وكان من الطبيعي عقب قيامه لأول عهد البلاد به في عصرها الحديث أن يحسب له حساب الفترات الأولى من البداية حتى ينهض على ساقيه، ويستتب الأمر له، ويستقر على أوطد قواعده، كما كان شأنه في الأمم قبلنا. تعثرت به في بداية الأمر وأخطأت، وامتحنت فيه بدروس متعددة وابتليت، فكان لذلك كله قيمته في تعزيز معانيه، وغرس أصوله والتمكين لبنيانه، وأثره العميق في تأصل روحه، وارتفاع شأنه عند الشعوب التي ارتضته أساسا للحكم فيها، وعملت على الاحتفاظ بناموسه، مهما كلفها ذلك من تجاريب واختبارات ومغارم وتكاليف فادحة.
كان ذلك طبيعيا لو أنه جرى عندنا على ما قد جرى عند غيرنا، ولكنا حوسبنا على الخطأ من أول الأمر ولم يكن خطأنا؛ بل لقد حوسبنا حتى على التجاريب المناوئة التي اصطنعت لمحاربته، وعلى وسائل المقاومة والمؤامرات التي كيدت له، واتهمنا بأننا لا نصلح له، واتهم هو بأنه لا يصلح لنا، مع أن الفترات التي استطاع هذا النظام - على قصرها - أن يسير فيها هادئا خالي الطريق من العقبات، والتي تيسر لها خلالها أن نسكن إليه، ونطمئن إلى قيامه، كانت أدل شيء على مبلغ استعدادنا الكبير لمطالبه، وأقطع برهان على صلاحيته لهذه البلاد.
لقد آمنت البلاد من مشاهدة الثمرات البواكير للحكم الدستوري وأيقنت من اختبار نتائجه الأولى، أن هذا النظام هو وحده الذي ينبغي لها؛ لأنه هو المبرز لمشيئتها، والمظهر لإرادتها، والممكن لها في الاستمتاع بكل ما تستمتع به حر الأمم ومستقل الشعوب.
لقد ظن الإنكليز في السماح لنا بالدستور مع تصريحهم المشهور أنه سوف لا يلبث أن يفرقنا طرائق وشيعا، ويقسم بعضنا على بعض جماعات وأحزابا، ويفسد علينا وحدتنا التي جمعتها الثورة وهيأتها، وأننا سوف ننشغل بالاشتجار عليه فيما بيننا عن الكفاح حيالهم من أجل قضيتنا؛ ولكن الدستور في الحق، وإن أدى إلى بعض هذا أو شيء منه، قد بر بنا، وحفظ وحدتنا، وأبقى على إجماعنا، وأثبت قوة صفوفنا، ومبلغ إيماننا؛ لأنه كما سبق أن بينت غربل الحياة المصرية غربلة، ونقى الحياة تنقية، فأبقى على الصالح الجيد المخلص النافع، ونفى من حظيرته الفاسد والمدخول والغريب والضار المؤكد الأذى، ولم يلبث أن أصبح هذا الدستور الذي ظنه خصومنا أداة هلاكنا السياسي، أداة نجاتنا، وسبيل إنقاذنا، ومحل مناعتنا، ومستودع قوتنا، فذهبوا من ذلك الحين يضمرون السوء له، ويعملون على محاربته، ويستعدون وسطاءهم وأعوانهم على تعطيله وتشويهه أو محاولة محوه محوا، وذهبنا ندافع نحن عنه قائما بكل قوانا، ونقاوم في سبيل استرداده إذا هو يوما تعطل أو غاب أو بدل تبديلا.
وقد يحسب قصار الأبصار أن العراك على الدستور قد شغلنا عن الكفاح طويلا عن الاستقلال، ولكنه حسبان المخطئين؛ لأن المعارك الدستورية كانت في ذاتها معارك للاستقلال؛ لأن الدستور ظل أبدا طريق قضيتنا، وسبيل أمانينا وعلالتنا، والباب المفضي إلى حقنا الطبيعي في الحياة.
وكان سعد زغلول الزعيم الدستوري الذي مكن لجذور هذا النظام من التأصل والتغلغل في صميم حياتنا، وكان هو الباني لصرح حياتنا النيابية وهيكلها العظيم؛ فقد أظهرته الطبيعة يومئذ رجلا جديدا في الواقع، وزعيما عجيبا، كأنما كان طويل العهد بالروح النيابي، عريق المحتد في الدراسة البرلمانية، واسع العلم بأوضاع هذا النظام وتقاليده ومطالبه؛ إذ كان أول من ألغى «الأقدمية» في تقلد المناصب، وأول من أثبت حق النبوغ في الاستباق، وأول من أقر «الكفاءة» ووجوب تقديمها على كل اعتبار.
لقد أعطى سعد زغلول أمثلة جريئة، وخطا خطوات قوية في سبيل تعزيز الديمقراطية، فجعل من «الأفندية» وزراء، وحطم بذلك القيم المظهرية التي كانت «للباشوات»؛ وأثبت للشعب أن المخلص يجد أرفع الأمكنة، مهما كان في الأصل موضعه؛ وأن الكفء يظفر بالمحل الخليق به، مهما كانت من قبل درجته، وقد كان تقرير هذه القاعدة في بداية الأمر مستغربا، حتى إن فريقا من المستشارين في وزارة الحقانية نكروه وتبرموا به، وصارحوا سعدا برأيهم في شذوذه، واستنكارهم لخروجه عن المألوف؛ إذ لم يكن أحد يومئذ يتصور أن محاميا من عرض المحامين يصبح وزيرا للقضاء، ولكن سعدا الديمقراطي العظيم لم يعتد بغضبهم، ولم يحفل استنكارهم، ومضى في التمكين للديمقراطية غير متخاذل ولا متردد.
وفي مجلس النواب لم تلبث مع هذا الحافز الجديد، وعلى شكة المهماز في الخاصرة، أن ظهرت نباغات باكرة، وتجلت كفايات سريعة، وبدت استعدادات خصيبة للروح النيابي الجديد؛ حتى لقد كان موضع العجب أن تنبغ الحياة الدستورية هكذا وشيكا لدينا، ويظهر التقاطنا الزئبقي لجوهرها وحسن تقاليدها وعرفان أوضاعها في تلك الفترة القصيرة العاجلة من التجربة والاختبار.
وفي الوزارة الديمقراطية المحدثة تقلد مصطفى النحاس القاضي السابق منصب وزير المواصلات، ومن قاض إلى وزير مسافة واسعة، وشوط لم يكن أحد ليقطعه في النظام القديم، ولكنها كانت أقصر من غيرها بكثير في العهد الجديد، واستحقاقا تاما لرجل لم يكن يدري يوم غادر وظيفته مضحيا بها، ماذا سيحل غدا به، وأي أخطار الجهاد على الأيام مصيبه، وأي عقاب مرهوب سوف يعد له، ذلك الرجل الذي ترك كل مسئولياته الخاصة جانبا، وأقبل على الثورة الوطنية بكل جوارحه، غير مبال بما قد يصيبه في سبيل بلاده، وقضية وطنه المعذب الأسير.
ولكن كذلك طلبت الديمقراطية الجديدة، وهي يومئذ في أشد حماستها وأصدق أدوارها وحميتها، الخدام المخلصين لبلادهم، والمجاهدين الأبرار بوطنهم؛ فأشارت الأقدار إلى مصطفى في الأكفاء المستحقين؛ لأنها كانت معدته ومحتفظة به لحراسة هذه الديمقراطية نفسها التي عرفت له قيمته، وشهدت له بكفايته، فإن حياة مصطفى السياسية ظلت كلها دفاعا مستمرا عن الدستور، وكفاحا مستطيلا عن النظام الديمقراطي، وذيادا لا يفتر ولا يهدأ عن الحياة النيابية؛ حتى لقد تحمل مصطفى في عهد زعامته من أجل الدستور ما لم يتحمل سعد مثله، وقاوم في سبيله مقاومة يدفعها الإيمان القوي العميق الذي لا يعرف تراجعا، ولا يحس يأسا ولا يفكر في انزواء.
Page inconnue