى حقنا الطبيعي في الحياة.
وكان سعد زغلول الزعيم الدستوري الذي مكن لجذور هذا النظام من التأصل والتغلغل في صميم حياتنا، وكان هو الباني لصرح حياتنا النيابية وهيكلها العظيم؛ فقد أظهرته الطبيعة يومئذ رجلا جديدا في الواقع، وزعيما عجيبا، كأنما كان طويل العهد بالروح النيابي، عريق المحتد في الدراسة البرلمانية، واسع العلم بأوضاع هذا النظام وتقاليده ومطالبه؛ إذ كان أول من ألغى «الأقدمية» في تقلد المناصب، وأول من أثبت حق النبوغ في الاستباق، وأول من أقر «الكفاءة» ووجوب تقديمها على كل اعتبار.
لقد أعطى سعد زغلول أمثلة جريئة، وخطا خطوات قوية في سبيل تعزيز الديمقراطية، فجعل من «الأفندية» وزراء، وحطم بذلك القيم المظهرية التي كانت «للباشوات»؛ وأثبت للشعب أن المخلص يجد أرفع الأمكنة، مهما كان في الأصل موضعه؛ وأن الكفء يظفر بالمحل الخليق به، مهما كانت من قبل درجته، وقد كان تقرير هذه القاعدة في بداية الأمر مستغربا، حتى إن فريقا من المستشارين في وزارة الحقانية نكروه وتبرموا به، وصارحوا سعدا برأيهم في شذوذه، واستنكارهم لخروجه عن المألوف؛ إذ لم يكن أحد يومئذ يتصور أن محاميا من عرض المحامين يصبح وزيرا للقضاء، ولكن سعدا الديمقراطي العظيم لم يعتد بغضبهم، ولم يحفل استنكارهم، ومضى في التمكين للديمقراطية غير متخاذل ولا متردد.
وفي مجلس النواب لم تلبث مع هذا الحافز الجديد، وعلى شكة المهماز في الخاصرة، أن ظهرت نباغات باكرة، وتجلت كفايات سريعة، وبدت استعدادات خصيبة للروح النيابي الجديد؛ حتى لقد كان موضع العجب أن تنبغ الحياة الدستورية هكذا وشيكا لدينا، ويظهر التقاطنا الزئبقي لجوهرها وحسن تقاليدها وعرفان أوضاعها في تلك الفترة القصيرة العاجلة من التجربة والاختبار.
وفي الوزارة الديمقراطية المحدثة تقلد مصطفى النحاس القاضي السابق منصب وزير المواصلات، ومن قاض إلى وزير مسافة واسعة، وشوط لم يكن أحد ليقطعه في النظام القديم، ولكنها كانت أقصر من غيرها بكثير في العهد الجديد، واستحقاقا تاما لرجل لم يكن يدري يوم غادر وظيفته مضحيا بها، ماذا سيحل غدا به، وأي أخطار الجهاد على الأيام مصيبه، وأي عقاب مرهوب سوف يعد له، ذلك الرجل الذي ترك كل مسئولياته الخاصة جانبا، وأقبل على الثورة الوطنية بكل جوارحه، غير مبال بما قد يصيبه في سبيل بلاده، وقضية وطنه المعذب الأسير.
ولكن كذلك طلبت الديمقراطية الجديدة، وهي يومئذ في أشد حماستها وأصدق أدوارها وحميتها، الخدام المخلصين لبلادهم، والمجاهدين الأبرار بوطنهم؛ فأشارت الأقدار إلى مصطفى في الأكفاء المستحقين؛ لأنها كانت معدته ومحتفظة به لحراسة هذه الديمقراطية نفسها التي عرفت له قيمته، وشهدت له بكفايته، فإن حياة مصطفى السياسية ظلت كلها دفاعا مستمرا عن الدستور، وكفاحا مستطيلا عن النظام الديمقراطي، وذيادا لا يفتر ولا يهدأ عن الحياة النيابية؛ حتى لقد تحمل مصطفى في عهد زعامته من أجل الدستور ما لم يتحمل سعد مثله، وقاوم في سبيله مقاومة يدفعها الإيمان القوي العميق الذي لا يعرف تراجعا، ولا يحس يأسا ولا يفكر في انزواء.
وقد أثبتت الحوادث في خمس سنوات متعاقبة خلال زعامة مصطفى للأمة ورياسته للوفد وقيادته لصفوف الشعب وجموعه أن مصطفى قد وهب حياته كلها لحراسة الدستور، وحماية الحكم النيابي، غير منثن أمام كل تلك القوات المعادية التي وقفت متراصة حياله لتصد تياره، ولا يائس من استرداد دستور الأمة بعد إلغائه، بل لقد بنى سعد الديمقراطية في مصر، وجاء مصطفى ليتولى حراستها؛ فكان الحارس الثقة الأمين.
ونجحت الديمقراطية من بدايتها، وصحب قيام البرلمان في سنة 1924 توفيق كبير، وأثمرت الحياة النيابية ثمرات طيبة، كان من بينها إصدار قانون الانتخاب المباشر، وراح سعد يعد العدة للمفاوضات التي ورد ذكرها في خطاب العرش؛ وإذا بمكيدة حقيرة تدبر لاغتيال حياته وهو يوشك أن يركب القطار في الثاني عشر من شهر يوليو سنة 1924. وقد تلقى سعد حركة ذلك المفتون الطائش الذي صوب الرصاص إلى صدره بأروع ما تكون الشجاعة مظهرا حيال الموت وخطره، ورجفت البلاد من شناعة الحادث بقدر ما أعجبت برباطة جأش زعيمها العظيم، وبدا هذا الحادث يومئذ بوادر رجعية شريرة قاتلة مجرمة تعمل تحت جنح الظلام.
وأخفقت المفاوضات التي جرت بين سعد وماكدونالد؛ إذ جرى هذا معه على منهج كرزون من قبله وملنر، وظن أنه مستطيع أن يتغلب على سعد؛ فأبى سعد التسليم ورفض المفاوضات وفيا أبيا، وعاد إلى بلاده مرفوع الرأس كريما على نفسه وبلاده.
وعلى أثر عودته كثرت الدسائس واشتدت المكائد للدستور والحكم النيابي، وكان حسن نشأت باشا يومئذ وكيلا للديوان الملكي؛ ففكر سعيد مليا في الأمر ليجد له علاجا حاسما، فكانت مشورة مصطفى في هذا الموقف الخطير أنه يجب أن يصان الدستور قبل كل شيء، وينبغي الحرص على قدس النظام النيابي قبل كل اعتبار، وأنه إذا لم تجب المطالب التي تتقدم الوزارة الدستورية بها إلى الملك، فلا ينبغي البقاء في الحكم لحظة واحدة.
وعمل سعد برأي مصطفى، فذهب إلى القصر في ذلك اليوم المشهود الذي اجتمعت فيه ألوف مؤلفة من الخلق في ساحة عابدين وهم يهتفون هتافا دواما مدويا: «سعد أو الثورة»، فقدم مطالب الوزارة إلى الملك مهددا بالاستقالة إذا هو لم يجب إليها.
ولكن تلك المطالب أجيبت، فخرج إلى الجموع الحاشدة في الساحة فائزا منتصرا، وارتد أعداء الدستور خاسرين.
وفي هذه الوقفة الجليلة اجتمعت مشورة مصطفى وشجاعة سعد، فتناسبتا وتشابهتا روعة وجلالا. وكانت تلك المشورة وليدة إخلاص متناه للفكرة، وسمو أدب في الوطنية السياسية، ووفاء عظيما للدستور، لا يتردد أمام أي اعتبار شخصي، ولا يتخاذل حيال أي واجب كبير، ولا يخشى جاه الحكم أن يزول عنه، أو أعنة السلطان أن تذهب من كفه؛ وهو لم يمكث في مقعد الوزارة غير بضعة شهور، وما هو بالغني العريض المال حتى يتطوع للتخلي عنه، ولا يبالي تركه؛ ولكنه كان الوطني المؤمن بالدستور الحريص على النظام النيابي، فلم يلبث حرصه على الدستور أن تغلب عنده على كل عامل سواه، فرضي ترك الحكم ونصح باستقالة الوزارة، إيثارا للدفاع عن الدستور والذود عن قداسته، على كل مغريات البقاء في الحكم والتشبث بالنفوذ والسلطان.
وكان مسلكه في وزارة المواصلات مسلك نزاهة رفيعة؛ إذ كان المعتاد قبل قيام وزارة الشعب الأولى أن يتقاضى كل وزير أربعين جنيها بمثابة «بدل سيارة»، فلما جاءت الوزارة السعدية وقف النحاس بين زملائه يقول: «إنني أقلكم مالا، ولكني متنازل عن مبلغ الأربعين جنيها التي تدفع لنا»، فلم يكن من الوزراء إلا أن استجابوا له، واحتذوا حذوه، فألغي المبلغ من الميزانية إلى أن جاءت الوزارة الزيورية فاستعادته.
وظهر من حرية رأيه يومئذ ما كان حديث الناس في المجامع، وموضع تقدير حسن عند الناخبين؛ فقد وقف في أهل دائرته «سمنود» يخطبهم خلال الحركة الانتخابية ، وكان منافسه فيها يومئذ علي المنزلاوي بك، فقال: «من منكم يرى في انتخاب علي بك المنزلاوي مصلحة لوطنه ولا يقدم على انتخابه مجاملة لشخصي، أو مراعاة لأي اعتبار آخر، فإنه يكون مجرما في حق بلاده!»
ولعل هذا أندر ما يسمعه الناس في المعارك الانتخابية، من قول المتنافسين، وحجج المتزاحمين؛ فإن أكثر ما يكون خلالها تراشق بالسباب، وسلق بألسنة حداد، وكشف للستر وهتك للحجاب، ورتع في لحم الخصوم، وإبراز للعيوب والسيئات.
وفي أول عهده بالمناصب الوزارية لم يكن مصطفى يصانع أو يجامل أو يخشى سطوة أحد من الإنكليز، أو يسكت عن إساءة من ناحيتهم، أو خطأ يقترفه كبير فيهم؛ بل كان الوزير الحريص على كرامته، الحفيظ لهيبة منصبه وسلطته؛ فقد قرأ وهو وزير المواصلات يومئذ في تلغرافات الأهرام الخاصة ذات صبح مقالا أو خلاصة من مقال أو تصريحا منسوبا للمستر فرسكويل المدير العام للسكك الحديد المصرية في ذلك الحين مع أحد مراسلي الصحف البريطانية، وهو أن السكك الحديدية المصرية قد اختلت اختلالا شديدا منذ تربعت الوزارة النيابية دست الأحكام، فلم يكد الوزير يصل إلى مكتبه حتى استدعى إليه المستر فرسكويل، فلما حضر قال له: «إني أقترح عليك يا مستر فرسكويل أن تختار أحد أمرين: إما أن تكتب إلي قبل الساعة الواحدة كتابا تكذب فيه تصريحك المنشور في التيمس، أو أن أحيلك في الحال إلى مجلس تأديب!»
وانصرف المستر فرسكويل حائرا لا يدري ماذا هو صانع إزاء هذا الوزير الجديد الذي لا يضع إنكليزيته موضع الاستثناء، ويعامله كمرءوس من عرض المرءوسين سواء بسواء. ولكن لم يلبث أن خطر له خاطر، فعمد إلى تنفيذه؛ وذلك هو أن يزور صديقا إنكليزيا مثله يشتغل بالمحاماة، راجيا إليه أن يقصد النحاس باشا فيتوسط له عنده، فلما كاشف صديقه هذا بما جرى، ذهب الصديق إلى النحاس باشا، فدخل عليه وبسط الأمر له، فقال له مصطفى باشا: «إني أعجب لك كيف وأنت محام تجيء لتناقشني في مسألة موظف تحت إدارتي، فإن كانت لديك نصيحة للمستر فرسكويل، فانصح له بأن يكتب لي الكتاب الذي طلبته منه.»
وقبل الساعة الواحدة بعد الظهر كان عند مصطفي باشا الكتاب الذي أراده ...
وفي ذلك الحين بدأت الرجعية تتحسس منافذ لتسرب منها إلى محاربة الروح النيابي في البلاد، ومناوأة الدستور، وتحريش بعض الهيئات والجماعات بالوزارة الديمقراطية الأولى؛ فألبت الأزهر على سعد وهاجت حفائظ طلابه وأوقعت الفتنة في صفوفه، ولكن سعدا عرف كيف يلجأ إلى الحكمة، ويجنب الاستهداف لمؤامرات الرجعية وكيدها الأثيم.
ولكن بينما كانت البلاد مقبلة على شئونها، مستقبلة الدورة الثانية للبرلمان بنشاط واستجمام، وبينما روح الأمل يسري في النفوس ويغمر جميع المرافق، والطمأنينة على الدستور تملأ القلوب، كانت الأيدي الأثيمة تدبر في الظلام جريمة نكراء، وهي اغتيال حياة السردار. وقد نفذت فعلا تلك الفكرة الإجرامية الشنيعة التي عدتها الوزارة موجهة إليها بالذات، فلم تدخر وسعا في تعرف أشخاص المجرمين للضرب على تلك الأيدي الآثمة.
ولكن الحكومة الإنكليزية وجدت في ذلك الحادث المستنكر الفرصة التي كانت ترتقبها لمهاجمة الحكم النيابي، والقضاء على الدستور الذي تبين لها أنه جاء على عكس ما كانت تريده أن يجيء، أداة مناعة للوفد وسلطانه، لا أداة تفرقة للإجماع وتوهين بنيانه. فتقدم لورد اللنبي بإنذاره المعروف، إلى سعد في مكتبه، في عديد من رماحه وحرابه؛ فتلقاه سعد بذلك التهكم المرير، وذلك الجلد الرهيب الذي عرف عنه في أخطر المواقف وأعظم الخطوب.
وأردف اللنبي ذلك الإنذار بمطالب مرهقة، فلم تقبل منها الوزارة دفعا للعدوان إلا ما لم يكن له مساس بحرمة البلاد وسيادتها، ولكن السلطة الغاشمة راحت تبالغ في الأعنات، وتسرف في الاشتطاط والإرهاق، فلم يتردد سعد في اعتزال الحكم حرصا على مصير البلاد، إذ تبين أن المراد من ذلك كله هو إقصاؤه منه، وتنحيته عنه؛ فاختار أخف الضررين ليسلم مستقبل البلاد من مجهول الخطر، ومبيت الكيد، ومضمر البلاء.
وقد تبين فيما بعد أن الإنكليز كانوا قد أعدوا من قبل ذلك الإنذار لهذا الغرض بالذات، وأخذوا يتحينون الفرص لاستخدامه، حتى كان مصرع السردار الناهزة المرتقبة، فاقتنصوها اقتناصا.
وما فضح المصريون هذا السر وإنما فضحه محرر «التيمس» في رسالته التي وجهها إلى مجلة «العالم الإسلامي» في باريس؛ بل فضحه لورد اللنبي نفسه في حديث له مع مسيو بيرو بقوله: «إن الإنذار كان عند مقتل السردار معدا في مكتبي لأقدمه عند الفرصة السانحة.»
ويومئذ خلا الجو للرجعية، فساد الإرهاب، وحلت بالبلاد «نكسة» مروعة، وتولت الحكم الوزارة الزيورية، فلم تقو بادي الرأي على مقاومة البرلمان فأجلت انعقاده. وحين بدأ الشيوخ والنواب يفزعون إلى العرش في سبيل إنقاذ الدستور من العبث الظاهر في ذلك التأجيل، عمدت الوزارة إلى حل المجلس، وشرعت تمهد لانتخابات جديدة على مزيج من قانون الانتخاب القديم والقانون الجديد، ولم تحترم ذلك القانون المباشر الذي كادت تتم إجراءات تنفيذه.
وقد وصف مصطفى تلك الفترة الرجعية بقوله في بعض مراجعاته للماضي وأدواره المتعاقبة:
لقد فعلت الوزارة الزيورية ذلك أملا في أن يأتي مجلس مزيف، لا يعبر عن إرادة البلاد. وقد ظهر بعد أن هذا ظن خاطئ وتعلق بالأوهام.
وفي ذلك الحين أنشئ حزب «الاتحاد» في غفلة الأيام، ونشأ في مهاد الدسائس ليكون سنادا للرجعية، واتخذ من ضعف الحكومة واستسلامها وسائل بغيضة لسوق الناس إليه، وابتزاز الأموال، لكي يقوم الحزب، ويظهر جريدته، ولكن عوامل فنائه كانت تتبعه وتحيط به، فما كان لهذا الحزب من حقيقة إلا في أخيلة عباد المناصب وعبيد الشهوات.
وبلغ الفساد يومئذ بهم مبلغا جرأهم على إجراء الانتخابات في جو من الإرهاب والوعيد، واستخدموا جميع أساليب التضليل والاستهواء، ولكن جاءت النتيجة مكذبة لآمالهم، مبددة لأحلامهم؛ إذ كانت الأغلبية للوفد، وانتخب سعد رئيسا لمجلس النواب، فأظهر من فوق كرسي الرياسة سماحة خلق وكريم صفح، حيث شكر للمجلس انتخابه لرياسته، وأعلن أنه لا يمثل في موضعه هذا حزبا ولا جماعة، ولكنه يمثل الدستور ويرعى القانون. فكان جوابهم أنهم جاءوا عشية اليوم ذاته يحملون مرسوما بحل المجلس، وكانت السابقة الأولى في التأجيل والحل مشجعة على الحل الثاني ضد أحكام الدستور.
لقد حاولت الرجعية المختنقة أن تمد في أنفاسها الخبيثة، وتطيل في حياتها الشريرة؛ فنشرت في البلاد جوا غامرا تطرق أثره إلى الأخلاق يضعفها، وإلى الروابط الاجتماعية يفرقها، وإلى ثقة الناس بعضهم ببعض يزعزعها، ولكن الله غالب على أمره، وفي الأمة إباء لا يبقى على الضيم، ولا يصبر على الهوان، فبدأت النفوس الوطنية يقرب ما بينها، وراحت الأيدي الطاهرة تتصافح، وبدأ «الائتلاف» ينشر أروقته، حتى إذا توثقت عراه، لم يبق إلا العمل على مكافحة هذه الشرور، ودفع تلك المساوئ التي آذت الأمة في مظهر حياتها أبلغ الإيذاء.
وحل عيد الجهاد الوطني في سنة 1925 - الثالث عشر من نوفمبر - والرجعيون يحاولون بمكرهم السيئ أن يصدوا الأمة عن الاحتفال به في النادي السعدي، ومن قبلهم لم تستطع السلطات العسكرية البريطانية أن تتعرض لذلك العيد، وهي في أشد قسوتها، ولكن غرور «الاتحاديين» زين لهم أن لا شيء يعجزهم في هذه البلاد، وما هم بمعجزين في الأرض ولا في السماء.
عمدوا إلى بيت الأمة يحاصرونه، وإلى النادي السعدي يدفعون أعضاءه من دخوله؛ فكانت مأساة، انتهت بدخول بعض الأعضاء إلى النادي والاحتفال بهذا العيد وأنف الطيش راغم.
وكانت تلك عظة لهم لو انتفعوا بالعظات، ولكنهم رجعوا إلى طبيعتهم فأحالوا البرلمان قلعة عسكرية، وجرحوا عزة الجنود؛ فبعد أن كانت وظيفتهم الدفاع عن شرف البلاد، طلبوا إليهم أن يطعنوا البلاد في حياتها الدستورية، ويحولوا بين النواب وبين دارهم، ولكن هذا التصرف لم يقابل بغير الاحتقار، فاجتمع البرلمان اجتماعه الاعتيادي في فندق الكونتننتال، واتخذ قرارات حكيمة حكم فيها على الوزارة الزيورية بالسقوط، وأعلن أنها ثائرة على الدستور.
وقد كتب سعد يومئذ في إحدى صحف الوفد بحثا ضافيا بسبيل الثورة الرجعية على الدستور، كان له أكبر وقع في البلاد. ونحن ناشرون هنا فقرة منه:
كيف يسوغ في أمة دستورية ارتكاب كل هذه الجرائم، ثم يبنى على أساسها تشريع يحلها، ويثبت أركانها، ويضاف إليه ما يعزز جانبها، ويمتد به شرها، من شروط تقلل عدد الناخبين وتفتح أبوابا واسعة أمام الفاسدين من الحكم وذوي الغايات والأهواء من الأفراد؟!
على أن العكس هو الذي يلزم كل حكومة مخلصة لبلادها أن تتخذه وتحرص عليه، تفاديا من تلك الأضرار التي أنت وتئن البلاد منها، ولا تؤدي إذا استمرت إلا إلى البوار وسوء المصير.
غير أن الوزراء لا يبالون بها لاستشعارهم بسند القوة، ولأنهم يزعمون أن الأمة من الجهل والغباوة سريعة التأثر بتغرير الخادعين، سهلة الانقياد لتضليل المضللين، فإرخاء العنان في الانتخاب لها يؤدي بها إلى أن تختار للنيابة عنها غير من يصلحون لها من الأكفاء المفكرين! وهم يحسبون أنفسهم طبعا في مقدمة هؤلاء! وهو زعم، إن صح فهمه من الأجنبي القوي ليبرر معارضته في تمتع الأمة باستقلالها، فلا يفهم صدوره من بعض أبنائها فضلا عن وزرائها المسئولين؛ لأنه قضاء على أمتهم باستحقاق الذل القائم، والاستعباد الدائم!
وهم لا يمكنهم أن يكونوا أعزة في بلاد ذليلة، ولا أحرارا في قوم مستعبدين، مهما سمت بهم الألقاب والرتب! على أن الأمة المصرية ليست بغبية كما زعموا، ولا يتفوق غيرها عليها من الأمم في الذكاء الفطري والنباهة الطبيعية، بل ربما فاق الفلاحون منها أمثالهم في البلاد المتمتعة بالدستور وحسن النظام، وما الفرق إلا أن بلادنا تحتلها قوة أجنبية تفسد بعض ضمائر الضعفاء فيها، وتحملهم على أن يتبجحوا بمثل هذا الزعم ليتمتعوا بسند القوة على حساب الإضرار بها؟! إن جريمة الأمة عند هؤلاء هي أنها ضنت عليهم بثقتها، وهم يحسبون أنهم في مقدمة أبنائها سعة فضل، وغزارة علم، ومكارم أخلاق!! فهم لا يغتفرون لها هذه الجريمة، ويفرغون جميع الوسائل في الانتقام منها واختلاس ثقتها! لهذا ابتكروا الشروط التي تقلل عدد الناخبين وتحصرهم في كمية ضئيلة، ووسعوا أمام الإدارة أبواب التأثير فيهم حتى يضمنوا لأنفسهم وأنصارهم مراكز النيابة والحكم!
ولكن الرجعية أبت إلا أن تمضي في غلوائها، وتسدر في غيها، فأصدرت في العاشر من ديسمبر سنة 1925 قانون انتخاب يقسم الأمة طرائق وطبقات، ولكن ذلك القانون كان مقضيا عليه بالفشل، فقد أبى العمد أن يشتركوا في تنفيذه، واجتمع الشيوخ والنواب في النادي السعدي وبعثوا بقرارهم إلى الحكومة مهيبين بها أن تكف عن تنفيذ هذا القانون الذي أصدرته ، وتطبق القانون الدستوري الذي أقره الشعب بمحض مشيئته.
وكان ذلك العام المشئوم أيضا بجانب هذه المجاذبة العنيفة بين الوفد ممثل الأمة وقائدها الأمين، وبين عصابة الرجعية التي أرادت القضاء على الدستور وهدم قواعده، عام اتهامات وتحقيقات واعتقالات ومحاكمات بسبيل مصرع السردار؛ فقبض على شفيق منصور وزملائه. وقامت وراء جدران السجن مأساة نكراء لحمل ذلك المخلوق الرعديد الذي ذهب الخوف من الموت بلبه، على اتهام الأبرياء للإيقاع بالوفد ونسبة الإجرام إليه تلويثا لسمعته، وإرهابا له لينثني عن جهاده؛ حتى لقد قالت «الديلي ميل» في ذلك الحين بوجوب إلقاء القبض على سعد وزعماء حزبه «وحبسهم عشرة أيام، فإن لم يظهر الفاعلون أعدموا رميا بالرصاص»! كما بعث مراسل الديلي تلغراف إلى صحيفته في يناير سنة 1925 ببرقية يقول فيها: «إن الإنكليز يريدون الرءوس الكبيرة، ولا يكتفون برأسي شفيق منصور ومحمود إسماعيل ...!»
ولذلك قبضوا بادئ الأمر على نفر من الوفديين، ومن بينهم الأستاذ محمود فهمي النقراشي، وكان وكيلا لوزارة الداخلية في وزارة الشعب، على أن التحقيق في جميع أدواره أظهر الوفديين أبرياء من الجريمة، فأخلي سبيلهم جميعا بعد أن لبث الأستاذ النقراشي في السجن الانفرادي ثلاثة أشهر سويا.
ولكن شهوة الثأر من الوفد أو حب القضاء عليه ما زال يغري شفيق منصور، مستغلا رهبته من الموت وتطلعه إلى النجاة بأي ثمن من الأثمان، حتى يتهم الوفديين بالاشتراك في حوادث الاغتيال الماضية؛ فأعيد القبض على النقراشي، كما قبض على الدكتور أحمد ماهر الذي كان وزيرا للمعارف في وزارة الشعب. وكان القبض عليهما في الحادي والعشرين من شهر مايو سنة 1925 بالتهمة الجديدة التي استخلصت من شفيق منصور لقاء وعد له بالنجاة من الإعدام؛ فقد ظهرت براءتهما في قضية السردار، ولكنهما لم يعلنا بالاتهام الجديد، وإنما ألقيا في غيابة السجن ثمانية أشهر دون أن يعلما شيئا عن التحقيقات التي كانت تجري سرا وفي غير مواجهتهما. ولم يسمح لهما ولا للمحامين عنهما بالاطلاع على شيء منها، حتى فوجئنا بتقرير الاتهام في السابع من يناير سنة 1926، وهو يقضي باتهامهما بالاشتراك في إحدى عشرة حادثة ارتكبت من عهد الثورة إلى قبيل المصرع الأخير.
وكان مصطفى النحاس قد عاود المحاماة ورجع إلى مكتبه في شارع المدابغ، عقب استقالة الوزارة الشعبية، وإن ظل مكانه في الوفد ثابتا بجانب سعد، عونا له على اجتياز المحنة، والدفاع عن الدستور بأقصى قوى النفس، وأشد رباطة المصابرين، وإن كان بعض الذين لزموا سعدا من قبل قد فزعوا لياذا هاربين من مواضعهم بجانبه خوفا وطمعا، وانقلبوا على أعقابهم إشفاقا من بطش الباطشين.
ثبت مصطفى على وفائه؛ لأن الوفاء أصيل فيه، ووقف شجاعا أبيا أمام الخطب الداهم؛ لأن الشجاعة من طبعه والإباء لازمة من لوازمه، أخا جلاد يأنس إليه، ومجاهدا متفتح النفس للجهاد يقبل جذلان عليه، ولا تغريه مخافة مكروه بالرجوع.
ولشد ما كان غضبه، وألمه، وثورة نفسه، إذ قبض على صديقيه النقراشي وماهر، وسيقا إلى المحاكمة، فتلك أيام رهيبة محزنة فاجعة قضاها مصطفى النحاس باشا يدعو الله بالعشي والآصال أن يهيئ له سبيل إنقاذهما من صعدة المشنقة، ويمكن له من غسل هذه التهمة النكراء التي حاول خصوم الوفد نسبتها إليه.
لقد اجتمع يومئذ في صدر مصطفى النحاس إحساس المجاهد الوطني الذي هوجم بأكذب التهم في حق وطنيته، وحيكت الدسيسة لتلويث سمعته، ونسجت المكيدة للقضاء على قوته المعنوية وسلطانه الروحي في أمته؛ وشعور الصديق الوفي الصافي القلب الطاهر السريرة، يرى أخوين له مهددين بالموت، موشكين على وقفة الإعدام؛ وعاطفة المحامي الكبير الذي يبحث عن الحق ويرتاد له، ويذود عنه بكل قواه وبراعته ومنطقه.
بهذه العوامل النفسية المجتمعة أكب مصطفى على أوراق القضية يدرسها دراسة المدقق المتفحص، مشتركا في تنظيم الدفاع مع أربعة من زملائه، وهم مرقص حنا باشا، ومحمد نجيب الغرابلي باشا، والأستاذ مكرم عبيد، والأستاذ أحمد بك لطفي، موغلا في قلب القضية، لا يغادر صغيرة ولا دقيقة إلا فحصها أدق الفحص، وبحثها أعمق البحث، والتمس للتدليل على صحتها أو كذبها كل ما في مكنته من تدليل وتبرير.
وحل موعد نظر القضية أمام قاضي الإحالة في الحادي والثلاثين من يناير سنة 1926، فتجلى مصطفى بأروع نواحيه الثلاث محاميا، ووطنيا وصديقا وفيا، وراح صوت المحامي المنطيق الذواد عن الحق يدوي في ساحة القضاء دويا، كما انبعث إيمان الوطني الأبي رائعا جليلا يغمر أفق العدالة غمرا، ويشع على الظلام فيحيله نورا، وانطلق صوت الصديق الحاني والصاحب البر، والولي الحميم، حنانا متهدجا باكيا.
لقد كانت تلك تبعة خطيرة إلى أبعد ما يكون الخطر، تبعة رهيبة تلك التي راح يحملها مصطفى وزملاؤه المحامون المشتركون في هيئة الدفاع معه، فإن أخوين له على شرف من الموت، وفي مقترب من المشنقة، فإذا لم ينتهيا من المحاكمة بالنجاة، وإذا لم يعن الدفاع على البراءة، قضى عليهما، وتلوثت سمعة الوفد، وكسب خصومه أخطر قضية ضده، وذهب أمره فرطا، وكان المصير مجهولا، والعاقبة شرا مستطيرا.
وكانت خطورة التبعة تقتضي بلا ريب آخر جهد الحق والمنطق، وأقصى براعة المحامي القوي النفاذ البصر المدقق، وأبعد حد من الشجاعة والصبر والسكينة في البحث عن أدلة النفي، ومكان الاصطناع من التهمة، ومواضع الضعف في القضية، ومآتي الهجوم على الخصوم، وإبراز الحقائق من وسط غمرة الأكاذيب.
وفي هذا الموطن برز مصطفى النحاس المحامي الذي يرى المحاماة فنا، ويعتقد أنه رسول الحق، ووسيط العدالة، تحفزه بجانب ذلك كله عاطفة الصديق، ووفاء الوفي، ووطنية الوطني، وتبعثه كرامة الفكرة التي يعتنقها، وحرمة العقيدة التي يدين بها؛ فإذا هو أمام ساحة القضاء أروع محام في أخطر قضية.
وقد أدلى بدفاع مجيد خليق حقا بالخلود؛ لأنه استوفى في كافة صفات المرافعة البليغة الصحيحة المدققة الجريئة في أشرف ما تكون الجرأة، الجرأة للحق في غير مبالاة بعد ذلك بأي اعتبار.
وما كان في الحق أروع وقفته! إذ تناول تقريرا من التقارير التي كتبها شفيق منصور، فأثبت بالأدلة الملموسة أن النيابة كانت قد اطلعت عليه قبل أن يتم وضعه؛ ولكنها حين سئلت في ذلك عللته بأنه كان قد جاءها خلوا من التاريخ فردته لكي يؤرخ، وأن هذا التعليل غير صحيح، فقد صاح مصطفى بأعلى صوته في هذا الموضع من مرافعته مطالبا النيابة بتفسير صحيح، فأسقط في يدها، وقالت: «فسروا أنتم»! وعند ذلك راح مصطفى بمنتهى ما تكون جرأة المدافع عن الحق ينادي بصوته الداوي قائلا: ... تريد النيابة أن أفسر، إذن فلأفسر! وتفسيري أن هذه التقارير تطبخ بمعرفتكم جميعا ... أفسر أكثر من ذلك، وهو أن هذه التقارير ترتب في معمل مخصوص جزءا جزءا، وهذا المعمل تطلع النيابة على ما حضره جزءا جزءا، وأن النيابة في يوم 15 يونيو سنة 1925 قبل أن يتم ترتيب التقرير بجميع أجزائه كانت قد اطلعت على الجزء الخاص بحادثة ... والذي اتفق على أن يكتب باعتبار أنه صادر من شفيق منصور؛ ولهذا أجرت تحقيقا عن هذا الجزء من التقرير في يوم 15 يونيو، قبل أن يتم وضع جميع الأجزاء الخاصة به في المعمل المخصوص، وقبل أن تعطى إلى شفيق منصور لينسخها ويوقع عليها، وقبل أن ترسل رسميا من الضابط الحارس إلى الحكمدار، ومنه إلى النائب العام ... اكتبوا هذا عني، وانشروه على الملأ، وقولوا: إني أتهم. «إني أتهم علنا، وفي مجلس القضاء، النيابة العمومية بالاشتراك مع رجال السلطات في التدبير لاغتيال ماهر والنقراشي».
والدليل ثابت مادي لا يمكن النيابة أن تخرج منه بأي حال من الأحوال ...!
هذا هو الصوت الرهيب الذي دوى في ساحة العدالة على الملأ من النظارة والحاضرين، فأكبرته النفوس، واهتزت له الأرواح، صوت محام شجاع في الحق، شديد على الباطل، رفيع الجرأة، غير هياب ولا منزو من قولة الصدق، مهما كان في قولها من خطر أو عقاب.
وقد سكتت النيابة أمام ذلك الصوت الداوي ولم تحر جوابا؛ فكان صمتها اعترافا، وسكوتها قبولا لهذه التهمة الخطيرة. وظلت النيابة بعد ذلك طيلة المرافعة كلها ملتزمة الصمت، بينما ذهب هو يتناول حوادث الاغتيال مفندا اتهام صديقيه بالاشتراك فيها حادثة فحادثة، مثبتا أن النيابة لا تملك من دليل غير أقوال شفيق منصور التي أدلى بها بعد الحكم عليه بالإعدام؛ أي بعد أن أوشك أن يكون جثة هامدة، وكان الدفاع كلما انتهى من تفنيد الاتهام في حادثة حادثة، راح يتحدى النيابة بقوة وشجاعة، ويسألها الجواب على تحديه فلا تجد جوابا ولا تفوه بقول؛ فكان ينظر إلى القاضي مهيبا به أنه يربأ به أن يعتد بذلك الاتهام.
وهكذا جعل مصطفى يهدم كل تهمة ثم يقول: «وهل عند النيابة شيء آخر ... لا جواب! إذن ليس لديها سوى كلام شفيق منصور الذي يراد إرسال المتهمين به إلى المشنقة، ولكنا نلوذ بالله وبعدل القضاء.»
ومن قوة الملاحظة التي امتازت بها تلك المرافعة الخالدة ما ختم به مصطفى النحاس باشا أدلته على باطل ذلك الاتهام قبل الكلمة الأخيرة، وفي ذلك يقول:
هذا هو تفسيري للحادثة الشنيعة التي اشتركت النيابة في عملها والتستر عليها، وفي يدي الآن دليل مادي جديد على هذا التدبير في خارج السجن، وهو التقرير ذاته الذي تسلمته الآن من حضرة وكيل النيابة - سيد مصطفى بك يومئذ - فإن أوراق هذا التقرير إلى الصحيفة الثانية والثلاثين منه لم تكن من الأوراق المستعملة في السجن، بل من أوراق المحاكم. أما ورقة السجن فهي الصحيفة الثالثة والثلاثون، إذ هي وحدها من نوع الورق الموجود في السجن، ومن النوع الذي أعطي لماهر والنقراشي ليكتبا عليه ملاحظاتهما على أوراق التحقيق، فالتقرير إذن كتب في إحدى غرف النيابة، وعلى أوراق المحاكم، عدا الصحيفة الأخيرة منه، وبهذا التدبير يؤخذ بالأبرياء إلى محكمة الجنايات!
وقد اقتنع القاضي بصحة هذه الملاحظة.
والتفت النحاس باشا بعد ذلك إلى منصة القضاء فقال كلمته الأخيرة وهي: «نحمد الله تعالى أن مثلنا أمامكم، فظهرت الحقائق، وانكشف المستور من عمل النيابة والسلطات في هذه القضية.
هذه يا حضرة القاضي هي تدبيراتهم على اغتيال هذه الأرواح الطاهرة الغالية، وليس لنا ملجأ إلا عدل القضاء النزيه الذي لا تدنسه المؤثرات، ولا تدفعه الشهوات، ونحن على يقين بأن ضميرك يا حضرة القاضي، وقد تجلت الحقيقة أمامك بما لا يدع مجالا لأي لبس فيها، لن يسمح لك ضميرك الذي لا يطلع عليه إلا الله العزيز المنتقم الجبار، أن تحيلنا إلى محكمة الجنايات لتكون وقودا لنيران هذه المؤامرات. وأطلب إلى الله - جل وعلا - أن يثبتك في إيمانك ، وأن يبعد عنك هذه المؤثرات الأثيمة، وأدعوه تعالى أن يمتعك بمتعة القناعة، فتقضي بينك وبين الله بالحق الذي تراه ...»
هذا هو القاضي القديم الذي يعرف كيف يناجي قلوب القضاة، ويفهم ما يجول في نفوسهم، فيحدثهم عن «متعة القناعة»؛ لأنه أخذ حياته بها، ولزمها في مجلس القضاء وأطاعها، فكانت وقاء له من المؤثرات، ومناعة له من دوافع الشهوات، وسنادا له في نزاهة الأحكام.
وقد أحيلت القضية إلى محكمة الجنايات، وكان رئيس الدائرة التي نظرتها هو مستر «كرشو»، فأبلى الدفاع أمامها أحسن البلاء، وحطم الاتهام كل تحطيم، وبخاصة في مناقشة شهود الإثبات، ووقف في الحق مواقف مشرفة مجيدة في تاريخ المحاماة.
وقد قضت المحكمة ببراءة ماهر والنقراشي في الخامس والعشرين من مايو سنة 1926، وإن أبي مستر «كرشو» إلا أن يفشي سر المداولات، فذهب يشكو إلى لورد لويد تغلب زميليه عليه في هذه التبرئة التي لا يعتقد صحتها، وبالأخص من ناحية الدكتور أحمد ماهر، وكان ذلك مسلكا شاذا معيبا من قاض أولى به أن يصون حرمة المكان الذي يجلس فيه. وجاء المسلك الذي اتبعه لورد لويد تعقيبا على هذه الشكاة الخارجة على القانون أسوأ وأشنع؛ إذ راح يتدخل في استقلال القضاء المصري تدخلا جريئا جافيا خارقا لكل حرمة أو سياج، ولكن الصديقين العزيزين والمجاهدين الوفيين ماهر والنقراشي قد برئا من التهمة بقضاء محكمة عليا في البلاد، فلم تكن ثم قوة في العالم تستطيع أن تحتجزهما في السجن، أو تبطل حكم براءتهما من الوجود.
خرج الصديقان من المحبس وهما يعلمان أن الله تعالى قد أنقذ حياتهما على يد مصطفى النحاس صاحبهما الوفي النباع العاطفة، وأخيهما في الجهاد، والمحامي المدره المنطيق الذواد عن الحق، الذي سهر الليالي الطوال، وأكب على البحث المجهد والدراسة المتواصلة، وسط ملفات ضخمة وأوراق ركام؛ ليستخلص من خلالها الحجج الناطقة بتلك البراءة المشرفة التي نجت عنقيهما من حبل المشنقة، وأنقذت شرف الوفد من أشنع اتهام.
ومن ذلك الحين راحت صداقة هؤلاء الإخوان الثلاثة فوق كل أقيسة المودة في العالم، وأسمى من كل ما تعرف الدنيا من حدود الوفاء؛ لأنه من جهتهما الحب المدين بالحياة، ومن جهته هو الوفاء الذي باركته السماء.
ألا إن بين هؤلاء الأصدقاء لروابط ليس كمثلها في أواصر المودة بين الصحب والخلطاء، روابط روحية، من دم حفظ، وعنق سلم من يد الجلاد، وحياة كان لها الموت بالمرصاد، ويوم يقول ماهر مخاطبا مصطفى: «يا صديقي وزعيمي»! يذهب الخاطر به إلى وقفته في ساحة القضاء، في خطر من الموت والفناء، وقد وقف هذا الصديق الزعيم في جرأة الحق، وبكاء الحنان، وألم الوجدان، والوفاء النادر في الزمان، يضع كل قلبه ودمه وعصبه في مرافعته التاريخية، ودفاعه الجليل المجيد؛ لينقذه هو وصاحبه من صعدة سلم الإعدام.
إن هذه لذكرى خالدة، يحييها أبدا عرفان الجميل، ويغذيها أبدا الإقرار بالصنيع، واليد التي لا تنسى لمصطفى النحاس على الزمان ...
وكان الجو السياسي يومئذ قد تهيأ للائتلاف بين الوفد والأحزاب عقب اجتماع البرلمان في فندق «الكونتننتال»، فانعقد المؤتمر الوطني في التاسع من شهر فبراير سنة 1926 بدار محمد محمود باشا لبحث الموقف والتشاور في علاج صالح له، وكان مظهره يصور أروع صور الائتلاف، وأرفع معاني الوحدة والتئام الصفوف، واجتماع الكتلة وتناسق البنيان.
وأمام هذا المظهر المرهوب والوحدة الرائعة، لم يكن من الوزارة الزيورية إلا أن نزلت على حكم الأمة، فأعلن في الاجتماع أن قانون الانتخاب المباشر هو الذي سوف يعمل به، فأحبطت كتلة الائتلاف كيد الكائدين.
وجرت الانتخابات الجديدة في ظل الائتلاف، وما كادت تظهر نتائجها الساطعة حتى تجاوبت بها الأصداء، فاهتزت كراسي الوزراء من تحتهم، وتحطمت آمالهم، فأزيحوا عن الحكم، وزلزلوا زلزالا شديدا.
وكان ذلك انتصارا باهرا لسعد في معركة الدستور، ومكافحة الرجعية وصنائعها الآثمين.
ولكن ظهرت يومئذ أزمة سياسية خطيرة يراد منها الانحراف عن أحكام الدستور في أخص خواصه، وهو أساس الحكم؛ إذ لعب الإنكليز لعبة ماكرة فطن سعد إليها، ولكنه أحب أن يتجاهلها؛ لأن الاصطدام بها كان يخشى منه أن يدك صرح الائتلاف، ولم يكد البناءون يفرغون من بنائه، وكانت تلك اللعبة ترمي إلى إزاحة سعد عن تولي الحكم، مع أنه حقه الدستوري بصفته زعيم الأكثرية؛ فأشاروا إلى تقليده لعدلي باشا ليقوم إحراج بين الرجلين، ولكن سعدا كان أحكم من أن يقع في تلك اللعبة الماكرة، فأعلن أن حالته الصحية لا تمكنه من حمل أعباء الحكم ومقاليده؛ أما عدلي فقد تردد طويلا قبل القبول، وتناوبته الوساوس والمخاوف من أن يكون توليه الحكم في هذا الظرف الدقيق محفوفا بالخطر، ولم تهدأ نفسه حتى جاهر سعد بتأييده، ووعده بشد أزره في رياسته لمجلس النواب إذا هو تولى رياسة الوزارة؛ فتشجع عدلي باشا فقبل دعوة الملك له لتشكيل الوزارة الجديدة، وانتهت الأزمة بتلك اللعبة غير الظاهرة.
ولم يدخل مصطفى النحاس باشا وزارة الائتلاف، وبقي بجانب سعد فوق منصة الرياسة في مجلس النواب وكيلا له. وقد كادت تقع بسببه هو كذلك أزمة ثانية، إذ حارب الإنكليز دخوله الوزارة وقاوموه مقاومة ملحة، وهم يحسبون لوطنيته الصلبة وشخصيته القوية يومئذ أكبر الحساب، كأنما كانوا يتوقعون هم كذلك يومئذ أن هذا الرجل هو البطل المرتقب، والزعيم العتيد، والخصم العنيف الذي تعده الأقدار لهم على الأيام.
وفي ذلك يقول لورد لويد في كتابه «مصر من عهد كرومر»: «ولكن بقيت مسألة أخرى محل نزاع، وموضع خلاف، وكانت اللحظة الراهنة مناسبة للوصول إلى قرار يكفل سكون الأفق من ناحيتها في المستقبل، وذلك أن سعدا طلب بإلحاح إدخال «نائبه» أو وكيله مصطفى النحاس باشا هيئة الوزارة الجديدة، ولكن النحاس باشا كان قد لزم دائما خطة العداء الذي لا هوادة فيه نحو بريطانيا العظمى، فكان لذلك من الجلي الواضح أن شيئا كثيرا من الخير أو النتيجة الحسنة التي تمت أخيرا سيذهب أدراج الرياح إذا هو انضم إلى الوزارة؛ إذ لا ريب في أنه سيعمل ضد التفاهم؛ لأنه لم يكن قد تعلم بعد أن العداء لبريطانيا لا يتفق مع تقدم مصر إلى الأمام ...
ولذلك حين أعلن تشكيل الوزارة في السابع من يونيو لم يكن اسمه ضمن الأعضاء الذين تألفت منهم ...»
لقد كان الإنجليز يخشون مصطفى قبل الزعامة ، ويتوجسون منه خيفة، ويدركون أن وطنيته الصادقة لا تعرف تهاونا، ولا تجنح إلى تفريط أو تساهل؛ فحاربوه من البداية كما رأيت، وأقاموا له بالمرصاد، وجلسوا إلى المرقب يعدون عليه الحركات والسكنات، ويشفقون من نمو سلطانه، وبروز مكانه، ويتخوفون من غده المنتظر.
ولم يكن دخول الوزارة عند مصطفى بالأمر الذي يكرثه، حتى يكون منعه الدخول مؤلما لنفسه؛ فهو المجاهد لعقيدته أينما يذهب، وفي أي ميدان يجول، وعلى أية ربوة يكافح، فلا عجب إذا لم يلق بالا إلى الاشتراك في الوزارة، ورضي بمجلسه بجانب سعد تحت القبة المقدسة.
وكان العامل الذي بعث سعدا على تجاهل تلك اللعبة الماكرة التي أريدت بها زحزحته عن مقعد الحكم، هو بذاته الباعث الذي سرى في نفس مصطفى إزاء العضوية في الوزارة؛ فقد كان يريد أن ينجح الائتلاف ويخرج ناجيا من كل حائل؛ لأنه كان أحد السعاة فيه، والمشاة به، والعاملين عليه؛ حتى لقد قيل يومئذ حين تحدث محمد محمود باشا إلى فتح الله بركات باشا في فكرة الائتلاف وطرح الشقاق ووحدة الكلمة: إن المرحوم فتح الله ذهب إلى سعد فأبلغه حديث صاحبه، ولكن سعدا فضل أن يستشير مصطفى أولا؛ فلما رحب مصطفى بالفكرة عمد سعد في الحال إلى التنفيذ.
ولا ريب في أن ذلك الائتلاف الذي تم يومئذ أنقذ الدستور والحكم النيابي، ولكن كان نظر الوفد إليه غير نظر الإنكليز؛ فقد كان الوفد يرجو من ورائه اجتذاب الأقلية إلى الرضا بمبادئ الدستور ورياضة النفس على قبول قواعده بسبيل الحكم وولايته، حتى لا تعود السياسة البريطانية تحاول توهين الحركة القومية من طريق الاستعانة بالقليل من الكثرة الغالبة، والمد لهم في السلطان لمحاربة الكثرة، والحمل عليها بالبطش والعدوان.
ولكن الإنكليز كانوا يرون غير ذلك، وكان لورد لويد ذلك الاستعماري المسرف في استعماريته، ينظر إلى الائتلاف من ناحية استعماريته النظرة التي وضعها في كتابه بقوله بعد الحديث عن الخطر من ازدياد نفوذ القصر وتدخله في شئون الحكم، وهو الخطر الذي أراد الإنكليز أن يتحاشوه بإسقاط الوزارة السابقة: «وكانت الفرصة سانحة في ذلك السكون الذي ساد الأفق لأول مرة، عقب الأشهر العصيبة الأخيرة؛ لكي يستوي المرء في مجلسه، ويروح يراجع ما فعله، ويعود بالذاكرة مستعرضا ما كان منه، ويقدر الحوادث المختلفة التي جرت في بضعة الأشهر الماضية قدرها الصحيح ...
لقد لاح لي بعد هذه المراجعة أن هناك ما يدعو إلى اليقين بأن السياسة التي اتبعتها يومئذ تبرر ذاتها كل التبرير، وإن لم يكن بالطبع يتيسر تجاهل الحقيقة في أمر سعد زغلول، وهي أن حالته الحاضرة يحتمل أن تكون حالة عارضة لا تلبث أن تزول، فقد كانت الحكمة تقضي بأنه لا يحسن الخروج لمقابلة الشر قبل ظهوره، أو استفزازه من مكامنه.
لقد سلكنا في الواقع الطريق القويم، إذ رددنا الحكم الدستوري وعقبناه بتأليف حكومة يظفر نفوذ المعتدلين فيها، أو «أحباب الإنكليز»، «الأنجلوفيل» (Anglophile)
بالنصيب الأوفر والحصة الكبرى، كما أن الحكومة البريطانية لم تجد ثم ضرورة تدعو إلى التدخل في الإدارة المصرية، وكل ما فعلته أنا هو أنني بسطت رغباتها ونبت عنها أمام خصومها، وحين جاءوا يلتمسون نصيحتي ويبغون مشورتي لم أبخل بشيء منها عليهم بل أعطيتها جميعا، ولكني راعيت في إسدائها ألا أتجاوز بها الحد المعين بحكم التقاليد لمنصب الممثل البريطاني في مصر.»
لقد كان مركز الوفد في هذا الائتلاف على عهد سعد دقيقا، أحوج ما يكون إلى الكياسة وبراعة التناول، ولطف المسلك، حتى تنتفي وجوه انتفاع الإنكليز به، ويكون الخير منه للدستور وحده ومصير النظام النيابي ومركز الأكثرية في البلاد.
ولكن العوامل الرجعية لم تلبث عقب عيد الجهاد الوطني في تلك السنة - 1926 - أن عاودت محاربة الدستور في الخفاء ومقاومة سلطانه بالدس والكيد، والعمل على تعطيل أحكامه، تعلقا بأمل الظفر بحكم الطغيان؛ فشرعوا في إيقاظ الفتنة بين طلاب الأزهر بتحريضهم على الإضراب بمناسبة القرارات الحكيمة التي اتخذها البرلمان لإعادة مدارس القضاء الشرعي ودار العلوم والمعلمين الأولية إلى وزارة المعارف وفق القوانين الصادرة بشأنها، ولكن تلك الدسيسة قضت في المهد، وتغلبت الحكمة فانطفأت الفتنة وشيكا وحبط كيد الكائدين.
ولكن على أثر نقد هادئ في مجلس النواب غضب المرحوم عدلي باشا فقدم استقالته؛ فأسرع الرجعيون خصوم الدستور على عادتهم إلى إيقاد الفتنة مرة أخرى، متخذين من ذلك الحادث سبيلا للتجسيم والتهويل والإسراف في الطعن والافتراء، من فرط الحقد الذي يخنق الصدور، والغيظ الذي يملأ القلوب.
استقالت وزارة عدلي باشا في أبريل سنة 1927، وكان أول من اتجه إليه نظر سعد هو مصطفى النحاس باشا ليتقلد الحكم، فعرض الفكرة عليه، ولكن مصطفى رفض قبولها متشددا في رفضه، فقال سعد مفاكها: «هل تتهرب يا مصطفى من المسئولية؟» فأجاب النحاس على الفور: «وهل دولتكم تتهربون منها أيضا ...؟ لماذا لا تقبلونها يا دولة الرئيس؟! اقبلوها وأنا أدخلها معكم!»
مصطفى النحاس.
فابتسم سعد وانثنى يقول: «لك الله يا مصطفى! إنني أموت مطمئنا ...» ثم أردف بالفرنسية كلمة معناها: إنني معجب بكم!
وكانت هذه هي المرة الثانية التي لم يشترك فيها مصطفى النحاس باشا في مقاليد الحكم، وآثر البقاء في مجلس النواب، وهو في كل مرة منهما يقدم مصلحة وطنه على نفسه، ويغار على الائتلاف خشية انهيار صرحه، ويجتنب إحداث أزمة مع الإنكليز بسببه؛ وهي وطنية رفيعة أصيلة في إنكار الذات، متفانية في خير الوطن، بعيدة التفكير في مصلحة البلاد.
وما لبث أن انجلى الموقف بتكليف عبد الخالق ثروت باشا تأليف الوزارة، فأعاد جميع أعضاء الوزارة السابقة دون تغيير، ولكن طرأت في أثناء الدورة البرلمانية أزمة حادة تتصل بنظام الجيش المصري، ولم تكن في الواقع تستحق أن تتفاقم إلى الحد الذي وصلت إليه في ذلك الحين، لولا أن لورد لويد - وهو من أشد الغلاة في النزعة الاستعمارية - راح يستغل الموقف أسوأ الاستغلال، ويسترسل مع نزوعه السياسي في حركات عنيفة، ومناورات خطرة، ويرسل النذير بعد النذير.
كان كل ما في الأمر أن وزير الحربية - وهو أحمد خشبة باشا يومئذ - قد فكر في مشروع لزيادة الرديف، أو الاحتياطي المدرب، وزيادة قوة الجيش العامل، وإنشاء سلاح طيران حربي. وكان ذلك التفكير هو مجال الحكمة يومئذ وفصل الخطاب، لو أن في قصر الدوبارة رجلا بعيد مطارح البصر، معتدلا في سياسته، حكيما في مأخذه وتناوله؛ فلو أن ذلك تهيأ يومئذ وتوافر، لأمكن حل القضية المصرية، فلم تتأخر عشر سنوات طوال، قبل أن يأتي الرجل النافذ البصيرة الذي يعين على حلها من هذه الناحية بالذات، وهي مسألة الجيش ووسائل الدفاع وأساليبه، ولكن الأقدار أبت أن يستمع الإنكليز إلى عامل الحكمة في ذلك الحين، وشاءت إلا أن يستمعوا بعد عشرة أعوام منه إلى عامل الضرورة، وسياسة الظروف القاهرة؛ فكان ذلك من أغلاط السياسة الإنكليزية التي جعلت إيلافها معالجة المسائل في أحيانها دون النظر إلى بعيد، ودون التفكير في المستقبل والمصير.
وقد هاج لورد لويد يومئذ وثارت ثائرته، ولم يكن سياسيا حصيفا متزنا كما يجب أن يكون من يقلد منصبا خطيرا كمنصبه، ولكنه كان أحمق نزاعا إلى الغطرسة، جانحا إلى إظهار السطوة، سريع الهياج، مندفعا مع استعمارية مسرفة؛ فتصور الأمر خطرا جائحا، وخاله أمرا فريا، وأرسل إلى بلاده يطلب البوارج ويستقدم الأساطيل ...!
وقد بلغ من تهوره يومئذ وهياج نفسه أن اتصل بوزير فرنسا المفوض وسفير إيطاليا في مصر يسألهما مظاهرته على الموقف الشاذ الهائج الذي ينتوي أن يقفه؛ فأكدا له أنهما شخصيا وحكومتيهما على أتم الاستعداد لتأييده!
ونحن ندعه هنا يتحدث عما فعل يومئذ إزاء مسألة تمثلت له كأنها توشك أن تعرض الأرواح للخطر، وتسيل الدماء في الشوارع جارية:
ومن ثم بعثت إلى وزير الخارجية برسائل مسهبة شرحت له فيها التطورات المحتملة في الموقف، وقلت له إنني من رأيي في حالة وصول جواب غير مرض أن نوجه إلى الحكومة المصرية هذا السؤال البسيط الصريح: هل قبلتم تصريح 28 فبراير أو لا؟ فإذا كان الجواب نفيا أو يحتمل معنيين، كانت الخطوة التالية أمامنا أن نحصل من جلالة الملك على مرسوم بتعطيل البرلمان، وتأليف وزارة إدارية نعرض عليها مشروع معاهدة شاملة وافية، ونحدد لها أجل القبول، ونبين لها أن استعادة الحياة النيابية تتوقف على قبول تلك المعاهدة.
وفي الوقت نفسه بينت لوزير الخارجية الخطة التي في نيتي اتباعها في حالة حدوث اضطرابات في خلال هذه المرحلة ...
وقد أجابه وزير الخارجية البريطانية يومئذ - وكان سير أوستن تشمبرلن - بالموافقة، ولكن في شيء كثير من التحفظ، قائلا: «إن هذه المجازفات قد تكون مما لا سبيل إلى اجتنابه، ولكني أود أن أتلقى آراءكم وأحتفظ بحكمي عليها ...»
وإزاء المذكرة الجافية المتهورة التي بعث بها لورد لويد إلى الحكومة المصرية في هذا الشأن، أرسلت وزارة ثروت باشا في الثالث من شهر يونيو سنة 1927 ردا حكيما بارعا متزن الأسلوب، ولكن لورد لويد الهائج المحنق لم ير فيه مسكنا لثائرته، ولم يجد خلاله مهدئا لهياجه؛ حتى لقد هم بأن يعيد الضغط ويشدد النكير، لولا أن تلقى من رئيس الحكومة البريطانية - مستر بلدوين يومئذ - برقية فجائية يأمر فيها بأن يدع تلك «المطالب» جانبا، ويشرع في مفاوضة رسمية على الاتفاق مع مصر؛ فاشتد هياجه، وازداد حنقه، وفسدت عليه خططه المتعسفة، وتدابيره الخرقاء.
ولكنه لم يكتف بما فعل، ولم يذعن إلى ما قد طلب إليه، بل ما زال يومئذ بثروت باشا حتى حمله على تبادل مذكرات أخرى في موضوع الخلاف ذاته، وهو الإشراف على الجيش المصري، وانجلت الأزمة بالتراضي بين الفريقين.
لقد كانت أزمة الجيش إذن من صنع لويد وخرقه في السياسة، ووليدة غطرسته الاستعمارية، ولكنها انتهت بنجاة الدستور، وكان أبدا محور تهديد الإنكليز، ومدار وعيد السياسة الغاشمة التي لزمها ذلك المندوب المفتون بالسلطان.
وانتهت الدورة البرلمانية في ذلك العام بخطبة «الوداع»، أو بآخر كلام سياسي فاه به سعد العظيم. وكان المرض قد دب يومئذ إلى جسده، فراح يقول بصوت متهدج ومنطق مؤثر، ينفذ إلى أعماق القلوب: «يعز علي أن أبصر منبر الخطابة ولا أستطيع له رقيا، وأن أرى منصتين ولا أجد له صوتا فتيا.»
واستوفى سعد أجله خلال العطلة البرلمانية في الثالث والعشرين من شهر أغسطس سنة 1927، فعظمت بموته الفاجعة، وعمت به المصيبة، وفقدت الأمة زعيمها الأكبر، وقائدها المعلم، وسياسيها الواسع الحيلة، وخسر الدستور أكبر المدافعين عنه وأجرأ المناضلين.
وبويع مصطفى النحاس بالزعامة من بعده، كما أسلفنا عليك في موضعه بسبيل الحديث عن سعد وعظمته، وكان غائبا يوم منعاه، فكان اسم مصطفى في الخواطر للمبايعة وعلى الشفاه، ولكنه عقب قدومه من الخارج وعرض رياسة الوفد عليه، رفضها بتاتا على شدة إلحاح صحبه عليه، حتى لقد جعل يقول: «هاتوا رئيسا من بينكم وأنا أخدم القضية بجانبه كما خدمت سعدا من قبل، ودعوني في موضعي كما أنا، سكرتيرا للوفد!»
ولما اشتد رفضه دعته السيدة الجليلة أم المصريين، وألحت عليه هي كذلك في قبول رياسة الوفد، حتى لقد جاء في سياق حديثها إليه: «هل تريد أن أرأس أنا الوفد؟!» وراحت تذكره بحب فقيدها العظيم له وثقته به وركونه إليه. وغلبها الدمع فبكت، وبكى مصطفى من شدة التأثر، ولم يجد سبيلا أمامه غير القبول والإذعان.
ولم يلبث مصطفى أن راع في موضعه، وجل في مكانه، وأثبت استحقاقه الطبيعي لمحله الخطير، ومركزه الرهيب، حتى لقد شهده أحد مديري الأقاليم وهو يخطب عقب مبايعته بالزعامة فدار بعينه إلى من حوله قائلا: «لقد خلق مصطفى باشا خلقا جديدا! أين هذه الحكمة وأين هذه الرزانة وبعد النظر مما عرفناه عن النحاس رجل الثورة المتوثب الطافر حماسة، المشتعل نارا؟!»
وفي الحق لقد استحال مصطفى يومئذ رجلا جديدا، في جلاله وهيبته وروعة سمته، وإن ظل مع ذلك منبسط الصدر، رافع الرأس، ثابت الخطو، صورة ماثلة لمبلغ اطمئنان الضمير، والثقة بالنفس، والاعتزاز بحب الشعب ورضوانه.
وكان الملك فؤاد في ذلك الحين يطوف عواصم أوروبا زائرا في رحلة مستطيلة، واقترنت رحلته بمحادثات جرت بين ثروت باشا رئيس الوزراء وسير أوستن تشمبرلن بشأن المسألة المصرية في لندن؛ فلما نعي إليه سعد بادر بالعودة إلى البلاد.
وقد ظل الدستور بعد غياب سعد غرضا لسهام الرجعيين، وبقي الحكم النيابي إزاءهم الخصم المبين، فكان موقف مصطفى دقيقا خطيرا بالغ الخطر؛ لأنه الموطن النفس على حراسته، المتجشم الأخطار جميعا في سبيل الذياد عنه، والدفاع عن حياته، والحرص على قداسته، مستمدا لذلك من قوة الأمة التي أحاطته بسياج من أرواح أبنائها، وأسكنته القلوب، وارتضته أساسا للحكم لا تبغي عنه حولا ...
ولقد ظن خصوم الأمة من غاصبي حريتها واستقلالها، وأعوان الغاصب وأهل مودته، أن موت سعد قد هيأ السبيل أمامهم للكيد لها، والائتمار بوفدها، وتوهين إجماعها؛ فأعدت العناية الإلهية لهذه الأمة ذلك الرجل الصادق، والزعيم المختار، والصفي لحمل الرسالة؛ ليجعل سعيهم في تضليل، ويرد كيدهم في النحور، ويذهب بدسهم كل مذهب، وينتصر عليهم جميعا في كافة المعارك. وإن حياته العامة كلها من بداية زعامته لانتصار مستطيل لجانب الأمة على جانب خصومها، وفوز مبين لقضية الدستور والاستقلال.
مصطفى النحاس
زعيم الأمة وقائد الشعب
كانت ظروف مصطفى حين استقل بدور الزعامة معاكسة له، أو شديدة الخطر بالنسبة لموضعه؛ فلم يتقدم إلى مكان الزعيم على دفوف النصر، وأناشيد الفرح، وزفيف الجماهير؛ وإنما جاء إثر نكبة قومية شديدة ومصاب عام جلل، وهو رحيل الزعيم الأول سعد من هذه الحياة، وعلى ظن مشاء في نفوس خصوم البلاد بأن وفاته سوف تضعف الحركة الوطنية وتشلها، وتوهن الوفد وتحطم بنيانه؛ لأن خليفته، في تقديرهم لم يكن على غراره، ولم يطبع في مصنع الطبيعة على نسقه، ولم يسبك مثل سبكه، ووسط ائتلاف سياسي يخشى من انهياره، ويشفق من تداعيه، وخلال غمرة حزن عام تركت البلاد جميعا في غمة وحداد ...
وكان على مصطفى النحاس أن يدلل على فساد ظنونهم، وكاذب تقديرهم مثبتا أن سعدا حي فيه، ماثل به، قائم في صدره، متحرك في خاطره، وأن ما بناه لن يهدم، وما أقامه لن يدك، وأن الوفد منيع لأنه فكرة، روحي لأنه فوق المادة، وأنه على حفظ التراث العظيم لقدير، وللقيام على التركة الحسنة الكبيرة كفء، وبالتبعات الجسام حقيق، وأنه قد وضع في مكانه، واستوى في محله، وساقت به الأقدار الرحيمة ليتولى هذا الأمر أهلا له، حريصا عليه، قويا متمكنا باذلا حياته إذا اقتضاها، متجردا من شئون نفسه ليستأثر الوطن به، وتستحوذ القضية العامة على كل شيء فيه.
وقد كان الائتلاف قبل بيعته ضرورة سياسية من أجل حماية الدستور من خصومه، والحرص عليه حيال أعدائه المتربصين دوائر السوء به، ولكن الأحزاب التي رضيت به مع سعد عادت يومئذ تظن أنه قد حان لها أن تفضه، وقرب أن تنزع أيديها منه؛ إذ كان اندماجها بادي الرأي فيه، انتقاما من فريق استبقها إلى الحكم وغلبها على الظفر به، وأصبح تعللها من بعد سعد أن تعود هي إليه، وتتولاه هي وحدها متهافتة عليه؛ لأنه إذا كان من الصعب عليها مغالبة سعد بسبيله، فلعله قد صار سهلا رد مصطفى عنه، أو خذلانه في أزمة من الأزمات ليخلو لها هي وجه السلطان تتبوأ مقعده، وتعيث في الأرض مفسدة.
وكانت ثم أيضا كراهية الإنكليز لمصطفى النحاس بالذات، بل كانت هناك كذلك بغضاء لورد لويد له خاصة، وخشيته من وقوع الزعامة له قبل أن يصير أمرها إليه، وانتواؤه تسديد ضربة قاضية في بداية رياسته للوفد وقيادته، حتى يمهل فيتمادى ويصبح القضاء على سلطانه عصيا.
ولا ننسى مع هذا أن محادثات كانت تجري بين ثروت باشا وبين الإنكليز، وأن نتائجها بلا ريب سوف تعرض عليه ليحكم فيها، ويوجه الوفد بسبيلها، وهو موقف خطير للغاية يقتضي منتهى الحكمة والحذر والفطنة، ويوجب اليقظة الدائمة والانتباه الشديد.
ووسط هذه العوامل المجتمعة: ائتلاف يترنح، والخير في إسناده، أو الحكمة أن يترك ليجيء تدهوره من ذاته، أو من صنع دسه وكيده؛ ودستور عزيز حورب له، وكوفح من أجله، وكتبت مواده بالدم الزكي جعل مدادا لكلماته؛ وتربص من جانب الإنكليز دائرة السوء به للتعجيل بانقلابه، وسط هذه العوامل مجتمعة، وجد مصطفى النحاس باشا نفسه مكتنفا؛ فثبت في موقفه، واستعان أقصى الحكمة والسياسة والرشاد في خدمة بلاده، وراح يرتقب الحوادث هادئ النفس مليء الصدر إيمانا وقوة وسكينة.
واستأنفت الدورة النيابية سيرتها في ذلك العام، فانعقد البرلمان في السابع عشر من شهر نوفمبر، وكان الملك قد عاد من رحلته في أوروبا، فافتتح البرلمان؛ كما رجع ثروت باشا قبل ذلك بيومين، فحضر افتتاحه، وألقى خطبة العرش، وفي الجلسة الأولى للنواب انتخب مصطفى النحاس باشا رئيسا له بالإجماع، فاكتملت له رياسة الشعب مزدوجة: قيادة الجهاد، وزعامة السياسة؛ فبرز هو في ردائهما جليلا حسن السمت، نظيف الثوب، وضاء باهر المطالع، تنعقد من حوله هالة بيضاء من ضياء.
وأشارت خطبة العرش إلى المحادثات إشارة خفيفة، لم تتعرض فيها للتفاصيل؛ فلبثت البلاد ترتقب من ثروت باشا أن يعلنها بما قد جاء به في حقيبته، ولكن طال الانتظار على غير طائل، وكان عذره كلما تحدث أحد إليه أنه لا يزال ثم بينه وبين السير أوستن تشمبرلن أخذ ورد في بعض المسائل؛ حتى استولى الضجر، واستحوذ التبرم، وسرى الاستياء.
وكان لورد لويد - كما ظهر فيما بعد من كتابه «مصر من عهد كرومر» - متململا من تلك المباحثات، واثقا من خيبة الرجاء فيها، موقنا بعقمها وقلة نفعها، وقد زاده تبرما بها وسخطا عليها أنها جرت بغير علمه، وكادت تنتهي على الاتفاق وهو فيها غير شريك؛ إذ حرص وزير الخارجية البريطانية يومئذ على أن تجري المحادثات بينه وبين ثروت باشا دون وساطته.
لقد كان لويد يرى أن الأمل في نجاح هذه المحاولة كان يومئذ بعيدا، ويعتقد أن وزارة الخارجية البريطانية بما صنعت في ذلك الحين «قد احتبلت ثروت باشا في فخ القدر المنصوب له، وراودته عن مصيره، جريا وراء نظرية غريبة، وهي أن استئناف المفاوضات معه قد يذلل له تأليف حزب يسمى «حزب المعاهدة» من أفراد «معتقلين» يتيسر لهم التغلب على نفوذ «المتطرفين»، بل لعله يستطيع به الفوز في عدد الأصوات في المجلس عليهم آخر الشوط ونهاية المدى»!
وقد كان ثروت باشا من طول استمهاله، وكثرة تسويفه، يلوح كأنما هو مدرك نهايته، عليم بنتيجة موقفه، وإذا كانت وزارة الخارجية البريطانية قد عميت عنها، فلم يكن هو بلا ريب عنها عاميا. وفي هذا يقول لورد لويد: «ولكن كان الأمل الوحيد لديه هو في الإلحاح كل حين في إجراء مناقشات ومباحثات أخرى، للظفر بتسامح جديد، وتساهل زائد، ولم تكن نجاته في النهاية ممكنة إلا بأعجوبة أو معجزة، فإذا لم تظهر هذه المعجزة، ولم تبادر إليه تلك الأعجوبة، فإن كل ما هو في استطاعته أن يرجئ - ما أمكنه - حلول موعد معركة الحياة أو الموت بالنسبة له، بل معركة «واترلو» - التي قضت على نابليون وحطمته تحطيما - وأن يؤجل يومه المحتوم وموعد هزيمته الساحقة.
يا لثروت باشا من رجل مسكين! وإن لم يكن قد حان بعد اختبار درجة «الشجاعة وحسن السياسة والصراحة» التي كانت لديه، والتي وصفها سير أوستن تشمبرلن في بعض رسالاته لي وكتبه، ولكن موعد ذلك كان آتيا لا ريب فيه. ولم يكن السرور الذي شعر به وزير الخارجية من توقع إمضاء المعاهدة مدعاة لسرور ثروت باشا، ولا باعثا البتة عليه، وإنما كان عند ثروت حلما مزعجا، وانتظارا للبلاء قبل وقوعه.
ومن تلك اللحظة كان المقدر لتلك الأماني المعسولة التي تجول في وزارة الخارجية البريطانية أن تتلاشى رويدا، وأن يتبدل ذلك السرور ألما وخيبة؛ إذ راح ثروت باشا - بدافع غريزة حب الذات والدفاع عن النفس - يصارع ويجاهد بكل قواه في سبيل تحاشي لقاء الخاتمة المحتمة، والنهاية المنتظرة.
ولشد ما كانت دهشتي في الثامن من شهر فبراير سنة 1928 - أي بعد شهرين تقريبا من عودة ثروت باشا إلى القاهرة - أن أبلغني دولته أنه قد اعتزم عرض مشروع المعاهدة على النحاس باشا وعلى الوزارة في الحال. وهكذا أطلقت أخيرا قذيفة ابتداء الشوط في سباق مرهوب النتيجة، ولن نلبث طويلا حتى نعرف أولا وآخرا مصير المعاهدة والقدر المحتوم الذي ينتظرها. وعلى هذا النبأ اشتد القلق في نفس وزير الخارجية وساورته الهواجس سراعا، فتلقيت في الحال تعليمات منه تقضي بمقابلة الملك ورئيس الوزراء والنحاس باشا بلا إبطاء، وأن أبين لهم، بالتأثير في نفوسهم، خطورة القرار الذي حان أن يتخذوه في أمر هذه المعاهدة.
وكان وزير الخارجية قلقا على الأخص من ناحيتين: أولا من أن رئيس الوزارة - أي ثروت باشا - كان يومئذ يحاول - وهو أمر طبيعي جدا - المناورة بحيث يمكن إلقاء المعاهدة في اليم من شحنة السفينة، مخافة الغرق دون أن يؤدي ذلك إلى استقالته، وثانيا من أن الملك بدلا من أن يرى في ذلك شيئا مخيف العاقبة كان يميل إلى اعتباره عملا لا بأس به.»
هذا ما كان من لورد لويد يومئذ ومبلغ شعوره من ناحية نتيجة تلك المحادثات، والمشروع الذي جاء به ثروت باشا كآخر اجتهاده، وقصارى كفاحه للقضية المصرية وجلاده. فلننظر ماذا كان شعور مصطفى النحاس في ذلك الحين، وكيف قابل ذلك المشروع إذ عرض عليه، وليس أبلغ في بيان ذلك من كلماته هو وعباراته في وصف الموقف، وخوالج صدره من ناحيته، حيث يقول:
ولقد طال الانتظار، وكان ثروت باشا يمهلنا من وقت إلى آخر؛ لأنه كان لا يزال بينه وبين سير أوستن تشمبرلن أخذ ورد في بعض المسائل حتى استولى الضجر على نفوس الكثيرين، وأخصهم محمد محمود باشا، وأحمد خشية باشا الوزيران في وزارة ثروت باشا، فقد كاشفاني بذلك مرارا فكنت أهدئهما، وأهون عليهما الاصطبار حتى ينتهي ثروت باشا من أخذه ورده مع وزير الخارجية البريطانية، حرصا منا على إنجاح المحادثات، وقد عرفتم بعد ذلك السر في هذا الإلحاح من جانب هذين الوزيرين.
وكانت مهمتي شاقة في هذه التهدئة، إلى أن كان يوم 7 فبراير سنة 1928، إذ نبأني ثروت باشا أنه سيطلعني على المحادثات على شرط أن تبقى سرية بيننا، حتى نرى ما سيكون بشأنها؛ فوعدته بذلك، فأرسل إلي المستندات الخاصة بهذه المحادثات في نجع حمادي، اليوم العاشر من ذلك الشهر، خلال الاحتفال الرسمي بوضع الحجر الأساسي لقناطرها.
اطلعت على تلك الأوراق في الأقصر، فهالني ما رأيت! لقد رأيت مشروعات معدلة، انتهت بمشروع كامل صب في صيغته النهائية، وقال عنه سير أوستن تشمبرلن إنه وضع باتفاق الطرفين، كما اشتملت المحادثات على رسالة منه سلمت إلى ثروت باشا في 6 فبراير جاء فيها: «إن الحكومة البريطانية قد قالت كلمتها الأخيرة في هذا الشأن، وإنها لا يمكنها أن تقبل أية مناقشة في نص المعاهدة نفسها، وإنه إذا رفضت الحكومة المصرية هذه التسوية اضطرت الحكومة البريطانية إلى أن تشدد وتدقق فيما احتفظت به في تصريح 28 فبراير من الحقوق.» وختمها برجاء دولته أن يبادر إلى عرض المعاهدة على زملائه، وأن يقوم بتوقيعها في أقرب فرصة.
لقد كانت هذه الرسالة بمثابة إنذار لمصر في حالة الرفض، والظاهر أنها هي التي حملت ثروت باشا على أن يخبرني في اليوم التالي لوصولها بأنه سيطلعني على المحادثات على أن يبقى أمرها بيننا مكتوما.
قلت إن الأمر هالني، وفي الحق لم يكن ذلك المشروع متفقا، لا في أساسه ولا في نصوصه، مع استقلال البلاد وسيادتها ... كما أنه فوق هذا قد أوجدها في حالة خطيرة بسبب «الإنذار» الذي شفع به؛ ولذلك قابلت ثروت باشا في 22 فبراير بعد عودتي من الأقصر، وصارحته بحضور عدلي باشا برأيي في المشروع، ورجوت إليه أن يعمل على إنقاذ البلاد من شره المستطير ... واتفقنا أن نعرض الأمر بصفة سرية أيضا من جانبي على الوفد، ومن جانبه هو على زملائه الوزراء.
وهنا نعود إلى لورد لويد فنراه يقول في هذا الموضع من كتابه: «وتلبية لتعليمات وزير الخارجية دعوت النحاس باشا إلى لقائي، وعينت السادس والعشرين من الشهر موعدا، وفي خلال ذلك تحدثت إلى الملك في هذا الشأن حديثا طويلا، فنبأني الملك أنه قد بذل كل ما في إمكانه لحمل ثروت باشا على «الدخول في الشق؛ الفخ» ليلزمه عرض المعاهدة، ولكنه ظل على روغانه المألوف، ولا يزال على رأيه من بقاء باب المفاوضات مفتوحا، ولم يكن ثروت باشا في الواقع قد عرض حتى ذلك الحين نص المشروع على زملائه الوزراء.»
وقد جرت المقابلة بعد ذلك في موعدها المضروب بين لورد لويد ومصطفى النحاس باشا، فكانت وقفة الزعيم في الحق خليقة به، موائمة له، وقفة مصر كلها بسائر ذكريات ضحاياها وشهدائها، بل وقفة شجاعة وجرأة ووطنية عالية ورفيع ثبات. وقد قص مصطفى نفسه على الناس فيما بعد دقائق ما جرى بينه وبين لورد لويد، كما عرض لها لويد نفسه في كتابه، وإن خرج ببعض معانيها عن نصوصها الصحيحة ومراميها الحقيقية، رغبة في التجسيم، ونزوعا إلى التأويل.
يقول مصطفى في صدد ذلك اللقاء: «ولقد لقيت لورد لويد في مساء الأحد، فأخبرني أنه قد علم من ثروت باشا أنني سأعرض على الوفد في جلسة الغد مشروع المعاهدة ، وأنه قد تلقى رسالة من السير أوستن تشمبرلن لكي ينبهني إلى الخطورة التي تنجم عن رفض مشروع المعاهدة، والمسئولية العظمى التي تقع على عاتقي باعتباري زعيما للأغلبية. قلت إني آسف لأن هذا المشروع قد خيب أملي في نجاح المحادثات التي كتمها عني ثروت باشا زمنا طويلا؛ لأنه كان تحفظا مرتبا - بناء على اتفاق مع السير أوستن تشمبرلن إلى حين إتمامها - على أن يعرضها علينا عند نجاحها، وقد وعدته بالتأييد إذا هو حافظ فيها على حقوق البلاد في الاستقلال التام، وكانت الضمانات لصيانة المصالح البريطانية لا تتعارض مع هذا الاستقلال، فلما اطلعت على المستندات التي سلمت لي في نجع حمادي، وانقطعت إلى قراءتها طول إقامتي في الأقصر، رأيت أنها قد بنيت على أساس لا يتفق مع الاستقلال، بل أقرت شرعية الاحتلال، ولا يتفق احتلال مع استقلال.
قال: إن بقاء القوات العسكرية البريطانية في مصر لا يتعارض مع الاستقلال ما دامت مصر هي التي تقبل بقاءها في أرضها بمقتضى المعاهدة.
قلت: إن المصريين الذين عارضوا الاحتلال منذ وجوده لا يقبلون بحال بقاء القوات العسكرية الأجنبية في الأراضي المصرية لمنافاة ذلك لاستقلالهم الذي هو حقهم الطبيعي، قال: كأنك تقول إنه لا يمكن اتفاق قبل خروج الجنود البريطانية من مصر، قلت: محال أن يكون اتفاق مقبولا عند المصريين إذا لم يكن أساسه الجلاء، قال: وكيف نغادر البلاد بعد أن ثبتنا دعامات ماليتها. قلت: تغادرونها طبقا لوعود الشرف المتكررة التي وعدها رجالكم الرسميون، وفي الوقت ذاته نعقد معكم محالفة ود وصداقة. قال: وماذا يكون الحال إذا غادرت قواتنا البلاد، فأغارت عليها دولة أخرى، قلت: إن ذلك لن يكون ما دمتم حلفاءنا، فإننا نصد بقواتنا غارة الأجنبي إذا حدثته النفس بالإغارة، وتساعدوننا أنتم على ذلك بقواتكم بحكم المحالفة إذا احتاج الأمر إلى المساعدة، وأساطيلكم على مقربة منا في البحر الأبيض المتوسط، وهي سيدة البحار.
قال: وما فائدتنا نحن من الجلاء؟! قلت: فوائد جمة، فأولا: تكسبون صداقتنا، وثانيا: توفرون على أنفسكم الرجال والأموال التي يضطركم إليها بقاء قواتكم المعسكرة في البلاد، ونحن كفيلون بالمحافظة على قناة السويس، ولا تتحملون أنتم غير مساعدتنا وقت الحاجة بحكم المحالفة، وثالثا: يتفرغ كل منا إلى مصالح بلاده، فلا يكون في شغل دائم بهذه الحالة الشاذة القائمة الآن، والتي لا يترتب عليها إلا استدامة النفور والمشادة والحذر، ورابعا: بحكم الصداقة والمحالفة يزداد تبادل المنافع المادية والأدبية بين البلدين، وخامسا: يروح ذلك أكبر فخر لكم يساعدكم على تخفيف أعباء متاعبكم في الشرق ...
هذا ما قلته ولم أشأ الدخول في تفاصيل المشروع، إذ لا فائدة من ذلك ما دام الأساس الذي بني عليه باطلا، وإنما قلت له إنني لم أفقد الأمل في أن يتم الاتفاق إذا ما حسنت النية من الجانبين، فإن ذلك هو اعتقادي الذي لم يفارقني في وقت من الأوقات حتى في أشدها حرجا، فإن مصلحة البلاد هي في إنهاء هذا الاتفاق، بشرط أن يكون اتفاقا مبنيا على العدل والمساواة واحترام الحقوق، اتفاق الصديق للصديق لا السيد للمسود. أما من جانبنا فإن حسن النية موفور، ولم يبق إلا توافره من جانب القائمين بالأمر في إنجلترا؛ فإن لم يتوافر الآن فسيتوافر على الأيام.
قال: إنك تقود البلاد بهذا الرفض إلى أمر خطير، فإن الحكومة البريطانية التي تساهلت إلى الآن في مشروعات بعض القوانين المصرية ستتشدد فيما بعد ذلك، قلت: إني إنما أعبر عن شعور البلاد الحقيقي وأؤدي واجبي، وللقوة أن تفعل ما تشاء ...»
هذا هو الحوار العجيب الذي جرى بين ممثل الحق، وممثل القوة؛ أو بين خصمين خطيرين، كل منهما معتد بذاته، معتز بجانبه. ولكن أولهما نازع إلى قوة الاقتناع في غير خوف، والتدليل في غير تراجع، والمحاجة في غير تحايل ولا اصطناع، وثانيهما جانح إلى التهديد لأنه هو وحده حجته، وإلى النذير لأنه كل سلاحه ومظهر قوته. وقد رأينا خلال هذا الحوار كيف كان مبلغ اعتداد مصطفى بحقوق بلاده، وكيف أبدى من العزة الصادقة بمكانه، وإباء التفريط في حق وطنه، وهو يعلم أن على الإباء عقابا، وأن مع الرفض نكبات وخطوبا ، وتجاريب قاسية وأياما غبرا مكفهرة المطالع، وأحداثا مروعة داهمة.
يرفض مصطفى النحاس مشروع ثروت - تشمبرلن، وهو في تلك الظروف الدقيقة للغاية، العليم بأن ثلاث محاولات من قبل قد حبطت وعوقبت البلاد على حبوطها؛ فكان العجب أن يأتي العقاب جزاء إباء تفريطها، وأن هذه هي المرة الرابعة التي يعتزم فيها الرفض ليتكرر الحبوط فيتكرر العقاب والتعذيب، وعرض البلاد من جديد على النار لتصهر صهرة الحديد، وقد كفاها ما قاست من اكتواء وبلاء.
ولكن مصطفى النحاس لم يكن يسعه غير أن يرفض في تلك الظروف الرهيبة، وسط ائتلاف لا شك في أن بعض أضلاعه تختلج لثروت ومشروعه، وتميل إلى الانتهاء من القضية، على أي لون يكون الانتهاء، ولكن لم يكن هذا كله في الاعتبار والميزان ليرجح عنده فوق اعتزامه الرفض؛ لأن القبول في اعتقاده، خطوة مودية، وعمل أثيم.
كان الموقف جليلا رهيبا، موقف زعيم لأول عهده بالزعامة، أمام إغراء عظيم يهز أكبر القلوب، ويوسوس لأقوى العزمات، ويخيف الإرادة ويزعزع الشعور؛ لأنه يتعلق بمصير أمة، ومستقبل شعب، ومصالح ملايين!
وقد كان لذلك الحوار أثر بليغ في نفس لورد لويد؛ لأنه أثبت جوهره في كتابه، وإن جعل يهون من مسئولية مصطفى النحاس بسبيل موقفه، قائلا إنه لم يكن على النحاس باشا أية مسئولية، إذ كان واثقا من تأييد الرأي العام له، مهما كان الموقف الذي يحتمل أن يقفه منافيا للحكمة والسداد!
وراح ثروت باشا يعرض وثائق المحادثات على زملائه الوزراء في جلسة رسمية، على أن يدعوهم لجلسة أخرى لإبداء رأيهم فيها؛ وذهب مصطفى النحاس باشا من جانبه يعرض الأمر على الوفد في عدة جلسات طويلة، فرأى الوفد بالإجماع رفض المشروع المعروض، للأسباب ذاتها التي بسطها مصطفى وشرحها لهم؛ فلقيت المعاهدة الثروتية بذلك قضاءها المحتوم، وحلت عليها الخاتمة القاضية.
وبقي أمر الوزارة القائمة في الحكم ومصيرها، فرأى الوفد أن يسعى بكل قواه للاحتفاظ بوحدتها، والحرص على استمرارها، والسير بالسفينة في طريقها؛ فتحدث إلى ثروت باشا أحاديث كثيرة يريد بها أن يجعل رفض المشروع بالإجماع لتخرج الوزارة من الأزمة سليمة ناجية لمتابعة أعمالها ومواصلة حكمها، كأن المحادثات لم تغن بالأمس ولم يكن لها أدنى وجود؛ كما أن الوزراء أنفسهم اتفقوا فيما بينهم على صيغة للرفض يحسبونها أقرب إلى قبول ثروت باشا من غيرها، ولكنه رفض بتاتا أن يتعرض الرد لقواعد المشروع وجوهره، وأصر على أن يكون إبلاغه وزارة الخارجية البريطانية منحصرا في رد الوزارة على حدتها، وأن يلحقه هو بكتاب استقالته.
وتقدم رد الوزارة على المشروع إلى الحكومة البريطانية على يد ممثلها في مصر في الرابع من شهر مارس، وهو اليوم ذاته الذي رفع فيه ثروت باشا إلى القصر كتاب الاستقالة، وكانت البلاد يومئذ في حماسة الغضب من المشروع، وغضبة استنكاره والاحتجاج عليه. واشتد القلق بالنفوس، واستولت على الأذهان أسوأ الظنون، وراح الناس يتساءلون: هل من خطر على الدستور ومصيره؟ فقد ألفوا أن يروا كل تجربة فاشلة في باب المفاوضات تنتهي للدستور بسوء، وتجد شفاء حقد أصحابها في النيل من الحياة النيابية أي منال.
ولم يكن ثم شيء يومئذ يحمي الدستور غير قيام الائتلاف، على ما كان يسري تحته من تيارات خفية، وما كان يجري خلف جبهته من ألاعيب. ولكن الأمة كانت عن استمراره راضية، وفي قيامه ومواصلته متشددة؛ فلم يجد أحد من الذين ينتسبون إليه من أشخاص الأحزاب الجرأة الكافية ليكون أول المنشقين عليه، والضاربي المعاول في بنائه؛ فثبت هؤلاء في مواضعهم من الائتلاف يرقبون تطورات الحوادث، ويرصدون الأفق السياسي على الأيام.
ومضت فترة قصيرة عقب تقديم الاستقالة، والجو غامض، والأفق مكفهر، والظنون مساورة، وحمية الطلاب والشباب قد غلبت إرادتهم، فلم يستطيعوا لها كبحا. وكان مصطفى النحاس إزاء المظاهرات التي كانت تقوم يومئذ منهم ينصح لهم بالتزام السكينة، في لغة الأبوة الناصحة، وحكمة السياسة المتزنة الحصيفة؛ وكانت الوزارة قد كفت عن تصريف الأمور، فراح الإنكليز المشرفون على البوليس يتناولون الأمر في أيديهم، ويحاولون الاحتكاك بمشاعر الشباب ليثيروا في الأفق غبارا متعاليا، فيزداد الأمر سوءا، وتستحكم الأزمة حلقات، ويستنفر الغضب الشباب كل مستنفر!
ولكن الوفد كان حكيما كدأبه، فأمسك زعيمه الشباب إلى جانبه، وباعد بينهم وبين تهور الحماسة، في موقف خطير يقتضي التدبر والتأمل والسكون.
وما كاد رد الوزارة المصرية يتقدم إلى دار المندوب السامي، حتى بعثت هذه إليها بمذكرة رسمية في اليوم ذاته (4 مارس)، مبدية خلالها قلقها من جهة «مشروعات قوانين معينة» تتعلق بحفظ الأمن العام وحماية الأرواح والممتلكات! وهي بلا ريب إشارة إلى «قانون الاجتماعات»، وهو مشروع قانون كان البرلمان يوشك أن يفرغ من إقراره في نهاية السنة السابقة (1927)، وقد جاء هذا القانون تعديلا لمواد القانون رقم 14 الصادر في سنة 1923 عقب إلغاء قانون سنة 1914، وكان المراد منه الحد من اختصاص السلطة التنفيذية بسبيل منع الاجتماعات والمظاهرات وتقييد مصادرتها كل التقييد، وقد نبه الإنكليز في 18 ديسمبر السابق إلى استيائهم من مضي البرلمان في هذا التشريع وهو في المرحلة الأولى منه، ولكنهم ما لبثوا أن أمسكوا عن توجيه النظر إليه لقيام مناسبة المفاوضات، وارتقابا لما تفضي إليه من النتائج.
وحين حبطت المفاوضات على تلك الصورة عادوا إليه ليجعلوا منه وعيدا جديدا، بل ليلغموا به الطريق أمام الوزارة التي تتولى الحكم بعد استقالة ثروت وخروجه، وقد كشف ذلك لورد لويد نفسه في كتابه فقال: «وكانت الإشاعات قد راجت يومئذ حول ما قد يحتمل أن يكون من تطورات الموقف ومفاجآته؛ فقد كان للوفد - وهو الحزب المتمتع بالمركز والسلطان، المشرف الآمر الناهي في البرلمان - الحق الواضح في ترشيح رئيس الوزارة الجديد من بين رجاله. ولم يكن لدينا سبب يحملنا على الاعتراض على هذا الأمر، إذ كان النحاس باشا ومؤيدوه على استعداد لتحمل المسئولية، ولكن كان بالطبع في مؤخرة المسرح الرجلان القديران الطموحان المنتميان إلى الأحرار الدستوريين، وهما محمد محمود باشا، وإسماعيل صدقي باشا، منشغلين بشد الحبال، وجذب الأستار، ولم يكن يدري أحد على التحقيق ماذا عسى أن تكون النتيجة من وراء هذه الحركات التي يصطنعانها، والألاعيب التي يدبرانها في الخفاء.
وفي الخامس من مارس لقيت الملك فعلمت أنه من المرجح أن لا شيء يحول دون استدعاء النحاس باشا، وكان ذلك مدعاة للنظر إلى المستقبل بعين القلق والمخاوف الشديدة؛ إذ لو تمكن الوفد في مدة حكمه من تنفيذ برنامجه التشريعي، فلا تمضي بضعة أشهر حتى يستولي تماما على اختصاصات السلطة التنفيذية في الأقاليم، وحتى يتم له النجاح في إنشاء نظام الإدارة العامة؛ فلا نجني من ذلك غير المتاعب الكبار، والنتائج الخطيرة.
ومن ثم لم يكن أمامنا من أمل غير ذلك الإنذار الذي كلفت توجيهه إلى الحكومة المصرية، إذ سيروح ذلك النذير «تحية مناسبة من جانبنا أو ترحيبا» بالرئيس الجديد في منصبه، فإذا هو رفضه كان لنا العذر إذا نحن أثرنا أزمة في سبيل مسئوليتنا الواضحة عن النظام والأمن في البلاد.
وفي اليوم ذاته، قبل النحاس باشا - بناء على دعوة الملك - تأليف الوزارة الجديدة، وكان الظاهر أن غرضه هو ورجال حزبه التعلق بالحكم طويلا، أو قدر المستطاع، حتى يتم لهم تعزيز مركزهم، وتوطيد سلطانهم؛ ولم يكن ثم محيص من تجنب المشاكل إلى حين. ... ولم تكن مساعيه في سبيل الحصول على معاونة الأحرار الدستوريين مضمونة النجاح، إذ لم يفز الذين كانوا منهم في صف هذا التعاون في الاجتماع الذي عقدوه يومئذ بالغلبة على النافرين والمعترضين إلا بمقدار بضعة أصوات، على حين ذهب صدقي باشا يجلس بجانب النافرين من التعاون والرافضين ...!»
وفي السابع عشر من شهر مارس سنة 1928 تألفت الوزارة الجديدة برياسة مصطفى النحاس باشا، وكانت الأغلبية فيها للوفد، ولم يدخلها من الأحرار الدستوريين غير محمد محمود باشا، وقد جعل على المالية، وأحمد خشبة باشا، وجعفر ولي باشا، وقد نجا بتأليفها الدستور من الخطر الذي ظن يومئذ أنه قد أحدق به، وكانت تلك أول مرة لنجاته في سلسلة التجاريب الاستعمارية التي امتحنت الأمة بها عبر السنين وفي مجاز الأعوام.
لقد وقف مصطفى النحاس في تلك الأزمة موقفا رائعا للغاية، موقف رجل عظيم لا يتردد أمام أكبر التبعة، ولا ينزوي من حمل المسئولية وهو أعرف الناس بخطرها وجسامتها، بل لقد تقدم إليها شجاعا جلدا فاحتملها، وهو يعلم أن هذه المهادنة التي التزمها الإنكليز، إن هي إلا مهادنة إلى حين، وأن من ورائها كمدا شديدا، وحقدا دفينا، وكظمة غضب مختنق، ونية سوء تستوجب الحذر البالغ، والفطنة الساهرة، والخاطر اليقظ المتنبه، والتدبير الحكيم.
وقد استن مصطفى سنة طيبة على أثر تقلده رياسة الوزارة، فقد ذهب لزيارة دولة ثروت باشا في داره، فلما لقيه قال باسما: «إن اختلاف وجهة النظر السياسية لا تؤثر في نظري فيما بيننا من العلاقات الودية التي بيننا، بل أرجو أن توثقها الأيام وتزيدها ارتباطا، وألا نحرم من خدماتك في المستقبل.»
وعند ذلك اغرورقت عينا ثروت باشا بالدموع، وقال: «هذه أول مرة أسمع فيها كلاما كهذا من رجل سياسي، وأنا لذلك به مستبشر مغتبط، وسوف تجدني دائما في خدمتك!»
ولكن لم يقيض الله لثروت باشا بعد ذلك أن يتقدم إلى بلاده بعمل، أو يحاول خدمتها من طريق آخر، فإن حياته السياسية كانت قد صارت إلى نهايتها بفشل مشروعه الذي كان آخر اجتهاده، ولم يكن صادرا فيه عن تفريط أو خيانة لحق وطنه، ولكنه كان صادرا عن عقيدة توحي إليه أنه ليس ثم سبيل إلى أكثر من ذلك، وأنه ليس في إمكان مصر أن تظفر يوما بأكثر منه أو أوفر نصيبا.
وقضى ثروت نحبه بعد ذلك ببضعة أشهر فجأة وهو في باريس، فتأثرت البلاد لموته وحزن الناس لمصابهم فيه؛ لأنه كان بلا شك من رجال مصر المعدودين.
وبدأت الوزارة الجديدة برياسة مصطفى النحاس باشا بداية خطرة، وكانت الأدلة والقرائن توحي من أول يوم في عمرها أنها سوف لا يطول الأمد بها، لا عن عجز أصيل فيها، فقد كانت قوية جليلة الشخصيات بارزة الكفاية؛ ولا عن كراهية في الشعب لها، فإن الأمة تلقتها بتأييد عظيم، وفرح بالغ، واغتباط كثير؛ إذ نجا بها الدستور من الغرق، ولم يطغ بها السيل على الحياة النيابية، وإنما كان يهدد حياتها اجتماع عوامل خفية عديدة عليها، وقيام مكائد منوعة ضدها، وبغضاء متأججة في صدر لورد لويد من ناحيتها، وكان الائتلاف يوشك أن يهن وتوهى ساقاه يومئذ لولا أن تماسك وتساند إذ وجد المختفون وراء الأستار أن الفرصة لتفكيكه غير طيعة ولا مؤاتية.
وكان مصطفى يعرف ذلك ويحسه تماما، ولكنه أبى أن يتراجع؛ لأن التراجع ليس من صفته، وظل في موقفه شجاعا جريئا مستعدا لملاقاة خصومه، متأهبا لمواجهة أعداء الدستور والكائدين له والمحاولين التخلص منه، مهما كلفهم ذلك من جهد وثمن ووصمة العار، والخزي في الدنيا، ونقمة الملايين.
بدأت الوزارة حياتها، وأمامها مذكرة «4 مارس» التي لم تجب عليها وزارة ثروت باشا التي سبقتها، بحكم استقالتها حين وصولها، وقد تعهد الإنكليز توجيهها في ذلك الظرف بالذات لتكون قنبلة في طريق مصطفى النحاس باشا أول ما يبدأ المسير.
وهنا يصف دولته الموقف من ناحية شعوره، فيقول: «ولكنا لم نهب خطرا، ولم ننكص على الأعقاب، بل رأينا من واجبنا أن نتحمل مسئولية الحكم التي ألقاها الدستور على عاتقنا، حتى نحتفظ - كما أعلنا ذلك في برنامجنا - بحقوق البلاد كاملة في مصر والسودان، احتفاظا يتفق مع كرامة حقنا، وروعة نهضتنا، والعمل على تمكين الدستور وتقاليده من نفوس الأمة جميعا، حكومة وشعبا، وأخذنا أنفسنا على أن تجري أعمال الحكومة في الداخل على سنن العدالة والمساواة، وألا يكون للأهواء سبيل إلى النفوس، فلا يميز فريق على فريق، ولا يغلب رأي على رأي إلا بالحق، في سبيل المصلحة العامة ...»
لقد كان الحرص على الدستور دائما، والدفاع عن الديمقراطية العامل البارز فوق سواه في حياة مصطفى السياسية؛ فقد ظل للدستور حارسا شجاعا على الأهبة أبدا للذود عنه، مهما كانت الظروف من الخطورة، ومهما كانت المواقف مرهوبة، ومهما كان الخصوم كثرا متألبين.
وكان لا بد في ذلك الموطن من تجنب التعرض لهيكل الائتلاف، وإن كان الواقع يومئذ أنه قد وهن وتراخت مسانده؛ إذ كانت الحكمة تقضي بألا يكون الوفد البادئ بنفض اليد منه والتخلي عنه، بل يدع غيره يروح المهاجم المبادر حتى يحمل وزر ما صنع، وإصر ما اقترف. فلا غرو إذا كان مصطفى النحاس باشا - بدافع ذلك الحرص، وإملاء تلك الحكمة - قد راعى موجبات الائتلاف حين تأليف وزارته، تاركا فريقا من زملائه غير مشركهم في الحكم، ليأخذ غيرهم من الأحزاب؛ وإن كان فريق كبير من الأحرار الدستوريين قد أظهروا يومئذ تعففا من الاشتراك فيه، ولكنه كان زهادة مصطنعة، لترقب الحوادث، وتحين الفرص، وانتظار الأزمات التي تخدم الأغراض التي كانوا يرمون إليها من اتخاذ ذلك الموقف المريب.
وقد كان خطاب العرش يتضمن عبارات صريحة تقوم بمثابة الرد على تلك المذكرة البريطانية التي أريد بها أن تكون عقبة في طريق الوزارة، وكانت هذه العبارات كافية بسبيلها، مغنية عن الإجابة عليها، ولكن خصوم الدستور وأعداء الوفد ومتلمسة الحكم والذاهبي النفوس حسرات عليه، أبوا أن يستمعوا إلى صوت الضمير، وأصروا على أن يكون رد آخر، وجواب حاسم؛ وهم يحسبون أن إصرارهم هذا قد يرد مصطفى عن التقدم، ويغريه بالإحجام، ويرسل الخوف من جوانب النفوس، فلا تجلد على الجواب. ولكن مصطفى بتلك الجرأة الرفيعة المعروفة عنه مضى في الثلاثين من شهر مارس سنة 1928 يرسل إلى الحكومة البريطانية ردا صريحا بليغا على مذكرتها، محتجا فيها على التدخل الذي تتوعد إنجلترا مصر به؛ لأنه يشل سلطة البرلمان في التشريع والرقابة على الإدارة، ويجعل مهمة الحكم مستحيلة على أية حكومة جديرة بهذا الاسم، خاتما الرد بقوله: «ولذلك لا يسع الحكومة المصرية أن تقبل تدخلا، ولو أنها سلمت بمبدئه، لأسلمت رايتها، وأنكرت وجودها، بل إنها كحكومة دولة مستقلة ذات سيادة لتدرك حق الإدراك ما عليها من واجبات، وتعتزم - بعون الله وتوفيقه - أن تنهض بأعبائها في حرص ودقة، وعلى وجه مرض للجميع ...»
هذا هو الرد القوي الصريح الذي بعث به مصطفى النحاس باشا إلى الحكومة البريطانية في ذلك الموقف الخطير، والظرف الدقيق؛ فتلقته الصحف الإنكليزية يومئذ بالتعليقات الهائجة المحنقة، وراحت تكيل للوفد المطاعن وتنادي بأنه قد غلا غلوا كبيرا، وتصف الحرص على حقوق البلاد، والصراحة في الرأي، والشجاعة في المجاهرة والمكاشفة، حماقة وإسرافا. وأسرعت الحكومة البريطانية إلى إرسال مذكرة أخرى في الرابع من شهر أبريل، معلنة فيها أنها لا تستطيع قبول رد الحكومة المصرية كبيان صحيح للعلاقات القائمة بين مصر وبريطانيا ، ومؤكدة تمسكها بتصريح 28 فبراير، واحتفاظها بالتصرف المطلق بالنسبة للتحفظات الأربعة المبينة فيه.
وأمام هذا الإصرار من جانب الحكومة البريطانية على موقفها المتحدي ووجهة نظرها المتحرشة المستنفرة، لم يتراجع مصطفى النحاس ولم ينثن مجفلا، ولم يتهيب ما قد يكون من وراء هذا العنت الصارخ، والتحدي المعتمد على القوة والسلطان، بل وقف في مجلس النواب في الخامس من شهر أبريل سنة 1928 يخاطب المجلس كله والعالم الخارجي بجملته، مناديا بأن رده كان متفقا مع البيان الوزاري الذي ألقاه في المجلس من قبل، وكان موضع رضاه وقبوله لاحتفاظه بحقوق البلاد مع استبقاء صلات المودة بين مصر وبريطانيا العظمى، ولا حاجة به إلى القول بأن الحكومة المصرية متمسكة بوجهة نظرها المستمدة من برنامجها، والتي تعتقد أنها خير سبيل لتوثيق عرى الصداقة بين البلدين.
وقد قوبل هذا البيان في المجلس بموجة من الحماسة، وعاصفة من التصفيق؛ واشترك في الحماسة له والإعجاب به المتكلمون عن الأحزاب الأخرى ممن عرفوا من قبل بالإسراف في المعارضة، والغلو في النقد والانتقاص والتعييب.
وأعقبه في حفلة المحامين التكريمية لدولته في السابع والعشرين من أبريل خطاب جامع في حكمة المشرع من سن قانون الاجتماعات، وبحث شامل لجميع مواده وفقراته وأغراضه ومراميه؛ فكان ذلك كله بيانا صريحا بليغا في الرد على دعاوى الحكومة البريطانية ضد الفكرة، بل تلك الدعاوى التي أرادت أن تستغلها، على تلك الصورة المكشوفة، لتحدي الحكم الدستوري ومقاومة الوزارة القائمة بالأمر، ومحاولة التخلص منها لتجربة سواها من الصنائع و«الأحباب» والمناصرين.
ولكن حملة الصحف البريطانية ظلت قائمة مشتدة مستحمية، ولم تلبث الحكومة الإنكليزية أن أرسلت في 29 أبريل إنذارا آخر تطلب فيه من مصطفى النحاس باشا توكيدا كتابيا قاطعا بأن البرلمان لن يواصل نظر مشروع هذا القانون، وتقول فيه إنه إذا لم تتلق دار المندوب السامي هذا التوكيد قبل الساعة السابعة من مساء 2 مايو، فإنها سوف تكون حرة في اتخاذ أية تدابير تراها واجبة في هذه الحالة. كما راحت في الوقت ذاته تحرك البوارج والأساطيل تأييدا لنذرها، وتعزيزا لوعيدها، ملوحة بالقوة المادية لكي تحمل قوة الحق على النكوص والرجوع!
ونشطت يومئذ الدسائس في البلاد، وترامت الأراجيف، وصرح بعض كبار الإنكليز لبعض كبار المصريين بأنه إذا لم يسحب قانون الاجتماعات، فسوف يعطل البرلمان سنتين أو ثلاثا، وسوف تحل بمصر نكبات وكوارث وخطوب.
ولكن مصطفى لم يرع من ذلك الوعيد، ولم تذهب نفسه شعاعا من تلك النذر، بل ظل ثابتا في موقفه، حافظا لأمانته، راعيا لعهده وذمته، والأمة من حوله مؤيدة له، شادة أزره؛ لأنه لم يكن صادرا إلا عن عقيدتها، ولم يكن معبرا إلا عن إرادتها، ولكنه إنما رأى ذلك الأفق مكهربا يستوجب التصرف فيه غاية الفطنة، وتقتضي مواجهته أكبر الكياسة وبراعة المأخذ؛ فعمد من تلقاء نفسه - بعد التداول والمشورة - إلى استخدام حقه الدستوري في مطالبة مجلس الشيوخ بتأجيل النظر في مشروع قانون الاجتماعات إلى الدورة التالية، حتى تهدأ العاصفة، وتسكن الزوبعة العاتية، ويتسع الوقت للأخذ والرد في حلم وأناة وسكون.
وقد أقر المجلس ذلك الطلب، وكتب مصطفى النحاس باشا في أول مايو سنة 1928 رده على الإنذار البريطاني مكررا فيه توكيد الحكومة المصرية وتمسكها بوجهة نظرها بالنسبة لتصريح 28 فبراير، وهو أنه لا يزال تصريحا من جانب واحد، وأن الحكومة البريطانية ذاتها قصدت أن يكون له فعلا هذه الصفة، وأنه على هذه الصورة لا يلزم الطرف الآخر ولا يقيده، كما صرح بذلك المستر رمزي مكدونالد رئيس الحكومة البريطانية يومئذ في كتابه الذي أرسله إلى لورد اللنبي بتاريخ 9 يوليو سنة 1924 إلى المغفور له سعد زغلول باشا رئيس الحكومة المصرية في ذلك الحين.
وقد حوى الرد المصري أيضا هذا التعقيب: «ولقد أوضحت الحكومة المصرية مرارا وجهة نظرها هذه بكل صراحة وإخلاص للحكومة البريطانية، ولم تأل جهدا في إثبات ما انطوت عليه من حسن النيات. وقد كان لي الشرف أن أوضح لفخامتكم في أوقات متعددة بصدد مشروع قانون الاجتماعات أن ليس في مقدور أية حكومة دستورية أن تبعث بالمبدأ الدستوري القاضي بفصل السلطات، فتسحب مشروع قانون وافق عليه المجلسان والحكومة معهما، ولم يبق منه أمام مجلس الشيوخ إلا فقرة واحدة تتعلق بالشكل.
ثم سمحت لنفسي أن أبين لفخامتكم أن مشروع القانون بما تضمنه من نصوص، وما اقترن به من تصريحات ... لا يعرض أمن الأجانب لخطر ما، بل كل ما نرمي به إليه هو تنظيم الحريات الدستورية مع صيانة الأمن العام صيانة تامة. كما أني صرحت مرارا أنه إذا دل العمل على نقص في القانون بعد إصداره، فإن الحكومة المصرية على أتم الاستعداد لاقتراح تعديله بما يتفق مع مقتضيات النظام العام ...
تلقاء ما تقدم جميعه من المظاهر الجليلة لصدق النية، وحسن الاستعداد، لا يسع الحكومة المصرية إلا أن تبدي أسفها الشديد على أن الحكومة البريطانية لم تقدر رغبة الحكومة المصرية الأكيدة، ومجهوداتها الصادقة المتوالية في توطيد العلاقات الطيبة بين البلدين؛ ولذلك لا يسع الحكومة المصرية أن تسلم بما جاء في مذكرة 29 أبريل، فتعبث بحق مصر الأزلي عبثا خطيرا، بل ما كان لها أن تعتقد أن الحكومة البريطانية، بما عرف عنها من ميول حرة، تبغي إذلال أمة عزلاء من كل سلاح، إلا قوة حقها، وصدق طويتها؛ ولهذا فإن الحكومة المصرية مدفوعة برغبتها الصادقة في التفاهم والمسالمة التي كانت على الدوام رائدها، قد طلبت بالأمس - في حدود حقها الدستوري - إلى مجلس الشيوخ أن تؤجل المناقشة في مشروع القانون إلى دورة الانعقاد القادم، وقد وافقها المجلس على ذلك، وهي تأمل أن تقدر الحكومة البريطانية تلك الخطة الودية، وأن يمهد بذلك السبيل إلى تذليل المصاعب الحالية على ضوء الثقة المتبادلة التي يجب أن تسود العلاقات بين البلدين، وأن يعقبها عهد من التفاهم الحقيقي والمودة والعدل.»
هذا هو الرد الخالد المشرف، والجواب التاريخي الجليل، الذي لم يكن في وسع أية حكومة مصرية أخرى - مهما كان شأنها - أن ترسل أكثر منه، أو تبعث بما هو أجل وأروع وأخطر شأنا، وأبرز كرامة وعزة ووطنية عالية، بل لقد كان ذلك الكتاب أكبر قيمة من البوارج التي هددت مصر بها، وأرفع منازل في التقدير من كل تلك الأساطيل التي اتخذت لمصر المجاهدة نذيرا.
لقد سجل هذا الرد الصريح القوي الصالح الرافع الرأس إباء مصر وكبرياءها، واعتدادها الذاتي، ومبلغ حرصها على الحق وكفالتها للدستور، وحمايتها للنظام الديمقراطي من كل عبث يراد به، وكل مكيدة تدبر للقضاء عليه ... فلا عجب إذا استقبلته البلاد بفرح صادق، ورأت فيه رفعة كلمة الحق، وجلال معنى الكرامة، وعدته فوزا مبينا لمنطق الوطنية الصحيح، وأقبلت على زعيمها الوطني الجريء الصادق العاطفة الأصيل الحكمة والرأي، تقره على ما صنع، وتؤمن له على ما كان منه، وتؤيده كل التأييد.
ولكن النية في الجانب الآخر كانت منصرفة إلى الشر والأذى، والرغبة في القهر والتحكم والإعنات؛ إذ كان لورد لويد عدوا لمصطفى النحاس لدودا، وخصما مستنفرا حقودا، ومناجزا لا ينتهي من كيد، ولا يقف عند حد، ولا تسكن له ثائرة، بل لم يكن لويد سياسيا أخا أناة وحلم، ولكنه كان أحمق سريع البادرة، استعماريا مسرفا يود لو يقضي على الحركة الوطنية شر قضاء لو أنه استمكن له القضاء عليها، وتيسر له التمثيل بها، والإجهاز على آخر أنفاسها المتراجعة المصعدة؛ حتى لقد هم بأن يرد على ذلك الكتاب التاريخي الخالد مرة أخرى، ويشعل النار التي أوقدها أيما إشعال فتكون حريقا مستطيرا مندلع الألسنة مرسل الذوائب في كل مكان، لولا أن منعته حكومته مبينة له أن هذا الكتاب مقنع ينبغي الوقوف عنده والرضوان به.
وبذلك يعترف لورد لويد في كتابة قائلا: «... ومن الواضح أن ذلك الرد لم يحو التعهد المطلوب، بل هو في الواقع قد أعرب في وسط ألفاظه الكثيرة عن نية المضي في ذلك القانون، وكان وقت التسامح في مثل هذا التهرب قد انقضى بلا ريب، إذ لم نكن أرسلنا هذا البلاغ النهائي إلى الحكومة المصرية إلا بعد أن قدمنا لها كل فرصة للتراضي والمراجعة، وها هو ذا الرد قد جاء متهربا مما طلبناه، بل أخطر من ذلك أنه جاء منكرا لحجتنا التي أقمنا طلبنا على أساسها. فلو تركنا هذه الأساليب التي تتذرع بها مصر حتى تنجح وتتغلب على ذلك الإنذار النهائي، فإن أية بلاغات أو مطالب أخف منه لهجة وأكثر اعتدالا نتقدم بها في المستقبل سوف لا يعبأ بها، بينما يجد الوفد من حيث الموقف الداخلي المجال فسيحا أمامه لاكتساب الثقة والهيبة والنفوذ، في حين يتأثر مركز الأحرار الدستوريين من جهة أخرى أسوأ التأثير.
وهذا ما أبنته بجملته لوزير الخارجية، مشيرا بوجوب مطالبة رئيس الوزراء في الحال بأن يشفع هذا الرد بتأكيد كتابي بأن هذا المشروع لن يستأنف السير فيه طيلة مدة حكمه.
ولكن الحكومة البريطانية كانت ترى غير هذا الرأي، وقد وجدت ذلك الرد مقنعا، وآثرت ترك المستقبل لظروفه. وأما النحاس باشا نفسه فقد اغتبط وتنفس الصعداء إذ وجد الأزمة قد انفرجت وهو لا يزال في الحكم، وراحت الصحافة الوفدية تنوه بتلك النتيجة وتعدها انتصارا شخصيا له، وتحسبها في عداد مفاخره، ووجوه فضله ...
وقد كان جليا أن مركزه قد تحسن كثيرا في أرجاء البلاد بسبب ذلك، وأننا حتما سنجد أنفسنا قبل نهاية العام مصطدمين مع المتطرفين، ونرى مركزنا يضعف، ومركزهم قويا مكينا ...»
هذا هو ما سجله لورد لويد في كتابه، وهو دليل واضح على نفسيته، ومبلغ خصومته لمصطفى وكراهيته، والإسراف في الإعنات والتضييق والإحراج للتمكن منه، والاستعلاء عليه، وإرغامه على التسليم والإذعان.
ولقد بلي النحاس باشا في إبان زعامته برجل متهور معدم من أفانين السياسة، كثير الهياج، نزاع إلى الشغب، شديد الغطرسة، مزهو بمركزه، معجب بسلطانه، لا يعرف في أية حادثة تعرض له غير لغة البوارج، واستقدام الأساطيل، والالتجاء إلى المنطق المسلح، وتفكير القوة الغاشمة. وإزاء رجل كهذا ينبغي الاعتصام بمقدار كبير من الفطنة والحذر والاحتياط، ويجب التذرع بالأناة وسعة الصدر وطول البال ولطف التناول؛ وإلا تحطم كل شيء عند أول صدمة، وفسد الأمر قبل إدراك أول علاج.
لقد كان لورد لويد يحسب نفسه صاحب هذه البلاد ومالكها غير منازع، ووليها الأكبر غير مدفوع؛ حتى لقد بلغ من جرأته ذات مرة أن راح يتحدث إلى مصطفى النحاس بلهجة الأمر والنهي، وأسلوب السلطان الشرعي ذي الجلال؛ فما كان من مصطفى إلا أن رده إلى نفسه، وأثابه إلى صوابه، قائلا له إنه لا يعرف ملكا غير الملك فؤاد! فأجفل متراجعا بغير انتظام.
وقد كان يريد - كما رأيت - أن يتمادى في الإعنات، لولا أن حكومته وقفته عند الحد الذي وجدت فيه الكفاية والاقتناع، وقد سمعت أن مصطفى باشا في زيارة له عقب انفراج تلك الأزمة للورد لويد، لم يلبث أن وجد أمامه رجلا جديدا غير ما ألف من قبل من شأنه، وشهد حياله شخصا لا عهد له به؛ فقد راح في تلك المقابلة «الودية للغاية» - وقد طال المجلس أكثر مما كان منتظرا - يتفكه له ويتلطف، ويغير التقاليد المتبعة في هذه المقابلات؛ إذ لم يكد يصل إلى الدار حتى وجد في استقباله مستر سمارت عند الباب، فمشي به إلى حيث كان اللورد لويد في انتظاره عند باب قاعة الاستقبال.
ودار الحديث بينهما، فقال لورد لويد ما معناه أنه في مصر إنما يعمل ما يقضي به الواجب عليه كموظف، وكوطني بريطاني، وأن أداء هذا الواجب لا مفر منه، مهما كان في بعض الأحيان مؤلما ... ثم قال: وكذلك دولتكم، فإنكم تؤدون ما يتطلبه إليكم الواجب، كوطني مصري صادق، وإني أصارحكم القول الآن أنكم تقومون بهذا الواجب تماما؛ ولهذا فأنا أحترمكم. “C’est pour cela que je vous respecte!” .
فانتهز مصطفى باشا هذه الفرصة، فطلب إلى لورد لويد أن يكون رسول سلام، ووسيط خير بين مصر وبين بلاده، فإن سياسة التحرش والعداء لا تجدي بينهما نفعا ...
وحين انتهى الحديث وهم مصطفى باشا بالانصراف صافحه لورد لويد في هزة قوية، ثم صحبه إلى الباب الداخلي للدار، حيث كانت السيارة في انتظاره؛ فركبها مودعا بكل احترام وإكبار.
وكانت هذه أول مرة يودع فيها المندوب السامي البريطاني زائره إلى الباب؛ فقد كانت التقاليد المرعية يومئذ أن يسير اللورد مع الزائر إلى باب القاعة التي استقبله فيها، ثم يدق الجرس فيحضر السكرتير، وهذا يصحب الزائر إلى حيث تنتظره المركبة.
لقد حملت الوطنية الصحيحة الصادقة خصمها على احترامها، وأكرهته على الاعتراف بها؛ فكانت تلك شهادة خصم عنيد، طاغية، شديد المحال، لا يعرف في الخصومة هوادة ، ولا يجنح في العداوة إلى رفق. وهذا الإحساس الذي يكنه لويد هو بذاته إحساس سائر خصوم مصطفى وأعدائه؛ فإنهم ليحاربونه بكل قواهم، ويقاومونه بآخر ما لديهم من الوسائل، ولكنهم مع ذلك في قرارات نفوسهم لا يستطيعون أن يكنوا له سوى الاحترام والإجلال.
على أن هذا الاحترام الذي اعترف لورد لويد به لم يمنعه بعد ذلك من الاسترسال في خصومته، والمضي في كيده لمصطفى ومحاربته، وإن راح يجعل الكيد المصنوع يومئذ له منبعثا من مصدر آخر سواه، ونسيج يد غيره يده، وفي ذلك يقول: «ولم يلبث الموقف الذي لم يكن يومئذ حسنا مطلقا بالنسبة لنا أن تطور تطورا من الأساس، بسبب حوادث كانت خارجة عن إرادتنا، ولا ريب في أنه ما دمنا نبدي ثباتا في المحافظة على مركزنا، فلا أمل هناك ولا مشجع لتلك العوامل الداخلية المعارضة للنظام الحالي على إظهار أثرها وإبداء سلطانها، غير أن حوادث الشهرين السابقين راحت تدل على أن نفوذنا قد تراخى وسلطاننا قد ضعف، فلم يعد من المنتظر بسبب هذه الأعراض الظاهرة علينا أن تظل تلك العوامل المناوئة في سكون لا تتحفز للعمل.
ولم يكن الملك يخفي كثيرا كراهيته للحكم النيابي، فلما أحبط الوفد السعي الذي سعته الحكومة البريطانية في سبيل عقد معاهدة مع مصر، واستخف بالبلاغ النهائي الذي وجه إليه عقب ذلك، ثم مع كل هذا وجد نفسه لا يزال ثابتا فوق صهوة جواده؛ لم يلبث جلالة الملك أن رأى من ذلك كله أن الفرصة سانحة أمامه، وأنه قد وجد سببا لا يحتمل الإنكار، وداعيا يبرر تدخله ...»
وقد أراد لويد - بعد أن ألقى التبعة في الانقلاب التالي على القصر - أن يصور نفسه في صورة الحريص على النظام النيابي في مصر، ويوهم أن بلاده هي التي طالما دافعت عن الدستور المصري ووقته السوء والأذى، فانثنى يقول:
وكان قيام الحكم الدستوري في البلاد هو غرض سياستنا، وقد أيدناه وحافظنا على وجوده دائبين في غير كلال ولا ملل حيال العقبات والصعاب المستمرة، بل كان أول ما عنيت به في الواقع هو استعادة ذلك الحكم بعد أزمة سنة 1924، فإذا هو الآن تحت رحمة القصر ...
ولحسن الحظ تقدمت إليه الوسيلة لتحقيق ذلك الغرض، فإن الوفد - كما علمنا من المصادر الموثوق بها - لم يكن يعتقد لحظة أن الإنذارات والبلاغات التي وجهت إلى النحاس باشا بشأن قانون الاجتماعات كانت جدية مقصودة فعلا، فلما جاء البلاغ النهائي إليهم أخذهم على غرة. وفيما كانوا مسترسلين في سرورهم واغتباطهم بانفراج تلك الأزمة الخاصة به، ونجاتهم من ذلك الموقف الصعب، إذ واجهتهم استقالة محمد محمود باشا من الوزارة، وكان هو العضو الوحيد فيها من حزب الأحرار الدستوريين. «على أن الغرض من هذه الاستقالة لم يبق طويلا خافيا، إذ لم يمض عليها يومان فقط حتى أذيعت فضيحة ذات أثر خطير للغاية في سمعة رئيس الوزراء».
ولكن هذا التخلص من الاشتراك في المؤامرة على الدستور يكذبه الواقع الذي جرى يومئذ، وبرزت أدلته وقرائنه، فإن الصحافة البريطانية راحت في ذلك الحين تسند الرجعية وتنفخ الأبواق تشجيعا لها، وتردد مطاعن خصوم الوفد في البلاد، وتهاجم الحكومة الدستورية مع المهاجمين.
وتصدى بعض النواب من الحزب الوطني في مجلس النواب لارتكاب اعتداءات صارخة على بعض وزراء الشعب وحراس الدستور، والتهجم في المجلس عليهم للإمساك بتلابيبهم، ومحاولة التعدي بالإشارة عليهم، لإيقاع الاضطراب في المجلس وإفساد نظام جلساته؛ فلم يسع فريقا من نواب الأغلبية إلا أن يقترحوا إدخال تعديلات على اللائحة الداخلية تكفل إقرار النظام، وتمنع تكرار العدوان، ولكن أولئك النواب المشاغبين الذين استخدموا يومئذ للتمهيد للمؤامرة انسحبوا من الجلسة احتجاجا على ذلك التعديل، وآزرهم الأحرار الدستوريون الذين بيتوا للمكيدة تحت جنح الظلام، ثم راحوا هم كذلك يهاجمون الوفد جهرة غير حافلين بموثق الائتلاف ولا آبهين.
ومشى كبراؤهم بالدسيسة على الحياة النيابية عند العرش، كما بعثوا بتقرير سري إلى الإنكليز يصورون لهم فيه طريقا جديدا لحكم البلاد بأيديهم دون دستور، وبلا حاسب ولا رقيب، في سبيل ما كان الإنكليز يبتغونه، وهو هدم الوفد والتخلص من الدستور، وإذلال البلاد وحملها على الخنوع والتسليم والإذعان.
وكان مرادهم من بداية الأمر أن يحيطوا بمصطفى النحاس من جميع جهاته، ويصطنعوا كل الوسائل لإكراهه على الاستقالة حتى يكون هو القاضي بيده على سلطة الأمة، والمسلم في حراسة الدستور، والنازل عن قيادة البلاد إليهم، والمتخلي عن الأمانة التي وضعها الشعب فيه؛ لكي ينهض لهم العذر بعد ذلك في هدم الدستور، وتعطيل الحياة النيابية، وهو أن الأغلبية نفسها هي التي أرادت أن تتخلى عن حقها، وهي التي نفضت أيديها من الحكم طائعة. وما كان مصطفى النحاس وهو في مكان الزعامة، المؤمن بقوته والتفاف الأمة حوله ومحبة الشعب له، أن يقترف هذه الخيانة في حق وطنه، أو يرضى لنفسه أن يكون أداة هدم الدستور، وآلة تقويض الديمقراطية، وهو حارسها الأمين، وزعيمها النزيه الساهر عليها الوفي الحفيظ.
وبقي مصطفى في مركزه مخلصا لواجبه، متمسكا بالأمانة الوديعة لديه؛ فلم يجد المشتركون في المكيدة أمامهم سبيلا لتحقيق مكيدتهم، وتنفيذ ما دبروه بياتا، غير الالتجاء إلى الاستقالة من هيئة الوزارة، فابتدأ الحيلة محمد محمود باشا دون سبب ظاهر أو علة معقولة، ثم تراجع فاسترد استقالته، حائرا لا يدري ماذا يصنع، ثم عاد يرفعها مرة أخرى، وفي أثره استقال جعفر ولي باشا، وتلاه إبراهيم فهمي كريم باشا، متسللين هكذا على صورة مخجلة، كما ذهب خشبة باشا يسعى بالإفك بين الأعضاء والدسيسة والنميمة؛ فكانت مهزلة الاستقالات، وكان موقف مصطفى حيالها موقف رجل شجاع قوي رصين، معتمد على أمته التي تخلص إليه، وعلى كثرة الشيوخ والنواب الملتفة حوله، وعلى إبائه التخلي من تلقاء ذاته عن واجبه نحو وطنه المقدس العزيز.
وكان لا بد إذن من سهم آخر مريش يحكم الرماة تسديده، ولا غناء عن دسيسة مسمومة تصطنع لتلويث سمعته، والتشهير به، وحطم الثقة الغالية التي له في نفوس الملايين من أمته؛ فلم يلبث مصنع الدسائس أن أخرج فجأة، وعقب مهزلة الاستقالات، صورا لوثائق تتعلق بقضية للأمير أحمد سيف الدين، يراد بنشرها الطعن في نزاهة مصطفى النحاس من جهة الصناعة التي شرفها من قبل بدخولها، ورفع شأنها بالسلوك في أهلها ، وهي صناعة المحاماة، ونزاهة المحامي الكبير الذي لم يتخذها يوما محترفا، وإنما جعلها أبدا فنا رفيعا، وصناعة الحق، شريفة مثل شرفه، نزيهة كنزاهته، طهورا كطهارته؛ فكانت سخرية القدر أن يحاربوا رجلا مثله من أقوى نواحيه، وأمنع حصونه وطوابيه، وأروع صفاته ومزاياه؛ ليكون سخط الشعب عليهم عظيما، حتى وإن نجحت مكيدتهم، وحكم الأمة بالبراءة مقدما قبل أن يجلس القضاة لإصدار حكمهم في مبلغ شناعة هذه الدسيسة وطهارته من معناها الأثيم.
ولكنهم لم ينظروا إلى هذه الناحية حين خرجوا بتلك المكيدة، وإنما كان نظرهم يومئذ متجها إلى القصر، ومرماهم منها إلى إيغار صدره وتأريث نار كارهيته، وتقديم الحجة الظاهرة للتذرع بها في تحقيق الغرض المبيت، والغاية المنتواة، وهي إزالة الحكم النيابي من الطريق، والعود إلى الحكم المطلق، حكم القصور والأرائك والعروش في غبرة التاريخ وظلمات القرون.
وقد نجحت المكيدة من هذه الناحية، ولكن ظل مصطفى النحاس في موضعه، حريصا على واجبه، متمسكا بأمانته، وكان ذلك في الحق أروع موقف من زعيم تألبت جميع أفاعيل الحقد والدس والكيد والكره والبغض عليه؛ فما أبه بها، ولا تراجع أمام تألبها، وثبت لتكون الرمية الأخيرة من كفهم، ولا يستسلم أو ينكص أو يتزحزح من مكانه؛ فلم يجد الحقد أمام هذا الإباء الرفيع إلا أن يلقي تلك الرمية - فكانت «الإقالة»، ولم تكن الاستقالة، وشتان بينهما في مقاييس الشرف والحرص والإباء وجلال الكبرياء ...
لقد كانت محاربتهم لمصطفى النحاس بهذه الوسيلة محاربة وضيعة اقترفت من أجلها السرقة والتزوير والتدليس والإفك المبين؛ إذ تناولت أمرا لا بأس منه بتاتا، ولا ظل تهمة عليه، بل مشرفا لصاحبه محمودا معدودا من فضله وتسامحه واستجابته لدعوة المظلوم، وشجاعته في لقاء السلطان والنفوذ مهما كان له من شأن ورهب عظيم، ما دام الحق في يده، والعدل رائده، ودفع الظلم مرماه ... تناولت هذا الأمر فشوهت صورته، وزيفت له تزييفا، وزعمت أنها قد وقعت منه على فضيحة؛ فكانت الفضيحة لها هي أنها محاربة نذلة خسيسة، بغير وازع ولا ضمير.
تتلخص حقيقة الدعوى في أن سمو الأمير أحمد سيف الدين وهو محجور عليه كان مقيما من زمن بعيد في أحد المصحات ببلاد الإنجليز، فاحتالت والدته السيدة نوجوان هانم بمساعدة آخرين، واختطفوه من ذلك المصح، وأوصلوه إلى الأستانة، ثم أخذت الوالدة تفكر في رفع الحجر عن ولدها أو في تقرير نفقة له، وكلفت بذلك محمد شوكت بك، فحضر إلى مصر في نوفمبر سنة 1925، وأخذ يسعى في إنهاء هذا الموضوع وديا فلم يوفق، فاستصدر من الوالدة في 19 ديسمبر سنة 1926 توكيلا رسميا فوضت إليه فيه الرأي في اختيار من يلزم من المحامين لأجل المطالبة بحقوق الأمير والاتفاق معهم على الأتعاب التي يستحقونها بالمقدار القانوني «المعقول»، فوكل محمد شوكت بك ثلاثة محامين هم الأساتذة: مصطفى النحاس باشا، وويصا واصف بك، وجعفر فخري بك. وتعاقد الجميع على اتفاق مؤرخ الثاني من شهر فبراير سنة 1927، يقتضي قبولهم القيام بالمرافعة والدفاع عن حقوق الأمير، توصلا إلى رفع الحجر عنه وتسلم أمواله، واحتياطيا، تقدير نفقة له تتناسب مع مركزه وثروته عن المستقبل، وأيضا عن الماضي من تاريخ فراره من المصح إلى يوم تقرير النفقة، مع تقدير مبلغ من المال لأجل شراء منزل له في الأستانة واقتناء أشياء أخرى مما يحتاج إليه.
وقد حددت الأتعاب للثلاثة المحامين في هذا العقد بمبلغ 117000 جنيه، تدفع بعد رفع الحجر وتسلمه أمواله، كما حددت الأتعاب فيما يختص بالنفقة بمبلغ 10000 جنيه إذا قضى المجلس بنفقة سنوية قدرها 22000 جنيه، وأن يكون للمحامين مبلغ 5000 جنيه إذا قدر المجلس للمحجور عليه مبلغ 60000 جنيه نظير المشتريات والنفقة عن المدة الماضية، واتفقوا على أن مقدار هذه الأتعاب يزيد وينقص بحسب أهمية المبلغ الذي يقضي به، وقد دفع الوكيل إلى المحامين المذكورين مبلغ 1500 جنيه بصفة مقدم أتعاب.
هذه هي خلاصة الوقائع كما وردت في نص دعوى الاتهام، وقد اتخذ منها الخصوم غير الشرفاء مطاعن في حق مصطفى النحاس وزميليه بأنهم اشتطوا في تحديد الأتعاب، وتقاضوها فاحشة باهظة، وأن الاتفاق الذي عقدوه مع وكيل الأمير غير جائز؛ لأنهم أقدموا عليه دون التثبت من ظروف القضية، وقبل الاتصال بصاحب الشأن نفسه، وأنهم في ذلك الاتفاق قد أرادوا استغلال نفوذهم النيابي ومراكزهم السياسية للتأثير في إجراءات الدعوى، وأنهم ألقوا في روع أصحاب الشأن في القضية أن هناك اقتراحا في مجلس النواب بإلغاء مجلس البلاط، وأن لهذا أثرا كبيرا في نجاح القضية وكسبها لمصلحتهم.
وقد ألقيت هذه القذيفة المحشوة بالأكاذيب في شهر يونيو سنة 1928 لذلك الغرض الذي أسلفناه عليك؛ فلم يشك أحد يومئذ من أبناء الأمة وأفرادها في أكذوبتها، وإن تحقق لصانعيها وملقيها الغرض الذي ابتغوه منها، وقد وصف مكرم عبيد مبلغ الخسة التي انطوت عليها، بلغته الساحرة، ووصفه الرائع، بعد ظهور كلمة القضاء فيها في ذلك الحكم المشرف الخالد، حكم البراءة أو وثيقة الشرف والنزاهة، فقال:
صورة مصغرة للدكتاتورية في ظلمها، في إثمها، في طغيانها، في خذلانها ...
كان المغفور له زعيمنا المبرور يقول إن الإنجليز خصوم شرفاء، وكان الذي يقول هذا رجلا نفاه الإنجليز وعذبوه، ولكنه عرف معنى الخصومة وشرف النضال، فقدر خصمه كما قدر نفسه، والرجال تعرف أقدار الرجال.
والخصومة الشريفة هي التي لا تتدنى إلى الدس والخسة، بل تناضل في وضح النهار، فقد تنفى، وقد تسجن، وقد تنزل إلى ميدان الحرب فتقاتل، ولكنها لا تلفق التهم، ولا تعمل في جنح الظلام، ولا تخاتل.
ولقد أدركت الدكتاتورية أن في الخصومة الشريفة تشريفا لخصمها، وأن النفي والسجن يكبران من قدره، ويرفعانه إلى أعلى عليين، فلماذا إذن لا يلجئون إلى الخصومة غير الشريفة، ومم يخافون؟ أيخشون حساب الضمير؟ كلا، فلن يكون حسابه عسيرا أو يسيرا، فقد صفى حسابه وظائف معدودات، وذهبا نضيرا ...!
وعلى أثر نشر هذه التهم في صحيفة الذين طبخوها، طلب النحاس باشا إلى النيابة العامة إجراء تحقيق فيها، كما طلب جعفر فخري بك إليها التحقيق لمعرفة المسئول عن سرقة الأوراق من مكتبه، مبينا أن من بينها كتابا باللغة التركية تعمد فيه أصحاب الدسيسة تشويه المعاني عند ترجمتها في سبيل محاولة تلويث سمعتهم والحط من كرامتهم في البلاد.
ومن العجب أن التحقيق لم ينته إلا في العشرين من شهر ديسمبر سنة 1928؛ أي استغرق نصف العام، كأنما كان يزحف على بطنه زحفا، ويخطو خطو السلحفاة. وقد جاء بعد هذا التراخي المستطيل، والتلكؤ الغريب، قاضيا بإحالة الأساتذة المحامين على مجلس التأديب.
ولقد تلقى مصطفى وصاحباه هذا القرار بكل هدوء وسكينة واطمئنان؛ حتى لقد قال الرئيس وهو يبتسم: «لقد كنت أتمنى أن يقرروا هذا القرار، فلسوف تظهر الحقيقة بأجلى مظاهرها ناصعة البياض؛ فإن العدل كفيل بتبرئة الأبرياء، وإدانة المجرمين ...!»
وقد جاء حكم مجلس التأديب الذي رأسه حسين درويش باشا مشرفا للمحامي النزيه مصطفى وصاحبيه؛ إذ أصدر المجلس حكمه في فبراير سنة 1929 بالبراءة، وأقر في حيثياته أن أولئك الخصوم غير الشرفاء الذين اصطنعوا تلك الدسيسة الرخيصة لم يتورعوا عن «الدس والسرقة والتزوير، وشراء ذمم الشهود في سبيل خصومتهم الأثيمة النكراء».
لقد جاء ذلك الحكم التاريخي عميق الأثر، اندكت له معاقل الطغيان واستحكامات الحكم المطلق، جاء مفخرة للذين اتهمهم من لا يقاسون ولا قلامة ظفر بأقدارهم، في نزاهتهم وشرف ذممهم، ونقاء سمعتهم؛ فاسودت له وجوههم وباءوا بالخزي والخذلان. جاء سجلا نقيض ما اتهموا باطلا به، وهو أنهم لم يشتطوا فيما طلبوا «ولكن أشفقوا»، وأن عملهم من الأول إلى الآخر «كان محمودا، فلا يفهم كيف يكون محلا للمؤاخذة»، وأن سلوكهم كان قياما بالواجب المفروض عليهم، وأن لا نزاع في أن الخطاب وعقد الاتفاق قد وقعا في أيدي أولئك الخصوم الأثمة بطريق السرقة، وأن السارق أبقاها عنده في طي الخفاء إلى أواخر شهر يونيو حين عن له «لغرض ما» أن يذيع تلك الأوراق في الصحف، فكانت هذه العبارة الأخيرة في حيثيات الحكم الخالد إشارة إلى المكيدة التي بيتت لهدم الدستور بمحاولة تلويث سمعة حارسه الشريف النزيه الوفي الأمين.
لقد كانت إذن النية مبيتة لأحداث ذلك الانقلاب الخطير في نظام الحكم، وكان أصحاب المؤامرة يفضلون بادئ الرأي أن يحدث ذلك الانقلاب من طريق الأغلبية نفسها، بحملها على التخلي عن الحكم مختارة ضيقة الذرع بما تجد من العقبات والحوائل والمكائد في طريقه، فلما ثبت مصطفى النحاس في مكانه، وتشبث بحقه الدستوري وموضعه، لم يجدوا سبيلا أمامهم غير «الإقالة»؛ فكانت إقالة مشرفة لمصطفى النحاس؛ لأنها إذ كانت قد أزاحته عن مقعد الحكم، فقد رفعته في قلب الأمة مكانا عليا، وسمت به أي سمو، وعلت به علوا كبيرا.
ومنذ بدأ ذلك الانقلاب، كان الموقف خطيرا بالنسبة للزعامة وجد رهيب، فإن مصطفى لم يكن قد قضى في الزعامة يومئذ غير بضعة أسابيع، ولم تمكث وزارته في الحكم غير شهرين وعشرة أيام تقريبا؛ لأنها تولت الأمر في السابع عشر من شهر مارس سنة 1928، وأقيلت في السابع والعشرين من شهر يونيو، ولم تقض هذه الفترة القصيرة إلا وسط شباك متعقدة الخيوط من الدسائس، ونسيج مشتبك من الكيد المبين.
ولكن مصطفى النحاس كان الرجل القائم في محله تماما، المختار للمعركة الناشبة أحكم اختيار؛ فتلقى هذا الامتحان الخطير بكل ما آتته العناية الإلهية من قوى الصبر والمرابطة والكفاح واليقين والإيمان.
لقد أرادوا «هدم الوفد» فلتستمع ماذا كان يقول مصطفى النحاس نفسه إزاء ما كانوا يريدون ويحاولون: «لو كان بالإنكليز حاجة إلى أشخاص أعضاء الوفد ورئيسه، لمددنا إليهم أعناقنا، وأبحناهم إشباع نفوسهم من لحومنا، وإبراد غليلهم من دمائنا، إن كان ذلك ثمنا لاستقلالنا؛ ولكنهم لا يستفيدون من لحومنا ولا من دمائنا، إذ لا تكون استفادتهم إلا من تغلب رأي أنصار الحماية على رأينا، وهيهات ما يشتهون!
إنهم ليعلمون أن أيديهم لن تصل إلى قرارة قلوبنا لتنزع منها إيماننا بحق بلادنا، ولا تصميمنا على الذود عن وطننا، ولكن جهلهم بحقيقة شعبنا يحملهم على الطمع في صرفه عنا، وإغرائه بالانفضاض من حولنا، والانتقاض على مبادئنا ... وهل لنا مبادئ غير مبادئ الشعب؟ وهل لنا سياسة غير سياسة الأمة؟ إننا لم نختط للبلاد سياسة جديدة، بل نادينا بسياستها، ولم نأت إليها بمبادئ جديدة بل نادينا بمبادئها، فإن الوفد هو جندي الأمة، وليست الأمة جندي الوفد ...!
لذلك كانت باكورة عملهم أن أجلوا جلسات البرلمان شهرا لكي يسعوا جهدهم في استجلاب رضاء ممثلي الأمة عنهم، وحملهم على السكوت عن فعلتهم، ومواطأتهم على الحنث بأيمانهم ، والتخلي ساعة العسرة عن مناصرة وطنهم، ولقد استعانوا في سبيل ذلك بكافة وسائل الوعد والوعيد، والتغرير والتضليل؛ ولكن الله خيب ظنونهم، فحرص ممثلو الأمة الشرفاء على كرامتهم، وحفظوا الأمانة التي وضعها الله في أعناقهم؛ فأثبتوا للعالم أنهم جديرون بالنيابة عن هذه الأمة، وكانوا أحق بها وأهلها. بل لقد كان هؤلاء الشيوخ والنواب أهلا في نظر محمد محمود لأن تقوم وزارته على ثقتهم، فلما يئس منهم استحالوا في عينه «عصابة» لا تستحق احتراما ولا تقديرا! وهكذا لا يتغير الحكم على الأمة بحسب أهليتها واستعدادها، بل بحسب «النظارات» الإنجليزية التي يضعها أمثال هؤلاء الوزراء على أعينهم كلما بدا لهم تغييرها.»
لقد كان الغرض من ذلك الانقلاب إذن تحطيم الوفد بتحويله عن زعامته، وتغيير موقفه بجانب رياسته، ومظهر إبائه ورمز قوته ... كان الغرض إسقاط مصطفى النحاس بفض الناس من حوله، واستمالتهم إلى غير جانبه، وكان ذلك الغرض هو التجربة ذاتها التي جربت في سعد فحبطت وفشلت؛ لأن سعدا كان معه كل مجد الثورة، وكل ذكريات النهضة ماثلة في شخصه، أما مصطفى النحاس فقد ظنوا أن إسقاطه لا يحتاج إلى مثل ما احتاجت التجربة في سعد من قبله؛ لأنهم حسبوه - وهو في بداية زعامته - رئيس ضرورة، وثمرة ظروف عارضة، وليست فيه عندهم العبقرية السياسية ذاتها التي كانت في سعد بارزة متجلية.
ولكن مصطفى النحاس في تقدير الله الذي خلقه، واعتقاد الصحب والأولياء الذين وثقوا به، وإيمان الشعب الذي أطاع في الولاء له تجربة سعد وتجربته، وثقة الزعيم الأول الخاصة وثقته هو العامة؛ برز لهم يومئذ صعب المكسر، منيعا من الهدم، ثابتا في مكانه، لا تزحزحه الأعاصير العاتية.
وكان أروع مظهر لقوة الوفد هو «الدستور» والنظام النيابي، وأجل ناحية من نواحي عظمة مصطفى وجلال قوته هي أنه الحارس لذلك الدستور والقائم الساهر على صيانته؛ فلم يكن أمام أعوان الاستبداد والحكم المطلق، وأعداء الوفد البغاة عليه، في سبيل تحقيق ذلك الغرض الذي راود هواهم، وداعب أحلامهم، بعد العجز عن استمالة أنصاره واستهواء أعوانه، غير إزالة الدستور من الطريق، والتخلص من الديمقراطية القائمة متراسا للزعامة وخندقا للوفد؛ فلم يحفلوا أن يكونوا هم الذين طالما فخروا بأنهم الذين وضعوا الدستور، وهيئوا مواده، وأقاموا ساحته، ونصبوا رايته، هم بأعيانهم الذين يتقدمون للفتك به، ويجترئون على خنقه؛ لأن خصومتهم للوفد تغلبت عندهم على كل حساب، وارتفعت لديهم فوق كل اعتبار.
غير أنهم كانوا في أعماق صدورهم يحسون، بعد يأسهم من المحاولة المبدئية، وهي استمالة الناس إلى الانفضاض عن الوفد والمروق من صفوفه، بأن الأمر الذي يطلبونه جد عسير، وأصعب منالا مما كانوا يتصورون؛ فلم يستطيعوا الفرار من البداية من الاعتراف بأنهم حيال غرض شاق، ومطلب خطير؛ فجعلوا حل المجلسين لمدة ثلاث سنين قابلة للتجديد!
ولقد ظنوا أن هذا التحديد الواسع المدى، المترامي الأجل، من شأنه أن يحدث اليأس في صدر الوفد، بسبب طول الأمد، ولكنه كان في ذاته عنوانا ظاهرا على يأسهم هم مما يحاولونه، وضعف ثقتهم بالنجاح فيما ائتمروا به، كما كان في ثناياه عامل أمل في الجانب الآخر، وباعث رجاء؛ لأنه اعتراف بقوته، بل إقرار من ناحية الغرض نفسه باستحالته!
ولم يكن هذا وحده المظهر الكاشف لضعف نفسيتهم ووهن روحهم المعنوي من أول الأمر وبداءته، ولكنهم في بيانهم بسبيل تعطيل الحياة الدستورية كشفوا عن تناقض صريح ويأس بالغ قبل المحاولة؛ فسموا الوفد «بفئة قليلة»، ودعوا تأثيرها، مع هذه القلة التي زعموها، «لا ينقطع في الوقت القصير»! فلم يكن شيء أبلغ من هذا اعترافا بيأس اليائسين.
وقد رأيت كيف بدءوا بمصطفى النحاس فهاجموه من سخرية القدر في نزاهته بوثائق تلك الدعوى التي أسلفناها عليك، فكان ارتفاعهم إلى الحكم بها ليكون سقوطهم أيضا بفعل براءته منها، مع ثباته هو طيلة الوقت حيال وسائلهم النكراء وشنائعها، ومكافحته الرائعة لأساليب دكتاتوريتهم وصنائعها، كما كان بفعل يأسهم ذاته الذي لم يستطيعوا من البداية إخفاءه، فجعلوا المحاولة لأعوام ثلاثة تتجدد بغير تحديد ولا تعيين!
وفي ذلك يقول مكرم عبيد، قيثارة الوطن ومزهره الصداح، في بعض مقطعاته الوطنية الساحرة:
لقد خيل إليهم أن الخسارة التي مني بها الوفد برحيل سعد ستكون مصدر قوة لحزبهم، وأنه وقد زال الشبح الأكبر الذي كان يحجبهم عن أعين الناس، سيبدو للناظرين ضئيل أشباحهم، ويظهر جبارا كل قزم من أقزامهم، غير أنهم أدركوا أن مصطفى النحاس قد خطا خطوات الجبابرة إلى زعامة الأمة لا ينازعه فيها أحد، وأن الوالد الذي مات قد أنجب خير ولد؛ فجمعوا جموعهم، واستعدوا أعوانهم، وضربوا الوفد ورئيسه ضربات خيل لهم أنها القاضية؛ فاستنامت أعينهم للدهر، وحسبوا أن عينه هي الساهرة، وما علموا أن الوفد وليد الاضطهاد، وربيب الجهاد، لم يزده القمع إلا نضالا، وأن الحرية قبس من النور. لا يزيدها الظلام إلا اشتعالا.
لقد حقت لك يا سيدي الرئيس خلافة سعد، فهذه الخلافة ثمن من الألم والشقاء، هو ثمن المجد، ولقد دفعت الثمن سخيا، وذهبت في السخاء إلى أبعد حد، فما من تضحية إلا تحملتها، وما من مرارة إلا ذقتها، فهنيئا لك هنيئا بالدستور وقد افتديته، وهنيئا لك بالوطن فقد أنقذته، وهنيئا لك بالألم فإن أسقمك فقد غلبته، وسيأتي وقت تعرف فيه الأمة ما فعلت وفعل الوفد، فقد اتهموك واتهموه بزري التهم، وهددوك وهددوه بالسجن والألم، فلم يجدهم ذلك شيئا؛ لأن الوفد لا يخشى أن يكون إلى السجن مصيره وقد كان له مقرا؛ ومن لم يكن في الحرية طليقا، فأولى به أن يكون في السجن حرا ...!
وقد كان جواب الأمة على هذه التهمة الباطلة يوم ألقيت على مصطفى النحاس فتدحرجت تحت قدميه، أن أقامت له حفلة تكريم في «الجزيرة»، شاهدة له بالبراءة عندها، قبل أن يشهد القضاء له بها عنده؛ فكان ذلك جوابا بليغا، وردا مفحما، وشهادة ناطقة، وحكما مبينا.
وكان موقف الشيوخ والنواب إزاء تأجيل البرلمان شهرا قبل الالتجاء اليائس أخيرا إلى حله وتعطيل الدستور وأحكامه، أن أعرضوا عن إغراء المؤامرة واستهوائها، واحتقروا مراودتها ومحاولاتها، فعمدت الوزارة الغاشمة إلى استصدار أمر ملكي بالحل؛ وتم بذلك في التاسع عشر من يوليو الانقلاب الرجعي الذي كان خصوم الدستور يريدونه، بل تمت بذلك الثورة على الدستور ، والتآمر على الحياة النيابية التي اكتنفها حقد الحاقدين، ومقت الماقتين.
وقد كان هذا الإجراء باطلا بطلانا أصليا؛ لأنه مناقض للدستور، معطل لأحكامه التي لا يمكن تعديلها، ولا المساس بها، بل كل ما ترتب عليه من الآثار كان باطلا كذلك، كما أن وجود الوزارة ذاتها التي أجرته في منصة الأحكام، كان مخالفة مستمرة للدستور، وثورة قائمة عليه، ولم تكن الصفة التي اكتسبها شيوخ الأمة ونوابها بمقتضى نصوص الدستور لتزول عنهم بالاعتداء على حرمة هذه النصوص أيا كان هذا الاعتداء، وأيا كان المعتدي؛ فإن الدستور الذي أعلن سلطة الأمة قد غدا ملكا للأمة وحدها، نصوصه مصونة، وأحكامه مقدسة، وقد أقسم الجميع على احترامه.
ولذلك لم يتردد وكيل مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب في مطالبة الوزارة بفتح أبوب البرلمان التي أوصدتها ليعقد البرلمان في نهاية فترة التأجيل جلساته ويزاول عمله، ولكن الوزارة في الموعد المعين - وهو الثامن والعشرون من شهر يوليو سنة 1928 - راحت تسد أفواه الطرق المؤدية إلى البرلمان بقوة الجند المدجج، وتستعين الجيش والشرط على الوقوف في وجوه الشيوخ والنواب، وهم سائرون إلى قدس الدستور وباحة الحكم النيابي، وجعلت تقتفي في ذلك اليوم المشهود خطاهم، وتتعقب حركاتهم، وتملأ المدينة من جواسيسها وعيونها حولهم لتحول بينهم وبين الاجتماع في مكان آخر غير دار نيابتهم، وظنت أنها قد ملكت عليهم السبيل، وأعجزتهم كل إعجاز.
ولكن ذلك كله لم يكن ليجدي نفعا إزاء العزمة القوية، والإيمان العميق، والقسم الرهيب على الكتمان؛ فاستطاع الشيوخ والنواب أن يجتمعوا اجتماعهم التاريخي العظيم في ذلك اليوم الخالد الجليل في دار آل الشريعي بالقاهرة، على حين راح جواسيس الوزارة وعيونها في حيرة لا يدرون أين المجتمع، ولا يعلمون أين المستقر!
وفي تلك الجلسة الخالدة اتخذ البرلمان عدة قرارات ضد الحكم الباطل المسلط على البلاد، وبشأن اعتبار البرلمان قائما وله حق الاجتماع بحكم الدستور ونصوصه، وأن الوزارة ثائرة على الدستور، فلا ثقة له بها، ويجب أن تتخلى عن مكانها، كما قرر تأجيل اجتماعاته من تلقاء نفسه إلى السبت الثالث من شهر نوفمبر سنة 1928، إلا إذا طرأ ما يدعو لانعقاده قبل هذا التاريخ.
وفي وسط رهبة وجلال وسكون مهيب راح كل فرد فيهم يقسم اليمين التالية:
أقسم بالله العظيم أن أحافظ على الدستور، وأدافع عنه بكل ما أوتيت من جهد وعزم إلى آخر رمق في حياتي.
كذلك سجل البرلمان المصري في تاريخ حياته يوما خالدا عظيما، ودون في سفر الوطنية الصادقة حادثا مشهودا لا تمحى على الدهر ذكراه.
وكان تأثير هذا الحادث في البلاد خطيرا غمر النفوس جميعا، وشمل كافة طبقات الأمة؛ فراحت تعلن تأييدها لتلك القرارات الحكيمة، وتجاهر بولائها للوفد وزعيمه؛ وفي وسط هذا التأييد العام، ظل الوفد رافعا علم الجهاد في الساحة، عاملا على مكانته، والشعب حاف من حوله، يوليه الطاعة والمحبة والإخلاص والوفاء.
وقد وصف ساحر الوفد وخطيبه البليغ الفاتن - مكرم عبيد - أصحاب ذلك الانقلاب أو الأعوان عليه، فقال يومئذ في وصفهم: هم قوم صنعهم الهوى فأذلهم، وطوح بهم الفكر فأضلهم، يشتهون أولا، ويفكرون ثانيا، مخضعين تفكيرهم لشهواتهم وأطماعهم؛ ولذلك فالرأي عندهم نزوة، والعاطفة شهوة.
فهل من عجب وقد باعوا أنفسهم لشهواتهم، وسخروا ذكاءهم لنزواتهم، أن يكون لهم في كل يوم فكرة، لأن لهم في كل يوم شهوة، وأن يكون الرأي عندهم سلعة تباع وتشرى، بثمن أعلى أو أدنى، بحسب أسعار السوق وتقلباته.
يا لهم من قوم بائسين، لا يهمهم في سبيل أطماعهم أن يتخذوا من الطامعين ناصرا وظهيرا، ولا يهولهم، وهم في رغد من العيش، أن تشرب أمتهم كأس الحياة مريرا، ولا يزعجهم أن يحرم المخلصون نعمة الحرية في منافيهم وسجونهم ما داموا يمشون في الأرض مرحا ويستنشقون النسيم عبيرا، ولا يخجلهم - مع كل هذا - أن يجمعوا الفتات من حول موائد الوفد ليصنعوا بها لأنفسهم خبزا وفطيرا، ولا يشينهم أن يستغلوا جهد العاملين ويرفلوا في مجد مستعار، فما كانت الحياة عندهم إلا مظهرا وقشورا!
لقد كان هؤلاء الذين وصفهم مكرم أصدق ما يوصفون به، هم الذين وجدوا أنفسهم بعد ذلك الحادث الخطير الرهيب أمام غرض لا يتواتى لهم ، فاشتدوا في القسوة اشتدادا، وتناهوا في الإساءة إلى الوفد محاربة وقمعا وتشريدا، فلما أعجزتهم الإساءة إليه عن الظفر به محصورا وحيدا، امتد عدوانهم إلى الأمة كلها؛ فآذوا الأبرياء، وسلطوا ألوان التعذيب وصنوف البلاء على الشعب نفسه جموعا وآحادا، فصمدت لهم الأمة صمدا، وظلت ملتفة حول الوفد أبدا، غير عابئة ما تلاقي من الألم والقسوة والتعذيب.
وحاولت الوزارة قطع ما وصل الحب والولاء بين مصطفى النحاس وبين أمته بجميع أساليب الطغيان، ووسائل العنف والعدوان، ولكن الزعيم ظل ساخرا من كل تلك الوسائل والأساليب، يخرج للقاء الشعب مهما أرصدوا على طريقه من القوات المسلحة، ويروح يتصل بالأمة مهما اتخذوا لصده من تدابير مكشوفة فاضحة، وقد لقي في ذلك كله عناء كثيرا، وعنتا طويلا، ومشاق وأهوالا، وهو الصبور المتجلد، المهاجم المشتد، المتقدم لا ينثني ولا يرتد، غير حافل بالكتائب التي كانت تحشد لمنعه، والقوات العسكرية التي ترصد لمنع الناس من استقباله، فكذلك فعلوا في طنطا ودمنهور والإسكندرية، وكذلك صنعوا في المنصور والدقهلية، إذ وضعوا الجنود صافات على طوال الطريق من بنها وإليها، وفتحوا الكباري ليحولوا بين الزعيم وبين الاتصال بها، وأقاموا الأشراط بالعصي والبنادق والقذائف لتفريق الجموع الجامعة، وتشتيت الزمر الحاشدة المتدافعة، في غير مبالاة بضمير ولا قانون.
ولكن زعيم الأمة لم يكن لينثني عن لقاء الناس في أقاليمهم، أو ينصرف عن الاتصال الشخصي بهم في ربوعهم، متقدما يلاقي الجنود بصدره، مقتحما لا يبالي العدوان الأثيم عليه، منتويا سفرا في أحرج أوقاته، معتزما الانتقال في البلاد في أرهب ظروفه وساعاته، معطيا من نفسه للناس القدوة البالغة، بارزا أمام الشعب بالأسوة الحسنة؛ لا يستريح هو ليجاهدوا، ولا يخاف هو ليتشجعوا، وإنما يتقدم هو مخترقا طريقه مهما ازدحمت عليه أساليب المنع والحصار والاحتجاز والتفريق والتشتيت، فلا يلبث الناس أن يسخروا من الأذى ملاقيه بشجاعة عجيبة، ويهزءوا بالألم؛ لأن أرواحهم أقوى من الجسوم، وأصبر عليه من الأبدان.
وكان الناس في سواد الريف يجدون في الطبيعة رحمة، ولا يجدون في الجند غير القسوة الموحشة الآثمة. لقد كان الناس إذا حيل بينهم وبين لقاء زعيمهم في المحطات أو قلوب المدائن أو صميم المراكز والبنادر بما كان الجند يصنعون بهم من الأذى والضرب المبرح ووسائل الإعنات والإحراج؛ خرجوا إلى المزارع، وتسللوا في الغيطان، ونسلوا من كل حدب وفج عميق إلى الأشرطة الحديدية، يجاورنها مستبقين ليظفروا بتحية الرئيس في القطار، وهم يحملون سعف النخيل شارات وإعلانا، ويلوحون بالمناديل فرحا باللقاء ونشاطا إليه وابتساما. لقد كان الناس يومئذ يصلون إلى الزعيم في أسفاره للقائهم سباحة في النهر، وعوما في الترع والأقنية، وركضا بجانب القطارات، وجموعا في المراكب والسيارات، بل كأنما كانت الحقول والمروج المترامية تنشق يومئذ عن رءوس، وينفتح أديمها عن هام وأجسام، وتدوي في نواحيها الأصوات في الفضاء بالهتاف دويا.
وكم أوذي أهل القرى والمدائن في المحطات من العصي الغلاظ والهراوات! وكم امتلأت السيارات بالآحاد والزرافات، لاستياقهم إلى المخافر، والتنكيل بهم في المراكز، وإرهابهم بكل أساليب التخويف والوعيد والطغيان!
فهل نسي أحد ماذا صنعت الإدارة في المنصورة أيام محمد محمود قبل أيام صدقي، إذ سمعت نبأ مقدم الزعيم لزيارتها؟ وكيف بلغ بها التفكير في اصطناع الحوائل، واختراع الحواجز، أن احتفرت الطرق المعبدة، واستحدثت فيها الأخاديد والشقوق غير الممهدة، تظاهرا بالحاجة إلى تعبيدها، وحشدا للهراسات الثقال في أكثر نواحيها، وفرشا للقطران والأسفلت يكسوان أديمها ليمتنع على القادمين والمستقبلين المسير والاتصال واللقاء.
وهل نسي أحد كيف عمدوا إلى معالم الزينات التي أقيمت لاستقبال مصطفى الزعيم في المدينة فهدموها، وإلى السرادقات الرحاب فأزالوها من مواضعها، فإذا ما اشتكي الناس من ذلك العدوان على تعبير نفوسهم ومظاهر فرحهم وإخلاصهم، زادوهم عسفا، وشددوا عليهم تعذيبا وتنكيلا؛ فلم يجد الأبرياء البررة يومئذ سميعين لشكاتهم ولا مستجيبين؟!
ولقد أنكرت الوزارة يومئذ تلك الاعتداءات، وزعمت أن الأمة قد انفضت من حول مصطفى النحاس، فلا زينات له ثم ولا حفاوات، ولكن القدر الساخر أبى إلا أن يفضحها ويكشف عن سوء عملها، فقد رفع صيدلي من الأتراك في المنصورة على صيدليته علما تركيا قبيل مقدم الزعيم واستقباله؛ فطلب الشرطة إليه أن ينزله عن صيدليته لأن إقامة الأعلام ممنوعة؛ فأبى الرجل متذرعا بأنه إنما قد أقامه بمناسبة عيد الجمهورية التركية، ولكنهم لم يحفلوا حجته ولم يأبهوا بقوله، وأنزلوا العلم عنوة وقوة، فما كان من الصيدلي إلا أن أبلغ الحادث إلى سفارته، فأحتج وزير تركيا المفوض رسميا على هذا الحادث الذي عده إهانة لعلم دولته، وطلب إجراء تحقيق مع المسئولين ترضية لكرامة راية بلاده، ولم يكن لرجال الإدارة من عذر عن ذلك الحادث أو شفيع، غير أنهم حسبوا ذلك العلم من الأعلام التي أقامها الناس استقبالا لمصطفى الزعيم، وزينة يوم لقائه.
لقد كان جرم أولئك الطغاة بغير سلطانهم عظيما، فقد قضوا يومئذ على الحريات في جميع مظاهرها لكي يمنعوا الاتصال بين الأمة وزعيمها، إيهاما لمواليهم ومصطنعيهم بأن الوفد قد انتهى، ومصطفى النحاس قد تلاشى، والأمة عادت شتيتا متفرقا؛ فكان ذلك كله منهم معوانا على بروز كلمة الأمة، وسمو سلطان مصطفى على نفسها، ورفعة مكانه من ولائها وإخلاصها؛ لأن كل ما صنع لتحطيم الوفد يومئذ وزعامته عاد وسيلة لحفظ سلطانه، وبقاء كيانه، وازدياد يقين الشعب به وإيمانه، وثبات الزعامة عند ذروتها العالية.
وفي سبيل هذا الإيهام ذهب رئيس الوزارة يومئذ يطوف الأقاليم، وراح حكامها يصطنعون له الحفاوات اصطناعا، ويلفقون له الاستقبالات تلفيقا، بحملهم الخفراء والمشايخ و«الأنفار» العاملين في الأرض حشودا إليه في القفاطين القشب، والثياب الجدد، والمظاهر المنحولة، والأزياء المستعارة، وكانوا يركبونهم القطر، ويشحنونهم في السيارات استياقا إلى حضرة الوزير الذي استحال بهم «دون كيشوت» في قطعان البهم والأنعام، يحسبها كتائب وجيوشا جرارة! ويمضي يشكرها على الحفاوة الباهرة ...!
وكانت هذه الوسائل كلها فضيحة ومعرة ومهزلة؛ إذ ثبت يومئذ بالأدلة القاطعة أنها كانت مصنوعة مفتعلة، حتى لقد ضبطت الاستمارات التي كانت الحشود بها مرحلة، كما ضبطت الإشارات التي كانت متبادلة بين المدير وعماله، يلقي إليهم تعاليمه في كيفية إتقان التمثيل وإجادة المناظر، وإحسان السبك والإخراج والتحلية والتجميل والتلوين.
ولقد كانوا يحتالون على جلب الناس من صميم القرى وقلب الريف إلى خصم الوفد، بزعمهم أنهم إلى الوفد ورئيسه سائقون بهم! فلقد والله أعجزهم الوفد يومئذ من نفسه، فاستعانوا به عليه. وما كان الوفد ليهزم أو يتحطم بهذه السهولة، ولا بمثل تلك الوسيلة، بل ما كان مثل «الوفد» لينهدم بأية أداة ولا أية حيلة؛ فقد جمع الله «الوفد» ليكون في حكمته عقيدة بلد، وفكرة شعب، ورجاء شيخ وولد، وألبسها من معاني الحياة، ما اشتملت به في لغة الإنسانية، العواطف الرئيسية؛ فإذا قيل أمامك «الحب» عرفته، وإذا سمعت «البغض» أدركته، وحين يطرق أذنيك «الوفد» أحسست ما يراد ووعيته ... ولقد جرى الوفد أول ما جرى حادثا، ثم استحال بعد ذلك محدثا، ونزل إلى الدنيا خطرة إلهام، أوحت به نفس إلى نفس، وفاض من صدر إلى صدر، ثم ما لبث في خطة الأقدار أن تحول إلى فكرة عامة، قرت في روح أمة، من يؤمن بها فقد آمن بقوة نفسه، ومن يكفر بها فقد خرج من الدنيا بغير إيمان!
ولقد أوقعت الأقدار في خاطر عدوها أنها ليست سوى صنع رجل بمفرده؛ فإن مضى من هذه الدنيا مضت، وإن قضى انقضت. ولو أن الحكمة الإلهية كانت تجري في مشيئتها على مشيئة الناس وإرادتهم، لتركت سعدا على الأعقاب المقيم المعمر لها، العائش المستطيل به الدهر في ظلالها، ولكنها أبت إلا أن يكون لخيبة أمل العدو درسان: درس له، ودرس لصنائعه؛ فجعلت لعمر سعد حدا، ولذكراه خلدا، ومن ورائه وفدا؛ فوارت في الثرى رفاته، وأشاعت روحه تغمر الحياة كلها بعد وفاته، فكرة على الدهر باقية.
لقد كان موت سعد آية أخرى على روحانية هذه الفكرة، ولو كانت كما قال السفهاء حركة «مصطنعة» تطلب عرضا، أو تريد خدعة، لكان القضاء عليها في تلك الفاجعة، ولكن سعدا ظل يعيش بالروح في مصطفى وأصحاب مصطفى، وفي النفوس التي تتناجى بهم، والصدور التي تهتف بأسمائهم والوادي كله الذي يحس هذه الروحانية من فوقه مرفرفة، ومن حوله محيطة مكتنفة.
وقد حورب مصطفى كما رأيت أدنأ محاربة، واتهم في أشرف خلاله ومناقبه، فخرج من ذلك منتصرا؛ لأن من ورائه قدرا كان له منتصرا، ولولا روحانية هذه الفكرة، لنجح الأثمة الغدرة، ولما باءوا أبدا من عدوانهم بنقمة تمازجها حسرات، ويخالطها حقد دفين.
ولم يكتف خصوم الوفد بما اقترفوا لمحاولة القضاء عليه ففشلوا، ولكنهم وقفوا من تعطيل الدستور بئس ما وقفوا، فزعموا أنهم عطلوه لينقذوه! فكانت تلك الحجة أضحوكة عهدهم كله، ونكتة الدور بجملته، ومضوا يرددونها في غير خجل، ويوحون إلى الصحف الاستعمارية تردادها في غير حياء، متهمين الأمة بأنها لا تصلح للحياة النيابية، وأن الشعب المصري لا يستحق دستوره، وأن الكثرة قد أفسدت النظام النيابي وشوهته تشويها!
وكان ذلك بهتانا عظيما، فإن الحياة النيابية كانت خيرا وبركة على البلاد، وكانت بداية برلماننا أروع البدايات؛ فقد تواتى لنا على فترة مستطيلة من الكفاح، فمضى فينا عزيزا، وراح غاليا؛ إذ بذلنا في سبيله دما زكيا. وهو وليد الثورة، ورث عنها صلابة عودها، واكتسب مواهبه من موهبتها، وأخذ حميته من حميتها؛ فطلع من نشأته قويا في مثل قوتها، فتناوله شيخ جليل برعايته وتربيته، وقد شاءت الحكمة الإلهية أن يحرم ذلك الشيخ نعمة البنوة الخاصة ليجدها في البنوة العامة؛ لأنها جاءت به أبا لمصر كلها، حتى لا يستحوذ ولد أو ولدان قلائل على كل أبوته، ويحتكروا لأنفسهم حنانه ورعايته؛ فلم يلبث الشيخ أن اتخذ تلك الأمة الشابة ابنته، وجعل الوفد حفيده، وكذلك نشأ برلمان مصر في كفالة سعد فكان خير حفيد لأعظم جد.
لقد كان البرلمان شيئا جديدا على مصر، وكان المنتظر أن نكون نحن أيضا جددا عليه، تبدهنا في مستهله صدمة المفاجأة، ويطغينا منه الظفر به، فنهجم على تناوله غاشمين، ونروح تحت قبته أغفالا لم تصقلنا بعد التجربة، ولم تعلمنا الحوادث مطالبه، ولم تعودنا تقاليده وآدابه، ولو أن شيئا من هذا وقع لنا أو فرط منا، لما كان عجبا، ولما مضى مستنكرا ولا مستغربا؛ لأن أعرق الأمم الدستورية، وأقدم الشعوب عهدا بالحياة النيابية، لا تزال إلى اليوم تخطئ، ولا تني تغلط وتهم، ولكن من رأوا سعدا تحت القبة، وشهدوه فوق المنصة في دار الندوة، وهو الجديد على تلك الحياة، الأزهري الصميم، أطال المجلس في الصحن، والقعود في بهرة الرواق؛ فقد شهدوا رجلا عجيبا، ووجدوا حيالهم شخصية ممتازة موهوبة، رجلا جاء من لدن الله حاملا الروح البرلماني كله في أحناء صدره، وحذق أوضاعه بالفطرة، وأدرك أسراره بقوة الإلهام، وروعة الفكرة، ولقد كنا منه حيال رجل برلماني عريق، عجم الدساتير كلها، ووعى نظم البرلمانات بجملتها، ومن جاءت به الأقدار لينشئ شيئا جديدا، يجيء جاهزا له، مكتملا من معانيه، مزودا بعدته ومطالبه ومراميه؛ فلا يعوزه العلم والمعرفة، ولا يحتاج إلى الأستاذ ولا العريف؛ لأن الله حباه بالعبقرية، وقديما رأينا العبقريين محدثين في العلم، منشئين في المعرفة؛ لأن علم العبقرية لا يأتي دائما من طريق التجربة وحدها، وإنما يفيض من نبع أغنى، ومن معين ثجاج مصدره في السماء، ومصبه في الأرض؛ ولأن المعرفة عند العظماء ليست اكتسابا من طول المرانة، ولا أثرا من حكم العادة، وإنما هي من مفيض النفس الملهمة القوية الدفاعة، الرهيبة السيل، الجليلة المنحدر.
ألا إن سر العبقرية عند الله، وقد جاءنا سعد في البرلمان بسحرها، ثم مضى إلى الله بذلك السر ...
ومن فوق منصة الرياسة مضى الشيخ الجليل ينشئ الحفيد العزيز أحسن التنشئة، ويكفل له أصلح التربية السياسية، ويعوده السكون إلى خير الأوضاع وأمثل النظم، ويرسل من جلاله على الندوة جلالا، ويفيض عليها من كبار آماله لمصر آمالا، ويحيل الشباب رجالا.
وما لبثنا أن رأينا المجلس يفيض حياة، وشهدنا من قوة خطابة الشيخ المخلوق للمنابر خطباء في الحق أشداء، وأذهانا جبارة تحل أعقد المسائل، ومداره مفوهين يصولون بمنطقهم في مجال المشاكل. ومن لم يتعلم فن الكلام المختار الجميل، على مشهد سعد ومسمع صوته، وسحر حميته، راح آخر الدهر أخرس محصرا لا يجيد كلاما.
ولقد نبغ في المجلس المحدث متكلمون، وقام فيه خطباء بارزون، ونهضت مع كل فرع من الفروع العامة لجان من الباحثين المدققين، وفوا المشروعات درسا، وأحاطوا بالموضوعات التشريعية علما وبحثا، وكانت مصر الكبيرة ممثلة حقا في مصر الصغيرة، والعالم كله ينظر إلينا، ويعجب من أمرنا، كيف التقطنا الفن، وحذقنا في أقصر فترة من الزمن ما لم يحذقه سوانا إلا على فترة بعيدة من الدهر.
لقد كان برلماننا عجيبا من نشأته، كأنما لم يكف مصر العجيبة أن بدهت الدنيا بغرابة ماضيها، فجاء حاضرها أبدع وأغرب.
وقد رجع سعد بعد رحيله من هذه الدنيا إلى المجلس، روحا مرفرفا فوق المنصة، سائدا أرجاء المجلس؛ فقد وضع الأساس، وبنى القاعدة، وحدد حدود الدفاع وحدود المعارضة، وعرف القوم واجبات المجلس ومقاصده؛ بل لقد أدى الرسالة، وأتم من حياته الغاية، ثم ترك لمن بعده المسير إلى النهاية.
وجاء مصطفى فجلس فوق المنصة، برلمانيا بالمنطق والحمية والحماسة، فيه من سعد كل روائحه، حاشدا من الإخلاص للدستور كل دلائله، فكأنما غاب الشيخ بجثمانه ليحضر من حول مصطفى بروحه ووجدانه.
لقد أثبتنا ببرلماننا الحديث أننا أقبل الطبائع البشرية للحضارة، وأكدنا للعالم بأسره أننا نلابس الحياة الجديدة أجمل ملابسة، وأننا حساسو الفطرة، سليمو الذوق، مستوون على سوقنا، وأن برلماننا في المرحلة الأولى من عمره قد جمع من أدلة الحياة، وأسس النجاح، وحسن الاختيار له، وبراعة الأخذ بأوضاعه، ما لم يجتمع بعضه لبرلمان عريق قديم متراخي الأمد.
ولو رجع المرء إلى إحصاء حسنات الحكم النيابي في الفترات القصار التي قطعها، رغم الدسائس المحيطة به، والمكائد التي تنسج خيوطها في الظلام لإيذائه وتعويق سيره؛ ولو عاد إلى قوائم القوانين التي أقرها، والمشروعات الحيوية التي اقترحها أو وافق عليها أو ابتكرها، والمقترحات والرغبات التي ساق إلى الحكومة بها؛ لوجد أن البرلمان المصري، على حداثة نشأته، قد أثمر أطيب ثمراته، وأبدى أعجب نشاطه، وأثبت فضله وكفايته، ودلل على أن المصريين قد أوتوا الاستعداد الصالح له، والحذق لكل مطالبه ومقتضياته، والنزعات الطبيعية التي ترفع من مستواه لو أنه خلي بينه وبين التقدم في طريقه غير محارب، ومتابعة المسير بغير عائق ولا حائل ولا احتجاز.
وكان من الجرأة الغريبة أن الوزارة التي جعلت تطعن في الحياة النيابية، وتتهم البلاد بأنها لا تصلح لها، هي بذاتها التي لم تستطع أن تؤدي شيئا لها في باب الإصلاح، ووجوه التحسين؛ حتى لقد وصفت يومئذ بالشيء الوحيد الذي تظاهرت بالعناية به أكثر من سواه، فقيل عنها يومئذ «وزارة البرك»، أو وزارة المستنقعات! لأن رئيسها جعل كل همه الهدم لما بنته النهضة المصرية من مطالعها، وأقام من ردم البرك كل مفاخره!
وفي قائمة الهدم خلال ذلك الحكم المطلق غير الصالح جرائم عدة وأنواع كثيرة متقاربة ومنفردة، حسبنا أن نشير من جملتها إلى ما صنعت تلك الوزارة بالصحافة، فقد عطلتها بالعشرات، وضربت عليها أشد الحدود، ونكلت بأهلها أقسى نكال، ونثرت ذهب المعز على الصنائع منها والمقربين نثرا.
وصادرت حرية الاجتماعات، ولم يكفها القانون القائم بصددها، وإنما ذهبت في تعديله إلى جعل البوليس قاضيا يمنع ويفض الاجتماع كما يشاء، ويعاقب الداعي إليه إذا أراد؛ حتى لقد بلغ من تماديهم في مصادرة الاجتماعات أنه حين عقدت الوزارة اتفاقية النيل مع الإنكليز، تلك الاتفاقية الخطيرة الثابتة الضرر بمصر ومصالحها الحيوية، بل تلك الاتفاقية التي كانوا يروجون لها كل ترويج، طالب الناس في الأقاليم جميعا بعقد اجتماعات لبحث هذه المسألة الخطيرة والتشاور في أمرها؛ فكان المنع باتا استنادا إلى ذلك القانون الاستثنائي الشاذ الجديد.
ولقد كان البوليس أيضا يستند إليه في فض اجتماعات أصحاب القضايا في مكاتب المحامين، فيهاجمها ويخرج الناس منها بالقوة والإكراه.
وحرموا على الموظفين - وهم من خيرة الأمة وصفوتها - أن يعنوا بمصير بلادهم؛ إذ أدخلوا تعديلا على نص المادة 144 من القانون المالي يقول: «يحظر على الموظفين والمستخدمين أن يشتركوا في اجتماعات سياسية، أو أن يبدوا علانية آراء أو نزعات سياسية، وكل من يخالف ذلك يكون قابلا للعزل!»
ولو أنها عممت الأخذ بهذا التعديل المصنوع لهان الأمر بعض الشيء، ولكنها أحلت لقوم ما حرمت على الآخرين، وأطلقت أيدي موظفي الإدارة وغيرهم من الموظفين فأمعنوا في العمل السياسي والدعوة السياسية لها في الوقت الذي اضطهدت فيه عشرات من الموظفين لمجرد الشبهة والأخذ بالظن.
وما لبثت أن تفشت «المحسوبية» في الوظائف، وأغدقت العلاوات والترقيات الاستثنائية على الأنصار والأقارب والمزدلفين والملقة واللاعبين بالأذناب؛ فأصبحت الوظائف بذلك وقفا على قليل من الناس لا يستحقونها، ولكن يصيبونها غنائم وأسلابا، ومن لم يظفر منهم بمنصب أو موضع بارز أجرت الوزارة عليه مالا وفرا من «المصروفات السرية» بغير حساب.
ولم يتورع ذلك العهد الغاشم الفاسد عن المساس بقدسية القضاء والتعريض بعدالته، غير حافل بطمأنينة الناس إلى عدالة القضاء، وحسن توزيعها عليهم بالسواء، ولا آبه بوجوب قيام الثقة بين القضاة والمتقاضين، بل راحت وزارة الحقانية تحاول السيطرة على ضمائر القضاة، فإذا لم يصادف حكم المحكمة هوى في نفس الوزير أو تعارض وسياسته، بادر إلى حرمان تلك المحكمة من سلطتها، إما بتشتيت أعضائها بطريق إداري، أو بتشريع خاص.
وفي ذلك يقول المجاهد الكبير الأستاذ مكرم عبيد (باشا) حين عرض له في بعض خطبه الفياضة الساحرة: «ولما صدر حكم مجلس التأديب في قضية أتعاب سيف الدين، استصدرت الوزارة في ثورة من الغضب قانونا، هو صيحة موجع لا عمل مشرع، ولم يأخذها في حكم هيئة قضائية سامية مقدسة ورع، بل أعلنت صراحة أن الباعث على هذا التشريع هو صدور ذلك الحكم، ثم تهجمت عليه في مذكرتها التفسيرية قائلة: «وإذا كانت مقاليد المحاماة قد خفيت على مجلس التأديب وجب على الشارع إبداؤها، أو إذا التبست عليه وجب الإيضاح وإزالة اللبس.» وليتها اقتصرت على ذلك، بل ذهب بها الأمر إلى حد استباحة كرامة المجلس ونقل اختصاصه إلى محكمة أخرى، فكان ذلك في الحق امتهانا لكرامة القضاء لا يغتفر. ولا ريب عندي في أنه لو صدر حكم مجلس التأديب في عهد دستوري لاستقالت الوزارة، أما في عهد الدكتاتورية والاستبداد، فالوزارة لا تستقيل ... ولكنها تقيل المحكمة!»
وحاول ذلك العهد الغاشم أن تقوم القطيعة بين الشباب وزعيم بلادهم إمعانا في الكيد له، والدأب على تجربة كل قوى السلطان الغاشم في فض الناس من حوله؛ فأخذت الوزارة الطلاب في مدارسهم بأقسى المثلات، وأجرت عليهم قانونا استثنائيا يحرم عليهم التفكير في وطنهم، والحب لبلادهم، والحنان والعطف على قضية دستورهم واستقلالهم، متخذة من كلمة الاشتغال «بالسياسة» متكأة تستند إليها في قمعهم وفصلهم من معاهدهم، وإشاعة الإرهاب في أوساطهم النقية الطاهرة.
لقد كان تحريم ما سموه يومئذ «سياسة» على شباب هذا البلد وأبنائه وورثة الحاضر وتركته، هو محاربة للوطنية باسم مستعار، وخلف ستار مهلهل لا يخفي ما وراءه؛ إذ كان الاشتغال بالوطن، والتفكير فيه، والخشية على مصيره، والتعلق بزعمائه، والولاء لقادته، ينبغي أن يسري في الدم ويتغذى منه الجسم، وتتأثر به الروح، ويشتعل في الخاطر، ويستحوذ على الفكر والعاطفة والوجدان.
لقد كان اشتغال الناس جميعا، موظفين وشبابا وطلابا وعامة وخاصة على السواء، بما سموه «سياسة» تخويفا وتشويها لأكبر المعاني وأشرف الأحاسيس في تلك العهود المظلمة، والأدوار الخطرة على المستقبل والمصير، هو الاشتغال فعلا بمسألة الحياة أو الموت؛ لأن سكون الشعب إلى ما يراد به هو الجلوس في انتظار الفناء والرضى بالجمود والموت؛ وأما المجاهدة بكل قوى النفوس، والنضال المستمر بكل أدوار العمر - شباب وكهولة ومشيب - لتخليص الوطن من ظلمته، وتنجية البلاد من محاولة اغتصابها أو الاستبداد بها؛ فهو العمل للحياة، واحترام الحياة، والرغبة الصادقة في الظفر بأشرف معاني الحياة!
لقد كان الاشتغال يومئذ «بالسياسة» - أو حب الوطن - هو في تلك العهود الغاشمة تلبية للغرائز المتأصلة في البشرية، ومجانبة الموت الاجتماعي، وابتغاء الحياة الحقيقية الملابسة للفطرة والخليقة والتكوين.
لقد أردنا أن نكون أحرارا، وأن نسترد استقلالا ودستورا، فهل كان يصح أن يكون الاشتغال بالسياسة، أو بالتالي، الاشتغال بهذا المثل الأعلى، بل هذا المطلب الديني المقدس - لأنه مزيج من الدين، والإيمان به جزء من اعتناقه والحرص عليه - مقصورا على فئة دون أخرى، محصورا في طبقة دون طبقة؛ لكي يظل فريق من أهل البلاد مسترسلين مع أحلام خواطرهم، مدفونين مغيبين في الصناعات والحرف يصيبون منها أرزاقهم، أو منشغلين بالتحصيل والتجهز للمستقبل، فإذا ما انتهوا منه أقبلوا يواجهون الحياة، فلا يجدون حيالهم غير وجود كالعدم، وحياة كالموت، ومستقبل مظلم مؤيس، تموت الآمال صرعى على جوانبه؟
لقد كان الاشتغال بالسياسة يومئذ وبهذا المعنى الصادق الذي يجب له، ينبغي أن يشملنا جميعا بكل مراحل الأعمار، وأدوار الحياة، بل كان يجب أن نتوجه بمجموعنا التام نحو السياسة، نعنى بها عنايتنا بدرء أكبر الخطر، ومقاومة أشد الوباء، ومكافحة أدوى الداء؛ لأن الانصراف عنها كان يومئذ هو التسليم لعدونا، والنزول على الضيم الذي يراد بنا، والرضى الذليل المجرم باستعباد المستعبدين.
لمصلحة من كان يطلب إلى فئات من الناس ألا يشتغلوا بالسياسة في هذا البلد، إن لم يكن لمصلحة الذين كانوا يريدون القضاء عليه وإبقاءه محتلا يرسف في القيد إلى الأبد؟!
كل تعليم لدينا، وكل عمل في خدمة الحكومة عندنا، وكل شأن من شئوننا؛ كان يومئذ رهن رقابة عدونا، معرضا لإيحائه السام الفاتك بقصد استئصال الشعور الوطني، أو الاشتغال بالسياسة من معاني وجودنا لنظل أبدا منزوعي الغرائز، نعيش في قبور الذل راسفين.
ومن - ليت شعري - كان أولى يومئذ بالدفاع عن مصيره والذود عن مستقبله، من جموع الشباب قبل الشيوخ لأنهم عدة كل كفاح، والذادة عن المثل العليا في كل عصر. وها هي ذي أمم الغرب تعتمد اليوم على شبابها؛ لأنهم حملة المصباح المقدس، وشعلة الحياة المتوارثة جيلا بعد جيل.
بل في إنجلترا ذاتها التي اغتصبت حريتنا، ينادي الزعماء شبابها، ويهيب القادة بفتيانها أن هلموا في حماستكم الصادقة لتكونوا عدتنا، وتعالوا بجمعكم مضحين في سبيل وطنكم مستشهدين.
هذا هو ما كان ينبغي أن يروح موقف الشباب في عهود الظلم والطغيان، وأدوار التجاريب الاستعمارية المتعاقبة لتحطيم الزعامة وتوهين الوفد وتشتيت الإجماع، وقد لزمه شبابنا أعلياء النفوس، وثبتوا فيه جياشي الأرواح، وكان لهم بعض الفضل في الفوز المبين الذي اكتسبته الأمة وزعامتها في معارك الدستور والاستقلال.
وقد يكون المنطق سليما اليوم، والنصيحة سديدة الآن، إذا قيل للشباب وقد اجتزنا تلك الأدوار، وتخلصنا من تلك العهود، واحتوانا عهد جديد نملك فيه مطلق الحق في التصرف في شئوننا، وبناء مجد وطننا: «لا عليكم اليوم أيها الشباب، قروا في معاهدكم، وانكمشوا في دراساتكم، ودعوا الزعامة تعمل متوخية الخير، وتشتغل ملتمسة الإصلاح والإحسان، وإنما أبقوا عدة لها متى تحتج إليها تجدها على حبل الذراع، ورصيدا طيبا موفورا متى تلتمسه تصبه في مواضع الخطر ومطالب الجرأة والتضحية والشجاعة والإقدام».
ليكن الشباب اليوم في حراسة الدستور، وحماية الاستقلال، وصيانة قدس الزعامة ليكونوا بجانب مصطفى النحاس في كل موقف، وعند بادرة أي خطر، وعلى إيذان بالمجيء أية ساعة تستحق المجيء، ولا يستمعن أحد منهم إلى المشاءين بالوقيعة؛ فليس في البلد كله سياسي أفضل ولا أحسن ولا أنزه ولا أطيب ولا أكثر إخلاصا من مصطفى النحاس لبلاده وأمته.
ولقد رأينا بولدوين يقول يوما بسبيل واجب الشباب في بلاده: «إن فريقا من الناس يريدون أن يفرضوا على الوطن أسلوبا شاذا من الحكم، ينهض على الاستبداد والظلم والجبروت، ولكن في وسع الشباب - بإخائه الجليل وتعاونه الوطني الرفيع - أن يصون الديمقراطية التي ظفرنا بها تراث المهج والأرواح الغالية.»
فليكن هذا إذن موقف شبابنا، قوة لا تنكر بجانب زعامتنا، تصون معها الحرية، وتعزز بجانبها الاستقلال.
وكان من أشنع مساوئ ذلك العهد ونكره، انتشار الجاسوسية في البلاد إلى حد يكاد يبلغ ما كانت عليه في تركيا على عهد السلاطين الغابرين. وكان الجواسيس ينبثون في المجامع، ويتعقبون الآمنين، ويتأثرون المخلصين والمنتمين إلى الوفد والمنتسبين من قريب أو بعيد، يتبعونهم كظلهم، ويتلصصون على جهرهم وسرهم، ويفترون على ذممهم، والدكتاتورية من ورائهم تتحرش بالأقوياء منهم، وتبطش بالضعفاء، وفوق هؤلاء وهؤلاء عين الله ناظرة شاهدة.
ولقد كان عدد الجواسيس الذين يحيطون بفندق سان استفانو أثناء إقامة دولة الرئيس الجليل فيه يبلغ 87 من رجال البوليس السري، فإذا خرج دولته إلى النزهة في سيارته تبعته سيارة البوليس، وحدث مرة أن سيارة الرئيس غابت عن أنظارهم فراح المساكين يطوفون الشوارع ويدخلون البيوت، ويسألون بلهفة هذا وذاك إذا كانت سيارة الرئيس قد ذهبت من هنا أو من هناك!
وكان الجواسيس فوق ذلك يلفقون التهم على الأبرياء أعجب تلفيق.
ومن بين القوانين الشواذ التي أصدرها ذلك العهد، قانون سموه «حماية الموظفين» لإغراء الموظفين، وبخاصة رجال الإدارة والموكلون بحفظ النظام والشرط الساهرون على حقوق الأفراد وحرياتهم، بإهدارها، والتنكيل بخصوم العهد والمستهدفين لنقمته، في غير خشية من عقاب أو خوف من جزاء أو زاجر من قانون، بل لقد كان اطمئنان الموظفين إلى قيامهم بنجوة من المؤاخذة إذا هم أسرفوا في التضييق على حريات الناس وإيذائهم، بمقتضى هذا القانون الشاذ المنافي لأبسط مبادئ العدالة والمساواة، باعثا لفريق كبير منهم على الغلو في إيذاء خصوم العهد وضحاياه، ليكون ذلك جوازا لهم إلى الترقية، ومطمعا في الإغداق عليهم منحا وعطاء.
لقد جعل ذلك القانون الهمجي طبقة الموظفين فئة خاصة فوق الناس، ودون منال القانون؛ إذ قضى بألا يجوز رفع الدعوى العمومية على موظف مباشرة - وهو حق من حقوق الإنسان تقضي به مبادئ القانون - ما لم يسأل في ذلك الوزير الذي يختص بأمره، أو بعبارة أخرى، المعتدي عليه؛ ليكون الخصم والحكم معا!
وبقوة هذا القانون الشاذ راح البوليس يدخل البيوت وينتهك حرماتها، ويقبض على الناس من غير وجه حق، ويعتدي على الشيوخ والنواب في الساحة الملكية، ويقسو في الضرب والإيذاء إلى حد إصابتهم بجروح وكسور خطيرة، فيرفعون الشكوى إلى النيابة العمومية، وهذه ترفعها إلى الوزارة، وهذه تودعها سلة المهملات ...
لقد كان ذلك العهد عهد شراء الذمم، وإضاعة الأموال، عهد الإسراف والتبديد، عهد الإغراء والإفساد بكل ألوانه ونواحيه؛ حتى لقد كانت المصاريف السرية تنثر على الأنصار والمأجورين نثرا، إلى أن بلغ رقمها حدا مخيفا يدل على مبلغ الغلو يومئذ والاستهانة والتفريط.
وفي هذا الباب من الإسراف في أموال الدولة ينبغي أن يدخل ما سمي يومئذ باتفاقيات النيل؛ فقد راح وزير ذلك العهد والحاكم بأمره يرتبط مع الإنكليز باتفاقيات مائية بالغة الخطر على مصير البلاد، ويقرهم على إنشاء خزان جبل أولياء؛ ليمكن لهم من قتل مصر بسلاح الماء.
وارتبط كذلك باتفاقيات أخرى قبلوا بمقتضاها:
أولا:
بأن تلتزم مصر القرض العثماني المعقود سنة 1855 بمبلغ مليون و386 ألف جنيه.
ثانيا:
أن تدفع للحكومة البريطانية ستمائة ألف جنيه تعويضا عن البواخر الإنجليزية، التي غرقت أثناء الحرب وكانت تحمل فحما لمصر.
ثالثا:
أن تدفع 294 ألف جنيه للحكومة البريطانية من الرسوم التي حصلتها الجمارك المصرية على بعض مستوردات السلطة العسكرية البريطانية في أثناء الحرب؛ فمجموع ما تدفعه الحكومة المصرية مليونان ومائتا ألف جنيه.
وتناول الاتفاق أيضا مبلغ مليون و585 ألف جنيه تعويضا لمصر من ألمانيا عن الخسائر التي تحملتها من جراء الحرب، فيكون مجموع المبالغ التي تناولها الاتفاق أربعة ملايين و165 ألف جنيه!
ولم ينس الوزراء أنفسهم، فرتبوا لكل منهم مرتبا خاصا سموه التمثيل؛ فللرئيس خمسمائة جنيه، ولكل وزير ثلاثمائة جنيه، ما عدا وزير الخارجية الذي له من المصاريف السرية عشرة آلاف جنيه، هذا بينما الوزراء في عهد البرلمان قد أنقصوا من مرتباتهم ثلاثمائة جنيه لكل منهم.
وراح عمالهم في الريف يضربون على الناس إتاوات فادحة للاشتراك في حزبهم أو ناديهم؛ فكان عمال السلطان الغاشم يجمعون تلك الإتاوات بالسياط وأساليب التخويف والإرهاب والبطش الشديد.
وأقاموا رقابة على البريد، يفضون غلفه، ويعبثون به، وينتزعون منه ما كانوا منه موجسين؛ فقد حدث أن أرسل الوفد نسخا من نداء عام له في غلف كثيرة إلى أنصاره في سواد الريف، فجعلت إدارة البريد تصادر تلك الكتب غير آبهة بحرمات ولا قوانين.
وتناهوا في انتهاك الحركات إلى حد الانقضاض على الدور والمنازل يفتشونها، ويقتحمون الخدور في صميمها، ويغشونها بالليل كالسطاة واللصوص، ويروعون أهلها ترويعا.
وفي اليوم الخامس عشر من شهر مارس سنة 1929، وهو يوم الدستور، قدم إلى القاهرة من جميع أطراف البلاد جموع زاخرة من الناس يتقدمهم شيوخهم ونوابهم، مهرعين إلى ساحة عابدين، متوجهين إلى مليكهم ليرفع عنهم هذا الظلم الذي أصابهم، ويرد إليهم الدستور الذي آمنوا به. وكانت الوزارة قد أعدت لهذا اليوم عدته، وأجلبت عليها بخيلها ورجلها وقواتها المسلحة.
وفي ذلك يقول مكرم عبيد في لغته النفاثة، وأسلوبه العجيب، وبيانه الخلاب، وسحره المبين:
وفي اليوم المرتقب كانت القاهرة وكأنها في حالة حصار تموج بقوات البوليس والجيش مشاة وركبانا، تسلحهم العصي الغليظة والبنادق والمسدسات، وتقيهم الدروع والخوذات.
وبينما القوة تتحفز للهجوم وتتخذ العدة لاكتساح كل من يقف في سبيلها، وبينما الخيول الصافنات وقد ملت الانتظار تعلن شوقها إلى حومة الوغى بصهيلها ... إذا بجيوش العدو مقبلة؛ وا عجباه! فلا عصي معها تتقى، ولا سيوف يخشى من صليلها، عزلاء من كل سلاح إلا أنها توكلت على الله في نضالها، تسير الهوينا في سكون وثبات، وجلال الحق يمشي في رحالها، وعلى رأسها شيوخ واهنون يقودونها إلى استشهادها، ليت شعري كيف دبت القوة في أوصالها!
ها هما الجيشان يتلاحمان، ها هي ذي السماء تبكي رحمة على الأبرياء، وقد انهالت عليهم القوة بعصيها ونصالها، ها هم أولاء الشيوخ الوقورون يسقطون على الأرض جاثمين، فتختلط دماؤهم بأوحالها، وها هي ذي النقالات تنقل الجرحى لا إلى المستشفيات يعالجون فيها، بل إلى السجون يكبلون في أغلالها.
أيها الشيوخ والنواب:
لقد استحققتم ببطولتكم تقدير الوطن ...
كان ذلك موقفا تاريخيا جليلا يغمر ذلك العهد الغاشم كله بجلاله، إزاء خزيه هو وعاره وسفاله؛ وقد كان هذا آخر مسمار دق في نعشه، وأشنع جرم ختم به سلسلة جرائمه وآثامه، والفعلة الشنعاء التي لطخت بعارها آخر أيامه كأول أيامه.
وكان فخار العقيدة الوفدية أنها صمدت لذلك كله صمدة إيمان، واصطبرت لكل تلك الآثام والآلام اصطبار قوة لا صبر ضعف، وخاضتها جميعا مخاض جلد واحتمال لا مخاض وهن ويأس؛ فتم لها بفضل ذلك كله النصر، واستكمل لها الفوز، واستعادت مكانها أروع مما كان؛ إذ اكتسبت في المعركة قوة الاحتمال، ومناعة الحصن، واستحكام المواقع، وحصانة البنيان.
وقد لبث ذلك العهد خمسة عشر شهرا؛ فكان مكثه واستطالته، وازدحام الجرائم خلاله، واحتشاد الآثام والمحن والجهاد حياله، وتتابع الجهاد وجملة آلامه وأهواله، ثم انتهاؤه بعد ذلك جميعا بخزيه وخيبته وفشله؛ دليلا قاطعا على أن الوفد لا يتحطم، والفكرة لا تنهدم، والمبادئ في مكان مكين.
لقد كان النصر حليف الزعامة في كل تجاريب ذلك العهد الغاشم ونكباته؛ فقد ظل مصطفى النحاس قائما - كما يقول لورد لويد في كتابه - على صهوة جواده، يشرف على الموقف، ويجول في الميدان، ويوجه الجموع، وينظم الصفوف، ويحتل التلعات، ويقتحم المخاطر، ولا يتردد عن المهاجمة بنفسه، ولا يتراخى عن التقدم بذاته ، وهو بين ذلك جميعا مؤمن بأن النجاح له، والفوز نهاية جهاده، كلما صدمته صادمة ابتسم لها، وسخر منها؛ لأنها لم تكن لتفعل في نفسه غير هزة كالكهرباء، يسري في أثرها نشاط غريب وروح منعش، وحركة جديدة، وشعور قوي غالب ينبعث غير لاو على شيء، ويطفر مستبقا ليسترد الموضع ويستعيد الميدان.
كل الفضل يومئذ كان للروح المعنوي في صفوف المجاهدين، وكل الأصل في هذا الروح لحكمة الزعامة وسداد القيادة؛ فقد عرف مصطفى النحاس يومئذ كيف يمسك بهذا الروح الخفي اللطيف الساري السارب في يمينه، يوجهه أحكم التوجيه، وينفخ فيه من روحه هو وإيمانه، ويطلقه في أحسن ميادينه، فقد حورب هو بالذات حربا مجرمة نكراء، فكان يتلقى السهام غير منزو ولا منكمش ولا مجفل، وكان أبدا الثابت الجلد الصبور المطمئن؛ ومن ثم راح القدوة المثلى لصفوف أعوانه، والأسوة الحسنة لجموع المجاهدين تحت علمه وفي ميدانه، كلما تعبوا وجدوه حيالهم غير متعب فنسوا تعبهم، وكلما أجهدتهم المعارك نظروا إليه بإعجاب وأكبروا إيمانه ومجاهدته، فعادوا يرتفعون فوق أنفسهم خفافا مستجمين ناشطين.
أفلم تسمعوا ما قال مصطفى بعد ظهور براءته من تلك التهمة النكراء التي حاولوا اتهامه بها في قضية سيف الدين، فإن كلمته يومئذ من أروع ما نادى به زعيم صادق أمته المحبوبة وشعبه الولي الكريم. لقد نادى بني قومه يومئذ قائلا:
بني وطني:
لا أدري أي يوميكم أحق بشكري، وأمتع لفكري، وأولى بأن ينفس عن صدري: أيوم حزنكم لتشهيرهم بالأمة، يوم اتهامهم خليفة سعد؟ أم يوم فرحكم بإعلان البراءة، وهو حكم على خصوم الوفد؟! ... وأنا في كليهما خادم هذه الأمة الكريمة المغمور بعطفها، المرموق بحبها، فلقد والله أكبرت حزنكم، كما أكبرت فرحكم. فلله دركم! وهو القادر على أن يتولى عني جزاءكم، فلنتوجه جميعا بالشكر لأحكم الحاكمين الذي برأ حياتنا النيابية من كيد الكائدين، وحفظها من رجوم الشياطين.
أيها المواطنون الأعزاء:
لقد ناديتكم يوم الاتهام فما كذبتكم، ووعدتكم فما أخلفتكم، واليوم ها أنتم الأعلون بحمد الله، فاسجدوا لله واشكروا.
كان خصومنا بالأمس يرموننا بأشنع التهم، فرحين بما دبروه للأمة من وراء ستار. فما هي إلا أن طلعت العدالة في وضح النهار، فسجلت لزعمائكم في حكمها، بلفظ صريح، «الشفقة، والرفق، والقيام بالواجب، والنزاهة، والصلابة في الحق»، ودمغت الخصوم بميسم «السرقة، والتزوير، والتلفيق، واستخدام الأشرار»، وخرجت الحياة النيابية من هذه الغمرة أصلب عودا، وأكثر جنودا، وأرفع بنودا، وأزكى شهودا، وكان سعيها محمودا.
ولقد علمتم أن زعماءكم عند حسن ظنكم؛ فافخروا بقضائكم النزيه، وباهوا به الأمم، واهنئوا برجال المحاماة منكم، فهم فيكم علم؛ واشكروا معي تلك الشعوب النبيلة الكريمة التي تحزن لحزنكم، وتفرح لفرحكم، وتتطلع باهتمام إلى أخباركم وأحوالكم؛ لأن بها من حب الحرية ما بكم، وتشفق على نفسها مما يصنعه الخصوم في سبيلكم. كما نشكر الغربيين المحترمين الذين دفعهم شعورهم بالعدل وتقديس الحرية إلى مجاملتنا عند اتهامنا، وتهنئتنا بكلمة القضاء فينا. وأخيرا فلنشكر كل لسان تحرك بالصدق، وكل قلم انتصر للحق، وكل قلب خفق للعدل، والله ولينا ونعم النصير.
لقد جاء هذا الحكم ضربة في الصميم من ذلك العهد الغاشم وأيامه النكر، وقد اعترف لورد لويد في كتابه بذلك، فقال: «وقد كان من سوء الحظ أن أحد التدابير التي اتخذت في أوائل السنة الجديدة كان القرار بإحالة النحاس باشا وزميليه (ويصا واصف بك وجعفر فخري بك) على مجلس التأديب بشأن سلوكهم غير اللائق بصناعتهم في قضية سيف الدين؛ إذ كان كل ما يمكن أن يرجى من تصرف كهذا هو الحكم «بالتوبيخ»، وهو لا يقدم ولا يؤخر شيئا، بينما يروح حكم البراءة - كما حصل فعلا - انتصارا للوفد وضربة عنيفة لهيبة الحكومة وسمعتها؛ فقد جمعت القلوب حول النحاس باشا، وضمت شتات العطف نحوه، وسهلت تصوير الحكومة في صورة الطغيان ومقاومة الشعور العام.»
وقد وقعت هذه الضربة الموجعة المحطمة في وقت كان الحكم المطلق فيه قد تخاذل، وبدأ يحس الفشل، وينزع إلى التردد من فرط الحيرة والكمد لتصدمه حركة أخرى، أو تفسد عليه ما بقي من أمره، وهي حركة واسعة النطاق كان يراد منها «غربلة» الحكام في الأقاليم بإحالة فريق كبير منهم على المعاش بغير مبرر ظاهر ولا شفيع مقبول.
وبدأت سياسة القصر يومئذ - إذ أدركت انحراف التيار نحو منعطف الخيبة والفشل - تتراخى وتحتجز معونتها، وتمسك تأييدها الذي كانت من قبل سخية به.
وبرز كذلك عامل خارجي فأعان على نجاة البلاد من ذلك العهد الأليم، وهو سقوط وزارة المحافظين في شهر مايو من سنة 1929، وقيام حكومة العمال مكانها؛ فلم تلبث الحكومة الجديدة في بريطانيا أن شعرت بأن السياسة القديمة في مصر - سياسة المحافظين من قبلها - قد حان أن تتبدل؛ لأن ممثلها في مصر - وهو لورد لويد - قد أسرف في التطبيق أسوأ الإسراف، حتى لقد ذهب المرحوم المستر هندرسن وزير الخارجية الإنكليزية في حكومة العمال في وصف تلك السياسة إلى أنها «تيار هائج مائج، كثيرا ما يروح كدرا لا يهدأ يوما ولا تصفو صفحته ولا يروق أديمه!»
وكان الملك فؤاد يومئذ في برلين في زيارة رسمية للرئيس هندنبرج، وكان مزمعا السفر من ألمانيا إلى بلاد أخرى في أوروبا لزيارات رسمية أخرى، على أن يقدم إلى إنجلترا بصفة غير رسمية في النصف الثاني من شهر يوليو، وكانت النية كذلك أن يكون محمد محمود باشا رئيس الوزارة في إنجلترا عند وصول جلالته إليها، وأن يكون لورد لويد أيضا هناك بإجازته الصيفية في ذلك الشهر بالذات.
ولم يكد لورد لويد يصل إلى لندن ويجتمع بالمستر هندرسن حتى ذاع النبأ بأن لويد قد أقيل من منصبه؛ وتبين فيما بعد من كتاب لويد نفسه «مصر من عهد كرومر» أن المستر هندرسن تخلص منه بذوق، وأوعز إليه من طرف خفي لطيف بتقديم استقالته. وقد حاول لويد بعد هذا أن يثير ضجة حول زحزحته عن مكانه، ولكن ذلك كله لم يستمع أحد له، وأذن الله لمصر بالخلاص من ذلك الاستعماري المتعجرف النزاع إلى خيلاء النفوذ وزهو السلطان.
لقد تخلصت مصر يومئذ من سياسي صغير، دفع به إلى تمثيل أمة كبيرة عند شعب عاقل رزين؛ فخرج بمعاني التمثيل السياسي إلى معاني «التمثيل» المسرحي، ففشل فيهما معا؛ لأنه لم يحذق أفانين السياسة وأساليبها ، وكانت تلك المظاهر التي تراءى بها هي ورق «التين» الذي راح يخصف به حتى لا يبدو عاريا من البراعة، مجردا من الحذق والافتنان.
لقد كان كل ما في لورد لويد صنعة وقالبا وشكلا، وكان مقدورها في مشيئة الطبيعة الفشل؛ لأن الشخصية الصادقة هي أروع مظهر في الطبيعة، ونصيبها في العالم هو الفوز المنظم؛ وأما الشخصية الكاذبة، فإن نصيبها في الدنيا هو الهزيمة غير المنظمة.
لقد كان لويد في أقيسة الرجولة رجلا اعتياديا، لم تؤته الطبيعة نبوغا، وإنما أعطاه حزبه شيئا يشبه النبوغ، ومن الناس كثير هم من صنع الناس، ترفعهم الكمية ولا يرفعهم النوع؛ فإذا ارتفعوا على سطح الدنيا، لم يلبثوا عليها إلا كما تلبث الرغوة المزبدة على صفحة الماء المتدفع، والموج المصطخب، يمضي جفاء، ذاهبا في الحال هباء.
نشأ لورد لويد في المحافظين، فرآه قومه غنيا لم يبدد جدته في سباق الخيل، ولم يتلاش في أسواق المراهنات، ومجال المضاربات، والأندية ومواطن الشهوات؛ فقالوا نجربه في معنى من معاني الجد؛ لكيلا يفسد أو يتبلد، وحسبوه اكتشافا جديدا في قومه، وشبابا طيبا وسط شيخوختهم؛ فراحوا يدفعونه إلى المناصب دفعا، أملا منهم وطمعا، وأعطته المناصب رواءها وقوتها ولكنه لم يعطها شيئا من روائه هو وقوته؛ وكذلك ارتفع عليها ليسقط بها، إذ لا شيء في ذاته يسنده، ولا قوام له من نفسه يؤيده، فاستسلم للمنصب يجذبه ويشده؛ لأن المنصب هو المغناطيس الذي يجذب الإبرة والمسمار، وهو محك المواهب والقيم والأقدار.
لقد كان لورد لويد رجلا ماديا، سر الحياة كلها عنده في المادة الظاهرة، لا يتغلغل إلى ما وراءها، ولا يعرف قوة الروح وصنعها وبناءها. ولم يكن لورد لويد يفهم سر الشرق؛ لأنه قنع من عمله بالسطوح والأغشية، ولم ينفذ إلى أعماق الشرق المستترة الخفية؛ فظن مصر التي أعطت من قديم الزمان ومنحت، صابرة راضية بالحرمان، من بعض ما أفادت به ووهبت؛ وحسب أن مصر في صغرها، ليست كإنجلترا في كبرها، كأن شريعة الحياة تحد بحدود الأرض، وتقاس بالمتر المربع واليارد، وكأن سيدة ما وراء البحار ينبغي أن تعيش، وسيدة ما وراء التاريخ ينبغي أن تموت، وكأن الحرية حق يعطى بشروط، أو يسلب بغير شروط، وهو تخريج في فلسفة المستعمرين تضحك منه الحياة نفسها، وتستهين به؛ لأنه مبدأ مفتون بالقوة، وجد هوى من نفس لويد ومنزعه، فاعتنقه ليختنق به، ولزمه ليكون لزاما عليه، وجربه في الهند تجربة، وأحدث به في مصر نكبة، ثم خرج منه بأفضح الخيبة والخذلان ...
وتلقى الناس في مصر أنباء ما صنع المستر هندرسن وزير الخارجية البريطانية في حكومة العمال يومئذ باللورد لويد، إذ حمله على تقديم استقالته بفرح بالغ، وابتهاج ظاهر؛ إذ أحسوا أنهم قد تخلصوا من خصم مبين، وعدو سريع البادرة، أهوج، يغلو في استعماريته؛ وبدا لهم كذلك أنه علامة حسنة على قرب تغيير السياسة البريطانية في البلاد، ودنو حياة الوزارة ذات اليد الحديدية التي فشلت في التجربة التي استعين بها عليها، وباءت مما حاولته بخسر شديد.
وما لبث أن أعلن تعيين سياسي آخر في منصب المندوب السامي البريطاني في مصر، وهو سير برسي لورين، فتساءل الناس من يكون هذا المندوب الجديد، وهل سيبتلون منه بلويد آخر، أو هو سياسي من طراز مخالف له متباين معه، فقيل لهم إنه من «الموظفين» في سلك التمثيل السياسي، أو من «الدبلوماسيين» الذين حذقوا الصناعة، واكتسبوا فيها - بحكم التجربة - المرانة والليونة والاستعداد؛ فلم يشأ الناس أن يحكموا حتى يروا عيانا ما هو صانع، ويشهدوا بأنفسهم ما سوف تحدثه على يديه الأيام.
وما كاد صيف ذلك العام ينتهي، حتى قدم المندوب الجديد إلى مصر ليتسلم مقاليد منصبه، كما تسامع الناس بأن هناك مقترحات قد عرضت من المستر هندرسن بسبيل تسوية العلاقات بين مصر وإنكلترا، وحملها محمد محمود باشا إلى البلاد ليعرضها على الأمة «ممثلة» في برلمان ينتخب انتخابا حرا لا زيف فيه لمشيئة الشعب وإرادة البلاد.
لقد آذنت يومئذ على هذه الصورة خاتمة حياة الحكم المطلق، وحقت على الاستبداد كلمة الموت، وبدت تباشير الحياة للدستور والنظام النيابي قبل أن ينتهي نصف المدة التي حددها صاحب هذه المأساة في سبيل القضاء على الوفد، والإتيان بخلق جديد واستخلاف قوم آخرين.
وعاد صاحب «اليد الحديدية» إلى مصر يحمل تلك المقترحات وبوده لو لم يحملها؛ لأنها شهادة وفاة عهده، ووثيقة نهاية حكمه وانقضاء أمده؛ فسمي يومئذ «ساعي البريد»، إشارة إلى أنه لم يكن له في تلك المقترحات غير وزر حملها، وإن راح هو يومئذ يدعي أنه قد تفاوض فيها وتناقش، وباحث واجتهد، وسجل جهده في كتاب أخضر ليكون خير شهيد.
عاد صاحب اليد الحديدية محطوم النفس، متخاذلا في أعماق روحه، وإن ظل مع ذلك في الظاهر، لتغطية الوجه، يتراءى بأنه لا يزال القوي العزيز.
وما لبث عقب انحداره إلى مصر حاملا تلك المقترحات في حقيبته أن راح هو وجماعته يحاولون تعديل قانون الانتخاب. وهو في ذلك يقول: «أنا وحدي» الذي أملك هذا التعديل، ولكن الإنكليز كانوا في الواقع يريدون الاتفاق مع الشعب لا مع فرد مثله قليل الأسناد محدود الأعوان؛ فلم يمكنوه من تعديل القانون، فمكث شهرا أو يزيد وهو يتلاعب حينا ويتذلل حينا ويتحمل سائر صنوف الهوان، وتلقى إليه السخرية من الصحف مختلفة الألوان، فلا يهدر ولا يزمجر، ولا يحس غضبا ولا يشعر، منتظرا كلمة القدر من شفتي خصمه مصطفى الذي تغلب عليه بقوة الحق، وكفاح النفس، ونضال الروح، في معارك المبادئ والإيمان واليقين.
لقد انتصرت المبادئ في شخص مصطفى النحاس وقومه وصحبه وأنصاره؛ فقد كانت المبادئ هي المسيطرة على كل شيء فيه، الموهوبة منه كل حياته ... وقد ترك مصطفى شأن عاطفته، وأخلد إلى عاطفة الكثرة التي وجهها فأطاعته، والجموع الساحقة التي وكلته؛ فلم يعد يعرف له صحابا ولا خصوما إلا صحابه في المبدأ، وخصومه في العقيدة، وقد يعادى في ذات نفسه، ويرتع الشانئون الحاقدون في لحمه وشخصيته، ولكنه يظل أبدا المنكر لحق نفسه، المجاهر بحق الذين وكلوه، وأقاموه حيث أرادوه، منصرفا عن مطالب حياته إلى مطالب مبادئه وفكرته، مقيما نفسه الوسيلة المجردة من هواها إلى بلوغ غاية أمته.
لقد قال بسمارك - منشئ ألمانيا في القرن التاسع عشر وزعيمها الأوحد: «إني لأخلع عني الحياة كما أخلع الثوب القذر إذا أنا وجدتني لحظة ما هاويا إلى درك الذين يعيشون لأنفسهم ويحيون لذواتهم!»
ذلك صوت المبادئ المتمكنة من قلوب أهلها: تجردهم من أنفسهم وتصفي من الشوائب طباعهم، لا تنزغ بهم نزغات الهوى فيخاصمون للأحقاد، أو يحاربون محاربة الأفراد للأفراد؛ لأنهم آثروا مصير الأمة على مصائرهم، واستحالوا طلاب الحق يؤثرونه على ذواتهم، فإن أصابوه تركوا الباطل يموت من كمده، ويختم حياته بيده.
لقد منيت حياتنا السياسية بقوم يحسبون أنفسهم في قضية البلاد «عمليين»، وهم والله كذلك في هذه العملية الشخصية التي حسابها يسير في حقيقة نفسها، وحساب البلاد والشعب والوطن عسير عليها. ومبادئنا عند هؤلاء خيال بعيد الأفق، وهم في ذلك الجهلة والكذبة في دعواهم؛ لأن الروحانية ليست خيالا، وإن تراءت كذلك في أعينهم وموازينهم، وما السياسي الصادق إلا رجل يغذي الحقيقة والخيال معا، وإن أنفع الأخيلة ما جاء عن طريق الروح، ولم يأت عن طريق الخداع والضلالة، وما خواطرنا وأناشيدنا ومزامير نهضتنا إلا لغة الروح، وترجمان الخيال، ولسان العاطفة؛ لأن لطلاب الحرية المسلوبة منهم لغة غير لغة الناس؛ لأنها تنبعث من أعماق النفوس، وتنبع من أسمى منابع الإحساس، وأعلى مصادر الوجود، وكل ما عداها من زمان أرسطو إلى أيام «بوانكاريه» من الفلسفات والنظريات محشود في بضعة كتب، قائم في مجموعة محدودة من المؤلفات والأسفار. وإنما السؤال الأخطر، والمشكل الأكبر، هو أي المبادئ أحق بأن ندين بها، وأي العقائد السياسية نحن باعتناقها خلقاء؟!
كل فكرة في الحياة إنما توزن بقيمة الموكل بتنفيذها، والرجل الذي يدفعها من ورائها. والسياسي الصادق هو الذي يكشف أنصاره على الفكرة، وصحابته في المبدأ، ويجمع إليه أكفأ القادرين على الاشتغال بها، والصالحين للذود عنها. ومن هنا يتجلى الفارق بين السياسي الذي عينته الأقدار لمكانه، وجاءت به الطبيعة ليشغل في الدنيا موضعه، وفي رأس الحشد مطلعه، وبين الساسة «المحترفين» ممن اتخذوها صنعة، وابتذلوها مهنة؛ فإن الأنصار والصحب والأعوان يجيئون إليه هو طلقاء الإرادة ، طواعين للمبدأ، مرحبين بالعقيدة ؛ لأنها أصابت هوى نفوسهم، واتحدت مع رغبة صدورهم ونزعة طباعهم؛ وأما أولئك فلا يجيء أحد إليهم إلا مسوقا بزخارف المادية، مدفوعا بمفاتن النفس الأثرة، وذلكم - أي السياسي الصادق المخلص - بعيد مطارح الرأي في الناس، يقيسهم بمقدار مبادئهم، ومبلغ إنكارهم لأنفسهم، وأولئك يقعون على الأنصار بالإغراء، ويجمعون الضعاف بالملق والإطراء، والمصانعة والدهاء، وعندهم أن المرء إذا أراد أن يكون سياسيا لبقا، وداهية حاذقا، فليكن كاذبا مدلسا، خوانا ممالئا ملابسا، ولا بأس من أن يناقض اليوم ما قاله أمس؛ فإن فعل ذلك كله كان الناجح الموفق في سياسته، كأنما يصح في الأذهان أن يقوم بجانب الحساب المفهوم على قواعده الأربع الأولية، حيث يروح الحاصل هو مجموع وحدات معينة، وأرقام ثابتة، حساب رياضي آخر، يختلط فيه الجمع بالطرح، وتتشابه فيه الخسارة والربح، وتتمازج خلاله الزيادة والنقصان، وهو تخريج سياسي لا يصح إلا في منطق الساسة الكذبة، وهم أشباه الحواة المهرجين، واللاعبين السيمائيين، يخدعون وهم المخدوعون، ويموهون على النظر وهم على أنفسهم يموهون.
أما السياسي الصادق الوفي لمبادئه، فذلكم رجل يجري قواعد العلم على عقيدته، ويعلم أن كل الذرات الدقائق خاضعة لقانون الجاذبية، وأن كل الحقائق كذلك في عالم الأخلاق متصلة بقانون العلة والمعلول، وفي ذلك يقول كافور الإيطالي: «إن كل المسائل السياسية أو الخلقية هي أشبه الأشياء بقوس تقاس كل دقيقة من دقائقه بأدق الأقيسة وأضبط الحساب»، ومن ثم كانت عناية الزعيم بتوخي الدقة المتناهية في اختيار رجاله والأمناء على فكرته، والحفاظ لمبادئه؛ بل من هنا قام الإيمان الراسخ بأن الخطأ في ميزان الشخصيات قد يفسد عليه حكمه، ويلوي عليه قصده، فلا صداقة عند الزعامة لغير الأكفاء لعقيدتها، ولا مودة إلا بينها وبين النفس المؤمنة بغايتها أصدق الإيمان.
لقد انتصرت المبادئ في تلك التجربة التي أريد بها تحطيم الزعامة، وتوهين سلطان الوفد، إذ أعجزت الأمة أصحابها بصبرها العجيب، وثباتها الجليل، كما أعجزتهم زعامة مصطفى النحاس بصبره الرفيع، ومقاومته البالغة، وحكمته البارزة في قيادة الجماهير، وتغذيته للروح المعنوي في الصفوف ، وشجاعته الرائعة التي قدر الله لها أن تخرج من كل المعارك بانتصار بعد انتصار.
قوتان لا تنهزمان: إرادة أمة، وإيمان زعيم ...
مصطفى النحاس في الكفاح للدستور والاستقلال
ظلت وزارة اليد «الواهية» تتلكأ في المكث، ولا تحفزها العزة إلى الخروج، حتى استدعى الملك زعيم البلاد لاستشارته، بموجب أحكام الدستور كرئيس للأغلبية، في أمر الوزارة التالية، فتحركت يومئذ الوزارة المتباطئة ورفعت كتاب استقالتها في اليوم الثاني من شهر أكتوبر سنة 1929، فقبلت في اليوم ذاته. وكان قد تم التشاور بين القصر والوفد قبل تقديمها، فاستدعى عدلي يكن باشا إلى لقاء الملك في الثالث منه، وصدر الأمر الملكي في الغداة إليه بتأليف وزارة جديدة تتولى الحكم تمهيدا لعودة الدستور وإجراء الانتخاب.
وقد جاء في كتاب عدلي باشا يومئذ إلى الملك: «لقد تدبرت الموقف الحاضر طويلا، فرأيت أن إخلاصي لسدتكم العلية، وواجبي نحو بلادي في هذا الدور الخطير من سياستها، وبعد الذي أبلته من جهاد، وقطعته من مراحل في سبيل تحقيق أمانيها، يجعلان فرضا علي أن أطرح كل اعتبار يحملني على التردد، وأن أحرص على تمكين البلاد من الوصول إلى قرار فيما أتيح لها في قضيتها القومية. ... وستكون الغاية التي تترسمها الوزارة إعادة الحياة الدستورية، وإجراء الانتخابات لمجلس النواب، خالصة من كل ضغط أو تأثير غير مشروع، بحيث تنقل صورة صادقة من إرادة البلاد لكي يتمكن البرلمان بعد ذلك من البت في مصيرها.»
وكان المرحوم عدلي يكن باشا خير من يتولى وزارة محايدة كهذه أو وزارة انتقال، فقد كان رجلا أخا نزاهة ورفعة واحترام ذات، وتسام عن الدنايا مع كياسة ومعرفة للواجب وإقدام على تأديته في المحارج ومواطن الخطر ودقيق الظروف.
لقد تقبل هذا الرجل الخطير المهمة الخطيرة، وهو يعلم أنها لأشهر قليلة، فدخلها شريفا ليخرج منها شريفا، ولو أن غيره قبلها على هذا الحساب، لتدلل في الدخول، أو سوف في الإياب، واستلذ نعماءها واستطاب، ولمضى يمني نفسه بأمر يجيء على غير ارتقاب؛ ولكنه كان رجلا عظيما، فلم يتقبل الوزارة لجاهها؛ لأنه شبع من الجاه ، ولا ليتم نقصا في مجده وقد بلغ من المجد أوجه ومنتهاه، وإنما رأى الشعب يرتضيه للمنصب فارتضاه، وهو عليم يومئذ أن عهده القصير دورة انتقال، وهو الآخذ بالزمام، الأروع المقدام، فحمل الأمانة مؤمنا بأن الشعب يعرف له مكانه، وقد أداها وفيا، وخاض بمصر المعركة الانتخابية، وكانت حيدته مجدا فوق ذلك المجد، ولم يكد يتم الانتخاب حتى بادر إلى الاستقالة ورفع الكتاب، فليسجل التاريخ لهذا الوزير الشريف موقفه الرائع الجليل، وليذكر الشعب له تلك الذكريات العاطرات.
أقدم عدلي باشا على قبول وزارة الانتقال، فلم يتوان عن القيام بمهمتها، إذ شرع بعد أيام قليلة في تحديد دوائر الانتخاب، وردها إلى ما كانت عليه من قبل غمة الحكم المطلق الذي كان يريد أن يدخل عليها التغيير والتبديل، ودفع الإدارة إلى النشاط في إعداد المعدات لحركة الانتخاب.
وأدرك حزب الحكم المطلق الذي باد وغبر أنهم إذا اشتركوا في المعركة الانتخابية سقطوا صرعى، ولم يظفروا في الدوائر بأكثر من آحاد ضئال؛ فرأوا أن يلعبوا لعبة أخرى قد تجدي عليهم في قادم الأيام، وهي أن ينسحبوا من الانتخابات، فأضربوا عن دخولها، ولم يكن ذلك ليؤثر في مسيرها، وإنما كانت دليلا على تراجع مكشوف وبأس واستضعاف وفرار من الميدان.
وكان تقديم الوزارة العدلية كتاب استقالتها إلى القصر في 31 ديسمبر سنة 1929، فودعتها البلاد شاكرة لها نزاهتها وعدالتها، حامدة لها بدايتها ونهايتها، مقدرة لها جهودها النزيهة الطيبة الموفقة.
وبدأ العام الجديد بتأليف وزارة الشعب، فعاد مصطفى النحاس باشا إلى مكانه من الحكم، بمقتضى الحق الدستوري وثقة الشعب ووكالة الأمة؛ فتلقته بفرح بالغ، واستقبلته الجماهير متفائلة مغتبطة، وسرى السرور في جميع الندي والأوساط.
وانتصرت الحياة النيابية، وتغلب الدستور على مناوئيه بعد أن ظنوا أنهم قد وأدوه، وقطعوا بين الأمة وبينه، وأقاموا السد المنيع دونه، فلا معاد له، أو تتجدد المهلات، على السنين المتواليات. عاد الدستور ورجعت الحياة النيابية، ساخرين منهم، ضاحكين من هزيمتهم، عادا بفضيلة الوفاء لهما والبر، وقوة الإيمان والثبات والصبر؛ فكان لهما الفوز والغلبة والنصر؛ لأن الحياة لا تعطف على اليأس، وإنما تقبل على الرخاء، وتدفع إلى الأمل، إذا استوفى الامتحان الأجل، وأقرت الحياة لنا بالجدارة بها والاستحقاق.
وافتتح البرلمان في الحادي عشر من شهر يناير، فكان يوم فرح عام في البلاد، ولكنه كان أيضا يوم تفكير طويل في الدستور وسبيل الحرص عليه، ووسيلة تحصينه من معاد الكيد له والدس والائتمار، وتدعيمه بالضمانات الكفيلة بوقايته من خصومه اللاعبين وراء الأستار. وقد عني حارس الدستور الذي جاهد في سبيله، وحارب من أجله، بهذه الفكرة الجليلة، والخطوة الضرورية، فجعلها في مقدمة خطاب العرش، على لسان صاحبه، حيث يقول: «... أفتتح هذا الدور مغتبطا بعودة الحياة النيابية، مستبشرا بما أظهرته البلاد من تقدير صحيح لمزاياها، ورغبة صادقة في تعميم خيرها وتثبيت خطاها، وإنه لمن أحب أمانينا أن تظل البلاد متمتعة بنعمة الدستور، معتزة بما كفله لها من حقوق وحريات، وأن يظل الدستور نفسه منيع الجانب، مصون الأحكام، وأن يحاط بسياج من التشريع يكفل له حياة متصلة، ونموا مطردا. وستعرض الحكومة على حضراتكم مشروعات قوانين لتحقيق هذا الغرض السامي.»
كان هذا هو أول ما اتجه إليه الفكر بعد الفرحة بعودة الدستور، وذلك من فرط الحرص عليه، ومزيد العناية به، وعمق الإيمان بقداسته؛ إذ كان لا بد من قطع الطريق على كل كيد يكاد له، ومنع الأيدي الدنسة الأثيمة أن تنال منه؛ لكي يبقى مصونا من أي عبث، موفور القداسة من كل انتهاك.
وقابل الناس هذه النية الصادقة من حكومة الشعب واعتزام مصطفى القوام على حراسة الدستور، الحرص على الديمقراطية، بكل الرضوان الخليقة به، وارتفع الصوت من كل جانب بوجوب المبادرة بهذا التدعيم، وتوفير هذا الضمان؛ لتطمئن الأمة على دستورها ونظامها الأساسي من جرأة الجناة وجرائم المجرمين.
ولكن الوزارة انشغلت في أيامها الأولى بعمل آخر كان واجبا وجوب هذا التدعيم ذاته، وهو «التطهير» واستئصال الجذور الخبيثة التي فرعت وهاشت، وأنبتت من كل نبات سام شديد الأذى فاتك بالحياة، بل عملية تنظيف الأداة الحكومية من الأقذار التي علقت بها، وعطلت سيرها، وأفسدت كل نظامها إفسادا .
لقد استطاع الحكم الرجعي الغابر أن يفسد أخلاق الموظفين ويشيع فيهم الملق والرياء، ويغريهم بالجريمة والبطش بالأبرياء؛ ووجد من الحكام الصغار والموظفين العاملين في الأقاليم صنائع له متحمسين في أذى الشعب، مفتونين بالبطش بالودعاء والأبرار؛ فجعل يمد لهم، ويشجعهم بالترقيات والأجزية المراودة لهم عن آخر إحساس بشري فيهم، حتى انقلبوا وحوشا ضارية ومجرمين صم القلوب موضعين في الإجرام.
وقد بادرت حكومة الشعب إلى تخليص البلاد من أذى فريق كبير من هؤلاء. ولكنها كانت رحيمة فلم تتجاوز مؤاخذتها لهم حد الإحالة على المعاش؛ ولو أنها أخذتهم بالعدل في غير رحمة، لألقت بهم في غياهب السجون.
ومن فرط الكمد، عمد أولياؤهم الذين أصبحوا لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا، إلى التظاهر بالتحدي، فأقاموا حفلة تكريم لصنائعهم الذين نزل هذا القصاص الرفيق بهم، فلم تحفل حكومة الشعب بما صنعوا، ووقفت حيالهم ساخرة، تاركتهم في كمدهم المحترق وغيظهم الكظيم.
وانصرف الناس في هدأة النظام، واستتباب العدالة، وحنان الزعامة، ورفق القيادة، إلى الحياة النيابية وعملها، وانصرفت الحياة النيابية إلى خدمة الأمة، وتوخي مصالحها وتحقيق مشيئاتها. وقد تفاءل الناس واستبشروا، إلا قليلا منهم ظلوا على تشاؤم مكين فيهم، مستبد بطباعهم؛ ولكن هؤلاء لا يؤثرون في الحياة؛ لأنهم يموتون في أنفسهم، ويحترقون رويدا في نار تشاؤمهم، ولا يلقون على الحياة الضاحكة الباسمة المتوردة من حولهم ظلا من جهامتهم، وعبسة تشاؤمهم وتطيرهم، إلا كما تتراءى الغمامات الخفاف في ناحية من السماء الزرقاء الصافية، لا تلبث وقدة الشمس أن تذهب بها بددا، وترسلها متقطعة متباعدة.
كذلك هو عيش المتشائمين، هم سجناء في محابس مظلمة، راسفون في أغلال النحس والانقباض والجمود والبلادة والتبرم والاستخفاف، على حين يروح المتفائلون راقصين للحياة، متوثبين مع الأمل، رحاب الصدور، خفاف السوق، يبتسمون للأزمات العارضة، تعللا بما وراءها من الخير المرتقب، والنفع المرتجى، والظروف الطيبة، والأيام المشمسة المشرقة الضياء.
وقد كان الشعور العام يومئذ شعور رضى وأمل وتطلع، وكان الناس يومئذ مدركين أنهم مجتازون دورا خطيرا في طبيعة حياتهم العامة يشبه في حياة الفرد دور البلوغ أو المراهقة، وأن زعماءهم إنما يعتمدون عليهم وعلى قواهم الكامنة في الجهاد لحل أكبر المشاكل، وتسوية أخطر الشئون، لخيرهم وخير الأجيال القادمة من بعدهم، وأن الجهاد يجدي عليهم، ويزيدهم قوة على قوتهم؛ لأن الأذهان تصح بالتفكير، والنفوس تقوى بالإيمان، والعزائم تستأسد بالخطوب والنكبات.
لقد راح كل فرد يومئذ يفكر في مستقبل بلاده، أو يسأل غيره عن فكره، أو يجلس إلى العارفين ليستمع إلى أحاديث اليوم وأخباره، ويوم تكفل الحرية الاجتماعية، وتسود الحياة النيابية، يروح كل شيء في الحياة حسن الأثر، منتجا للخير، بل إن التفكير الساذج نفسه لا يخلو من فائدة؛ لأنه يستثير الفكر الصالح، ويولد الرأي السديد، ويحرش الأذهان الناضجة. وليس من عجب في ذلك؛ لأن وضع السلطة في يد الشعب، يقرب الأشياء إلى العقل، ويوصل ما بين الناقص والمكتمل، وييسر المراقبين، ويكثر من عدد الملاحظين والمشرفين، فتستيقظ الأذهان للحقوق العامة، وتتفتح الأعين بفضل الرقابة التامة، فلا تنطلي عليها الخدع الماكرة، ولا تفلت الأغلاط هاربة، ومن لم يكشف الأغلاط بنفسه، كشفتها له المنابر العامة، وهدته التيارات الجارية إلى مرفأ الصواب.
إن الحياة النيابية تجعل للأفراد وجودا، وتكسب الجماهير قوة، وتعطي الشعب هيبة؛ لأن المتصدين للظفر بالنيابة عنه في المجلس مضطرون إلى النزول عن كبريائهم للتحبب إليه، والتماس رضاه، والاجتهاد في كسب مودته، واستيضاح مشيئته. ويوم تقوم الانتخابات، يرتفع صوت الفرد، وتظهر قيمة الجمهور ومكانة الحشد، ويروح الأفراد متكبرين على الكبار الذين كانوا بالأمس يحسبونهم صغارا لا تقام لهم أوزان.
لقد ذهبت أصوات الناخبين بكبرياء الطبقات؛ فأضحى رب القصر يمشي إلى صاحب الكوخ، وأمسى الكوخ الصغير هو الذي يدفع إلى الندوة ويفضي إلى البرلمان. ومن شاء أن يغلب منافسه في ميدان النيابة، لزمه النزول إلى الشعب، والإذعان إلى مشيئته، وملاقاة الحب منه بالحب، واجتماع التواضع منه بالولاء.
ولا يحسبن أحد أن الزعماء هم الذين يتحكمون في الجماهير، فإن الجماهير هي في الواقع التي تتحكم في الزعماء، وتنزلهم إليها، وتدمجهم فيها. ولئن قيل إن كثيرا من الطامعين في النيابة - ولم تتوافر الأداة الصالحة فيهم لنيلها - إنما يشترون أصوات الناس كما يشترون أي شيء بالمال؛ فقد يصح أن يقال كذلك إن حسب الفلاح أو الفقير اليوم أن يدرك أن لديه شيئا روحانيا يتنافس الأغنياء في نيله منه، ويتسابق القادرون على الظفر به عنده؛ فإن معنى ذلك أن الناخب قد أصبح قوة محسة، وأضحى له نفوذ كبير يلتمس لديه، فإذا رضي مرة أن يبيعه رخيصا، علمته الأيام كيف يضن به على الشراة والطالبين.
ولكي ندرك أن معاشر المتفائلين منا - وعلى رأسهم زعيمنا مصطفى النحاس - هم على حق في التطلع إلى المستقبل الباهر لهذا الشعب الخصيب الاستعداد، ينبغي أن نراجع مبلغ التطور السريع الذي ظهر في البلاد على قصر فترات الحياة النيابية فيها وسط الأعاصير والرياح القاصفة؛ فقد تنبهنا لفضلها وشيكا، ومشى برلماننا من بكور الطفولة، وتعلم الكلام سريعا، ودرج إلى الصبا واثبا، فلم يحتج إلى الأرجوحة، ولم يتساند إلى الجدران، ولم يتعلم الحبو على الثرى، بل لقد نبغ في المجلس شباب متسامون إلى العلا، كأنهم أرسخ الشيوخ قدما في الحياة البرلمانية، وكأنما ولدوا في عصر نيابي، واغتذوا من لبان الدستور قبل أن يكون دستور، وبرزت في الحياة العامة شخصيات قوية أخاذة بالإعجاب العام، حتى لقد أصبحت أسماؤها نواقيس الأمل، وأجراس النهضة، ومنارات النبوغ والوطنية الصحيحة الصادقة.
ولئن كانت لدينا في الحياة النيابية عيوب ظاهرة، فإن عللها توحي بأدويتها، وحسناتها تدل على سيئاتها، وتشخص أمراضها وأسقامها؛ لأن كل غلطة تقع فيها تنبهنا إلى معالجتها، وتستفزنا إلى ملافاتها، وكل خطب يصيبنا يخدمنا ويشد من قوانا ويجدد من عزماتنا، وكل عام يمضي بنا في طريقنا إلى تدعيم المستقبل والبناء له يزيدنا إيمانا بالحياة النيابية التي استقرت في أرضنا؛ لأن للروحانيات وحيا غريبا لا يعرف مصدره، ولا يكتنه سره، وحيا يكشف لنا عن الحق، ويحفزنا إلى إصلاح العيب، وسداد النقص. وقد علمتنا الطبيعة درسا لا ننساه، وهو أن تاريخ الخليقة من البداية هو تاريخ التقدم من القليل إلى الكثير، ومن «الخام» إلى المصقول، وأن النمو ميسور ، والتقدم مكفول، كما نفثت الطبيعة في أرواحنا الأمل في حياتنا، والرجاء الحسن في مستقبلنا، وألهمتنا أن نسير بحياتنا العامة في أقوم سبيل.
لقد كان هذا هو شعور الناس حين عادت الحياة النيابية بعد انتصار مصطفى على كل التجاريب الماضية، فارتفع نبض الحياة العامة، وجاشت نفسها بالآمال؛ إذ رأت الوزارة قد نشطت للعمل المنتج، والإصلاح المثمر، ومعالجة مساوئ العهود الغابرة بروح العدالة وقوة الإيمان.
وكانت المظالم المتخلفة كثيرة، وشكاوى العناة والمتألمين لا يحصى لها عديد؛ فذهبت الحكومة الشعبية تسعى في رد جملة منها، والنظر في طوائف متعددة من الظلامات الصارخة فيها؛ فأعادت موظفين كانت الوزارة الماضية قد انتقمت منهم لوطنيتهم، وعذبتهم بذنب إخلاصهم لمبادئهم، وردت طلابا كانوا قد حرموا من متابعة التعليم.
وخلال ذلك كله مهدت لإصلاح النظام الدستوري وتدعيمه بالبحث في موضوع المسئولية الوزارية، والاشتراع لمحاكمة الوزراء الذين تسول لهم نفوسهم العبث بالدستور أو بالحياة العامة؛ كما راحت تتأهب للمفاوضات القادمة، وكانت قد تحدثت عنها في خطاب العرش حيث وردت الفقرة التالية:
إنه لمن دواعي اغتباطي أن يؤذن هذا الدور بعهد جديد من التفاهم الودي، والصداقة المثمرة بين بريطانيا العظمى ومصر؛ فلقد أعربت الحكومة البريطانية عن رغبة صادقة في عقد اتفاق ودي بين البلدين، وتحقيقا لهذا الغرض قدم جناب وزير الخارجية البريطانية إلى الحكومة المصرية مقترحات أملتها عليه روح المودة والوفاق. ويسر حكومتي أن تعرض هذه المقترحات على حضراتكم، وهي تأمل أن تسير بالمفاوضات فيها مع الحكومة البريطانية مشبعة بروح الوفاق والمودة للوصول إلى اتفاق وطيد شريف بين البلدين، ومتى تم الاتفاق فستعرضه حكومتي على البرلمان للتصديق عليه، وعندئذ تعمل على تنفيذه بنفس الروح الطيبة التي باشرت بها عقده.
وفي الثالث من شهر فبراير سنة 1930 عرضت الوزارة على البرلمان بمجلسه المقترحات البريطانية التي كان محمد محمود باشا قد حملها قبل سقوط وزارته من قبل الحكومة البريطانية لعرضها على البلاد تمهيدا للبحث فيها، وعرضها على ممثلي الأمة ووكلائها الصادقين. ونهض مصطفى النحاس باشا في المجلسين موطئا لعرض هذه المقترحات، فقال:
تنفيذا لما ورد في خطاب العرش بصدد المقترحات البريطانية، أتشرف باسم الحكومة بأن أعرض هذه المقترحات على حضراتكم:
إن الروح الطيبة التي أملت هذه المقترحات قد قابلها الوفد المصري الذي أتشرف برياسته، بروح مثلها، ولقد بدا ذلك واضحا في الأحاديث المتعاقبة التي أدليت بها قبل ولايتي الحكم، وكذلك قابلتها الحكومة بمثل هذه الروح، وبدا ذلك جليا في خطاب العرش، وفي التعقيب الذي ألقيته بمناسبة الرد الحكيم الذي وضعه البرلمان عليه. ولقد اعتزمت الحكومة - إذا ما فوضتموها - أن تغتنم هذه الفرصة التي أتاحها وجود حكومة بريطانية مشبعة بروح التفاهم والصداقة مع مصر، وتتفاوض في هذه المقترحات مع الحكومة البريطانية بنفس هذه الروح الطيبة، روح الرغبة الأكيدة في الوفاق والصداقة بقصد الوصول إلى اتفاق شريف وطيد بين البلدين.
والحكومة يهمها أن ينظر المجلس بوجه الاستعمال في أمر هذا التفويض المطلوب لكي تتمكن من الرد على الحكومة البريطانية، ومن الاتصال بها للاتفاق معها على موعد قريب للمفاوضة، والأمل قوي في الله تعالى أن تسفر هذه المفاوضات عن الاتفاق المنشود الذي تكون فيه المصلحة والخير للبلدين، وبعد ذلك تعرضه الحكومة على البرلمان ليقول قوله الفصل فيه، ومتى صدق عليه تقوم الحكومة بتنفيذه بكل أمانة وإخلاص.
وقد أقرها المجلسان في 6 فبراير، وفوض لها - بالنظر إلى ثقته التامة بها - المفاوضة مع الحكومة البريطانية في تلك المقترحات للوصول إلى اتفاق شريف وطيد يوثق عرى الصداقة بين البلدين.
وتقرر أن يكون سفر الوفد الرسمي لهذا الغرض برياسة مصطفى النحاس باشا في أواخر شهر مارس سنة 1930.
وقد تلقت البلاد هذه الأنباء برضى وأمل ودعوات طيبات لمصطفى وأصحابه أن يوفقهم الله فيما اعتزموه، ويسدد خطاهم فيما هم مزمعون سفرا له، ويكتب لهم الفوز والنجاح.
وكان توديع الأمة لمصطفى يوم سفره على رأس الوفد الرسمي للمفاوضات يوما مشهودا في البلاد، زاخر الموج بالحشود، بل هو حشد الحب وهتاف القلب، وموج متدفع مصطخب، نسي الناس فيه أنفسهم فكأن كل نفس شعب، وكأن كل امرئ أضاع لبه في الحشد فذهب يبحث عن ذلك اللب . جموع تملأ الرحب، وخلائق تطفر، وأمواج بشرية تثب، ودوي ذاهب في صميم الفضاء، وصوت من الأرض تتجاوب به السماء. ولو أن محطة القاهرة على باب صحراء، لخرج أهلها جميعا يمشون في موكب الوفاء؛ ولكنها محطة محدودة الأرجاء، وقد نسي الجمع الحاشد أنها كذلك، فتدافعوا يحسبونها تتسع لمصر كلها على السواء.
لله هو يومئذ من مشهد يوم عظيم! ولله هو من شعب وفي كريم! ولله تلك الآية الكبرى، والمواكب الباهرة، جاء بها الحب، وحشدتها الفطرة! أفرأيتم الزعيم مصطفى في وسط الأمواج الزاخرة؟ وهل شهدتموه في الساحة والبهرة، والجموع عليه ملتفة، والحناجر بوداعه هاتفة؟ وهو بينهم شاحب مضطرب، والحشد متدفع متألب، وقد أنستهم الحماسة أنه بشر مثلهم، يطلب الهواء؛ ولم يذكروا أنه رئيس الوزراء، فتدافعوا ليحملوه، وتراجع هو ليمشي فإذا الألوف من ورائه، وإذا الألوف حياله، وهم عليه متزاحمون، وهو مقبل ومتراجع، ليستسلم لهم لخطة، وهو باسم، ثم ينثني يطلب الطريق، وهو غاضب، فلا يكاد في خطفة الخاطر يهم بعبسة الغضب، حتى يلغي الغضب ليستعيد بسمة الحب ...!
أيها الشعب! ... يا فرعون في الحب! لقد أنستك الحماسة الرفق، فرحت كالموج المطبق، والزعيم في وسطك كالزورق، حينا على اللج يعلو، وحينا عليه اللج يشفق. والإفريز مستطيل، والمد الإنساني زاحف، والجبين الطاهر كمقدم الفلك يتلألأ من العرق، وقد سرى على وجه الزعيم جلال شاحب، بين إيماضة الباسم، وبين اكفهرارة المتعب الغاضب.
وترك الزعيم ساقيه للموج، وقنع بذراعيه يدفع بهما في رفق الجمع المعتلج. واستطال الإفريز كأنه الساحل المترامي، والناس من الحب بين المصفق والمشرئب والمتسامي، والفرح الدامع الهامي؛ حتى أشرف مصطفى على المركبة، وكأنما قد حيل بين المحب وحبيبه، فطفق الشعب يهتف باسمه، ويدعو الله له؛ حتى صفرت القاطرة، ولا يزال الهتاف راحلا في إثره، والنفوس مرافقته في سفره، حتى توارى القطار بالحجاب، والخلائق الكثر في الرحاب، قد شقت الأبواب، وجاءت كالسيل العرم من كل إفريز وجانب، تعدو وراء القطار وهي تحسبها ملاحقته، أو تظنه إنما غاب في منعطف المآب!
ولقد علم الله ما كان مصطفى ليعظم فينا، وما كان ليظفر منا بحبنا، لو أنه كان كما فتئ خصومه في البلاد يقولون «مخلوق ظروف»، وزعيما جاءت به «المصادفة»! إذ لو صح ذلك لكانت الأقدار هازلة، وحكومة السماء من حكومة الأرض ساخرة، والسماء لا تهزل، والقدر لا يقيم على رأس شعب مجاهد، ولا يضع على صدر أمة مكافحة رجلا ليس على شيء من مطالب الزعامة، خليا من معاني العظمة، أحدثه الزمان، ورفعته طوارئ السنين وأحداث الأعوام. ومن يقل ذلك فهو الساخر من النهضة كلها، من مطلعها إلى يومها هذا وعهدها، الهازئ بما سال على جوانبها من دم زكي، وفاض عندها من وطنية حارة، وذهب في سبيلها من نفوس بريئة طاهرة. ومن تجيء به الظروف وتنشئه المصادفة، يمض في الحياة مترنح الميزان؛ لأن الظروف التي جاءت به قد ترتد حينا عليه، والمصادفة التي أنشأته متخلية يوما عنه، والنفوس التي مالت إليه عائدة مع الزمن عن حبها له. ولن تعيش العظمة الطارئة إلا ريثما تمضي الظروف التي طرأت بها، ولن تثبت على الزعامة وهي من معانيها الأولية خالية.
ذلك هو صوت الحقد الأعمى، كلما سمعناه أخذناه إلى قلوبنا، فعرضناه فإذا القلوب مزدادة حبا، حاشدة ولاء. وكذلك تروح كل فرية تنسج حول الزعيم الذي اصطفاه القدر ولم تجئ به المصادفة، هالة من ضياء يتوهج، ودائرة من سناء يلتمع؛ وكذلك تخدمه فينا أكاذيب أعدائه، وتخدمنا فيه فريات خصومه؛ لأن العظمة لا تجمل بالمديح قدر ما تجمل بالهجاء، ولا يطيب لديها الثناء كما يطيب عندها كلام الأعداء؛ لأنها جندية محاربة، كلما أمطروها في المعركة نيرانا، زادوها ثباتا وشجاعة وسكونا.
لقد نشأ مصطفى رجلا فاضلا بالفطرة، عظيما بالسليقة، لم تجئ به الظروف المطاوعة، وإنما جاء هو بها طائعة، وحملها على المشي في أثره، والركض وراءه؛ لتلاحقه وتنصاع لكلمته، وتنزل على مشيئته، ومثله لن ترد عليه سلسلة الحوادث، ولن تكفل له القوة التي يتحرك بها؛ لأن كل قوة فيه هي من صميمه، ومحال أن تصلح الظروف الحسنة ما فسد بالخليقة؛ وهيهات أن تزيل الأحداث الطبيعية مناقص الشخصية المشوهة. ومن العار على العظمة الصادقة أن تعدو إلى الحوادث، وتترامى على فواجئ الظروف، لتوكيد صدقها، وتثبيت أفضالها، واستخلاص الشهادة بمواهبها، إذ لا يجري الغني المستثمر ماله في الصناعات أو ميدان المال في كل ساعة إلى «البورصة»، ولا يهطع في كل وقت إلى سوق الأوراق ليستبدل ما عنده منها نقدا، ويرد ما في يده منها عملة جارية؛ وإنما هو يقنع بقراءة أسعار السوق ليتوكد لديه أن أوراقه قد ارتفعت، وثروته قد زادت وربت مليا.
لقد عف مصطفى من جميع جهاته، فهو اليوم في مناعة من الشهوات، ووقاية في صميم نفسه من مغرياتها، وأحاديث نجواها وهمساتها؛ وقد تطهر من مطالب ذاته فأضحى كله بنفسه وخاطره وشعوره للذين استأمنوه على الزعامة فيه، وأولوه التفكير عنهم في أمر وطنهم، وإن قوة الفضيلة لهي سناد كل عظمة وقوام البطولة الزعيمة في الأمم والشعوب.
لقد ذهب مصطفى النحاس على رأس الوفد يفاوض! فلله هو لقد أعد لهذا اليوم الخطير، والمهمة الكبرى؛ فإن انتصر فقد أدى رسالته، وإن لم ينتصر؛ لأن خدع الباطل غالبة، والسياسة واهية كاذبة، فقد انتصر، ولكن بالروح؛ لأن الحق لم تتحيف جوانبه، والمفاوض أراد أن يأخذ الحق وأبى أن يوهبه!
وما مصطفى إلا سعد في صورتين؛ فلئن كان سعد رب العقل الجبار، لا يخاف في الحق قوة، فإن مصطفى بضعة من سعد، تخاف على الحق من كل قوة؛ ولئن كان سعد جبروتا في قوة الحق، فإن مصطفى جبروت مثله في الحرص على الحق. ولقد كان سعد لا يخشى على شيء، وأما مصطفى فإنه يخشى في مناهجه السياسية على ثلاث: على الحق في ذاته، وعلى سعد في مبادئه، وعلى خليفة سعد في سمعته وزعامته. ومن تكن هذه مراشده فهو على الصراط، لا يضل صاحبكم ولا ينسى!
وقد بلغ من كمد خصوم الوفد الذين صرعهم الحكم المطلق بأيديهم أن راحوا يقولون في سفر الوفد الرسمي إن هو إلا سفرة نزهة، وسياحة لهو، ومشوار قصف وعبث، وعودة بخسر، ومآب بفشل، وكان ذلك كله لغة الحقد ، فإن من يأخذ الطريق إلى المجد لا يتنزه، وما هي يومئذ بسفرة لهو، وكل مستقبل مصر معلق فيها على الخيبة أو النجاح، وحياة الملايين مرهونة بخاتمتها، وكل خطوة فيها تحمد الله وتسأل السلامة من الخطوة التالية، وكل مصر متطلعة إليها مترقبة راجية.
تلك رحلة في التاريخ، وانتداب أمة، وتمثيل شعب، وأمانة قوم، وذمم أجيال، تولاها جميعا مصطفى النحاس قويا بها، وهي به قوية، مؤمنا بمعانيها، وهي واجدة فيه رموزها وعناوينها الواضحة الجلية، ومظاهرها الرائعة البالغة.
وكان الوفد عند وصوله إلى لندن موضع حفاوة كبيرة وترحاب عظيم، وتبودلت الزيارات والمآدب ومجامع التعارف ومحافل الاستقبال والتكريم.
وفي الحادي والثلاثين من شهر مارس - وقد وافق يوم اثنين - كان الاجتماع الرسمي في قاعة «لوكارنو»، تلك القاعة التاريخية العظيمة التي سميت باسم المعاهدة التي عقدت فيها؛ هنالك اجتمع الفريقان ... هذا قوي له في البحر الفلك المشحون، وعلى صفحة الأوقيانوس ضخم السفين يجري باسمه رهيبا، وفي الأرض عز مكانه يحيي أمما ويميت شعوبا؛ وهذا قوي بالروح، خال من السلاح، عدته الحق، والحق من الله، وصياله بقوة الإيمان، والإيمان في الأرض عظيم، وكان مكانه في السماء عليا.
اجتمع الفريقان: هذا اغتصب حقا، وهذا يطلب حقا، وكان الأول جبارا من قبل عنيدا، وكان الثاني على الدهر صبورا جليدا، وكان في مقدور الجبار أن يرسل عليه من السماء كسفا وحديدا وبارودا، فيرده هشيما حصيدا، وكان في عذر الضعيف حياله أن يستنيم له أو يبغي عن طلب الحق قعودا، ولكن إيمان هذا الضعيف رده قويا وعصمه من شر اليأس، فنهض متجلدا بالروح أبيا؛ فإذا حرب خفية بين القوة بماديتها وبين القوة بعقيدتها، وإذا الفريقان في قاعة السلام مجتمعان، جهاد وإيمان، وحذر واطمئنان، ومخافة وأمان. وعلي الزمن أمل؛ فإن صح تصادق الشعبان، وإن خاب لم يخسر ممثل مصر شيئا، ما دام القوي بالحق عليه ثابتا يقظان لا ينام.
وخطب وزير الخارجية البريطانية، وهو يمثل القوة فوق الحق، وخطب الزعيم مصطفى وهو يمثل الحق فوق القوة؛ فإذا بالخطيبين يجتمعان عند معنى واحد : هو الحق والقوة مجتمعان. ومن قبل هذا جرى لقاء فكان لقاء في الخفاء، كأنما التقى الفريقان على مساومة وشراء. وقد اجتمع يومئذ في شخصي هندرسن ومصطفى النحاس، اجتماع الأنداد والنظراء.
وفي خطبة الافتتاح ذهب هندرسن يقر بعد إنكار قائلا: «ها نحن أولاء نستقبلكم، ونرحب بكم، يا سيدي، كممثل للأغلبية الكبرى لشعبكم»، فكان ذلك أول بداية الحق في مفاوضة بينه وبين قوة السلطان.
مصطفى النحاس باشا في لندن أثناء مفاوضات سنة 1930.
وكانت الحكومة البريطانية قبل ابتداء المفاوضات قد أعلنت عند عرض مقترحاتها أنها لا تقبل تعديلا، وأنها آخر ما يمكن عرضه أو التفاهم عليه، وكان ذلك مغريا بيأس، مثبطا للعزائم؛ لأن صاحب المشروع قد أراد أن يحمي مشروعه من قوة الحق، خيفة على ما فيه من باطل أن يتداعى بمجرد لمسة اليقين.
ولكن الوفد سافر ومصر في ركابه، وتاريخ خمسين سنة في الجهاد أو تزيد يؤيده ويهيب به وهو القوي الرابط الجأش، لا يركن إلى سلاح، ولا يستند إلى جيش ولا إلى أسطول؛ فلم تكد تبدأ المفاوضات حتى اعترف المفاوض الإنكليزي له بزعامته في أمته، وأجرى المفاوضة في وضح النهار ورائعته، وقامت مصر وإنجلترا محتفلتين لها، ساهرتين عليها، متيقظتين لمسيرتها. وإذا هنالك لهف وهنا انشغال بال، وقد نسي الناس في مصر هموم عيشهم ومشاغل حياتهم، وتلفتوا صوب العاصمة الإنجليزية، بقوة الأمل، وجلال الروحانية، يتابعون كل صغيرة من أمر المفاوضات، كأنما هي معطية كل فرد منحة إن هي نجحت، أو حرمته من متعة خاصة إذا هي مضت بغير نجاح.
وأقبل الوفد المصري على المقترحات مجاهدا، ونسي المقترح وعيده ومشيئته، فدارت معركة المناقشات سجالا بين الفريقين، حتى استطاع مصطفى أن يحدث فيها جديدا، ويحذف منها بنودا، ويطلب عليها مزيدا، ولم يبال صيحات المستعمرين، وقد هاجت يومئذ هائجاتهم، وثارت ثائرتهم، ولا أبه بحملات الغلاة من المحافظين؛ فقد ظهر في ذلك الوقت كثير منهم يحاولون إفساد أفق المفاوضات بالمكائد والمؤامرات والمطاعن والحملات، بل راح مصطفى يكافح بكل قواه، ويسهر على الحوار إلى الصباح.
أفعلمتم كيف كان يومئذ ذلك الجهاد؟! لقد كنا نياما في هدأة الليل وغمرة السكون، وهناك في قلب العاصمة الإنكليزية ووسط الزمهرير الجليد، جلس بعض أفراد منا يتكلمون في مصيرنا، ويكافحون لحق بلادنا، ووجدهم الصبح قياما وقد نسوا حق الطبيعة البشرية في سبيل حق الوطنية الأبية.
وانقضت ثلاثة أسابيع في الكفاح لمصر، إن غمض خلال الجفن فلم تغب فيها مصر عن الفكر والخاطر والحلم، وإن استراح البدن فما استراح الذهن، ثلاثة أسابيع طوال، قطعها المفاوضون الأبطال في بحث مستمر ومناقشة قائمة ودفع وتجاذب متواليين، وهم يتقدمون خطوة فخطوة، ويستردون حقا فحقا، ويسيرون إلى النهاية بقوة الإقناع والكياسة والحذق والحذر والأناة والرغبة الصادقة في الفوز والتوفيق.
ابتدأت المفاوضات بعد تبادل خطبتي الافتتاح بالبحث في المبادئ العامة وترتيب العمل، وتنظيم برنامج المباحثات، ثم انعقدت الجلسة الثانية في 3 أبريل فاستغرقها المفاوض البريطاني في إبداء ملاحظاته على المشروع المصري الذي قدمه مصطفى النحاس تعقيبا على المقترحات المعروضة عليه، وخصت الجلسة الثالثة في اليوم التالي ببحث المواد المتعلقة بحق مصر في حماية الأجانب، وقد أظهر مصطفى في هذا الجزء من المقترحات براعة مدهشة، وحضور بديهة عجيبة، ومنطقا قاطعا قويا يأخذ على خصمه السبيل، ثم النص الخاص بحالة «خطر الحرب» واحتمال توقعها، ووجوب تبادل الرأي حين ظهورها؛ فقد وقف المفاوض المصري الحريص الأبي النزيه في ذلك موقفا رائعا حقيقا بالإعجاب والتدوين.
مصطفى النحاس.
وأعقب ذلك البحث في الجلسة الرابعة في 7 أبريل فيما يتعلق بالمسائل العسكرية، وقد اشترك مع المستر هندرسن يومئذ رجال الحرب ووزيرها ومستشاروها الكبار، وهم حجج في ذلك وثقات، ولكن مصطفى لم يلبث أن أبدى من المهارة والمعرفة الوثيقة بهذا الباب والعلم العجيب به فائقه ما كان موضع عجب عند منافسيه؛ إذ أظهر خلال الأخذ والرد أن له على كل اعتراض جوابا حاسما، وعلى كل سؤال ردا بليغا مفحما، وله بجزئيات هذه المسألة وكلياتها خبرة جندي كبير لا يغيب عنه في هذا الموضوع شيء، ولا تفوته منه صغيرة ولا كبيرة، بل هو الجندي الحديث وعى علم الجيوش ومطالبها في الحرب والسلام.
وتوالت الجلسات في المسائل العسكرية وبقية المواد حتى بلغت أربع عشرة، كان مصطفى النحاس خلالها يصول في المناقشات ويجول، ويشد ويجذب، ويأخذ ويرد، وهو قائم على ساقيه، فوق أرض صلبة، معتز بمكانه، متكلم بكل إيمانه، حريص على حقوق وطنه. وقد كانت المناقشات تستحمي، والبحث يرتفع مده ويستفيض، والجدل يحتدم ويكاد الأمر يفرط ويفشل، لولا أن يعود الفريقان في سكينة إلى البحث والمجاذبة أو يرجئا الأمر إلى حين.
وفي الجلسة الخامسة عشرة وقد حل السابع عشر من أبريل أعلن الفريق البريطاني المفاوض المصري أنه قد حمل إلى اللجنة البريطانية آخر ما عرضه المصريون فلم تقبل إعادة فرقة إلى السودان، وإنها على استعداد لبحث مسألة الامتيازات الأجنبية مع المفاوضين المصريين، وأن المستر هندرسن مضطر إلى إلقاء تصريح في البرلمان بعد ساعة من الزمن، وسيضمنه أحد أمرين: إما أن المفاوضات فشلت وانقطعت، أو أن الاتفاق قد تم على كل شيء إلا مسألة أو مسألتين أرجئ من أجلهما إلى ما بعد عطلة عيد الفصح.
فكان جواب مصطفى النحاس أنه في حالة يستحيل عليه فيها القبول، ولكنه مضطر إلى استشارة زملائه في مصر، فهو إذن محتاج إلى بعض الوقت؛ لأن المسألة على جانب كبير من الخطورة، فرد المستر هندرسن بأنه لا شك أن من العدل إجابته إلى هذا الطلب، ثم عرض صيغة التصريح الذي أعده ليلقيه في مجلس العموم ليكون مصطفى النحاس على علم به قبل إلقائه.
وانتهت الجلسة بالاتفاق على أن يتلاقى الفريقان بعد عشرة أيام، وفي هذه الفترة أرسل مصطفى باشا إلى زملائه الوزراء في مصر رسولا يحمل إليهم كتابا منه يصف لهم ما جرى في المؤتمر، ويبسط لهم وجه الخلاف، وقد ختم ذلك الكتاب بقوله:
عجبنا لذلك كل العجب، وفهمنا منه أنهم لا يريدون أن يطبقوا النص الخاص بالسودان على حقيقة مفهومة؛ أي أنهم على نية مبيتة بألا تشترك مصر في إدارته، ولا أن ترسل جيشا إليه، وأن كل ما يكون لها فيه هو أن ينوب الحاكم العام عنها في هذه الإدارة.
لم نقبل ذلك، ثم جرت لنا عقب الوليمة التي أقمناها بالمفوضية أمس محادثات خاصة تأكدنا منها هذا المعنى، وأنهم يقصدون بتسوية المسألة المصرية أن تكون التسوية فعلية بالنسبة لمصر واسمية بالنسبة للسودان، بحجة أن البرلمان والشعب الإنجليزي لا يقبلان الآن تغييرا في حالة السودان الراهنة، على أن الباب مفتوح لإعادة النظر في هذا الأمر في المستقبل عندما تتحسن الأحوال، وتكتفي مصر الآن بما هو مذكور في المادة 13 من أن حقها محتفظ به لمفاوضات مقبلة. وعلى أثر هذه المحادثات الخاصة اجتمعنا مع اللجنة في المفوضية، وحاولنا تحويلها عن خطتها، ولكن بغير جدوى، وأخبرنا المستر هندرسن بأنه هو واللجنة مصرون على رأيهم، وأنه سيجيب غدا صباحا (أي اليوم) على سؤال في مجلس العموم خاص بنتيجة مفاوضاته معنا، وأن إجابته تتوقف على رأينا في مسألة السودان. ولما كان الوقت متأخرا عرض علينا أن يكون لنا اجتماع في الساعة العاشرة صباحا قبل جلسة البرلمان لنعطيه هذا الرأي حتى يستطيع أن يرتب إجابته عليه. وكان المستر كامبل حاضرا مع لجنة هندرسن في اجتماع المفوضية، فعرض علينا بعد انفضاضه، باعتبار أنه يسعى مسعى شخصيا للتوفيق، أننا إذا قبلنا أن نكتفي بإعادة أورطة مصرية إلى السودان بمجرد سريان المعاهدة، فإنه يقنع اللجنة بقبول هذا الحل، فوافقناه على ذلك، ولكنه أخبرنا قبل اجتماع الصباح بأنه حاضر من قبل اللجنة ليخبرنا أنه لم ينجح في مسعاه، وأن المستر هندرسن يريد أن يعد إجابته بأحد أمرين: فإما أن يعلن فشل المفاوضات إذا لم نقبل، وإما أن يعلن أنها لا تزال مستمرة وهو يأمل نجاحها إذا قبلنا أو فهم أننا لا ننوي الرفض؛ فأجبناه بأن يبلغ اللجنة أننا سنستشير زملاءنا في مصر، وعلى أثر ذلك حضر إلينا المستر هندرسن وأطلعنا على الرد الذي أعده لمجلس العموم، ثم اتفقنا على أن نجتمع عندما يأتينا الرد منكم، وحددنا لذلك اثني عشر يوما.
هذه هي حقيقة الحال، أردنا أن تمدونا برأيكم فيها، مع الاحتفاظ بسريتها، والله يوفقنا جميعا لما فيه صيانة حقوق البلاد، والسلام.
وقد حمل هذا الكتاب الأستاذ محمد صلاح الدين أحد أعضاء سكرتيرية الوفد الرسمي والسكرتير الخاص لزعيم البلاد، قادما به إلى مصر على متن إحدى الطائرات، فوصل في مساء الثاني والعشرين من أبريل، وعلى أثره اجتمع الوزراء ولبثوا يجتمعون يومين متواليين لدراسة الرسالة التي تلقوها، وتقليب وجوه الرأي فيها، ووضع قرار بما يرونه بسبيلها، ومثل الأستاذ محمود فهمي النقراشي وزير المواصلات يومئذ بين يدي الملك لعرض الأمر عليه وتلقي مشورته.
وعاد الرسول بالجواب مستقلا الطائرة «سيتي أوف جلاسجو» إلى لندن، ولكن السائق ضل الطريق في سفره، فلم يصل الرسول في الموعد المنتظر فقلقت الخواطر عليه.
وحل موعد استئناف المفاوضات في التاسع والعشرين من أبريل، ولم يصل الرسول إلى لندن، فاجتمع الفريقان في الموعد، ولكنهما لم يواصلا البحث وإنما أجلا استئناف الجلسات إلى ما بعد عودته.
وفي 5 مايو تلاقى الجمعان، وكان الرسول قد وصل بعد عناء قاساه في الطريق ومتاعب كثيرة وبسبب نفاد الوقود وضلة الاتجاه. واستؤنف البحث في مسألة السودان فاحتدمت المناقشات بين هندرسن والنحاس، وراح كل منهما يناضل الآخر ويجاهده ويغالبه، حتى توالت الجلسات ومصطفى النحاس ثابت في مكانه، مستمسك برأيه وحجته، فلم يجد هندرسن مناصا من التراجع ومحاولة التراضي والخروج من المآزق الأخيرة بسلام.
وكانت أخيرا الجلسة التاسعة عشرة في 6 مايو سنة 1930، وهي الجلسة التاريخية الرهيبة التي اختلى فيها مصطفى وهندرسن ومكرم عبيد ساعتين كاملتين تحدثوا جميعا خلالها في سبيل إيجاد حل لصعوبة السودان، فاقترح مصطفى باشا على المستر هندرسن في آخر الأمر صيغة تجمع بين الحلول المختلفة، فوافق عليها وطلب أن تكتب بالإنكليزية، فأجاب دولته بأنه أولى أن توضع الصيغة بواسطة موظفي وزارة الخارجية الإنكليزية حتى لا تكون مثارا لأي خلاف فيما بعد.
وكان النص الذي اتفق عليه الفريقان هو:
مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل لتعديل اتفاقيتي سنة 1899، قد اتفق الطرفان المتعاقدان على أنه بغير إخلال بحقوق مصر ومصالحها المادية يكون مركز السودان هو المركز الناشئ من هاتين الاتفاقيتين. وكإحدى نتائج اتفاقيتي سنة 1899، يواصل الحاكم العام بالنيابة عن الطرفين المتعاقدين مباشرة السلطات المخولة له بمقتضى الاتفاقيتين المشار إليهما.
وقد اتفق الطرفان المتعاقدان على أن يدخلا - إذا طلب أحدهما ذلك - في مباحثات ودية بشأن تطبيق الاتفاقيتين المذكورتين في خلال اثني عشر شهرا من تنفيذ المعاهدة الحالية.
وقد وافق الفريقان على هذا الحل الحسن بالإجماع، فتبادلا التهنئات الحارة، وأبديا معا السرور والاغتباط بهذا التوفيق.
وانصرف الفريقان على أتم التفاهم وموعدهما الغد ...
واستطارت أنباء هذا النجاح بعد طول الشد والجذب إلى مصر في الليلة ذاتها، فعمها الفرح، وأقام أهلها ساهرين من فرط السرور والجذل، وشاعت الأخبار المفرحة في المجالس والمجامع، فسرت موجة ابتهاج في البلاد، وبتنا نحن في دار «الكوكب» نطفر من مراح، ونقطع الليل إلى الصباح في قصف ومسرة وهناءة.
ولم يشك أحد في أن النهاية قد انتهت بفوز، وأن مصطفى النحاس قد انتصر، وهو بالنصر معتز؛ فقد جاهد لحق الطبيعة وحق الأبد، وأدى ما في العنق، ووفى الذمم، وأقدم ولم يحجم؛ بل لقد شرف مصر وجهادها، وصان ذكريات أمسها وجلال حاضرها، وغيب غدها، وسار في المفاوضات شهما أبيا، وكان خلالها فخار مصر في سمع العالم وعين الدنيا. فكم كلفه هذا الموقف العظيم من عصارة روحه، وحشاشة مهجته، وينابيع بطولته! ولا يمكن أن يتصور أحد على الحقيقة العناء الذي عاناه في هذه الفترة القصيرة من الزمن، المستطيلة المضنية في تأثيرها وسلطانها على النفس والذهن، فترة جهاد جبار لمستقبل أمة، ومصير شعب، والخوف على الحاضر وخشية الغيب، ومن يك في ريب مما قاسى الزعيم واحتمل، فليضع نفسه في الخيال موضعه، وليتصور نفسه في ذلك الموقف ويتمثل، وحياله أساطين السياسة وكبار أهلها، من كل ذكي حاذق عجيب الحيل، ثم ليعد إلى نفسه مؤمنا بما كان من مصطفى في ذلك الصراع الهائل بين الحق والباطل، فإن مجرد تصوره في الخاطر مخيف مذهل، فكيف بمباشرته في الواقع، وخوض تياره الغامر، وموجه الزاخر، وإعصاره الرهيب؟!
وطبقا للموعد السابق اجتمعت اللجان في غداة اليوم التالي للانتهاء من المسائل التفصيلية . وفيما هي تعمل بجد للفراغ من الصيغ النهائية، إذ حضر المستر هندرسن عائدا من مجلس الوزراء ليفاجئ القوم بنبأ أليم، وهو أن المجلس قرر رفض المادة الخاصة بالسودان، والتي قبلها الفريقان، وأن معارضته تنصب على الشطرة الثانية منها التي تنص على دخول الطرفين المتعاقدين «في مباحثات ودية بشأن تطبيق اتفاقيتي السودان خلال اثني عشر شهرا من تنفيذ المعاهدة».
أمام هذا النبأ المروع الأليم اجتمع مصطفى النحاس بالمستر هندرسن لمحاولة إنقاذ الموقف، ولكنهما لم يصلا إلى حل موفق، فتواعدا على اللقاء في أصيل اليوم بالذات.
وتلاقيا في الموعد المضروب، وراح كل منهما يحاول من جانبه ويعرض صيغا ويبتكر نصوصا ويبدئ ويعيد، متناولين مسائل الهجرة والملكية والتجارة في السودان. وانصرف المستر هندرسن مع الدكتور دالتون بعد خلوة لهما في الواحدة صباحا، ثم عاد الأول حوالي الساعة الثالثة من منتصف الليل، فأنبأ مصطفى ومكرم أن الفريق البريطاني يطلب تحديد الموقف في مسألة السودان على أساس ما اقترحه مجلس الوزراء من حذف الشطرة الثانية التي مر ذكرها، وقبول النص القائل بأن الحكومة البريطانية تنظر في المستقبل بعين العطف إلى عودة كتيبة من الجيش المصري إلى السودان، وتعديل المادة الخاصة بالهجرة والملكية والتجارة فيه؛ وطلب من مصطفى النحاس رأيه في ذلك جميعا، فقال دولته إنه متعب بعد عمل مضن استمر حتى الساعة الثالثة صباحا، ولا يستطيع أن يتلقى منه هذا التغيير الشامل في الموقف، ولكنه على رغم تعبه يستطيع الاستمرار على نظر المسائل التفصيلية؛ أما أن يتلقى ما يقلب الموقف رأسا على عقب، فذلك ما لا يستطيعه؛ لأنه بحاجة إلى الراحة قبل أن يتلقى هذا التغيير الفجائي والانقلاب المباغت.
فقال المستر هندرسن إن مجلس الوزراء سيجتمع في العاشرة من صباح اليوم التالي 7 مايو، ففي الإمكان الاجتماع في الساعة الحادية عشرة لتبدي لنا رأيك فيما عرضته عليك الآن، فأجاب مصطفى باشا قائلا: «إني أعتبر أنك لم تعرض علي شيئا الآن، ولك أن تعرض ما تشاء عند العودة إلى الاجتماع، ولعل راحة الليل تهديك إلى اجتناب ما يترتب عليه انهيار هذا البناء الشامخ الذي أقمناه!»
وانصرف القوم إلى المضاجع على مطالع النهار.
وترامت أنباء هذه النكسة الفجائية إلى مصر، فأحست صدمتها، وشعرت بهزة من فجأتها، ولكنها عادت إلى بأسها وجلدها، فسكتت ورضيت وعرفت كيف تتجلد لهذا الخطب العظيم.
لقد أرضتها أخبار النجاح أولا كما أرضتها أنباء الخيبة آخرا، وكان رضاها بالنجاح أنها ستعقد اتفاقا شريفا وطيدا بينها وبين بريطانيا يصون حقوقها، ويرد عليها استقلالها، وكان باعث هذا الرضى أنها تريد أن تفرغ من الجهاد للسياسة إلى الجهاد للإصلاح؛ فقد فرطت عليها سنون شهب شداد، استنفدت السياسة فيهن منها كل تفكير، واقتضى الجهاد خلالهن عندها كل بحث ودأب، ومضى الحكم فيها قسمة سياسية وتناحرا وطنيا، لا يكاد يقع لفريق حتى تثور العواصف العاتية، فتدفع به إلى فريق. وفي مصر مشروعات حيوية تريد الفراغ لها، وشئون داخلية خطيرة تطلب التوفر عليها، فلا جرم لقد كانت أنباء النجاح أولا سارة مرضية؛ لأن معناها الفراغ من القضية الخارجية لإلقاء البال كله إلى القضايا الداخلية، وهي على كثرتها وحيويتها قد تراكمت حتى بات إرجاؤها مؤذيا، والرغب عن تناولها بالبحث والتنفيذ مضرة بالغة.
لقد رضيت مصر، إذ جاء البشير وأفعم النفس رضى، بأن الإنكليز قد عرفوا لها تسامحها؛ لأن من عجيب أمر السياسة أنه بينما يقول أصحاب الحق: هذا حقنا، يقول الغاصبون: ولكن ما رأيكم في مصالحنا. وقد خرجت المسألة من الصراع بين الحق والباطل إلى النزاع بين الحقوق و«المصالح»؛ فرأى العقل وأوجبت الحكمة أن تصان الحقوق إذا لم تتحيف جوانبها المصالح، وما دمت لا تستطيع أن تنفي مصلحة غيرك وهو القوي ذو السلطان، فإن العقل مقتضيك ألا تنفي حقك من أجل نفي تلك المصلحة.
رضيت مصر بأنباء النجاح الباكرة؛ لأن المحالفة الشريفة هي مطلبها الأول، وصيانة استقلالها هي مبدأها الأكبر وغرضها الأسمى، وقد جاهد مصطفى والذين معه لضمان ذلك أروع الجهاد، وأبدوا من آيات الحكمة والنزاهة والحزم والكياسة والبراعة السياسية في أثناء المفاوضات ما كان محل دهشة الساسة الإنكليز أنفسهم، حتى لقد شهد لهم بذلك أشد غلاة المستعمرين.
ولقد ظل «ممثل الأغلبية الكبرى» في أثناء المفاوضات يداورهم ويسايرهم من ها هنا وها هنا، ويدانيهم من هذه الناحية، ويستشف دخيلتهم من أعجب المسالك الخفية، حتى كشف عن نياتهم الحقيقية، وأثبت أن مصر لم تسئ فيما فعلت، ولم تخطئ فيما طلبت، وأن رائد وفدها الحكمة والحق والسعي إلى التوفيق والرغبة الصادقة في التفاهم والتعاون والتحالف الشريف بين الأنداد والنظراء.
ولكن الإنكليز اختلفوا معنا؛ لأن ما يطلبونه إلينا هو التسليم لهم بالحياة، والرضى لأنفسنا بالموت، فإذا نحن رفضنا ما طلبوا، فقد أبينا الذل وعرفنا لأنفسنا معنى الكرامة، وحق الحياة، وجلال العزة والإباء.
وكذلك رضيت مصر ببوادر أنباء الفشل؛ لأنه فشل في الحق رائع، فيه الكرامة، ومنه الحياة، ووراءه الأمل، ومن حوله الإباء والإيمان واليقين.
وكان الراضي بالفشل هو أكبر مجاهد، وحامل لواء الزعامة، وخادم الأمة الأمين، وكانت الأمة في إثره راضية.
وقد أصبنا في رفضنا، وأخطأ الإنكليز فيما حسبوه صوابهم؛ فقد شددوا في أمر السودان تشديدا كشف عن سوء نياتهم، على حين تسامحنا نحن تسامحا كشف عن صدق رغبتنا، ورحنا أمام تشددهم بكياسة الساسة الحاذقين نحاول أن نجد علاجا للمشكلة بعد علاج، ونصف دواء بعد دواء؛ ولكنهم أبوا ذلك جميعا، ونأوا بجانبهم، بل لقد تناهى بهم العناد إلى رفض إرجاء النظر في المسألة، وهو أمر يبعث على الريب، ويفتح أبواب الشك، ويرينا مبلغ الجهاد العنيف الذي اضطلع به مصطفى النحاس وأصحابه الأبرار المجاهدون.
لقد رضيت مصر على كلتا الحالتين، والمجد لها في رضى الفشل أروع من المجد لها في رضى النجاح؛ فإن مجد الفشل جلال وإباء وعزة شماء، والشعور بالنجاح هو الفرح والإحساس بالهناءة، وشتان بين الحاستين، فإن الفرح قصير العمر، يعاجله النسيان، وهيهات أن يكون لمجد الآباء نسيان.
وكانت الجلسة الختامية، وهي الثانية والعشرون، في اليوم الثامن من مايو سنة 1930 حيث التقى الجمعان لآخر مرة مع آخر أمل، ولكن مجلس الوزراء البريطاني أبى إلا التمسك باعتراضاته بشأن مسألة السودان ، رافضا كل تعديل، حاذفا من المادة بعد إقرارها في المؤتمر كل ما يشير إلى «دخول الفريقين في مناقشات ودية بعد سنة من تاريخ تنفيذ المعاهدة، وذلك بالنسبة لتطبيق اتفاقيتي سنة 1899، الخاصة بالاشتراك الفعلي في إدارة السودان».
وإزاء هذا الإصرار الفجائي الغامض لم يسع مصطفى النحاس باشا إلا أن يعود إلى زملائه ليفضي إليهم بهذه النتيجة؛ فقرروا بالإجماع أن يكون ردهم كما يأتي: «يتمسك الوفد المصري بالنصوص التي عرضها بصدد مسألة السودان، ويأسف أشد الأسف إذ بعد أن بذل أقصى ما يستطيعه من التساهل في المسألة المصرية كلها بأمل الوصول إلى اتفاق عادل في مسألة السودان، ينتهي الأمر إلى حالة لا يمكن قبولها على الرغم من شدة رغبته في الوصول إلى اتفاق شريف وطيد بين البلدين؛ لأن في قبول هذه الحالة مضيعة لحقوق مصر المقدسة في السودان.»
فأجاب المستر هندرسن بأنه يشارك الوفد المصري أسفه على ضياع الجهود التي بذلها الفريقان، وأن المسألة المصرية ستكون باقية عند ما تم التفاهم عليه؛ فإذا عدل الفريق المصري في المستقبل موقفه أمكن الوصول إلى الاتفاق، ثم أضاف أن الطرفين يفترقان وهم أصدقاء، واقترح دعوة زملائه ودعوة أعضاء الوفد المصري الآخرين لتبادل السلام؛ فقال دولة النحاس باشا: «إن ما كسبناه من هذه المفاوضات هو الصداقة الشخصية بيننا وبينكم، ولقد بذلنا غاية جهدنا للوصول إلى حل لمسألة السودان حتى لا تفشل المفاوضات، وعرضنا تأجيل هذه المسألة إلى وقت آخر يتفق عليه بيننا، فلم تقبلوا هذا الحل، ونحن نوافق على ما ذكرتموه من أن المسألة المصرية باقية عند ما تم التفاهم عليه، ونأمل من جهتنا أن يعدل مجلس الوزراء البريطاني موقفه في المستقبل حتى يمكن الاتفاق. أما فيما يتعلق باستدعاء زملائكم فيهمنا بكل تأكيد أن نصافحهم مودعين.» فقال المستر هندرسن: «لا أظن أن مجلس الوزراء البريطاني يعدل رأيه، والواقع أن الحل الذي عرضناه عليكم هو تأجيل لمسألة السودان.» وأجاب دولة النحاس باشا: «نعم، ولكن بعد تسجيل الحالة القائمة الآن فيه.»
واجتمع الوفدان بعد ذلك بكامل هيأتهما، وتبادل المستر هندرسن ودولة النحاس باشا الخطابين الآتيين:
المستر هندرسن : «مما يؤسف له حقا أن تنتهي كل هذه المجهودات الشاقة المضنية بالفشل، خصوصا بعد أن وصلنا إلى الاتفاق على جميع المسائل الخاصة بمصر، ولكننا لم نستطع إزالة الخلاف القائم بيننا في مسألة السودان، فنحن نجتمع الآن لنعلن انتهاء المفاوضات، وانفضاض المؤتمر الذي عقد لتسوية المسألة المصرية الإنجليزية.
ويهمني في هذا المقام أن أصرح لكم باسم حكومتي بأن مشروع المعاهدة كما تم الاتفاق عليه سيبقى قائما، فإذا وجدتم بعد عودتكم إلى القاهرة ومناقشة المسألة مع أصدقائكم فيها أن هناك أملا في أن يصبح هذا المشروع معاهدة مقبولة من الجانبين، فإني وزملائي مستعدون لمحاولة الوصول إلى اتفاق على النقط القليلة الباقية في المذكرة الملحقة بالمعاهدة ليصبح التوقيع عليها ميسورا.
إنني أكرر الأسف، وأعتقد أن قسما كبيرا من الشعب البريطاني يشاركني هذا الأسف على النتيجة التي وصلنا في النهاية إليها.
ولكن إذا كان قد أخطأنا النجاح، فإننا نفترق الآن بنفس الروح الودية التي سادت مفاوضاتنا من يوم وصولكم إلى لندن.»
النحاس باشا : «يا سعادة المستر هندرسن، ويا حضرات زملائه المحترمين، لا يسعني إلا أن أسجل هنا ما أبداه الجانبان من الرغبة الأكيدة في تذليل الصعوبات التي قامت في طريق حل المسألة المصرية الإنجليزية بشكل مرض للطرفين، وما بذلاه من مجهود صادق في هذا السبيل. ونحن نشاطركم شديد الأسف على فشل هذه المجهودات بعد أن حاولنا جهد الطاقة الوصول إلى حل مرض لمسألة السودان، فلم نوفق في ذلك؛ لأن الخلاف بيننا في هذه المسألة خلاف كبير الأهمية عندنا، ولأن قبول وجهة نظركم فيها يضيع حقوق مصر المقدسة في السودان.
لهذا لم نستطع الوصول إلى الاتفاق المنشود.
وإذا كان قسم كبير من الشعب البريطاني يشاطركم الأسف على النتيجة، فإن الشعب المصري يشاطرنا أيضا أسفنا على هذه النتيجة؛ لأن من مصلحة الشعبين أن تسوى المسائل القائمة بينهما تسوية خالصة عادلة تصون الحقوق والمصالح جميعا. ومن أجل ذلك بذلنا مجهودا عظيما للوصول إلى تسوية على هذا الأساس، حتى يمكن عقد المعاهدة بإخلاص وأمانة تشرف الموقعين عليها.
وإذا كنا لم نوفق في بلوغ هذه الغاية، فإنني وزملائي نختتم عملنا في هذا المؤتمر بنفس الروح الودية التي بدأنا بها، حاملين للمستر هندرسن وزملائه خير عواطف الصداقة.
ونرجو أن ترى الحكومة البريطانية مع الزمن أن ما عرضناه عليها حل عادل يمكن أن نتلاقى معها على أساسه.
وإذا كنتم قد طلبتم منا أن نفكر بعد العودة إلى بلادنا في الأمر، فإننا كذلك نرجو أن تنظر الحكومة البريطانية فيه، حتى إذا رأت أن هناك أملا في تقريب مدى الخلاف، عاون ذلك معاونة جدية على الوصول إلى الحل المنشود، وبهذه الطريقة يظل الباب مفتوحا بيننا.
وإني في الختام أكرر شكرنا للمستر هندرسن وزملائه ومعاونيهم الفنيين على ما قابلونا به من الترحيب، وما بذلوه من المعاونة في هذه المهمة الشاقة، وكل مشقة تهون في سبيل صالح البلاد.»
وعلى هذه الصورة انتهى المؤتمر بفشل فجائي، وقد كاد من قبل يتم له التوفيق، فظل باعث ذلك التحول السريع المباغت الذي بدا من مجلس الوزراء البريطاني، مع أن أربعة منه كانوا يساهمون في المفاوضات، وقد قبلوا النصوص الأخيرة وتبادلوا التهنئات مع المفوضين المصريين؛ سرا مجهولا إلى الآن، ولكن أكبر الظن أن دسائس اصطنعت في الخفاء من وراء الجانبين المتفاوضين، وأن هذه الدسائس جاءت في اللحظات الدقيقة وبصدد أخطر مسألة من المسائل المعروضة، فلقيت النجاح، وحطمت ذلك البناء الشاهق الذي بناه الفريقان المتفاوضان كل تحطيم.
وقد لبث مصطفى في لندن بعد حبوط المؤتمر أياما استعدادا للمآب، وفي هذه الفترة اتصل به كثير من الإنكليز ليراودوا إرادته على التساهل في قبول ما عرضه مجلس الوزراء البريطاني والتسامح قليلا في مسألة السودان، ملمحين له بأن النتيجة إذا هو أصر على التمسك بنصوصه سوف تكون سيئة إذا هو عاد إلى وطنه، ولكنه لم يرع من كل ذلك الوعيد الخفي ولم يجزع، وقال قولته الخالدة في محضر كبير من الناس، وفي لهجة العزة والكرامة والوطنية العالية: «أوثر أن تشل يدي على أن أفرط في السودان!»
وقد كان هذا الموقف الجليل من مصطفى النحاس في الحرص على حقوق بلاده خليقا بأن يسجل في كتاب الشرف الوطني كأعظم المحمدة، ويدون في سجل الفخار كأروع المفخرة؛ فقد بدا في غمرات المفاوضة المثل الرائع للبطل الوطني الذواد عن أمته، والزعيم الأمين على حق وطنه وعشيرته، والأبي العظيم العجيب في بطولته؛ فاستحق من الأجيال الغابرة الحمد في السماء، ومن الجيل الحاضر الشكر والثناء، ومن الأجيال القادمة الإكبار لحقه والوفاء.
هو عمل من أعمال البطولة، وهي صفة من صفاته، فلا عجب فيه، ولا غريب فيها؛ لأنه كذلك نشأ، وكذلك عاش، وكذلك تولى الرياسة، وجاءته الزعامة طائعة، وفعال البطولة كلها في المواقف رائعة، وحسناتها في الناس جامعة مانعة، وقد أدى مصطفى النحاس بها تعريفه للدنيا، وساق معناها إلى العالم، ثم جاءت الحوادث الجسام، فكان منها أنسب تعبير عن البطولة الوطنية، وأبلغ المعاني في سجل الزعامات، وكتاب الشرف والمفاخر، وحساب العظمة البادهة النادرة. وإذا صح ما عرفه الناس من معاني البطولة ومظاهرها المتعددة، فقد صح في لغة الدنيا أن يكون مصطفى نوعا بديعا من البطولة في عصر تشابه فيه علينا الصغار والكبار، والدجاجلة والأبطال، والهين والمحال، والكبرياء والجلال، والكاذبون والصادقون، والممثلون والمهرجون والأشخاص الحقيقيون، وكثرت فيه الدعاوى الباطلة، وانزوت الأخلاق الفاضلة، واختلفت عنده أقيسة العظمة، وموازين الفضيلة؛ فقيل إن أعظم الساسة أكذبهم، وأبرعهم أدهاهم، وأمهرهم أخبثهم؛ بل راحت السياسة فيه عنوانا على جملة معاني الكذب والخديعة والمكر السيئ؛ فإذا نحن اليوم أمام بطولة كل زينتها الصدق، وعظمة رائعة كل جلالها في جلال الكرامة والشرف والإباء، وكل فضلها في الثبات والأمانة والوفاء.
هي بطولة أخلاق ظهرت بأتم جمالها، في موقف عظيم مثلها، وأمر اصطلحت عليه المغريات، وحفته المكاره، وأحاطت به المخاوف والهواجس، وأحدقت به المشاكل والأخطار؛ فلم ترتبك هذه البطولة الخلقية، ولم يغم عليها، بل وجدت طريقها واضحة أمامها؛ فسلكتها إلى آخرها، ولم تتساقط على القارعة من الحيرة أو التردد أو الإعياء.
لقد وقفت هذه البطولة الصادقة موقف شرف وفخار، ورب هزائم وخيبات أروع وأجل من كل انتصار!
لم يفرط مصطفى النحاس في السودان، وكان كل فرد في مصر حريصا عليه، وكلهم كان يوم ذهب مصطفى للمفاوضة يسائل خاطره: وماذا هو صانع في مسألة السودان؟
لقد صنع مصطفى ما كان ينبغي أن يصنع، لقد أبى أن يفرط، وآثر أن تقطع يمينه على إمضاء وثيقة التسليم؛ فسجل له التاريخ هذا الشرف، وكتب له في ألواحه هذا المجد العظيم.
وتأهبت البلاد لاستقبال مصطفى عند عودته، معتزة بإبائه وحرصه على حقوق أمته؛ فإذا الإسكندرية قبيل موعد أوبته قد لبست وتجملت، وتزاحمت واحتشدت، وإذا القاهرة تمسح الثياب، وتختار الصحاب، وتستعرض الأردية لتشتمل بالبرد الزاهية، والآباء قائلون للبنين: يا بني إنا لنخشى عليكم الزحام، ويقول البنون: نحن الزحام، أفيخشى الزحام الزحام؟! وتتعلق الزوجات بأكتاف الأزواج، ويقلن: أهذا يوم الخروج؟! أفلا تقعدون مع القاعدين؟! ويجيب الرجال النساء: إنا إذن لجاحدون! ... وكرائم العذارى يتنادين، وربات الخدور يتجمعن، قائلات: هلم إلى الشرفات، فإن الموكب من ها آت، وتروح القاهرة، تود لو أنها اجتمعت كلها على الطريق، وكانت للموكب الشارع الأوحد والمخترق، ويود أهلها لو يتسع السبيل لحشدهم أجمعين ...
وبين الثغر والحاضرة، قد خرج أهل القرى باكرين لينتظروا الساعات الطوال من أجل اللحظة الخاطفة، ومرقة القاطرة المزغردة الهاتفة، وهم يصفقون وإن لم يتبينوا شيئا، ويهتفون وإن لم تنكشف لهم من القطار كاشفة، والولدان الصغار يعدون على الجسور تحت وقدة الشمس مصفقين مارحين، وهم لا يعلمون لم صفقوا، ولا يدرون علام المرح، وإنما رأوا الكبار في فرح، فاشتركت الإنسانية الصغيرة مع الآباء بالغرائز الطاهرة، تجيب بالهتاف على القاطرة الطائرة، والزروع في المروج تتمايل من الكبرياء، كأن قد أحست أن الحريص على الماء قد جاء، وقد آن أن يكون للوفي وفاء.
لقد كان يوم مآب مصطفى هو يوم الشرف والفخار، يوم الشعب. والشعوب للبطولة عاشقة، والأمة لزعيمها تائقة، وأجر الحب لقاء، وهو إعجاب بإباء رفع في الدنيا معنى الإباء، وتمجيد لشجاعة، وإكبار لنزاهة، وشمم ووطنية صادقة.
لقد كان يوم الاستقبال يوما في التاريخ ، كتب التاريخ قصته، لتروي الأجيال روايته، وكان يوما من أيام الفضيلة، دونت الفضيلة حكايته، وأسمعت الدنيا أنشودته. وكان يوما للبطولة، ذكرت البطولة مروءته، وشكرت الله على ما كان لها في سحابته. وكان يوم العزة القومية، فخرت الأمة بجلال روعته، وأثبتت للعالم أن كبرياء الأسير لا تموت على سلسلته. وقد جاء اليوم وذهب، وبقيت إلى اليوم على الحاضر صورته.
لقد نسي الناس في ذلك اليوم حب السلامة في الجرية إلى التحية والسلام، ولم يبالوا التدافع والتماوج في وسط الزحام، واستحال الهيابة من الحياء فيهم الجريء المقدام، والجموع تتهادى إلى الأمام وهم جميعا أمام، وليس من متسع لأقدام، والأعناق تتطاول، والقامات تشرئب لرؤية البطل المدهش العجب، وكأنما تلك أول مرة يشهدون فيها الوجوه التي عرفوها، والمعارف التي لم يجهلوها، والصور التي لطالما لمحوها؛ ولكن الخاطر قد راح من فرط الجذل مستريبا، يحسب أنه مشاهد عجيبا، وما من عجب في الوجوه والطلعات، وإنما العجب من هذه الخواطر الخاطفات، تتمثل مصطفى قد تغير مطلعا، أو لعله قد لبس للحوادث درعا، أو جاء من معركة دموية يقطر نجيعا، وعلى محياه من النضال جراح، وتظن أن الصحاب قد عادوا من الوغى مثخنين ...!
أيها الناس، هذا مصطفى الذي عرفتم، ها هو ذا يبتسم بسمته التي أخذتكم وسحرتكم، وإنما على البسمة ظل من شحوب، وفي الوجه أثر من تعب، يخفيه ثم جلال ورهب، وعلى عارضه المتهلل خط الاعتراض على ضياع نصف الحق بنصفه، والإباء الغلاب على خوفه، وخط الحرص على شرف قومه وشرفه، وأسطر الفخار ثم باديات وقد حق التكريم للأوفياء الطاهرين.
شهران في غياب، ولكنهما في مقياس اللهفة كالأحقاب، والزعامة خلالهما مجاهدة، ومصر في ارتقاب، وقد تعاقبت فيهما على الشعب مشاعر عارضة، على مسيرة المفاوضة، يجيء صبح بنبأ، ويذهب مساء بأنباء، ويقول يوم: أنا على شرف من النجاح، فأعدوا معالم الأفراح، وينثني يوم يصيح من وراء البحر مناديا: أنا نذير فلا تعجلوا بجذل، فإني على المفاوضة وجل، وينبري من هدأة الأسبوع مساء ينادي: لقد عاد أمل. وكذلك جرى الشهران والنفس بين مد وجزر، حتى استقر الجهاد على عدوة الصبر، ومن ورائه إيمان لن يضعف آخر الدهر، ورجعنا من الأوبة أباة رابحين ...
شهران مستطيلان، كانت الحياة كلها فيهما في كفة القدر، وكان الموت فيهما راصدا لمصر، ولولا زعيم أرسل من وراء الحاضر إلى المستقبل حديد البصر، ووازن بين قبول بذل الحياة ورفض شريف أبر؛ لقضى الباطل على الحق، وعدنا بمعاهدة زائفة خاسرين.
وتعجل الناس في «وجبة» الطعام ليسرعوا إلى «الواجب» اللزام للبطل المقدام، والمجاهدين الكرام، ولو أن كل فرد في القوم كان على مرتقب أعز أهله، وأكرم ذوي قرابته، لما لهف على الموعد لهفته الحري على مشاهدة مصطفى وصحابته؛ فقد خرج الناس خفافا إلى طريق الموكب قبل أن يبلغ الزعيم القطار ليركب؛ فإذا المدينة في موج من الخلق، والأفاريز جدر قائمة من لحم ودم، والطرق صفوف من أناس وقوم، والناس من قائل: نخشى ألا يجيء من هنا. وقد ذهلوا عن الأشراط من حولهم والزحام، وعادت القلوب تطغى من الفرح على الأفهام؛ ومن متحدث يشرح أسرار السياسة كأنه كان مع الوفد، ويصف السودان كأنه مسقط رأسه والمولد؛ ومن متفلسف يتكلم في حكمة الرفض، ويدلل على قوة الزعامة وصيانة العهد، وكأن على كل خطوة حلقة من ساسة أعلام، وندوة من برلمان معقود، ومجمع مقام؛ والدقائق تمر بطاء، وما أبطأ الزمان، ولكن كذلك شبه للشعور الفياض وبدا لسرعة الوجدان.
وجاء القطار يتهادى من شرف، وتدافع المستقبلون، ونسي الشيوخ الوقورون وقارهم، فتقدموا يتزاحمون، كأنهم في العمر مقتبلون، وأطلق الشباب وجدانهم على آخر مداه، لا الحياء أمسكه، ولا الزحام نهاه، والمستهترون بالحياة من فوق القطار يهتفون، والخلق من تحتهم يتجاوبون، والدوي ينبثق من الفناء إلى الفناء، ويجد في الرحاب هواتف الأصداء. وأول هتفة على الإفريز لحظة استقر القطار، كانت كالشرارة الكهربائية الموجبة، آخر مداها عند ساقة الزحام، وقد سرت خلال أمواج الإنسانية حتى أتت على اللجة المترامية.
وبدا الزعيم ...
لقد أقبل الجلال، وظهر بطل الأبطال، والشجاع الذي صان الاستقلال ... مصطفى النحاس، أيها الفاتح الغازي، فتحت لمعنى جديد في الإباء كتابا، وغزوت الباطل شمما وغلابا، وطبت مذهبا وحسنت مآبا، وخسرت المعاهدة، وربحت إيمان الأفئدة، فهلم إلينا، فقد تقنا إليك من أول يوم غبت عنا، ونحن اليوم أعزة بك، وأنت المنتصر بنا، وقد رفعت رأسنا، وحرصت على حقنا، وحقك اليوم في الخالدين ...
وعلى أثر عودة الرئيس إلى أرض الوطن، وذلك الاستقبال الباهر الذي استقبل به عند وصوله، ألقى دولته خطابا بليغا في البرلمان بسبيل المفاوضات قوبل بالرضى التام والإعجاب البالغ، وقد شكر فيه زملاءه أعضاء الوفد الرسمي، كما شكر أمته التي عرفت صنيعه فكرمته تكريما.
وفي الثاني والعشرين من شهر مايو سنة 1930 أصدرت وزارة الخارجية البريطانية كتابا أبيض يحوي صور الوثائق والأسانيد والمذكرات التي تبودلت في أثناء المفاوضات، ووصفا شاملا دقيقا لسيرها. وكان خصوم الوفد في البلاد قبل هذا ومنذ عودة الوفد ينحون باللائمة عليه، ويتجنون في الحكم على تصرفه، ويمارونه في حكمة موقفه. فلما جاء ذلك الكتاب من خصمه، كان صدمة قوية لهم، إذ راح شهادة ضمنية من الجانب الآخر بمبلغ الجهود العنيفة التي بذلها مصطفى النحاس في سبيل استخلاص حقوق ومزايا كثيرة، لم يكن لها أثر في المقترحات السابقة؛ كما سجلت له تلك الوثيقة الرسمية مواقفه الشريفة، وإباءه الوطني الرفيع.
لقد كانت تلك وقفة شريفة، يسجلها الخصم؛ لأنه لا سبيل إلى إنكارها، ولا مفر من نشرها وعرضها على التاريخ ليقول فيها كلمته، ويحكم فيها حكمه الخالد العظيم.
على أن خصوم الوفد في البلاد تعاموا عن هذه الوثيقة وما سجلته من فخار له، وراحت تطالبه ملحة عليه في إصدار كتاب أخضر من جانبه، ولكن الوفد لم يستطع يومئذ أن يفرغ لهذا العمل أو ينكمش فيه، فقد وجد الأفق من ساعة وصوله ينذر بعاصف، وتبين له أن الجو قاتم يهدد بأعاصير.
ولم يكن الوفد يجهل ما يحاك له من الكيد، ولكنه كان بصيرا عليما بحركات خصومه جميعا، بعد أن استهدف لغضب الإنكليز بسبب تمسكه بالسودان، كما أغضب مندوبهم البريطاني سير برسي لورين بإبائه، فقد كان هذا قد أكد لوزارة الخارجية البريطانية قبل سفر الوفد للمفاوضات أنه قادم لتوقيع المقترحات في غير مناقشة ولا اعتراض؛ فلما رأى الوفد في لندن يناقش ويعترض، ويظفر بمزايا جديدة، ولا يبقي اقتراحا على أصله، ولا يرتضي نصا قديما بحرفه أو معانيه، أسرها في نفسه، وانكفأ حاقدا على الوفد يتربص به دائرة السوء، ويضمر له أشد الانتقام.
واجتمعت إلى نقمة الإنكليز على الوفد خصومة الرجعيين للدستور، وكراهيتهم للنظام النيابي، وتوقهم إلى قلب الحكم الديمقراطي ليخلو لهم وجه السلطان؛ فاستحال الأفق السياسي بعد عودة الوفد قاتما مكفهرا يؤذن بريح نكباء.
وبدأ خصوم الوفد في الداخل ينسجون ويدبرون المؤامرات في الخفاء، ويؤلبون الطوائف وذوي الحاجات على القائم، ويتهيئون ليصيبوا الحكم من الأكثرية الساحقة غلابا واغتصابا؛ لأنه هو كل همهم، ومدار رحاهم، وقطب أملهم. وجاء تفكير الوفد في تنفيذ المشروع الذي كان قد أشار إليه في خطبة العرش، وهو إصدار قانون لمحاكمة الوزراء ليزيد الموقف حرجا؛ إذ لم يكن أحد يتصور أن قانونا كهذا يمكن أن يمر من القصر أو يرتضيه الإنكليز؛ لأنه يخيف الصنائع، ويرهب الأعوان، وينمي الخوف في نفوس المتشيعين.
لقد كان هذا المشروع ينص على معاقبة الوزراء الذين يتهمون بتهمة الخيانة العظمى، أو تهمة الغدر، بعقوبات تتراوح بين الأشغال الشاقة المؤبدة مع غرامة لا تقل عن ألف جنيه، ولا تتجاوز عشرة آلاف جنيه فيما يتعلق بجناية الخيانة العظمى، وبالسجن مع الغرامة في جرائم الغدر. كما أدخل المشروع في باب «الخيانة العظمى» قلب الدستور أو نظام الحكام أو نظام وراثة العرش، أو تنقيح الدستور بتعديل أو حذف في بعض أحكامه، أو حكم البلاد على أساس نظام نشأ عن حالة من هذه الحالات.
وقد أقر البرلمان هذا المشروع وأحيل إلى القصر لتوقيعه، فلبث فيه لا يعود منه، ولا يرد إلى الحكم لتنفيذه؛ فلم تلبث أن تحرجت الأحوال، واشتدت الأزمة، ووقفت أداة الحكم، وانقطعت الصلة بالقصر والوزارة، واختنق الجو بالدسائس والمكائد، واكفهر الأفق أشد اكفهرار.
وكان خصوم الوفد خلال المفاوضات يدسون عليه بالتشدد في مسألة السودان، متغالين أشد الغلاة في الحرص عليه، مترائين أحر الذادة عن حقنا فيه، فلما شرف البلاد زعيمها بوقفته المجيدة بسبيله، وثبت أروع الثبات على حقه، انكفأ الذين كانوا أحمياء متقدي المشاعر بتلك الغيرة المتناهية يمارونه في موقفه، وينتقصون من جلال تصرفه وحكمة إبائه، ويزعمون أنه قد أساء، ولم يكن ما صنع إحسانا، وأخطأ وكان أدنى شيء إليه أن يصيب.
ولم يكد مصطفى يجد أن كل حيلة في إنقاذ الموقف فاشلة، لا أمل من ورائها، قدم استقالته في السابع عشر من شهر يونيو سنة 1930، وعرض الأمر على البرلمان في مجلسيه، فثارت عاصفة رهيبة من الحمية والغضب للدستور والحكم الديمقراطي، وقرر البرلمان بعد مناقشات حامية ثقته الكاملة بالوزارة، وتأييدها كل التأييد في موقفها للدفاع عن الدستور وحراسته.
وهكذا استهدف الدستور مرة أخرى للخطر، ونجحت مكايد خصومه في انتهاك حرمته، والعدوان على قداسته؛ ولكن مصطفى النحاس الذي قضى حياته السياسية كل تلك السنين الماضية مدافعا عن الدستور، ذوادا عن حياضه، حارسا بجانب سياجه، لم يلبث أن ضحى بالسلطان لكي يعاود الكفاح من أجل الدستور المهدد، ويواصل النضال من أجل الديمقراطية التي عدا عليها المعتدون.
وبدأت مأساة جديدة، ولكن بممثل آخر، أخذ الدور الأول فيها، وكان أقوى بأسا في ذاته من الممثل القديم في المأساة الماضية، وأشد منه جرأة على الشر، وأقل منه ترددا عن الإساءة، بل في الحق لا تردد عنده مطلقا، ولا وسواس ينزع به إلى الخير إذا ما أراد أن يسيء. وكان مجرد ذكر اسمه عند استقالة الوزارة الدستورية كافيا لكي يدرك الناس أنهم مصبحون من الغداة أمام رجل جريء ذكي واسع الحيلة يخشى جانبه ولا يطمأن إليه. ومع إحساس الناس بذلك كله اختلط يومئذ إحساس العجب من وقوع الاختيار عليه؛ فقد جاء اصطفاؤه للحكومة الجديدة - بعد أن كان ممنوعا من دخول القصر بسبب حوادث ماضية لا تنسى - باعث دهشة في النفوس، ومحل حيرة وعجب في الأذهان، وحافز حذر واحتياط في البادرة، ونذيرا بأبلغ السوء.
لقد ألقي الحكم لإسماعيل صدقي باشا ...!
وساعة سمع الناس بالنبأ، تحسسوا مواضع قلوبهم ليطمئنوا إلى سكونها، والتمسوا صدورهم ليستوثقوا من أن الجنوب التي كانت تطوي البغضاء لا تزال في محلها، والنفور الذي كان يحل في النفوس لا يزال ثم في مكانه.
وبدأت المأساة، وظهر الممثل الأول، وكان الموضوع هو نفسه محور كل مأساة سبقت، أو محاولة مضت، وهو هدم الوفد، وسحق الإجماع من طريق إزالة الحصن الذي يمتنع فيه على عدوه، ودك المعقل الذي يسيطر عليه، وهو الدستور الذي حماه من التلاشي، وغلبه أبدا على خصومه، وأعداه دائما على مناوئيه.
لقد تشابهت المحاولات في هذا السبيل، وتماثلت التجاريب في تحقيق هذه الغاية بسبب وحدة الغرض وتماثل المقصد، ولكن كان كل من يدفع به إلى محاولة منها، أو يتصدى متطوعا للقيام بتجربة من تجاريبها، يروح يستعرض المحاولة التي مضت قبله ليكشف نواحي الضعف فيها، ووجوه النقص والخطأ التي كانت بعض عوامل فشلها، محدثا نفسه بأنه إذا هو تلافى تلك النواحي الضعيفة، وتجنب تلك الأغلاط الماضية، وعرف كيف يسير بمحاولته بعيدا من تلك العيوب التي اختلطت بالتنفيذ، وبمنجاة من الأخطاء والعوامل التي عجلت فيما مضى بالخيبة، وأدت وشيكا إلى الفشل والخذلان؛ فسوف يؤاتيه النجاح، ويصل بالتجربة إلى نهايتها المطلوبة، ويدرك أخيرا قمة الفوز المنشود.
وكان ذلك هو ما خطر لأصحاب التجربة السابقة مباشرة، فقد كانت أمامهم تجربة أولى من عهد زيور، فأدركوا عند وقوع الأمر في أيديهم، وبداية المحاولة التي وقع الاختيار عليهم لها، أن المكاشفة بمحاربة الدستور جهارا كانت من ذلك العهد السابق خطأ كبيرا، وأنهم إذا ما بغوا نجاحا في دورهم، وجب ألا يتظاهروا بخصومته، ويتبجحوا بكراهيته ومقاومته؛ وإن لم يكن بد من ذلك ولا محيص عنه، فكان شعارهم الفكه من أول الأمر إلى آخره قول صاحبهم: «لقد عطلنا الدستور لإنقاذ الدستور»! إشارة إلى أنهم في أعماقهم أحرص الناس عليه، ولكنه حرص المصلح المتشدد، لا يعرف التساهل والتهاون والتدليل.
وحين جاء صاحب التجربة اللاحقة، وعرض في خاطره الماضي وحوادثه، كان أمامه أكثر من تجربة؛ كانت أمامه تجربته هو بالذات ، وإن لم يكن الرئيس المباشر، بل الذراع اليمنى واليد العاملة والكف المتحركة، ثم جاءت التجربة التي سبقته رأسا، فضلا عن أنه كان عضوا فيما مضى في الوفد فعرف أساليبه، أو ظن أنها لن تكون على مثله خافية، فحدثته النفس بأنه ربما كان سبب فشل الماضي وخيبة رجائه هو التعرض للدستور بالتعطيل، وإيصاد أبواب البرلمان، والاستغناء عن الحياة النيابية جملة واحدة، وأن المجربين أنفسهم كانوا أصحاب مزاج، وأكثر الوقت مرضى عاكفين في مراقدهم، وأنهم كانوا سراعا إلى الملل، غير طوال البال، مترددين في حيثما لا ينبغي أن يكون تردد، ضعاف التفكير فيما يشغل الناس عن وطنيتهم، قليلي الابتكار لما يلهيهم عن وفدهم، ويستحوذ على ألبابهم استحواذا.
فقال لنفسه في نجواه: «إذا أنا ظفرت من جميع النواحي التي يهمها نجاح تجربتي بترخيص كلي، أو «رقعة بيضاء» (كارت بلانش) تجيز لي أن أصنع بهذه البلاد ما أشاء، وإذا أنا عرفت كيف أسهر على المحاولة مهما كلفني السهر عليها، لاجتناب أغلاط الماضي وعيوب التنفيذ فيه، فمن يدري، لعلي مع الصبر وطول الوقت واجتماع كل العوامل المساعدة الطيبة، مدرك في النهاية ثنية النجاح؟ ويومئذ لي المجد والعلاء، وإلا فالسقوط والفناء، وليس لصاحب المطامع الكبار أن يرتضي وسطا بين الطرفين ...»
بهذه النفسية ابتدأت الرواية، وعلى هذا التصميم العام شرع صاحب الدور الأول في التطبيق.
وكان لا بد أولا من «برولوج» “Prologue” ؛ أي مقدمة، قبل الدخول في الموضوع؛ إذ كانت العقبة الأولى أن هناك برلمانا قائما أعطى الثقة الكاملة لخصم عنيف قامت التجاريب الماضية حوله لاقتلاعه من مكانه، وهدم بنيانه، والذهاب بسلطانه؛ ففشلت جميعا، وبقي هو في موضعه ساخرا لم تنل منه المحاولات منالا. وإزاء هذه الحالة القائمة ينبغي الأخذ بمنتهى الرفق، واستخدام أقصى الكياسة، حتى لا يقابل الناس الانقلاب المقصود بصدمة فجائية تفسد الرواية من البداية، وتنفر المشاهدين تنفيرا.
ولهذا جاء بيانه عن التأليف لطيفا ما أمكن اللطف، مغريا ما وسع الإغراء، ملهيا عن أزمة السياسة بأزمة المال؛ إذ راح في ذلك البيان يقول إن الوزارة الجديدة قد جعلت من أول أغراضها إقامة العدل والإنصاف بين الناس جميعا، غير مؤثرة في تصرفاتها فئة دون أخرى، بل إن الجميع لديها سواء، وإنها ملتزمة «الحيدة» السياسية! فلا تنتسب إلى حزب من الأحزاب ... وأنه إذا كان أهم ما يشغل بال الناس في الوقت الحاضر هو الضائقة المالية، فإن الوزارة ستسعى سعيا متواصلا في استنباط كل ما يمكن من الوسائل الوقتية والدائمة «لتفريجها» ما استطاعت إلى ذلك سبيلا!
هذه مقدمة بديعة متناهية في الإبداع، إذ ما للناس وللسياسة، والحكم الجديد سوف يقوم على الحياد في غير انتساب إلى هيئة سياسية، والأزمة المالية هي أولى بتفكيرهم وأحق باهتمامهم، وهذه سيعمل رب البراعة الاقتصادية في تفريجها ما أمكن التفريج؟!
ولكن ماذا هو صانع أمام العقبة القائمة، وهي وجود البرلمان، وليس أمامه من طريقة غير الالتجاء إلى التجاريب الماضية نفسها، والأخذ بالوسيلة ذاتها، في الحالات المماثلة للحالة التي تواجهه، وكان هذا أول تناقض مع البيان البديع الذي لم يكن قد جف بعد مداده، فقد كان لا يريد أن يتعرض للسياسة، ولكن ظهر للأسف أن لا مفر من هذا التعرض ولا محيص؛ فأصدر مرسوما بتأجيل البرلمان شهرا، وإن خالف ذلك بيانه بالأمس أخطر مخالفة.
وفي الناحية الأخرى كان مصطفى النحاس يستعرض موقف خصمه هو كذلك من التجربة، ويستحضر في خاطره نقط ضعفه ونقط قوته من الاختبار والمشاهدة؛ فما لبث أن بدا له أنه في هذه المرة يواجه بخصم أعنف من الخصم الذي سبقه، ومحارب أقوى وأجسر وأخطر من المحارب الذي تقدمه، خصم لا يعرف التردد، ولا يبالي المكاره، ولا يتسامح، ولا يترخص، ومحارب لا يتأخر عن استخدام أسوأ الأساليب في المقاومة، وأحقر الوسائل في المطاردة، وأقذر الأسلحة في المعترك، مع فرط ذكاء فيه، وسعة حيلة عنده، وكثرة مصادر، وغزارة تفكير.
ولم يكن قد مضى على المعارك السابقة أكثر من خمسة أشهر أو نحوها؛ فلم يتيسر للشعب المجاهد أن يستجم مما أبلى فيها، ولم يتسن له أن يريح وينعم بالطمأنينة ويسترد ما فقد خلالها، وقد يكون هذا عاملا لا ينبغي نسيانه، ولا إغفال اعتباره عند التفكير في الخطة المطلوبة ووضع التصميم للغد المجهول.
وكان الباب في مسألة المفاوضات لا يزال مفتوحا بتصريح المستر هندرسن، وهو أن الحكومة البريطانية مستعدة في أي وقت أن تعاود المفاوضات إذا أنست الحكومة المصرية من جانبها جنوحا إلى قبول عرضها الأخير؛ ففي وسع مصطفى النحاس أن يجنب نفسه وأمته التعرض لهذه التجربة الجديدة إذا هو أشار بأنه على استعداد لمعاودة المفاوضة والرجوع إلى الاتفاق.
كان هذا يومئذ ممكنا لو لم يكن الأمر متعلقا برجل كمصطفى النحاس؛ فقد رآه مستحيلا، وأكبر كل جهاده الماضي أن يستذل أخيرا، وعاد يتحسس إيمانه في صدره فإذا هو قوي عميق، وراح ينظر إلى الأمة فإذا هي حاضرة العزم أبية متجلدة. وكم ينفع الإيمان في مثل هذه الظروف! وكم يجدي في هذه المحن على المؤمنين!
وتبين لمصطفى النحاس بالنسبة لخصمه الجديد مع عنفه وبطشه وذكائه وشدة مراسه، أنه لا بد من العمل السريع، ولا مفر من البكور إلى المقاومة، والبدار إلى الاشتباك والمجاذبة، فلم يكد يصدر المرسوم الملكي بتأجيل انعقاد البرلمان شهرا، حتى أجمع النية هو وممثلو الأمة ووكلاؤها على عقد جلساتهم في البرلمان، وإن اقتضاهم ذلك أن يقتحموا داره اقتحاما، ويشتبكوا مع الوزارة الجديدة أعنف اشتباك.
فكان يوم تحطيم السلسلة، وإنه ليوم عظيم خالد في التاريخ، يوم الاثنين، الثالث والعشرون من شهر يونيو سنة 1930؛ فقد أراد البرلمان أن يجتمع تحت قبته، فاجتمع منفذا مشيئته، غير حافل بالباطل وقوته؛ إذ بادرت الوزارة - وقد تبين لها أن الأمر جد وما هو بالهزل - بإرسال كتاب إلى رئيس مجلس النواب تهدده فيه بأنها إذا لم تتلق منه توكيدا قبل الساعة الواحدة من ظهر ذلك اليوم بالذات، بأنه إذا انعقد المجلس فلن يأذن لأحد بالكلام، وإنما تقتصر جلسته على تلاوة مرسوم التأجيل؛ فكان رد (المغفور له) الأستاذ ويصا واصف رئيس المجلس جوابا مشرفا حقيقا بأكبر الفخار، جوابا خالدا كجواب «ميرابو» في بداية الثورة الفرنسية الكبرى؛ فقد كتب فيه يقول إنه ليس من حق الحكومة أن توجه إلى رئيس مجلس النواب مثل هذا الخطاب لما فيه من تدخل السلطة التنفيذية في إدارة جلسات المجلس التي هي من اختصاصه دون سواه!
ومن ثم راحت الوزارة تحتاط للأمر؛ فأرصدت قوات مسلحة على الطريق المؤدية إلى البرلمان وعلى أبوابه وسياجه، وأقفلت الأبواب بالسلاسل الحديدية، وأحالت دار التشريع قلعة عسكرية، ولكن ذلك كله لم يثن وكلاء الأمة وممثليها عن الاقتحام، فاقتحموا الطريق شيوخا وشبابا، غير مبالين ما أصابهم من أذى حتى بلغوا الباب.
وجاء مصطفى النحاس فاخترق الأنطقة العسكرية وصفوف الجند بسيارته غير معترض، وفي وسط الجمع الحاشد دنا دولته من الباب الحديدي الكبير، فقال: «نحن هنا في انتظار قدوم رئيس مجلس النواب، حتى إذا جاء فإن له أن يأمر بوليس البرلمان بأن يفتحوا هذه المغاليق بما له عليهم من حق السلطة التي لا تنازعه فيها الحكومة بحال، وذلك أمر معلوم؛ لأن بوليس البرلمان لا يتلقى أوامره إلا من رئيس مجلس النواب أو الشيوخ، أما الحكومة فلا سبيل لها عليه.»
وفي تلك اللحظة حضر ويصا فتقدم نحو الباب فوجده موصدا بالسلاسل، وأمامه وخلفه قوة غير قوة بوليس البرلمان، فأمر من الخارج باستدعاء الصاغ محمد عاطف بركات قائد القوة، وأمره بصفته رئيس المجلس بأن يحطم السلاسل ويكسر الأقفال قائلا: «إني آمرك، كرئيس المجلس، أن تزيل هذه السلاسل والأقفال، وتفتح الأبواب ليتمكن الأعضاء من الدخول.»
مصطفى النحاس أمام دار البرلمان عند تحطيم سلاسله.
فامتثل القائد، وأسرع إلى استدعاء قوة شرطة البرلمان، وأمر رجالها بكسر السلاسل، فتقدموا جميعا، وأهووا عليها بالمعاول الحديدية حتى تكسرت وانفتحت الأبواب.
ولم يكد أول داخل تحتويه الساحة الداخلية لدار التشريع حتى صاح بأعلى صوته: «ليحي الدستور! لتحي سلطة الأمة!» فتجاوبت الأصداء بذلك الهتاف الجليل الرهيب.
وانعقد المجلسان، وتلي في كل منهما مرسوم التأجيل، ونهض مصطفى النحاس على أثر تلاوته، فألقى الكلمة الآتية: «نظرا للظروف التي تجتازها البلاد الآن، ولما بدا من بوادر الاعتداء على الدستور، أطلب إليكم أن تقسموا معي وأنتم وقوف القسم الآتي ، كما أطلب من كل مصري أن يقسمه بينه وبين الله:
أقسم بالله العظيم أن أكون وفيا في قسمي الذي أقسمته طبقا للدستور، وأن أدافع عن الدستور بكل ما أملك من قوة ومال وتضحية.
فأقسم الجميع وسط جلال عظيم.
وكانت هذه الحادثة الرائعة ضربة سريعة عاجلة موجهة للرجعية والرجعيين فلم تلبث أن اهتزت منها؛ إذ لم تكن تتوقع مطلقا أن تدابيرها المسلحة يمكن أن تفسد عليها بتلك الصورة الجريئة الخطيرة. وكانت تلك الهزة الفجائية غير منتظرة، فاضطربت الوزارة من أثرها قليلا، حتى إنها لم تستطع أن تمنع اجتماع المؤتمر الوطني الذي دعا إليه الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا جميع أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب ومجالس المديريات في الساعة الخامسة من مساء اليوم السادس والعشرين من يونيو سنة 1930 في النادي السعدي؛ أي بعد يومين من حادث تحطيم السلاسل وكسر الأبواب، بل وقفت تشاهد عقد ذلك المؤتمر العظيم متظاهرة بأن ليس عليها منه، وهي في أعماقها وجلة مضطربة هلوع؛ حتى لقد عمدت مع السماح بانعقاده مرغمة إلى تعبئة قوات حاشدة حول دار النادي لتظهر أمام الجماهير بمظهر حربي يلقي الرعب في القلوب، وإلى منع أكبر عدد ممكن من الذاهبين إلى المؤتمر والمهطعين إليه إذا هي استطاعت إلى منعهم سبيلا.
وفي صدر ذلك الجمع العظيم وقف مصطفى يلقي كلمته في هذه المحنة التي أصابت الدستور مرة أخرى، فأهاب بهم قائلا: «لنترك الكلام والاحتجاج جانبا، ولنعمل عملا جديا كرجال مسئولين نيطت بهم مسئولية مهمة الدفاع عن الدستور الذي اكتسبناه بجهادنا ودماء شهدائنا، وأقسم الكل اليمين على احترامه.
لقد دعوتكم للتشاور في الأمر، فإذا ظن البعض أننا إنما اجتمعنا هنا لنتبادل الأقاويل والاحتجاجات، فقد ساء ظنه وخاب فأله؛ فالأمر أخطر من أن يعالج بكلام يبذل، بل نحن في حاجة إلى عمل يعمل، ولو أدى بنا ذلك إلى تضحية النفس والنفيس، فهل أنتم على استعداد لتأدية تلك التضحية؟ هل أنتم مستعدون لأن تقاوموا كل اعتداء على الدستور، وأن تدافعوا عنه بكل ما أوتيتم من قوة ومال؟»
وقد أصدر المؤتمر قرارات خطيرة في الدفاع عن الدستور ومقابلة العدوان عليه بأغلى التضحيات.
وهكذا بدأت الأمة كفاحا عمليا لا كلام فيه، كفاحا قويا فعالا لا يعرف تراخيا. وقد بلغ من غضبة مصطفى يومئذ للدستور أن راح يعتزم التضحية بكل شيء حتى بحياته الغالية على وطنه، في سبيل دستور بلاده، وكرامة قومه، وحقوق أمته؛ فكانت كل كلمة منه تحمل روحا مستعرا، وتنطق عن إرادة مستحصدة، وتنطوي على حماسة مضطرمة متقدة؛ فقد أدرك أن التجربة سوف تروح قاضية إذا لم تقابل بعزيمة قوية، وثبات رهيب، وشجاعة متناهية، وارتخاص كل تضحية غالية.
وعقب انعقاد المؤتمر الوطني تلقى الرئيس دعوة من مديرية الدقهلية إلى زيارة مدائنها، فتقبلها راضيا، واعتزم السفر إليها غير متردد، وهو يعلم أن الوزارة سوف تحول دونه، وتقاوم تطوافه، وتحاول بكل قواها المسلحة منعه من الانتقال والتجوال؛ لأنه قد وطن النفس على ملاقاة صدقي باشا وجها لوجه، ومقاومة القوة المادية التي يستعينها عليه بالقوة الروحية التي إذا نفت الخوف والتهيب والانزواء لم يقف في وجهها شيء، ولم يستطع أن يحول دونها حائل.
ولقد تجلت نفسية مصطفى بأروع جلالها في كلماته التي ألقاها قبل ذلك في الحفلة الكبرى التي أقامها أعضاء مجالس المديريات له في أحد فنادق القاهرة في مساء التاسع والعشرين من يونيو سنة 1930، فقد ذهب بكل قوى النفس الجياشة يقول: «إني لقرير النفس، ساكن القلب لا تزعجني هذه النوازل التي تنزل بالبلاد، بل نعمت هي؛ لأن الدستور لا يستقر له قرار إذا لم نقدر له قدرا. كلا، بل الدستور، وهو حق الأمة ومظهر حريتها، لا يمكن أن يكون له قرار مكين ونحن عنه غافلون، بل يجب أن نعمل لنستحقه، نعمل لنسترده، نعمل لنستبقيه ... أعود فأقول: إني لمطمئن القلب، مستريح الضمير، ولئن أصابني سوء فإني موقن بأنكم من بعدي تتمون عملي.»
بهذه النفسية الخليقة بزعيم أمة مجاهدة لأشرف ما في الحياة، استقل مصطفى القطار في صباح اليوم الأول من شهر يوليو إلى الزقازيق لزيارة شيوخ الشرقية ونوابها، وبهذه النفسية الرهيبة راح في المحطات القائمة على الطريق يطل على الجماهير ملهبا مشاعرهم، موقدا عزماتهم، مناشدهم التضحية - مهما عزت - في سبيل دستورهم، والناس حاشدون على الأفاريز غير مكترثين بما يصيبهم من الأذى والعدوان من الأشراط والقوات المحاصرة لهم من كل مكان.
وكان استقبال مدينة الزقازيق للزعيم الوافد عليها جليلا مهيبا خرجت له الألوف المؤلفة من أهلها، رغم حشود القوات المسلحة ومحاصرتها الطرق المؤدية إلى سرادق الاستقبال؛ فقد استهان الزعيم بالخطر فألهم الناس الشجاعة، وألغى من نفوسهم الحرص على الحياة؛ فلم يلبثوا في بلبيس على مقدم الرئيس إليها أن قابلوا عدوان البوليس عليهم بالدفاع عن أنفسهم، فسالت الدماء، وسقط خلق كثير جرحى، وذهب الموت بثلاثة من الشباب لم يتجاوز أحدهم السابعة عشرة من العمر؛ فهاجت المدينة وماجت، وخرج في الغداة لتشييع جنازات الشهداء أربعون ألفا في موكب مرهوب خطير لا تأتي العين على آخر مداه.
لقد كان يوم بلبيس المشهود دليلا قاطعا على مبلغ محبة الشعب للوفد وولائه لزعيمه وتقديره لقداسة دستوره؛ بل كان صورة صادقة لإرادة الأمة واستعدادها للبذل واستجابتها لمعاني التفدية واسترواحها للجهود بالأرواح، حتى لقد قال ساحر الوفد ومزماره الغرد - مكرم عبيد - في التعقيب على ما رأى يومئذ وشهد في ذلك اليوم الخالد: «وإذا كنت واثقا من شيء، فإني على ثقة تامة بأن النصر حتما للأمة التي أقسمت اليمين على أن تدافع عن دستورها بكل ما تملك من قوة ومال وتضحية، تحت لواء رئيسنا الجليل، وزعيمنا المقدام، مصطفى النحاس باشا، وإني أعتقد أننا قد قضينا من الكلام وطرا، وقد أقبلنا على دور العمل فهو أقوى معنى وأبقى أثرا. وليكن شعارنا على الدوام: إما أن يبقى الدستور فنحيا به، وإما أن يفنى الدستور فنفنى فيه. إن أمة يزغرد نساؤها للشهداء، ويقسم رجالها اليمين ليحافظن على الدستور حتى الفداء، لهي أمة يهون من أجلها كل عناء، ويطيب في سبيلها الموت والفناء.»
وحل يوم المنصورة، الثامن من شهر يوليو سنة 1930، ذلك اليوم المجيد من تاريخ الكفاح الوطني، فأحست الوزارة جزعا منه قبل مقتربه، وأدركها الوجل من دنوه، فمنعت الاجتماع، وأرسلت كتائب الجند لتحصين المدينة، كأن عدوا مغيرا يوشك أن يزحف عليها، أو كأن خطرا من حرب يكاد يدهمها على غرة وهي آمنة.
ولكن مصطفى النحاس لم يكن يأبه بوعيد ولا هو بالذي يحفل يومئذ بمنع أو مصادرة؛ فقد وطن نفسه على المقاومة العملية مهما يستهدف له من سوء، فأعلن تصميمه على السفر في الموعد المضروب، وكتب إلى مدير الدقهلية يرد على رسالته التي أبلغه فيها نبأ المنع، قائلا في رده بعد الاستناد إلى القانون في إثبات بطلان هذا الإجراء: إن عليكم وعلى كل من يشترك معكم أو يلهمكم تقع تبعة كل اعتداء على الدستور، أو إخلال بالنظام أو الأمن العام بسبب هذا الاعتداء.
وأمام هذا التصميم الحاسم والاعتزامة القاطعة، ذهبت الحكومة تحتال الحيل لقطع السبيل على رئيس الوفد حتى لا يبلغ المدينة المتحمسة المتلهفة على لقائه، فأوحت إلى شركة الدلتا أن تمنع سير القطار الخاص الذي سيقله على خطوطها، كما اتخذت التدابير العاجلة لكي تمنع السفر عن طريق ميت غمر، وتحيل المنصورة من كثرة القوات المحاصرة لها أشبه شيء بقلعة عسكرية وميدان حرب عوان.
وذهبت الكتائب تطوف أرجاء المدينة لتقذف الرعب في قلبها، وراح الأشراط يهدمون الزينات، ويقوضون السرادقات، ويحاصرون الطرق والدور، ويمنعون أهل القرى المجاورة من مغادرة حدود قراهم حتى لا يشتركوا في استقبال زعيمهم العظيم.
وجاء يوم المنصورة، فكان يوم الدماء، وعيد الشهداء، وفخار الوطنية والولاء، فقد وصل مصطفى النحاس إلى المنصورة متغلبا على كل ما حشدت الحكومة في طريقه لتحول بينه وبينها، وركب سيارته وسط موج مائج من الخلائق، وهتاف مدو في السماء.
وكان ذلك الحادث الشنيع الذي سيذكره التاريخ لعهود الظلم، ويسجله المؤرخ لدول الاستبداد، كان ذلك الحادث النكر الفري الذي كاد يودي بحياة مصطفى لولا أن امتدت يمين طاهرة، يمين صديق وفي أراد أن يفتدي زعيمه بحياته، وكان يعرف من قبل أن مؤامرة قد دبرت بياتا لاغتيال الرئيس في يوم المنصورة، فكتم النبأ عن صاحبه، وأجمع النية على أن يكون هو فديته، فكان ذلك أبلغ ما يكون الوفاء في الصداقة، والتفاني في الحب، والعظمة النفسية في مجال الشهادة.
ذلك هو البطل سينوت حنا الذي ركب بجانب الرئيس في ذلك اليوم المشهود، فرأى طعنة موجهة إلى ظهر زعيمه وصديقه فتلقاها بيمينه؛ لأنه انتوى التفدية، وارتخص أغلى التضحية، وعرف قبل المسير النية الخافية؛ فاعتزم أن يكون للزعيم أول المفتدين.
لقد اجتمعت في سينوت الجرأة إذ كان أرفع مثالها، والشهامة وهو من أكبر رجالها، وأصالة الرأي وهو من صفوة أهلها، وطاعة القائد لرئيسه الأعلى وهو في المعارك الوطنية من أبطالها، والإيمان بإخلاص الزعيم لأمته وهو في دين الوطنية أروع المؤمنين.
ولقد ظلت ذراعه بعد يوم المنصورة جريحا يشكو الألم منها، ولبثت طويلا موجعة لا يستطيع ردها إلى سابق حركتها، ثم حط السقام عليه، ولازمته العلة، وأدنفه المرض، حتى قضى في الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1933، فجل مصابه في الناس، وكان الحداد عليه عاما، وكان موكب الآخرة فيه زاخرا مشهودا.
سينوت حنا بك.
وكما ينتهي اليوم الحافل بالعمل، المزدحم بالمشاق، المقطوع في أحر النضال، المصروف في الساحة مع المحاربين والأبطال، بنوم هني مستطيل؛ تنتهي الحياة الزاخرة بالجهاد، المليئة بأحداث الكفاح، بموت مجيد، ورحلة طيبة إلى السماء، وسفرة رغيدة إلى الخلود.
إن الذين يعرفون كيف يحيون هم كذلك الذين يعرفون كيف يموتون، والذين يزرعون للمجد يحصدون للشرف، ومن يحسنوا إلى الناس أحياء، يعرف الناس كيف يحسنون إليهم على دقة الناقوس ذاهبين.
الحديد إذا لم يعمل صدؤ، والماء إذا ركد فسد، والزمن يجري خادعا، والناس إلى السماء يسرعون مخدوعين.
ولكن الحياة الطيبة طويلة وإن قصرت؛ لأن طولها في التاريخ يغني عن قصرها في السنين.
البطل سينوت في يوم المنصورة الخالد، وقد أمسك الطبيب بذراعه الجريح لتضميدها، وظهر في الصورة مصطفى النحاس والدم الزكي على ثوبه.
كذلك انتهى سينوت، وغاب عن هذا العالم، والشمس تتزاور إلى المغيب، بل كذلك استبق في الممات الشمس راحلا؛ لأنه في الحياة ورحلتها ظل السباق بطلا مناضلا ، وغاب مبكيا عليه؛ لأنه حضر مهتوفا به، جل منه المحضر كما جل في الغائبين.
مات منا سينوت، فماتت منا بعض إنسانيتنا لأنه الإنسان، وبعض وطنيتنا لأنه الوطني، وبعض جرأتنا لأنه الجريء الأبي، وبعض وفائنا لأنه الولي الوفي؛ إذ كان سينوت معنى آدميا كثير المترادفات، ورسالة سماوية لها في الأرض آيات بالغات، هو الإنسان بكل زواخر عواطفه ومعتلج تياره ومتقاذفه، محتدم الشعور أبدا، حاضر المروءة أبدا، زين المجالس متحدثا، أطيب أهل الود نفسا، باذل أغلى شيء في نفسه زهيدا وبخسا. وهو الوطني الذي حاط وطنيته بالثبات، وخاض بها في أروع الجلد الشدائد والغمرات، وهو الجريء الذي جعل الجرأة له عنوانا، وأقامه الشعار الوطني في الصحافة مقالات ... وهو الوفي الذي كتب لنفسه صفة الوفاء بأزكى الداء، وانتقل إلى التاريخ مثلا عاليا في الأوفياء المفتدين.
لقد أظهر سينوت في يوم المنصورة أكرم الخلق وأندره؛ لأنه وقى الزعيم مؤامرة العدو وغدره، وما كان أبلغ شجاعته إذ وقف ينظر إلى دمه وهو يقطر منه باسما، وقد نسي جرحه في سلامة الرئيس بجانبه!
ومضى الركب في طريقه لا يلوي على هذه المؤامرة، مؤامرة الجبن والنذالة، ولكن قوات الجيش لم تلبث أن اشتبكت والجماهير في معركة غير متكافئة الأسلحة، وراحت تطلق النيران على العزل الأبرياء؛ فسالت الدماء وقتل ستة راحوا شهداء، وكان الجرحى يومئذ بالمئات.
كان يوم المنصورة يوما أحمر قانيا، يوما شجاعا جليلا أبيا، يوم مجد وجلال وخلود، أنفذت فيه الزعامة إرادتها، وبرزت فيه مشيئة الشعب بكل عظمتها وقوتها، وغادر الرئيس المنصورة وهو يقول: «لقد أرادوا أن يشفوا غليلهم من ضعيف غير مسلح، ولكنه قوي بالحق، قوي بأمته ... فقد رأيتم كيف أنهم كانوا يقصدونني، ويتعطشون إلى دمي؛ لأني أدافع عنكم، فاعلموا أني مضح بنفسي قبلكم، ووصيتي لكم من بعدي أن يقوم كل منكم مدافعا عن دستوره واستقلال بلاده، حتى يوقن كل فرد بأن مصر هي الخالدة ...»
لقد كان مصطفى النحاس موطنا النفس يومئذ على الموت، وإن اقتحام الأنطقة المسلحة على تلك الصورة كان في الواقع سخرية بالغة من الموت، واستهانة عجيبة بالحياة، وقد سرى هذا الإحساس في جميع الذين وقفوا من حوله؛ فراح الشباب يترامون بصدورهم على أسنة الحراب، ويريدون أن يجودوا بأرواحهم رخيصة في سبيل الحرية والدستور.
سينوت الجريح في أروع معركة.
وفي الجانب الآخر وصلت النذالة والغدر والخسة إلى أبعد حدودها في التواطؤ على مكيدة دموية نكراء، دبروها في جنح الظلام، ولكن لم يلبث أن كشفها نور الحق، وما بكثير على الذين دبروا من قبل جرائم أسيوط ومذابح الإسكندرية واعتادوا هذه المآثم وأمنوا عواقبها، أن يعودوا إلى التفكير في جريمة تنزوي عن اقترافها نفوس شر الجناة وأكبر المجرمين.
وكان لحادث المنصورة أكبر الأثر في البلاد؛ فارتفع مد الحماسة، واصطخب تيار الوطنية، وماجت المدائن، واضطربت القرى، فوقعت فواجع كثيرة، وأحداث دامية في دكرنس وطنطا وبورسعيد والقاهرة، وحل يوم 15 يوليو فإذا الإسكندرية تنهض غاضبة غضبة البحر المترامي عند قدميها، فخر فريق من الأبرياء صرعى، واستشهد من استشهد في يوم حافل أروع مرهوب.
لقد رأى الناس زعيمهم يلقي بنفسه في بهرة الخطر، ويستقبل المنايا رابط الجأش؛ فألهمهم القدوة، وأعطاهم المثال، وأقام لهم من ذاته الأسوة؛ فلم يعد الناس يخشون على أنفسهم قدر ما يخشون على دستورهم العزيز الذي اعتدي على حرماته، واجترئ على قداسته.
واقترب موعد انتهاء شهر التأجيل الذي استصدر صدقي باشا المرسوم به لإرجاء البرلمان، وكلما دنا إلى حده، اشتد تصميم مصطفى النحاس على لقاء الموت فدى لبلاده، وتنفيذا لمشيئة أمته، معولا على أن يقتحم صفوف الكتائب المسلحة لدخول البرلمان عنوة، وكانت الحكومة الشاذة قد أرصدت لذلك اليوم الرهيب - الحادي والعشرين من يوليو - عديد القوات لمحاصرة دار البرلمان، فلم يرع مصطفى مما حشدت له، وظل معتزما اختراق الصفوف وإن خر صريعا مجدلا، وجعل يقول لمن حوله في لغة العزم الصادق الرهيب: «سأمضي قدما في طريقي مخترقا الحراب والأسنة والسيوف، فإذا سقطت فسيروا فوق جثتي لكي تدخلوا!»
ولكن شيوخا في الجمع أشفقوا من هذه العزيمة الخطيرة، فما زالوا به حتى ثنوه عنها. وجاء من يقول إن سير برسي لورين يؤكد أن الأمر موشك أن ينتهي بسلام، فليس من الخير الالتجاء إلى مقاومة القوة بمثلها، ولا ضير من الأناة حتى ينتهي الأمر في سكون.
وحل اليوم الحادي والعشرون من يوليو، وقد عبأت الحكومة الصدقية قواتها العسكرية حول دار الندوة؛ فقام الشعب بمظاهرات عنيفة في أرجاء المدينة كانت لها ضحاياها وشهداؤها الأعزاء. وانعقد البرلمان في النادي السعدي بقطع من الليل، وانقضى النهار رهيبا في أرجاء القاهرة، والدوريات العسكرية من المشاة والخيالة تجوب نواحيها في لباس الحرب وعدة القتال لتلقي الرعب في القلوب، وتفرق المتظاهرين، وتعتقل الأبرياء آحادا وجموعا، وتطارد الناس في الأزقة والدروب، وغلقت المتاجر، ووقفت الحركة في الأسواق؛ وكان الناس يتوقعون في ذلك اليوم أحداثا جساما، فظنوا من الخير لهم أن يعدوا في اليوم السابق حاجتهم من الخبز والطعام، ويبتاعوا مقدما وافرا من الأغذية.
كان الحادي والعشرون من شهر يوليو يوما فاصلا في ذاته، ويوما مرهوبا في كل ما يحيط به، ولو أن مصطفى النحاس خلي بينه وبين اقتحام الطريق إلى البرلمان واختراق أنطقة الجند في رفقة من صحابه وجمع من الشيوخ والنواب، لنجح تماما في التغلب على هذه القوة المادية التي أخرجت للقائه، وأرصدت لصده، ولدك بناء الباطل دكا، ولانتصر الحق أروع انتصار.
ولو جرى الأمر على ما كان في خطة مصطفى النحاس أن يجري، لما استطال هذا العهد الغاشم استطالته، ولا تراخت على ذلك النحو مدته، وتلاحقت أعوامه؛ إذ كانت صدمة كهذه في قوتها كافية لرده منهزما مدحورا.
ولكن، ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. ولعله لحكمة خفية تغلب صوت السياسة على إملاء الشجاعة وإيحاء الجرأة، وأكبر ظني أن تلك الحكمة كانت تنظر إلى ترك القوة المادية الغاشمة تستخدم كل ما يمكن أن تستخدمه إزاء الحق الأعزل إلا من إيمانه بذاته؛ لينتصر الحق في النهاية وتكون كلمته هي العليا، وتخرج الأمة من امتحان أقسى الخطوب، وأفجع الفواجع، وأنكر المآسي، وأعنف أساليب العدوان، في مدى مستطيل، وعلى فترة متراخية، وقد اكتسبت مناعة تامة من كل تجربة، وحصانة دائمة من كل محاولة مماثلة، وأيأست المجربين كل اليأس، وأعجزت المحاولين كل إعجاز.
تلك كانت المقدمة التي بدأت بها المأساة، وقد اضطر فيها المؤلف أن يستعير الأسلوب القديم فيها، ويجري على الطريقة السابقة المألوفة، للتخلص من الدستور القائم، والتهرب من مواجهة مظاهر الحياة النيابية؛ ولم يبق أمامه إلا أن يشرع في المأساة ذاتها، ويبرز ما عنده هو من جديد.
وأحسبه قد تدبر الأمر مليا يومئذ وقلب من قبل فيه وجوه الرأي؛ فخلص له من ذلك كله أن الذين سبقوه إنما قد أخطئوا في الاستغناء عن وجود الدستور بتاتا، وإلغاء الحياة النيابية جملة، وإن تذرعوا في ذلك بأنهم قد أبطلوه لينقذوه، وذهبوا به ليردوه أصلح مما كان قبل ذهابه، ثم أطالوا في تحديد المدة، وأسرفوا في تعيين دورة الاحتجاب، وسقطوا قبل أن يجاوزوا نصفها أو قليلا؛ فرأى هو ألا يجري على طريقتهم، وأن مصلحة تجربته تقضي بألا يتراءى فارغا إلى حكومة مطلقة، ففكر في شيء جديد، وذهب يستحدث في أساليب المقاومة ومحاربة الوفد فكرة طريفة، وهي أن يوجد حكما نيابيا على صورة ما، ويقيم برلمانا هيكليا يستتر خلفه، ويلفق إجماعا آخر غير الإجماع الذي ظل ثابتا قائما كلما جرى انتخاب في أفق طليق وفضاء فسيح لا ضغط فيه ولا تزييف، ولا إغراء ولا ترهيب.
ونظر طويلا إلى الدستور وقانون الانتخاب، فوجدهما بصورتهما الحاضرة لا يكفلان له بناء المسرح الجديد الذي يريده ويفكر في إقامته من الورق الملون وتشييده؛ فاعتزم أن يأتي بدستور آخر من عند نفسه، ويعمل على تعديل قانون الانتخاب، بحيث يكفل له التزييف ما شاء والتلفيق.
لقد كانت تلك الفكرة بديعة في ذاتها، وإن انطوت على أكبر جريمة وتبطنت أشنع جناية. وكان لا بد من إيجاد معاذير ومبررات لإلغاء دستور الأمة وإقامة هذا الدستور التهريجي المصنوع المنحول ليأخذ محله، فلم يتكلف المؤلف جديدا في سبيل إلقاء معاذيره؛ لأنه كان من الأصل صاحب فكرة سيئة في قيمة الأمة المصرية واستعدادها، فعاد إليها ليجعلها تفسيرا لوضع قانونه، وعذيرا عن اصطناع دستوره؛ فزعم أنه يتناسب أكثر من سواه مع حالة الأمة وجهلها وفقرها من التربية السياسية، ويتفق مع مستواها الحالي، حتى ترقى وتبلغ مركز الأمم القوية الراش؛ فكان التفسير إهانة، والدستور في نفسه سخرية!
ولم يكن مستحيلا على مثله أن يوجد إجماعا جديدا يسميه كثرة ساحقة إن شاء؛ لأنه يكفي أن يأتي بالعمد والمشايخ من البنادر والقرى ممن أخطأهم شرف الظفر بالنيابة في عهد الدستور الأول والحياة النيابية الماضية، فيملأ بهم برلمانا جديدا، ولو شاء لملأ برلمانات متعددة!
كان هذا هو التعديل الجديد في التأدية، والزيادات المستحدثة في صلب الرواية المحزنة، وكان لا بد لتحقيق ذلك من الرجوع إلى أصحاب التجربة أنفسهم الذين يشتغل لحسابهم ليستوثق من موافقتهم على إطلاق يده يفعل ما يشاء، ولهم هم ما يريدون أخيرا، وهو أن يروا الوفد قد زال من الوجود، وأن الأمة قد استكانت، وأن الشعب سكن إلى الذل والهون راضيا، فظهر بين المشاهد الأولى للمأساة منظر لطيف للغاية، ينكشف عن تجاذب بين رئيس الحكومة البريطانية ورئيس الحكومة المصرية في شكل كتابين متبادلين بينهما: الأول في صورة الغاضب الذي لا يريد أن تطبخ الانتخابات، والثاني في صورة الغاضب لهذه الإهانة، المحتج على هذا التدخل، المتطاول على صاحبه بسبب هذه الجرأة عليه، كأنه لا يملأ عينه، ولا يحفل شأنه. وإذا بالمستر ماكدونالد «كله» يرتضي كتاب صدقي باشا «بجلالة قدره»، وتنتج هذه المشادة «غير المتكافئة»، أو هذا التجاذب التمثيلي بين المعلم وصبيه، أو المجرب وظهيره، ما سمي يومئذ «حيادا تاما» من جانب بريطانيا، واستقلالا مطلقا من جانب مصر تحت حكمها الجديد.
وتمت الجناية النكراء، ونفذ الاعتداء الصارخ بإلغاء دستور سنة 1923 وظهور دستور سنة 1930؛ فكان تأثير الجريمة في نفس الأمة خطيرا، والغضبة لدستورها صادقة، تأججت لها الأرواح، وتسعرت الحماسة، واشتدت النقمة على الحكم المطلق وأربابه، وعولت الأمة على أن تنكر هذا الدستور المصنوع وتحاربه جاهدة، ولا تبغي عن دستورها تحويلا.
وكان مصطفى النحاس قد نادى قومه إلى عزل الوزارة وتركها وحدها تصطنع ما تشاء، وانتباذها تفعل ما تريد؛ لأن ذلك كله لن ينتهي إذا ظلت الوزارة بمعزل إلا بالفشل المحقق والخذلان المبين، ولم ينثن الرئيس عن البروز للناس في المجامع، وبيوت الله، وفرص الاتصال والمخالطة، بل راح يغشى تلك المجامع ويتصل بالجماهير، مناديا البلاد إلى الجهاد، مهيبا بها للكفاح الصادق المستميت.
ونشأت يومئذ فكرة «المقاطعة»، وتم الاتفاق في الصفوف على التزامها إذا جاءت الانتخابات على الدستور الجديد؛ فلم تكد الأمة تعلن هذه النية حتى تهدمت خطط الوزارة وتدابيرها، وحارت هي في أمرها، وترنحت بين الإقدام والإحجام، وتلكأت في التنفيذ، وأطالت في التسويف. وراح صدقي باشا يطوف الأقاليم الجنوبية والصعيد لكي يجرب المجال قبل أن يعتزم، ويتعرف الأحوال قبل أن يقدم، ولكي يجس النبض ويكشف الطالع ويرصد النجم، وجعل الحكام يسوقون إليه الناس مساقا، ويحشدون له المواكب اصطناعا وتلفيقا، وذهب هو في طوفته يطعن في الوفديين وكفايتهم، ويسرف في اختراع التهم والأكاذيب عنهم، ويملأ الأفق كلاما، ويخطب بلا مناسبة، ويتحدث بلا سبب؛ وما رأينا من قبله رئيس حكومة لا يمل القول، ولا يعدم المغالطة، ولا ينفد لديه معين المراء والجدل في القضايا الخاسرة.
ولكنه كان بهذا القول المسرف، والمطاعن المتمادية، والخطب الحاشدة من الاتهام والكذب، يروج في الواقع لخصومه، وينكشف للناس على حقائقه؛ لأن تلك الخطب اللاعنة الطاعنة راحت أحسن دعاية للوفد وزعيمه، وخير وسيلة للترويج لهما؛ لأنه جعل بها يزيد الناس بالوفد إيمانا، ويمكن للوفد عندهم شأوا ومكانا، ويؤكد الصدق في أمرهم باليقين.
وشاء مصطفى النحاس أن يشهد خصمه مبلغ ما له عند الأمة إزاء ما يزيف هو من الاستقبالات للقائه؛ فقرر أن يزور مدينة بني سويف في شهر أبريل سنة 1931، وكان الأحرار الدستوريون قد ارتبطوا قبل هذا في الحادي والثلاثين من مارس مع الوفد بميثاق وطني تعاهد كل فيه على إقراره، وأشهد الله والوطن على تنفيذه؛ فاعتزم محمد محمود باشا وبعض أنصاره أن يرافقوا مصطفى وصحبه في تلك الزيارة القادمة.
ولم يكد النبأ يعلن للناس حتى جزعت الوزارة، وأوحت إلى مدير ذلك الإقليم بمنع الاجتماع ، كما اجتمع مجلس الوزراء للبحث في الأمر، وقرر تعبئة أورطتين من الجيش المصري مشاة وخيالة وقوات أخرى من بلوكات الخفر والشرطة، وعين كثيرا من القواد والضباط الكبار لحراسة المدينة، ومنع هذا المغير المرهوب من الزحف، وصده عن الاقتحام.
ولكن مصطفى أبى إلا أن يسافر، وقرر تأدية الزيارة غير حافل بكل تلك القوات المسلحة التي أرصدت على طريقه. وفي اليوم المحدود - وهو السادس من شهر أبريل سنة 1931 - استقل دولته وزملاؤه القطار من القاهرة، فما إن بلغها حتى رأى ثم حياله قوات مسلحة تمنعه الطريق، فسار بخطوات ثابتة نحو الباب الخارجي للمحطة، وكانت تلوح يومئذ أشبه شيء بقلعة عسكرية محصنة، وما كاد يتقدم هو وأصحابه حتى لمست صدورهم فوهات البنادق، فصاح الزعيم برئيس القوة قائلا: «نحن هنا مسلحون بسلاح الحق، ولن نأبه بالقوة الغاشمة مهما عظمت.»
ولكن الحصار ما لبث أن أطبق عليهم في المحطة، ومنعوا بالقوة من النزول إلى المدينة، وهي في الداخل تغلي مراجلها من اللهفة على لقاء زعيمها الوفي الأمين، إذ أرصدت الحكومة الصدقية على شوارع المدينة قوات كبيرة انتظمت أنطقة كثافا على طول الطريق.
وإزاء هذا التصرف الغاشم الشاذ الساخر من أصحابه، أجمع القوم على ألا يبرحوا المحطة حتى يدخلوا المدينة، ولتفعل القوة بهم ما تشاء.
نومة بديعة تحت ظل الجهاد.
ولبثوا في فناء المحطة حتى أرخى الليل سدوله متبلغين بشيء من الطعام في غير جزع ولا ألم ولا إعياء.
وعلى حر الهاجرة، وفوق متكأ خشبي خشن، رأت الدنيا رجلا عظيما في قمة المجد مكانه، وعلى ربوة الفضيلة محله، رجلا هو الرمز الكمالي لأمة عظيمة، وقدس الزعامة وقوامها، قد تمدد واستلقى ليغفي لحظة، كأنه قد نام على سريره في بيته، ورقد في فراشه النظيف الوثير!
إن ذلك النائم فوق هذا المتكأ هو مصطفى النحاس، زعيم الأمة المصرية في جهادها الوطني للحرية والاستقلال، ورئيس الحكومة من قبل، ونزيل جزيرة سيشل، وخليفة سعد الخالد. وقد ظن صدقي باشا إذ ولي الحكومة من بعده أنه بحشد تلك القوات الضخمة حياله لمنعه وصده لن يلبث أن يغلبه على أمره؛ فكانت استلقاءة مصطفى فوق المتكأ الخشبي الجامد الخلي من الفراش أكبر سخرية من قواته، وأبلغ إهانة لحقه وكرامته؛ إذ بقي مصطفى النحاس على مكانته، حتى وإن بدا على ذلك المقعد الخشن نائما، بل ازداد بهذه الضجعة المتواضعة مهابة وجلالا.
وفي القاهرة خشي صدقي باشا العاقبة المنتظرة، فأرسل في جنح الليل قطارا خاصا ليحمل خصمه بقوة السلاح على الركوب فيه والمآب به قبل أن يترامى إلى البلاد الخبر، ويتنفس الصبح لذي بصر، ويقضي مصطفى الليل كله في العراء، ويبيت صحبه على الطوى شجعانا صابرين.
وجاء كبير الجند في شرذمة منهم فأحاطوا بالزعيم، وقال القائد: «إن لدي أمرا من الوزارة بتسفيركم ولو اقتضى الأمر استخدام القوة»، فأجابه الزعيم قائلا: «إننا هنا لا نسافر إلا بالقوة»، فتقدم الجنود وأحاطوا بالجمع وأركبوهم القطار إكراها وعنوة. وتحرك القطار بهم في منتصف الحادية عشرة من المساء، فبلغ القاهرة بعد موهن من الليل، والحق ساخر، والباطل لا يعرف الحياء.
وكان صدقي باشا قبل ذلك قد زار بني سويف نفسها، فزعم أنها استقبلته بترحاب، وأحسنت موفده كل إحسان، وأعلن أن له فيها ألوف المؤيدين والأنصار؛ فمن أي شيء بعد ذلك كان يخشى وهو المدرك أن معقلا من معاقل الوفد قد سلم له؟ وكيف أخذته الريبة بعد اليقين، فأعد لزيارة خصومه الكتائب المسلحة والقوات الشاكية الأسنة والحراب، وقطع على أهلها المسالك، وعلى النازحين إليها السبل والدروب، وأحالها في لحظة معسكرا قائم المضارب، وميدان حرب لا يسمع فيه غير النداء والصفير؟!
فإذا هذه الظاهرة قد جاءت نافية لكل ما زعم، ودليلا ماديا على فساد ما ادعى، وبرهانا قاطعا على ضعف مكانه، وعجز سلطانه، ولقد منع الوفد يومئذ أن يتكلم، ثم ترك الكتائب والقوات المسلحة تتكلم بأبلغ لغة وهي الصامتة، وتتحدث بأنطق لسان وهي لا تعرف البيان.
لقد صال الحق يومئذ وجال، وإن لم يغادر مكانه من الأفاريز؛ وانهزم الباطل وتضاءل، وإن حمل الحراب وعبأ الكتائب، وتراصت منه الصفوف، ووقف مزدهيا بالقذائف والرماح! ... ولقد جل يوم بني سويف عند الملايين، وراع موقف الوفد فيه عند الأمة الكريمة؛ إذ رأى الناس فيه أي الفريقين أرعى للنظام، وشهد الشعب خلاله أي الجانبين أحرص على القانون، وقد بدت الحكومة مستهترة به، وهي الزاعمة أنها تصونه، وبدا الوفد حريصا عليه، وهو المتهم من خصمه بجناية العبث به؛ لأن حشد الكتائب المسلحة لم يكن عملا يقتضيه النظام، ولكنه كان مسلكا يستفز إلى الاستخفاف به، لولا حكمة الزعيم وأصحابه، وصبر الجماهير وسكينتها، وليس يقوم الحرص على النظام بالاعتداء على أبسط مظاهر القانون؛ لأن الحرص على الشيء والاعتداء عليه لا يجتمعان.
لقد كان يوم بني سويف يوما عظيما في التاريخ؛ لأن آلافا مؤلفة من الأمة استطاعوا أن يملكوا جأشهم، وحرصوا على نظامهم ما دام الحق في جانبهم، والفطنة الدائمة في منازل مهجهم ومسالك دمائهم؛ على حين لم تستطع الحكومة أن تملك جأشها وتحرص على نظامها، فرصدت للسلم كل مظاهر الحرب، وحشدت للسكينة كل عوامل الهياج، واعتدت على القانون لتحافظ عليه، واستهانت بالشعور العام وهي تخشاه، واندحرت في المعركة الصامتة وإن زعمت لنفسها النصر المبين.
لقد كان يوم بني سويف من ناحية الأمة يوم العقل والحكمة، ومن ناحية الحكومة يوم الجرأة الخائفة. وقد أراد خصوم الأمة أن يراق فيه الدم على جوانبه، وأبت الأمة إلا أن تجعله على أعدائها يوم الخيبة الفاضحة. «لا نحمل غير سلاح الحق!» تلك كلمة الرئيس الجليل مصطفى أمام الجند المدجج بالأسلحة، فما أكبرها من كلمة ذهبت في لغة الحق مثلا، وقد راح قائلها في الدنيا شجاعا بطلا؛ لأنها كانت أقوى من الكتائب جميعا، وأنفذ من الأسلحة كلها قذيفة ومدفعا، وقد حفظها التاريخ؛ لأنها كلمة خالدة في يوم خالد. وقد مضى يومهم أخرس أبكم لم يسمع التاريخ فيه منهم غير صليل السيوف في أكف المحضرين.
كان يوم بني سويف يوما رهيبا لا يزال في الذاكرة أثره، ولن يمحى من الحافظات خبره؛ فقد تسلمه التاريخ ووعاه، وتقبله الخلود فاحتواه، وذهبت ساعاته في غير ما تذهب الساعات، ومرت دقائقه وليس كمر الدقائق المتواليات، وهب الناس له من المضاجع من بكرة الصباح ذاهلين؛ فقد قطعوه قبل مجيئه في الأحلام خائضين، وسافروا في الكرى مع رحلته غادين ورائحين، وعرفوا موقعه من الزمن، وعدده من الشهر، قبل أن يواجهوه مع أنفاس النهار مصبحين.
كان يوم بني سويف يوم الوطن، بل كان يوم الإيمان، ولو أذن الله للفلك الدوار من رهب ذلك اليوم المشهود لوقف له من الإكبار الزمان؛ لأنه لم يكن يوما في الدهر، ولكنه كان عمرا آخر في العمر؛ ولئن لم يتمخض عن حادث أو أحداث، فقد تمخض عن حكم وعبر، وفاض على جوانبه الحب وزخر، ومشى بين منافسه اليقين وخطر، وتهادى في مناكبه الإيمان الوطني وتبختر، واعتز الحق فيه بنفسه، وازدهى الباطل فيه بجنده وحرسه، ووقفت الإنسانية تشهد بين عزاء الحق وسلوة اليقين، وبين خجلة الباطل وضعفه المستكين.
ويوم يحاول أحد من جحدة الفضل والمطبوعين على الكنود أن يماري في فضل مصطفى ومزاياه، وإخلاصه لبلاده وتفانيه، يجب أن يذكر يوم بني سويف، وتوصف لذلك الجاحد رقدته فوق المتكأ أبلغ وصف؛ فإنها والله لنومة ليس لها في التاريخ من شبيه، غير نومة الفاروق عمر بن الخطاب تحت الشجرة والظل المورف، فقد عدل عمر يومئذ فنام، وقد أدى مصطفى واجبه لبلاده فالتمس النوم ساكن الأوصال، مستريح الضمير، ثابت الإيمان.
وتقدم صدقي باشا يعلن عن موعد الانتخابات، فوقفت الأمة مجموعة تسخر منه ومن دستوره وانتخاباته، معلنة أنها لا تشترك فيها، ولا تقر قيامها؛ فعمد هو إلى إجرائها إكراها، وإقامتها عنوة وتزييفا، حتى لقد استعين بكل الجرائم المنكرة على تمثيلها، فكانت مهزلة مبكية، وأعجوبة مزرية، وفاجعة دامية، اشتريت لها الذمم الرخاص شراء، وحمل الضعفاء إلى صناديقها في المركبات الثقال ومحامل الدواب حمل الأنعام الخراف والشاء، واصطنعت فيها كشوف الأسماء، ودست خلالها أسماء أموات لم يعودوا في الأحياء، وزورت الأكاذيب على الناس يومئذ تزويرا.
لقد كانت تلك فعلة نكراء جريئة فوق كل معاني الجرأة، جرأة لا يمكن أن تبدو من مخلوق في العالم أو يقدم عليها إنسان؛ ولكنها ظهرت وتقدمت ، وأمعنت وتوغلت، واستعانت أدنأ الوسائل واستخدمت، وانتهت بجمع برلمان من النكرات، لم يكد يتولى آخر الأمر عن جامعه، ويعرض عن سائقه ودافعه، حتى اعترف هذا بأنه في الواقع لم يكن برلمانا صالحا، وإنما كان حظيرة من بسطاء وسذج ومجاهيل يسهل التأثير فيهم، وتوجيههم ومساقهم في غير مشقة ولا كبير رياضة ولا طويل عناء!
وضحكت الدنيا من أرقامه يومئذ وحساب إحصائه، فقد جعل نسبة الذين اشتركوا في انتخاباته رقما كبيرا، وجاء القدر الساخر بلذعة قاسية، ومزحة مدمية، إذ لم تتجاوز في بلد كبير أبى حاكمه أن يزور، وربأ بنفسه عن أن يزيف ويصطنع، أربعة في المائة، فلبث الناس من هذه المفارقة طويلا يضحكون فاكهين.
لقد طفح الكيل يومئذ واستفحل السوء، إذ صنع ذلك العهد الغاشم الشاذ بالبلاد ما ردها عشرات من السنين إلى الوراء، وأتى أصحابه من الآثام ما رجع بها أجيالا طوالا إلى الخلف؛ فقد كان ذلك الحكم نكسة خطرة بعد نقه كان بادي الظواهر واضح الأمارات، ولقد قاومنا تلك النكسة بكل قوانا، وكافحنا جميع أعراضها بكل ما استطعنا من كفاح، فأثبتنا بتلك المكافحة المستمرة أن الأمة تعيش في عصر غير العصر الذي تعيش الحكومة فيه، وأن مسافة الخلف بين الأمة والحكومة قد جعلت في مصر جيلين متباينين في الروح والمظهر والمسلك والمبادئ والنظريات، جيل الحكومة التي جمعت إليها سائر عناصر الرجعية البائدة، ولفت حولها جميع بواقي النزعات المتخلفة، وربيبي عصور الاستبداد وعبدة المناصب، وطلاب المآرب والغايات، وجيل الأمة التي تتعلق بأهداب أحدث المبادئ، وتؤمن بفضل أرقى الدساتير، وتريد أن تعيش مع العالم المتحضر، وتجاهد الحياة الجديدة في الممالك، جيل الحرص على الحرية، والتمسك بالمثل العليا، والتشبث الجاري بمطالب الاستقلال، ولعل هذه الظاهرة أعجب ما شوهد في بلد من البلاد، وأغرب ما عوين في عصر من العصور، وهي أن يجتمع في وقت واحد حكم العصور الغابرة وشعور الأمم الحديثة المتحضرة، وهذا هو سر الكفاح الطبيعي بين الشعب وحاكميه؛ لأنه كفاح الحاضر المتوثب إزاء الماضي العائد من مقابره يجرر أذيال الأكفان .
وقد ظل صدقي باشا مع هذا يزعم أن معه إجماع الأمة، وظلت مقاطعة الأمة لانتخاباته السخرية الصارخة على جوانب دعواه، إذ لم يكن يعقل أن تحتوي البلاد إجماعين، أو تكون الأكثرية الساحقة من أهلها في ناحيتين مختلفتين، حتى تحطمت الأكذوبة، وبقي الحق قائما في مكانه، تحيط به الثقة ويحفه اليقين والإيمان.
وقد تقدم مصطفى النحاس باشا إلى النائب العام ببلاغ عما ارتكب في الانتخابات من جنايات بالغة، ولكن ذلك البلاغ كان مآله الحفظ والإهمال مع أنه اتهم فيه الحكومة باقتراف أشنع الجرائم، وإتيان أعظم المخالفات، ولو أن حكومة بريئة نزيهة تلقت اتهاما جريئا صريحا كهذا لما ترددت، حرصا على براءتها وكرامتها، في استياق المتهم إلى مواقف المحاكمة ليتلقى على جرأته أقسى العقاب، فكان حفظ البلاغ حجة صامتة على ذلك العهد الكثير الكلام ...!
وظل مصطفى النحاس يكافح بنفسه، ويقود الأمة إلى الكفاح، لم تتأثر روحه المعنوية بأدنى مؤثر، ولم يعد على قوته ورباطة جأشه عاد، وقد منع من زيارة بني سويف على تلك الصورة التي وصفناها لك، لكنه أسر في نفسه ليزورنها على أية حال.
وجاء منع الوفد والأحرار الدستوريين الذين تعاهدوا معه في ميثاق وطني عظيم قبل يوم بني سويف العظيم من زيارة طنطا تلبية لدعوة أهلها، حافزا قويا لمصطفى وأصحابه إلى زيارتها مهما صنعت القوة الغاشمة لتردهم عنها، ومهما كلفهم الوصول إليها من مشاق وصعاب؛ فاعتزم القوم السفر في أول مايو سنة 1931، وانثنت القوة الغاشمة تتأهب بقواتها المسلحة لمنعهم، فأقفلت أبواب محطة القاهرة جميعا، ورصدت للقائهم الكتائب والجند حاشدين.
فلما جاء مصطفى ومحمد محمود باشا في جمع زاخر من المجاهدين وقفوا حيال الأبواب الموصدة، وأقبل القائد الإنكليزي الموكل بالإشراف على الجنود، فأنذرهم أن يعودوا من حيث أتوا؛ ولكنهم لم يستمعوا له ولم يأبهوا بوعيده، وتدافعوا على الأبواب فحطموها، ودخل مصطفى ومحمد محمود في مقدمة المقتحمين، فأحاط الجنود بهما وتطاولوا عليهما بالعدوان؛ ولكن مصطفى رجل يحسن استخدام ذراعيه القويتين، وبأسه الشديد عند الحاجة، فعرف كيف يقتحم المكان بصدره، ويهوي باللكمات القوية على ملاقيه. وكاد دولة محمد محمود باشا، لضعف بنيته، يسقط صريعا من شدة الزحام، وجرأة الجند عليه، وسوء أدب الكونستبلات الإنكليز في حضرته، وهو رئيس حكومة سابق، كان آمرا في عهده ناهيا، وكانوا بأمره صادعين.
وسلك صحب مصطفى مسلكه، فاقتحموا الأبواب شجعانا، واحتوتهم الساحة الداخلية للمحطة، وهم محيطون بالرئيس حرصا عليه وتفدية، واستخفافا بالقوة الغاشمة وسخرية، حتى ركب دولته القطار وهو في أشد درجات الحماسة والعزم والإقدام، وجاء كبير الجند يأمره بمغادرة القطار، فتلقاه بجواب حاسم وهو أنه لا يبارح القطار، وسيقاوم دفاعا عن حريته وحقه في الانتقال بكل ما لديه من قوة، وأنه إذا كانوا عزلا من الأسلحة، فإن قوتهم هي في إيمانهم ونفوسهم، فإذا استطاعوا أن ينتزعوا هذه النفوس فليفعلوا، فإنها فداء للوطن.
وأمام هذا الإصرار الرائع العظيم، عمدت القوة إلى حيلة صغيرة، ففصلت المركبات من القطار، وأطلقته يسير إلى جهة غير معلومة؛ فظل الركب فيه لا يحفلون بشيء، ولا يراعون لما تريد القوة الغاشمة أن تصنعه بهم؛ وإذا هم بعد لحظة يدركون أن القطار سائر بهم في الصحراء المترامية فيما وراء العباسية وسط القفار والمقابر ومساكن الآخرة، وكأنما قد أنبتت الأرض القفر في تلك اللحظة بشرا، وانشقت عن أناسي كثيرة؛ فإذا القوم يهرعون لتحية الزعيم، ويستبقون القطار ليرسلوا في إثره أحر هتاف من أعماق القلوب، وأصدق دعوات من أغوار المهج والأرواح.
وجعل القطار يجري بهم في اتجاه حلوان حتى وقف بهم قريبا من جهة تدعى «كفر العلو»، ولم يكن معهم شيء من الطعام أو الشراب، فلبثوا كذلك حتى عرفت أم المصريين بنبئهم، فأرسلت الطعام إليهم من بيت الأمة، كما وافتهم قبل ذلك مع أسراب من السيدات على الطريق فشجعتهم وباركتهم، وألهمت قلوبهم أروع إلهام.
وخشيت الوزارة عاقبة هذا التصرف الغاشم، فأوفدت إليهم في ساعة متأخرة من الليل اللواء رسل باشا، وكان مريضا فغادر فراشه، وجاء مستبكيا يرجو إليهم رجاء أن يعودا معه في السيارات إلى دورهم؛ فرأوا أن يجيبوه إلى طلبه مكتفين بأن ما كان منهم قد أسقط هيبة الحكم الغاشم وفضحه أشنع فضيحة.
وفي الحق لقد كان ذلك اليوم جليلا كأصحابه، رائعا كركبه ومواكبه، اهتزت لأنبائه مصر بأسرها، وجعلته في سجل الجهاد من أيام فخرها، ورمز انتصارها، ولم يبق في الأجماع صغير ولا كبير ولا مؤيد ولا نصير إلا تلهف على تلك الوقفة الوطنية الباسلة وخبرها، وعد الساعات والدقائق من مطالع نهارها، وتذاكر أسماء أبطالها وأبرارها، وراح يقول: وهل فيهم نائبنا؟ ومضى الآخر يسائل: وهل فيهم شيخنا؟ وتساءل ثالث: وهل ذهب مع القوم عضو دائرتنا، أو رئيس لجاننا؟ كأنما أحس كل فرد في مصر أنه ينبغي أن يكون حاضرا مع الجمع أو ممثلا، وكأنما أضحى الفخار في العشيرة أن يكون أحدها أو سوادها في جموع المسافرين. وجاء يوم السفر عظيما كأهله، فخما كمعناه؛ لأنه أثبت للحق شجاعته، وللجهاد الشريف بسالته، وللشعب المتعطش للخلاص صدق شعوره وقوة عاطفته، وقد ازدهى فيه الحق لأنه قد ربحه، وازدان به الجهاد لأنه ناضل الباطل المدجج بالسلاح وكافحه، وتغلبت فيه الوطنية العزلاء على كل إرادة في طريقها، وأسمعت العالم كله دوي كلمة الحق معلنة أن مصر المجاهدة لا تنهزم أمام الظلم الجائح ولا تستسلم، وأن حقها الصريح الشجاع المستميت يأبى إلا المغالبة والحياة، وأن ملايينها لا يزالون من البشر فلا يرضون أن يكونوا كما يراد بهم قطعانا من السائمة والأنعام.
ذلكم يوم عظيم جاء فيه الزعماء لا يحملون من الأسلحة غير سلاح واحد، ولكنه بكل ما عند المادة من أسلحة؛ لأنه يقطع ولا يظهر، ويقد ولا يدمي، ويبتر ولا تجدي في جراحته اللفائف والأربطة ... سلاح الحق، فأين أسلحتهم منه؟ وإنها لتتراجع أمامه، وتتزحزح حياله. وإن جموعهم المحشودة على الأبواب لترتد وهي القوية، وتتراجع وهي المتقدمة العصية، فإذا الحق الأعزل يقتحم الباب، وفي رأس الحق رجل شجاع لا يهاب، رجل فتح للأذى صدره، فهلموا إليه إن استطعتم ... هيا ارفعوا العصي على شخص الوطنية الطاهر، ورأس الجهاد الرفيع، وإكليل الحق الأكبر ... هيا امسكوا بتلابيب الملايين في ثوب ذلك الرجل العظيم، وقد جاء الحق وتراجع الباطل وارتد الطغيان حائرا مرتبكا منزويا لا يستطيع كفاحا ولا يقدر على مغالبة.
لقد تضاحك الحق في تلك اللحظات الرهيبة ساخرا، ووقف الباطل بجنوده لا يدري ماذا يفعل حائرا، وإن الأسلحة لتشعر بمعناها فتختلج ولا ترتفع، وإن الأصوات الناهية الآمرة لتحس خجلة موقفها فتتعالى وهي المتهدجة؛ لأن كل قوات المادة تنكمش وتنزوي أمام قوات الروح، وإن كل صنائع الباطل وأعوانه ليوجسون من رهبه، وهم الجريئون المتقدمون.
واقتحم الجمع الباب، فيا ويل الوطنية من ظالميها! ويا عار الأجيال في مصر من اليد الأثيمة التي ترتفع على زعمائها ومنقذيها! وإذا بأصغر الناس يمسك بأكبر الناس، وإذا أهون الأقدار تتواثب على أخطر الأقدار، وإذا الزعماء يعاملون في ذلك العهد العجيب بما لم يحدث في تاريخ مصر مثله، ولا جرت في عهد السلطات البريطانية أشباهه، ولا وقعت في أيام الثورة الماضية نظائره، وإذا الحق لا يبالي بأشخاصه؛ لأنه لم يعد يفكر إلا في معناه، وعاد معناه لا يبغي سوى غايته، وإنها لأشرف غاية، وما كان أشرف الغاية ليأبه بالأذى يصيب الجسوم والأبدان.
وقد أسلفنا عليك أن دولة الرئيس أسر في نفسه ليزورن بني سويف في يوم من الأيام لشكر أهلها بنفسه، وسخرية من القوة الغاشمة التي حاولت منعه؛ ففي اليوم الرابع من مايو سنة 1931، وبلا علم أحد من الناس، استقل سيارته على مطالع الأصيل في رفقة من بعض صحبه، وانطلق صوب بني سويف، فبلغها مع المساء، ولم يكد الناس يلمحون السيارة حتى عرفوا أن الزعيم قد جاء على غير مألوف عادته، فأقبلوا جموعا مزدحمة فالتفوا حوله، ولم تلبث المدينة كلها أن تسامعت بالنبأ فاستحالت شعلة من النار، وهرع شبابها وشيبها للقائه. وكان الزوار الكرام قد وصلوا إلى دار الشيخ المحترم عوض بك عريان المهدي، فانطلق الفيض الزاخر من الحشود الحاشدة نحو ذلك البيت الكبير وهم يهتفون أشد الهتاف.
وفي وسط مظاهر الابتهاج والناس فرحون أبت القوة الغاشمة إلا أن تظهر جبروتها وعسفها، فجاء الجنود مسلحين بالبنادق، وراحوا يعتدون على الجماهير ويطلقون الرصاص على الأبرياء، فخر قوم صرعي وأصيب خلق آخرون بجراح بالغة، واشتد غضب الشعب وقد رأى جثث الشهداء ملقاة على الطريق، وسمع أنين الجرحى يفتت الأكباد؛ فانطلقت الجموع في موجة رهيبة تبحث عن الضابط الأثيم الذي أمر بإطلاق النار على الوادعين، وكان هذا قد أصيب فنجا إلى الدار مستغيثا بدولة الرئيس، فأمر دولته بإسعافه وحماية حياته، وجاءت مركبة الإسعاف لحمله، ولكن الشعب الغاضب حطمها تحطيما.
وحين هم الزوار بركوب السيارة عائدين إلى القاهرة ظل الرصاص يتناثر من حولهم، وينهمر من فوقهم، فبادر الناس إلى الإحاطة بها لتفدية دولته بنفوسهم، حرصا على حياته الغالية ببذل حياتهم، فجعل الرصاص يؤز من فوق رءوسهم، فهوى من هوى قتيلا وسقط الجرحى مجندلين، ومرقت السيارة تشيعها الأبصار والقلوب؛ فكان المشهد رهيبا، والليل بهيما، والخطر عظميا، والموقف يذهل الألباب. وتسامع صدقي باشا وزملاؤه بالنبأ الرهيب، فأرصدوا على طريق الرئيس في عودته بعض الشرطة ليمسكوا به؛ فلما أتت السيارة على حدود الجيزة وقفوها وتقدم مدير الجيزة إلى دولة الرئيس محييا، وهو يقول: «هل هناك ما يمنع دولة الرئيس من الذهاب إلى دار النيابة العامة؟» فأجابه قائلا: «إننا نريد ذلك لإثبات ما وقع للأبرياء من العدوان.»
وانطلقت السيارة إلى دار النيابة حيث جرى التحقيق، وكان لحديث الرئيس أمام المحققين قوة رهيبة وبلاغة رائعة انزوى المحققون أمامها ولم يستطيعوا كلاما، وغادر دولته دار النيابة مع أول خيوط النهار، وقد امتلأت الساحة المترامية خارج الدار بخلائق كثر تسامعوا بالنبأ فجاءوا مهطعين، وأبوا الرقاد والذهاب إلى المضاجع حتى يطمئنوا ويعلموا النبأ اليقين.
ولم يكد الرئيس يخرج إليهم في السيارة وهي منطلقة به إلى داره مع أنفاس الصبح حتى دوى الهتاف بحياته في صميم السكون وهدأة السحر، وكأنما أزعجت تلك الأصوات الداوية ذلك الحاكم الغاشم الذي أطال السهر في مكتبه في تلك الليلة الرهيبة، فأهوى على التليفون يطلب حكام الأقاليم في سكينة الصبح لينبئهم بأن مصطفى النحاس لم يحتجز في النيابة، وإنما ذهب إلى داره، خيفة أن يستبق نبأ التحقيق معه إلى الريف وصميم القرى، فيهب الناس على النبأ مروعين.
لقد حارب مصطفى خصومه بنفسه حربا مستعرة الوقدة، متأججة الحماسة، قائمة الإيمان، مكينة اليقين؛ فلم يكن ليقتصر في الجهاد على مجرد التوجيه، وتدبير القيادة، ووضع الخطط، ورسم التصميمات - وهو أخطر وظائف الزعامة، وأكبر أعمال القادة - ولكنه لم يكن ليتردد في خوض الغمرات بشخصه، والإقدام على الأخطار بذاته. وقد حاول خصمه ضرب الأنطقة حوله ومنعه من الاتصال بأمته في كل بلد حل وكل موضع ذهب إليه، وجعل أشراطه يعتقلون كل هاتف بحياته، وكل مصفق لرؤيته، حتى لقد انشغلت المحاكم الجزئية بقضايا الأشخاص والجماعات الذين يساقون إليها بتهم الهتاف بحياة الرئيس أو الاحتشاد لتحيته، ولكن ذلك كله لم يمنع الجماهير من الاجتماع على طريق الزعيم والازدحام للترحيب به والتكريم لشخصه، وهو في كل مكان - رغم الجنود الحاشدين والعذاب المنتظر للهاتفين - يجد الزحام حوله، والناس متدافعين بالمناكب لمقدمه، والخلائق مهرعة إلى اجتلاء مطلعه، وهو يخشى عليهم الأذى وهم لا يخشونه، ويخاف عليهم العذاب وهم لا يخافون عذابا.
ولم يخاصم مصطفى في السياسة وحدها، ولكنه خوصم وعودي في كل شيء يتصل بذات نفسه أو يتعلق بعقيدته أو خاصة حياته، بل لقد خوصم في كل صفة من صفاته، وحورب في كل نزعة من نزعاته، وشتم بما لم يشتم أحد به، وطعن في حقه بما لو أمكن أن يجتمع بعضه في رجل ما لنكره الناس وبرئوا منه، ومع ذلك ظل كل تلك السنين الحوالك محاربا في كل ساحة، منتصرا في كل ميدان.
بعد معركة الشرف - الزعيم يعود شيخا جريحا.
ولن ينسى الناس في معارك الشرف ومواقع الفخار ما كان منه في نوفمبر سنة 1932 أمام دار النادي السعدي، في معركة الحرية والدستور، فقد أبت السلطة الغاشمة إلا أن تمنع اجتماع الهيئة الوفدية في ذلك النادي، وأبى الكبرياء الوطني المجيد إلا أن يدخل داره، ويصل إلى ناديه، مهما يكن من الأمر، ومهما أرصدت تلك السلطة الباغية في طريقه.
وما حل الموعد المضروب للاجتماع حتى توافى الشيوخ والنواب ، فوجدوا الطريق سدا، والجند المسلح أنطقة كثائف وحشدا، وإذا بعد لحظة يصل مصطفى فلا يتردد في اقتحام الطريق بصدره، وإذا الجمع يستلهم من زعيمه هذه الحماسة البالغة الجريئة، فيندفع في أثره، وإذا معركة رهيبة قد راحت تنتشب بين هؤلاء الكبار من عيون مصر ورءوسها وممثلي الشعب ووكلائه الأوفياء، وهم عزل كشف لا أسلحة لهم، وبين أولئك الجنود المدججين بالأسلحة، والضباط الإنكليز والكونستبلات البريطانيين، وقد استحالوا وحوشا، وفقدوا كل ما تنماز به الإنسانية عن عالم الحيوان، فأقبلوا يهوون بعصيهم على الرءوس في غضبة الحاقد وغيظ المنتقم، ضاربين الشيخ الوقور، ومعتدين على المسن الأشيب وملاحقين النائب المحترم، كلما لوى عن طريقهم عدوا في أثره ليزيدوه إيذاء ومسيل دماء.
ومن شهدهم في ذلك اليوم التاريخي الرهيب وهم يعتدون على مصر الممثلة في أولئك الكبراء الأمجاد، ويرفعون الأكف على زعيم الأمة ورئيس الحكومة السابق، ونظير ماكدونالد في حكومة بلادهم، وضيف الملك في المفاوضات الماضية وعاهل إمبراطوريتهم، ومن رآهم يومئذ وهم يطيحون بنوابغ ومحامين لا يقلون عن محامي بلادهم، وأفذاذ كبار محترمين لبارز شخصياتهم؛ لم يكن ليعتقد لحظة أن أولئك إنكليز من أبناء بريطانيا العظمى، بل لم يكن ليتصور مطلقا أنهم ضباط وأفراد في الجندية وهيئة الجيش، حيث آداب العسكرية أرفع من أن تصول وتهجم على الأعزل، وتعتدي على الأكشف المجرد من كل سلاح، وحيث التعاليم توجب إعطاء الاحترام الواجب للكبار، وتوقير الشيخوخة، وإجلال المراكز والأقدار، وإكبار الشيب والمسنين.
لقد كان ذلك في الحق معرة بالغة في حق الأدب الإنكليزي والخلق البريطاني، وعملا شائنا في الحضارة من جانب أفراد يعتزون بها، ويعتقدون أن حضارتهم سيدة الحضارات.
وما أحسب الناس قد نسوا ما كان من مصطفى في رحلة الصعيد عام 1923، فقد فزعت لها السلطة الطاغية يومئذ، ولم تدر ماذا تصنع لوقف تيارها الزاخر، وموجها الدافع، ومواكبها الجرارة في إثر الزعيم كلما نزل ببلد أو زار قوما في موطنهم؛ فلم يسعها أخيرا من اليأس والشعور بالفضيحة إلا أن تلجأ إلى حيلة صغيرة، وهي أن تحول القطار الذي يقله إلى القاهرة وقد ملأته جندا وضباطا وأسلحة، فكان ذلك «اختطافا» لا يكون من حكومة تحترم نفسها، وإنما هو من شأن قطاع الطرق وعصابات الجناة والمجرمين.
وقد حورب مصطفى أيضا في معاشه فأنقص وحبس عنه، واتهم بسبيله في نزاهته، وقذف بالظنة الأثيمة في رفيع قناعته؛ فظل ساخرا من التهمة والمتهمين حتى حكم له القضاء بالحق، فانتصر بالعدل على أسوأ الاتهام. وكان من أعاجيب ذلك العهد الجشع النهم الشره الطويل اليد المطاط الذمة أن يكون لمثال النزاهة متهما، وأن يروح للطهر والبراءة مهاجما، ولكن كان ذلك كله من سخرية الأقدار، تجعل وسائل الظلم والطغيان في ذاتها أدوات لاندحاره، وآلات لقتله، وأساليب لفضيحته، وإن ظن أنه سوف يروح بها من المنتصرين.
لقد حارب مصطفى النحاس عهدا طاغيا تحالف عليه خلاله رجلان عجيبان في الجرأة والحيلة والمكر والدهاء، وهما برسي لورين وإسماعيل صدقي، ولم يكن لمصطفى من حليف غير الأمة المؤمنة بحقها، المجاهدة الصبور الثابتة حيال أعدائها؛ فجعل مصطفى روحه المعنوي أبدا ماثلا أمام الأمة، وجعلت الأمة كلما رأته كذلك قويا صامدا ثابتا بساما للخطوب سخارا من المحن، تتحمس للجهاد، وتصطبر على ما لم يكن أحد ليصبر عليه، وتستجيب لندائه إذا ما دعاها إلى عمل من أعمال الجهاد وواجب من واجبات الكفاح، وتلتف بجموعها حوله وإن تخطفها الأشراط، وألقوا بها في المحابس، وملئوا من آحادها رحاب السجون.
لقد صبر الشعب قرابة أربع سنوات على أشد الألم، واحتمل العذاب في أقسى صنوفه وأبشع ألوانه؛ صبر على «البداري» وكانت آخر ما يكون من الوحشية والاستهانة بكرامة الإنسانية، كما صبر على الأزمات المالية، وقد اتخذ منها ذلك العهد الأثيم وسيلة للمساومة على الذمم واشتراء الضمائر، بما زين للمأزومين - الذين أكلت الضائقة أخضرهم، والذين جاء استخلاص الضرائب بالسياط فأجهز على سوء عيشهم - من استعداده للقرض وسماحته بالتسليف؛ فكان أشنع ما في ذلك الاستغلال الوحشي يومئذ أنه راح يحارب الناس بالجوع، ويراودهم عن مبادئهم بالمادة، ويستغل حرج ظروفهم ليحيلهم خونة مارقين ...!
صبر الشعب الكريم على النوب والجائحات تلك السنين الشهب كلها، كلما أوجس زعيمه الساهر الرقيب المتغلغل إلى الأعماق عارضا من أعراض الألم، أو تناقصا في مدخر الصبر، راح يملأ مستودعها بحكمته وروعة مثاله وحسن نموذجه، ومضى ينفخ في الروح المعنوي فيرده متجددا، ويشده إليه شدا، ويفعمه قوة وأيدا. وقد طبع الناس على التأثر بالمثال، والاستجابة إلى القدوة، والانبعاث مع الأسوة الصالحة؛ فكان مصطفى في حصته من الجهاد أكبر حافز إلى المثابرة، وكان من أكبر الخيانة وسط المعركة أن ينبري الإغراء يمشي وسط الصفوف، وتسري الخدعة بين الأسمطة؛ فلم يكد يشهد مصطفى بوادر هذه الظاهرة، حتى عول على أن يستأصلها استئصالا، ويطهر منها الكتلة تطهيرا.
لقد أدرك برسي لورين بعد الذي ترك صاحبه يصنعه في البلاد، وبعد أن مد له في الطغيان مدا، أن التجربة محكوم عليها بالفشل أبدا؛ فأحب أن يغطي وجهه، ويواري سوأة خيبته؛ فأطلق في أفق السياسة مناطيد من الورق الأحمر والأصفر، قد كتبت عليها «الوزارة القومية» أو وزارة الظالم والمظلوم معا، كعرض مقترح للخلاص من الظلم والنجاة من الطغيان، فينقلب بذلك الحكم قسمة بين الحكام الذين طغوا في البلاد، وبين الزعماء الذين جاهدوا معها، ويتلاشى الإجماع الساحق الذي ظل صخرة النجاة، ويذهب حق الكثرة في ولاية الأمر وحدها، ويعود انتصار الأمة فشلا، وجدها هزلا، وجهادها الغالي أرخص ما يكون سعرا، وضحاياها تحت الثرى نسيا منسيا.
مصطفى النحاس.
ورضي بهذه الفكرة الخادعة فريق من أصحاب مصطفى وزملائه في الوفد، زينت لهم تزيينا، وساعد على ظهورها لهم كفكرة جميلة أنهم كانوا قد بدءوا يتململون من طول الشقة، ويضجرون من مسافة المعركة، ويخشون على الناس من التضحية والتهلكة، ويزعمون أن الصبر العام قد أوشك أن ينفد، وأن الخير في اهتبال الفرصة. وكان الحق في أمرهم أنهم هم وحدهم الذين نفد منهم الصبر وتزعزع الإيمان.
جرى ذلك وسط المعركة، فكان واجب القائد العام أن يكون صارما فيقضي على هذه الفكرة المزجاة الخبيثة وهي في المهد، وألا يحكم في أمرها غير الوطنية والواجب؛ فوقف مصطفى النحاس يومئذ أروع موقف ، وقف يسحق الصداقة سحقا ، ويمزق تذكارات المودة والحب تمزيقا، ويضحي بكل الاعتبارات العاطفية من أجل نجاة بلاده من شر هذه الخدعة الماكرة؛ ففصل سبعة من أعضاء الوفد مرة واحدة، وسط إعجاب الشعب ورضوانه؛ إذ كان التسليم لهم إهانة كبرى لصبره، وإزراء شنيعا بقوة جلده، وضعف إيمان به، من أجل حلم كاذب وفكرة آثمة.
وكان الموحي بهذه الفكرة يحسب أن انقسام الوفد بسبيلها سوف يقضي عليه، وأن الانشقاق من أجلها سوف يعجل به، فتنجح التجربة من هذه الناحية وإن فشلت من غيرها. فلما ضرب مصطفى النحاس ضربته في غير تردد، وقد بالمعول قدته في غير تخاذل أو إحجام، ولقي رضوان الشعب على ما صنع حاضرا، وإعجاب الأمة بالغا، واستقام الوفد على سننه بعد هذا الدور الخطر، وباء المنفصلون بخسر وخذلان؛ لم يبق من شك في أن كل علالة يتعلل أصحاب التجربة بها من ناحية نجاحها لا تجدي، وكل أمل منته بيأس، وكل إطالة في المدى سوف تزيد الفشل افتضاحا.
وكان المنفذ الجريء على التجربة قد حط السقام به يومئذ على كثرة موارده، وسعة حيلته، والمد له في سلطانه، بينما ظل خصمه الأعزل إلا من سلاح حقه وإيمانه قائما على ساقيه وسط الميدان، مناجزا مناضلا في بهرة الحومة؛ فلم تلبث السياسة الإنكليزية أن أدركت أنه قد حان إجراء شيء من التغيير، ولكن على قدر حتى لا تنكشف الأستار عن الفضيحة البالغة.
وسافر يومئذ صدقي باشا للاستشفاء، وخلال غيبته جاءت الأنباء بسحب برسي لورين؛ فكان النبأ سارا مدخلا الفرح على النفوس؛ لأنه مصرع سياسي آخر، سياسي عجيب داهية ماكر، ظن أنه على إخضاع مصر قادر، فراح يحاول ما عز من قبل على كل محاول، ومضى يشتغل ولكن على غير طريقة سلفه «لويد» الشاب المفتون بالمظاهر المولع بعزة السلطان، مجتنبا الظهور على المسرح، قانعا بالوقوف خلف الأستار، مستمهلا أدواته مهلة بعد أخرى، على أمل أن تخضع البلاد مع طول الوقت، فيكون له في السياسة الاستعمارية فضل النجاح فيما كان خيبة سلفائه. انقلبوا جميعا خاسرين !
ولكن الله أحبط كيده ، وأخزاه هو ومن معه؛ فثبتت الأمة، وثبت الزعيم، وانتصر الصبر الرفيع على البطش الشديد، وخرجت البلاد من الغمرة رافعة الرأس شماء.
وظل لذلك العهد ذيل مجرر يسفي التراب من ورائه، ويثير الغبار من حوله، بما ذهب يكشفه من فضائح الماضي ومساويه؛ فظهرت جنايات صارخة، وتعرت جرائم منكرة، كقضايا الاستبدالات، ومخزية الكورنيش، وقضية نزاهة الحكم، والتصرف في أموال الدولة بغير حساب.
واستضعف الحكم الذي أردف بذلك العهد الغابر لعامل غير مسئول عن سلطانه، وتغلغل في الحكم إلى سائر نواحيه ومكانه، وغلب الحكام على أمرهم، وأشاع نفوذه فيهم فأناخوا له وذلوا لأمره، فكان الإبراشي هو الحاكم القائم خلف الستار، يحرك هذه اللعب الخشبية كيف يشاء.
وكانت المأساة قد أوشكت على الختام، فوقفت الأمة تشاهد مصارع أبطالها واحدا بعد واحد، وكل لصاحبه فاضح، وكل على شريكه في الجناية شهيد، حتى تواروا جميعا مندحرين.
وتم النصر لمصطفى النحاس على خصومه، فوقف يشرف على الساحة، ويتطلع بمرقبه إلى آخر ظلال الفلول المندحرة، وقد استحالت ذرا صغيرا دقيقا من مكان بعيد.
لقد حارب مصطفى لوطنه حرب شرف وفخر، وتجلد للحوادث وصبر، ووجد من حوله خلقا كثيرا صبروا معه وصابروا بجانبه، أولئك هم المتألمون لبلادهم، المتفانون في محبتها، المتلاشية ذواتهم في ذاتها، فقد وصلوا في أدوار رحلتهم النفسية إلى دور العزاء الدائم عن الألم، عزاء ينزل عليهم بردا وسلاما، ولا يبالي عذابا ولا آلاما، عزاء عميق قوي يحدث راحة نفس شاملة، وينمي في الوجدان احتقارا للعروض الفانية، وسخرية من الإغراءات الدنيوية، وقلة مبالاة بالشدائد وقسوة امتحان الظروف وغير الأيام.
إن هؤلاء المتألمين لبلادهم المسافرين في قافلة الحرية لينزلون كلما اشتد الألم بهم، وأضنتهم مشقة الطريق، ولفحتهم الهاجرة في الصحراء. نعم، والله إنهم لينزلون من خيالهم وقوة شعورهم بحق الوطن عليهم ومتانة خلقهم القومي وتفكيرهم، بواحات ظليلة متفجرة العيون متدفقة الينابيع، حلوة الثمر، لذة القطوف، باسقات النخيل، عارشات الأعناب. تلك واحات وبقاع نضر متجددات على الطريق، كلما أرادوها وجدوها، وكلما احتاجوا إليها استحضرها شعورهم ، فإذا هم منها تحت ظل ظليل.
وقد يهزأ الماديون والنفعيون وطلاب المكاسب والأجزية والمصالح واللبانات بهذا الذي نصوره، ويسخرون من هذا الشعور النفسي الذي نصفه، وهم معذورون؛ لأنهم لم يشعروا يوما به، إذ تحجرت قلوبهم، وانطفأت أخيلتهم ووخمت مشاعرهم، فأصبحت الحياة عندهم ولا مقياس لها غير خبز نظيف يؤكل، وألوان شهية من طعام يستمتع بها، ووظيفة طيبة في الديوان يغدى إليها ويراح، ورواتب حسان ينفق منها عن سعة لإشباع النفوس ومتع الأبدان.
ولكن ذلك الشعور الصادق الغلاب الفاتن الساحر قائم في نفوس المتألمين لبلادهم، والمجاهدين لحرية وطنهم، وقد أورثتهم الحاسة الوطنية شعورا آخر يغذيها، وهو العناد، العناد الوطني الذي تمكن من وجدانهم وقوى من إيمانهم، وعلمهم أن ساعة يستسلمون للضعف هي ساعة موت معنوي لهم، وجحود لحق بلادهم عليهم، وأنهم ليفضلون أن يواجهوا أشد النكبات، على أن تحق عليهم صفة الجاحدين.
انتصر مصطفى النحاس على خصومه؛ لأنه ألقى بكل نفسه وقواه وعزمه وإيمانه في سبيل النصر، فكان له؛ لأنه ظل يحارب بهذه القوات غير المنظورة وهذه الجنود الروحية المستورة، قوات مادية لا قبل لها بالمحاربين المتدرعين بأرواحهم، المدافعين بنفوسهم وإيمانهم القوي المكين.
وقد ساعدته ظروف، ولكن خانته كذلك ظروف؛ فلم تكن الأولى هي وحدها التي نصرته، ولم تكن الأخرى هي كلها التي استطاع أن يتغلب عليها أو يحيلها إلى خدمته، ولكنه إنما انتصر في الجملة لأنه عول على الانتصار، وآمن من البداية بأنه بالغه فبلغه، وتلك عقبى الصابرين.
وقد وصف أمير البيان في الوفد - مكرم عبيد - الوطنية المصرية التي حارب مصطفى بها خصومه، فانتصر بها عليهم هذا النصر العزيز، فقال:
وطنية عزلاء، يخرج لها القوة المسلحة في جزع، وليس أبلغ من التسلح في معنى الهلع!
وطنية مرحة، طروب، حساسة، بلغت عند هذا الشعب الفنان مبلغ الفن الجميل، فكنا نسمعها وكأنها أنشودة حلوة مختلفة الأصوات، بين اللطافة والكثافة، وبين الخرير والهدير، وبين براءة أصوات الأطفال، وحلاوة أصوات النساء، ورهبة أصوات الرجال.
وطنية بريئة ولكنها جريئة، رأينا الأجنبي يخرج لها معجبا بها حانيا رأسه، والمصري يهرع لها فخورا بها رافعا رأسه، بل حاملا في كفه رأسه. وطنية صافية شفافة، رأينا خلالها الوطن معذبا، والعذاب محببا.
يا دولة الرئيس:
لك أن تهنأ يا سيدي الزعيم وأن يطمئن قلبك، فما دام هذا الشعب يقدر على مثل هذا الحب العجيب لوطنه وزعيمه، فهو يقدر على كل شيء، ولن يقف في وجهه أو في سبيله شيء.
أيها السادة:
أؤكد لكم أنني كلما رأيت هذه الوطنية تتجلى في كل مكان، نلقاها وكأنها تلقانا، ونشهدها وكأنها ترعانا؛ تملكني شعور عميق عجيب، أكاد لا أفقه له أمرا، أو أسبر له غورا ... ولعل ذلك لأنه شعور يجمع بين الدين والدنيا.
شعور بعضه سماوي؛ لأن فيه ابتهالا وحمدا لله تعالى، الذي أبقى على المصريين نعمة الإيمان بوطنهم، والبر بنهضتهم.
وهو أيضا شعور بعضه دنيوي؛ لأن فيه زهوة الفخر ونشوة النصر، ذلك أننا بعد عراك مع المستعمرين على وطنيتنا، وبعد تجاريب قاسية ضد مصريتنا، خرجنا من المعركة ظافرين بوطنيتنا ومصريتنا، فلم يمسس وطنيتنا الضر، بل جملها النصر.
والواقع أن التجاريب الاستعمارية منذ سنة 1919 حتى الآن قد قصرت همها على محاربة تلك الوطنية العجيبة، لا باعتبارها مجرد عاطفة، بل باعتبار أنها حركة وطنية عاملة قد اتخذت من الشعب جندا، ومن زعمائه وفدا.
ولكن المستعمرين قد أخطئوا الغاية فضلوا السبيل؛ لأنهم جهلوا أن حركتنا حركة روحية، فحاربوها بوسائل مادية من نار وحديد، وفاتهم أن حركات الروح قوامها جهاد، وغذاؤها اضطهاد.
ثم إنهم أخطئوا الهدف فصوبوا سهامهم إلى الوفد ظنا منهم أنهم متى دمروا الوفد فقد دمروا الشعب! ولكنهم أدركوا الآن بعد عدة تجاريب تعسة أن الوفد بالشعب وليس العكس، وأن كل كبير خرج على الوفد أصبح خارج الوفد مذموما مدحورا، وأن كل صغير بقي في الوفد أصبح بالوفد شيئا مذكورا.
إنما الوفد يمثل الشعب لأنه يمثل شعوره، ولقد أراد الله بالأمة وبالوفد خيرا أن يمثل شعور الأمة في زعامتها، وأن تمثل في الزعيم وطنية الأمة، وإخلاصها، وجرأتها، وصلابتها.
وجاء بعد محضر الليل فجر فاصل بين آخر أستار الظلام وأول مطالع النور، فتولى محمد توفيق نسيم باشا في الخامس عشر من شهر نوفمبر سنة 1934 مقاليد الحكم، وكانت الظروف جد دقيقة، والوطن في أشد الحرج، وزاد الموقف رهبا وخطرا اشتداد المرض بالملك، وإلحاح العلة على صحته. وكان أمام الحاكم الجديد التمهيد لعودة دستور الأمة ونظامها النيابي، فبدأ بإلغاء دستور سنة 1930، ولم يشفعه بإعادة الدستور الأصيل، وكان ذلك تصرفا لا ندري هل نحيل تبريره إلى دقة الظرف ذاته، أو إلى الملابسات التي أحاطت به، أو إلى عامل التردد والحيرة، أو مخافة الظرف السريع العاجل؟! ولكنه كان على التحقيق عن حسن نية، وإن جعل الدولة في خطر بعد أن باتت بغير دستور بتاتا، واقتضى من نسيم باشا التسامح للإنكليز في كثير من مطالبهم لقاء انصرافهم عن وضع العقبات في طريق عودة الدستور الذي ترضاه البلاد.
وفي هذه الآونة اشتدت المشكلة الحبشية الإيطالية، فرأت مصر فيها فرصة سانحة للعمل على استرداد استقلالها؛ فلم يلبث الاتجاه السياسي كله أن انصرف إلى فكرة التفاهم والتعاون بين مصر وبريطانيا، غير أن وزير الخارجية البريطانية في ذلك الحين - وهو سير صمويل هور - اتبع سياسة خاطئة بالنسبة للموقف الدولي لم تلبث أن زعزعت مركزه في بلاده، وجاءت سياسته بالنسبة لمصر واسترداد دستورها بتصريح متهور ألقاه يومئذ وهو يحسب أنه قد أحسن به، فعجلت بتركه منصبه، وأحنقت الأمة المصرية عليه، فهبت البلاد تنادي برد دستورها إليها، ونهض الطلبة الشباب بجانب صفوف الأمة يكافحون من أجل الدستور، فجرت حوادث خطيرة، ومظاهرات حماسية، وانتشبت معارك بين الطلبة والشرطة، واستشهد من الشباب فتية أذكياء وضحايا غالية؛ فلم يلبث وزير الخارجية البريطانية الجديد - وهو أنتوني إيدن - أن عدل سياسته بالنسبة لمصر، وأقر فكرة التفاهم والتعاون الصحيح، وكاد نسيم باشا يومئذ يترك الحكم ولم يرد على البلاد دستورها الذي عاهدها على إعادته، لولا أن أراد الله أن يكتب التاريخ له أسطرا مجيدة قبل ختام عمله السياسي، فوفقه أخيرا إلى رد الدستور إلى الأمة اللهيفة عليه، فانقلبت أتراح البلاد أفراحا، واستكمل النصر للمجاهدين.
وتولى بعد نسيم باشا مقاليد الحكم على ماهر باشا، وكان المفهوم أن تكون وزارته وزارة انتقال تدير الانتخابات، وتمهد للمفاوضات، وتسلم المفاتيح للحكومة الدستورية التي يتولاها زعماء الأكثرية في البرلمان؛ فأدار الانتخابات في سكون، إذ لم تعد تقتضي معارك ولا طلبت حرارة وطيس؛ فقد أغنى مسلك الوفد فيها عن ذلك كله، بأن ترك دوائر لرؤساء الأقلية بلا مزاحمين مراعاة لقيام الجبهة المتحدة التي تألفت من أجل المفاوضات، حتى لا ينشغلوا عن الاشتراك في المحادثات بمطالب الانتخاب، كما تسامح في تخلية السبيل لأحزاب الأقلية في دوائر معينة. وقد جاء الفوز في الدوائر الوفدية بالتزكية أو مجرد الترشيح بالغا، ومضت الانتخابات في الدوائر الباقية برفق وجرت بسلام.
وكانت المحادثات السياسية بين مصر وبريطانيا قد ابتدأت قبل قيام الانتخابات، إذ جرت حفلة افتتاحها في اليوم الثاني من شهر مارس سنة 1936 بقصر الزعفران، ولكن البلاد لم تلبث أن سرى القلق في جوانبها من اشتداد المرض على الملك، وكان الموقف خطيرا إذ نعي إليها في الثامن والعشرين من شهر أبريل؛ أي بعد ابتداء المحادثات بثمانية أسابيع، فهز المصاب الجلل البلاد هزا، ورج العالم السياسي رجة عنيفة، وكان ولي العهد يومئذ في لندن يتلقى العلم؛ فلما نقل النبأ الأليم إليه، حزن على أبيه أصدق الحزن، ولكن بدت عليه في الحال مع وقع المصاب روعة الملك وجلاله، وجلد الملك واحتماله، وأسرع إلى العودة إلى وطنه، والوطن حزين له يغمره عطفا ويحيطه بولاء.
وعلى أثر انتهاء الانتخابات وتعيين أعضاء مجلس الشيوخ الذين تتولى الحكومة تعيينهم، دعا البرلمان الجديد للانعقاد في 8 مايو سنة 1936 للنظر في تأليف مجلس الوصاية الذي ينص عليه الدستور حين يكون الملك صغيرا لم يبلغ سن الرشد بعد، فتم تأليف هذا المجلس الموقر من حضرة صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي توفيق وحضرتي صاحبي السعادة عزيز عزت باشا وشريف صبري باشا. وحان أن تستقيل الوزارة القائمة، فقدمت إلى مجلس الوصاية كتاب استقالتها في اليوم التالي، وهو التاسع من مايو، وعهد المجلس إلى زعيم الأكثرية الدستورية - وهو مصطفى النحاس باشا - بتأليف وزارة جديدة، فألفها في العاشر منه وسط ارتياح عام ورضوان سائد.
مصطفى النحاس والسير مايلز لامبسون: في حفلة افتتاح المفاوضات.
وتم يومئذ انتصار الأمة وفوز الوفد، فعاد إلى مكانه الدستوري في الحكم، وتولى مصطفى رياسته بجانب رياسته للأمة، وزعامته للشعب، وقيادة حركتها القومية، وخلافته لسعد مؤسس النهضة للحرية والاستقلال؛ بل عاد إلى موضعه الطبيعي من سفينة الدولة، حارس العقيدة والمبادئ، والحفيظ للدستور وقدسيته، والمتوخي الخير لأمته، يفكر فيه أبدا، ويعمل له جاهدا، في نزاهة بعيدة الحدود، ووفاء ثابت المعالم، وأمانة اعترف بها الجميع حتى خصومه السابقون، ووطنية حريصة على مصالح الوطن وحقوقه.
واجتمعت بذلك كله - بملك شاب يحب بلاده ويقدر ولاء شعبه، ووزارة شعب مخلصة للعرش وللشعب معا - ظروف موافقة، وعوامل مواتية، جعلت الحاضر يلوح جميلا مشرق الديباجة، بارع الاستهلال، باعثا على كبير الآمال في الغد المرموق.
وكان سير المحادثات قد وقف قليلا، ريثما تفرغ الوزارة من مطالب افتتاح عهدها الجديد؛ فلم يكد يتم ذلك حتى استؤنفت بين رئيس الوفد المصري وقد أصبح رئيس الحكومة أيضا، وبذلك اجتمع له في المباحثات صفة التمثيل القومي وصفة التمثيل الرسمي في آن واحد، وبين سير مايلز لامبسون المندوب السامي في مصر ورئيس الوفد البريطاني، وهو سياسي معقول ينزع إلى السلام، ويجنح إلى التوفيق، ويتطلع صادق النية إلى الظفر بمجد النجاح في قضية مصر التي عز حلها على الذين من قبله كان لهم غير أسلوبه ونزوعه وبعد بصيرته.
وكان الفريقان المتفاوضان قد تفاهما من البداية على أن يكون البحث أولا في المسائل التي ظهر في المفاوضات السابقة أنها أصعب من سواها وأشق معالجة، وكانت حجة الفريق البريطاني في وجوب تقديم هذه المسائل على سواها أنه متى تيسر تذليل أشق المسائل وحل أخطر العقد، سهل الوصول إلى النهاية المطلوبة، وأصبح النجاح مضمونا مكفولا.
بيد أن الذي كان يخشى منه هو أن البحوث المجزأة على هذه الصورة ربما أفقدت السياق العام الذي ينبغي أن ترتبط به المسائل كافة عند بحثها ، وأن علاج الأمور من أصعب جوانبها قبل الشعور بالطمأنينة التي تكتسبها النفس من الإحساس بأن مراحل كثيرة قد قطعت بنجاح، يعوزه الحافز الذي يعين على المواصلة، ويفتقر إلى الدفاع النفسي القوي الذي يساعد على اقتحام العقبات، ومهاجمة الصعاب، وتخطي الحوائل المتعددة.
ولكن بقوة الأمل، وشدة العزم، وعمق الإيمان بالنجاح، تقدم الفريقان إلى البحث في المسائل العسكرية، وهي أخطر نواحي المحادثات وموضوعاتها. وقد حوى الوفد البريطاني خبراء عسكريين من أكبر القواد في الفنون الحديثة وأسلحة الجيش والبحرية والطيران، ولم يكن مع الوفد المصري أحد من هؤلاء؛ إذ اعتمد مصطفى على معرفته الغزيرة في هذا الباب من المفاوضات السابقة، واستظهاره لكل صغيرة وكبيرة من مسائلها وشئونها، وقد جلس في قصر الزعفران عدة جلسات مع الوفد البريطاني جلسة باحث متمكن قادر يناقش ويباحث ويحاج بتلك البراعة السياسية العجيبة التي تجلت في سنة 1930، وبذلك الحرص الوطني على الحقوق الذي انماز به، والمرانة الطيبة التي تواتت له من قبل.
وتبودلت المذكرات واشتد الدفع والجذب، وظل مصطفى النحاس مستويا على ساقيه، معتمدا على قوة حججه، راكنا إلى إيمانه وصدق وطنيته حتى أمكنه بعد جهاد عنيف وتداول مستطيل أن يقرب من مسافة الخلف، ويتغلب على تفاوت مواضع النظر ووجوهه، مثبتا حسن استعداد البلاد لتوثيق عرى المودة بين البلدين.
وانتقلت المباحثات في الصيف إلى قصر أنطونيادس بالإسكندرية حيث تناولت المسائل الأخرى، وظلت تنتقل رويدا من دور إلى آخر وتتئد حينا وتبطئ حتى ليخشى عليها أن تقف أو تتحطم سفينتها وسط الشعاب والصخرات الناتئة، ثم تعود فتسرع فرحة نشيطة تحت ريح لينة وجو رخاء.
ولقد تجلت خلالها براعة المفاوض المصري السياسية على أحسنها، وبدا حرصه الجليل على حقوق أمته في أنضر مظاهره، وظهر زعيم البلاد وصحابه في مشاوراتهم ومداولاتهم الخاصة بسبيل الخروج من المآزق والتخلص من العقبات بمهارة شهد لها الفريق البريطاني، وكانت محل الإعجاب العام.
وفي أوائل أغسطس سنة 1936 تم الاتفاق بين الفريقين على الصيغ النهائية للمعاهدة؛ ففرحت البلاد بهذا النجاح الذي اقترن بها، وأقيمت البشائر ومحافل التكريم ، وآذن موعد السفر إلى لندن لإبرام المعاهدة رسميا، فجرى ذلك في قاعة لوكارنو التي احتوت مصطفى النحاس من قبل هذا فشهدته قويا حريصا صلب العود. وأعلن إبرام المعاهدة في السادس والعشرين من شهر أغسطس، فقابلت مصر هذا النبأ العظيم بأكبر الابتهاج وأشد الاغتباط وأبلغ الهناءة والرضوان.
وبذلك تم على يد مصطفى النحاس وفي عهد زعامته، وبفضل حكمته وقيادته الوطنية، وحسن توجيهه لحركات الجهاد ومطالبه، وثمرة نضاله الصادق، وكفاحه المستطيل، وشدة تجلده لأعظم المتاعب، حتى لا نعرف أحدا قاسى في جهاده مثل مقاساته، ولا كابد في خدمة بلاده مبلغ مكابدته ... بذلك تم على يديه أعظم عمل وطني خليق بالتمجيد، وأكبر حسنة قومية تستحق التخليد ويفرد لها التاريخ أنصع الصفحات.
وما كان أبلغ منطق وزير المالية في عهد الاستقلال، معالي مكرم عبيد باشا، النفاث السحر، المختلب الألباب، وهو يقول في تقدير المعاهدة بميزان الحق والإخلاص: «مهما تكن قيمة المعاهدة، فهي لا تزيد على أنها وثيقة، أما الاستقلال نفسه فوثيقة وحقيقة، والحقيقة بين أيديكم ومن صنعكم، فلو أننا توافرنا وتضافرنا على تنفيذ المعاهدة تنفيذ جد وصدق وشرف، لأدت الوثيقة إلى الحقيقة التي هي النتيجة الطبيعية والمنطقية لها.
أما إذا آثرنا على الاتحاد التخاذل، وعلى العمل التفاضل، فما من وثيقة في الدنيا تنفعنا! بل ما من حقيقة تبقى لنا. وها هي ذي الحبشة التعسة قد أضاعت استقلالها التام بين عشية وضحاها، رغم عطف العالم وجمعية الأمم، فكانت عبرة للمعتبرين.
ذلك أنه لا يكفي أن يعترف الغير بأنك مستقل، بل يجب أن تكونه؛ ولا يكفي أن تكسب الحق، بل يجب أن تصونه.
ومن أكبر مزايا المعاهدة الحالية أنها تسمح لمصر بأن تحتم عليها، إذا شاءت أن يكون لتحالفها قيمة، أن تقوي جيشها، وتعزز طيرانها وجميع معداتها الحربية؛ لتكون خير عون لنفسها ولحليفتها، وتحتفظ بين الأمم بمكانتها.
أيها الإخوان:
كان شعارنا قبل استقلالنا أن الحق قوة، فليكن أيضا شعارنا في استقلالنا أن القوة حق.
ولا تحسبوا أيها الشباب الكريم أن أبواب الجهاد قد أوصدت دون العاملين ، كلا، فلقد جاهدتم للاستقلال ، فعليكم الآن أن تجاهدوا بالاستقلال، ولو أن الاستقلال كان آخر مطامعكم، لما حمدنا لكم صنيعكم، بل الاستقلال بداية لا نهاية، فهو السبيل إلى التعمير والبناء، فارفعوا إذن أبصاركم إلى السماء، وشقوا إلى المجد طريقا في الجوزاء ... تلك سنة الطبيعة، سنة النشوء والارتقاء.»
واليوم لم يعد للمتشككين أن يتساءلوا كيف يتسنى للحق أن ينتصر إذا كان الباطل مجتمع القوات عليه، فإن قوة الإيمان بالنصر تقضي على كل تردد، وتجهز على كل جحود لقوة الحق ونكران؛ فإن الله في السموات هو أبدا للحق نصير؛ لأن الحق هو صفة من صفاته، وكلمة من كلماته، وهو الذي يمد للباطل أو يمهله، وقد يرجئ مصرعه أو يؤجله، حتى ليحسب الباطل أن دوام السلطان له، ويتوهم أهله أنهم سيظلون الأقوياء به، ولكن الله يحرس الحق؛ لأن جلاله من جلاله، وينصره على الباطل يوم يشفق الناس من طول غيابه، ويحسبون أن الباطل أمسى منيعا بجرأة أصحابه، ويعلم الناس ألا ييأسوا من ظهور الحق؛ لأن مع الحق الأمل، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
إن كل ما يقوم على الرمال ينهار، والباطل ضعيف وإن وجد الأسناد والأنصار، والحق مكفول الفوز في النهاية، وفي الخاتمة حتما نجاح للحق وانتصار، وإن في السماء لقدرا يرعى المجاهدين.
وقد نجح مصطفى النحاس لأنه كان على الحق، وفاز مصطفى النحاس لأنه جاهد بنفسه جهاد صدق، وأحسن توجيه أمته إلى الجهاد وحومته، وعرف كيف يجتاز بالشعب الصبور المكافح أقسى مراحل الكفاح الوطني وأشواطه. وقد مضت به الأعوام الرهيبة وهو على ذروة الزعامة قائم، وإن استهدفت زعامته لأحقاد وإحن، وتعرضت لخطوب ومحن، واصطلحت عليها العداوات من كل جانب، وتنكر لها حتى من كانوا على صلة وثيقة بها، وقلما تعمر الزعامات في عهود الانقلابات والاضطرابات، إذ تتطاحن فيها الأهواء، وتجمح خلالها الشهوات، ولكن مصطفى النحاس قطعها جميعا وهو متمكن من موضعه، متملك عواطف جماهيره وملايينه، ولن يزحزحه على السنين عن زعامته شيء؛ لأنها ثمرة قوة إيمانه، ولأنه قد أوتي عند المصريين الحب، وتجاوبت بينه وبينهم أرفع مبالغ الإحساس ومشاعر القلب، ولأنه الواضح المستقيم، الجلي المفهوم، والوضوح في الزعامة سر حب الناس لها والتفافهم حولها؛ لأنهم لا يضلون عندها في شعاب مترامية، ولا يقفون حيالها متشككين مترددين.
إن الذين يتصلون بمصطفى النحاس باشا، من قرب أو بعد، يفهمونه وشيكا، ويحسون له الولاء سريعا، فيسكنون إليه، ويتلاقون عند محبته، إذ لا يجدون حيالهم مشكلة عصية ولا معضلة متأبية، كلما حلوا طرفا منها ذهبت الأطراف الأخرى معقدة ملتوية، وكلما فكوا سببا ظاهرا، تعقدت أمامهم أسباب خفية؛ وإنما يشهدون قبالتهم خلقا عذبا كالماء، ورأيا مستقيما لا يعرف التواء، ووطنية صراحا يشدها الوفاء، وإيثارا يجمع إليه المخلصين. وإن الزعيم ليحمل في أعماقه سر زعامته، وعلى صفحته الواضحة دلائل مكانته، ومن قلوب الناس على الوفاء له أكبر البراهين.
ومن كان محله فوق منال التهم، فلن تضعه ريبة، ولن تصل إليه مسبة، بل كلما أرادوه بمكرهم، زاده المكر السيئ في قومه مكانة ومحبة؛ وكلما تحركت الدسائس عليه، سكنت النفوس إليه؛ وكلما حاول خصومه أن يضعوا من شأنه، راح هو الرفيع العلي بمكانه ... ولن ينتفع امرؤ بالتهم والأكاذيب قدر ما ينتفع بها الرجل العظيم.
وقد أدى مصطفى النحاس رسالته للجيل الحاضر، فأنقذ مصر من معرة احتلالها، ورد إليها عناصر استقلالها بعد أكثر من خمسين سنة قضتها معذبة تجرر القيد وترسف في الأغلال. وقد زرع مصطفى النحاس، فليحصد الناس، وإذا كان للجيل القادم، وللشباب في هذه البلاد والناشئة، من مهمة مقدسة، وغاية سامية، ورسالة عالية، فتلك هي الوقوف بجانب زعيمها، ومظاهرته على تأدية الرسالة المكملة لها؛ فإن الحاضر قوي صالح يحوي كل عناصر الرجاء في الغد وفضله وإحسانه، والمستقبل وإنشائه وبنيانه، بل إن واجب الجيل الناشئ هو في التمييز بين الضياء الحقيقي والنور الخادع، وفي إبقاء وهجه سنيا، والعمل على جعله مديدا مشعا أبدا متراميا، وتسليمه إلى الجل القادم من بعده في تسلسل الأجيال أسنى مما كان في كفه شعاعا وبريقا وسناء يغمر جوانب الحياة.
إن عناصر العمر يجب أن تكون كلها في جانب مصطفى النحاس؛ لأنه ناب عن الماضي بأروع أحداثه، وقام عن الحاضر بكل جهاده ورفعة إحساسه، وحرص على حقوق الغد بكل قوة الوطنية الصادقة، وعمق الإيمان، وسلامة اليقين.
مصطفى النحاس وتوافر صفات الزعامة فيه
من هذه الصورة الصادقة التي صورناها للناس في هذا الكتاب بسبيل ماضي مصطفى النحاس، ومعالم شخصيته، ونقاء سيرته، والحوادث الجسام التي وقعت له في حياته وخلال زعامته، تتجلى طائفة كبيرة من الصفات التي تتوافر في الزعامة، وجملة من أسرارها ومعانيها، ولولا هذه الصفات والمعاني لما وجد مصطفى في الناس هذا الحب الذي يحيط به، والولاء المستمر الذي يحفه؛ بل لولاها لما جلد على حمل اللواء، ولما ثبت على شأنه في كبار الحوادث، وصنوف التجربة والبلاء، فقد كان كل هم إنجلترا وصنائعها في مصر أن يحاربوه ليسقطوه، فحاربهم هو قائما مستويا على ساقيه، فصبر وسقطوا، ونجح وفشلوا، فكم من فريات اصطنعت عليه، وكم من وسائل استعين بها على أمل النيل منه، وكم من هجمات عنيفة وجهت إليه، ورسالات جرأة وكذب وإفك لا تزال تنشر في الصحف الساقطة عنه، بأقلام باعة الضمائر وخربي الذمم والحاقدين والموتورين!
ولكن كل ذلك فشل وعاد بيأس، فقد حطمته هذه الزعامة الفاضلة الرفيعة المختارة من السماء؛ إذ عرفت الأمة من هو مصطفى النحاس، ومن هم أعداؤه وخصومه، وأدركت أن هؤلاء كان ينبغي أن يروحوا آخر من يمارونه في فضله، أو يدفعون للوقوف حياله، وآمنت أن أمثالهم لا يصح أن يقارنوا بمثاله، حتى يمكن أن يختلف الناس لمن يجب الولاء، أو حتى يجوز أن تتشكك الجماهير فيمن ينبغي لهم الحب والطاعة والوفاء.
ولقد أوتي مصطفى النحاس من النشأة والتكوين روح النشاط وقوة الأعصاب، فظهر في قوة جلده وشدة احتماله وتصميمه وإصراره، وشجاعته في مواجهة الخطوب وثباته، وهدوئه في الحادثات وسكينته واستقراره، وجرأته الرفيعة على الاضطلاع بالمسئوليات وتحمل التبعات، وسخريته من الشدائد يلقاها أبدا بابتسام، وينظر إليها غير جازع ولا متراجع.
ونحسب حبه للرياضة قد نمى في نفسه روحا رياضيا يغذي هذه الصفات البارزة فيه ، ويتعهد هذه الملكات الغزيرة لديه؛ لأنه من الصبا مال إلى الرياضة، وألف حتى وهو في سلك القضاء، قضاء إجازته السنوية على ساحل البحر، في الإسكندرية أو رأس البر، وهو يومئذ شاب مكتمل القوة، خفيف الحركة، نشيط المراح والمغدى، يحب المرح والضحك واللهو البريء، ويرسل ضحكاته مجلجلة في الفضاء مستطيلة الرنين، ولا يزال إلى اليوم يحب الرياضة، فينزع إلى السباحة، و«التنس» - على ما سمعت - ويدع سيارته على الطريق وينطلق ماشيا في كل يوم فترة، ثم يعود فيستقلها إلى وجهه.
وقد حدثنا من شهده وهو قاض يرتع في رأس البر في إحدى السنين قبل اتصاله بالوفد، فوصف لنا كيف جعل بعض الوقت يلعب «الطاولة» مع صديقه المرحوم المكباتي بك. وكان المرحوم حسين رشدي باشا رئيس الوزارة يصطاف بذلك الموضع كذلك، ولو رفع حجاب الغيب يومئذ عن الأبصار لقال قائل وهو يشير إلى تلك الحلقة من رجالات مصر: سوف يلي هذا الفتى القاضي رياسة الوزارة في الأسبوع ذاته الذي يقضي فيه هذا الشيخ الوزير نحبه! بل من كان يومئذ يدري أن نبوءة لرشدي باشا في شأن ذلك الشاب سوف تتحقق على الأيام، وسوف تصح على صورة عجيبة، حتى ليكون الفتى المتنبأ له هو الذي يخلف على كرسي الحكم ومقعد السلطان ذلك الشيخ المتنبئ صاحب الفراسة الصادقة فيه؟! فقد اتفق لمصطفى أن جاء دوره في امتحان المرافعات بمدرسة الحقوق في إحدى السنين أمام المغفور له حسين رشدي باشا، وكان رئيس اللجنة الممتحنة، فسأله عن الكفالة؛ فأجاب مصطفى إجابة طيبة مسهبة تدل على فهم وسعة اطلاع، فأعجب رشدي باشا به، ولم يكد مصطفى يفرغ من الجواب حتى دار رشدي باشا بعينه إلى أعضاء اللجنة قائلا لهم بالفرنسية، وهو يشير إلى الطالب الواقف في حضرتهم: «إنه لجبار» (C’est un gaillard, celui-ci)
فاغتبط مصطفى يومئذ بهذا التقدير من رجل القانون الكبير، وسر بهذه الشهادة أبلغ السرور.
وقد أكسبه الروح الرياضي بجانب النشاط وصلابة الأعصاب وقوة الجلد وما ينفرع عنها من المزايا النفسية الأخرى التي ظهرت فيما حدثناك به من سيرته ومراحل ماضيه، النزعة إلى المرح، ولطف النكتة، والتفتح للحياة ورقة الحاشية، وإن له لكلاما حلوا يرسله على سجيته، في وسط أحاديثه أو خلال خطبه، فيملأ الندي سرورا، ويقع من القلوب موقع الماء العذب من ذي الغلة الصادي، ويجيء فجأة فتكون له لذة المباغتة البديعة.
وامتزجت الروح المرحة من النشأة فيه بالنزعة الدينية، التي تمكنت منه على الحداثة، بفضل الوسط الأول الذي احتواه، والوراثة التي انتقلت إليه، فجعلت منه على الرجولة زعيما متدينا، أكبر اعتماده على إيمانه بالله ويقينه، وما أعظم أن يكون الزعيم الوطني مؤمنا! وما أجل أن يكون الرئيس السياسي عابدا تقيا! فإن النهضات الوطنية لا تعدو كونها إحساسا قويا من القلوب؛ فإذا اتصل أكبر قلب فيها بالسماء، استمد قوة أخرى غير قوته في الأرض، واكتسب من الإيمان الديني سندا عظيما لعقيدته الوطنية في الناس، فإذا هو رمز الوطنية والفضيلة معا؛ لأن الدين هو مجموعة الفضائل، وصفوة الأدب العالي، وجملة الخلق الكريم.
ما أجمل الزعامة الوطنية وهي في ثوب الإيمان! وما أقوى أثرها وهي البادية في أنصع أبراد العبادة والتقوى! إن للعبادة الدينية صلة وثيقة بقوة الشعور ومتانة الإحساس، وقد كانت أزهى العصور في التاريخ هي أيضا عصور العبادة والإيمان ... كذلك كانت الحركات الوطنية، وهكذا ازدهرت الحاسة الدينية، يوم ظهرت المواهب العالية، ونبت النبوغ الجليل وبدا الشجعان والعظماء والأبطال؛ إذ كانت النفوس جادة، والأرواح حاصرة كل خواطرها ومشاعرها في التماس الحقائق، ومواجهة الواقع، قابضة عليها في مثل قبضة الكف على السيف، أو إمساكة اليد بالقلم، وأقوى العظمة ما التمس مورده من أعلى هضبات الفضيلة، ولكل نصيب من فضل وحصة من قوة وبأس، ومقدار من طهر حس، مكانه من التأثير، ومبلغه من النفوذ والسلطان.
ويوم يعتقد الناس في رجل هذا السمو في الشعور، وهذا التفوق عليهم في صلته بالسماء، لا يعودون يعرفون حدودا لما يرتقبون من فضله، ويتوقعون من هداه، وينتظرون من مثله الأعلى ومناه ... هو أقرب منهم إلى سر الله، وأوثق سببا منهم بقدرته وحكمته ... هو يرى ما لا يرون، ويبصر غير الذي يبصرون، وهو ممتلئ وهم في فراغ، وهو الطاهر النقي وهم في الدنس أبدا والرجس، وهو السميع إلى حكمة الكون وهم الصم عنها لا يسمعون.
إن للإيمان الديني قوات خفية، وللزعامات الوطنية قوات ظاهرة، فمن تجتمع له هذه بتلك كان القاهر الذي لا يقهر، والمنتصر الذي لا ينهزم، والفائز الذي هيهات أن يندحر ... هو الزعيم الذي لا يعرف «ربما» ولا يغامر لتقف كرته على الأحمر أو الأسود، ولكنه الواثق بنفسه، الراكن إلى فاطرها، وهما قوتان لا تفشلان؛ لأن لهما جنودا تتبعهما في ثياب مستعارة، وأشكال متنكرة، كالشرطة المتخفين والأرصاد في غير مألوف ثيابهم، يحفون من حوله حارسين.
إن جميع الفضائل التي تصاحب الإيمان الراسخ، وتمشي في حاشية التقوى الرفيعة، وتجري في مواكب العبادة القوية الطاهرة، هي مظاهر الكل في جزئياته ... ومعاني العنصر الأول، وهو الخالق في دقائقه وذراته، وهم مخلوقاته. ومن يؤمن بأنه على الحق، ومن يجاهد دائبا له، ومن يسأل رضى الله عنه ومعونة السماء له، يسبغ على من حوله أثرا من نفسه، ويلهم الحافين من حوله معنى من بعض معانيه؛ مثله كمثل الزهر إذا أينع انبعث شذاه الفياح فعطر أنفاس محيطه، وزكى الفضاء بأرجه، وأفعم الهواء بعبقه يملأ به صدور المتنفسين.
لقد أتاح الله لنا في مصطفى النحاس زعيما به مؤمنا، ورئيسا وطنيا به دائنا، وفي ذلك قوة أخرى بجانب قوات جهادنا، ومناعة من اليأس والوهن تجتمع إلى مناعتنا كأمة شابة مستبسلة وحصانتنا. وبفضل إيمان زعيمنا نجونا من تجربة أعدائنا، وظللنا نكافح إلى الآن بثباتنا وثقتنا بالله وقوة صبرنا ومراسنا. وما دمنا مع مصطفى النحاس، وما دام هو المستلهم السماء من أجله وأجلنا، فلن يقهرنا خصومنا، ولن نغلب على أمرنا، مهما تألبت علينا جموع الأعداء والمحاربين.
ولقد تقدم بنا في الجهاد على لحن إيمانه، وساق بنا إلى النصر على حداء وجدانه، ففاز في كل خطوة خطاها بمعنى جديد من معانيه؛ كلما اشتدت الحلكة على طريقه لتغريه بالعدول عن مسيره والرجوع عن وجهه، انبثق الضياء فبدد الظلام ودياجيه، وكشف عن جديد من فضائح خصمه ومخازيه؛ وكلما وسوس الأمل في صدر أعدائه أنهم قد تمكنوا منه، أو كادوا يتغلبون عليه، دهمتهم داهمة من القدر، وفاجأتهم مفاجأة جديدة من السماء، فانقلبوا من بعد الأمل يائسين.
كل قوى الشر والطمع والحقد والبغضاء والأثرة والكيد تحارب هذا الرجل الفاضل حتى الساعة بشر ما تكون الأسلحة، وأشنع ما يستخدم من الأساليب، وهو الصابر المطمئن القوي بإيمان الأمة به وإيمانه هو بربه؛ قوتان لا تغلبان ومعنيان لا يقهران، وسلاحان يفلان سائر أسلحة الباطل وأهله الضعفاء به، وإن ظنوا أنهم قد أمسوا على حربه ودحره قادرين.
حكومة النحاس في حمى الله، وزعامة النحاس في حمى الأمة، وكفى بهذين واقيا، وحسبه هذين اعتماد المعتمدين.
وقد يختلف مصطفى عن سعد في قوة الخطابة، فقد جاء سعد مفوها ساحر الكلم متدفع المنطق، ولكن خليفته اكتسب البراعة الخطابية اكتسابا من صناعته الأولى، وهي المحاماة؛ ومن نزعته البارزة فيه، وهي الميل إلى الأدب، وتذوق اللغة، والتجافي عن اللحن، والحرص على سلامة الأسلوب وإقامة اللفظ على صحته. وقد يكتب أحيانا فيكسو ما يخرج من قلمه غلالة من سلاسة المنحى وسهولة الأسلوب. ولعل أبرز ما كتبه في أحكامه ومذكراته حين اشتغل بصناعة القانون، فقد جمعت هذه الأحكام والمذكرات إلى الفقه القانوني وعمق البحث، روح الأدب وحسن الأداء.
ولصوته إذا خطب رنة موسيقية تحس عند المقاطع أو الكلام الهادئ؛ فإذا تحمس وحميت مشاعره، استفاض وتدفع وجلجل صوته فتملك الأسماع وهز القلوب.
وقد أوتي زعيمنا حنانا على أهله، وعطفا على صحبه، واشتراكا بالعاطفة مع أنصاره وأعوانه والمنتمين إلى الوفد، من صغير أو كبير؛ حتى ليتفقد شئونهم في الضراء، ويعودهم في المرض، ويعزيهم في الحداد، ويفرح لفرحهم، ولا يتردد في مشاطرتهم ما بهم، وغمرهم بالرفق والتعهد والحنان.
ومن يتأمل معارف وجهه يحكم من ذلك الرأس الكبير والجبين العريض بقوة ذهنه ومتانة عارضته، بل إن كل خلق الزعيم باد ثم على أروعه؛ ذلكم رجل مطمئن إلى نفسه، ساكن إلى إرادته ، راض عن إبائه، يتأمل ما فعل، ويراجع ما وقع فيستريح خاطره إليه وضميره، ويقره عليه مبدؤه وفكره. وإن في شكل الشفتين لمعنى الحزم، ودليلا على قوة الإقدام وشدة الإصرار والاعتزام، كما أن في مجموع الوجه ذاته مظهر الصلاح، وسمات النزاهة وقوة الروحانية، وطابع الفضيلة، وظل الاستقامة. ومن لم يعرف مصطفى على الحقيقة، فقد يعرفه من صورته على الخيال وبالإحساس والاستقراء.
هذا رجل قد جرد نفسه من رغبات الذات ومشتهياتها، فأصبح لا يطمع في شيء خاص، ولا يتوخى مأربا لشخصه؛ لأنه وصل إلى آخر حد يتطلع أحد إليه، وأكسبته الزعامة مناعة من المآرب الذاتية ودنيا الغايات، فليس عجيبا إذن منه إذا هو أنكر ذاته؛ لأنها استكملت استقلالها، وراح يهبها بجملتها لبلاده حتى تستتم بعد المعاهدة أقصى مطالب الاستقلال. •••
وبعد فهذه رسالة ألهمها الحب؛ لأني لزعيمي محب، وأوحى إلي بها الإيمان؛ لأنني بقائدي الوطني مؤمن. ولو تركتني على سجيتي لاستفضت أكثر مما استفضت، ولكني أقف الآن عند هذا الحد معتقدا أنني - بإذن الله - عائد إلى المواصلة من حيث وقفت في رسالة أخرى، يوم يتم مصطفى النحاس رسالته الثانية، وهي تدعيم الاستقلال والبناء للغد، وإنه لواجد في ذلك العون من الله والتوفيق.
القاهرة في 25 من مارس سنة 1937
عباس حافظ
Page inconnue