بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
وإذ قد فرغنا من ذكر الجواهر الجسمانية ووصفنا هيولاتها وصورها وتركيبها وما يعرض للمركب من الأغراض، وبينا أيضا كيفية إدراكها بطريق الحواس بتوسط أعراضها في رسائلنا «الطبيعيات» نريد أن نذكر في العقليات الجواهر الروحانية؛ لأنه لما كانت الموجودات كلها معقولة أو محسوسة، جواهر أو أعراضا أو مجموعا منهما؛ صورا أو هيولى، أو مركبا منهما؛ جسمانيا أو روحانيا، أو مقرونا بينهما؛ وكانت الجواهر الجسمانية منفعلة كلها، مدركة بطريق الحواس، والجواهر الروحانية فاعلة، ولا تدرك بطريق الحواس، ولا تعرف إلا بالعقل وبما يصدر عنها من الأفعال العقلية، والصنائع العملية بعد العلمية في الجواهر الجسمانية؛ احتجنا أن نذكر الصنائع العملية في الهيوليات وماهياتها وكمياتها وكيفياتها وكيفية إظهار صناعاتها في الهيوليات الموضوعة لها؛ ليكون أوضح في الدليل على إثبات الذوات الروحانية الفاعلة، وأبين لمعرفة جواهرها وفنون حركاتها وعجائب قوتها وغرائب علومها وبدائع صنائعها واختلاف أفعالها.
فاعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الصنائع البشرية نوعان علمية وعملية، وتقدم القول في العلمية فيما تقدم، فنقول: أولا ما العلوم؟ العلوم هي صور المعلومات في نفس العالم.
واعلم يا أخي بأن العلم لا يكون إلا بعد التعليم والتعلم، والتعليم هو تنبيه النفس العلامة بالفعل للنفس العلامة بالقوة، والتعلم هو تصور النفس لصورة المعلوم.
واعلم يا أخي بأن النفس إنما تنال صور المعلومات من طرقات ثلاث؛ إحداها طريق الحواس والأخرى طريق البرهان، والأخيرة طريق الفكر والروية، وقد عملنا في كل واحدة منها رسالة، فنريد أن نذكر الآن الصنائع العملية؛ فنقول:
إن الصنعة العملية هي إخراج الصانع العالم الصورة التي في فكره ووضعها في الهيولى، والمصنوع هو جملة مصنوعة من الهيولى والصورة جميعا، وابتداء ذلك من تأثير النفس الكلية فيها بقوة تأييد العقل الكلي بأمر الله - جل ثناؤه.
واعلم بأن المصنوعات أربعة أجناس: بشرية وطبيعية ونفسانية وإلهية، فالبشرية مثل ما يعمل الصناع من الأشكال والنقوش والأصباغ في الأجسام الطبيعية في أسواق المدن وغيرها من المواضع. والمصنوعات الطبيعية هي صور هياكل الحيوانات، وفنون أشكال النبات وألوان جواهر المعادن، والمصنوعات النفسانية مثل نظام مراكز الأركان الأربعة التي هي تحت فلك القمر، وهي النار والهواء والماء والأرض، ومثل تركيب الأفلاك ونظام صورة العالم بالجملة، والمصنوعات الإلهية هي الصور المجردة من الهيوليات المخترعات من مبدع المبدعات تعالى وجودا من العدم، ليس من ليس، وشيء لا من شيء، دفعة واحدة بلا زمان ولا مكان ولا هيولى ولا صورة ولا حركة؛ لأنها كلها مبدعات الباري ومخترعاته ومصنوعاته - فتبارك الله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
واعلم يا أخي بأن كل صانع من البشر محتاج في تتميم صنعته إلى ستة أشياء مختلفة وهو السابع، وإلى سبع حركات وإلى سبع جهات، فأما الأشياء المختلفة فهي الهيولى والمكان والزمان والأداة والآلة والحركة والسابع النفس، وكل صانع طبيعي فمحتاج إلى أربعة منها، وهي الهيولى والمكان والزمان والحركة، وكل صانع نفساني فمحتاج إلى اثنين منها، وهما الهيولى والحركة حسب، وكل صانع عقلي فمحتاج إلى صورة واحدة فقط، وهو العقل الأول أثر من مبدع البدائع الحق، لا من شيء إلى شيء.
وأما الباري - جل ثناؤه - فغير محتاج إلى شيء منها؛ لأنها كلها مخترعاته ومبدعاته؛ أعني: الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة والآلة والأدوات كلها.
Unknown page