فأما السياسة النبوية فهي معرفة كيفية وضع النواميس المرضية والسنن الزكية بالأقاويل الفصيحة ومداواة النفوس المريضة من الديانات الفاسدة والآراء السخيفة والعادات الردية والأفعال الجائرة ومعرفة كيفية نقلها من تلك الأديان والعادات، ومحو تلك الآراء عن ضمائرها بذكر عيوبها ونشر تزييفها ومداواتها من سقام تلك الآراء وتلك العادات بالحمية لها من العود إليها وشفائها بالرأي المرضي والعادات الجميلة والأعمال الزكية والأخلاق المحمودة بالمدح لها والترغيب في جزيل الثواب يوم المآب.
وكيفية سياسة النفوس الشريرة بصدودها عن قصد سبيل الرشاد وسلوكها في وعور طرق الغي والتمادي بالقمع لها والزجر والوعيد والتوبيخ والتهديد؛ لترجع إلى سبل النجاة وترغب في جزيل الثواب ومعرفة كيفية تنبيه الأنفس اللاهية والأرواح الساهية من طول الرقاد ونسياها ذكر المعاد، والإذكار لها عهد يوم الميثاق؛ لئلا يقولوا ما جاءنا من رسول ولا كتاب، وهذه السياسة تختص بها الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم.
وأما السياسة الملوكية فهي معرفة حفظ الشريعة على الأمة، وإحياء السنة في الملة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإقامة الحدود وإنفاذ الأحكام التي رسمها صاحب الشريعة، ورد المظالم وقمع الأعداء وكف الأشرار ونصرة الأخيار، وهذه السياسة يختص بها خلفاء الأنبياء - صلوات الله عليهم - والأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
وأما السياسة العامية التي هي الرياسة على الجماعات كرياسة الأمراء على البلدان والمدن، ورياسة الدهاقين على أهل القرى، ورياسة قادة الجوش على العساكر وما شاكلها؛ فهي معرفة طبقات المرءوسين وحالاتهم وأنسابهم وصنائعهم ومذاهبهم وأخلاقهم وترتيب مراتبهم ومراعاة أمورهم وتفقد أسبابهم وتأليف شملهم والتناصف بينهم وجمع شتاتهم واستخدامهم في ما يصلحون له من الأمور واستعمالهم في ما يشاكلهم من صنائعهم وأعمالهم اللائقة بواحد واحد منهم.
وأما السياسة الخاصية فهي معرفة كل إنسان كيفية تدبير منزله وأمر معيشته ومراعاة أمر خدمه وغلمانه وأولاده ومماليكه وأقربائه، وعشرته مع جيرانه وصحبته مع إخوانه وقضاء حقوقهم، وتفقد أسبابهم والنظر في مصالحهم من أمور دنياهم وآخرتهم.
وأما السياسة الذاتية فهي معرفة كل إنسان نفسه وأخلاقه وتفقد أفعاله وأقاويله في حال شهواته وغضبه ورضاه والنظر في جميع أموره.
والخامس علم المعاد وهو معرفة ماهية النشأة الأخرى وكيفية انبعاث الأرواح من ظلمة الأجساد وانتباه النفوس من طول الرقاد وحشرها يوم المعاد وقيامها على الصراط المستقيم وحشرها لحساب يوم الدين ومعرفة كيفية جزاء المحسنين وعقاب المسيئين.
وقد عملنا في كل فصل من هذه العلوم التي تقدم ذكرها رسالة، وذكرنا فيها طرفا من تلك المعاني وأتممناها بالجامعة؛ ليكون تنبيها للغافلين وإرشادا للمريدين وترغيبا للطالبين ومسلكا للمتعلمين، فكن به يا أخي سعيدا، واعرض هذه الرسالة على إخوانك وأصدقائك، ورغبهم في العلم، وزهدهم في الدنيا، ودلهم على طريق الآخرة؛ فإنك بذلك تنال الزلفى من الله تعالى، وتستوجب رضوانه، وتفوز بسعادة الآخرة، وتبلغ به المرتبة العليا كما دل عليه قول النبي - عليه السلام: «الدال على الخير كفاعله.»
واعلم يا أخي بأن هذه الطريقة هي التي سلكها الأنبياء - صلوات الله عليهم - واتبعهم عليها الأخيار الفضلاء من العلماء والحكماء، فاجتهد لعلك تحشر في زمرتهم كما وعد الله تعالى، فقال:@QUR019 فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله، @QUR09 والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين، وفقك الله وإيانا أيها الأخ للسداد، وهدانا وإياك سبيل الرشاد.
الرسالة الثامنة في الصنائع العملية والغرض منها
Unknown page