132

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genres

وقد أثبتت الحوادث في خمس سنوات متعاقبة خلال زعامة مصطفى للأمة ورياسته للوفد وقيادته لصفوف الشعب وجموعه أن مصطفى قد وهب حياته كلها لحراسة الدستور، وحماية الحكم النيابي، غير منثن أمام كل تلك القوات المعادية التي وقفت متراصة حياله لتصد تياره، ولا يائس من استرداد دستور الأمة بعد إلغائه، بل لقد بنى سعد الديمقراطية في مصر، وجاء مصطفى ليتولى حراستها؛ فكان الحارس الثقة الأمين.

ونجحت الديمقراطية من بدايتها، وصحب قيام البرلمان في سنة 1924 توفيق كبير، وأثمرت الحياة النيابية ثمرات طيبة، كان من بينها إصدار قانون الانتخاب المباشر، وراح سعد يعد العدة للمفاوضات التي ورد ذكرها في خطاب العرش؛ وإذا بمكيدة حقيرة تدبر لاغتيال حياته وهو يوشك أن يركب القطار في الثاني عشر من شهر يوليو سنة 1924. وقد تلقى سعد حركة ذلك المفتون الطائش الذي صوب الرصاص إلى صدره بأروع ما تكون الشجاعة مظهرا حيال الموت وخطره، ورجفت البلاد من شناعة الحادث بقدر ما أعجبت برباطة جأش زعيمها العظيم، وبدا هذا الحادث يومئذ بوادر رجعية شريرة قاتلة مجرمة تعمل تحت جنح الظلام.

وأخفقت المفاوضات التي جرت بين سعد وماكدونالد؛ إذ جرى هذا معه على منهج كرزون من قبله وملنر، وظن أنه مستطيع أن يتغلب على سعد؛ فأبى سعد التسليم ورفض المفاوضات وفيا أبيا، وعاد إلى بلاده مرفوع الرأس كريما على نفسه وبلاده.

وعلى أثر عودته كثرت الدسائس واشتدت المكائد للدستور والحكم النيابي، وكان حسن نشأت باشا يومئذ وكيلا للديوان الملكي؛ ففكر سعيد مليا في الأمر ليجد له علاجا حاسما، فكانت مشورة مصطفى في هذا الموقف الخطير أنه يجب أن يصان الدستور قبل كل شيء، وينبغي الحرص على قدس النظام النيابي قبل كل اعتبار، وأنه إذا لم تجب المطالب التي تتقدم الوزارة الدستورية بها إلى الملك، فلا ينبغي البقاء في الحكم لحظة واحدة.

وعمل سعد برأي مصطفى، فذهب إلى القصر في ذلك اليوم المشهود الذي اجتمعت فيه ألوف مؤلفة من الخلق في ساحة عابدين وهم يهتفون هتافا دواما مدويا: «سعد أو الثورة»، فقدم مطالب الوزارة إلى الملك مهددا بالاستقالة إذا هو لم يجب إليها.

ولكن تلك المطالب أجيبت، فخرج إلى الجموع الحاشدة في الساحة فائزا منتصرا، وارتد أعداء الدستور خاسرين.

وفي هذه الوقفة الجليلة اجتمعت مشورة مصطفى وشجاعة سعد، فتناسبتا وتشابهتا روعة وجلالا. وكانت تلك المشورة وليدة إخلاص متناه للفكرة، وسمو أدب في الوطنية السياسية، ووفاء عظيما للدستور، لا يتردد أمام أي اعتبار شخصي، ولا يتخاذل حيال أي واجب كبير، ولا يخشى جاه الحكم أن يزول عنه، أو أعنة السلطان أن تذهب من كفه؛ وهو لم يمكث في مقعد الوزارة غير بضعة شهور، وما هو بالغني العريض المال حتى يتطوع للتخلي عنه، ولا يبالي تركه؛ ولكنه كان الوطني المؤمن بالدستور الحريص على النظام النيابي، فلم يلبث حرصه على الدستور أن تغلب عنده على كل عامل سواه، فرضي ترك الحكم ونصح باستقالة الوزارة، إيثارا للدفاع عن الدستور والذود عن قداسته، على كل مغريات البقاء في الحكم والتشبث بالنفوذ والسلطان.

وكان مسلكه في وزارة المواصلات مسلك نزاهة رفيعة؛ إذ كان المعتاد قبل قيام وزارة الشعب الأولى أن يتقاضى كل وزير أربعين جنيها بمثابة «بدل سيارة»، فلما جاءت الوزارة السعدية وقف النحاس بين زملائه يقول: «إنني أقلكم مالا، ولكني متنازل عن مبلغ الأربعين جنيها التي تدفع لنا»، فلم يكن من الوزراء إلا أن استجابوا له، واحتذوا حذوه، فألغي المبلغ من الميزانية إلى أن جاءت الوزارة الزيورية فاستعادته.

وظهر من حرية رأيه يومئذ ما كان حديث الناس في المجامع، وموضع تقدير حسن عند الناخبين؛ فقد وقف في أهل دائرته «سمنود» يخطبهم خلال الحركة الانتخابية ، وكان منافسه فيها يومئذ علي المنزلاوي بك، فقال: «من منكم يرى في انتخاب علي بك المنزلاوي مصلحة لوطنه ولا يقدم على انتخابه مجاملة لشخصي، أو مراعاة لأي اعتبار آخر، فإنه يكون مجرما في حق بلاده!»

ولعل هذا أندر ما يسمعه الناس في المعارك الانتخابية، من قول المتنافسين، وحجج المتزاحمين؛ فإن أكثر ما يكون خلالها تراشق بالسباب، وسلق بألسنة حداد، وكشف للستر وهتك للحجاب، ورتع في لحم الخصوم، وإبراز للعيوب والسيئات.

Page inconnue