فهرست الرسائل وتقسيمها
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
هذه فهرست رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل العدل وأبناء الحمد، بجمل معانيها وماهية أغراضهم فيها، وهي اثنتان وخمسون رسالة في فنون العلم وغرائب الحكم وطرائف الآداب وحقائق المعاني عن كلام الخلصاء الصوفية، صان الله قدرهم وحرسهم حيث كانوا في البلاد، وهي مقسومة على أربعة أقسام: فمنها رياضية تعليمية، ومنها جسمانية طبيعية، ومنها نفسانية عقلية، ومنها ناموسية إلهية.
فالرسائل الرياضية التعليمية أربع عشرة رسالة: الرسالة الأولى منها في «العدد» وماهيته وكميته وكيفية خواصه، والغرض المراد من هذه الرسالة هو رياضة أنفس المتعلمين للفلسفة، المؤثرين للحكمة الناظرين في حقائق الأشياء، الباحثين عن علل الموجودات بأسرها، وفيها بيان أن صورة العدد في النفوس مطابق لصور الموجودات في الهيولى، وهي أنموذج من العالم الأعلى، وبمعرفته يتدرج المرتاض إلى سائر الرياضيات والطبيعيات، وأن علم العدد جذر العلوم وعنصر الحكمة ومبدأ المعارف وأسطقس المعاني.
الرسالة الثانية في «الهندسة» وبيان ماهيتها وكمية أنواعها وكيفية موضوعاتها، والغرض المقصود منها هو التهدي للنفوس من المحسوسات إلى المعقولات، ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن ذوات الهيولى إلى المجردات، وكيفية رؤية البسائط التي لا تتكثر ولا تزداد، ولا تنفرد بالاتحاد، ولا تتقدر بمقدار ولا انحصار في الإقصار، كالصورة المجردة المعراة من المواد المبرأة من الهيولى والجواهر المحضة الروحانية والذوات المفردة العلوية التي لا تدرك بالعيان، وفوق الزمان والمكان، وكيفية الاتصال بها والاطلاع عليها والترقي بالنفس إليها.
الثالثة رسالة في «النجوم» شبه المدخل في معرفة تركيب الأفلاك وصفة البروج وسير الكواكب ومعرفة تأثيراتها في هذا العالم، وكيفية انفعال الأمهات والمواليد منها بالنشوء والبلى والكون والفساد، والغرض منها هو تشويق النفوس الصافية للصعود إلى عالم الأفلاك وأطباق السماوات، منازل الروحانيين والملائكة المقربين والملأ الأعلى والجواهر العلى، والوصول إلى القدس والروح الأمين.
الرابعة رسالة في «الموسيقى» وهو المدخل إلى علم صناعة التأليف والبيان بأن النغم والألحان الموزونة لها تأثيرات في نفوس المستمعين لها كتأثير الأدوية والأشربة والترياقات في الأجسام الحيوانية ، وأن للأفلاك في حركتها ودورانها واحتكاك بعضها ببعض نغمات مطربة ملهية وألحانا طيبة لذيذة معجبة منها كنغمات أوتار العيدان والطنابير وألحان المزامير، والغرض منها التشويق للنفوس الناطقة الإنسانية الملكية للصعود إلى هناك بعد مفارقتها الأجساد التي تسمى الموت؛ لأنه إلى هناك يعرج بأرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المحقين المستبصرين كما بين الله تعالى بقوله: @QUR013 إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم.
الخامسة رسالة في «جغرافيا» يعني صورة الأرض والأقاليم والبيان بأن الأرض كرية الشكل بجميع ما عليها، من الجبال والبحار والبراري والأنهار والمدن والقرى، وأنها حية تشبه بجملتها صورة حيوان تام عابد لله تعالى بجميع أعضائها وأجزائها وظاهرها وباطنها، وكيفية تخطيطها وتقديرها ومسالكها وممالكها، والغرض منها هو التنبيه على علة ورود النفس إلى هذا العالم وكيفية اتحادها وعلة ارتباطها بغيرها واستعمالها الحواس واستنباطها للقياس، والتنبيه على خلاصها والحث على النظر والتفكر فيما نصب الله لنا من الدلالات وأرانا من الآيات التي في الآفاق والأنفس؛ حتى يتبين للناظر أنه الحق فيتمسك به ويزدلف إليه ويتوكل في أحواله عليه، فيستعد للرحلة والتزود إلى دار الآخرة قبل الممات وفناء العمر وتقارب الأجل وفوت الأمل ووجدان الحسرة والندامة.
السادسة رسالة في «النسب العددية» والهندسية والتأليفية وكمية أنواعها وكيفية ترتيبها، والغرض منها التهدي لنفوس العقلاء إلى أسرار العلوم وخفياتها وحقائقها وبواطن الحكم ومعانيها، والوقوف على أن الموجودات المختلفة القوى، المتباينة الصور، المتنافرة الطباع، إذا جمع بينها على النسبة المتعادلة ائتلفت وصحت وبقيت ودامت، وإذا كانت على غير النسبة المتعادلة اضطربت وتنافرت حتى اضمحلت وفنيت وما اعتدلت ولا استقام شيء إلا على قدر المناسبة وصحة الائتلاف، وبمعرفة كمية ذلك وكيفيته يكون الحذق والمهارة بالصنائع كلها والتبرز فيها.
السابعة رسالة في «الصنائع العلمية النظرية» وكمية أقسامها وكيفية مراتبها وإيضاح طرائقها ومذاهبها، والغرض منها تعديد أجناس العلوم وأنواع الحكم وبيان أعراضها وحقائقها والتهدي لطلب العلوم والحكم والتوقيت عليها وكيفية الطريق إليها وبيان معرفتها.
الثامنة رسالة في «الصنائع العملية والمهنية» وتعديد أجناس الصنائع العملية والحرف ، والغرض منها هو تنبيه نفوس الغافلين على معرفة جواهرها التي هي الفاعلة على الحقيقة والمستنبطة الصنائع كلها، المستعملة لأجسامهم المستخدمة لأبدانهم؛ إذ هي للصنائع كالآلات للنفوس والأدوات لها تستعملها لتبلغ بها غرضها على اختلاف مقاصدها وفنون حاجاتها.
التاسعة رسالة في «بيان اختلاف الأخلاق» وأسباب اختلافها وأنواع عللها، ونكت من آداب الأنبياء وسننهم وزبد من أخلاق الحكماء وسيرهم، والغرض في ذلك منها تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق اللذان بهما الوصول إلى البقاء الدائم والسرور المقيم وكمال السعادة الباقية في الدنيا والآخرة.
العاشرة رسالة في «إيساغوجي»، وهي الألفاظ الستة التي تستعملها الفلاسفة في المنطق وفي أقاويلهم ومخاطباتهم في كتبهم وحججهم وبراهينهم، والغرض منها هو التنبيه على ما يقوم ذات الإنسان ويتممه ويعرفه البقاء الدائم ويعرفه الفرق بين الكلام المنطقي واللغوي والفلسفي، وما حقيقة كل واحد منها وبيان ما يحتاج من ذلك إليه لتسديد العقل وتثقيفه نحو الحقائق، ورده عن الزلل والغلط كما يحتاج إلى النحو لتسديد اللسان وتقويمه نحو الصواب ورده عن اللحن؛ لأن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات مثل نسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ.
الحادية عشرة رسالة في «قاطيغورياس»، وهو البيان عن المعقولات الكليات وهي الألفاظ العشرة التي كل واحد منها اسم لجنس من الموجودات كلها، والغرض منها هو البيان بأن معاني الموجودات كلها قد اجتمعت في هذه المقولات العشرة التي يسمى كل واحد منها جنسا من الأجناس، والأجناس داخلة فيها وكيف تنقسم الأجناس إلى الأنواع والأنواع إلى الأشخاص، والأشخاص إلى الأمهات وأنها حدائق الآداب وبساتين العلوم وجنات الحكم وفواكه النفوس ونزه الأرواح.
الثانية عشرة رسالة في «باريمانياس»، وهي الكلام في العبارات وأداء المعاني على حقها والإبانة عنها، والغرض منها تعريف الأقاويل الجازمة المفردة البسيطة الجميلة التي هي أقسام الصدق والكذب، وكيف تحصل المقدمات القياسية وتركيبها من الألفاظ البسيطة المفردة وتقابل الإيجاب والسلب، وتقسيم أصناف الأقاويل وأنها هي الجازم الذي منه تتركب المقدمات البرهانية، وما الاسم وما الكلمة وما القول المطلق وما القول الجازم وما الموجبة وما السالبة وما المحصل والمستقيم والعدول، وما القضايا الثنائية والثلاثية والرباعية وما العناصر الثلاثة من ضروري وممكن وممتنع، وما الضد والنقيض وغير ذلك مما يحتاج إليه في مقدمات القياس.
الثالثة عشرة رسالة في «أنولوطيقا الأولى»، وهي القياس، والغرض منها هو بيان كمية القياس الذي تستعمله الحكماء والمتكلمون في احتجاجاتهم والدعاوى والبينات والمناظرات في الآراء والمذاهب، وأنه الميزان بالقسط وضعته الفلاسفة ليعرف به الصدق من الكذب في الأقاويل، والخطأ من الصواب في الآراء والحق من الباطل في الأفعال، وأي شيء يكون وكيف يكون ومتى يكون وأيها الصحيح وأيها الفاسد.
الرابعة عشرة رسالة في «أنولوطيقا الثانية»، وهي البرهان، والغرض منها هو البيان والكشف عن كيفية القياس الصحيح الذي لا خطأ فيه ولا زلل وهو المسمى «البرهان»، وهو ميزان البصائر يقيم الوزن بالقسط ومثاقيلها بداية العقول والمعارف الأولى يستعملها الصيارفة الإلهيون من الحكماء الذين يعرفون به الصواب من الخطأ والحق من الباطل، ويوضح الحق المبين والعلم اليقين. تمت الرسائل الرياضية التعليمية والفلسفية.
•••
ومنها الرسائل الجسمانية الطبيعية وهي سبع عشرة رسالة: الأولى منها رسالة في «الهيولى والصورة» وماهيتهما، وما الزمان والمكان والحركة واختلاف أقاويل الحكماء في حقائقها وكيفياتها، والغرض منها هو تعريف ماهية الجسم وحقيقته وما يخصه من الأعراض اللازمة والزائلة والصور المقومة والمتممة، وتلقب هذه الرسالة بسمع الكيان.
الثانية منها رسالة في «السماء والعالم» وبيان كيفية إطباق السموات وكيفية تركيب الأفلاك، وما هو العرش العظيم وما هو الكرسي الواسع، والغرض منها هو البيان عن كيفية تحريك الأفلاك وتسييرات الكواكب، وأن المحرك لها كلها هو الروح القدس والنفس الكلية الفلكية الموكلة بها بإذن باريها.
الثالثة منها رسالة في «الكون والفساد»، والغرض منها هو البيان عن ماهية الصور المقومة لكل واحد من الأركان الأربعة؛ أعني الأمهات التي هي النار والهواء والماء والأرض، وأنها هي الأمهات الكلية الكائن منها المعدن والنبات والحيوان وكيفية استحالة بعضها إلى بعض باختلاف كيفياتها عليها بدوران الأفلاك حولها ومطارح شعاعات الكواكب عليها، وأن الطبيعة الفاعلة لها المحركة لكل واحد منها إلى كمالها وغايتها هي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية، وملك من جملة الملائكة الموكلة بها وسائقة لها إلى تمام ما أعدلها من غايتها.
الرابعة منها رسالة في «الآثار العلوية»، والغرض منها هو البيان عن كيفية حوادث الجو وتغييرات الهواء من النور والظلمة والحر والبرد وتصاريف الرياح من البحار والأنهار، وما يكون منها من الغيوم والضباب والطل والندى والأمطار والرعود والبروق والثلوج والبرد، والهالات وقوس قزح والشهب وذوات الأذناب وما شاكل ذلك.
الخامسة منها رسالة في «كيفية تكوين المعادن»، وكمية الجواهر المعدنية وعلة اختلاف جواهرها وكيفية تكوينها في باطن الأرض، والغرض منها هو البيان بأنها أول مفعولات الطبيعة التي هي دون فلك القمر التي هي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية بإذن باريها المصور للجميع والموجد للكل لا من موجود إبداعا واختراعا وخلقا وتكوينا، ومنها تبتدئ الأنفس الجزئية بالتهدي الباعث بها إلى الترقي من أسفل سافلين من مركز الأرض إلى أعلى عليين، عالم الأفلاك وفوق السماوات، موقف الأبرار المتقين ومقر الأخيار المنتجبين ومحل الأنبياء والمرسلين، وهذا أول صراط تجوز عليه الأنفس الجزئية، ثم النبات بوساطة الكون والنمو، ثم الحيوان بوساطة الكون والنمو والحس، ثم الإنسان بوساطة الكون والنمو والحس والعقل، ثم التجرد والدخول في زمرة الملائكة الذين هم سكان الأفلاك والملأ الأعلى الذين هم أهل السماوات.
السادسة رسالة في «ماهية الطبيعة» وكيفية أفعالها في الأركان الأربعة التي هي الأمهات ومواليدها التي هي: الحيوان والنبات والمعادن، والفرق بين الفعل الإرادي، من الفكري والشوقي، وبين الضروري من الطبيعي والقهري، والغرض منها تنبيه الغافلين على أفعال النفس وماهية جوهرها والبيان عن أجناس الملائكة وهي التي تسميها الفلاسفة روحانيات الكواكب الموكلة بإنشاء المواليد بتحريكها إلى استكمال صورها والتمام المعد لها.
السابعة منها رسالة في «أجناس النبات» وأنواعها، وكيفية سريان قوى النفس النامية فيها، والغرض منها هو تعديد أجناس النبات، وبيان كيفية تكوينها ونشوئها واختلاف أنواعها من الأشكال والألوان والطعوم والروائح في أوراقها وأزهارها وثمارها وحبوبها وبذورها وصموغها ولحائها وعروقها وقضبانها وأصولها وغير ذلك من المنافع، وأن أول مرتبة النبات متصلة بآخر مرتبة المعادن، وآخر مرتبتها متصلة بأول مرتبة الحيوان.
الثامنة منها رسالة في «أصناف الحيوان» وعجائب هياكلها وغرائب أحوالها، والغرض منها هو البيان عن أجناس الحيوانات وكمية أنواعها واختلاف صورها وطبائعها وأخلاقها، وكيفية تكوينها ونتاجها وتوالدها وتربيتها لأولادها، وأن أول مرتبة الحيوانية متصلة بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوانية متصلة بأول مرتبة الإنسانية، وآخر مرتبة الإنسانية متصلة بأول مرتبة الملائكة الذين هم سكان الهواء والأفلاك وأطباق السماوات، وأن نفوس بعض الحيوانات ملائكة ساجدة لنفس الإنسان التي هي خليفة الله في أرضه، ونفوس بعضها راكعة له، ونفوس بعض الحيوان شياطين عصاة مغلغلة في جهنم عالم الكون والفساد، وأن الإنسان إذا كان خيرا عاقلا فهو ملك كريم خير البرية، وإذا كان شريرا فهو شيطان رجيم شر البرية.
التاسعة منها رسالة في «تركيب الجسد»، والبيان بأنه عالم صغير وأن بنية هيكله تشبه مدينة فاضلة، وأن نفسه تشبه ملكا في تلك المدينة، والغرض منها هو معرفة الإنسان جسده وبنيته المهيأة له، وأن انتصاب القامة أجل أشكال الحيوانات، وأن بنية جسد الإنسان مختصرة من العالم الذي هو في اللوح المحفوظ، وأنه الصراط الممدود بين الجنة والنار، وأنه ميزان القسط الذي وضعه الله بين خلقه، وأنه الكتاب الذي كتبه الله بيده، وصنعته الذي صنع الله بنفسه وكلمته الذي أبدع الله بذاته، وأن نفس الإنسانية هي خليفة الله في أرضه حاكما بين خلقه سائسا لبريته مستعملا لعالمه السفلي مدة من الزمان، فإذا انتقل صار زينة لعالمه العلوي وحافظا لذاته الوجودي على الأبد، وأن الإنسان إذا عرف نفسه المستخلف عرف ربه الذي استخلفه، وأمكنه الوصول إليه والزلفى لديه فائزا بنعيم الأبد والدوام السرمد.
العاشرة منها رسالة في «الحاس والمحسوس»، والغرض منها هو البيان عن كيفية إدراك الحواس محسوساتها واتصالها بواسطة القوة الحاسة، واتصالها إلى الحاسة المشتركة الروحانية الواصلة التي منها انبعثت قوى الحواس الظاهرة، وأنها ترد كالخطوط الخارجة من المركز إلى المحيط بنقط كثيرة، الراجعة إليه بنقطة واحدة، وهو أول منازل الروحانية؛ إذ القوة الحاسة المؤدية إليه جسماني بوجه وروحاني بوجه، والحاسة المشتركة - أعني الداخلة - روحانية محضة؛ لأن حكم الجزء منها حكم الكل وإن كانت التجزئة لا تقع عليه بالحقيقة؛ لأن تصورها الشيء بإدراكها واتصالها إلى القوة المتخيلة التي مجراها مقدم الدماغ لتوصلها إلى القوة المفكرة التي مجراها وسط الدماغ؛ لتميزها وتخلصها بجولانها فيها، وتعرف حقائقها ثم توصلها إلى القوة الحافظة الذاكرة التي مجراها مؤخر الدماغ؛ لتمسكها وتحفظها معتقدة أو غير معتقدة إلى وقت التذكار، ثم تؤديها إلى القوة الناطقة العاقلة التي هي ذات الإنسان المدبرة للكل الباقية بالذات تنزع جميع المعاني والصور، ثم تصور تلك المعاني والصور المنتزعة من مصوراتها المرتسمة فيها، وهي القوة الناطقة أيضا بوساطة الأولى، فتلك الصورة هي لها كالموضوع وكالهيولى، والقوة المعتبرة أيضا للنطق الخارج هي القوة الناطقة أيضا على وجه ثالث بواسطة الألسن، فإذا همت الأولى بإظهار شيء إلى خارج - وهو النطق الإلهي على الحقيقة من صورة النفس - تصورت النفس الثانية؛ إذ هما جوهر واحد لتجردهما عن المواد وتعريهما عن الهيولى؛ أعني الجسمانية فتأدت إلى القوة الناطقة التي مجراها على اللسان لتعبر عنها بالألفاظ الدالة للمخاطبين على المعاني التي تخرج من النفس إلى القوة الصانعة التي مجراها اليدان؛ لتخط بالأقلام على أوجه الألواح وصفحات الدفاتر وبطون الطوامير تلك الألفاظ، وهي النطق الخارج والكلام الظاهر لتبقى العلوم بصورها الذاتية؛ أعني معانيها محفوظة من الأولين إلى الآخرين، وخطابا من الحاضرين للغائبين إلى يوم يبعثون.
الحادية عشرة منها رسالة في «مسقط النطفة» وكيفية رباط النفس بها؛ أعني الهيولانية عند تقلب حالاتها شهرا بعد شهر، وتأثيرات أفعال روحانيات الكواكب في أحكام بنية الجسد من المزاج والتركيب أربعة أشهر قدر مسير الشمس ثلث الفلك واستيفائها طبائع البروج من النارية والترابية والهوائية والمائية، ثم كيفية تأثيراتها وأفعالها في أحكام النفس أربعة أشهر أخر، وما ينطبع فيها من التهيؤ والاستعداد التي هي صورة الأولى بالقوة لتصير صورة بالفعل عند التهيؤ لقبول الأخلاق والأعمال والعلوم والآداب والحكم والآراء في مقبل الزمان، ومستقبل العمر بعد الولادة في الشهر التاسع عند دخول الشمس من بيت التاسع من موضعها يوم مسقط النطفة بيت الحركة والسفر والنقلة والتصور والعلم والفطنة، والغرض منها هو الإخبار عن حال الأنفس البسيطة قبل تشخصها واتصالها بالأجسام الجزئية المحصورة المحدودة المحسوسة بوساطة الألوان والأشكال والأعراض الأخر، وأن المكث في الرحم هذه المدة لتتميم البنية وتكميل الصورة، وهو الكمال الأول لاستكمال الآلة وإعدادها الأدوات؛ ولاستتمام رباط النفس بالهيكل واتحادها بقواه وانبساطها في البنية وتمكنها من الجملة.
الرسالة الثانية عشرة منها في معنى قول الحكماء: «إن الإنسان عالم صغير»، وهو معنى العالم الكبير المؤدي عن جملته والمخصوص بثمرته، وأن صورة هيكله مماثلة لصورة العالم الكبير الجسماني وأن أحوال نفسه وسريان قواها في بنية هيكله وحقيقة جوهره مماثلة لأحوال الخلائق الروحانيين من الملائكة والجن والشياطين وأرواح الحيوانات أجمعين، فإن الإنسان مختصر من العالمين الروحاني والجسماني جميعا، مهيأ مجبول من سوس هو في الحقيقة خلاصة هذا العالم وثمرته وزبدته وكدر هذا العالم وثفالته، وأن يكون جوهر آخر المعاني الجسمانية وأول المعاني الروحانية، فهو كالحد المتاخم لكل العالمين وكالأصل الصالح لمجموع الكمالين وكالجوهر الذي هو بائنته معقول وكيفيته محسوس، وكالشيء الذي بذاته حياة من وجه وذو حياة من وجه، وكالذات القائم بنفسه من جهة، والقائم بغيره من جهة، وكالمعنى المشير بمضمون فحواه ويفطن بمفهومه، لما سواه، ومن وجه آخر كالفرخ المتفقئ عنه البيضة الذي هو له كمال من وجه ومنتهى للكمال من وجه آخر، فهو اللازم للوكر ما دام طائرا بالقوة، فإذا استكمل طار فصار طائرا بالفعل، وكالزاوية التي يوجد ذاتها متوسطة بين المتجزئ وغير المتجزئ، ثم النقطة جامعة لحاليهما؛ أعني البسيط والمركب، وكالنبوة التي هي ممتدة إلى الروحانيين بخط وإلى الجسمانيين بخط، ثم الوحي جامع بين طرفيهما والإلهام حاو لحديهما، وكنهاية المحيط التي هي السطح لذي مكان وليس له مكان، والغرض من هذه الرسالة هو الإخبار عن حال الأنفس البسيطة قبل تشخيصها واتصالها بالأجسام الجزئية والأشخاص الحسية وعلة اتصالها مدة وحال مفارقتها عند بلوغ نهايتها، وكيف يعرف الإنسان هويته وآنيته وكيفية نفسه وحقيقة ذاته، وأنه مجموع فيه معاني الموجودات كلها، فهو كالكل ومحيط بالجميع فينتبه كذلك ويتأمل الصواب والفرصة مدة حياته فيقصده ويقتنيه ويحتويه؛ إذ لذلك أنشأه منشيه فيعيده ويبديه ويديمه ويبقيه، وهو يبليه ويشفيه ويهديه لينجيه فيفوز بالبقاء والنعيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الرسالة الثالثة عشرة منها في «كيفية نشر الأنفس الجزئية في الأجساد البشرية والأجسام الطبيعية»، والغرض منها البيان عن كيفية بلوغ الإنسان بدوام انتقاله وتغير أحواله وآخر معاده ومآله، وكيف يصير إلى رتبة الملائكة ومنازل الروحانيين دار القرار ومحل الأخيار عند خلع المادة وبلوغ الإرادة ونهاية السعادة إلى حلوله بعد الموت أو قبله بوجوده الصوري وجوهره النوري. الرسالة الرابعة عشرة منها في «بيان طاقة الإنسان في المعارف»، إلى أي حد هو ومبلغه في العلوم إلى أي غاية ينتهي وأي شرف منها يرتقي، والغرض منها هو التنبيه على معرفة الله - جل جلاله - والقصد نحوه واستنجاز لقائه والوقوف بين يديه والرجوع بالكلية إليه، كما كان منه المبدأ وإليه المعاد والمنتهى. الرسالة الخامسة عشرة منها في «ماهية الموت والحياة»، وما الحكمة في وجودها في الدنيا عالم الكون والفساد وما حقيقة المعاد، والغرض منها هو البيان عن علة رباط الأنفس الناطقة بالأجساد البشرية واتصالها بالأشخاص الجزئية إلى وقت الموت، وكيفية التأهب والاستعداد قبل الفوت والاستعجال ما دام الخلاص ممكنا والنجاة معرضة والأجسام موجودة والآلة متمكنة، والاستهانة بالموت والتجافي عنه وإزالة الخوف منه ببقاء النفس بعد الموت، الذي هو مفارقتها الجسد وترك استعمالها إياه واستراحتها من أذاه ووصولها إلى عالمها ووجودها مناها وبلوغها منتهاها، وأنه لا سبيل لها إلى البقاء السرمدي الذي لا يتغير ولا يزول إلا بمفارقة الجسد المستحيل الذي هو سبب الانتقال والزوال والتغير من حال إلى حال.
الرسالة السادسة عشرة منها في «ماهية اللذات والآلام الجسمانية والروحانية»، وعلة كراهية الحيوانات الموت، وكيف أسباب الآلام واللذة التي تنال النفوس بسبب الأجسام، وكيف تنال بمجردها إذا فارقت الجسد، وكيف يكون انفرادها بذاتها وتجردها بنفسها خلوا منها وانتهاؤها إلى الفردانية واتحادها بالجوهر الصورانية والذوات الروحانية، وكيف تكون لذات أهل الجنان وآلام أهل النيران، والغرض منها هو التصور أن عذاب أهل جهنم كيف يكون مع الجن والشياطين المغللة المقيدة المنكوسة المعكوسة، وأن نعيم أهل الجنان كيف يكون مع الملائكة والروحانيين مسرورين فيها مخلدين لا يمسهم فيها نصب ولا عناء، يتبوءون من الجنة حيث يشاءون، وأن جهنم عالم الكون والفساد يصلاها من شقي بسوء المنقلب والمعاد، وأن الجنان في أعالي عالم الأفلاك وسعة السماوات سعد بها من فاز بعد الممات بذخائر الخيرات والباقيات الصالحات.
الرسالة السابعة عشرة منها في «علل اختلاف اللغات»، ورسوم الخطوط والعبارات، وكيف مبادئ المذاهب والديانات والآراء والاعتقادات وأول نشوئها، وابتداؤها ونماؤها وتزايدها حالا بعد حال وقرنا بعد قرن، وكيفية انتقالها من قوم إلى قوم، وسبب تغييراتها والزيادة فيها والنقصان منها، والغرض منها هو التنبيه على أن أفعال النفس إنما تقع بحسب ما في طبعها وغريزتها، وأن قوة البحث عن الخفيات موجودة في جوهريته؛ أي بضمير التذكير اعتبارا للإنسان أي في جوهرية النفس كالمادة والعلم صورة لتلك المادة، فهي علامة بالقوة والعلم صورة قائمة فيها، وأن في قوتها أن تعلم الأشياء المحسوسة والمعقولة من أصناف العلوم في الأعلى والأسفل والأدق والأجل منها بقوة النطق؛ ولذلك يسنح لذاته سوانح ويخطر بباله خواطر فيعمل فيها فكره فيستخرج بعلمه آراء ويستنبط بذهنه مذاهب، ثم يعبر عن تلك الصورة المتخيلة في ضميره بألفاظ مؤدية عنها، ثم يقيد تلك الألفاظ برسوم من الكتابة دالة على تلك الألفاظ دلالة الألفاظ على تلك الخواطر ودلالة الخواطر على أعيان الأشياء وحقائقها ومعانيها، وإنما يتعاطون ذلك على حسب مناسبات من الطباع واتفاقات تقع في الأوقات والبقاع، والمنشأ والمولد والمخالطات بأقوام أصدقاء وأقارب ومعارف والإصغاء إليهم والأخذ عنهم والتخلق بأخلاقهم، فبحسب هذه الاتفاقات إيثار الإنسان الشيء على غيره من الآراء والمذاهب والمطالب والاعتقادات والنحل والصناعات والمكاسب؛ لأن كل إنسان وإن كان في ظاهر أمره متمكنا من اختيار ما يقتنيه من المذاهب والآراء، فبينه وبين كل واحد منها مناسبات جبلية باطنة وعادات ألفية ظاهرة تجذبها إليه وتحببها عنده وتحرضه عليها وتدعوه إليها، وبحسب انجذابه في طبعه وميله وألفه يكون تبرزه فيها ومهارته بها؛ ولذلك برز أحدهم في شيء وتخلف آخر واجتهادهما واحد وربما اتفق واحد منهم أن يسمع كلاما أو يرى أمرا فيرضاه لنفسه ويميل إليه بطبعه ويقتنيه ويدخل في جملة أهله فيتأكد ألفته وأنسه به على مرور الزمان، فإذا قوي الألف، واستمرت العادة، وسكنت نفسه إليه، وتمكن من قلبه لشدة صحبته له ومعرفته به وفرط ميله إليه آثره على غيره حتى يصير في آخر الأمر ألفا لما يختاره منه ومعاندا لما سواه، ويرى له الفضل على غيره من المذاهب الحقيقية والآراء العقلية وإن كان مفضولا، ويحكم له بالشرف والعلو وإن كان مشروفا، فبحسب ذلك تكثر الاختلافات، وتتباين المذاهب والديانات والحق فيهم مع الأنزر الأقل والآخر لاحق بالأول.
•••
ومنها الرسائل النفسانية العقلية، تشتمل على عشر رسائل: الرسالة الأولى منها في «المبادئ العقلية» على رأي الفيثاغوريين، والغرض منها أن الباري - جل جلاله - لما أبدع الموجودات في المبدع الأول وهو العقل، واخترع المخترعات بوساطته في النفس، وخلقها مقدرة في الطباع، وكونها بحسب الأمهات والموالد، ورتبها ونظمها كمراتب الأعداد من الواحد الذي قبل الاثنين والاثنين قبل الثلاثة وكذلك ما بعده، وجعل لكل جنس منها حدا مخصوصا ونهاية معلومة مطابقة بعضها لبعض فاعلة ومنفعلة هيولى وصورة، نوعا وجنسا، إذا رأى ذلك أحكم وأتقن وأكمل وأهدى إليه وأبين. الرسالة الثانية منها في «المبادئ العقلية» على رأي إخوان الصفا وخلان الوفا، والغرض منها هو البحث عن علة الأشياء والأخبار وأسباب الكائنات الكليات والجزئيات عن الباري - جل وعز - كتركيب العدد الصحيح عن الواحد قبل الاثنين. الرسالة الثالثة منها في معنى قول الحكماء: «إن العالم إنسان كبير» ذو نفس وروح حي، عالم طائع لباريه، خلقه ربه - جل ثناؤه - يوم خلقه تاما كاملا، وأن كل الخلائق داخلون فيه وهو جملتهم، وليس خارج العالم شيء آخر لا خلاء ولا ملاء، وليس العالم في مكان وكل ما فيه في مكان موكل كل واحد من أهل العالم بما يتأتى منه، ويقدر عليه يفعلون ما يؤمرون وكل في فلك يسبحون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، كما قال تعالى @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون. الرسالة الرابعة منها في «العقل والمعقول»، وما العقل الهيولاني وما العقل بالقوة وما العقل بالفعل، وما العقل المستفاد وما العقل الفعال، والغرض منها هو تعريف ذات الإنسان وصورة الصور، وما جوهر النفس بحقيقتها والإشارة إلى الباقي فيها وكيف اجتماع صور المعلومات فيها على تباينها وتغايرها وكيف تصورها الموجودات المنتزعة من المواد، وكيف تصير أحد موجودات العالم بعد أن لم يكن شيء من الموجودات إلا بالقوة وكيف خروجه بالصورة من العدم إلى الوجود وكيف يحصل عقلا بالفعل وعاقلا بالفعل ومعقولا بالفعل والوجود الصوري مجردا من سائر المواد معراة من الهيولات فتبقى ببقاء العقل الفعال وجه الله ذي الجلال والإكرام، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون. الرسالة الخامسة منها في «الأكوار والأدوار واختلاف القرون والأعصار والزمان والدهور»، والغرض منها هو البيان عن كيفية إنشاء العالم ومبدأه وترتيبه وظهوره وغايته، وكيفية فنائه وخرابه لو انقطعت مواد بقائه عن مبقيه لينعدم في الحال ويضمحل بلا زمان، وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب.
الرسالة السادسة منه في «ماهية العشق»، ومحبة النفوس ونزوعها وتشوقها إلى الاتحاد والمرض الإلهي وما حقيقته ومن أين مبدأه، والغرض منها هو البيان بأن السابق المشوق إليه، المعشوق المطاع المراد المطلوب، المحبوب على الحقيقة هو الباري - جل ثناؤه - وأن الخلائق وجملة العالم مشتاقة إليه مريدة متحركة نحو الكمال باستتمام الصورية، وعاشقة إلى مصورها الذي هو فوق الصور والكمال التمام، وهو الباري المصور له الأسماء الحسنى والأمثال العلى.
الرسالة السابعة منها في «ماهية البعث والصور والنشور والقيامة والحساب وكيفية المعراج»، وعلمها هو الغرض الأقصى من رسائلنا كلها، وإليه المنتهى وهو الغاية القصوى، وإليه أشار بقوله: @QUR011 تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. الرسالة الثامنة منه في «كمية أجناس الحركات وكيفية اختلافها ومباديها وغايتها»، والغرض منها هو البيان عن كيفية وجود العالم عن الباري - جل جلاله - وكيف حركة الطبائع إلى استكمالها وقبول صورها الخاصية في كل واحد منهما، وكيفية سكونها عند استكمال كل واحد منها لصورته الخاصية؛ إذ بالصورة يصير الشيء هو ما هو، وبه يحصل في الوجود ويتميز ويتحيز ويصير شيئا معلوما مشارا إليه. الرسالة التاسعة منها في «العلل والمعلولات»، وكيف رجوع أواخرها على أوائلها وأوائلها على أواخرها، والغرض المقصود منها هو معرفة أصول العلوم ومباديها وأسبابها وقوانينها، ورسومها وكيفياتها على الحقيقة. الرسالة العاشرة منها في «الحدود والرسوم»، والغرض منها هو معرفة حقائق الأشياء وماهياتها وأجناسها وأنواعها المركبة والبسيطة بما هي كل واحد منها، وبمعرفتها الوقوف على ذوات الأشياء وكيفياتها وفصولها.
•••
ومنها «الرسائل الناموسية الإلهية والشرعية الدينية»، وهي تشتمل على إحدى عشرة رسالة: الرسالة الأول منها في «الآراء والمذاهب» في الديانات الشرعية الناموسية والفلسفية، وبيان اختلاف العلماء في أقاويلهم، وما أدى إليه اجتهادهم من البحث والنظر، والكشف عن الحقائق والأصول، وكمية تلك المقالات وما الأسباب والعلل التي من أجلها كان اختلافهم، ومن المحق ومن البطل، وما يصلح للجميع وما يصلح للخاص وما يصلح للعام، والغرض من هذه كلها هو البيان بأن المذاهب والديانات كلها وضعت كالعقاقير والأدوية والأشربة لمرض النفوس وكسب الصحة ولطف الحيل؛ لخلاصها من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، ووصف طريق الآخرة وكيفية النجاة في المعاد من جهنم عالم الكون والفساد، والوصول إلى الجنان والفردوس عالم الأفلاك والسبع السماوات، وأن أكثر هذه الديانات لأقوام قد انحرفوا عن طريق النجاة وبعدوا عن انتهاج سبيل الرشاد، فاستولى عليهم الميل والعصبية والحمية الجاهلية نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فضلوا ضلالا بعيدا، وما الله بظلام للعبيد. الرسالة الثانية منها في «ماهية الطريق إلى الله عز وجل» وكيفية الوصول إليه، والغرض منها هو الحث على تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق وتطهير السرائر وتنزيه الضمائر، وتنبيه النفوس الساهية عما بعد الموت في المعاد من أحوال القيامة والبعث والنشر والحساب والميزان، والصراط والجواز على جهنم والورود فيها وحقائق معانيها، @QUR018 وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا. الرسالة الثالثة منها في «بيان اعتقاد إخوان الصفا وخلان الوفا» ومذاهب الربانيين الإلهيين، والغرض منها هو وضوح الحجة على بقاء النفوس بعد مفارقتها الجسد الذي يسمى الموت، وحل الشكوك فيها وكشف الشبه بطريق إقناعي لا برهاني؛ إذ الرسالة الجامعة مقصورة على البراهين على ما أشرنا إليه في رسائلنا التي هي كالمدخل إليه والعنوان له. الرسالة الرابعة منها في «كيفية عشرة إخوان الصفا وخلان الوفا» وتعاون بعضهم لبعص بصدق المودة وصحة المحبة ومحض الرأفة والشفقة والتحنن والرحمة، وسيرهم في صلواتهم ومذاكرتهم ومجالستهم واجتماعاتهم، والغرض منها تأليف القلوب والتعاضد في الدين والدنيا جميعا؛ إذ هي سبب نجاتهم والمؤدية إلى خلاصهم.
الرسالة الخامسة منها في «ماهية الإيمان وخصال المؤمنين المحقين»، والغرض منها هو معرفة الجلالة الروحانية، وما الإلهام وما الوسوسة وما التوفيق وما الخذلان وما الهداية وما الضلالة؛ إذ كان هذا الباب علما غامضا وسرا خفيا من العلوم الروحانية والأسرار النفسانية. الرسالة السادسة منها في «ماهية الناموس الإلهي والوضع الشرعي» وشرائط النبوة وكمية خصالهم ومذاهب الربانيين والإلهيين، والغرض منها هو التنبيه على أسرار الكتب النبوية ومرامي مرموزاتهم المقصودة وأوضاعهم الناموسية الإلهية والتهدي إليها، وكيفية الكشف لها من المهدي المنتظر والبرقليط الأكبر. الرسالة السابعة منها في «كيفية الدعوة إلى الله عز وجل» بصفوة الأخوة وصدق الوفاء ومحض المودة وخطاب طبقات المدعوين ومنازل المستجيبين إلى ذلك، والغرض منها هو البيان بأن دولة أهل الخير تبتدي أولها من قوم أخيار فضلاء أبرار، يجتمعون ويتفقون على رأي واحد ومذهب واحد وسنة رضية وسيرة عادلة من غير تخاذل ولا تقاعد. الرسالة الثامنة منها في «كيفية أفعال الروحانيين والجن والملائكة المقربين والمردة والشياطين»، والغرض منها هو البيان أن في العالم فاعلين نفسانيين روحانيين غير جسمانيين، لا يتمانعون ولا يتزاحمون ولا يتضايق بهم المكان ولا يحويهم الزمان، ولا يتحصلون بمشاعر الحواس ومدارك العيان، ذواتهم حيث أفعالهم وصورهم معروفة بآثارهم. الرسالة التاسعة منها في «كمية أنواع السياسات» وكيفيتها ومراتب المسوسين وصفات المدبرين لها في العالم، والغرض منها هو البيان بأن مدبر الجميع وسائس الكل الحكيم الأول الباري المصور - جل جلاله - وأن من كان أحسن سياسة وأحسن تدبيرا كان عند الله أعظم منزلة ولديه أقرب زلفة، ومن كان بقدرة الله أبصر وبحكمته أعرف كان بسياسة خلقه أعلم، ومن كان بها أعلم فسياسته أحسن وأعدل، ومن كان كذلك فإليه أقرب ولديه أوجه. الرسالة العاشرة منها في «كيفية نضد العالم بأسره» وفي مراتب الموجودات ونظام الكائنات، وأن آخرها منعطف على أولها من أعلى الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وأنها كلها عالم واحد كمدينة واحدة وكحيوان واحد وكإنسان واحد، والغرض منها هو الوقوف على معرفة الحقائق ومباديها وتواليها وسوابقها ولواحقها، علما يقينا وبيانا شافيا مقنعا كافيا بلا شك ولا شبهة ولا ريب ولا مرية، وأن مبدأها كلها صادرة عن فعل الله - عز وجل - وحده الذي هو الإبداع المحض لا من موجود هو أولها بالوجود والوحدة وأقدمها فيه، وهو المبدئ الذي أبرز الله فيه سائر الموجودات تنبعث منه القوى متكثرة نحو غايتها المختلفة، وإليها تتصاعد متحدة، وأن إلى ربك المنتهى وإلى الله ترجع الأمور، وجعله السبب الأول الذي به يتعلق ما سواه من سائر الموجودات تعلق المعلول بالعلة، مرتبطا بعضها ببعض فاعلة ومنفعلة، منتقلا من رتبة الدنيا إلى رتبة القصوى ارتباط معلول بعلة على حسب بواديها وتواليها إلى أن تتلاحق بأجمعها، وتتوارد بأسرها إليه، فيكون هو علة العلل ومبدأ المبادئ الفائضة بما أفاض إليه الباري - جل جلاله - على ما دونها بخيرها، ووجودها يقبل كل ذات من الذوات بقدر ما يحتمله منها من الوجود اللائق به في الدوام والبقاء نور الله وعنايته ورحمته وكلمته به، الله يهدي من يشاء ويثيب وإليه يرجع من ينيب.
الرسالة الحادية عشرة منها في «ماهية السحر والعزائم»، وماهية العين والزجر والفأل والوهم والرقى، وكيفية أعمال الطلسمات الباقية، وما عمارة الأرض وما الجن وما الشياطين وما الملائكة المقربون والروحانيون، وكيف تأثيرات بعضهم في بعض، والغرض منها هو البيان بأن في العالم فاعلين غير مرئيين ولا محسوسين يسمون روحانيين، أفعالهم ظاهرة وذواتهم باطنة، منها ما تظهر أفعاله بوساطة الطبيعة، ومنها بوساطة النفس، ومنها بوساطة العقل وهو أجل منازل المخلوقين وأعلى رتبة الروحانيين؛ لأن الباري - جل ثناؤه - جعل العقل سابقا والنفس لاحقا، والطبيعة سائقا والهيولى شائقا والعدم ماحقا، والعقل هو المبدئ الأول والموجود الأول عن موجده أبدئ وبه يبقى؛ ولذلك صار ممتد الوجود بوجوده مستكمل الفضائل والخيرات، تام الأنوار والبركات معرى من الشوائب والتغييرات، مبرأ من النقص الواقع من جهة الهيوليات، يرتب كل موجود مرتبة وينزله منزله ويوفيه قسطه في لزوم النظام والبلوغ إلى التمام؛ ولذلك جعل له القوة الحافظة على سائر الموجودات ووجوداتها العاقلة لهم ذواتها الخاصة بواحد واحد منها يستحقها أو يليق بها، فلذلك يشار إلى ذاتها باسم الفعل الصادر عنها؛ إذ فعله ذاته وصورته تأثيراته، فهذا هو السابق البادي، ثم يليه اللاحق التالي وهو القوة المخترعة بوساطته المبدعة بها الذوات من سائر الموجودات أفضل أحوالها في الوجود الذي هو الحياة، وهي النفس التي بها أعطى الأجسام أفضل صورها وأتم وجودها، ولما تصورت الأجسام بها، وانطبعت فيها حصلت لها بها قوة تتعلق بها الأجسام على قدر اختلافها فحصل صورة كل واحد منها مخالفة لصورة الآخر وهو الطبيعة الباقية في الأجسام، يحصل بها التخلق والتصور والتشكل بالصورة الخاصة لواحد واحد منها، وهي قوة وضعها الباري - جل جلاله - في الجسم، وعلق قوامه بوجودها فيه، وصيره بخاصتها للتحرك به إلى تمام معدله وغاية قدر لبلوغه إليه ووقوفه عنده إلا أن يعوقه عائق من خارج، فيمتنع من حركته إلى أن ينقطع ذلك فيعود إلى حركته الخاصية، ثم الهيولى الأولى التي هي ذات بالقوة لا موجود بالفعل يخرج إلى الوجود بالفعل بقبول الصورة التي بها يصير الشيء هو ما هو، ويفارقه كون العدم والعدم هو لا موجود بالفعل ولا موجود بالذات، موجود بالعرض، فسبحان خالق الوجود والعدل وباسط الأنوار ، والظلم موجد وجود كل موجود، فينعدم ومعيده فينصرم ومنشئه فيبلى ومبقيه ليبقى، منه المبدأ وإليه المنتهى، تم الكلام على الرسائل.
وتليها «الرسالة الجامعة لما في هذه الرسائل المتقدمة كلها» المشتملة على حقائقها بأسرها، والغرض منها إيضاح حقائق ما أشرنا إليه، ونبهنا في هذه الرسالة عليه أشد الإيضاح والبيان، يأتي على ما فيها فيتبين حقائقها ومعانيها ملخصة مستوفاة مهذبة مستقصاة ببراهين هندسية يقينية ودلائل فلسفية حقيقية، وبينات علمية وحجج عقلية وقضايا منطقية وشواهد قياسية وطرق إقناعية، لا يقف على كنهها ولا يحيط بحقائقها ولا يحصلها ولا شيئا منها إلا من ارتاض بما قدمنا، وحذق وعرف وتدرب فيها وتمهر أو بما يشاكله؛ إذ هذه الرسائل كلها كالمقدمات لها والمداخل إليها والأدلة عليها والأنموذج منها لا ينفتح غلق معتاصها، ولا ينكشف مستور غامضها إلا لمن تهذب بهذه الرسائل الاثنتين والخمسين أو بما شاكلها من الكتب، والرسالة الجامعة من رسائلنا هي منتهى الغرض لما قدمناه، وأقصى المدى ونهاية القصد وغاية المراد، ولله الحمد والمنة وله الحول والقوة.
هذه فهرست رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل العدل وأبناء الحمد، وهي اثنتان وخمسون رسالة، ورسالة في تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن مثل صاحب هذه الرسائل مع طالبي العلم ومؤثري الحكمة، ومن أحب خلاصه واختار نجاته كمثل رجل حكيم جواد كريم له بستان خضر نضر بهج مونق، معجب طيب الثمرات لذيذ الفواكه عطر الرياحين أرجة الأوراد فائحة الأزهار بهية المنظر، نزهة المرامي مختلفة الأشكال والأصباغ والألوان والمذاق والمشام من بين رطب ويابس وحلو وحامض، وفيها من سائر الطيور المطربة الأصوات الملهية الألحان المستحسنة التغريد، تطرد تحت أشجارها أنهار جارية وخلال أزهارها وخضرها جداول منسابة تموج، وفي حافات الأنهار خضر مونقة وأصداف مشرقة الألوان وجواهر متناسبة الأصباغ رائقة المناظر عجيبة الصور بديعة التأليف غريبة التنضيد، فرحة كل نفس، ونزهة كل عين، مسلاة كل هم، مدعاة كل أنس، فأراد لكرم نفسه وسخاء سجيته أن يدخلها كل مستحق ويتلذذ فيها وبها كل مشرف عاقل، فنادى في الناس أن هلموا وادخلوا هذا البستان وكلوا من ثمارها ما اشتهيتم، وشموا من رياحينها ما اخترتم، وتفرجوا كيف شئتم، وتنزهوا أين هويتم، وافرحوا واطربوا وكلوا واشربوا وتلذذوا وتنعموا واستروحوا بطيبها وتنسموا بروائحها، فلم يجبه أحد ولم يصدقه خلق، ولا عبئوا به، ولا التفتوا إليه استعظاما لقوله واستبعادا لوصفه واستكبارا لكلامه واستغرابا لذكره، فرأى الحكيم من الرأي أن وقف على باب البستان وأخرج مما فيه تحفا وطرفا ولطفا من كل ثمرة طيبة وفاكهة لذيذة وريحان زكي وورد جني ونور أنيق وجوهر بهي وطير غرد وشراب عذب، فكل من مر به عرضها عليه وشهاها إليه وذوقه منها، وحياه بها، وأشمه من فوائح الرياحين، وأسمعه من بدائع التلحين حتى إذا ذاق وشم وفرح به وطرب منه وارتاح إليه واهتز وعلم أنه قد وقف على جميع ما في البستان، ومالت إليه نفسه واشتاق إلى دخول البستان وتمناه وقلق إليه ولم يصبر عنه، فقال له عند ذلك: ادخل البستان وكل ما شئت وشم ما شئت واختر ما شئت، وانظر كيف شئت وتنزه أين شئت، وجئ من أين شئت وتلذذ وتنعم وتطيب وتنسم.
فهكذا ينبغي لمن حصلت عنده هذه الرسائل، والرسالة لا يضيعها بوضعها في غير أهلها وبذلها لمن لم يرغب فيها، ولا يظلمها بمنعها عن مستحقها وصرفها عن مستوجبها ولا يعرفها إلا لكل حر خير سديد مبصر للقصد، مجلب للرشد من طالبي العلم ومؤثري الأدب ومحبي الحكم، وليتحرز في حفظها وأسرارها وإعلانها وإظهارها كل التحرز، ويحرسها غاية الحراسة ويصنها أحسن الصيانة، وليكن المؤدي فيها حق الأمانة، لا يضعها إلا في حقها ولا يمنعها عن مستحقها، فإنها جلاء وشفاء ونور وضياء، بل كالداء إن لم تكن دواء، وكالفساد إن لم تكن صلاحا، وكالهلاك إن لم تكن نجاة تداوي، وقد تدوي وتميت وتحيي، فهي كالترياق الكبير الذي هو في نفسه وحده، وتختلف الأحوال عنده فيفعل الشيء وضده بحسب القوابل والمنفعلات عنه والحواصل والمتوالد منه، بل مثلها الغذاء والضياء فإن بالغذاء القوة والزيادة، وبالضياء الأبصار والهداية.
فكما أن الصبي الصغير والطفل الرضيع السليم من الداء المستعد للزيادة والنماء يحتاج إلى حسن التربية ولطف التغذية وإطعام ما هو له أوفق وأصلح وفيه أزكى وأنجع على معرفة ومقدار، ثم التدرج بغذائه حالا بعد حال إلى استكمال قوته وتمام بنيته؛ لئلا يتغذى بما لا ينجع فيه ولا يستمرئه فيمرضه ويدويه بل يهلكه ويرديه، فكان الذي أعد لشفائه وبقائه هو سبب دائه وفنائه، أو كالعليل الملتبس بالداء البعيد من الشفاء إن غذي لا ينتفع بغذائه بل يزيد في دائه، وربما كان سبب هلاك نفسه وانقضاء عمره، وأما الضياء فإنه لا يصلح إلا لمن فتح عينه وصح نظره وقوي بصره، ويزيده الجلاء جلاء والنور قوة وضياء، فأما من لم يفتح عينه أو كان قريب العهد بالخروج من الظلام فيضعف جدا عن مقابلة ضوء النهار ونور الشمس بل يكسبه الضياء ظلمة البصر حتى ربما صار ضلالا وعمى، وكذلك من كان عليل الطرف أرمد العين ذا عور أو في بصره سوء وقذى فلا يفتح عينه فيبصر، ولا يعاين الصور فيميز، بل يستريح أبدا إلى الظلمات، ويهرب من الضياء، وكما زاد الضياء نقص إبصاره وضعف إدراكه، فإن لج أداه إلى الغشاء والعماء وفقد النظر وذهاب البصر، كذلك الواجب على من حصلت عنده هذه الرسائل وهذه الرسالة أن يتقي الله تعالى فيها بأن يهتم ويعتني بها غاية العناية، ولا يخل بهذه الوصاية، ويتلطف في استعمالها وإيصالها تلطف الأخ الشقيق والأب الشفيق والواد الصديق والطيب الرفيق بعد بذل وسعه واستفراغ جهده في توخي القصد، وتحري الصواب في بذله شيئا بعد شيء لمن رآه شديد الحاجة إليه؛ عظيم الحرص عليه؛ كثير الرغبة فيه بعد أن اختبرهم واستبرأهم واستكشف حالهم فمن أنس منه رشدا ورجا فيه خيرا ممن أقصى مناه خلاص روحه ونجاة نفسه وجعل سعيه فيما يرجع إلى ذاته وإلى ما هو سبب حياته يزهد في أعراض الدنيا، ويرغب فيما هو خير وأبقى لا يكذب نفسه ولا يسامحها بل يصدقها صدقا، ويجد حزما، ويعلم حقا أن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى، دفعها إليه رسالة رسالة على الولاء شبيه الغذاء والتربية والنماء وكالدواء للصحة والشفاء والكحل والجلاء لتقوية البصر والضياء ما يقرب من فهمه ويليق بمحله من علمه، ويستصلحه لمثله قدر ما يغذيه ويربيه ويصحه ويشفيه، بل يبصره ويهديه ويشده ويقويه أولا فأولا، على الترتيب المبين في الفهرست حتى إذا ما تمكنت الحكمة من نفسه وأنست به وتصورت عنده واستقر في خلده وقوي فيه وتحقق بفكرة معانيه، طلب عند ذلك الكل بشدة حرص وانشراح صدر وغاية رغبة وخلوص نية وقوة عزيمة، وفضل معرفة وزيادة يقين وصحة بصيرة فحصلها وعمل بها، واستحق بعد النظر فيهن والوقوف على جمل معانيهن النظر في الرسالة الجامعة التي هي نهاية المراد ونزهة المرتاد والفوز في المعاش والمعاد؛ لأن بهن التوصل إليها وبفهمهن الوقوف عليها، فمن وفقه الله لذلك ويسره فقد هداه من الحيرة، وأحياه بعد الموت، وأمنه من الخوف، وأزلفه إليه، وأسبغ جلائل نعمه عليه فيبقى بقاء الأبد، ويدوم دوام السرمد في السعادة التامة والبركات العامة والنعيم المقيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
(تمت فهرست رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل العدل وأبناء الحمد وأرباب الحقائق وأصحاب المعاني، في تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق، للبلوغ إلى السعادة الكبرى والجلالة العظمى والبقاء الدائم والكمال الأخير بحول الله وقوته وتأييده وتوفيقه، وله الحمد وحده وصلى الله على رسوله سيدنا محمد وآله الأئمة الطاهرين وسلم تسليما عليهم أجمعين.)
القسم الرياضي
الرسالة الأولى في العدد
@QUR07 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
اعلم أيها الأخ البار الرحيم بأنه لما كان من مذهب إخواننا الكرام - أيدهم الله - النظر في جميع علوم الموجودات التي في العالم من الجواهر والأعراض والبسائط والمجردات والمفردات والمركبات، والبحث عن مبادئها وعن كمية أجناسها وأنواعها وخواصها، وعن ترتيبها ونظامها على ما هي عليه الآن، وعن كيفية حدوثها ونشوئها عن علة واحدة ومبدأ واحد من مبدع واحد جل جلاله، ويستشهدون على بيانها بمثالات عددية وبراهين هندسية مثل ما كان يفعله الحكماء الفيثاغوريون؛ احتجنا أن نقدم هذه الرسالة قبل رسائلنا كلها، ونذكر فيها طرفا من علم العدد وخواصه التي تسمى «الأرثماطيقي» شبه المدخل والمقدمات؛ لكيما يسهل الطريق على المتعلمين إلى طلب الحكمة التي تسمى الفلسفة، ويقرب تناولها للمبتدئين بالنظر في العلوم الرياضية، فنقول:
الفلسفة أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة الإنسانية، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم. والعلوم الفلسفية أربعة أنواع: أولها الرياضيات، والثاني المنطقيات، والثالث العلوم الطبيعيات، والرابع العلوم الإلهيات، فالرياضيات أربعة أنواع: أولها الأرثماطيقي، والثاني الجومطريا، والثالث الأسطرنوميا، والرابع الموسيقى، فالموسيقى هو معرفة تأليف الأصوات وبه استخراج أصول الألحان، والأسطرنوميا هو علم النجوم بالبراهين التي ذكرت في كتاب المجسطي، والجومطريا هو علم الهندسة بالبراهين التي ذكرت في كتاب إقليدس، والأرثماطيقي هو معرفة خواص العدد وما يطابقها من معاني الموجودات التي ذكرها فيثاغورس ونيقوماخس، فأول ما يبتدأ بالنظر به في هذه العلوم الفلسفية الرياضيات، وأول الرياضيات معرفة خواص العدد؛ لأنه أقرب العلوم تناولا، ثم الهندسة ثم التأليف ثم التنجيم ثم المنطقيات ثم الطبيعيات ثم الإلهيات، وهذا أول ما نقول في علم العدد شبه المدخل والمقدمات:
الألفاظ تدل على المعاني والمعاني هي المسميات، والألفاظ هي الأسماء، وأعم الألفاظ والأسماء قولنا: «الشيء»، والشيء إما أن يكون واحدا أو أكثر من واحد، فالواحد يقال على الوجهين إما بالحقيقة وإما بالمجاز، فالواحد بالحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة ولا ينقسم، وكل ما لا ينقسم فهو واحد من تلك الجهة التي بها لا ينقسم، وإن شئت قلت الواحد ما ليس فيه غيره بما هو واحد، وأما الواحد بالمجاز فهو كل جملة يقال لها واحد كما يقال عشرة واحدة ومائة واحدة وألف واحد. والواحد واحد بالوحدة، كما أن الأسود أسود بالسواد، والوحدة صفة للواحد كما أن السواد صفة للأسود. وأما الكثرة فهي جملة لآحاد، وأول الكثرة الاثنان ثم الثلاثة ثم الأربعة ثم الخمسة، وما زاد على ذلك بالغا ما بلغ. والكثرة نوعان: إما عدد وإما معدود، والفرق بينهما أن العدد إنما هو كمية صور الأشياء في نفس العاد، وأما المعدودات فهي الأشياء نفسها، وأما الحساب فهو جمع العدد وتفريقه. والعدد نوعان: صحيح وكسور، والواحد الذي قبل الاثنين هو أصل العدد ومبدأه، ومنه ينشأ العدد كله، صحيحه وكسوره، وإليه ينحل راجعا، أما نشوء الصحيح فبالتزايد، وأما الكسور فبالتجزؤ، والمثال في ذلك ما أقول في نشوء الصحيح إنه إذا أضيف إلى الواحد واحد آخر يقال عند ذلك إنهما اثنان، وإذا أضيف إليهما واحد آخر يقال لتلك الجملة ثلاثة، وإذا أضيف إليها واحد آخر يقال لها أربعة، وإذا أضيف إليها واحد يقال لها خمسة، وعلى هذا القياس نشوء العدد الصحيح بالتزايد واحدا واحدا بالغا ما بلغ، وهذه صورتها: «1 2 3 4 5 6 7 8 9».
وأما تحليل العدد إلى الواحد فعلى هذا المثال الذي أقول إنه إذا أخذ من العشرة واحد تبقى تسعة، وإذا ألقي من التسعة واحد تبقى ثمانية، وإذا أسقط من الثمانية واحد تبقى سبعة، وعلى هذا القياس يلقى واحد واحد حتى يبقى واحد، فالواحد لا يمكن أن يلقى منه شيء؛ لأنه لا جزء له البتة، فقد تبين كيف ينشأ العدد الصحيح من الواحد وكيف ينحل إليه، وأما نشوء العدد الكسور من الواحد فعلى هذا المثال الذي أقول إنه إذا رتب العدد الصحيح على نظمه الطبيعي الذي هو واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة، ثم أشير إلى الواحد من كل جملة فإنه يتبين كيف يكون نشوءه من الواحد، وذلك أنه إذا أشير إلى الواحد من الاثنين يقال للواحد عند ذلك نصف، وإذا أشير إلى الواحد من جمله الثلاثة فيقال له الثلث، وإذا أشير إليه من جملة الأربعة يقال له الربع، وإذا أشير إليه من جمله الخمسة يقال له الخمس، وكذلك السدس والسبع والثمن والتسع والعشر، وأيضا إذا أشير إلى الواحد من جملة الإحدى عشر فيقال له: جزء من أحد عشر ومن اثني عشر نصف السدس ومن ثلاثة عشر جزءا من ثلاثة عشر ومن أربعة عشر نصف السبع وخمسة عشر ثلث الخمس، وعلى هذا المثال يعتبر سائر الكسور، فقد تبين كيف يكون نشوء العدد من الواحد الصحيح منها والكسور جميعا، وكيف هو أصل لهما جميعا، وهذه صورتها:
واعلم يا أخي بأن العدد الصحيح رتب أربع مراتب: آحاد وعشرات ومئات وألوف، فالآحاد من واحد إلى تسعة، والعشرات من عشرة إلى تسعين، والمئات من مائة إلى تسعمائة والألوف من ألف إلى تسعة آلاف، ويشتملها كلها اثنتا عشرة لفظة بسيطة، وذلك من واحد إلى عشرة عشرة ألفاظ، ولفظة مائة ولفظة ألف فصار الجميع اثنتي عشرة لفظة بسيطة، وأما سائر الألفاظ فمشتقة منها أو مركبة أو مكررة، فالمكررة كالعشرين من العشرة، والثلاثين من الثلاثة، والأربعين من الأربعة، وأمثال ذلك، وأما المركبة كالمائتين وثلاثمائة وأربعمائة وخمسمائة فإنها مركبة من لفظة المائة مع سائر الآحاد، وكذلك ألفان وثلاثة آلاف وأربعة آلاف، فإنها مركبة من لفظة الألف مع سائر الألفاظ من الآحاد والعشرات والمئات، كما يقال خمسة آلاف وسبعة آلاف وعشرون ألفا ومائة ألف وسائر ذلك، وهذه صورتها:
أما الآحاد فهي «أ ب ج د ه و ز ح ط ي»، وأما العشرات فهي «ك ل م ن س ع ف ص»، وأما المئات فهي «ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ»، وأما الألوف فهي «غ بغ، جغ، دغ، هغ، وغ، زغ، حغ، طغ، يغ».
واعلم بأن كون العدد على أربع مراتب، التي هي الآحاد والعشرات والمئات والألوف ليس هو أمرا ضروريا لازما لطبيعة العدد مثل كونه أزواجا وأفرادا صحيحا وكسورا بعضها تحت بعض، لكنه أمر وضعي رتبته الحكماء باختيار منهم؛ وإنما فعلوا ذلك لتكون الأمور العددية مطابقة لمراتب الأمور الطبيعية، وذلك أن الأمور الطبيعية أكثرها جعلها الباري - جل ثناؤه - مربعات مثل الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ومثل الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم، والمرتان المرة الصفراء والمرة السوداء، ومثل الأزمان الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع، والرياح الأربع: الصبا والدبور والجنوب والشمال، والأوتاد الأربع: الطالع والغارب ووتد السماء ووتد الأرض، والمكونات الأربع التي هي المعادن والنبات والحيوان والإنس، وعلى هذا المثال وجد أكثر الأمور الطبيعية مربعات.
واعلم بأن هذه الأمور الطبيعية إنما صارت أكثرها مربعات بعناية الباري - جل ثناؤه - واقتضاء حكمته لتكون مراتب الأمور الطبيعية مطابقة للأمور الروحانية التي هي فوق الأمور الطبيعية، وهي التي ليست بأجسام، وذلك أن الأشياء التي فوق الطبيعية على أربع مراتب؛ أولها الباري - جل جلاله - ثم دونه العقل الكلي الفعال، ثم دونه النفس الكلية، ثم دونه الهيولى الأولى، وكل هذه ليست بأجسام.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن نسبة الباري - جل ثناؤه - من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، ونسبة العقل منها كنسبة الاثنين من العدد، ونسبة النفس من الموجودات كنسبة الثلاثة من العدد، ونسبة الهيولى الأولى كنسبة الأربعة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد كله آحاده وعشراته ومئاته وألوفه أو ما زاد بالغا ما بلغ؛ فأصلها من الواحد إلى الأربعة، وهي هذه «1 2 3 4»، وذلك أن سائر الأعداد كلها من هذه يتركب ومنها ينشأ وهي أصل فيها كلها.
بيان ذلك أنه إذا أضيف واحد إلى أربعة كانت خمسة، وإن أضيف اثنان إلى أربعة كانت ستة، وإن أضيف ثلاثة إلى أربعة كانت سبعة، وإن أضيف واحد وثلاثة إلى أربعة كانت ثمانية، وإن أضيف اثنان وثلاثة إلى أربعة كانت تسعة، وإن أضيف واحد واثنان وثلاثة إلى أربعة كانت عشرة. وعلى هذا المثل حكم سائر الأعداد من العشرات والمئات والألوف وما زاد بالغا ما بلغ.
وكذلك أصول الخط أربعة، وسائر الحروف منها يتركب، والكلام من الحروف يتركب - كما بينا فيما بعد - فاعتبرها، فإنك تجد ما قلنا حقا صحيحا، ومن يريد أن يعرف كيف اخترع الباري - جل ثناؤه - الأشياء في العقل وكيف أوجدها في النفس وكيف صورها في الهيولى فليعتبر ما ذكرنا في هذا الفصل.
واعلم يا أخي أن الباري - جل ثناؤه - أول شيء اخترعه وأبدعه من نور وحدانيته جوهر بسيط يقال له: العقل الفعال كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار، ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من نور العقل، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين، ثم أنشأ الهيولى الأولى من حركة النفس كما أنشأ الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة، ثم أنشأ سائر الخلائق من الهيولى ورتبها بتوسط العقل والنفس كما أنشأ سائر العدد من الأربعة بإضافة ما قبلها إليها - كما مثلنا قبل.
واعلم يا أخي، أيدك الله بروح منه، بأنك إذا تأملت ما ذكرنا من تركيب العدد من الواحد الذي قبل الاثنين ونشوئه منه؛ وجدته من أدل الدليل على وحدانية الباري - جل ثناؤه - وكيفية اختراعه الأشياء وإبداعه لها؛ وذلك أن الواحد الذي قبل الاثنين وإن كان منه يتصور وجود العدد وتركيبة - كما بينا قبل - فهو لم يتغير عما كان عليه ولم يتجزأ.
كذلك الله - عز وجل - وإن كان هو الذي اخترع الأشياء من نور وحدانيته وأبدعها وأنشأها وبه قوامها وبقاؤها وتمامها وكمالها فهو لم يتغير عما كان عليه من الوحدانية قبل اختراعه وإبداعه لها - كما بينا في رسالة المبادئ العقلية - فقد أنبأناك بما ذكرنا من أن نسبة الباري - جل ثناؤه - من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، وكما أن الواحد أصل العدد ومنشأه وأوله وآخره؛ كذلك الله - عز وجل - هو علة الأشياء وخالقها وأولها وآخرها.
وكما أن الواحد لا جزء له ولا مثل له في العدد، فكذلك الله - جل ثناؤه - لا مثل له في خلقه ولا شبه، وكما أن الواحد محيط بالعدد كله، ويعده كذلك الله - جل جلاله - عالم بالأشياء وماهياتها تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
واعلم يا أخي بأن مراتب العدد عند أكثر الأمم على أربع مراتب كما تقدم ذكرها، وأما عند الفيثاغوريين فعلى ستة عشر مرتبة، وهذه صورتها:
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد الكسور مراتبه كثيرة؛ لأنه ما من عدد صحيح إلا وله جزء أو جزآن أو عدة أجزاء كالاثني عشر، فإن له نصفا وثلثا وربعا وسدسا ونصف سدس، وكذلك الثمانية وعشرون وغيرهما من الأعداد، إلا أن العدد الكسور وإن كثرت مراتبه وأجزاؤه فهي مرتبة بعضها تحت بعض، ويشملها كلها عشرة ألفاظ، لفظة منها عامة مبهمة وتسعة مخصوصة مفهومة ومن التسعة الألفاظ لفظة موضوعة، وهي النصف.
وثمانية مشتقة وهي: الثلث من الثلاثة والربع من الأربعة والخمس من الخمسة والسدس من الستة والسبع من السبعة والثمن من الثمانية والتسع من التسعة والعشر من العشرة، وأما اللفظة العامة المبهمة فهي الجزء؛ لأن الواحد من أحد عشر يقال له: جزء من أحد عشر وكذلك من ثلاثة عشر ومن سبعة عشر وما شاكل ذلك.
وأما باقي الألفاظ الكسور فمضافة إلى هذه العشرة الألفاظ كما يقال لواحد من اثني عشر: نصف السدس، ولواحد من خمسة عشر: خمس الثلث، ولواحد من عشرين: نصف العشر، وعلى هذا المثال يتبين سائر معاني الكسور بإضافة بعضها لبعض.
واعلم بأن نوعي العدد يذهبان في الكثرة بلا نهاية، غير أن العدد الصحيح يبتدئ من أقل الكمية وهو الاثنان ويذهب في التزايد بلا نهاية، وأما الكسور فيبتدئ من أكثر الكمية وهو النصف ويمر في التجزؤ بلا نهاية، فكلاهما من حيث الابتداء ذو نهاية، ومن حيث الانتهاء غير ذي نهاية.
(1) فصل في خواص العدد
ثم اعلم أن ما من عدد إلا وله خاصية أو عدة خواص، ومعنى الخاصية أنها الصفة المخصوصة للموصوف الذي لا يشركه فيها غيره، فخاصية الواحد أنه أصل العدد ومنشأه - كما بينا قبل - وهو يعد العدد كله الأزواج والأفراد جميعا، ومن خاصية الاثنين أنه أول العدد مطلقا وهو يعد نصف العدد الأزواج دون الأفراد، ومن خاصية الثلاثة أنها أول عدد الأفراد، وهي تعد ثلث الأعداد تارة الأفراد وتارة الأزواج، ومن خاصية الأربعة أنها أول عدد مجذور، ومن خاصية الخمسة أنها أول عدد دائر، ويقال: كري، ومن خاصية الستة أنها أول عدد تام، ومن خاصية السبعة أنها أول عدد كامل، ومن خاصية الثمانية أنها أول عدد مكعب، ومن خاصية التسعة أنها أول عدد فرد مجذور وأنها آخر مرتبة الآحاد. ومن خاصية العشرة أنها أول مرتبة العشرات، ومن خاصية الأحد عشر أنها أول عدد أصم، ومن خاصية الاثني عشر أنها أول عدد زائد.
وبالجملة: إن من خاصية كل عدد أنه نصف حاشيتيه مجموعتين وإذا جمعت حاشيتاه تكونان مثله مرتين، ومثال ذلك خمسة فإن إحدى حاشيتيها أربعة والأخرى ستة ومجموعهما عشرة وخمسة نصفها، وعلى هذا القياس يوجد سائر الأعداد إذا اعتبر، وهذه صورتها:
1 2 3 4 - 5 - 6 7 8 9
وأما الواحد فليس له إلا حاشية واحدة وهي الاثنان والواحد نصفها وهي مثله مرتين، وأما قولنا: إن الواحد أصل العدد ومنشأه فهو أن الواحد إذا رفعته من الوجود ارتفع العدد بارتفاعه، وإذا رفعت العدد من الوجود لم يرتفع الواحد، وأما قولنا: إن الاثنين أول العدد مطلقا فهو أن العدد كثرة الآحاد وأول الكثرة اثنان، وأما قولنا: إن الثلاثة أول الأفراد فهي كذلك؛ لأن الاثنين أول العدد وهو الزوج، ويليه ثلاثة، وهي فرد، وأما قولنا: إنها تعد ثلث العدد تارة الأفراد وتارة الأزواج فلأنها تتخطى العددين وتعد الثالث منهما، وذلك الثالث يكون تارة زوجا وتارة فردا، وأما قولنا: إن الأربعة أول عدد مجذور فلأنها من ضرب الاثنين في نفسه وكل عدد إذا ضرب في نفسه يصير جذرا والمجتمع من ذلك مجذورا.
وأما ما قيل من أن الخمسة أول عدد دائر فمعناه أنها إذا ضربت في نفسها رجعت إلى ذاتها، وإن ضرب ذلك العدد المجتمع من ضربها في نفسها رجع إلى ذاته أيضا، وهكذا دائما؛ مثال ذلك خمسة في خمسة خمسة وعشرون، وإذا ضرب خمسة وعشرون في مثله صار ستمائة وخمسة وعشرين، وإذا ضرب هذا العدد أيضا في نفسه خرج ثلاثمائة ألف وتسعون ألفا وستمائة وخمسة وعشرون، وإن ضرب هذا العدد في نفسه خرج عدد آخر وخمسة وعشرون. ألا ترى أن الخمسة كيف تحفظ نفسها وما يتولد منها دائما بالغا ما بلغ؟ وهذه صورتها:
5 - 25 - 625 - 390625
وأما الستة فإن فيها مشابهة للخمسة في هذا المعنى لكنها ليست ملازمة كلزوم الخمسة ودوامها 6 36 1296 ستة في ستة ستة وثلاثون فالستة راجعة إلى ذاتها وظهر ثلاثون وإذا ثلاثون، وإذا ضربت ستة وثلاثون في نفسها خرج ألف ومائتان وستة وتسعون فظهرت الستة ولم يظهر الثلاثون، فقد بان أن الستة تحفظ نفسها ولا تحفظ ما يتولد منها، وأما الخمسة فإنها تحفظ نفسها وما يتولد منها دائما أبدا. وأما ما قيل من خاصية الستة أنها أول عدد تام فمعناه أن كل عدد إذا جمعت أجزاء فكانت مثله سواء سمي ذلك العدد عددا تاما فالستة أولها، وذلك أن لها نصفا وهو ثلاثة، وثلثا وهو اثنان وسدسا وهو واحد فإذا جمعت هذه الأجزاء كانت ستة سواء وليست هذه الخاصية لعدد قبلها، ولكن لما بعدها لثمانية وعشرين ولأربعمائة وستة وتسعين وثمانية آلاف ومائة وثمانية وعشرين، وهذه صورتها:
6 28 496 8128
وأما ما قيل: إن السبعة أول عدد كامل فمعناه أن السبعة قد جمعت معاني العدد كلها؛ وذلك أن العدد كله أزواج وأفراد، والأزواج منها أول وثان، فالاثنان أول الأزواج، والأربعة زوج ثان، والأفراد منها أول وثان والثلاثة أول الأفراد والخمسة فرد ثان، فإذا جمعت فردا أولا إلى زوج ثان أو زوجا أولا إلى فرد ثان كانت منها سبعة؛ مثال ذلك أنك إذا جمعت الاثنين الذي هو أول الأزواج إلى الخمسة الذي هو فرد ثان كان منهما سبعة، وكذلك إذا جمعت الثلاثة التي هي فرد أول إلى الأربعة التي هي زوج ثان كانت منهما سبعة، وكذلك إذا أخذ الواحد الذي هو أصل العدد مع الستة التي هي عدد تام يكون منهما السبعة التي هي عدد كامل، وهذه صورتها:
7654321
وهذه الخاصية لا توجد لعدد قبل السبعة ولها خواص أخر، سنذكرها عند ذكرنا أن الموجودات بحسب طبيعة العدد.
وأما ما قيل: إن الثمانية أول عدد مكعب فمعناه أن كل عدد إذا ضرب في نفسه سمي جذرا والمجتمع منهما مجذورا - كما بينا من قبل - وإذا ضرب المجذور في جذره سمي المجتمع من ذلك مكعبا؛ وذلك أن الاثنين أول العدد، فإذا ضرب في نفسه كان المجتمع منه أربعة وهي أول عدد مجذور ثم ضرب المجذور في جذره الذي هو اثنان فخرج من ذلك ثمانية، فالثمانية أول عدد مكعب.
وأما ما قيل: إنها أول عدد مجسم فلأن الجسم لا يكون إلا من سطوح متراكمة، والسطح لا يكون إلا من خطوط متجاورة، والخط لا يكون إلا من نقط منتظمة، كما بينا في رسالة «الهندسة»، فأقل خط من جزأين وأضيف سطح من خطين وأصغر جسم من سطحين، فينتج من هذه المقدمات أن أصغر جسم من ثمانية أجزاء؛ أحدها الخط وهو جزءان فإذا ضرب الخط في نفسه كان منه السطح وهو أربعة أجزاء، وإذا ضرب السطح في أحد طوليه كان منه العمق فيصير جملة ذلك ثمانية أجزاء طول اثنين في عرض اثنين في عمق اثنين.
وأما ما قيل: إن التسعة أول فرد مجذور فلأن الثلاثة في الثلاثة تسعة وليس من السبعة والخمسة والثلاثة شيء مجذور.
وأما ما قيل: إن العشرة أول مرتبة العشرات فهو بين، كما أن الواحد أول مرتبة الآحاد، وهذا بين ليس يحتاج إلى الشرح ولها خاصية أخرى وهي تشبه خاصية الواحد، وذلك أنه ليس لها من جنسها إلا طرف واحد، وهو العشرون، وهي نصفها كما بينا للواحد أنه نصف الاثنين.
وأما ما قيل: إن الأحد عشر أول عدد أصم، فلأنه ليس له جزء ينطق به ولكن يقال: واحد من أحد عشر واثنان منه، وكل عدد هذا وصفه يسمى أصم مثل ثلاثة عشر وسبعة عشر وما شاكل ذلك، وهذه صورتها:
وأما ما قيل: إن الاثني عشر أول عدد زائد؛ فلأن كل عدد إذا جمعت أجزاؤه وكانت أكثر منه سمي عددا زائدا والاثنا عشر أولها، وذلك أن لها نصفا وهو ستة ولها ثلث وهو أربعة وربع وهو ثلاثة وسدس وهو اثنان، ونصف سدس وهو واحد. وإذا جمعت هذه الأجزاء كانت ستة عشر، وهي أكثر من الاثني عشر بزيادة أربعة، وهذه صورتها:
12 نصف 6 ثلث 4 ربع 3 سدس 2 نصف السدس 1
وبالجملة ما من عدد صحيح إلا وله خاصية تختص به دون غيره، ونحن تركنا ذكرها كراهية للتطويل.
•••
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العدد ينقسم قسمين: صحيح وكسور كما بينا قبل، فالصحيح ينقسم قسمين أزواجا وأفرادا، فالزوج هو كل عدد ينقسم بنصفين صحيحين، والفرد كل عدد يزيد على الزوج واحدا أو ينقص عن الزوج بواحد، فأما نشوء عدد الزوج فيبتدئ من الاثنين بالتكرير دائما على ما يرى:
وأما نشوء الأفراد فيبتدئ من الواحد إذا أضيف إليه اثنان وأضيف إلى ذلك اثنان دائما بالغا ما بلغ:
والزوج ينقسم على ثلاثة أنواع: زوج الزوج، وزوج الفرد، وزوج الزوج والفرد، فزوج الزوج هو كل عدد ينقسم بنصفين صحيحين متساويين ونصفه بنصفين دائما إلى أن تنتهي القسمة إلى الواحد، مثال ذلك أربعة وستون، فإنه زوج الزوج، وذلك أن نصفه اثنان وثلاثون، ونصفه ستة عشر، ونصفه ثمانية، ونصفه أربعة، ونصفه اثنان، ونصفه واحد. ونشوء هذا العدد يبتدئ من الاثنين إذا ضرب في الاثنين ثم ضرب المجموع في الاثنين وما يجمع من ذلك في الاثنين، ثم ضرب المجموع في الاثنين دائما بلا نهاية.
ومن أراد أن يتبين هذا مستقصى فليضعف بيوت الشطرنج فإنه لا يخرج إلا من هذا العدد، أعني زوج الزوج؛ ولهذا العدد خواص أخر ذكرها نيقوماخس في كتابه بشرح طويل ونحن نذكر منها طرفا؛ قال:
إن هذا العدد إذا رتب على نظمه الطبيعي وهو واحد اثنان أربعة ثمانية ستة عشر اثنان وثلاثون أربعة وستون، وعلى هذا القياس بالغا ما بلغ فإن من خاصيته أن من ضرب الطرفين أحدهما في آخر يكون مساويا لضرب الواسطة في نفسها إن كان له واسطة واحدة، وإن كانت له واسطتان فمثل ضرب أحدهما في الأخرى، مثال ذلك أربعة وستون فإنه الطرف الآخر والواحد الطرف الأول وله واسطة واحدة، وهي ثمانية، فأقول: إن ضرب الواحد في أربعة وستين أو الاثنين في اثنين وثلاثين أو الأربعة في ستة عشر مساو لضرب ثمانية في نفسها، وهذه صورتها:
وإن زيدت فيه رتبة أخرى حتى يصير له واسطتان فأقول: إن ضرب الطرفين أحدهما في الآخر يكون مساويا لضرب الواسطتين إحداهما في الأخرى؛ مثال ذلك مائة وثمانية وعشرون إذا ضرب في واحد وأربع وستون في اثنين أو اثنان وثلاثون في أربعة يكون مساويا لضرب ستة عشر في ثمانية، وهذه صورتها:
ولهذا العدد خاصية أخرى أنه إذا جمع من واحد إلى حيث ما بلغ يكون أقل من ذلك العدد الذي انتهى إليه بواحد؛ مثال ذلك إذا أخذ واحد واثنان وأربعة يكون جملتها أقل من ثمانية بواحد وإن زيدت الثمانية عليها يكون الجملة أقل من ستة عشر بواحد وإن زيدت الستة عشر عليها يكون الجملة أقل من اثنين وثلاثين بواحد، وعلى هذا القياس توجد مراتب هذا العدد بالغا ما بلغ، وهذه صورتها:
وأما زوج الفرد فهو كل عدد ينقسم بنصفين مرة واحدة ولا ينتهي في القسمة إلى الواحد، مثل ستة وعشرة وأربعة عشر وثمانية عشر واثنين وعشرين وستة وعشرين، فإن كل واحد من هذه وأمثالها من العدد ينقسم مرة واحدة ولا ينتهي إلى الواحد، ونشوء هذا العدد من ضرب كل عدد فرد في اثنين، وهذه صورتها: «و ي يد يح كب كول لو لج مب مو» كل واحد من هذه الأعداد نصف لما فوقه من العدد، وأما زوج الزوج والفرد فهو كل عدد ينقسم بنصفين أكثر من مرة واحدة ولا ينتهي في القسمة إلى الواحد مثل اثني عشر وعشرين وأربعة وعشرين وثمانية وعشرين وأمثالها في الأعداد، وهذه صورتها:
ونشوء هذا العدد من ضرب زوج الفرد في اثنين مرة أو مرارا كثيرة، ولها خواص تركنا ذكرها مخافة التطويل.
وأما العدد الفرد فيتنوع قسمين: فرد أول وفرد مركب، والفرد المركب نوعان مشترك ومتباين، تفصيل ذلك: أما الفرد الأول فهو كل عدد لا يعده غير الواحد عدد آخر مثل ثلاثة خمسة سبعة أحد عشر ثلاثة عشر سبعة عشر تسعة عشر ثلاثة وعشرين وأشباه ذلك من العدد، وخاصية هذا العدد أنه ليس له جزء سوى المسمى له؛ وذلك أن الثلاثة ليس لها إلا الثلث والخمسة ليس لها إلا الخمس وكذلك السبعة ليس لها إلا السبع، وهكذا الأحد عشر والثلاثة عشر والسبعة عشر، وبالجملة: جميع الأعداد الصم لا يعدها إلا الواحد فإن اسم جزئها مشتق منها.
وأما الفرد المركب فهو كل عدد يعده غير الواحد عدد آخر مثل تسعة وخمسة وعشرين وتسعة وأربعين وواحد وثمانين، وأمثالها من العدد، وهذه صورتها «ط كه مط فاقكا قسط»، وأما الفرد المشترك فهو كل عددين يعدهما غير الواحد عدد آخر مثل تسعة وخمسة عشر وواحد وعشرين؛ فإن الثلاثة تعدها كلها وكذلك خمسة عشر وخمس وعشرون وخمسة وثلاثون، فإن الخمسة تعدها كلها، فهذه الأعداد وأمثالها تسمى مشتركة في العدد الذي يعدها، وهذه صورتها «ط يه كا كه له»، وأما الأعداد المتباينة فهي كل عددين يعدهما عددان آخران غير الواحد، ولكن الذي يعد أحدهما لا يعد الآخر مثل تسعة وخمسة وعشرين؛ فإن الثلاثة تعد التسعة ولا تعد الخمسة والعشرين والخمسة تعد الخمسة والعشرين ولا تعد التسعة، فهذه الأعداد وأمثالها يقال لها: المتباينة.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن من خاصية كل عدد فرد أنه إذا قسم بقسمين كيف ما كان فأحد القسمين يكون زوجا والآخر فردا، ومن خاصية كل عدد زوج أنه إذا قسم كيف ما كان فيكون كلا قسميه إما زوجا وإما فردا، وهذه صورتها:
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد ينقسم من جهة أخرى ثلاثة أنواع، إما تاما وإما زائدا وإما ناقصا، فالتام هو كل عدد إذا جمعت أجزاؤه كانت الجملة مثله سواء مثل ستة وثمانية وعشرين وأربعمائة وستة وتسعين وثمانية آلاف ومائة وثمانية وعشرين، فإن كل واحد من هذه الأعداد إذا جمعت أجزاؤه كانت الجملة مثله سواء.
ولا يوجد من هذا العدد إلا في كل مرتبة من مراتب العدد واحد كالستة في الآحاد وثمانية وعشرين في العشرات وأربعمائة وستة وتسعين في المئات وثمانية آلاف ومائة وثمانية وعشرين في الألوف، وهذه صورتها: 6 28 496 8128 وأما العدد الزائد فهو كل عدد إذا جمعت أجزاؤه كانت أكثر منه، مثل الاثني عشر والعشرين والستين وأمثالها من العدد، وذلك أن الاثني عشر نصفها ستة وثلثها أربعة وربعها ثلاثة وسدسها اثنان ونصف سدسها واحد، فجملة هذه الأجزاء ستة عشر، وهي أكثر من اثني عشر، وأما العدد الناقص فهو كل عدد إذا جمعت أجزاؤه كانت أقل منه مثل أربعة وثمانية وعشرة وأمثالها من العدد، وذلك أن الثمانية نصفها أربعة وربعها اثنان وثمنها واحد وجملتها تكون سبعة، فهي أقل من الثمانية، وعلى هذا القياس حكم سائر الأعداد الناقصة.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد من جهة أخرى ينقسم قسمين؛ أحدهما يقال له: أعداد متحابة، وهي كل عددين أحدهما زائد والآخر ناقص، وإذا جمعت أجزاء العدد الزائد كانت مساوية لجملة العدد الناقص، وإذا جمعت أجزاء العدد الناقص كانت مساوية لجملة العدد الزائد، مثال ذلك مائتان وعشرون وهو عدد زائد ومائتان وأربعة وثمانون وهو عدد ناقص، فإذا جمعت أجزاء مائتين وعشرين كانت مساوية لمائتين وأربعة وثمانين، وإذا جمعت أجزاء هذا العدد يكون جملتها مائتين وعشرين فهذه الأعداد وأمثالها تسمى «متحابة» وهي قليلة الوجود، وهذه صورتها:
واعلم يا أخي بأن من خاصية العدد أنه يقبل التضعيف والزيادة بلا نهاية، ويكون ذلك على خمسة أنواع: فمنها «على النظم الطبيعي» مثل هذا بالغا ما بلغ: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12، ومنها «على نظم الأزواج» بالغا ما بلغ مثل هذا 2 4 6 8 10 12 14، ومنها «على نظام الأفراد» بالغا ما بلغ مثل هذا 1 3 5 7 9 11 13 15 17، ومنها «بالطرح» كيفما اتفق كما يوجد في سائر الحساب، ومنها «بالضرب» كما نبين بعد.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لكل نوع من هذه الأنواع عدة خواص، وقد ذكر ذلك في كتاب الأرثماطيقي بشرح طويل، ولكن نذكر منها طرفا في هذا الفصل؛ فنقول:
إن من خاصية النظم الطبيعي أنه إذا جمع من واحد إلى حيث ما بلغ يكون المجموع مساويا لضرب ذلك العدد الأخير بزيادة واحد عليه في نصفه، مثال ذلك إذا قيل: كم من واحد إلى عشرة مجموعا على النظم الطبيعي؟ فقياسه أن يزاد على العشرة واحد ثم يضرب في نصف العشرة فيكون خمسة وخمسين، أو تضرب الخمسة في نفسها فيكون خمسة وعشرين ثم في النصف الآخر الذي هو ستة فيكون ثلاثين، الجملة خمسة وخمسون وذلك بابه المطلوب وقياسه.
وأما نظم الأزواج فهو مثل واحد اثنين أربعة ستة ثمانية عشرة اثني عشر، وعلى هذا المثال بالغا ما بلغ، ومن خاصية هذا النظم أن يكون المجموع أبدا فردا ، ومن خاصيته أيضا أنه إذا جمع على نظمه الطبيعي من واحد إلى حيث ما بلغ يكون المجموع مساويا لضرب ذلك العدد في النصف الآخر بزيادة واحد ثم يزاد على الجملة واحد؛ مثال ذلك إذا قيل لك: كم واحد إلى العشرة مجموعا على نظم الأزواج؟ فقياسه أن تأخذ نصف العشرة فتزيد عليه واحدا، ثم تضربه في النصف الآخر ثم تزيد على الجملة واحدا فذلك أحد وثلاثون، وعلى هذا القياس سائر الأعداد.
وأما نظم الأفراد فمثل واحد، ثلاثة، خمسة، سبعة، تسعة، أحد عشر، بالغا ما بلغ، فمن خاصيته أنه إذا جمع على نظمه الطبيعي يكون المجموعان الواحد زوج والآخر فرد، يتلو بعضها بعضا، بالغا ما بلغ، وتكون كلها مجذورات، ومن خاصيته أيضا أنه إذا جمع على نظمه الطبيعي من واحد إلى حيث ما بلغ فإن المجموع يكون مساويا لضرب نصفه مجذورا مجبورا في نفسه، مثال ذلك إذا قيل: كم من واحد إلى أحد عشر؟ فبابه أن تأخذ نصف العدد وهو خمسة ونصف فتجبره فيصير ستة فتضربه في نفسه فيكون ستة وثلاثين، وذلك بابه فقس عليه.
•••
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن معنى الضرب هو تضعيف أحد العددين بقدر ما في الآخر من الآحاد، مثال ذلك إذا قيل: كم ثلاثة في أربعة، فمعناه: كم جملة ثلاثة أربع مرات؟
واعلم يا أخي بأن العدد نوعان صحيح وكسور - كما بينا قبل - فصار أيضا ضرب العدد بعضه في بعض نوعين: مفرد ومركب، فالمفرد ثلاثة أنواع: الصحيح في الصحيح مثل اثنين في ثلاثة وثلاثة في أربعة وما شاكله، ومنها الكسور في الكسور مثل نصف في ثلث وثلث في ربع وما شاكله، ومنها الصحيح في الكسور مثل اثنين في ثلث أو ثلث في أربعة ما شاكله، وأما المركب فهو أيضا ثلاثة أنواع: فمنها الكسور والصحيح في الصحيح مثل اثنين وثلث في خمسة وما شاكلها، ومنها الصحيح والكسور في الصحيح والكسور مثل اثنين وثلث في ثلاثة وربع وما شاكلها، ومنها الصحيح والكسور في الكسور مثل اثنين وثلث في سبع.
فصل
واعلم يا أخي بأن ضرب العدد الصحيح على أربعة أنواع وجملتها عشرة أبواب، وهي: آحاد وعشرات ومئات وألوف، فالآحاد في الآحاد واحدها واحد وعشرتها عشرة، والآحاد في العشرات واحدها عشرة وعشرتها مائة، والآحاد في المئات واحدها مائة وعشرتها ألف، والآحاد في الألوف وأحدها ألف وعشرتها عشرة آلاف، فهذه أربعة أبواب. وأما العشرات في العشرات فواحدها مائة وعشرتها ألف، والعشرات في المئات واحدها ألف وعشرتها عشرة آلاف، والعشرات في الألوف واحدها عشرة آلاف وعشرتها مائة ألف. فهذه ثلاثة أبواب، وأما المئات في المئات فواحدها عشرة آلاف وعشرتها مائة ألف، والمئات في الألوف واحدها مائة ألف وعشرتها ألف ألف فهذان بابان، وأما الألوف في الألوف فواحدهما ألف ألف وعشرتها عشرة آلاف ألف، وهو باب واحد، فصار جملة الجميع عشرة أبواب، وهذه صورتها:
«آحاد في آحاد» «آحاد في عشرات» «آحاد في مئات» «آحاد في ألوف» «عشرات في عشرات» «عشرات في مئات» «عشرات في ألوف» «مئات في مئات» «مئات في ألوف» «ألوف في ألوف».
(2) فصل في الضرب والجذر والمكعبات، وما يستعمله الجبريون والمهندسون من الألفاظ ومعانيها
فنقول:
كل عددين - أي عددين كانا - إذا ضرب أحدهما في الآخر؛ فإن المجتمع من ذلك يسمى عددا مربعا، فإن كان العددان متساويين يسمى المجتمع من ضربيهما عددا مربعا مجذورا أو العددان يسميان جذري ذلك العدد؛ مثال ذلك: إذا ضرب اثنان في اثنين يكون أربعة وثلاثة في ثلاثة تسعة وأربعة في أربعة ستة عشر فالأربعة والتسعة والستة عشر وأمثالها من العدد؛ يسمى كل واحد منها مربعا مجذورا، والاثنان والثلاثة والأربعة يسمى جذرا؛ لأن الاثنين هو جذر الأربعة والثلاثة جذر التسعة والأربعة جذر الستة عشر، وعلى هذا القياس يعتبر سائر المربعات المجذورات وجذورها:
وكل عددين مختلفين - أي عددين كانا - إذا ضرب أحدهما في الآخر فإن المجتمع من ذلك يسمى عددا مربعا غير مجذور والعددان المختلفان يسميان جزأين له ويسميان ضلعين لذلك المربع وهي من ألفاظ المهندسين، مثال ذلك اثنان في ثلاثة أو ثلاثة في أربعة أو أربعة في خمسة، وأشباه ذلك؛ فإن المجتمع من مثل هذه الأعداد المضروبة بعضها في بعض تسمى مربعات غير مجذورات.
فصل
كل عدد مربع، كان مجذورا أو غير مجذور، ضرب في عدد آخر - أي عدد كان - فإن المجتمع من ذلك يسمى عددا مجسما مكعبا فإن كان العدد المربع مجذورا وضرب في جذره يسمى المجتمع من ذلك عددا مجسما مكعبا؛ مثال ذلك أربعة، فإنه عدد مربع مجذور ضرب في الاثنين الذي هو جذرها فخرج منه ثمانية وكذلك أيضا التسعة وهو أيضا عدد مربع مجذور ضرب في الثلاثة الذي هو جذرها كانت منه سبعة وعشرون، وكذلك الستة عشر فإنه عدد مجذور ضرب في الأربعة التي هي جذرها فخرج منه أربعة وستون فالثمانية والسبعة والعشرون وأربعة وستون وأمثالها من الأعداد تسمى أعدادا مجسمة مكعبة، والمكعب جسم طوله وعرضه وعمقه متساوية وله ستة سطوح مربعات متساوية الأضلاع قائمة الزوايا وله اثنا عشر ضلعا متوازية وثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة.
وإن ضرب العدد المربع المجذور في عدد أقل من جذره يسمى المجتمع من ضربه عددا مجسما لبنيا، والجسم اللبني هو الذي طوله وعرضه متساويان وسمكه أقل منهما وله ستة سطوح مربعات متوازي الأضلاع، قائم الزوايا، لكن له سطحين متقابلين مربعين متساويي الأضلاع، قائمي الزوايا، وله أربعة سطوح مستطيلات وله اثنا عشر ضلعا كل اثنين منها متوازيان وثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة، وإن ضرب المربع المجذور في أكثر من جذره يسمى المجتمع منه عددا مجسما بيريا؛ مثال ذلك أربعة فإنه عدد مجذور ضرب في الثلاثة التي هي أكثر من جذرها فكان منه اثنا عشر وكذلك التسعة إذا ضربت في أربعة التي هي أكثر من جذرها خرج منها ستة وثلاثون.
فالاثنا عشر والستة والثلاثون وأمثالها من العدد يسمى مجسما بيريا و«المجسم البيري» هو الذي سمكه أكثر من طوله وعرضه، وله ستة سطوح مربعات اثنان منها مربعان متقابلان متساويا الأضلاع قائما الزوايا وأربعة منها مستطيلة متوازية الأضلاع قائمة الزوايا، وله اثنا عشر ضلعا كل اثنين منها متوازيان متساويان، وله ثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة، وكل عدد مربع غير مجذور ضرب في ضلعه الأصغر فإن المجتمع منه يسمى مجسما لبنيا، وإن ضرب في ضلعه الأطول فإن المجتمع منه يسمى مجسما بيريا، وإن ضرب في عدد أقل منهما أو أكثر فإن المجتمع منه يسمى «مجسما لوحيا».
مثال ذلك الاثنا عشر فإنه عدد مربع غير مجذور واحد ضلعيه ثلاثة والآخر أربعة، فإن ضرب اثنا عشر في ثلاثة خرج منه ستة وثلاثون، وهو مجسم لبني، وإن ضرب في أربعة خرج منه ثمانية وأربعون وهو مجسم بيري، وإن ضرب في أقل من الثلاثة أو أكثر من الأربعة يسمى مجسما لوحيا، والمجسم اللوحي هو الذي طوله أكثر من عرضه وعرضه أكثر من سمكه وله ستة سطوح كل اثنين منها متساويان متوازيان وله اثنا عشر ضلعا كل اثنين منها متوازيان وثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة.
فصل في خواص العدد المجذور،
فنقول: وكل عدد مجذور إذا زيد عليه جذراه وواحد كان المجتمع من ذلك مجذورا، وكل عدد مجذور إذا انتقص منه جذراه إلا واحدا يكون الباقي مجذورا، وكل عددين مجذورين على الولاء إذا ضرب جذر أحدهما في جذر الآخر وزيد عليه ربع يكون الجملة مجذورا؛ مثال ذلك: جذر أربعة وهو اثنان في جذر تسعة وهو ثلاثة، فيكون ستة وزيد عليه ربع يكون ستة وربعا جذرها اثنان ونصف، فإذا ضرب الاثنان والنصف في مثله كان ستة وربعا جذرها اثنان ونصف وكل عددين مجذورين على الولاء إذا ضرب جذر أحدهما في جذر الآخر يخرج بينهما عدد وسط وتكون ثلاثتها في نسبة واحدة؛ مثال ذلك: أربعة وتسعة فإنهما عددان مجذوران وجذراهما اثنان وثلاثة واثنان في ثلاثة ستة فنسبة الأربعة إلى الستة كنسبة الستة إلى التسعة، وعلى هذا القياس يعتبر سائرها.
(3) فصل في مسائل من المقالة الثانية من كتاب إقليدس في الأصول
كل عددين قسم أحدهما بأقسام كم كانت فإن ضرب أحدهما في الآخر مساو لضرب الذي لم يقسم في جميع أقسام العدد المقسوم قسما قسما، مثال ذلك عشرة وخمسة عشر وقسم الخمسة عشر ثلاثة أقسام سبعة وثلاثة وخمسة، فنقول «أ» إن ضرب العشرة في خمسة عشر مساو لضرب العشرة في سبعة وفي ثلاثة وفي خمسة «ب» كل عدد قسم بأقسام كم كانت فإن ضرب ذلك العدد في مثله مساو لضربه في جميع أقسامه؛ مثال ذلك عشرة قسمت بقسمين سبعة وثلاثة فأقول: إن ضرب العشرة في نفسها مساو لضربها في سبعة وفي ثلاثة «ج» كل عدد قسم بقسمين فنقول: إن ضرب ذلك العدد في أحد قسميه مساو لضرب ذلك القسم في نفسه، وفي القسم الآخر، مثال ذلك عشرة قسمت بقسمين ثلاثة وسبعة فأقول: إن ضرب العشرة في سبعة مساو لضرب سبعة في نفسها وثلاثة في سبعة، «د» كل عدد قسم قسمين فأقول: إن ضرب ذلك العدد في نفسه مساو لضرب كل قسم في نفسه وأحدهما في الآخر مرتين؛ مثال ذلك عشرة قسمت قسمين سبعة وثلاثة فأقول: إن ضرب العشرة في نفسها مساو لضرب سبعة في نفسها وثلاثة في نفسها وسبعة في ثلاثة مرتين، «ه» كل عدد قسم بنصفين ثم بقسمين مختلفين فإن ضرب أحد المختلفين في الآخر وضرب التفاوت في نفسه مساو لضرب نصف ذلك العدد في نفسه.
مثاله عشرة قسمت بنصفين ثم بقسمين مختلفين ثلاثة وسبعة، فنقول: إن ضرب السبعة في ثلاثة والتفاوت في نفسها وهو اثنان مجموعا مساو لضرب الخمسة في نفسها، «و» كل عدد قسم بنصفين ثم يزاد فيه زيادة ما فأقول: إن ضرب ذلك العدد مع الزيادة في تلك الزيادة ونصف العدد في نفسه مجموعا يكون مساويا لضرب نصف ذلك العدد مع الزيادة في نفسه، مثاله عشرة قسمت بنصفين ثم زيد عليه اثنان فنقول: إن ضرب الاثني عشر في اثنين وخمسة في نفسها مجموعا مساو لضرب الاثنين وخمسة مجموعا في نفسه، «ز» كل عدد قسم بقسمين فأقول: إن ضرب ذلك العدد في نفسه وضرب أحد القسمين في نفسه مجموعا مساو لضرب ذلك العدد في ذلك القسم مرتين، وضرب القسم الآخر في نفسه مجموعا مثاله عشرة قسمت بقسمين سبعة وثلاثة فأقول: إن ضرب العشرة في نفسها وسبعة في نفسها مجموعا مساو لضرب العشرة في سبعة مرتين وثلاثة في نفسها مجموعا، «ح» كل عدد قسم بقسمين ثم زيد عليه مثل أحد القسمين فنقول: إن الذي يكون من ضرب جميع ذلك في نفسه مساو لضرب ذلك العدد قبل الزيادة في تلك الزيادة أربع مرات والقسم الآخر في نفسه.
مثاله عشرة قسمت بقسمين سبعة وثلاثة، ثم زيدت عليه ثلاثة فنقول: إن ضرب الثلاثة عشر في نفسه مساو لضرب عشرة في ثلاثة أربع مرات وضرب سبعة في نفسه مرة واحدة، «ط» كل عدد قسم بنصفين ثم بقسمين مختلفين فإن الذي يكون من ضرب القسمين المختلفين كل واحد منهما في نفسه مجموعا مثلا ما يكون من ضرب نصف ذلك في نفسه وضرب التفاوت ما بين العددين في نفسه مجموعا؛ مثال ذلك عشرة قسمت بنصفين، ثم بقسمين مختلفين ثلاثة وسبعة فأقول: إن الذي يكون من ضرب سبعة في نفسها وثلاثة في نفسها مجموعا مثلا ما يكون من ضرب الخمسة في نفسها ومن ضرب الاثنين الذي هو التفاوت ما بين القسمين في نفسه مجموعا، «ي» كل عدد قسم بنصفين ثم زيد فيه زيادة ما فإن الذي يكون من ضرب ذلك العدد مع الزيادة في نفسه وضرب الزيادة في نفسها مجموعا مثلا ما يكون من ضرب نصف العدد مع الزيادة في نفسه وضرب نصف العدد في نفسه.
مثال ذلك عشرة قسمت بنصفين ثم زيد عليها اثنان فأقول: إن ضرب الاثني عشر في نفسه والاثنين في نفسه مجموعا مثلا ما يكون من ضرب سبعة في نفسها وخمسة في نفسها مجموعا.
فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه إنما قدم الحكماء النظر في علم العدد قبل النظر في سائر العلوم الرياضية؛ لأن هذا العلم مركوز في كل نفس بالقوة، وإنما يحتاج الإنسان إلى التأمل بالقوة الفكرية حسب، من غير أن يأخذ لها مثالا من علم آخر بل منه يؤخذ المثال على معلوم، وأما ما أشرنا إليه من المثالات التي بالخطوط في هذه الرسالة فإنما تلك للمتعلمين المبتدئين الذين قوة أفكارهم ضعيفة، فأما من كان منهم فهيما ذكيا فغير محتاج إليها.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أحد أغراضنا من هذه الرسالة ما قد بينا في أولها، وأما الغرض الآخر فهو التنبيه على «علم النفس» والحث على معرفة جوهرها، وذلك أن العاقل الذهين إذا نظر في علم العدد، وتفكر في كمية أجناسه وتقاسيم أنواعه وخواص تلك الأنواع؛ علم أنها كلها أعراض وجودها وقوامها بالنفس فالنفس إذن جوهر؛ لأن العرض لا يكون له قوام إلا بالجوهر ولا يوجد إلا فيه.
•••
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن غرض الفلاسفة الحكماء من النظر في العلوم الرياضية وتخريجهم تلامذتهم بها إنما هو السلوك والتطرق منها إلى علوم الطبيعيات، وأما غرضهم في النظر في الطبيعيات فهو الصعود منها والترقي إلى العلوم الإلهية الذي هو أقصى غرض الحكماء والنهاية التي إليها يرتقي بالمعارف الحقيقية، ولما كان أول درجة من النظر في العلوم الإلهية هو معرفة جوهر النفس والبحث عن مبدئها من أين كانت قبل تعلقها بالجسد والفحص عن معادها إلى أين تكون بعد فراق الجسد الذي يسمى الموت وعن كيفية ثواب المحسنين كيف يكون في عالم الأرواح وعن جزاء المسيئين كيف يكون في دار الآخرة.
وخصلة أخرى أيضا لما كان الإنسان مندوبا إلى معرفة ربه ولم يكن له طريق إلى معرفته إلا بعد معرفة نفسه، كما قال الله تعالى: @QUR09 ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه؛ أي جهل النفس وكما قيل: من عرف نفسه فقد عرف ربه، وقد قيل أيضا: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه؛ وجب على كل عاقل طلب علم النفس ومعرفة جوهرها وتهذيبها، وقد قال الله تعالى: @QUR017 ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها، وقال الله تعالى - حكاية عن امرأة العزيز في قصة يوسف عليه السلام: @QUR08 إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وقال تعالى: @QUR014 وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى، وقال تعالى: @QUR07 يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وقال تعالى: @QUR010 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية، وقال تعالى: @QUR010 الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، وآيات كثيرة في القرآن ودلالات على وجود النفس وعلى تصرف حالاتها وهي حجة على الجرميين المنكرين أمر النفس ووجدانها.
وأما أولئك الحكماء الذين كانوا يتكلمون في علم النفس قبل نزول القرآن والإنجيل والتوراة، فإنهم لما بحثوا عن علم النفس بقرائح قلوبهم واستخرجوا معرفة جوهرها بنتائج عقولهم؛ دعاهم ذلك إلى تصنيف الكتب الفلسفية التي تقدم ذكرها في أول هذه الرسالة، ولكنهم لما طولوا الخطب فيها ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن فهم معانيها ولا عرف أغراض مؤلفيها؛ انغلق على الناظرين في تلك الكتب فهم معانيها وثقلت على الباحثين أغراض مصنفيها، ونحن قد أخذنا لب معانيها وأقصى أغراض واضعيها وأوردناها بأوجز ما يمكن من الاختصار في اثنتين وخمسين رسالة؛ أولها هذه ثم يتلوها أخواتها على الولاء كترتيب العدد تجدها - إن شاء الله تعالى.
(تمت الرسالة والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليما.)
الرسالة الثانية الموسومة بجومطريا في الهندسة وبيان ماهيتها
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من رسالة العدد في الأرثماطيقي، وبينا من خواص العدد قدر الكفاية والجهد، وانتقلنا من تلك الرسالة إلى هذه الرسالة التي هي الثانية من رسالة الرياضيات في المدخل إلى علم الهندسة، فنقول:
اعلم بأن العلوم التي كان القدماء يخرجون أولادهم بها ويروضون بها تلامذتهم أربعة أجناس، أولها العلوم الرياضيات، والثاني العلوم المنطقيات، والثالث العلوم الطبيعيات، والرابع العلوم الإلهيات، فالرياضيات أربعة أنواع، أولها الأثماطيقي وهو معرفة العدد وكمية أجناسه وخواصه وأنواعه وخواص تلك الأنواع، ومبدأ هذا العلم من الواحد الذي قبل الاثنين، والثاني «الجومطريا» وهو علم الهندسة وهي معرفة المقادير والأبعاد وكمية أنواعها وخواص تلك الأنواع ومبدأ هذا العلم من النقطة التي هي طرف الخط؛ أي نهايته، والثالث الأسطرنوميا يعني: علم النجوم، وهو معرفة تركيب الأفلاك وتخطيط البروج وعدد الكواكب وطبائعها ودلائلها على الأشياء الكائنات في هذا العلم من حركة الشمس، والرابع الموسيقى وهو معرفة التأليفات والنسب بين الأشياء المختلفة والجواهر المتضادة القوى، ومبدأ هذا العلم من نسبة المساواة نسبة الثلاثة إلى الستة كنسبة الاثنين إلى الأربعة.
وأما المنطقيات فهي معرفة معاني الأشياء الموجودة التي هي مصورة في أفكار النفوس ومبدأها من الجوهر، وأما الطبيعيات فهي معرفة جواهر الأجسام وما يعرض لها من الأعراض، ومبدأ هذا العلم من الحركة والسكون، وأما الإلهيات فهي معرفة الصورة المجردة المفارقة للهيولى، ومبدأ هذا العلم من معرفة جوهر النفس كالملائكة والنفوس والشياطين والجن والأرواح بلا أجسام، وأن الأجسام عندهم ذوو أبعاد ثلاثة، ومبدأ هذا العلم من جوهر النفس.
وقد عملنا في كل نوع من هذه العلوم رسالة شبه المدخل والمقدمات، فأولها رسالة في العدد قبل هذه، وقد بينا فيها طرفا من خواص الأعداد وكمية أنواعها وكيفية نشوئها من الواحد الذي قبل الاثنين، ونريد أن نبين ونذكر في هذه الرسالة أصل الهندسة التي هي أصل المقادير الثلاثة وكمية أنواعها وخواص تلك الأنواع وكيفية نشوئها من النقطة التي هي رأس الخط وأنها في صناعة الهندسة مثل الواحد في صناعة العدد.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الهندسة يقال على نوعين عقلية وحسية، فالحسية هي معرفة المقادير وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، وهي ما يرى بالبصر ويدرك باللمس، والعقلي بضد ذلك، وهو ما يعرف ويفهم، فالذي يرى بالبصر هو الخط والسطح والجسم ذوو الأبعاد وما يعرض فيها، كما أن الثقل في الثقيل لا يعرف إلا بالعقل والثقل عين الثقيل، والمقادير ثلاثة أنواع وهي الخطوط والسطوح والأجسام، وهذه الهندسة تدخل في الصنائع كلها، وذلك أن كل صانع إذا قدر في صناعته قبل العمل فهو ضرب من الهندسة العقلية فهي معرفة الأبعاد وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض وهي ما يتصور في النفس بالفكر، وهي ثلاثة أنواع الطول والعرض والعمق، وهذه الأبعاد العقلية صفات لتلك المقادير الحسية، وذلك أن الخط هو أحد المقادير وله صفة واحدة، وهي الطول حسب، وأما السطح فهو مقدار ثان وله صفتان وهما الطول والعرض، وأما الجسم فهو مقدار ثالث وله ثلاث صفات وهي الطول والعرض والعمق.
واعلم أن النظر في هذه الأبعاد مجردة عن الأجسام من صناعة المحققين فنبدأ أولا بوصف الهندسة الحسية؛ لأنها أقرب إلى فهم المتعلمين، فنقول:
إن الخط الحسي الذي هو أحد المقادير أصله النقطة كما بينا قبل في الرسالة التي في خواص العدد بأن الواحد أصل العدد؛ وذلك أن النقطة الحسية إذا انتظمت ظهر الخط بحاسة النظر مثل هذا ••••• فإنا لا نقول: إن هذه النقطة شيء لا جزء له، لكن النقطة العقلية هي لا جزء لها، ونقول أيضا: الخط أصل السطح كما أن النقطة أصل الخط، وكما أن الواحد أصل الاثنين، والاثنان أصل لعدد الزوج - كما بينا قبل ذلك - وذلك أن الخطوط إذا تجاورت ظهر السطح لحاسة البصر مثل هذا ![](../Images/figure5.png) ونقول: إن السطح أصل للجسم كما أن الخط أصل للسطح والنقطة أصل للخط كما أن الواحد أصل الاثنين والاثنان والواحد أصلان لأول الفرد - كما بينا قبل ذلك - وذلك أن السطوح إذا تراكمت بعضها فوق بعض ظهر الجسم لحاسة النظر مثل هذا ![](../Images/figure6.png).
(1) فصل في أنواع الخط
فنقول: الخطوط ثلاثة أنواع أولها المستقيم وهو مثل الذي يخط بالمسطر على ما يرى في هذه الصورة مثل هذا --- والثاني المقوس وهو مثل الذي يخط بالبركار ![](../Images/figure7.png) مثل هذا والثالث الخط المنحني وهو المركب منهما مثل هذا ![](../Images/figure8.png) فهذه أنواع الخطوط الثلاثة.
(2) فصل في ألقاب الخطوط المستقيمة
فنقول: إن الخطوط المستقيمة إذا أضيف بعضها إلى بعض إما أن تكون متساوية أو متوازية أو متلاقية أو متماسة أو متقاطعة، فالمتساوية هي التي طولها واحد مثال هذا ![](../Images/figure9.png) والمتوازية هي التي إذا كانت في سطح واحد وأخرجت في كلتي الجهتين إخراجا دائما لا يلتقيان أبدا مثل هذا ![](../Images/figure10.png) والمتلاقية هي التي تلتقي في إحدى الجهتين وتحيط بزاوية واحدة مثل هذا ![](../Images/figure11.png) والمتماسة هي التي تماس إحداهما الأخرى وتحدث زاويتين أو زاوية مثل هذا المثال ![](../Images/figure12.png) والمتقاطعة التي تقطع إحداهما الأخرى وتحدث من تقاطعهما أربع زوايا مثل هذا ![](../Images/figure13.png) فهذه ألقاب الخطوط المستقيمة.
(3) فصل في أسماء الخط المستقيم
إذا قام خط مستقيم على خط آخر قياما مستويا من غير ميل إلى طرف يقال عند ذلك للخط القائم العمود وللقائم عليه القاعدة مثل هذا ![](../Images/figure14.png)، وإذا أضيف الخطان إلى زاوية يقال لهما: الساقان لتلك الزاوية مثل هذا ![](../Images/figure15.png).
وإذا قام خط مستقيم على خط وللخط والقائم ميل إلى أحد الطرفين يحصل زاويتان إحداهما أكبر يقال لها: المنفرجة والأخرى أصغر يقال لها: الحادة، وكل خط مستقيم يقابل زاوية ما يقال له: وتر تلك الزاوية التي يقابلها مثل هذا ![](../Images/figure16.png) والخطوط إذا أضيفت إلى سطح ما يقال لها: أضلاع ذلك السطح مثل هذا ![](../Images/figure17.png) وكل خط يخرج من زاوية وينتهي إلى أخرى يقال له: قطر المربع مثل هذا ![](../Images/figure18.png) وكل خط يخرج من زاوية المثلث وينتهي إلى الضلع المقابل لها ويقوم على الخط المقابل لها على زاويا قائمة يقال لذلك الخط: مسقط الحجر، ويقال له: العمود أيضا، ويقال للخط الذي وقع عليه مسقط الحجر القاعدة مثل هذا ![](../Images/figure19.png) فهذه أسماء الخطوط المستقيمة.
(4) فصل في أنواع الزوايا
نقول: إن الزوايا على نوعين مسطح ومجسم، والمسطحة هي التي يحيط بها خطان على غير استقامة مثل هذا ![](../Images/figure20.png) والمجسمة هي التي تحيط بها ثلاثة خطوط في زاوية كل اثنين زاوية على غير استقامة.
(5) فصل في أنواع الزوايا المسطحة
تتنوع من جهة الخطوط ثلاثة أنواع إما من خطين مستقيمين مثل هذا ![](../Images/figure21.png) أو خطين مقوسين مثل هذا ![](../Images/figure22.png) أو أحدهما مقوس والآخر مستقيم، والزوايا التي تحيط بها خطوط مستقيمة تتنوع من جهة الكيفية ثلاثة أنواع: قائمة ومنفرجة وحادة، فالقائمة هي التي إذا قام خط مستقيم على خط آخر مستقيم قياما مستويا حدث عن جنبيه زاويتان متساويتان وكل واحدة منهما يقال لها: زاوية قائمة مثل هذا ![](../Images/figure23.png)، وإذا قام ذلك الخط قياما غير مستو على خط مستقيم حدث عن جنبيه زاويتان مختلفتان إحداهما أكبر من القائمة يقال لها: المنفرجة والأخرى أصغر من القائمة يقال لها: الحادة ومجموعهما مساو لقائمتين؛ لأن الزاوية الحادة تنقض عن القائمة بمقدار زيادة المنفرجة على القائمة على هذا المثال ![](../Images/figure24.png) فهذا عدد أنواع الزوايا.
(6) فصل في أنواع الخطوط القوسية
فنقول: إن الخطوط القوسية أربعة أنواع منها محيط الدائرة، ومنها نصف الدائرة، ومنها أكثر من نصف الدائرة، ومنها أقل من نصف الدائرة، ومركز الدائرة هي النقطة التي في وسط الدائرة، وقطر الدائرة هو الخط المستقيم الذي يقطع الدائرة بنصفين، والوتر الخط المستقيم الذي يصل بين طرفي الخط المقوس، والسهم هو الخط المستقيم الذي يفصل الوتر والقوس كل واحد منهما بنصفين، وهو إذا أضيف إلى نصف القوس يقال له عند ذلك: الجيب المعكوس وإذا أضيف نصف الوتر إلى نصف القوس يقال له عند ذلك: الجيب المستوي والخطوط المقوسة المتوازية هي التي مركزها واحد مثل هذا ![](../Images/figure25.png).
والخطوط القوسية المتقاطعة هي التي مراكزها مختلفة مثل هذا: ![](../Images/figure26.png) والخطوط القوسية المتماسة هي التي تماس بعضها بعضا إما من داخل أو خارج ولا يتقاطع مثل هذا ![](../Images/figure27.png) وأما الخطوط المنحنية فقد تركنا ذكرها لأنها غير مستعملة، فاعلم جميع ذلك.
(7) فصل في ذكر السطوح
فنقول: السطح هو شكل يحيط به الخط أو خطوط، والدائرة هي شكل يحيط به خط واحد مثل هذا ![](../Images/figure28.png) وفي داخله نقطة كل الخطوط المستقيمة التي تخرج منها وينتهي إلى جهتين مساو بعضهما لبعض، ونصف الدائرة شكل يحيط به خطان أحدهما مقوس والآخر مستقيم مثل هذا ![](../Images/figure29.png) وقطعة الدائرة هو شكل يحيط به خط مستقيم وقوس من محيط الدائرة إما أكبر من نصفه وإما أصغر حسب ما بينا وأوردنا مثالها قبل هذا.
(8) فصل في الأشكال المستقيمة الخطوط وأنواعها
فنقول: الأشكال التي يحيط بها خطوط مستقيمة أولها الشكل المثلث وهو الذي يحيط به ثلاثة خطوط وله ثلاث زوايا مثل هذا ![](../Images/figure30.png)، ثم المربع وهو الذي يحيط به أربعة خطوط مستقيمة وأربع زوايا قائمات مثل هذا ![](../Images/figure31.png)، ثم المخمس وهو شكل يحيط به خمسة خطوط وله خمس زوايا مثل هذا ![](../Images/figure32.png)، ثم المسدس وهو الذي يحيط به ستة خطوط وله ست زوايا مثل هذا ![](../Images/figure33.png)، وبعده المسبع مثل هذا ![](../Images/figure34.png)، وعلى هذا القياس تتزايد الأشكال كتزايد العدد.
فصل
وقد بينا أن الخطوط يظهر طولها لحاسة البصر من النقطة إذا انتظمت فأقصر خط من نقطتين مثل هذا •• ثم من ثلاث مثل هذا ••• ثم من أربع مثل هذا •••• ثم من خمس مثل هذا ••••• ويتزايد واحدا بعد واحد كتزايد العدد على النظم الطبيعي، وأصغر شكل المثلث من ثلاثة أجزاء مثل هذا ![](../Images/figure35.png) ثم من أربعة أجزاء مثل هذا ![](../Images/figure36.png) ثم من عشرة أجزاء مثل هذا ![](../Images/figure37.png).
وعلى هذا القياس يتزايد كما يتزايد جمع العدد على النظم الطبيعي، وأما الأشكال المربعات فأولها تظهر في أربعة أجزاء مثل هذا ![](../Images/figure38.png) وبعده من تسعة أجزاء مثل هذا ![](../Images/figure39.png) وبعده من ستة عشر مثل هذا ![](../Images/figure40.png) وبعده من خمسة وعشرين جزءا مثل هذا ![](../Images/figure41.png).
وعلى هذا القياس تتزايد المربعات دائما كتزايد جمع العدد على نظم طبيعة الأفراد وتكون كلها مجذورات.
(9) فصل في بيان المثلث أنه أصل لجميع الأشكال
فنقول: إن الشكل المثلث أصل لجميع الأشكال المستقيمة الخطوط كما أن الواحد أصل لجميع العدد، والنقطة أصل للخطوط، والخط أصل للسطوح، والسطح أصل للأجسام كما بينا قبل، وذلك أنه إذا أضيف شكل مثلث إلى شكل آخر مثله حدث من جملتهما شكل مربع مثل هذا ![](../Images/figure42.png) وإذا أضيف إليهما شكل آخر مثلث حدث من ذلك شكل مخمس، وإن أضيف إليها شكل آخر مثلث حدث شكل مسدس وإن أضيف إليها شكل آخر حدث من ذلك شكل مسبع مثل هذا ![](../Images/figure43.png) وعلى هذا القياس تحدث الأشكال المستقيمة الخطوط الكثيرة الزوايا من الشكل المثلث إذا ضم بعضها إلى بعض وتتزايد دائما بلا نهاية كتزايد العدد من الآحاد إذا ضم بعضها إلى بعض دائما بلا نهاية كما بينا قبل.
وقد تبين أن من الشكل المثلث تتركب الأشكال المستقيمة الخطوط، وأن من السطح تتركب الأجسام، وأن من الخطوط تتركب السطوح، وأن من النقطة تتركب الخطوط، كما أن من الواحد يتركب العدد، فإن النقطة في صناعة الهندسة كالواحد في صناعة العدد وكما أن الواحد لا جزء له فكذلك النقطة العقلية لا جزء لها.
(10) فصل في أنواع السطوح
السطوح من جهة الكيفية تتنوع ثلاثة أنواع: مسطحا ومقعرا ومقببا، فالمسطح كوجوه الألواح والمقعر كقعر الأواني والمقبب كظهر القباب، ومن الأشكال ما يسمى البيضي مثل هذا ![](../Images/figure44.png) ومنها الهلالي مثل هذا ![](../Images/figure45.png) ومنها المخروط الصنوبري مثل هذا ![](../Images/figure46.png) ومنها الإهليلجي ![](../Images/figure47.png) ومنها نيم خانجي مثل هذا ![](../Images/figure48.png) ومنها الطبلي مثل هذا ![](../Images/figure49.png) ومنها الزيتوني مثل هذا ![](../Images/figure50.png).
(11) فصل في ذكر الأجسام
فنقول: السطوح هي نهايات الأجسام ونهايات السطوح الخطوط ونهايات الخطوط هي النقط، وذلك أن كل خط لا بد أن يبتدئ من نقطة وينتهي إلى أخرى، فكل سطح ينتهي إلى خط أو خطوط وكل جسم فلا بد من أن ينتهي إلى سطح أو سطوح، فمن الأجسام ما يحيط به سطح واحد وهي الكرة ومنها ما يحيط به سطحان وهو نصف الكرة، وذلك أن سطحا منه مقبب وسطحا مدور، ومن الأجسام ما يحيط به ثلاثة سطوح وهو ربع الكرة، ومنها ما يحيط به أربعة سطوح مثلثات ويسمى الشكل الناري، ومنها ما يحيط به خمسة سطوح ومنها ما يحيط به ستة سطوح مربعات فمنها المكعب ومنها اللبني ومنها البئري ومنها اللوحي، فالجسم المكعب هو الذي طوله مثل عرضه وعرضه مثل سمكه وله ستة سطوح مربعات متساوية الأضلاع قائمة الزوايا وله ثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة واثنا عشر ضلعا متساوية كل أربعة منها متوازية، وهذه صورتها: ![](../Images/figure51.png).
وأما الجسم البئري فهو الذي طوله مثل عرضه وسمكه أكبر منهما وله ستة سطوح مربعات، اثنان منهما متقابلان متساويا الأضلاع، قائما الزوايا، وأربعة ضيقات مستطيلات متساوية الأضلاع قائمة الزوايا، وله اثنا عشر ضلعا أربعة منها طوال متساوية متوازية وثمانية قصار متساوية متوازية وله ثماني زوايا مجسمة وأربع عشرون زاوية مسطحة: ![](../Images/figure52.png).
وأما الجسم اللوحي فهو الذي طوله أكبر من عرضه وعرضه أكبر من سمكه وله ستة سطوح مربعات اثنان منها طويلان متقابلان متسعان ومتساويا الأضلاع قائما الزوايا وسطحان آخران قصيران ضيقان متساويا الأضلاع قائما الزوايا وله اثنا عشر ضلعا أربعة منها طوال وأربعة منها قصار وأربعة أقصر من ذلك وله ثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة مثل هذا: ![](../Images/figure53.png).
وأما الجسم اللبني فهو الذي طوله مثل عرضه وسمكه أقل منهما وله ستة سطوح مربعات، اثنان منها واسعان متقابلان متساويا الأضلاع قائما الزوايا وأربعة منها ضيقات مستطيلات متساوية الأضلاع قائمة الزوايا وله اثنا عشر ضلعا أربعة منها قصار متساوية متوازية وثمانية منها طوال متساوية كل أربعة منها متوازية ولها ثماني زوايا مجسمات وأربع وعشرون زاوية مسطحة مثل هذا ![](../Images/figure54.png).
وأما الجسم الكري فهو الذي يحيط به سطح واحد وفي داخله نقطة وكل الخطوط المستقيمة الخارجة من تلك النقطة إلى سطح الكرة متساوية يقال لتلك النقطة: مركز الدائرة، وإذا دارت الكرة فيكون في سطحها نقطتان متقابلتان ساكنتان يقال لهما: قطب الكرة مثل هذا ![](../Images/figure55.png).
وإذا وصل بينهما بخط مستقيم جاز ذلك الخط على مركز الكرة يقال له: محور الكرة، وإذا اتصل الخط من نقطة إلى نقطة فهو المحور.
وإذ قد ذكرنا طرفا من أصل الهندسة الحسية شبه المدخل والمقدمات، وقلنا: إن هذا العلم يحتاج إليه أكثر الصناع فلنبين ذلك، وهو التقدير قبل العمل؛ لأن كل صانع يؤلف الأجسام بعضها إلى بعض ويركبها فلا بد له أن يقدر أولا المكان في أي موضع يعملها والزمان في أي وقت يعملها ويبتدئ فيها والإمكان هل يقدر عليه أم لا وبأي آلة وأدوات يعملها وكيف يؤلف أجزاءها حتى تلتئم وتأتلف، فهذه هي الهندسة التي تدخل في أكثر الصنائع التي هي تأليف الأجسام بعضها إلى بعض.
واعلم أن كثيرا من الحيوانات تعمل صنعة طبيعية قد جبلت عليها بلا تعليم كالنحل في اتخاذها البيوت، وذلك أنها تبني بيوتها مطبقات مستديرات الشكل كالأتراس بعضها فوق بعض وتجعل ثقب البيوت كلها مسدسات الأضلاع والزوايا لما في ذلك من إتقان الحكمة؛ لأن من خاصية هذا الشكل أنه أوسع من المربع والمخمس وأنها تكشف تلك الثقوب حتى لا يكون بينها خلل فيدخل الهواء فتفسد العسل فيعفن، وهذا مثال ذلك: ![](../Images/figure56.png).
وهكذا العنكبوت تنسج شبكتها في زاويا البيت والحائط شفقة عليها من تخريق الرياح وتمزيق حملها، وأما كيفية نسجها فهو أن تمد سداها على الاستقامة وخيوط لحمتها على الاستدارة؛ لما فيه من سهولة العمل، وهذا مثال ذلك: ![](../Images/figure57.png).
ومن الناس من يستخرج صناعة بقريحته وذكاء نفسه لم يسبق إليها، وأما أكثر الصناع فإنهم يأخذونها توقيفا وتعليما من الأستاذين.
فصل
واعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه؛ أن علم الهندسة يدخل في الصنائع كلها وخاصة في المساحة وهي صناعة يحتاج إليها العمال والكتاب والدهاقين وأصحاب الضياع والعقارات في معاملاتهم من جباية الخراج وحفر الأنهار وعمل البريدات وما شاكلها.
ثم اعلم بأن المقادير التي تمسح بها الأراضي بالعراق خمسة مقادير، وهي الأشل والباب والذراع والقبضة والأصبع، واعلم بأن الأصبع الواحدة غلظها ست شعيرات مصفوفة مضمومة ظهور بعضها إلى بطون بعض والقبضة الواحدة أربع أصابع والذراع الواحدة ثماني قبضات، وهو اثنان وثلاثون أصبعا والباب طوله ست أذرع وهي ثمان وأربعون قبضة وهو مائة واثنان وتسعون أصبعا والأشل حبل طوله عشرة أبواب وهو ستون ذراعا وأربعمائة وثمانون قبضة وألف وتسعمائة وعشرون أصبعا.
واعلم بأنك إذا ضربت هذه المقادير بعضها في بعض، فالذي يخرج منها يسمى تكسيرا، فإذا جمعت فيكون منها جريبات وقفيزات وعشيرات، وأما حسابها فهو أن القبضة الواحدة في مثلها تكون ستة عشر أصبعا والذراع الواحدة في مثلها تكون أربعا وستين قبضة مكسرة وألفا وأربعة وعشرين أصبعا مكسرة وهو تسع ربع عشر عشير الجريب والباب الواحد في مثله يكون ستا وثلاثين ذراعا مكسرة، وهذه صورتها 36 وهو 2304 قبضات مكسرة وهو 36864 أصبعا مكسرة، وهو عشر عشير الجريب.
وأما الأشل في مثله فيكون جريبا وهو عشرة أقفزة وهو مائة عشير، وهذه صورتها 3600 ذراع مكسرة وهو 230400 قبضة مكسرة وهو 3686400 أصبعا مكسرة، وأما القفيز فهو عشرة أعشار وهو عشرة أبواب مكسرة، وهو من ضرب تسعة عشر ذراعا إلا شيئا يسيرا في مثله وهو ثلاثمائة وستون ذراعا، وأما العشير فهو من ضرب باب واحد في مثله وهو 36 ذراعا مكسرة وهو 2304 قبضات مكسرة وهو 36864 أصبعا مكسرة، والأشوال في الأشوال واحدها جريب وعشرتها عشرة أجربة، والأشوال في الأبواب واحدها قفيز وعشرتها جريب، والأشوال في الأذرع واحدها عشير وثلثا عشير وست منها قفيز، والأشل في القبضات واحدها سدس عشير وربع سدس عشير وكل ثلاثة أخماس منها عشير، وكل 36 منها قفيز والأشل في الأصابع كل واحد منها ربع سدس عشير وربع ربع سدس عشير وكل عشرة منها ربعا عشير وسدس ثمن عشير.
والأبواب في الأبواب واحدها عشير وعشرتها قفيز والأبواب في الأذرع واحدها سدس عشير وستة منها عشير، والأبواب في القبضات كل واحد منها ثلاثة أرباع ربع تسع عشير، والأبواب في الأصابع كل خمسة وثمانين منها ثلث عشير وربع سدس عشير وتسع عشير تقريبا، وكل أربعة منها ثلاثة أرباع وتسع عشير وكل مائة ثمان وعشرين منها ثلثا ثلث عشير والأذرع في الأذرع واحدها ربع تسع عشير، وكل أربع منها تسع عشير وكل مائة منها عشيران وثلثا عشير وتسع عشير.
فهذا شرح مساحة العرض والطول، فأما مساحة العمق فهو أن تضرب الطول في العرض فما اجتمع من ذلك فاضربه في العمق وما يجتمع فهو تكسير المجسم والحاجة إلى هذا العمل عند حفر الأنهار والآبار والحفائر والبريدات والمسنيات والأساسات للديار والبنيان، وما شاكل ذلك.
ثم اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد تدخل الشبه في كل صناعة علمية على من يتعاطاها وليس من أهلها وكان ناقصا فيها أو ساهيا عنها، مثال ذلك ما ذكروا أن رجلا باع من رجل آخر قطعة أرض بألف درهم على أن طولها مائة ذراع وعرضها مائة ذراع، ثم قال له: خذ مني عوضا عنها قطعتين من أرض كل واحدة منهما طولها خمسون ذراعا وعرضها خمسون ذراعا، وتوهم أن ذلك حقه فتحا كما إلى قاض غير مهندس فقضى بمثل ذلك خطأ ثم تحاكما إلى حاكم من أهل الصناعة فحكم بأن ذلك نصف حقه، وهكذا أيضا ذكر أن رجلا استأجر رجلا على أن يحفر له بركة طولها أربع أذرع في عرض أربع أذرع في عمق أربع أذرع بثمانية دراهم، فحفر له ذراعين في ذراعين طولا وعرضا وعمقا، فطالبه بأربعة دراهم نصف الأجرة فتنازعا وتحاكما إلى مفت غير مهندس، فحكم بأن ذلك حقه ثم تحاكما إلى أهل الصناعة فحكموا له بدرهم واحد، وقيل لرجل يتعاطى الحساب ولم يكن من أهله: كم نسبة ألف ألف إلى ألف ألف ألف؟ فقال: ثلثان، فقال أهل الصناعة: إنه عشر عشر العشر، فعلى هذا المثال تدخل الشبهة على كل من يتعاطى صناعة وليس من أهلها ومن أجل هذا قيل: استعينوا على كل صنعة بأهلها.
(12) فصل في حاجة الإنسان إلى التعاون
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان الواحد لا يقدر أن يعيش وحده إلا عيشا نكدا؛ لأنه محتاج إلى طيب العيش من إحكام صنائع شتى ولا يمكن الإنسان الواحد أن يبلغها كلها؛ لأن العمر قصير والصنائع كثيرة، فمن أجل هذا اجتمع في كل مدينة أو قرية أناس كثيرون لمعاونة بعضهم بعضا، وقد أوجبت الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأن يشتغل جماعة منهم بإحكام الصنائع وجماعة في التجارات وجماعة بإحكام البنيان وجماعة بتدبير السياسات وجماعة بإحكام العلوم وتعليمها وجماعة بالخدمة للجميع والسعي في حوائجهم؛ لأن مثلهم في ذلك كمثل إخوة من أب واحد في منزل واحد متعاونين في أمر معيشتهم كل منهم في وجه منها، فأما ما اصطلحوا عليه من الكيل والوزن والثمن والأجرة فإن ذلك حكمة وسياسة ليكون حثا لهم على الاجتهاد في أعمالهم وصنائعهم ومعاوناتهم حتى يستحق كل إنسان من الأجرة بحسب اجتهاده في العمل ونشاطه في الصنائع.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه ينبغي لك أن تتيقن بأنك لا تقدر أن تنجو وحدك مما وقعت فيه من محنة هذه الدنيا وآفاتها بالجناية التي كانت من أبينا آدم عليه السلام؛ لأنك محتاج في نجاتك وتخلصك من هذه الدنيا التي هي من عالم الكون والفساد ومن عذاب جهنم وجوار الشياطين وجنود إبليس أجمعين والصعود إلى عالم الأفلاك وسعة السماوات ومسكن العليين وجوار ملائكة الرحمن المقربين إلى معاونة إخوان لك نصحاء وأصدقاء لك فضلاء متبصرين بأمر الدين علماء بحقائق الأمور ليعرفوك طرائق الآخرة وكيفية الوصول إليها والنجاة من الورطة التي وقعنا فيها كلنا بجناية أبينا آدم عليه السلام فاعتبر بحديث الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب «كليلة ودمنة» وكيف نجت من الشبكة لتعلم حقيقة ما قلنا.
واعلم أن الحكماء إذا ضربوا مثلا لأمور الدنيا فإنما غرضهم منه أمور الآخرة والإشارة إليها بضروب الأمثال بحسب ما تحتمل عقول الناس في كل مكان وزمان.
(13) فصل في الهندسة العقلية
وإذ قد ذكرنا طرفا من الهندسة الحسية شبه المدخل والمقدمات فنريد أن نذكر طرفا من الهندسة العقلية؛ إذ كانت هي أحد أغراض الحكماء الراسخين في العلوم الإلهية المرتاضين بالرياضات الفلسفية، وذلك أن غرضهم في تقديم الهندسة بعد علم العدد هو تخريج المتعلمين من المحسوسات إلى المعقولات وترقيتهم لتلاميذهم وأولادهم من الأمور الجسمانية إلى الأمور الروحانية.
فاعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النظر في الهندسة الحسية يؤدي إلى الحذق في الصنائع العملية كلها، والنظر في الهندسة العقلية يؤدي إلى الحذق في الصنائع العلمية؛ لأن هذا العلم هو أحد الأبواب التي تؤدي إلى معرفة جوهر النفس التي هي جذر العلوم وعنصر الحكمة وأصل الصنائع العلمية والعملية جميعا؛ أعني معرفة جوهر النفس، فاعلم جميع ما قلنا.
فصل
الخط العقلي لا يرى مجردا إلا بين السطحين، وهو مثل الفصل المشترك الذي هو بين الشمس والظل وإذا لم يكن شمس ولا فيء لم تر خطا بنقطتين وهميتين، فإذا توهمت أن قد تحركت إحدى النقطتين وسكنت الأخرى حتى رجعت إلى حيث ابتدأت بالحركة حدث في فكرك السطح ، والسطح العقلي أيضا لا يرى بمجرده إلا بين الجسمين، وهو الفصل المشترك بين الماء والدهن، والنقطة العقلية لا ترى أيضا بمجردها إلا حيث ينقسم الخط بنصفين بالوهم أي موضع وقعت للإشارة إليها فهي تنتهي هناك.
واعلم يا أخي أنك إذا توهمت حركة هذه النقطة على سمت واحد حدث في فكرك خط وهمي مستقيم، وإذا توهمت حركة هذا الخط في غير الجهة التي تحركت إليها النقطة حدث في فكرك سطح وهمي، وإذا توهمت حركة هذا السطح في غير الجهة التي تحرك إليها الخط والنقطة حدث في وهمك جسم وهمي له ستة سطوح مربعات قائمة الزوايا وهو المكعب، وإن كانت مسافة حركة السطح أقل من مسافة حركة الخط حدث من ذلك جسم لبني وإن كان أكثر من ذلك حدث من ذلك جسم بئري وإن كانت متساوية حدث مكعب.
واعلم يا أخي بأن كل خط مستقيم مفروض في الوهم فلا بد له من نهايتين وهما رأساه ويسميان النقطتين الوهميتين، وإذا توهمت أنه تحركت إحدى النقطتين وسكنت الأخرى حتى رجعت إلى حيث ابتدأت بالحركة حدث في فكرك من ذلك سطح مدور وهمي وتكون النقطة الساكنة مركز الدائرة والنقطة المتحركة التي قد حدثت في فكرك بحركتها محيط الدائرة.
ثم اعلم بأن أول سطح يحدث من حركتها ثلث الدائرة ثم ربع الدائرة ثم نصف الدائرة ثم الدائرة، وإذا توهمت أن الخط المقوس الذي هو نصف محيط الدائرة سكن رأساه جميعا وتحرك الخط نفسه حتى يرجع إلى حيث ابتدأ بالحركة؛ حدث في فكرك من حركتها جسم كري، فقد بان لك - بما ذكرنا - أن الهندسة العقلية هي النظر في الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق خلوا من الأجسام الطبيعية، وذلك أن الناظرين في الهندسة الحسية التي تقدم ذكرها إذا ارتاضوا فيها وقويت أفكارهم بالنظر فيها؛ انتزعوا هذه الأبعاد الثلاثة التي هي الخط والسطح والجسم وصورها في نفوسهم لتلك الأبعاد المصورة كالهيولى.
وهي فيها كالصورة يسمونها مقادير مساحية ويستغنون عن النظر إلى المقادير الحسية، ثم يتكلمون عليها ويخبرون عن أجناسها وأنواعها وخواصها وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، فيقولون: الخط هو مقدار ذو بعد واحد والسطح هو مقدار ذو بعدين والجسم هو مقدار ذو ثلاثة أبعاد والخط المستقيم هو أقصر خط وصل بين النقطتين والنقطة رأس الخط والخط المقوس هو الخط الذي لا يمكن أن يفرض عليه ثلاثة فقط على سمت واحد والزوايا ما بين خطين على غير استقامة والشكل ما أحاط به خط واحد أو خطوط والدائرة شكل يحيط به خط يقال له: المحيط وفي داخله نقطة كل الخطوط المستقيمة المخرجة منها إليه متساوية، والمثلث شكل يحيط به ثلاثة خطوط وثلاث زوايا، والمربع شكل يحيط به أربعة خطوط وله أربع زوايا قائمات، وعلى هذا القياس والمثال سائر ما يتكلمون به في أشكال الهندسة من غير إشارة إلى جسم من الأجسام الطبيعية.
(14) فصل في حقيقة الأبعاد في الهندسة العقلية
واعلم بأن كثيرا من المهندسين والناظرين في العلوم يظنون أن لهذه الأبعاد الثلاثة؛ أعني الطول والعرض والعمق، وجودا بذاتها وقوامها ولا يدرون أن ذلك الوجود إنما هو في جوهر الجسم أو في جوهر النفس، وهي لها كالهيولى، وهي فيها كالصورة إذا انتزعتها القوة المفكرة من المحسوسات.
ولو علموا أن الغرض الأقصى من النظر في العلوم الرياضية إنما هو أن ترتاض أنفس المتعلمين بأن يأخذوا صور المحسوسات من طريق القوى الحساسة وتصورها في ذاتها بالقوة المفكرة حتى إذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها بقيت تلك الرسوم التي أدتها القوى الحساسة إلى القوة المتخيلة، والمتخيلة إلى القوة المفكرة، والمفكرة أدت إلى القوة الحافظة مصورة في جوهر النفس، فاستغنت عند ذلك النفس عن استخدامها القوى الحساسة في إدراك المعلومات عند نظرها إلى ذاتها، ووجدت صور المعلومات كلها في جوهرها فعند ذلك استغنت عن الجسد، وزهدت في السكون معه، وانتبهت من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، ونهضت بقوتها، واستقلت بذاتها، وفارقت الأجسام، وخرجت من بحر الهيولى، ونجت من أسر الطبيعة، وأعتقت من عبودية الشهوات الجسمانية، وتخلصت من حرقة الاشتياق إلى اللذات الجرمانية، وشاهدت عالم الأرواح، وارتقت إلى هناك؛ حيث قال: @QUR07 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه أراد به النفس الزكية، وجوزيت بأحسن الجزاء، وهذا هو الغرض الأقصى من النظر في العلوم الرياضية التي كانوا يخرجون بها أولاد الحكماء وتلامذة القدماء، هكذا مذهب إخواننا الكرام، وفقك الله وإيانا سبيل الرشاد، إنه رءوف بالعباد.
(15) فصل في خواص الأشكال الهندسية
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن للأشكال الهندسية خواص ولمجموعها خواص أيضا، وقد بينا في رسالة الأرثماطيقي طرفا من خواص العدد فنريد أن نذكر في هذا الفصل طرفا من خواص الأشكال الهندسية؛ ليكون تنبيها للناظرين في هذين العلمين على الغرض منهما ويكون أيضا إرشادا لطالبي خواص الأشياء وكيفية المسلك فيها، ونبدأ أولا بذكر المثلثات؛ إذ كانت هي أول الأشكال الهندسية - كما بينا في رسالة جومطريا، فنقول:
إن الشكل المثلث هو الذي له ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا وهو سبعة أنواع:
أولها المتساوي الأضلاع الحاد الزوايا مثل هذا ![](../Images/figure58.png)، والثاني الحاد الزوايا المتساوي الضلعين مثل هذا ![](../Images/figure59.png)، والثالث الحاد الزوايا المختلف الأضلاع كهذا ![](../Images/figure60.png)، والرابع المتساوي الضلعين القائم الزاوية مثل هذا ![](../Images/figure61.png)، والخامس القائم الزاوية المختلف الأضلاع مثل هذا ![](../Images/figure62.png)، والسادس المنفرج الزاوية المتساوي الضلعين هكذا ![](../Images/figure63.png)، والسابع المنفرج الزاوية المختلف الأضلاع مثل هذا ![](../Images/figure64.png).
(16) فصل في بيان تلك الخواص
واعلم يا أخي بأن لكل واحد من هذه المثلثات خاصية ليست للآخر؛ فقد تبين ذلك في كتاب أوقليدس في المقالة الأولى ببراهينها، ولكن نذكر منها الخاصية التي تشتمل على سبعتها كلها، وذلك أن من خاصية كل شكل مثلث - أي مثلث كان - أنه لا بد من أن يكون فيه زاويتان حادتان، فأما الزاوية الثالثة فيمكن أن تكون حادة أو قائمة أو منفرجة.
ومن خاصيتها أيضا أن ثلاث زوايا كل مثلث مجموعها مساو لزاويتين قائمتين، ومن خاصيتها أيضا أن الضلع الأطول من كل مثلث بوتر الزاوية العظمى، ومن خاصيتها أن كل ضلعين مجموعين من كل مثلث أطول من الضلع الثالث من خاصيتها أيضا أنه إذا أخرج ضلع من أضلاعه - أي ضلع كان - على استقامته، فإنه يحدث زاوية خارجة من المثلث وتكون هي أكبر من كل زاوية تقابلها، ويكون مساويا للداخلتين المقابلتين لها، ومن خاصيتها أيضا أن ضرب مسقط الحجر من كل مثلث في نصف قاعدتها هو مساحة ذلك المثلث.
وأما خاصية المثلث القائم الزاوية فهي أن مربع وتر الزاوية القائمة مساو للمربعين الكائنين من الضلعين.
ومن خاصية المثلث الحاد الزاوية أن مربع الوتر أقل من مربع الضلعين الباقيين بمقدار مربع الضلع الذي وقع عليه العمود فيما بين مسقط العمود والزاوية مرتين.
ومن خاصية المثلث المنفرج الزاوية أن مربع الوتر أكثر من مربع الضلعين بمقدار مربع أحد الضلعين فيما هو خارج منه إلى مسقط العمود مرتين مثل هذا: ![](../Images/figure65.png)
وأما الشكل المربع فهو الذي له أربعة أضلاع وأربع زوايا وهو خمسة أنواع أولها المتساوي الأضلاع القائم الزوايا مثل هذا ![](../Images/figure66.png)، والثاني المستطيل القائم الزوايا المتساوي كل ضلعين متقابلين مثل هذا ![](../Images/figure67.png)، الثالث المعين وهو المتساوي الأضلاع المختلف الزوايا مثل هذا ![](../Images/figure68.png)، والرابع الشبيه بالمعين وهو المتساوي كل ضلعين متقابلين مثل هذا ![](../Images/figure69.png) والخامس المختلف الأضلاع والزوايا مثل هذا ![](../Images/figure70.png).
واعلم يا أخي بأن لكل واحد من هذه الأشكال خواص يطول شرحها، ولكن نذكر الخاصية التي تشملها كلها وهي أن كل مربع - أي مربع كان - فإن زواياه الأربع مجموعة تكون مساوية لأربع زوايا قائمة، وأن كل مربع يمكن أن ينقسم بمثلثين وإن زيد عليه مثلث آخر صار منها شكل مجسم، وأما الشكل المخمس فهو الذي يحيط به خمسة أضلاع وله خمس زوايا وهو أول الأشكال الكثيرة الزوايا المتساوي الأضلاع وأنه يمكن أن يحيط بكل واحد منها دائرة، ويمكن أن يحيط هو أيضا بدائرة وأن كل شكل منها الذي هو أكثر زوايا فهو أكثر وأوسع مساحة من الذي هو أقل منه إذا كان المحيط بها مقدارا واحدا وإن ضرب عمود واحد من تلك المثلثات في نصف قواعدها فهو مساحة ذلك الشكل الكثير الزوايا.
ومن خاصية الشكل المسدس المتساوي الأضلاع أن كل ضلع من أضلاعه مساو لنصف قطر الدائرة التي تحيط به، وبالجملة ما من شكل إلا وله خاصية أو عدة خواص تركنا ذكرها مخافة التطويل، فأما خواص الشكل المستدير فقد أفرد لها أوقليدس مقالة من كتابه، ولكن نذكر منها طرفا؛ فنقول: إن الشكل المستدير هو سطح يحيط به خط واحد، وإن مركزه في وسطه، وإن أقطاره كلها متساوية، وإنه أوسع من كل شكل كثير الزوايا إذا كان الذي يحيط به سطحا واحدا، وهو يشارك الدائرة في خواصها، ونسبته من سائر الأجسام كنسبة الدائرة من سائر السطوح، وقد تبين خواص هذا الشكل في المقالة الأخيرة من كتاب أوقليدس بشرح وبراهين.
وبالجملة: إنك لو تأملت يا أخي غرض أوقليدس من البيان وعلم ما في سائر كتب الهندسة؛ لوجدت كلها إنما هو البحث عن خواص المقادير ومعرفة حقائقها التي هي الخطوط والسطوح والأجسام وما يعرض فيها من الأبعاد والزوايا والمناسبات التي بين بعضها وبعض، وإذ قد بينا طرفا من خواص الأشكال في هذه الرسالة، وقبلها طرفا من خواص العدد في رسالة الأثماطيقي فنريد أن نذكر طرفا من خواص مجموعها، وذلك أنه إذا جمع بين بعض الأعداد وبين بعض الأشكال الهندسية ظهر منها خواص أخر لا يتبين في كل واحد منهما بمجرده؛ مثال ذلك إذا كتب التسعة الأعداد في الشكل المتسع على هذه الصورة؛ فإن خاصيته في الشكل المتسع أنه كيفما عد كانت الجملة خمسة عشر مثل هذا:
وهكذا الستة عشر إذا كتب في الشكل ذي الستة عشر بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة أربعة وثلاثين مثل هذا:
وهكذا الخمسة والعشرون إذا كتب في الشكل ذي الخمسة والعشرين بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة خمسة وستين، مثل هذا:
وهكذا الستة والثلاثون إذا كتب في الشكل ذي الستة والثلاثين بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة مائة وأحد عشر، مثل هذا:
وهكذا التسعة والأربعون إذا كتب في الشكل ذي التسعة والأربعين بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة مائة وخمسة وسبعين، مثل هذا:
وهكذا الأربعة والستون إذا كتب في الشكل ذي الأربعة والستين بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة مائتين وستين، وهذه صورتها:
وهكذا الأحد والثمانون إذا كتب في الشكل ذي الأحد والثمانين بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة ثلاثمائة وتسعة وستين، وهذه صورتها:
وفي التي هي الأساس بالواسطة السفلى لأي حساب كان ثم يمشي على «كتمي» صاعدا سير الخسرو فيقع العدد ما يتلو الواسطة على النظم الطبيعي في الزاوية العليا التي عن «كتمي»، ثم يمشي سير الرمك التي تلت الفرس التي هي واسطة للزاويتين اللتين على كرابوي، ثم يصعد صعود البيدق إلى الزاوية العليا من يسارك، فالحساب على النظم الطبيعي، ثم منها يسير سير الفرزان بعددين اثنين على النظم الطبيعي إلى أن يبلغ الزاوية السفلى على يمينك، ثم تدفع البيدق بالعدد الذي يتلو العدد الواقع في الزاوية على النظم الطبيعي إلى بيت الفرس الذي هو الزاوية السفلى عن يسارك على النظم الطبيعي، ثم تدفع سير الفرس على النظم الطبيعي إلى بيت الفرس الذي هو واسطة العليا.
ومن خاصيتها أن الزوايا كلها أزواج والأوساط كلها أفراد، والسير فيه سير الفرس ثم سير البيدق ثم سير الفرزان مرتين ثم سير البيدق مرة ثم سير الفرس مرة أخرى ثم سير الفرس إلى الواسطة العليا.
وأما منافعها والفائدة منها فقد ذكرنا في رسالة الطلسمات والعزائم طرفا منها، ولكن نذكر منها في هذا الفصل مثالا واحدا ليكون دلالة على صدق ما قلنا، فنقول: إن من خاصية هذا الشكل المتسع ومنفعته تسهيل الولادة إذا كتب على خزفين لم يصبهما الماء وعلقتهما على المرأة التي ضربها الطلق وإن اتفق أن يكون القمر في التاسع ومتصلا برب التاسع سهل الولادة أو برب بيته من التاسع وما شاكل ذلك من المتسعات.
وعلى هذا الطريق سلك أصحاب الطلمسات في نصبها، وذلك أنه ما من شيء من الموجودات الرياضية والطبيعية والإلهية إلا وله خاصية ليست لشيء آخر ولمجموعاتها خواص ليست لمفرداتها من الأعداد والأشكال والصور والمكان والزمان والعقاقير والطعوم والألوان والروائح والأصوات والكلمات والأفعال والحروف والحركات، فإذا جمعت بينها على النسب التأليفية ظهرت خواصها وأفعالها، والدليل على صحة ما قلنا أفعال الترياقات والمراهم والشربات وألحان الموسيقى وتأثيراتها في الأجساد والنفوس جميعا، مما لا خفاء به عن كل ذي لب حكيم فيلسوف - كما بينا طوفا من ذلك في رسالة الموسيقى.
(17) فصل في ثمرة هذا الفن
واعلم بأن النظر في علم الهندسة الحسية يعين على الحذق في الصنائع والنظر في الهندسة العقلية، ومعرفة خواص العدد والأشكال يعين على فهم كيفية تأثيرات الأشخاص الفلكية وأصوات الموسيقى في نفوس المستمعين، والنظر في كيفيات تأثيرات الحس في منفعلاتها يعين على فهم كيفية تأثيرات النفوس المفارقة في النفوس المتجسدة في عالم الكون والفساد، وفي علم الهندسة العقلية للناظرين طريق إلى الوصول إلى معرفتها بعون الله وهدايته.
(تمت رسالة الجومطريا ويتلوها رسالة في مدخل علم النجوم، وهي الثالثة من القسم الأول من الأربعة الأقسام.)
الرسالة الثالثة الموسومة بالأسطرنوميا في علم النجوم وتركيب الأفلاك
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من رسالة المدخل إلى علم الهندسة، وبينا فيها الهندسة الحسية والعقلية، واستوفينا الكلام في الخطوط والأشكال والزوايا التي لا بد للمهندسين أن يعرفوها، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من علم النجوم مثل ما فيها، فنقول:
إن علم النجوم ينقسم ثلاثة أقسام، قسم منها هو معرفة تركيب الأفلاك وكمية الكواكب وأقسام البروج وأبعادها وعظمها وحركاتها وما يتبعها من هذا الفن، ويسمى هذا القسم «علم الهيئة»، ومنها قسم هو معرفة حل الزيجات وعمل التقاويم واستخراج التواريخ، وما شاكل ذلك، ومنها قسم هو معرفة كيفية الاستدلال بدوران الفلك، وطوالع البروج، وحركات الكواكب على الكائنات قبل كونها تحت فلك القمر، ويسمى هذا النوع «علم الأحكام»، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة من كل نوع طرفا شبه المدخل؛ كيما يسهل الطريق على المتعلمين ويقرب تناوله للمبتدئين، فنقول:
أصل علم النجوم هو معرفة ثلاثة أشياء وهي الكواكب والأفلاك والبروج، فالكواكب أجسام كريات مستديرات مضيئات وهي ألف وتسعة وعشرون كوكبا كبارا التي أدركت بالرصد منها سبعة يقال لها: السيارة، وهي: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، والباقية يقال لها: ثابتة ولكل كوكب من السبعة السيارة فلك يخصه.
والأفلاك هي أجسام كريات مشفات مجوفات، وهي تسعة أفلاك مركبة بعضها في جوف بعض كحلقة البصلة فأدناها إلينا فلك القمر وهو محيط بالهواء من جميع الجهات كإحاطة قشرة البيضة ببياضها والأرض في جوف الهواء كالمح في بياضها، ومن وراء فلك القمر فلك عطارد، ومن وراء فلك عطارد فلك الزهرة، ومن وراء فلك الزهرة فلك الشمس، ومن وراء فلك الشمس فلك المريخ، ومن وراء فلك المريخ فلك المشتري، ومن وراء فلك المشتري فلك زحل، ومن وراء فلك زحل فلك الكواكب الثابتة، ومن وراء فلك الكواكب الثابتة فلك المحيط، وهذا مثال ذلك:
![figure](../Images/figure71.png)
وذلك أن الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب، يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض في كل يوم وليلة دورة واحدة ويدير سائر الأفلاك والكواكب معه، كما قال الله - عز وجل: @QUR04 وكل في فلك يسبحون، وهذا الفلك المحيط مقسوم باثني عشر قسما كجزر البطيخة كل قسم منها يسمى برجا، وهذه أسماؤها: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، فكل برج ثلاثون درجة جملتها ثلاثمائة وستون درجة وكل درجة ستون جزءا، كل جزء يسمى دقيقة جملتها واحد وعشرون ألفا وستمائة دقيقة، وكل دقيقة ستون جزءا يسمى ثانية وكل ثانية ستون جزءا وكل جزء يسمى ثالثة، وهكذا إلى الروابع والخوامس وما زاد بالغا ما بلغ، مثال ذلك:
![figure](../Images/figure72.png)
وهذه البروج توصف بأوصاف شتى من جهات عدة، وقبل وصفها نحتاج أن نذكر أشياء لا بد من ذكرها، منها: أن الزمان أربعة أقسام، وهي: الربيع والصيف والخريف والشتاء، والجهات أربع، وهي: المشرق والمغرب والجنوب والشمال. والأركان أربعة وهي: النار والهواء والماء والأرض. والطبائع أربع وهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. والأخلاط أربع وهي: الصفراء والسوداء والبلغم والدم. والرياح أربع وهي: الصبا والدبور والجريباء والتيماء.
(1) فصل في ذكر صفة البروج
فنقول: منها ستة شمالية وستة جنوبية وستة مستقيمة الطلوع وستة معوجة الطلوع، وستة ذكور وستة إناث وستة نهارية وستة ليلية وستة فوق الأرض وستة تحت الأرض، وستة تطلع بالنهار وستة تطلع بالليل وستة صاعدة وستة هابطة وستة يمنة وستة يسرة وستة من حيز الشمس وستة من حيز القمر.
تفصيلها: أما الستة الشمالية فهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة، وإذا كانت الشمس في واحد منها يكون الليل أقصر والنهار أطول، وأما الستة الجنوبية فهي الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، وإذا كانت الشمس في واحد منها يكون الليل أطول والنهار أقصر، وأما المستقيمة الطلوع فهي السرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس، وكل واحد منها يطلع في أكثر من ساعتين، وإذا كانت الشمس في واحد منها تكون هابطة من الشمال إلى الجنوب ومن الأوج إلى الحضيض والليل آخذ من النهار.
وأما المعوجة الطلوع فهي الجدي والدلو والحوت والحمل والثور والجوزاء، وكل واحد منها يطلع في أقل من ساعتين، وإذا كانت الشمس في واحد منها تكون صاعدة من الجنوب إلى الشمال ومن الحضيض إلى الأوج والنهار آخذ من الليل، وأما الستة الذكور النهارية فهي الحمل والجوزاء والأسد والميزان والقوس والدلو، وأما الستة الإناث الليلية فهي الثور والسرطان والسنبلة والعقرب والجدي والحوت.
وأما الستة التي تطلع بالنهار فهي من البرج الذي فيه الشمس إلى البرج السابع منها، والستة التي تطلع بالليل هي من البرج السابع إلى البرج الذي فيه الشمس، وأما الستة التي من حيز الشمس فهي من برج الأسد إلى برج الجدي، والستة التي من حيز القمر هي من برج الدلو إلى برج السرطان، ومن وجه آخر هذه البروج تنقسم أربعة أقسام، منها ثلاثة ربيعية صاعدة في الشمال زائدة النهار على الليل، وهي: الحمل والثور والجوزاء، وثلاثة صيفية هابطة في الشمال آخذة الليل من النهار، وهي: السرطان والأسد والسنبلة، منها ثلاثة خريفية هابطة في الجنوب زائدة الليل على النهار، وهي: الميزان والعقرب والقوس، ومنها ثلاثة شتوية صاعدة من الجنوب آخذة النهار من الليل، وهي: الجدي والدلو والحوت.
وتنقسم هذه البروج من جهة أخرى أربعة أقسام ثلاثة منها مثلثات ناريات حارات يابسات شرقيات على طبيعة واحده، وهي: الحمل والأسد والقوس، وثلاثة منها مثلثات ترابيات باردات يابسات جنوبيات على طبيعة واحدة، وهي: الثور والسنبلة والجدي، وثلاثة منها مثلثات هوائيات حارات رطبات غربيات على طبيعة واحدة وهي: الجوزاء والميزان والدلو، ومنها مثلثات مائيات باردات رطبات شماليات على طبيعة واحدة، وهي: السرطان والعقرب والحوت، وكذلك من جهة أخرى تنقسم هذه البروج ثلاثة أثلاث، أربعة منها منقلبة الزمان، وهي: الحمل والسرطان والميزان والجدي، وأربعة منها ثابتة الزمان وهي: الثور والأسد والعقرب والدلو، وأربعة منها ذوات الجسدين وهي: الجوزاء والسنبلة والقوس والحوت.
فقد بان بهذا الوصف في هذا الشكل أن لو كانت البروج أكثر من اثني عشر أو أقل من ذلك لما استمرت فيه هذه الأقسام على هذا الوجه الذي ذكرنا، فإذا بواجب الحكمة كانت اثني عشر؛ لأن الباري - جل ثناؤه - لا يفعل إلا الأحكم والأتقن، ومن أجل هذا جعل الأفلاك كريات الشكل؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال، وذلك أنه أوسعها وأبعدها من الآفات وأسرعها حركة ومركزه في وسطه وأقطاره متساوية ويحيط به سطح واحد ولا يماس غيره إلا على نقطة ولا يوجد في شكل غيره هذه الأوصاف، وجعل أيضا حركته مستديرة؛ لأنها أفضل الحركات، وهذه البروج الاثنا عشر تنقسم بين هذه الكواكب السبعة السيارة من عدة وجوه، ولها فيها أقسام وخطوط من وجوه شتى، فمنها البيت والوبال، ومنها الأوج والحضيض، ومنها الشرف والهبوط، ومنها الجوزهر يعني: الرأس والذنب، ومنها ربوبية المثلثات، ومنها ربوبية الوجوه، ومنها ربوبية الحدود، ومنها ربوبية النوبهرات، ومنها ربوبية الاثني عشريات، ومنها ربوبية مواضع السهام، وغير ذلك، وأن هذه الكواكب السيارة كالأرواح، والبروج لها كالأجساد.
(2) فصل في ذكر البيوت والوبال
فنقول: اعلم أن الأسد بيت الشمس والسرطان بيت القمر والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد والثور والميزان بيتا الزهرة والحمل والعقرب بيتا المريخ والقوس والحوت بيتا المشتري والجدي والدلو بيتا زحل، ولكل واحد من هذه الكواكب الخمسة بيت من حيز الشمس وبيت من حيز القمر، ووبال كل كوكب في مقابلة بيته، وهذه الكواكب لبعضها في بيوت بعض مواضع مخصوصة، فمنها الشرف والهبوط ومنها الأوج والحضيض ومنها الجوزهر، مثال ذلك:
![](../Images/figure73.png)
تفسير ذلك: فأما الشرف فهو أعز موضع للكواكب في الفلك والهبوط ضده، والأوج أعلى موضع للكواكب في الفلك والحضيض ضده، فشرف الشمس في الحمل وهو بيت المريخ وأوجها في الجوزاء بيت عطارد وشرف زحل في الميزان بيت الزهرة وأوجه في القوس بيت المشتري وجوزهره في السرطان بيت القمر. ومعنى الجوزهر: تقاطع طريق الكواكب لطريق الشمس بممرها في البروج في موضعين؛ أحدهما يسمى رأس الجوزهر والآخر ذنب الجوزهر، وذلك أن زحل إذا سار في البروج يكون مسيره في ستة أبراج عن يمنة طريق الشمس ثم يعبر إلى الجانب الآخر ويسير ستة أبراج عن يسرة طريق الشمس، فيحدث لطريقها تقاطع في موضعين أحدهما يسمى الرأس والآخر الذنب، وهذا مثاله:
![](../Images/figure74.png)
ولكل كوكب من الخمسة السيارة جوزهر مثل ما لزحل مذكور ذلك في الزيجات، وأما المذكور في التقاويم فهو الذي للقمر، ويقال لهما أيضا: العقدتان، وإنما اختص ذكرهما في التقاويم؛ لأنهما ينتقلان في البروج والدرج ولهما سير كسير الكواكب ولهما دلالة كدلالة الكواكب.
وإذا اجتمع الشمس والقمر في وقت من الأوقات عند أحدهما في برج واحد ودرجة واحدة انكسفت الشمس، ولا يكون ذلك إلا في آخر الشهر؛ لأن القمر يصير محاذيا لموضع الشمس من البرج والدرجة فيمنع نور الشمس عن أبصارنا فنراها منكسفة مثل ما تمنع قطعة غيم عن أبصارنا نور الشمس إذا مرت محاذية لأبصارنا ولعين الشمس، وإذا كانت الشمس عند أحدهما وبلغ القمر إلى الآخر انكسف القمر ولا يكون كسوف القمر إلا في نصف الشهر؛ لأن القمر في نصف الشهر يكون في البرج المقابل للبرج الذي فيه الشمس وتكون الأرض في الوسط فتمنع نور الشمس عن إشراقه على القمر فيرى القمر منكسفا؛ لأنه ليس له نور من نفسه، وإنما يكتسي النور من الشمس، ومثال ذلك:
![](../Images/figure75.png)
وشرف المشتري في السرطان، وأوجه في السنبلة، ورأس جوزهره في الجوزاء، وشرف المريخ في الجدي وأوجه في الأسد وجوزهره في الحمل، وشرف الزهرة في الحوت وأوجها في الجوزاء ورأس جوزهرها في الثور، وشرف عطارد في السنبلة وأوجه في الميزان وجوزهره في الحمل، وشرف القمر في الثور وأوجه في البروج متحرك يعرف موضعه ذلك من التقويم والزيج، وجملته أن القمر إذا قارن الشمس فهو عند الأوج أو قابلها فهو عند الأوج، وفي مقابلة شرف كل كوكب هبوطه من البرج السابع مثله، وفي مقابلة الأوج الحضيض مثل ذلك، وفي مقابلة شرف رأس الجوزهر موضع الذنب من البرج السابع مثله.
(3) فصل في ذكر أرباب المثلثات والوجوه والحدود
اعلم أن هذه الكواكب السيارة لبعضها في بيوت بعض شركة تسمى «ربوبية المثلثات»، ولها فيها أقسام تسمى «الوجوه»، ولها فيها خطوط تسمى «الحدود»، تفصيل ذلك أن كل ثلاثة أبراج على طبيعة واحدة تسمى المثلثات كما بين من قبل ذلك، وتديرها ثلاثة كواكب تسمى أرباب المثلثات يستدل بها على أثلاث أعمار المواليد، فأرباب المثلثات الناريات بالنهار الشمس ثم المشتري وبالليل المشتري ثم الشمس وشريكهما بالليل والنهار زحل، وأرباب المثلثات الترابيات بالنهار الزهرة ثم القمر وبالليل القمر ثم الزهرة وشريكهما بالليل والنهار المريخ، وأرباب المثلثات الهوائيات بالنهار زحل ثم عطارد وبالليل عطارد ثم زحل وشريكهما بالليل والنهار المشتري، وأرباب المثلثات المائيات بالنهار الزهرة ثم المريخ وبالليل المريخ ثم الزهرة وشريكهما بالليل والنهار القمر.
(4) فصل في ذكر أرباب الوجوه
اعلم أن كل برج من هذه الأبراج ينقسم ثلاثة أثلاث، كل ثلث عشر درجات يسمى وجها منسوبا ذلك إلى كوكب من السيارة يقال له: «رب الوجه» يستدل به على صورة المولود وعلى ظواهر الأمور، تفصيل ذلك العشر درجات الأولى من برج الحمل وجه المريخ وعشر درجات الثانية وجه الشمس وعشر درجات الأخيرة وجه الزهرة وعشر درجات من الثور وجه عطارد والعشر الثانية وجه القمر والعشر الأخيرة وجه زحل وعشر درجات من الجوزاء وجه المشتري والعشر الثانية وجه المريخ والعشر الأخيرة وجه الشمس.
وعلى هذا القياس إلى آخر الحوت كل عشر درجات وجه لكوكب واحد على توالي أفلاكها - كما بينا - فأما ذكر الحدود وأربابها فإن كل برج من هذه الأبراج ينقسم بخمسة أقسام مختلفة الدرج أقل جزء منها درجتان وأكثرها اثنتا عشرة درجة كل جزء منها يسمى حدا منسوبا ذلك الحد إلى الكوكب من الخمسة السيارة، يقال له: «رب الحد» يستدل به على أخلاق المولود وليس للشمس ولا للقمر فيها نصيب، وقد صورنا لحسابه دائرة فيها مكتوب حرفان الحرف الأول من اسم صاحب الحد والثاني كمية درج الحد وكذلك حساب الوجوه حرفان اسم صاحب الوجه حرف والثاني كمية درج الوجه وهذه أسماؤها: كيوان «ك» مشتري «م» بهرام «ب» شمس «ش» قمر «ق» زهرة «ز» عطارد «ع».
فأما الأوسع من الدائرة فهو حساب الحدود حرفان حرفان والدائرة الوسطى حساب الوجوه.
(5) فصل في ذكر الكواكب السيارة
فنقول: اثنان منها نيران وهما الشمس والقمر، واثنان منها سعدان وهما المشتري والزهرة، واثنان منها نحسان وهما زحل والمريخ، وواحد ممتزج وهو عطارد، وعقدتان وهما الرأس والذنب.
ذكر طبائعها: «الشمس» ذكر حار ناري نهاري سعد «زحل» بارد يابس ذكر نهاري نحس «المشتري» حار رطب ذكر نهاري سعد «المريخ» حار يابس أنثى ليلي نحس «الزهرة» باردة رطبة مؤنثة ليلية سعد «عطارد» لطيف ممتزج سعد «القمر» بارد رطب أنثى ليلي سعد أسود «الرأس» مثل المشتري «الذنب» مثل زحل.
ذكر أنوارها: نور الشمس خمس عشرة درجة أمامها، ومثل ذلك خلفها نور زحل والمشتري كل واحد تسع درجات قدامه، ومثل ذلك خلفه نور المريخ ثماني درجات أمامه ومثل ذلك خلفه، نور الزهرة وعطارد كل واحد سبع درجات أمامه ومثل ذلك خلفه، نور القمر اثنتا عشرة درجة قدامه ومثل ذلك خلفه.
ذكر ما لها من الأيام والليالي: اعلم أن الليل والنهار وساعاتهما مقسومة بين الكواكب السيارة، فأول ساعة من يوم الأحد من ليلة الخميس للشمس، وأول ساعة من يوم الاثنين ومن ليلة الجمعة للقمر، وأول ساعة من يوم الثلاثاء ومن ليلة السبت للمريخ، وأول ساعة من الأربعاء وليله الأحد لعطارد، وأول ساعة من يوم الخميس وليلة الاثنين للمشتري، وأول ساعة من يوم الجمعة وليلة الثلاثاء للزهرة، وأول ساعة من يوم السبت وليلة الأربعاء لزحل، فأما سائر ساعات الليل والنهار فمقسومة بين هذه الكواكب على توالي أفلاكها، مثال ذلك أن الساعة الثانية من يوم الأحد للزهرة التي فلكها دون فلك الشمس والساعة الثالثة لعطارد الذي فلكه دون فلك الزهرة والساعة الرابعة للقمر الذي فلكه دون فلك عطارد والساعة الخامسة لزحل والساعة السادسة للمشتري والساعة السابعة للمريخ والساعة الثامنة للشمس والتاسعة للزهرة والعاشرة لعطارد والحادية عشرة للقمر والثانية عشرة لزحل، وعلى هذا الحساب سائر ساعات الأيام والليالي يبتدئ من رب الساعة الأولى على توالي أفلاكها - كما بينا.
ذكر ما للكواكب من الأعداد
إن هذه الكواكب السيارة لكل واحد منها دلالة على أعداد معلومة من السنين والشهور والأيام والساعات يستدل بها على كمية أعمار المواليد وعلى طول بقاء الكائنات في عالم الكون والفساد، فمنها:
ذكر دوران الفلك وقسمة أرباعه
الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض، فيكون في دائم الأوقات نصف الفلك ستة أبراج مائة وثمانين درجة فوق الأرض ويسمى يمنة، والنصف الآخر ستة أبراج مائة وثمانين درجة تحت الأرض يسمى يسرة، وكلما طلعت درجة من أفق المشرق غابت نظيرتها في أفق المغرب من البرج السابع منه فيكون في دائم الأوقات ستة أبراج طلوعها بالنهار وستة طلوعها بالليل ويكون في دائم الأوقات درجة في أفق المشرق وأخرى نظيرتها في أفق المغرب ودرجة أخرى في كبد السماء ويسمى وتد العاشر، وأخرى نظيرتها منحطة تحت الأرض تسمى وتد الرابع فيكون الفلك في دائم الأوقات منقسما بأربعة أرباع كل ربع منها تسعون درجة، فمن أفق المشرق إلى وتد السماء تسعون درجة، يقال لها: الربع الشرقي الصاعد في الهواء، ومن وتد السماء إلى وتد المغرب تسعون درجة يقال لها: الربع الجنوبي الهابط، ومن وتد المغرب إلى وتد الأرض تسعون درجة يقال لها: الربع الغربي الهابط في الظلمة، ومن وتد الأرض إلى وتد المشرق تسعون درجة يقال لها: الربع الشمالي الصاعد، وهذا مثال ذلك:
![](../Images/figure76.png)
ذكر دوران الشمس في البروج وتغييرات أرباع السنة
الشمس تدور في البروج الاثني عشر في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع دورة واحدة تقيم في كل برج ثلاثين يوما وكسرا، وفي كل درجة يوما وليلة وكسرا تكون بالنهار فوق الأرض وبالليل تحت الأرض وتكون في الصيف في البروج الشمالية في الهواء وتقرب من سمت رءوسنا وتكون في الشتاء في البروج الجنوبية وتنحط في الهواء، وتبعد من سمت رءوسنا، وفي الأوج ترتفع في الفلك وتبعد من الأرض، وفي الحضيض تنحط في الفلك وتقرب من الأرض والدائرة الآتية مثاله وصورته:
![](../Images/figure77.png)
ذكر نزول الشمس في أرباع «الفلك وتغييرات الأزمان»
إذا نزلت الشمس أول دقيقة من برج الحمل استوى الليل والنهار، واعتدل الزمان، وانصرف الشتاء، ودخل الربيع، وطاب الهواء، وهب النسيم فذابت الثلوج، وسالت الأودية، ومدت الأنهار، ونبعت العيون، ونبت العشب، وطال الزرع، ونما الحشيش، وتلألأ الزهر وأورق الشجر، وتفتح النور، واخضر وجه الأرض، ونتجت البهائم، ودرت الضروع، وتكونت الحيوانات، وانتشرت على وجه الأرض، وأخرجت الأرض زخرفها وازينت، وفرح الناس واستبشروا، وصارت الدنيا كأنها جارية شابة تزينت، وتجلت للناظرين.
ذكر دخول الصيف
إذا بلغت الشمس آخر الجوزاء وأول السرطان تناهى طول النهار وقصر الليل، وأخذ النهار في النقصان، وانصرف الربيع، ودخل الصيف، واشتد الحر، وحمي الهواء، وهبت السموم، ونقصت المياه، ويبس العشب، واستحكم الحب، وأدرك الحصاد، ونضجت الثمار، وسمنت البهائم، واشتدت قوة الأبدان، وأخصبت الأرض، وكثر الريف، ودرت أخلاف النعم، وبطر الإنسان، وصارت الدنيا كأنها عروس غنية منعمة رعناء ذات جمال.
ذكر دخول الخريف
وإذا بلغت الشمس آخر السنبلة وأول الميزان استوى الليل والنهار مرة أخرى، وأخذ الليل في الزيادة على النهار، وانصرف الصيف ودخل الخريف وبرد الهواء وهبت ريح الشمال، وتغير الزمان، وجفت الأنهار، وغارت العيون، واصفر ورق الأشجار، وصرمت الثمار، وديست البيادر، وأحرز الحب، وفني العشب، واغبر وجه الأرض، وهزلت البهائم، وماتت الهوام، وانحجزت الحشرات، وانصرف الطير والوحش يطلب البلدان الدفئة، وأخذ الناس يحرزون القوت للشتاء، وصارت الدنيا كأنها كهلة مدبرة قد تولت عنها أيام الشباب.
ذكر دخول الشتاء
وإذا بلغت الشمس آخر القوس وأول الجدي؛ تناهى طول النهار، وأخذ الليل في الزيادة، وانصرف الخريف، ودخل الشتاء، واشتد البرد، وخشن الهواء، وتساقط ورق الأشجار، ومات أكثر النبات، وانحجرت هوام الحيوانات في باطن الأرض، وضعفت قوى الأبدان، وعري وجه الأرض من زينته، ونشأت الغيوم، وكثرت الأنداء، وأظلم الهواء، وكلح وجه الأرض، وهرم الزمان، ومنع الناس عن التصرف، وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت، وإذا بلغت الشمس آخر الحوت وأول الحمل عاد الزمان كما كان في العام الأول وهذا دأبه، ذلك تقدير العزيز العليم.
ذكر دوران زحل في البرج وحالاته من الشمس
زحل يدور في البروج الاثني عشر - في كل ثلاثين سنة بالتقريب - دورة واحدة، يقيم في كل برج سنتين ونصفا وفي كل درجة شهرا، وفي كل دقيقة اثنتي عشرة ساعة، وتقابله الشمس في كل سنة مرة واحدة إذا صارت الشمس في السابع منه وتربعه مرتين، مرة يمنة ومرة يسرة، وتقارنه في كل سنة مرة إذا صارت معه في برج واحد ودرجة واحدة، ثم تجاوزه الشمس، ويظهر زحل بعد عشرين يوما من المشرق بالغدوات قبل طلوع الشمس، ويسير زحل من وقت مفارقة الشمس إلى أن تقارنه مرة أخرى ثلاثمائة واحدا وثمانين يوما، من ذلك مائة وثلاثة وعشرون يوما مستقيما مشرقا ومائة وأربعة وثلاثون يوما راجعا ومائة وأربعة وعشرون يوما مستقيما مغربا، وذلك دأبهما في كل سنة، وفيما يلي مثال ذلك:
![](../Images/figure78.png)
ذكر دوران المشتري في البروج وحالاته من الشمس
المشتري يدور في البروج الاثني عشر في اثنتي عشرة سنة بالتقريب مرة واحدة يقيم في كل برج سنة وفي كل درجتين ونصف شهرا وفي كل خمس دقائق يوما وليلة، وتقابله الشمس في كل مرة إذا صارت معه في البرج السابع منه، وتربعه مرتين مرة يمنى ومرة يسرى، وتقارنه في كل سنة مرة إذا صارت معه في برج واحد ودرجة واحدة، ثم تجاوزه الشمس ويظهر المشتري بعد عشرين يوما من المشرق بالغدوات قبل طلوعها، ويسير المشتري من وقت مفارقتها إلى وقت مقارنتها دفعة أخرى ثلاثمائة وتسعة وتسعين يوما من ذلك مائة وأربعة وأربعون يوما مستقيما مشرقا ومائة وأحد عشر يوما راجعا ومائة وأربعة وأربعون يوما مستقيما مغربا، وذلك دأبهما، وهذه دائرة مثال ذلك المذكور وصورته:
![](../Images/figure79.png)
ذكر دوران المريخ في الفلك وحالاته من الشمس
المريخ يدور في الفلك في مدة سنتين إلا شهرا واحدا بالتقريب يقيم في كل برج خمسة وأربعين يوما يزيد وينقص ويقيم في كل درجة مقدار يوم وبعض يوم، فإذا رجع في البرج أقام فيه ستة أشهر يزيد وينقص وتقابله الشمس في هذه المدة مرة واحدة عند رجوعه من البرج السابع وتربعه مرتين مرة يمنى ومرة يسرى وتقارنه في هذه المدة مرة إذا صارت معه في برج واحد ودرجة واحدة، ثم تجاوره الشمس ويسير المريخ تحت شعاع الشمس مقدار شهرين، ثم يظهر بالغدوات من المشرق قبل طلوع الشمس مقدار شهرين، ويسير المريخ من وقت مفارقة الشمس له إلى أن تقارنه مرة أخرى 858 يوما من ذلك 325 يوما مستقيما مشرقا و88 يوما راجعا و455 يوما مستقيما مغربا وهذا دأبه، ذلك تقدير العزيز العليم.
ذكر دوران الزهرة في الفلك
الزهرة تدور في البروج مثل دوران الشمس غير أنها تسرع السير تارة فتسبق الشمس وتصير قدامها، وتارة تبطئ في السير فترجع وتصير خلفها فتقارنها مرة وهي راجعة ومرة أخرى وهي مستقيمة، فإذا قارنتها وهي راجعة ظهرت بعد خمسة أيام طالعة من المشرق بالغدوات قبل طلوع الشمس وترى ثمانية أشهر تطلع في أواخر الليل، فيقال لها: مشرقية ثم تسرع في السير وتلحق بالشمس وتسير تحت شعاعها ثلاثة أشهر لا ترى، ثم تظهر بالعشيات في المغرب بعد غروب الشمس فترى ثمانية أشهر ثم تغيب في أول الليل وتسمى مغربية فمن وقت مقارنتها الشمس وهي مستقيمة إلى أن تقارنها مرة أخرى يكون 478 يوما، ومن ذلك تكون 45 يوما راجعة والباقي مستقيمة وأكثر ما تبعد عن الشمس 48 درجة قدامها، ومثل ذلك خلفها، وذلك دأبها.
ذكر دوران عطارد في الفلك وحالاته من الشمس
حالات عطارد من الشمس مثل حالات الزهرة منها غير أن عطارد من وقت مفارقة الشمس وهو مستقيم السير إلى أن يقارنها مرة أخرى على تلك الحال؛ يكون 124 يوما من ذلك 22 يوما راجعا والباقي مستقيما، وأكثر ما يبعد من الشمس 27 درجة قدامها ومثل ذلك خلفها، ويرجع في كل سنة ثلاث مرات، ويحترق ست مرات، ويشرق ثلاث مرات، ويغرب ثلاث مرات، وذلك دأبه.
ذكر دوران القمر في الفلك وحالاته من الشمس
القمر يدور في البروج في كل سنة عربية اثنتي عشرة مرة في كل شهر مرة، ويقيم في كل برج يومين وثلثا وفي كل منزل يوما وليلة وفي كل درجة ساعتين بالتقريب، ويقابل الشمس في كل شهر مرة، ويربعها مرتين مرة يمنة ومرة يسرة، ويقارنها في كل شهر مرة فلا يرى يومين، ثم يظهر في المغرب بعد مغيب الشمس، ويهل ثم يزيد في نوره كل ليلة نصف سبع إلى أن يستكمل ويمتلئ من النور ليلة البدر الرابع عشر من كل شهر، ثم يأخذ في النقصان فينقص كل ليلة نصف السبع إلى أن يمحق في آخر الشهر.
وللقمر في البروج ثمانية وعشرون منزلة - كما قال الله تعالى: @QUR07 والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم وفي كل ثلاثة أبراج منها سبعة منازل، وفي كل برج منزلتان وثلث، وهذه أسماؤها: السرطان البطين الثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع، وهذه منازل الربيع: النثرة الطرف الجبهة الزئرة الصرفة العواء السماك، وهذه منازل الصيف الغفر الزبانيان الإكليل القلب الشولة النعائم البلدة، وهذه منازل الخريف: سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية الفرع المقدم الفرع المؤخر بطن الحوت، وهذه منازل الشتاء: الحمل بيت المريخ وشرف الشمس وهبوط زحل ووبال الزهرة، وهو برج ناري شرقي ذكر منقلب طبيعته المرة الصفراء ربيعي إذا نزلت الشمس أول دقيقة منه استوى الليل والنهار، وأخذ النهار يزيد والليل ينقص ثلاثة أشهر تسعين يوما.
وله ثلاثة أوجه وخمسة حدود «الثور» بيت الزهرة وشرف القمر ووبال المريخ وهو برج ترابي ليلي جنوبي ثابت ربيعي، وطبيعته المرة السوداء، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الجوزاء» وشرف الرأس وهبوط الذنب ووبال المشتري وهو برج هوائي ذكر نهاري غربي ربيعي دموي ذو جسدين وفي آخره ينتهي طول النهار وقصر الليل، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، و«السرطان» بيت القمر وشرف المشتري وهبوط المريخ ووبال زحل وهو برج مائي أنثى ليلي شمالي منقلب صيفي بلغمي.
وفي أوله يبتدئ الليل بالزيادة والنهار في النقصان تسعون يوما، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الأسد» بيت الشمس وليس فيه شرف ولا هبوط وهو وبال زحل وهو برج ناري ذكر نهاري شرقي ثابت صيفي طبيعته مرة صفراء وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «السنبلة» بيت عطارد وشرفه وهبوط الزهرة ووبال المشتري وهو برج ترابي ليلي أنثي جنوبي صيفي ذو جسدين طبيعته السوداء، وفي آخره يستوي الليل والنهار مرة أخرى، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الميزان» بيت الزهرة وشرف زحل وهبوط الشمس ووبال المريخ وهو برج ذكر هوائي نهاري غربي منقلب خريفي دموي، وفي أوله يبتدئ الليل بالزيادة على النهار ثلاثة أشهر تسعون يوما.
وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «العقرب» بيت المريخ وهبوط القمر ووبال الزهرة وهو برج مائي ليلي أنثى خريفي شمالي بلغمي، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود ، «القوس» بيت المشتري وشرف الذنب وهبوط الرأس ووبال عطارد وهو برج ناري ذكر نهاري ذو جسدين خريفي طبيعته المرة الصفراء، وفي آخره ينتهي طول الليل وقصر النهار وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الجدي» بيت زحل وشرف المريخ وهبوط المشتري ووبال القمر وهو برج ترابي ليلي منقلب طبيعته السوداء شتوي جنوبي وفي أوله يأخذ النهار في الزيادة والليل في النقصان ثلاثة أشهر، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الدلو» بيت زحل وليس فيه شرف ولا هبوط بل هو وبال الشمس وهو برج هوائي ذكر ناري غربي ثابت شتوي دموي وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الحوت» بيت المشتري وشرف الزهرة وهبوط عطارد ووباله وهو برج مائي أنثي ليلي شمالي بلغمي، وفي آخره يستوي الليل والنهار، ثم تنزل الشمس أول الحمل، ويستأنف الزمان مثل ما كان في العام الأول، ذلك تقدير العزيز العليم.
(6) فصل في قران الكواكب
وهذه الكواكب السيارة تسير في هذه البروج الاثني عشر بحركاتها المختلفة - كما بينا - فربما اجتمع منها اثنان في برج واحد وثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو كلها، وإذا اجتمع منها اثنان في درجة واحدة من البرج يقال: إنهما مقتربان، وأما في أكثر الأوقات فإنها تكون متفرقة في البروج فيعرف مواضعها في البروج والدرج كيف كانت متفرقة أو مجتمعة من التقويم أو الزيج.
ذكر البيوت الاثني عشر
إذا ولد مولود أو حدث أمر من الأمور فلا بد من أن تكون في تلك اللحظة درجة طالعة من أفق المشرق فمن تلك الدرجة إلى تمام ثلاثين درجة فما يتلوها يسمى طالع بيت الحياة سواء كانت تلك الدرج من برج واحد أو من برجين، ومن تمام ثلاثين درجة إلى تمام ستين درجة يسمى الثاني بيت المال، وإلى تمام تسعين درجة يسمى الثالث بيت الإخوة، وإلى تمام مائة وعشرين درجة يسمى الرابع بيت الآباء، وإلى تمام مائة وخمسين درجة يسمى الخامس بيت الأولاد، وإلى تمام مائة وثمانين درجة يسمى السادس بيت الأمراض، وإلى تمام مائتين وعشر درجات يسمى السابع بيت الأزواج، وإلى تمام مائتين وأربعين درجة يسمى الثامن بيت الموت، وإلى مائتين وسبعين درجة يسمى التاسع بيت الأسفار، وإلى تمام ثلاثمائة درجة يسمى العاشر بيت السرطان، وإلى ثلاثمائة وثلاثين درجة يسمى الحادي عشر بيت الرجاء، وإلى تمام ثلاثمائة وستين درجة يسمى الثاني عشر بيت الأعداد، وكل بيت من هذه البيوت يدل على أشياء كثيرة تركنا ذكرها؛ لأنها مذكورة في كتب الأحكام بشرحها.
(7) فصل في تجرد النفس واشتياقها إلى عالم الأفلاك
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العاقل الفهم إذا نظر في علم النجوم وفكر في سعة هذه الأفلاك وسرعة دورانها وعظم هذه الكواكب وعجيب حركاتها وأقسام هذه البروج وغرائب أوصافها كما وصفنا قبل؛ تشوقت نفسه إلى الصعود إلى الفلك والنظر إلى ما هناك معاينة، ولكن لا يمكن الصعود إلى ما هناك بهذا الجسد الثقيل الكثيف، بل النفس إذا فارقت هذه الجثة ولم يعقها شيء من سوء أفعالها أو فساد آرائها وتراكم جهالاتها أو رداءة أخلاقها؛ فهي هناك في أقل من طرفة عين بلا زمان؛ لأن كونها حيث همتها ومحبوبها كما تكون نفس العاشق؛ حيث معشوقه، فإذا كان عشقها هو الكون مع هذا الجسد ومعشوقها هذه اللذات المحسوسة المحرقة الجرمانية وشهواتها هذه الزينة الجسمانية فهي لا تبرح من هاهنا ولا تشتاق الصعود إلى عالم الأفلاك ولا تفتح لها أبواب السماوات، ولا تدخل الجنة مع زمر الملائكة بل تبقى تحت فلك القمر سائحة في قعر هذه الأجسام المستحيلة المتضادة تارة من الكون إلى الفساد وتارة من الفساد إلى الكون كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب لابثين فيها أحقابا ما دامت السماوات والأرض لا يذوقون فيها برد عالم الأرواح الذي هو الروح والريحان، ولا يجدون لذة شراب الجنان المذكور في القرآن، @QUR020 ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين، الظالمين لأنفسهم الكافرين لحقائق الأشياء ويروى عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «الجنة في السماء والنار في الأرض.»
ويحكى في الحكمة القديمة أنه من قدر على خلع جسده ورفض حواسه وتسكين وساوسه وصعد إلى الفلك؛ جوزي هناك بأحسن الجزاء، ويقال: إن بطليموس كان يعشق علم النجوم، وجعل علم الهندسة سلما صعد به إلى الفلك فمسح الأفلاك وأبعادها والكواكب وأعظامها ثم دونه في المجسطي، وإنما كان ذلك الصعود بالنفس لا بالجسد وهكذا.
ويحكى عن هرمس المثلث بالحكمة، وهو إدريس النبي - عليه السلام - أنه صعد إلى فلك زحل، ودار معه ثلاثين سنة حتى شاهد جميع أحوال الفلك، ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم، قال الله تعالى: @QUR03 ورفعناه مكانا عليا.
وقال أرسططاليس في كتاب الثالوجيا شبه الرمزاني: ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني، وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدن، فأكون داخلا في ذاتي خارجا عن جميع الأشياء، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجبا باهتا فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الفاضل الشريف.
وقال فيثاغورس في الوصية الذهبية: إذا فعلت ما قلت لك يا ديوجانس وفارقت هذا البدن حتى تصير نحلا في الجو فتكون حينئذ سائحا غير عائد إلى الإنسانية ولا قابل للموت.
وقال المسيح - عليه السلام - للحواريين في وصية له: إذا فارقت هذا الهيكل فأنا واقف في الهواء عن يمنة عرش ربي وأنا معكم حيثما ذهبتم فلا تخالفوني حتى تكونوا معي في ملكوت السماء غدا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في خطبة له طويلة: «أنا واقف لكم على الصراط وأنكم ستردون على الحوض غدا فأقربكم مني منزلا يوم القيامة من خرج من الدنيا على هيئة ما تركته، ألا لا تغيروا بعدي ألا لا تبدلوا بعدي.»
فهذه الحكايات والأخبار كلها دليل على بقاء النفس بعد مفارقة الجسد وأن الإنسان العاقل إذا استبصرت نفسه في هذه الدنيا وصفت من درن الشهوات والمآثم، وزهدت في الكون ها هنا، فإنها عند مفارقة الجسد لا يعوقها شيء عن الصعود إلى السماء ودخول الجنة والكون هناك مع الملائكة وفي مثل هذه النفوس قيل بالعربية شعر:
وما كان إلا كوكبا كان بيننا
فودعنا جادت معاهده دهم رأى المسكن العلوي أولى بمثله
ففاز وأضحى بين أشكاله نجم
وقيل بالفارسية بيت:
خواهي تأمرك نيا بدترا
خواهي كزمك بهابي أمان زير زمين خيره نهفتي بجوي
بس بفلك برشوبي نرد بان
وقيل أيضا:
خنك أين أفتاب وزهره وماه
كه نباشند جاودانه تباه همه بريك نهاد خويش دوند
كه نكردند هركزا زيك راه راست كوئي ستار كان ملك أند
جشمه أفتاب شاهنشاه ته بخوانيد نائحة مشغول
يا بتديين كين وحرب وسياه دوستا نند بيش روياروي
يك بديكر همي كنندنكاه
فمن بلغ رتبة نفسه هذه المرتبة كما ذكرت من قبل صار بهذه المنزلة، إلا أن في هذه السماوات جنة لكنها محفوفة بالمكاره، «قال» الله - عز وجل: @QUR04 إخوانا على سرر متقابلين، وإنما ذكرنا هذه المعاني في هذه الرسالة؛ لأن أكثر أهل زماننا الناظرين في علم النجوم شاكون في أمر الآخرة، متحيرون في أحكام أمر الدين، جاهلون بأسرار النبوات، منكرون البعث والحساب، فدللناهم على صحة أمور الدين من صناعتهم، واحتججنا عليهم من علمهم؛ ليكون أقرب من فهمهم وأوضح لتبيانهم.
(8) فصل في علة انحصار الأفلاك والبروج والكواكب في عدد مخصوص
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علة كون الأفلاك تسع طبقات والبروج اثني عشر والكواكب السيارة سبعة ومنازل القمر ثمانية وعشرين واقتصارها على هذه الأعداد؛ فيه حكمة جليلة لا يبلغ فهم البشر كنه معرفتها، ولكن نذكر من ذلك طرفا؛ ليكون تنبيها لنفوس المتعلمين المرتاضين بالنظر في خواص العدد ومطابقة الموجودات لخواص العدد وطبيعته على رأي الحكماء الفيثاغوريين، وذلك أن هؤلاء الحكماء لما نظروا في طبيعة العدد وجدوا لكل عدد خاصية ليست لغيره ثم تأملوا أحوال الموجودات فوجدوا كل نوع منها قد اقتصر على عدد مخصوص لا أقل ولا أكثر، ثم بحثوا عن طبيعة ذلك الموجود وخاصية ذلك العدد فكانا مطابقين، واستبان لهم إتقان الحكمة الإلهية فيها، فمن أجل هذا قالوا: إن الموجودات بحسب طبيعة العدد وخواصه .
فمن عرف طبيعة العدد وأنواعه وخواص تلك الأعداد؛ تبين له إتقان الحكمة وكون الموجودات على أعداد مخصوصة، فكون الكواكب السيارة سبعة مطابق لأول عدد كامل، وكون الأفلاك تسعة مطابق لأول عدد فرد مجذور، وكون البروج اثني عشر مطابق لأول عدد زائد، وكون المنازل ثمانية وعشرين مطابق لعدد تام، ولما كانت السبعة مجموعة من ثلاثة وأربعة وكان الاثنا عشر من ضرب ثلاثة في أربعة وثمانية وعشرون من ضرب سبعة في أربعة؛ فبواجب الحكمة صارت مقصورة على هذه الأعداد، وكانت السبعة والاثنا عشر والتسعة مجموعها ثمانية وعشرون عددا؛ لتكون الموجودات الفاضلة مطابقة للأعداد الفاضلة.
(9) فصل في حكمة اختلاف خواص الكواكب
وأما الحكمة في كون الكواكب السبعة السيارة اثنان منها نيران واثنان منها سعدان واثنان نحسان وواحد ممتزج، وكون البروج الاثني عشر أربعة منها منقلبة وأربعة ثابتة وأربعة ذوات جسدين، وكون العقدتين في خللها؛ فالحكمة في ذلك أكثر مما يحصى، ولكن نذكر منها طرفا ليكون دليلا على الباقي، وذلك أن الباري - سبحانه وتعالى - بواجب حكمته جعل حال الموجودات بعضها ظاهرا جليا لا يخفى وبعضها باطنا خفيا لا تدركه الحواس، فمن الموجودات الظاهرة الجلية جواهر الأجسام وأعراضها وحالاتها، ومن الموجودات الباطنة الخفية جواهر النفس، ومن الموجودات الظاهرة الجلية للحواس أيضا أمور الدنيا، ومن الموجودات الباطنة الخفية عن أكثر العقول أمور الآخرة ثم جعل ما كان منها ظاهرا جليا دليلا على الباطن الخفي، فمن ذلك النيران: الشمس والقمر؛ فإن أحدهما الذي هو القمر دليل على أمور الدنيا وحالات أهلها من الزيادة والنقصان والتغيير والمحاق، والأخرى التي هي الشمس دليل على أمور الآخرة وحالات أهلها من التمام والكمال والنور والإشراق.
ومن ذلك حال السعدين المشتري والزهرة؛ فإن أحدهما دليل على سعادة أبناء الدنيا وهي الزهرة؛ وذلك أنها إذا استولت على المواليد دلت لهم على نعيم الدنيا من الأكل والشرب والنكاح والميلاد، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من السعداء فيها، وأما المشتري فهو دليل على سعادة أبناء الآخرة؛ وذلك أنه إذا استولى على المواليد دل لهم على صلاح الأخلاق وصحة الدين وصدق الورع ومحض التقى، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من السعداء في الآخرة.
ومن ذلك أيضا النحسان: زحل والمريخ، فإن أحدهما دليل على منحسة أبناء الدنيا وهو زحل؛ وذلك أنه إذا استولى على المواليد دل ذلك على الشقاء والبؤس والفقر والمرض والعسر في الأمور، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من الأشقياء فيها، وأما المريخ فإنه دليل على منحسة أبناء الآخرة، وذلك أنه إذا استولى على المواليد دل لهم على الشرور من الفسق والفجور والقتل والسرقة والفساد في الأرض، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من الأشقياء في الآخرة، وأما من استولى على مولده المشتري والزهرة فسعادتهما دلالة على السعادة في الدنيا والآخرة، ومن استولى على مولده زحل والمريخ فنحوستهما دلالة على منحسة الدنيا والآخرة، وأما امتزاج عطارد بالسعادة والنحوسة فهو دليل على أمور الدنيا والآخرة وتعلق إحداهما بالأخرى، وأما كون البروج المنقلبة وحالاتها تدل على تقلب أحوال أبناء الدنيا، والبروج الثوابت تدل على ثبات أحوال أبناء الآخرة والبروج ذوات الجسدين تدل على تعلق أمور الدنيا والآخرة أحدهما بالآخر.
وقد قيل: إن طالع الدنيا السرطان وهو برج منقلب وأوتاده مثله، وأما العقدتان اللتان تسمى إحداهما رأس التنين والأخرى الذنب فليسا بكوكبين ولا جسمين ولكنهما أمران خفيان - كما بينا قبل - ولهما حركات في البرج كحركات الكواكب، ولهما دلالة على الكائنات كدلالة الكواكب النحوس وهما خفيا الذات ظاهرا الأفعال فخفاء ذاتيهما وظهور أفعالهما يدل على أن في العالم نفوسا أفعالها ظاهرة وذواتها خفية يسمون الروحانيين، وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين، فأجناس الملائكة هي نفوس خيرة موكلة بحفظ العالم وصلاح الخليقة، وقد كانت متجسدة قبل وقتا من الزمان فتهذبت واستبصرت وفارقت أجسادها واستقلت بذاتها، وفازت ونجت وساحت في فضاء الأفلاك وسعة السماوات، فهي مغتبطة فرحانة مسرورة ملتذة ما دامت السماوات والأرض.
وأما عفاريت الجن ومردة الشياطين فهي نفوس شريرة مفسدة، وقد كانت متجسدة قبل وقتا من الزمان ففارقت أجسادها غير مستبصرة ولا متهذبة فبقيت عميا عن رؤية الحقائق صما عن استماع الصواب بكما عن النطق الفكري في المعاني اللطيفة، فهي سابحة في ظلمات بحر الهيولى، غائصة في قعر من الأجسام المظلمة ذي ثلاثة شعب تهوي في هاوية البرزخ كلما نضجت جلودهم بالبلاء بدلناهم جلودا غيرها بالكون، فذلك دأبهم ما دامت السماوات والأرض لابثين فيها أحقابا لا يجدون برد نسيم عالم الأرواح، ولا يذوقون لذة شراب المعارف، فهذه حالهم إلى يوم يبعثون.
وأما الظاهر من تأثيرات الرأس والذنب فهو كسوف النيرين، وذلك أنهما من أوكد الأسباب في كسوفهما، وإنما اقتضت الحكمة كسوف النيرين لكيما تزول التهمة والريبة من قلوب المرتابين بأنهما إلهان، فلو كانا إلهين ما انكسفا، وإنما صارت محنة الشخصين النيرين الجليلين بأمرين خفيين؛ ليكون دليلا على أن أعظم المحنة من الشيطان على الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - لأن الأنبياء هم شموس بني آدم وأقمارهم، فمن ذلك قصة إبليس مع آدم أبي البشر وإخراجه له من الجنة وقصة ركوبه مع نوح في السفينة وقصته مع إبراهيم خليل الرحمن يوم طرح في النار في إصلاح المنجنيق وقصته مع موسى - عليه السلام - حين وسوس إليه أن هذا الكلام الذي تسمع لعله ليس كلام رب العالمين، فعند ذلك قال موسى: @QUR07 رب أرني أنظر إليك قال لن تراني، وقصته مع المسيح وزكريا ويحيى - عليهم السلام - وغيرهم من الأنبياء معروفة يطول شرحها، وإنما ذكرنا هذه الأحرف في هذه الرسالة؛ لأن أكثر أهل زماننا الناظرين في علم النجوم شاكون في أمر الآخرة، متحيرون في أحكام الدين، جاهلون بأسرار النبوات، منكرون للحساب والبعث، فدللناهم على تحقيق ما أنكروه من صناعتهم؛ ليكون أقرب من فهمهم وأوضح لبيانهم، وكذلك فعلنا في سائر رسائلنا التي عملناها في فنون العلوم.
(10) فصل في علم أحكام النجوم
وإذ قد ذكرنا طرفا من علم الهيئة وتركيب الأفلاك شبه المدخل والمقدمات فنريد أن نذكر أيضا طرفا من علم «الأحكام» الذي يعرف بالاستدلال:
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلماء مختلفون في تصحيح علم الأحكام وحقيقته ، فمنهم من يرى ويعتقد أن للأشخاص الفلكية دلالات على الكائنات في هذا العالم قبل كونها، ومنهم من يرى ويعتقد أن لها أفعالا وتأثيرات أيضا مع دلالاتها، ومنهم من يرى ويعتقد أن ليس لها أفعال ولا تأثيرات ولا دلالات البتة بل ترى أن حكمها حكم الجمادات والموات بزعمهم، فأما الذين قالوا: إن لها دلالات فهم أصحاب الأحكام، وإنما عرفوا دلالاتها بكثرة العناية بالإرصاد لحركاتها وتأثيراتها والنظر فيها واعتبار أحوالها وشدة البحث عنها.
والناس لتصاريف أمورها على ممر الأيام والشهور والأعوام أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن كلما أدركوا شيئا منها أثبتوه في الكتب كما ذكروها في كتبهم بشرح طويل، وأما الذين أنكروا ذلك فهم طائفة من أهل الجدل تركوا النظر في هذا العلم وأعرضوا عن اعتبار أحوال الفلك وأشخاصه وحركاته ودورانه، وأغفلوا البحث عنها والتأمل لتصاريف أمورها فجهلوا ذلك وأنكروه وعادوا أهلها وناصبوهم العداوة والبغضاء.
وأما الذين ذكروا أن لها مع دلالاتها أفعالا وتأثيرات في الكائنات التي تحت فلك القمر، فإنما عرفوا ذلك بطريق آخر غير طريق أصحاب الأحكام وبحث أشد من بحثهم واعتبار أكثر من اعتبارهم وهو طريق الفلسفة الروحانية والعلوم النفسانية وتأييد إلهي وعناية ربانية، ونريد أن نذكر من هذا الفن طرفا ليكون إرشادا للمحبين للفلسفة والراغبين فيها ودلالة لهم عليها ورغبة فيها؛ أعني: علم الفلسفة.
فاعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك سماواته خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه وتدبير خلائقه وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أفلاكه، كما أن ملوك الأرض هم خلفاء الله في أرضه، خلفهم وملكهم بلاده، وولاهم على عباده ليعمروا بلاده، ويسوسوا عباده، ويحفظوا شرائع أنبيائه بإنفاذ أحكامهم على عباده، وحفظ نظامهم على أحسن حالات ما يتأتى فيهم وأتم غايات ما يمكنهم من البلوغ إليها وأفضل نهايات ما يصلون إليها إما في الدنيا وإما في الآخرة.
فعلى هذا المثال والقياس تجري أحكام هذه الكواكب في هذه الكائنات التي تحت فلك القمر، ولها أفعال لطيفة وتأثيرات خفية تدق على أكثر الناس معرفتها وكيفيتها كما تدق على الصبيان والجهال معرفة كيفية سياسة الملوك وتدبيرهم في رعيتهم، وإنما يعرف ذلك منها العقلاء والبالغون المتأملون للأمور، فهكذا أيضا لا يعرف كيفية تأثيرات هذه الكواكب وأفعالها في هذه الكائنات إلا الراسخون في العلوم من الحكماء والفلاسفة، البالغون في المعارف الربانية، الناظرون في العلوم الإلهية، المؤيدون من السماء بتأييد الله وإلهامه لهم.
(11) فصل في كيفية وصول قوى أشخاص العالم العلوي إلى أشخاص العالم السفلي «الذي هو عالم الكون والفساد»
اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن معنى قول الحكماء: «العالم» إنما هو إشارة إلى جميع الأجسام الموجودة وما يتعلق بها من الصفات، وهو عالم واحد كمدينة واحدة أو حيوان واحد، ولكن لما كانت الأجسام كلها تنقسم قسمين حسب، فمنها عالم الأفلاك ومنها عالم الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ويسمى عالم الكون والفساد؛ فنقول: إن أول حد عالم الأفلاك هو من أعلى سطح الفلك المحيط إلى منتهى مقعر سطح فلك الأثير، وهو فلك القمر ثم مما يلي الهواء، وحد عالم الأركان هو من مقعر سطح فلك القمر إلى منتهى الأرض، ويسمى أحدهما العالم العلوي والآخر العالم السفلي؛ لأن العلوي هو مما يلي المحيط والسفلي مما يلي المركز، وأما الذي فوق الفلك فهو رتبة النفس الكلية التي هي سارية قواها في جميع الأجسام التي في العالمين جميعا من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض بإذن الباري - جل ثناؤه.
واعلم يا أخي أن أول قوة تسري في النفس الكلية نحو العالم فهي في الأشخاص الفاضلة النيرة التي هي الكواكب الثابتة، ثم بعد ذلك في الكواكب السيارة، ثم بعد ذلك فيما دونها من الأركان الأربعة وفي الأشخاص الكائنة منها من المعادن والنبات والحيوان.
واعلم بأن مثال سريان قوى النفس الكلية في الأجسام الكلية والجزئية جميعا؛ كمثال سريان نور الشمس والكواكب في الهواء، ومطارح شعاعاتها نحو مركز الأرض.
واعلم يا أخي بأن الكواكب السيارة ترتقي تارة بحركاتها إلى أعلى ذرى أفلاكها وأوجاتها ، وتقرب من تلك الأشخاص الفاضلة التي تسمى الكواكب الثابتة، وتستمد منها النور والفيض والقوى، وتارة تنحط إلى الحضيض وتقرب من عالم الكون والفساد وتوصل تلك الفيضات والقوى إلى هذه الأشخاص السفلية فتسري فيها كما تسري قوة النفس الحيوانية في الدماغ، ثم بتوسط الأعصاب تصل إلى سائر أطراف البدن كما بينا كيفيتها في رسالة الحاس والمحسوس، فإذا وصلت تلك القوى والفيضات مع شعاعاتها إلى هذا العالم فإنها تسري أولا في الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ثم يكون ذلك سببا لكون الكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان ويكون اختلاف أجناسها وأنواعها بحسب اختلاف أشكال الفلك واختلاف الأماكن واختلاف الأزمان، لا يعلم أحد كثرتها وفنون أشخاصها وتفاوت أوصافها إلا الله - جل ثناؤه - الذي هو خالقها وبارئها ومنشئها ومصورها كيف شاء.
(12) فصل في بيان كيفية سعادات الكائنات ومناحسها
اعلم أن الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، والكواكب أيضا هكذا دائمة، وأن الحركات على توالي البروج كما هو بين في الزيجات والتقاويم، وهكذا أيضا الكائنات دائمة في الكون والفساد متصلة لا تنقطع ليلا ولا نهارا ولا شتاء ولا صيفا، ولكن إذا اتفق في وقت من الزمان أن تكون الكواكب السيارة في أوجاتها أو إشرافها أو بيوتها أو حدودها أو يكون بعضها من بعض على النسبة الفضلى التي تسمى النسبة الموسيقية، وهي النصف والثلث والربع والثمن، سرت تلك القوى عند ذلك من النفس الكلية ووصلت بتوسط تلك الكواكب إلى هذا العالم السفلي الذي هو دون فلك القمر وحدث بذلك السبب الكائنات على أعدل مزاج وأصبح طبائع وأجود نظام ونشأت ونمت وتمت وكملت وبلغت إلى أقصى مدى غاياتها وتمام نهاياتها التي هي قاصدة نحوها، وتسمى تلك الأحوال والأوصاف وما يتكون عنها سعادة وخيرات، وإذا اتفق أن يكون شكل الفلك ومواضع الكواكب على ضد ذلك كان أمر الكائنات بالضد أيضا، وتناقصت من بلوغ غاياتها وتمام نهاياتها، وسميت تلك مناحس الفلك وسبب الشرور ولا يكون ذلك بالقصد الأول، ولكن بأسباب عارضة كما بينا في رسالة الآراء والمذاهب في باب علل الشرور وأسبابها، فاعرفها من هناك - إن شاء الله وحده.
(13) فصل في علة اختلاف تأثيرات الكواكب في الكائنات الفاسدات التي دون فلك القمر
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن إشراق الكواكب على الهواء ومطارح شعاعاتها على مركز الأرض على سنن واحد، ولكن قبول القابلات لها ليس بواحد، بل مختلف بحسب اختلاف جواهرها.
مثال ذلك أن الشمس إذا أشرقت من الأفق أضاءت الهواء من نورها، وسخن وجه الأرض من انعكاس شعاعاتها - كما بينا في رسالة الآثار العلوية - وجف الطين، وذاب الثلج، ولان الشمع، ونضج الثمر، ونتن اللحم، وابيضت ثياب القصارين، واسودت وجوههم، وانعكس الشعاع من السطوح الصقيلة الوجوه كوجه المرايا، وسرى الضوء في الأجسام الشفافة كالزجاج والبلور والمياه الصافية، وقويت أبصار أكثر الحيوانات، وضعفت أبصار بعضها كالبوم والخفافيش وبنات وردان وما شاكلها من الحيوانات، فيكون اختلاف تلك التأثيرات في هذه الأشياء بحسب اختلاف جواهرها وتركيبها ومزاجها وقبولها، وإلا فالإشراق واحد، وعلى هذا المثال اختلاف قبولها لتأثيرات سائر الكواكب في المواليد وتحاويل السنين.
ومثال آخر، إذا اتفق للفلك شكل محمود من سعادة أحوال الكواكب في وقت من أوقات الأزمان، ويولد في ذلك الوقت عدة مواليد من أجناس الحيوانات ومواليد الناس، ولكن يكون بعضهم من أولاد الملوك والرؤساء، وبعضهم من أولاد التجار والدهاقين وأرباب النعم، وبعضهم من أولاد الفقراء والمساكين والمكدين فلا يكون قبولهم لسعادة الفلك على سنن واحد، بل كل واحد منهم بحسب مرتبته، وذلك أن أولاد المكدين إذا حسنت أحوالهم من السعادة فهو أن يبلغوا مرتبة أولاد التجار وأرباب النعم وأوساط الناس، وإذا حسن أولاد التجار، فهو أن يبلغوا مرتبة أولاد الملوك، وأولاد الملوك إذا قبلوا سعادة الفلك ارتقوا وبلغوا سرير الملك والسلطان، وإن نحسوا قصر بهم عن ذلك، وكذلك كل واحد من أولئك الذين تقدم ذكرهم ينحط من درجة إلى ما دونها في المرتبة.
ومثال آخر، أنه اتفق عدة مواليد في طالع واحد ووقت واحد في بلدان مختلفة، وشكل الفلك يدل على أن يكونوا شعراء خطباء، غير أن بعضهم في بلاد العرب، وبعضهم في بلاد النبط، وبعضهم في بلاد الأرمن، فقبولهم يختلف لأن العربي أسرع قبولا لخاصية بلده، والنبطي دون ذلك، والأرمني دونه، وعلى هذا المثال والقياس تختلف تأثيرات الكواكب في الكائنات. وقد ذكرت علل ذلك في كتب الأحكام بشرح طويل، فاعرفه من هناك.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لهذه الكواكب السيارة في أفلاكها المختصة بها حالات مختلفة.
فمن ذلك: السرعة في السير والإبطاء في الحركة والوقوف والاستقامة والرجوع والارتفاع في الأوجات والانحطاط إلى الحضيض والكون في الميل والذهاب في العرض والبلوغ إلى الجوزهر وما يشاكل ذلك من الأوصاف المختلفة، ولها أيضا في هذه البروج أقسام وأنصبة كالبيوت والوبال والشرف والهبوط والمثلثات والحدود والنوبهرات وما شاكل ذلك، ولها أيضا مناظرات بعضها إلى بعض، واتصالات ومقارنات وانصرافات واحترافات وتشريق وتغريب، والكون في الأوتاد أو ما يليها أو الزوال عنها وما شاكل هذه الأوصاف المذكورة في كتب الأحكام بشرح طويل، وقد ذكرنا طرفا من هذه الأوصاف فيما تقدم من هذه الرسالة.
واعلم يا أخي أن هذه الكواكب السيارة تسير في موازاة هذه البروج بحركاتها المختلفة، فربما اجتمع اثنان منها في برج واحد أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو كلها، وذلك في الندرة في الأزمان الطوال، وأما في أكثر الأوقات فتكون متفرقة في البروج ودرجاتها، وتعرف مواضعها من البروج والدرج والدقائق من التقاويم والزيجات في أي وقت وأي زمان شئت.
واعلم يا أخي أن الشمس من بين الكواكب كالملك، وسائرها كالأعوان والجنود في التمثيل، والقمر كالوزير وولي العهد، وعطارد كالكاتب، والمريخ كصاحب الجيش، والمشتري كالقاضي، وزحل كصاحب الخزائن، والزهرة كالجواري والخدم، والأفلاك لها كالأقاليم، والبروج كالبلدان والسوادات والحدود والوجوه كالمدن، والدرجات كالقرى، والدقائق كالمحال والأسواق في المدن والثواني في الدقائق كالمنازل في المحال والدكاكين في الأسواق، والكواكب في البروج كالأرواح في الأجساد، والكوكب في بيته كالرجل في بلده وعشيرته، والكوكب في شرفه كالرجل في عزه وسلطانه، والكوكب في مثلثه كالرجل في منزله أو دكانه أو ضيعته، والكوكب في وجهه كالرجل في زيه ولباسه، والكوكب في حده كالرجل في خلقه وسجيته، والكوكب في أوجه كالرجل في أعلى مرتبته، والكوكب في حيزه كالرجل في حاله اللائقة به وفي أصحابه ورفقائه.
والكوكب في وباله كالرجل المختلف المدبر، والكوكب في غير حيزه كالرجل في حال منكر، والكوكب في برج لا حظ له فيه كالرجل الغريب في بلدة غريبة، والكوكب في هبوطه كالرجل الذليل المهين، والكوكب في حضيضه كالرجل الوضيع الحال الساقط عن مرتبته، والكوكب تحت الشعاع كالبطل المحبوس، والمحترق كالمريض، والواقف كالمتحير في أمره، والراجع كالعاصي المخالف، والسريع السير كالمقبل الصحيح، والبطيء السير كالضعيف الذاهب القوة، والكوكب في التشريق كالرجل النشيط، والكوكب في التغريب كالهرم.
والناظر كالطالع الذاهب نحو حاجته، والمنصرف كقاضي وطره، والمقترنان من الكواكب كالقرينين من الناس، والكوكب في الوتد كالرجل الحاضر للشيء الحاصل فيه، ومائل الوتد كالجاني المنتظر، والزائل كالذاهب أو الفائت، والكوكب في الطالع كالمولود في الظهور أو الشيء في الكون، وفي الثاني كالمنتظر الذي سيكون، وفي الثالث كالذاهب إلى لقاء الإخوان، وفي الرابع كالرجل في دار آبائه أو الشيء في معدنه، وفي الخامس كالرجل المستعد للتجارة أو الفرحان بما يرجو، وفي السادس كالهارب المنهزم المتعوب، وفي السابع كالرجل المبارز المنازع المحارب، وفي الثامن كالرجل الخائف الوجل، وفي التاسع كالرجل المسافر البعيد من الوطن الزائل من سلطانه، وفي العاشر كالرجل في عمله وسلطانه المعروف المشهور به، وفي الحادي عشر كالرجل الواد الموافق المحب، وفي الثاني عشر كالمحبوس الكاره لموضعه المبغض لما هو فيه.
وإذا توارى كوكبان منها في درجة من الفلك فيقال: إنهما مقترنان، وإذا جاوز أحدهما الآخر فيقال: قد انصرف، وإذا لحق بالآخر فيقال: قد اتصل به، والاتصال قد يكون بالمقارنة وقد يكون بالنظر، وهو أن يكون بينهما ستون درجة سدس الفلك أو تسعون درجة ربع الفلك أو مائة وعشرون درجة ثلث الفلك، أو مائة وثمانون درجة نصف الفلك، فإذا تناظرا في التسديس فهما كالرجلين المتوادين بسبب من الأسباب، وإذا تناظرا في التثليث فهما كالرجلين المتفقين في الطبع والخلق، وإذا تناظرا في التربيع فكالرجلين المتعاملين اللذين يدعي كل واحد منهما الأمر لنفسه، وإذا تناظرا في المقابلة فهما كالرجلين المتنازعين أو كالشريكين المتغارمين، وهذا مثاله وصورته:
![](../Images/figure80.png)
فقد تبين بهذه الصورة أن مناظرة الكواكب بعضها إلى بعض من سبعة مواضع من درجات الفلك ومعنى مناظراتها ومطارح شعاعاتها.
واعلم أن الكواكب تطرح شعاعاتها إلى جميع درجات الفلك فتضيئها وتملأها نورا وضياء، كما أن السراج يضيء جميع أجزاء الدائرة وبسيطها، وإنما ذكر علماء النجوم سبعة مواضع منها لظهور أفعالها وبيان تأثيراتها في هذا العالم من تلك الدرجات المعلومة لمناسبات بعضها بعضا؛ لأن أفعال الكواكب وتأثيراتها في هذا العالم إنما هي بحسب مناسباتها من الأرض؛ أعني: نسب أجرامها إلى جرم الأرض وأبعادها من مركز الأرض، أو بحسب تناسب حركاتها بعضها إلى بعض، وقد بينا طرفا من علم هذا النسب في رسالة الموسيقى.
(14) فصل في أن المنجم لا يدعي علم الغيب فيما يخبر به من الكائنات
واعلم أن كثيرا من الناس يظنون أن علم أحكام النجوم هو ادعاء الغيب، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأن علم الغيب هو أن يعلم ما يكون بلا استدلال ولا علل ولا سبب من الأسباب، وهذا لا يعلمه أحد من الخلق، كذلك لا منجم ولا كاهن ولا نبي من الأنبياء ولا ملك من الملائكة إلا الله - عز وجل.
واعلم يا أخي أن معلومات الإنسان ثلاثة أنواع، فمنها ما قد كان وانقضى ومضى مع الزمان الماضي، ومنها ما هو كائن موجود في الوقت الحاضر، ومنها ما سيكون في الزمان المستقبل، وله إلى هذه الأنواع الثلاثة من المعلومات ثلاثة طرق؛ أحدها السماع والإخبار لما كان ومضى، والآخر هو الإحساس لما هو حاضر موجود، والثالث الاستدلال على ما هو كائن في المستقبل، وهذا الطريق الثالث ألطف الطرقات وأدقها، وهو ينقسم إلى عدة أنواع؛ فمنها بالنجوم، ومنها بالزجر والفأل والكهانة، ومنها بالفكر والروية والاعتبار، ومنها بتأويل المنامات، ومنها بالخواطر والوحي والإلهام، وهذا أجلها وأشرفها، وليس ذلك باكتساب، ولكن موهبة من الله - عز اسمه - لمن شاء أن يجتبيه من عباده، فأما علم النجوم فهو اكتساب من الإنسان وتكلف وجهد واجتهاد في تعلم العلم وطلبه، وهكذا الزجر والفأل، والنظر في الكف وضرب الحصى والكهانة والقيافة والعرافة وتأويل المنامات وما شاكلها؛ كلها يحتاج الإنسان فيها إلى التعلم والنظر والفكر والروية والاعتبار، وهذا الفن من العلم يتفاضل فيه الناس بعضهم على بعض، وكل واحد يختص بشيء منه.
واعلم يا أخي أن الكائنات التي يستدل عليها المنجمون سبعة أنواع، فمنها الملل والدول التي يستدل عليها من القرانات الكبار التي تكون في كل ألف سنة بالتقريب مرة واحدة، ومنها أن تنتقل المملكة من أمير إلى أمير، ومن أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن أهل بيت إلى أهل بيت آخر، وهي التي يستدل عليها وعلى حدوثها من القرانات التي تكون في كل مائتين وأربعين سنة مرة واحدة، ومنها تبدل الأشخاص على سرير الملك، وما يحدث بأسباب ذلك من الحروب والفتن التي يستدل عليها من القرانات التي تكون في كل عشرين سنة مرة واحدة، ومنها الحوادث والكائنات التي تحدث في كل سنة من الرخص والغلاء والجدب والخصب والحدثان والبلاء والوباء والموتان والقحط والأمراض والأعلال والسلامة منها، ويستدل على حدوثها من تحاويل سني العالم التي تؤرخ بها التقاويم، ومنها حوادث الأيام شهرا شهرا ويوما يوما التي يستدل عليها من الأوقات والاجتماعات والاستقبالات التي تؤرخ بها في التقاويم، ومنها أحكام المواليد لواحد واحد من الناس في تحاويل سنيهم بحسب ما يوجبه لهم تشكل الفلك ومواضع الكواكب في أصول مواليدهم وتحاويل سنيهم، ومنها الاستدلال على الخفيات من الأمور كالخبر والسرقة واستخراج الضمير والمسائل التي يستدل عليها من طالع وقت المسألة والسؤال عنها.
واعلم يا أخي أنه ليس في معرفة الكائنات قبل كونها صلاح لكل واحد من الناس؛ لأن في ذلك تنغيصا للعيش واستجلابا للهم واستشعارا للخوف والحزن والمصائب قبل حلولها، وإنما نظر الحكماء في هذا العلم وبحثهم عن هذه السرائر ليرضوا بذلك نفوسهم، ويستعينوا بهذا العلم على الترقي إلى ما هو أشرف منه وأجل؛ وذلك أن الإنسان العاقل المحصل المستيقظ القلب إذا نظر في هذا العلم وبحث عن هذا السر وعن أسبابه وعلله واعتبرها بقلب سليم من حب الدنيا انتبهت نفسه من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وانتعشت وانبعثت من موت الخطيئة، وانفتحت لها عين البصيرة، فأبصرت عند ذلك تصاريف الأمور، وعرفت حقائق الموجودات، ورأت بعين اليقين الدار الآخرة، وتحققت أمر المعاد، وعلمت عند ذلك بها ومن أجلها وتشوفت إليها، وزهدت في الكون في الدنيا، فعند ذلك تهون عليها مصائب الدنيا، فلا تغتم ولا تجزع ولا تحزن إذا علمت موجبات أحكام الفلك من المخاوف والمصائب، كما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب. وتصديق ذلك قول الله تعالى: @QUR010 لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم.
واعلم يا أخي أن في معرفة علم النجوم فوائد كثيرة، فمنها: أن الإنسان إذا علم ما يكون من حادث في المستقبل أو كائن بعد الأيام؛ أمكنه أن يدفع عن نفسه بعضها لا بأن يمنع ويدفع كونها ولكن يتحرز منها أو يستعد لها كما يفعل سائر الناس ويستعدون لدفع برد الشتاء بجمع الدثار ولحر الصيف بأخذ الكن ولسني الغلاء بالادخار ولمواضع الفتن بالهرب منها والبعد عنها وترك الأسفار عند المخاوف وما شاكل ذلك، مع علمهم بأنهم لا يصيبهم منها إلا ما كتب الله لهم وعليهم.
وخصلة أخرى أيضا، وهي أنه متى علم الناس الحوادث قبل كونها أمكنهم أن يدفعوها قبل نزولها بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى والتوبة والإنابة إليه وبالصوم والصلاة والقربان والسؤال إياه أن يصرف ما يخافون نزوله ويرفع ويدفع عنهم ما يحذرون منه.
واعلم يا أخي أنك إن نظرت في أسرار النواميس، وتأملت سنن الشرائع وأحكام الديانات، علمت وتبين لك أن أجل أغراض واضعي النواميس كان هذا الذي ذكرت لك، وذلك أن موسى - عليه السلام - أوصى بني إسرائيل، فقال لهم: احفظوا شرائع التوراة التي أنزل الله علي واعملوا بوصاياها، فإن الله تعالى يسمع دعائكم، ويرخص أسعاركم، ويخصب بلادكم، ويكثر أموالكم وأولادكم، ويكف عنكم شر أعدائكم، ومتى خفتم حوادث الأيام ومصائب الزمان، فتوبوا إلى الله جميعا توبة نصوحا، واستغفروا، وصلوا له، وصوموا، وتصدقوا في السر والعلانية، وادعوه خوفا وتضرعا حتى يصرف عنكم شر ما تخافون، ويدفع عنكم ما تحذرون، ويكشف عنكم ما ينزل بكم من محن الدنيا ومصائبها وحوادث أيامها، وعلى هذا المثال كانت وصية المسيح - عليه السلام - لأصحابه الحواريين، ولا حاجة بنا أن نكرر وصية محمد صلى الله عليه وسلم لأمته.
•••
واعلم أن الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل الورع والمتنسكين قد نهوا عن النظر في علم النجوم وإنما نهوا عنه؛ لأن علم النجوم جزء من علم الفلسفة، ويكره النظر في علوم الفلسفة للأحداث والصبيان وكل من لم يتعلم علم الدين ولا يعرف من أحكام الشريعة قدر ما يحتاج إليه وما هو فرض عليه ولا يسعه جهله وتركه، فأما من قد تعلم علم الشريعة وعرف أحكام الدين وتحقق أمر الناموس، فإن نظره في علم الفلسفة لا يضره بل يزيده في علم الدين تحققا، وفي أمر المعاد استبصارا وبثواب الآخرة وبالعقاب الشديد يقينا، وإليها اشتياقا وفي الآخرة رغبة وإلى الله تعالى قربة، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا طريق السداد وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد.
(تمت الرسالة الثالثة في الأسطرنوميا من رسائل إخوان الصفاء، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطيبين الطاهرين.)
الرسالة الرابعة في الجغرافيا
بسم الله الرحمن الرحيم
الرسالة الرابعة في جغرافيا يعني صورة الأرض والأقاليم من رسائل إخوان الصفاء - صان الله أقدارهم.
ما لله سر إلا وهو ظاهر على ألسنة خلقه، ولا له ستر أثخن من جهلهم به؛ لأنه لا يعلم ما هو إلا هو وإلى ربك المنتهى، منه بدأ وإليه يعود، ثم إليه ترجعون، فوجد الله عنده فوقاه حسابه الباري، وحده قبل كثرة كل إنسان، وحده بعد كل كثرة، وكل كثرة فعن الواحد بدأت وإليه تعود، وكل الموجودات فمن الباري بدأت وإليه تعود، يا ابن آدم أنا الله حي لا يموت، إن أطعتني وقبلت وصيتي جعلتك حيا لا تموت، يا ابن آدم أنا الله أقول للشيء: كن فيكون، أطعني أجعلك تقول للشيء: كن فيكون.
من أجل أن مذهب إخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، هو النظر في جميع الموجودات والبحث عن مبادئها وعن علة وجدانها وعن مراتب نظامها والكشف عن كيفية ارتباط معلولاتها بعللها بإذن باريها جل ثناؤه؛ احتجنا إلى أن نذكر حال الأرض وكيفية صورتها وسبب وقوفها في مركز العالم؛ وذلك أن المعرفة بحالها وبكيفية وقوفها في الهواء من العلوم الشريفة؛ لأن عليها وقوف أجسامنا ومنها بدأ كون أجسادنا ونشوئها ومادة بقائها، وإليها عودها عند مفارقتها نفوسها.
وأيضا فإن النظر في هذا العالم يكون سببا لترقي همم نفوسنا إلى عالم الأفلاك، مسكن العليين، ويكثر جولان أفكارنا في محل الروحانيين، وكثرة أفكارنا في عالم الأفلاك تكون سببا لانتباه نفوسنا من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويدعوها ذلك إلى الانبعاث من عالم الكون والفساد إلى عالم البقاء والدوام، ويرغبها في الرحلة من عالم الأجساد وجوار الشياطين إلى عالم الأرواح وجوار الملائكة المقربين، وقد ذكرنا في هذه الرسالة طرفا من كيفية صورة الأرض وصفة الربع المسكون منها، وما فيه من الأقاليم السبعة، ومن البحار والجبال والبراري والأنهار والمدن؛ ليكون طريقا للمبتدئين بالنظر في علم الهيئة وتركيب الأفلاك وطوالع البروج ودوران الكواكب، ويقرب تصورها في أفكار المتعلمين، ويسهل تأملها للمتفكرين في ملكوت السماوات والأرض الذين يقولون: @QUR09 ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار، وقال الله تعالى: @QUR04 وفي الأرض آيات للموقنين، وقال: @QUR09 وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين.
(1) فصل في صفة الأقاليم وما في الربع المسكون من الأرض مع ما فيها من الجبال والبحار والبراري والأنهار والمدن وما في البحار من الجزائر والمدن
وقبل وصفها نحتاج أن نذكر صفة الأرض وجهاتها الست وكيفية وقوفها في الهواء، أما الجهات فهي الشرق والغرب والجنوب والشمال والفوق والأسفل، فالشرق من حيث تطلع الشمس، والغرب من حيث تغرب الشمس، والجنوب من حيث مدار سهيل، والشمال من حيث مدار الجدي والفرقدين، والفوق مما يلي السماء، والأسفل مما يلي مركز الأرض.
والأرض جسم مدور مثل الكرة وهي واقفة في الهواء بأن الله يجمع جبالها وبحارها وبراريها وعماراتها وخرابها، والهواء محيط بها من جميع جهاتها شرقها وغربها وجنوبها وشمالها ومن ذا الجانب ومن ذلك الجانب، وبعد الأرض من السماء من جميع جهاتها متساو، وأعظم دائرة في بسيط الأرض 25455 ميلا 6855 فرسخا، وقطر هذه الدائرة هو قطر الأرض 6551 ميلا 2167 فرسخا بالتقريب، ومركزها هي نقطة متوهمة في عمقها على نصف القطر وبعدها من ظاهر سطح الأرض ومن سطح البحر من جميع الجهات متساو؛ لأن الأرض بجميع البحار التي على ظهرها كرة واحدة.
وليس شيء من ظاهر سطح الأرض من جميع جهاتها هو أسفل الأرض - كما يتوهم كثير من الناس ممن ليس له رياضة بالنظر في علم الهندسة والهيئة - وذلك أنهم يتوهمون ويظنون بأن سطح الأرض من الجانب المقابل لموضعنا هو أسفل الأرض، وأن الهواء المحيط بذلك الجانب هو أيضا أسفل من الأرض، وأن النصف من فلك القمر المحيط بالهواء هو أيضا أسفل من الهواء، وهكذا سائر طبقات الأفلاك كل واحد أسفل من الآخر حتى يلزم أن أسفل السافلين هو نصف الفلك المحيط الذي هو أعلى عليين في دائم الأوقات.
وليس الأمر كما توهموا؛ لأن هذا رأي يتعقله الإنسان من الصبا بالتوهم بغير روية ولا برهان، فإذا ارتاض الإنسان في علم الهيئة والهندسة تبين له أن الأمر بخلاف ما توهم قبل، وذلك أن أسفل الأرض بالحقيقة هو نقطة وهمية في عمق الأرض على نصف قطرها وهو الذي يسمى مركز العالم، وهو عمق باطنها مما يلي مركزها من أي جانب كان من الأرض؛ لأن مركز الأرض هو أسفل السافلين، فأما سطحها الظاهر المماس للهواء، وسطح البحار من جميع الجهات فهو فوق، والهواء المحيط أيضا من جميع الجهات.
وفلك القمر هو فوق فلك الهواء، وفلك عطارد هو فوق فلك القمر، وعلى هذا القياس سائر الأفلاك، واحد فوق الآخر إلى الفلك التاسع الذي هو فوق كل فوق، وهو أعلى عليين، ومقابله مركز الأرض أسفل السافلين.
واعلم يا أخي أن الإنسان أي موضع وقف على سطح الأرض، من شرقها أو غربها أو جنوبها أو شمالها، أو من هذا الجانب أومن ذلك الجانب، وقوفه حيث كان، فقدمه أبدا يكون فوق الأرض ورأسه إلى فوق مما يلي السماء، ورجلاه أسفل مما يلي مركز الأرض، وهو يرى من السماء نصفها، والنصف الآخر يستره عنه حدبة الأرض، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الموضع إلى الموضع الآخر ظهر له من السماء مقدار ما خفي عنه من الجهة الأخرى، وذلك المقدار كل تسعة عشر فرسخا درجة، وكل فرسخ ثلاثة أميال، كل ميل أربعة آلاف ذراع، كل ذراع ست قبضات، كل قبضة أربع أصابع، كل إصبع ست شعيرات.
ذكر وقوف الأرض في وسط الهواء وسببه
وأما سبب وقوف الأرض في وسط الهواء ففيه أربعة أقاويل؛ منها ما قيل إن سبب وقوفها هو جذب القلب لها من جميع جهاتها بالسوية فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الجذب من جميع الجهات.
ومنها ما قيل: إنه الدفع بمثل ذلك فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الدفع من جميع الجهات، ومنها ما قيل: إن سبب وقوفها في الوسط هو جذب المركز لجميع أجزائها من جميع الجهات إلى الوسط؛ لأنه لما كان مركز الأرض مركز الفلك أيضا وهو مغناطيس الأثقال يعني مركز الأرض وأجزاء الأرض لما كانت كلها ثقيلة؛ انجذبت إلى المركز وسبق جزء واحد وحصل في المركز، ووقف باقي الأجزاء حولها يعني حول النقط؛ يطلب كل جزء منها المركز، فصارت الأرض بجميع أجزائها كرة واحدة بذلك السبب، ولما كانت أجزاء الماء أخف من أجزاء الأرض وقف الماء فوق الأرض، ولما كانت أجزاء الهواء أخف من أجزاء الماء صار الهواء فوق الماء، والنار لما كانت أجزاؤها أخف من أجزاء الهواء صارت في العلو مما يلي فلك القمر .
والوجه الرابع ما قيل في سبب وقوف الأرض في وسط الهواء هو خصوصية الموضع اللائق بها؛ وذلك أن الباري - عز وجل - جعل لكل جسم من الأجسام الكليات يعني: النار والهواء والماء والأرض موضعا مخصوصا هو أليق المواضع به، وهكذا القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل، جعل لكل واحد منها موضعا مخصوصا في فلكه هو ثابت فيه والفلك يديره معه.
وهذا القول أشبه الأقاويل بالحق؛ لأن هذه العلة مستمرة في ترتيب الأفلاك السبعة والكواكب الثابتة والسيارة والأركان الأربعة؛ أعني: النار والهواء والماء والأرض، وذلك أن الله - تبارك وتعالى - جعل لكل موجود من الموجودات موضعا يختص به دون سائر المواضع أو رتبة معلومة هي أليق به من سائر المراتب.
صفة الأرض وقسمة أرباعها
الأرض نصفها مغطى بالبحر الأعظم المحيط والنصف الآخر مكشوف؛ مثلها مثل بيضة غائصة نصفها في الماء والنصف الآخر ناتئ من الماء، وهذا النصف المكشوف نصف منه خراب مما يلي الجنوب من خط الاستواء، والنصف الآخر الذي هو الربع المسكون مما يلي الشمال من خط الاستواء، وخط الاستواء هو خط متوهم، ابتداؤه من المشرق إلى المغرب تحت مدار رأس برج الحمل، والليل والنهار أبدا على ذلك الخط متساويان، والقطبان هنالك ملازمان للأفق؛ أحدهما مما يلي مدار سهيل في الجنوب، والآخر في الشمال مما يلي الجدي، وهذا مثال ذلك:
![](../Images/figure81.png)
صفة الربع المسكون من الأرض
وفي هذا الربع الشمالي المسكون من الأرض سبعة أبحر كبار، وفي كل بحر منها عدة جزائر، تكسير كل جزيرة منها عشرون فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، فمنها بحر الروم، وفيه نحو خمسين جزيرة، ومنها بحر الصقالبة وفيه نحو من ثلاثين جزيرة، ومنها بحر جرجان وفيه خمس جزائر، ومنها بحر القلزم وفيه نحو من خمس عشرة جزيرة، ومنها بحر فارس وفيه سبع جزائر، ومنها بحر السند والهند وفيه نحو من ألف جزيرة، ومنها بحر الصين وفيه نحو من مائتي جزيرة.
وفي هذا الربع أيضا خمس عشرة بحيرة صغارا، تكسير كل واحدة من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، منها مالح ومنها عذب، وأما بحر الغرب وبحر يأجوج ومأجوج وبحر الزنج وبحر الزانج والبحر الأخضر والبحر المحيط فخارج عن هذا الربع المسكون، وكل واحد من هذه الأبحر شعبة وخليج من البحر المحيط وكلها مالح، وفي هذا الربع أيضا مقدار مائتي جبل طوال، منها ما طوله من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، مختلف الألوان، ومنها ما يمتد طوله من المشرق إلى المغرب، أو من الجنوب إلى الشمال، ومنها ما يتنكب ما بين المشرق والجنوب، ومنها ما يتنكب ما بين المشرق والشمال، ومنها ما هو بين العمران والمدن والقرى، ومنها ما هو في البراري والقفار، ومنها ما هو في الجزائر والبحار.
وفي هذا الربع أيضا مقدار مائتين وأربعين نهرا؛ طول كل نهر منها من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، فمنها ما جريانه من المشرق إلى المغرب، ومنها ما جريانه من الغرب إلى الشرق، ومنها من الشمال إلى الجنوب، ومنها من الجنوب إلى الشمال، ومنها ما يتنكب من هذه الجهات.
وكل هذه الأنهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار في جريانها وإلى البطائح والبحيرات، وتسقي في ممرها المدن والقرى والسوادات، وما يفضل من مائها ينصب إلى البحار ويختلط بماء البحر ثم يصير بخارا ويصعد في الهواء وتتراكم منه الغيوم وتسوقه الرياح إلى رءوس الجبال والبراري، ويمطر هناك ويسقي البلاد وتجري الأودية والأنهار ويرجع إلى البحار من الرأس، وذلك دأبها في الشتاء والصيف، ذلك تقدير العزيز العليم.
وفي هذا الربع سبعة أقاليم، تحتوي على سبعة عشر ألف مدينة كبيرة، يملكها نحو من ألف ملك، كل هذه في ربع واحد من بسيط الأرض، وأما ثلاثة أرباعها الباقية فحكمها غير هذا.
صفة الأقاليم السبعة
الأقاليم هي سبعة أقسام، خطت في الربع المسكون من الأرض، كل إقليم منها كأنه بساط مفروش قد مد طوله من المشرق إلى المغرب، وعرضه من الجنوب إلى الشمال، وهي مختلفة الطول والعرض، فأطولها وأعرضها الإقليم الأول؛ وذلك أن طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ثلاثة آلاف فرسخ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو مائة وخمسين فرسخا، وأقصرها طولا وعرضا الإقليم السابع؛ وذلك أن طوله من المشرق إلى المغرب نحو ألف وخمسمائة فرسخ، وعرضه من الجنوب نحو من سبعين فرسخا، وأما سائر الأقاليم ففيما بينهما من الطول والعرض، وهذا مثال ذلك، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب:
![](../Images/figure82.png)
فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن هذه الأقاليم السبعة ليست هي أقساما طبيعية، وكأنها خطوط وهمية وضعتها الملوك الأولون الذين طافوا الربع المسكون من الأرض لتعلم حدود البلدان والممالك والمسالك؛ مثل: أفريذون النبطي وتبع الحميري وسليمان بن داود الإسرائيلي - عليهما السلام - والإسكندر اليوناني وأزدشير بن بابك الفارسي؛ ليعلموا بها حدود البلدان والمسالك والممالك، وأما ثلاثة أرباعها الباقية فمنعهم من سلوكها الجبال الشامخة والمسالك الوعرة والبحار الزاخرة والأهوية المتغيرة المفرطة التغير من الحر والبرد والظلمة؛ مثل ما في ناحية الشمال تحت مدار الجدي، فإن هناك بردا مفرطا جدا؛ لأنه ستة أشهر يكون الشتاء هناك ليلا كله، فيظلم الهواء ظلمة شديدة وتجمد المياه بشدة البرودة ويتلف الحيوان والنبات.
وفي مقابل هذا الموضع في ناحية الجنوب؛ حيث مدار سهيل يكون نهارا كله ستة أشهر صيفا فيحمى الهواء ويصير نارا سموما ويحترق الحيوان والنبات من شدة الحر، فلا يمكن السكنى ولا السلوك هناك.
وأما ناحية المغرب فيمنع السلوك فيها البحر المحيط؛ لتلاطم أمواجه وشدة ظلماته، وأما ناحية المشرق فيمنع السلوك هناك الجبال الشامخة، فإذا تأملت وجدت الناس محصورين في الربع المسكون من الأرض، وليس لهم علم بالثلاثة أرباع الباقية.
واعلم أن الأرض بجميع ما عليها من الجبال والبحار بالنسبة إلى سعة الأفلاك ما هي إلا كالنقطة في الدائرة، وذلك أن في الفلك ألفا وتسعة وعشرين كوكبا، أصغر كوكب منها مثل الأرض ثماني عشرة مرة، وأكبرها مائة وسبع مرات، فلشدة البعد وسعة الأفلاك تراها كأنها الدر المنثور على بساط أخضر، فإذا فكر الإنسان في هذه العظمة تبين له حكمة الصانع وجلالة عظمته ، فينتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويعلم أنه ما خلق هذه الأشياء إلا لأمر عظيم، وذلك قوله تعالى: @QUR08 وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق.
(2) فصل في الحث على النظر في الأرض للاعتبار
اعلم يا أخي بأن من دخل الدنيا وعاش فيها زمانا طويلا مشغولا بالأكل والشرب والنكاح؛ دائبا في طلب الشهوات والحرص على جمع المال والأثاث واتخاذ البنيان وعمارة الأرض والعقارات وطلب الرياسة، متمنيا الخلود فيها، تاركا لطلب العلم، غافلا عن معرفة حقائق الأشياء، مهملا لرياضة النفس، متوانيا في الاستعداد للرحلة إلى الدار الآخرة، حتى إذا فني العمر وقرب الأجل وجاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد، ثم خرج من هذه الدار جاهلا لم يعرف صورتها ولم يفكر في الآيات التي في آفاقها، ولا اعتبر أحوال مجوداتها، ولا تأمل الأمور المحسوسة التي شاهد فيها؛ فمثلهم مثل قوم دخلوا إلى مدينة ملك عظيم حكيم عادل رحيم قد بناها بحكمته، وأعد فيها من طرائف صنعته ما يقصر الوصف عنها إلا بالمشاهدة لها، ووضع فيها مائدة قوتا للواردين إليها وزادا للراحلين عنها، ثم دعا عبادا له إلى حضرته ليمنحهم بالكرامة، وأمرهم بالورود إلى تلك المدينة في طريقهم؛ لينظروا إليها ويبصروا ما فيها، ويتفكروا في عجائب مصنوعاته ويعتبروا غرائب مصوراته؛ ليروض بها نفوسهم، فيصيرون برؤيتها ومعرفتها حكماء أخيارا فضلاء، فيصلون إلى حضرته ويستحقون كرامته.
فوردها قوم ليلا فباتوا طول ليلتهم مشغولين بالأكل والشرب واللعب واللهو، ثم خرجوا منها سحرا لا يدرون من أي باب دخلوا ولا من أيها خرجوا ولا رأوا مما فيها شيئا من آثار حكمته وغرائب صنعته، ولا انتفعوا بشيء منها أكثر من تمتعهم تلك الليلة بالأكل والشرب وحسب.
فهكذا حكم أبناء الدنيا الواردين إليها جاهلين، الماكثين فيها متحيرين مكرهين، المنكرين أمر الدار الآخرة، الراحلين عنها كما قال الله - جل ثناؤه: @QUR011 ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا، وقال ذما لهم: @QUR06 صم بكم عمي فهم لا يعقلون بأمر الآخرة، فأعيذك أيها الأخ البار الرحيم أن تكون منهم، بل كن من الذين مدحهم - عز وجل - فقال جل ثناؤه: @QUR014 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين، وحكى قولهم لما تمنوا عرض الدنيا حين قال: @QUR011 يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وقال الذين أوتوا العلم بحقيقة أمر الآخرة: @QUR012 ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون، @QUR011 وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وفقك الله أيها الأخ البار الرحيم للسداد، وهداك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأرض ووصفنا الربع المسكون؛ نريد أن نذكر الأقاليم السبعة، ونبين حدودها طولا وعرضا وما في كل إقليممن المدن الكبار والجبال والأنهار الطوال.
فاعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن حدود الأقاليم معتبرة بساعات النهار وتفاوت الزيادة فيها؛ وبيان ذلك أنه إذا كانت الشمس في أول برج الحمل كان طول الليل والنهار وساعاتهما تتساوى في هذه الأقاليم كلها، فإذا سارت الشمس في درجات برج الحمل والثور والجوزاء اختلفت ساعات نهار كل إقليم؛ حتى إذا بلغت آخر الجوزاء الذي هو أول السرطان صار طول النهار في وسط الإقليم الأول ثلاث عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصفا، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم الرابع أربع عشرة ساعة ونصفا، وفي وسط الإقليم الخامس خمس عشرة سواء، وفي وسط الإقليم السادس خمس عشرة ونصفا، وفي وسط الإقليم السابع ست عشرة سواء، وفي المواضع التي عرضها ست وستون درجة وما زاد إلى تسعين درجة يصير نهارا كله، وشرح كيفيتها طويل مذكور في المجسطي.
واعلم أن معنى كل طول بلدة ومدينة هو بعدها من أقصى المغرب، ومعنى عرضها هو بعدها من خط الاستواء، وخط الاستواء هو الموضع الذي يكون الليل والنهار هناك أبدا متساويين، فكل مدينة على ذلك الخط فلا عرض لها، وكل مدينة في أقصى المغرب فلا طول لها أيضا، ومن أقصى المغرب إلى أقصى المشرق مائة وثمانون درجة، مقدار كل درجة تسعة عشر فرسخا، وكل مدينة طولها تسعون درجة فهي في وسط من المشرق والمغرب، وما كان أكثر فهي إلى المشرق أقرب، وما كان أقل فهي إلى المغرب أقرب، وكل مدينتين إحداهما أكبر طولا وعرضا فهي إلى المشرق والشمال أقرب من الأخرى، والتفاوت الذي يكون بينهما في العرض كل درجة تسعة عشر فرسخا بالتقريب، وأما تفاوتهما في الطول فمختلف، فما كان منها على خط الاستواء، فكل درجة في الطول تسعة عشر فرسخا، وما كان في الإقليم الأول فكل درجة سبعة عشر فرسخا، وما كان في الثاني فكل درجة خمسة عشر فرسخا، وفي الثالث كل درجة ثلاثة عشر فرسخا، وفي الرابع كل درجة عشرة فراسخ، وفي الخامس كل درجة سبعة فراسخ، وفي السادس كل درجة خمسة فراسخ، وفي السابع كل درجة ثلاثة فراسخ.
«أسماء المدن الكبار» التي ليست في الأقاليم السبعة، وهي كل مدينة عرضها أقل من اثنتي عشرة درجة مما يلي خط الاستواء أولها مما يلي الشرق:
الإقليم الأول لزحل، وطوله من المشرق إلى المغرب 9555 ميلا، 3185 فرسخا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 445 ميلا، 146 فرسخا، وحده الأول مما يلي خط الاستواء؛ حيث يكون ارتفاع القطب الشمالي ثلاث عشرة درجة غير ربع، وساعات نهاره الأطول؛ اثنتا عشرة ساعة ونصف وربع، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب عن الأفق ست عشرة درجة وثلثي درجة، وساعات نهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة، وحده الثاني حيث يكون ارتفاع القطب عشرين درجة ونصفا، وطول نهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة وربع.
وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال نحو من عشرين جبلا، منها ما طوله من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، وفيه أيضا مقدار ثلاثين نهرا طوالا، منها ما طوله من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، وفيه من المدن المعروفة الكبار نحو من خمسين مدينة، وابتداء هذا الإقليم من المشرق على شمال جزيرة الياقوت، فيمر على بلاد الصين مما يلي الجنوب.
ثم يمر على شمال بلد سرنديب، ثم يمر على وسط بلاد الهند، ثم يمر على وسط بلاد السند، ثم يقطع بحر فارس مما يلي الجنوب بلاد عمان، ثم يمر على وسط بلاد الشحر، ثم يمر على وسط بلاد اليمن، ثم يقطع بحر القلزم هناك، ويمر على وسط بلاد الحبشة، ويقطع نيل مصر هناك، ثم يمر على بلاد النوبة، ثم يمر على وسط بلاد البربر وبلاد البواي، ثم يمر على جنوب بلاد مرطانة، وينتهي إلى بحر المغرب، وعامة أهل هذه البلدان سود.
«أسماء المدن الكبار» التي في هذه الأقاليم، وهي كل مدينة عرضها من ثلاث عشرة درجة إلى عشرين درجة، فأولها ما يلي المشرق:
الإقليم الثاني للمشتري وطوله من المشرق إلى المغرب 7655 ميلا وعرضه من الجنوب إلى الشمال 600 ميل وحده الأول مما يلي إقليم زحل 40؛ حيث يكون ارتفاع القطب عشرين درجة ونصفا، فطول نهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة وربع، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب أربعا وعشرين درجة وست دقائق، ونهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف، وحده الثاني حيث يكون ارتفاع القطب من الأفق سبعا وعشرين درجة ونصفا ونهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف وربع.
وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال نحو من سبعة عشر ميلا، ومن الأنهار الطوال من ذلك، ومن المدن المعروفة الكبار نحو من خمسين مدينة، وابتداء هذا الإقليم من المشرق، ويمر على وسط بلاد الصين، ثم يمر على شمال بلاد سرنديب، ثم يمر على بلاد الهند مما يلي الشمال، ثم يمر على بلاد قندهار، ثم يمر على وسط كابل وشمال بلاد السند وجنوب بلاد مكران، ثم يقطع بحر فارس ويمر على بلاد عمان، ثم يمر على وسط بلاد العرب، ثم يقطع بحر القلزم، ويمر على شمال بلاد الحبشة وجنوب بلاد صعيد مصر، فيقطع نيل مصر هناك، ثم يمر على وسط بلاد الزقة وأفريقية، ثم يمر على شمال بلاد البربر وجنوب بلاد القيروان، ثم يمر على وسط بلاد مرطانة، وينتهي إلى بحر المغرب، وأكثر أهل هذه البلدان ألوانهم من بين السمرة إلى السواد.
فمن المدن الكبار التي في هذا الإقليم أولها مما يلي المشرق في أقصى بلاد الصين، وهو كل مدينة عرضها من ك إلى كرك وأولها مما يلي المشرق:
الإقليم الثالث للمريخ، وطوله من المشرق إلى المغرب 8255 ميلا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 355 ميلا، وحده من سبع وعشرين درجة ونصف إلى ثلاث وثلاثين درجة وثلاثين دقيقة، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب عن الأفق ثلاثين درجة ونصفا وخمسا، ونهاره الأطول أربع عشرة ساعة سواء، وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال ثلاثة وثلاثون جبلا، ومن الأنهار الطوال اثنان وعشرون نهرا، ومن المدن المعروفة الكبار مائة وثمان وعشرون مدينة.
وابتداء هذا الإقليم من المشرق، فيمر على شمال بلاد الصين وجنوب بلاد يأجوج، ثم يمر على شمال بلاد الهند وجنوب بلاد الترك، ثم يمر على وسط كابل، ثم على بلاد قندهار، ثم على بلاد مكران، ثم على جنوب بلاد سجستان، ثم يمر على وسط بلاد كرمان، ثم يمر على بلاد فارس مما يلي البحر، ثم يمر على بلاد العراق مما يلي الجنوب، ثم يمر على جنوب بلاد ديار بكر وشمال بلاد العرب، ثم يمر على وسط الشام، ثم يمر على بلاد مصر، ويمر على بلاد الإسكندرية، ثم يمر على وسط بلاد مرماريق، ثم يمر على وسط بلاد القادسية وعلى وسط بلاد القيروان، ثم يمر عن بلاد طنجة، وينتهي إلى بحر المغرب؛ وأكثر أهل هذه البلدان سمر.
«أسماء المدن التي في الإقليم الثالث» وهي كل مدينة عرضها من «كرك إلى الحرم» أولها مما يلي المشرق:
الإقليم الرابع للشمس، طوله من المشرق إلى المغرب 7855 ميلا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 355 ميلا، وحده من ثلاث وثلاثين درجة وثلاثين دقيقة إلى تسع وثلاثين درجة، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب عن الأفق ستا وثلاثين درجة وخمسين دقيقة، ونهاره الأطول أربع عشرة ساعة ونصف، وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال خمسة وعشرون جبلا، ومن الأنهار الطوال اثنان وعشرون نهرا، ومن المدن المعروفة الكبار نحو من مائتين واثنتي عشرة مدينة.
وابتداء هذا الإقليم من المشرق فيمر على شمال بلاد الصين وجنوب بلاد يأجوج ومأجوج، ثم يمر على الترك مما يلي الجنوب وشمال بلاد الهند وطخارستان ثم يمر على شمال بلاد بلخ باسيان، ثم يمر على شمال بلاد مكران، ثم يمر على وسط بلاد سجستان، ثم بلاد كرمان، ثم بلاد فارس، ثم بلاد خوزستان، ثم يمر على وسط بلاد العرق، ثم يمر على وسط ديار ربيعة وديار بكر، ثم يمر على جنوب بلاد الثغر وشمال بلاد الشام، ويمر على وسط بحر الروم وجزيرة قبرص، ويمر في البحر على شمال بلاد مصر والإسكندرية، ثم يمر على جزيرة صقلية وشمال بلاد مرماريقي وبلاد القادسية وبلاد القيروان وبلاد طنجة، وينتهي إلى بحر المغرب.
وأكثر أهل هذه البلدان ألوانهم ما بين السمرة والبياض، وهذا الإقليم هو إقليم الأنبياء والحكماء؛ لأنه وسط لأقاليم، ثلاثة منها جنوبية وثلاثة شمالية، وهو أيضا قسمة الشمس النير الأعظم، وأهل هذا الإقليم أعدل الناس طباعا وأخلاقا، ثم بعده الإقليمان اللذان عن جنبيه؛ أعني: الثالث والخامس، فأما الأقاليم الباقية فأهلها ناقصون عن طبيعة الأفضل؛ لأن صورهم سمجة وأخلاقهم وحشية مثل الزنج والحبشة، وأكثر الأمم الذين هم في الإقليم الأول والثاني وكذلك الأمم الذين هم في الإقليم السادس والسابع مثل يأجوج ومأجوج والبلغار والصقالبة وأمثالهم، وهي كل مدينة عرضها من لح م إلى لط:
الإقليم الخامس للزهرة وطوله من الشرق إلى الغرب 7455 ميلا وعرضه من الجنوب إلى الشمال 255 ميلا، وحده من تسع وثلاثين درجة إلى ثلاث وأربعين درجة ونصف، ووسطه من حيث يكون ارتفاع القطب إحدى وأربعين درجة وثلثا، ونهاره الأطول 15 ساعة سواء.
وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال نحو من ثلاثين جبلا ومن الأنهار الطوال نحو من خمسة عشر نهرا، ومن المدن المعروفة الكبار نحو من مائتي مدينة، وابتداؤه من المشرق فيمر على وسط بلاد يأجوج ومأجوج، ويمر على وسط بلاد الترك وعلى بلاد فرغانة وبلاد أسبيجاب وعلى وسط بلاد ما وراء النهر ويقطع جيحون، وعلى وسط بلاد خراسان وعلى شمال سجستان وكرمان وعلى شمال بلاد فارس ووسط بلاد الري والمهان، وعلى شمال بلاد العراق وجنوب بلاد أذربيجان، وعلى وسط بلاد أرمينية وشمال بلاد الثغر، ويمر على وسط بلاد الروم ويقطع خليج قسطنطينية هناك، ويمر على شمال بحر الروم ووسط بلاد رومية ويمر على جنوب هيكل الزهرة، وعلى وسط بلاد الأندلس، وينتهي إلى بحر المغرب، وأكثر أهل هذه البلدان بيض، وهي كل مدينة عرضها من لط إلى مج ك:
الإقليم السادس لعطارد وطوله من المشرق إلى المغرب 7555 ميلا وعرضه من الجنوب إلى الشمال 255 ميلا، وحده من ثلاث وأربعين درجة ونصف إلى سبع وأربعين درجة وربع، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب خمسا وأربعين درجة وخمسين دقيقة، ونهاره الأطول خمس عشرة ساعة ونصف.
وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال نحو من اثنين وعشرين جبلا، ومن الأنهار الطوال نحو اثنين وثلاثين نهرا، ومن المدن المعروفة الكبار نحو تسعين مدينة، وابتداؤه من المشرق فيمر على شمال بلاد يأجوج ومأجوج، ويمر على جنوب بلاد سجستان، وعلى جنوب بلاد الثغر، وعلى وسط بلاد خاقان وجنوب بلاد كيماك، وعلى شمال بلاد أسبيجاب، وعلى شمال بلاد السند وما وراء النهر، وعلى وسط بلاد خوارزم، وعلى شمال بلاد جرجان وطبرستان والديلم وكيلان ويقطع بحر طبرستان، وعلى وسط بلاد أذربيجان، وعلى وسط بلاد أرمينية وملطية على شمال بحر سطس وعلى شمال قسطنطينية، وعلى وسط بلاد مقدونية، وعلى وسط أفريقية مما يلي الشمال، ويمر على جنوب بحر الصقالبة، وعلى شمال هيكل الزهرة، وينتهي إلى بحر المغرب، وأكثر أهل هذه البلدان ألوانهم ما بين الشقرة والبياض، وكل مدينة عرضها من مح مد إلى مز به أولها مما يلي المشرق، والله أعلم.
الإقليم السابع للقمر، طوله من المشرق إلى المغرب 6655 ميلا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 185 ميلا، وحده من سبع وأربعين درجة وربع إلى خمسين درجة ونصف، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب عن الأفق ثمانيا وأربعين درجة وثلثين، وطول نهاره الأطول ست عشرة ساعة سواء.
وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال نحو من عشرة جبال، ومن الأنهار الطوال نحو من أربعين نهرا، ومن المدن المعروفة الكبار نحو من اثنتين وعشرين مدينة، وابتداؤه من المشرق فيمر على جنوب بلاد يأجوج ومأجوج وبلاد سجستان وبلاد غرغر، وعلى بلاد كيماك، وعلى جنوب اللان، وعلى شمال بحر جرجان وبلاد خنخ، وعلى جبل باب الأبواب، وعلى وسط بحر سطس، وعلى جنوب بلاد جرجان وشمال بلاد مقدونية، وعلى جنوب بحر الصقالبة، وجنوب جزيرة الري، وينتهي إلى بحر المغرب، وأكثر أهل هذه البلدان ألوانهم مائلة إلى الشقرة، وهي كل مدينة عرضها من مزبه إلى مط، أولها مما يلي المشرق:
(3) فصل في خواص الأقاليم
واعلم يا أخي بأن في كل إقليم من هذه الأقاليم السبعة ألوفا من المدن تزيد وتنقص، وفي كل مدينة أمم من الناس مختلفة ألسنتهم وألوانهم وطباعهم وآدابهم ومذاهبهم وأعمالهم وصنائعهم وعاداتهم، لا يشبه بعضهم بعضا، وهكذا حكم حيوانها ومعادنها مختلفة الشكل والطعم واللون والرائحة، وسبب ذلك اختلاف أهوية البلاد وتربة البقاع وعذوبة المياه وملوحتها، ولك هذا الاختلاف بحسب طوالع البروج ودرجاتها على آفاق تلك البلاد بحسب ممرات الكواكب على مسامتات تلك البقاع ومطارح شعاعاتها من الآفاق على تلك المواضع، وهذه جملة يطول شرحها، وذكر أن ملكا من الأولين أمر وقتا من الزمان بأن تعد المدن المسكونة من الربع المسكون من الأرض، فوجد سبعة عشر ألف مدينة سوى القرى.
واعلم بأنه ربما يزيد عدد مدن الأرض وينقص، وذلك بحسب موجبات أحكام القرانات وأدوار الأفلاك الألوف، وذلك أن بالقرانات الدالة على قوة السعود واعتدال الزمان واستواء طبيعة الأركان ومجيء الأنبياء وتواتر الوحي وكثرة العلماء وعدل الملوك، وصلاح أحوال الناس، ونزول بركات السماء بالغيث؛ تزكو الأرض والنبات، ويكثر توالد الحيوان وتعمر البلاد ويكثر بنيان المدن، وبالقرانات الدالة على قوة النحوس وفساد الزمان وخروج المزاج عن الاعتدال، وانقطاع الوحي وقلة العلماء، وموت الأخيار، وجور الملوك، وفساد أخلاق الناس وسوء أعمالهم واختلاف آرائهم؛ يمنع نزول البركات من السماء بالغيث فلا تزكو الأرض، ويجف النبات ويهلك الحيوان وتخرب المدن في البلاد.
واعلم يا أخي بأن أمور هذه الدنيا دول ونوب، تدور بين أهلها قرنا بعد قرن، ومن أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد.
فصل
واعلم بأن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، وغاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي، فإذا بلغت إلى أقصى غاياتها ومدى نهاياتها؛ تسارع إليها الانحطاط والنقصان، وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف في الآخرين من القوة والنشاط والظهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد، ويضعف ذاك وينقص إلى أن يضمحل الأول المقدم ويستمكن الآتي المتأخر.
والمثال في ذلك مجاري أحكام الزمان؛ وذلك أن الزمان كله نصفان؛ نصفه نهار مضيء، ونصفه ليل مظلم، وأيضا نصفه صيف حار ونصفه شتاء بارد، وهما يتداولان في مجيئهما وذهابهما، كلما ذهب هذا رجع هذا، وتارة يزيد هذا وينقص هذا، وكلما نقص من أحدهما زاد في الآخر بذلك المقدار حتى إذا تناهيا إلى غايتهما في الزيادة والنقصان، ابتدأ النقص في الذي تناهى في الزيادة، وابتدأت الزيادة في الذي تناهى في النقصان، فلا يزالان هكذا إلى أن يتساويا في مقداريهما، ثم يتجاوزان على حالتيهما إلى أن يتناهيا في غايتيهما من الزيادة والنقصان، وكلما تناهى أحدهما في الزيادة ظهرت قوته، وكثرت أفعاله في العالم، وخفيت قوة ضده، وقلت أفعاله.
فهكذا حكم الزمان في دولة أهل الخير ودولة أهل الشر؛ تارة تكون الدولة والقوة وظهور الأفعال في العالم لأهل الخير، وتارة الدولة والقوة وظهور الأفعال في العالم لأهل الشر، كما ذكر الله - عز وجل - وقال: @QUR05 وتلك الأيام نداولها بين الناس، @QUR04 وما يعقلها إلا العالمون.
فصل
وقد نرى أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد تناهت دولة أهل الشر وظهرت قوتهم وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط والنقصان، واعلم بأن الدولة والملك ينتقلان في كل دهر وزمان ودور وقران من أمة إلى أمة ومن أهل بيت إلى أهل بيت ومن بلد إلى بلد.
واعلم يا أخي أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من قوم علماء حكماء وخيار فضلاء، يجتمعون على رأي واحد، ويتفقون على مذهب واحد ودين واحد، ويعقدون بينهم عهدا وميثاقا أن لا يتجادلوا ولا يتقاعدوا عن نصرة بعضهم بعضا، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم وكنفس واحدة في جميع تدبيرهم فيما يقصدون من نصرة الدين وطلب الآخرة لا يبتغون سوى وجه الله ورضوانه جزاء ولا شكورا، فهل لك أيها الأخ البار الحكيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن ترغب في صحبة إخوان لك نصحاء، وأصدقاء لك أخيار فضلاء، هذه صفتهم، بأن تقصد مقصدهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتنظر في علومهم لتعرف مناهجهم، وتكون معهم وتنجو بمفازاتهم، لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، وفقك الله أيها الأخ وجميع إخواننا للصواب بفضله ومنه، حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله.
الرسالة الخامسة في الموسيقى
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا من ذكر الصنائع العلمية الروحانية التي هي أجناس العلوم، ومن ذكر الصنائع العلمية الجسمانية التي هي أجناس الصنائع، وبينا ماهية كل واحد منهما وكمية أنواعهما وما الأغراض المطلوبة منهما في رسالتين لنا؛ فنريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالموسيقى الصناعة المركبة من الجسمانية والروحانية التي هي صناعة التأليف في معرفة النسب، وليس غرضنا من هذه الرسالة تعليم الغناء وصنعة الملاهي، وإن كان لا بد من ذكرها، بل غرضنا هو معرفة النسب وكيفية التأليف اللذين بهما وبمعرفتهما يكون الحذق في الصنائع كلها.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن كل صناعة تعمل باليدين، فإن الهيولى الموضوعة فيها إنما هي أجسام طبيعية ومصنوعاتها كلها أشكال جسمانية إلا الصناعة الموسيقية فإن الهيولى الموضوعة فيها كلها جواهر روحانية، وهي نفوس المستمعين وتأثيراتها فيها مظاهر كلها روحانية أيضا، وذلك أن ألحان الموسيقى أصوات ونغمات، ولها في النفوس تأثيرات كتأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعتهم، فمن تلك النغمات والأصوات ما يحرك النفوس نحو الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة وينشطها ويقوي عزماتها على الأفعال الصعبة المتعبة للأبدان التي تبذل فيها مهج النفوس وذخائر الأموال، وهي الألحان المشجعة التي تستعمل في الحروب، وعند القتال في الهيجاء، ولا سيما إذا غني معها بأبيات موزونة في وصف الحروب ومديح الشجعان مثل قول القائل:
لوكنت من مازن لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
ومثل قول البسوس بنت منقذ:
لعمري لو أصبحت في دار منقذ
لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي ولكنني أصبحت في دار غربة
متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل
فإنك في قوم عن الجار أموات
فإن هذه الأبيات وأخواتها يقال إنها كانت سببا لإثارة أقوام إلى الحرب والقتال بين قبيلتين من قبائل العرب سنين متواترة، ومن الأبيات الموزونة أيضا ما يثير الأحقاد الكامنة ويحرك النفوس الساكنة ويلهب نيران الغضب؛ مثل قول القائل:
واذكروا مصرع الحسين وزيد
وقتيلا بجانب المهراس
فإن هذه الأبيات وأخواتها أيضا أثارت أحقادا بين أقوام وحركت نفوسهم وألهبت فيها نيران الغضب وحثتهم على قتل أبناء الأعمام والأقرباء والعشائر، حتى قتلوهم بذنوب آبائهم ووزر أجدادهم ولم يرحموا منهم أحدا.
ومن الألحان والنغمات أيضا ما يسكن سورة الغضب ويحل الأحقاد ويوقع الصلح ويكسب الألفة والمحبة، فمن ذلك ما يحكى أن في بعض مجالس الشراب اجتمع رجلان متغاضبان، وكان بينهما ضغن قديم وحقد كامن، فلما دار الشراب بينهما ثار الحقد والتهبت نيران الغضب وهم كل واحد منهما بقتل صاحبه، فلما أحس الموسيقار بذلك منهما وكان ماهرا في صناعته غير نغمات الأوتار، وضرب اللحن الملين المسكن وأسمعهما، وداوم حتى سكن سورة الغضب عنهما وقاما فتعانقا وتصالحا.
ومن الألحان والنغمات ما ينقل النفوس من حال إلى حال، ويغير أخلاقها من ضد إلى ضد. ومن ذلك ما يحكى أن جماعة كانت من أهل هذه الصناعة مجتمعة في دعوة رجل رئيس كبير فرتب مراتبهم في مجلسه، بحسب حذقهم في صناعتهم؛ إذ دخل عليهم إنسان رث الحال، عليه ثياب رثة، فرفعه صاحب المجلس عليهم كلهم وتبين إنكار ذلك في وجوههم، فأراد أن يبين فضله ويسكن عنهم غضبهم، فسأله أن يسمعهم شيئا من صناعته، فأخرج الرجل خشبات كانت معه فركبها ومد عليها أوتاره وحركها تحريكا، فأضحك كل من كان في المجلس من اللذة والفرح والسرور الذي حل داخل نفوسهم، ثم قلبها وحركها تحريكا آخر أبكاهم كلهم من رقة النغمة وحزن القلوب، ثم قلبها وحركها تحريكا نومهم كلهم، وقام وخرج فلم يعرف له خبر.
فقد تبين بما ذكرنا أن لصناعة الموسيقى تأثيرات في نفوس المستمعين مختلفة كاختلاف تأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعاتهم، فمن أجلها يستعملها كل الأمم من بني آدم وكثير من الحيوانات أيضا، ومن الدليل على أن لها تأثيرات في النفوس استعمال الناس لها؛ تارة عند الفرح والسرور في الأعراس والولائم والدعوات، وتارة عند الحزن والغم والمصائب وفي المآتم، وتارة في بيوت العبادات وفي الأعياد، وتارة في الأسواق والمنازل، وفي الأسفار وفي الحضر، وعند الراحة والتعب، وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة، ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهال والصناع والتجار وجميع طبقات الناس.
(1) فصل في أن أصل صناعة الموسيقى للحكماء
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الصنائع كلها استخرجتها الحكماء بحكمتها، ثم تعلمها الناس منهم وبعضهم من بعض، وصارت وراثة من الحكماء للعامة ومن العلماء للمتعلمين ومن الأساتذة للتلامذة، فصناعة الموسيقى استخرجتها الحكماء بحكمتها وتعلمها الناس منهم، واستعملوها كسائر الصنائع في أعمالهم ومتصرفاتهم بحسب أغراضهم المختلفة.
فأما استعمال أصحاب النواميس الإلهية لها في الهياكل وبيوت العبادات، وعند القراءة في الصلوات، وعند القرابين والدعاء والتضرع والبكاء، كما كان يفعل داود النبي - عليه السلام - عند قراءة مزاميره، وكما يفعل النصارى في كنائسهم، والمسلمون في مساجدهم من طيب النغمة ولحن القراءة؛ فإن كل ذلك لرقة القلوب ولخضوع النفوس ولخشوعها والانقياد لأوامر الله تعالى ونواهيه والتوبة إليه من الذنوب والرجوع إلى الله - سبحانه وتعالى - باستعمال سنن النواميس كما رسمت.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أحد الأسباب التي دعت الحكماء إلى وضع النواميس واستعمال سننها هو ما قد لاح لهم من موجبات أحكام النجوم من السعادات والمناحس عند ابتداء القرانات وتحاويل السنين من الغلاء أو الرخص أو الجدب أو الخصب أو القحط أو الطاعون والوباء أو تسلط الأشرار والظالمين، وما شاكلها من تغيرات الزمان وحوادث الأيام، فلما تبين لهم ذلك طلبوا حيلة تنجيهم منها إن كانت شرا وتوفر حظهم فيها إن كانت خيرا، فلم يجدوا حيلة أنجى ولا شيئا أنفع من استعمال سنن النواميس الإلهية التي هي الصوم والصلاة والقرابين والدعاء عند ذلك بالتضرع إلى الله تعالى - جل ثناؤه - بالخضوع والخشوع والبكاء والسؤال إياه أن يصرف عنهم ذلك ويكشف ما قد أوجبته أحكام النجوم من المناحس والبلاء.
وكانوا لا يشكون أنهم إذا دعوا الله بالنية والإخلاص ورقة القلب والبكاء والتضرع والتوبة والإنابة أن يصرف عنهم ما يخافون ويكشف عنهم ما هم مبتلون به، ويتوب عليهم ويغفر لهم ويجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم، وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحانا من الموسيقى تسمى «المحزن»، وهي التي ترقق القلوب إذا سمعت، وتبكي العيون، وتكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب وإخلاص السرائر وإصلاح الضمائر، فهذا كان أحد أسباب استخراج الحكماء صناعة الموسيقى واستعمالها في الهياكل وعند القرابين والدعاء والصلوات.
وكانوا أيضا قد استخرجوا لحنا آخر يقال له: «المشجع» كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب والهيجاء يكسب النفس شجاعة وإقداما، واستخرجوا أيضا لحنا آخر كانوا يستعملونه في المارستانات، وقت الأسحار، يخفف ألم الأسقام والأمراض عن المريض ويكسر سورتها ويشفي من كثير من الأمراض والأعلال، واستخرجوا أيضا لحنا آخر يستعمل عند المصائب والأحزان والغموم في المآتم، يعزي النفوس، ويخفف ألم المصائب، ويسلي عن الاشتياق، ويسكن الحزن. واستخرجوا أيضا لحنا آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة مثل ما يستعمله الحمالون والبناءون وملاح الزواريق وأصحاب المراكب؛ يخفف عنهم كد الأبدان وتعب النفوس.
واستخرجوا أيضا ألحانا أخر، تستعمل عند الفرح واللذة والسرور في الأعراس والولائم وهي المعروفة المستعملة في زماننا هذا.
وقد تستعمل هذه الصناعة للحيوانات أيضا مثل ما يستعمله الجمالون من الحداء في الأسفار وفي ظلم الليل؛ لينشط الجمال في السير، ويخفف عليها ثقل الأحمال، ويستعملها رعاة الغنم والبقر والخيل عند ورودها الماء من الصفير ترغيبا لها في شرب الماء، ويستعملون لها أيضا ألحانا أخر عند هيجانها للنزو والفساد، وألحانا أخر عند حلب ألبانها لتدر، ويستعمل صياد الغزلان والدراج والقطا وغيرها من الطيور ألحانا في ظلم الليل يوقعها بها حتى تؤخذ باليد، وتستعمل النساء للأطفال ألحانا تسكن البكاء وتجلب النوم.
فقد تبين بما ذكرنا أن صناعة الموسيقى يستعملها كل أحد من الأمم، ويستلذها جميع الحيوانات التي لها حاسة السمع، وأن للنغمات تأثيرات في النفوس الروحانية، كما أن لسائر الصنائع تأثيرات في الهيوليات الجسمانية، فنقول الآن: إن الموسيقى هي الغناء، والموسيقار هو المغني، والموسيقات هو آلة الغناء، والغناء هو ألحان مؤلفة، واللحن هو نغمات متواترة، والنغمات هي أصوات متزنة، والصوت هو قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام بعضها ببعض كما بينا في رسالة «الحاس والمحسوس»، ولكن نحتاج أن نذكر من ذلك في هذه الرسالة ما لا بد منه.
(2) فصل في كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات
فأما كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات؛ فاعلم يا أخي أن الأصوات نوعان: حيوانية وغير حيوانية، وغير الحيوانية أيضا نوعان: طبيعية وآلية، فالطبيعية هي كصوت الحجر والحديد والخشب والرعد والريح، وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات. والآلية كصوت الطبل والبوق والزمر والأوتاد وما شاكلها.
والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية، فغير المنطقية هي أصوات سائر الحيوانات غير الناطقة، وأما المنطقية فهي أصوات الناس، وهي نوعان: دالة وغير دالة، فغير الدالة كالضحك والبكاء والصياح. وبالجملة كل صوت لا هجاء له، وأما الدالة فهي الكلام والأقاويل التي لها هجاء، وكل هذه الأصوات إنما هي قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجرام؛ وذلك أن الهواء لشدة لطافته وخفة جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، فإذا صدم جسم جسما آخر انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموج إلى جميع الجهات وحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج فيها، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه إلى أن يسكن ويضمحل.
فمن كان حاضرا من الناس وسائر الحيوانات الذي له أذن بالقرب من ذلك المكان، فبتموج ذلك الهواء بحركته يدخل في أذنيه إلى صماخيه في مؤخر الدماغ، ويتوج أيضا ذلك الهواء الذي هناك فتحس عند ذلك القوة السامعة بتلك الحركة وذلك التغيير.
واعلم أن كل صوت له نغمة وصفية وهيئة روحانية خلاف صوت آخر، وأن الهواء من شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل صوت بهيأته وصفته ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض، فيفسد هيئتها إلى أن يبلغها إلى أقصى مدى غاياتها عند القوة السامعة؛ لتؤديها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، وذلك تقدير العزيز الحكيم الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ، وإذ قد فرغنا من ذكر ماهية الأصوات وكيفية حل الهواء وكيفية إدراك القوة السامعة لها، فنذكر الآن كيفية حدوث أنواعها من تصادم الأجسام بعضا ببعض، فنقول: إن كل جسمين تصادما برفق ولين لا تسمع لهما صوتا؛ لأن الهواء ينسل من بينهما قليلا قليلا فلا يحدث صوتا، وإنما يحدث الصوت من تصادم الأجسام متى كان صدمها بشدة وسرعة؛ لأن الهواء عند ذلك يندفع مفاجأة، ويتموج بحركته إلى الجهات الست بسرعة، فيحدث الصوت ويسمع - كما بينا في فصل قبل هذا.
والأجسام العظيمة إذا تصادمت كان صوتها أعظم؛ لأنها تموج هواء أكثر، وكل جسمين من جوهر واحد، مقدارهما واحد، وشكلهما واحد، نقرا نقرة واحدة معا؛ فإن صوتيهما يكونان متساويين، فإن كان أحدهما أجوف كان صوته أعظم؛ لأنه يصدم هواء كثيرا داخلا وخارجا، والأجسام الملس أصواتها ملساء؛ لأن السطوح المشتركة التي بينها وبين الهواء ملساء، والأجسام الخشنة تكون أصواتها خشنة؛ لأن السطوح المشتركة بينها وبين الهواء خشنة.
والأجسام الصلبة المجوفة كالأواني والطرجهارات والجرار إذا نقرت طنت زمانا طويلا؛ لأن الهواء في جوفها يتردد ويصدمها مرة بعد مرة، وتارة بعد أخرى إلى أن يسكن، فما كان منها أوسع كان صوتها أعظم؛ لأنه يصدم هواء كثيرا داخلا وخارجا، والبوقات الطوال كان صوتها أعظم؛ لأن الهواء المتموج فيها يصدمها في مروره مسافة بعيدة، والحيوانات الكبيرة الرئات الطويلة الحلاقيم الواسعة المناخر والأشداق، تكون جهيرة الأصوات؛ لأنها تستنشق هواء كثيرا وترسله بشدة.
فقد تبين بما ذكرنا أن علة عظم الصوت إنما هي بحسب عظم الأجسام المصوتة وشدة صدمها وكثرة تموج الهواء في الجهات عنها، فنقول: إن أعظم الأصوات صوت الرعد، وقد بينا علة حدوثه في رسالة الآثار العلوية، ولكن نذكر هنا ما لا بد منه.
أما علة حدوثه فهو أن البخارين الصاعدين في الجو من البحار والبراري إذا ارتفعا في الهواء واختلطا واحتوى البخار الرطب اليابس الذي هو الدخان، واحتوى الزمهرير على البخارين الرطب واليابس وحصرهما انضغط البخار اليابس في جوف البخار الرطب والتهب وطلب الخروج، فدفع البخار الرطب وخرقه، فيفرقع البخار الرطب من حرارة ذلك الدخان اليابس، كما تفرقع الأشياء الرطبة إذا احتوت عليها حرارة النار دفعة واحدة.
ويحدث من ذلك قرع في الهواء ويندفع إلى جميع الجهات، وينقدح من خروج ذلك الدخان اليابس في جوف السحاب ضوء يسمى البرق، كما يحدث من دخان السراج المنطفئ إذا أدني من سراج مشتعل، ثم ينطفئ.
وربما يذوب من ذلك البخار الرطب شيء من جوف السحاب ويصير ريحا ويدور في خلل السحاب وجوف الغيوم، ويطلب الخروج، ويسمع له دوي وتقرقر، كما يسمع الإنسان من جوفه إذا كان يعرض له ريح وانتفاخ، وربما ينشق السحاب دفعة واحدة مفاجأة، فتخرج تلك الريح ويكون منها صوت هائل يسمى صاعقة.
فهذه علة صوت الرعد وكيفية حدوثه، فأما أصوات الرياح وعلة حدوثها فهي: أن الرياح ليست شيئا سوى تموج الهواء شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وفوقا وتحتا، فإذا صدم في حركته وجريانه الجبال والحيطان والأشجار والنبات وتخللها؛ حدث من ذلك فنون الأصوات والدوي والطنين مختلفة الأنواع، كل ذلك بحسب كبر الأجسام المصدومة وصغرها وأشكالها وتجويفها، ويطول شرحها.
وأما أصوات المياه في جريانها وتموجها وتصادمها مع الأجسام، فإن الهواء؛ للطافة جوهره وسيلان عنصره يتخللها كلها، ويكون حدوث تلك الأصوات وفنون أنواعها بحسب تلك الأسباب التي ذكرناها في أمر الرياح، وأما أصوات الحيوانات ذوات الرئة واختلاف أنواعها وفنون نغماتها فهي بحسب طول أعناقها وقصرها وسعة حلاقيمها وتركيب حناجرها وشدة استنشاقها الهواء وقوة إرسال أنفاسها من أفواهها ومناخرها، يطول شرحها.
وأما أصوات الحيوانات التي ليست لها رئة كالزنابير والجراد والصرصر وما شاكلها؛ فإنها تحرك الهواء بجناحين لهما سرعة وخفة، فيحدث من ذلك أصوات مختلفة كما يحدث من تحريك أوتار العيدان، وتكون فنونها واختلاف أنواعها بحسب لطافة أجنحتها وغلظها وطولها وقصرها وسرعة تحريكها لها.
وأما الحيوانات الخرس كالسمك والسرطان والسلاحف وما شاكلها فهي خرس؛ لأن ليس لها رئة ولا جناحان، وأن اختلاف تلك الأصوات يكون بحسب شدة يبسها وصلابتها وكمية مقاديرها من الكبر والصغر والطول والقصر والسعة والضيق وفنون أشكالها من التجويف والتقبيب والثقب وقوة الصدمة وما يعرض فيها من الأسباب - كما سنبين ذلك في موضعه.
وأما فنون أصوات الآلات المتخذة للتصويب كالطبول والبوقات والدبادب والدفوف والسرناي والمزامير والعيدان، وما شاكلها، فهي بحسب أشكالها وجواهرها التي هي متخذة منها وكبرها وصغرها وطولها وقصرها وسعة أجوافها وضيق ثقبها ورقة أوتارها وغلظها، وبحسب فنون تحريك المحركين لها.
ونحتاج أن نذكر من هذا الفن طرفا إذ كان أحد أغراضنا من هذه الرسالة تبيان ماهية الموسيقى الذي هو ألحان مؤتلفة ونغمات متزنة، وهو المسمى الغناء، ولما تبين بما ذكرنا أن الغناء إنما هو ألحان مؤتلفة، واللحن هو نغمات متزنة، والنغمات المتزنة لا تحدث إلا من حركات متواترة بينها سكنات متتالية؛ احتجنا أن نذكر أولا ما الحركة وما السكون، فنقول: إن الحركة هي النقلة من مكان إلى مكان في زمان ثان، وضدها السكون وهو الوقوف في المكان الأول في الزمان الثاني.
والحركة نوعان: سريعة وبطيئة، والحركة السريعة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة بعيدة في زمان قصير، والبطيئة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة أقل منها في ذلك الزمان بعينه، والحركتان لا يعدان اثنتين إلا أن يكون بينهما زمان سكون، والسكون هو وقوف المتحرك في مكانه الأول زمانا ما كان يمكنه أن يكون متحركا فيه حركة ما.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا أن نبينه فنقول الآن: إن الأصوات تنقسم من جهة الكيفية ثمانية أنواع، كل نوعين منها متقابلان من جنس المضاف، فمنها العظيم والصغير والسريع والبطيء والحاد والغليظ والجهير والخفيف، فأما العظيم والصغير من الأصوات فبإضافة بعضها إلى بعض، والمثال في ذلك أصوات الطبول؛ وذلك أن أصوات طبول المواكب إذا أضيفت إلى أصوات طبول المخانيث كانت عظيمة، وإذا أضيفت إلى أصوات الكوس كانت صغيرة، وأصوات الكوس إذا أضيفت إلى أصوات الرعد والصواعق كانت صغيرة.
والكوس هو طبل عظيم يضرب في ثغور خراسان عند النفير يسمع صوته من فراسخ، فعلى هذا المثال يعتبر عظم الأصوات وصغرها بإضافة بعضها إلى بعض، وأما السريع والبطيء من الأصوات بإضافة بعضها إلى بعض، فهي التي تكون أزمان سكونات ما بين نقراتها قصيرة بالإضافة إلى غيرها.
والمثال في ذلك أصوات كوذينات القصارين ومطارق الحدادين؛ فإنها مريعة بالإضافة إلى أصوات دق الرزازين والجصاصين، وهي بطيئة بالإضافة إليها، وأما بالإضافة إلى أصوات مجازيف الملاحين فهي سريعة، وعلى هذا المثال تعتبر سرعة الأصوات وبطؤها بإضافة بعضها إلى بعض، وأما الحاد والغليظ من الأصوات بإضافة بعضها إلى بعض؛ فهي كأصوات نقرات الزير وحدته، بالإضافة إلى نقرات المثنى والمثنى إلى المثلث والمثلث إلى البم؛ فإنها تكون حادة.
فأما بالعكس فإن صوت البم بالإضافة إلى المثلث والمثلث إلى المثنى والمثنى إلى الزير فغليظة، ومن وجه آخر أيضا، فإن صوت كل وتر مطلقا غليظ بالإضافة إلى مزمومه - أي مزموم كان - فعلى هذا القياس تعتبر حدة الأصوات وغلظها بإضافة بعضها إلى بعض.
وأما الخفيف والجهير من الأصوات فقد تقدمت إبانتهما عند ذكر علتهما في الفصل الأول، والأصوات تنقسم من جهة الكمية نوعين: متصلة ومنفصلة، فالمتصلة هي التي بين أزمان حركة نقراتها زمان سكون محسوس، مثل نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان.
وأما المتصلة من الأصوات فهي مثل أصوات المزامير والنايات والدبادب والدواليب والنواعير وما شاكلها، والأصوات المتصلة تنقسم نوعين: حادة وغليظة، فما كان من النايات والمزامير أوسع تجويفا وثقبا كان صوته أغلظ، وما كان أضيق تجويفا وثقبا كان صوته أحد، ومن جهة أخرى أيضا ما كان من الثقب إلى موضع النفخ أقرب كانت نغمته أحد، وما كان أبعد كان أغلظ.
(3) فصل في امتزاج الأصوات وتنافرها
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أصوات الأوتار المتساوية الغلظ والطول والخرق إذا نقرت نقرة واحدة كانت متساوية، وإن كانت متساوية في الطول، مختلفة في الغلظ؛ كانت أصوات الغليظ أغلظ وأصوات الدقيق أحد، وإن كانت متساوية في الطول والغلظ، مختلفة في الخرق، كانت أصوات المخروقة حادة، وأصوات المسترخية غليظة، وإن كانت متساوية في الغلظ والطول والخرق، مختلفة في النقر، كان أشدها نقرا أعلاها صوتا.
واعلم بأن الأصوات الحادة والغليظة متضادان، ولكن إذا كانت على نسبة تأليفية ائتلفت وامتزجت واتحدت، وصارت لحنا موزونا واستلذتها المسامع وفرحت بها الأرواح، وسرت بها النفوس، وإن كانت على غير النسبة تنافرت وتباينت ولم تأتلف ولم تستلذها المسامع، بل تنفر عنها وتشمئز منها النفوس وتكرهها الأرواح.
والأصوات الحادة حارة تسخن مزاج أخلاط الكيموسات الغليظة وتلطفها، والأصوات الغليظة باردة ترطب مزاج أخلاط الكيموسات الحارة اليابسة، والأصوات المعتدلة بين الحادة والغليظة تحفظ مزاج أخلاط الكيموسات المعتدل على حالته؛ كي لا يخرج عن الاعتدال، والأصوات العظيمة الهائلة غير المتناسبة إذا وردت على المسامع دفعة واحدة مفاجأة، أفسدت المزاج وأخرجته عن الاعتدال، وتحدث موت الفجأة ولها آلة صناعية كان اليونانيون يستعملوها عند الحروب ويفزعون بها نفوس الأعداء، ويسد النافخون فيها آذانهم عند استعمالها وتحريكها، والأصوات المعتدلة المتزنة المتناسبة تعدل مزاج الأخلاط وتفرح الطباع، وتستلذ بها الأرواح وتسر بها النفوس.
(4) فصل في تأثر الأمزجة بالأصوات
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أمزجة الأبدان كثيرة الفنون وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج وكل طبيعة نغمة تشاكلها ولحن يلائمها لا يحصي عددها إلا الله - عز وجل.
والدليل على حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا أنك تجد إذا تأملت لكل أمة من الناس ألحانا ونغمات يستلذونها ويفرحون بها، لا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم، مثل غناء الديلم والأتراك والأعراب والأرمن والزنج والفرس والروم وغيرهم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والأخلاق والعادات.
وهكذا أيضا أنك تجد في الأمة الواحدة من هذه أقواما يستلذون ألحانا ونغمات وتفرح نفوسهم بها، ولا يسر بها من سواهم، وهكذا أيضا ربما تجد إنسانا واحدا يستلذ وقتا ما لحنا ويسره، ووقتا آخر لا يستلذه بل ربما يكرهه ويتألم منه، وهكذا تجد حكمهم في مأكولاتهم ومشروباتهم وفي مشموماتهم وملبوساتهم وسائر الملاذ والزينة والمحاسن، كل ذلك بحسب تغيرات أمزجة الأخلاط واختلاف الطبائع وتركيب الأبدان والأماكن والأزمان كما بينا طرفا من ذلك في رسالة الأخلاق.
(5) فصل في أصول الألحان وقوانينها
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لكل أمة من الناس ألحانا من الغناء وأصواتا ونغمات لا يشبه بعضها بعضا، ولا يحصي عددها كثرة إلا الله تعالى الذي خلقهم وصورهم وطبعهم على اختلاف أخلاقهم وألسنتهم وألوانهم، ولكن نريد أن نذكر أصول الغناء وقوانين الألحان التي منها يتركب سائرها، وذلك أن الغناء مركب من الألحان، واللحن مركب من النغمات، والنغمات مركبة من النقرات والإيقاعات، وأصلها كلها حركات وسكون، كما أن الأشعار مركبة من المصاريع، والمصاريع مركبة من المفاعيل، والمفاعيل مركبة من الأسباب والأوتاد والفواصل، وأصلها كلها حروف متحركات وسواكن، كما بينا ذلك في كتاب العروض.
وكذلك الأقاويل كلها مركبة من الكلمات، والكلمات من الأسماء والأفعال والأدوات. وكلها مركبة من الحروف المتحركات والسواكن - كما بينا في كتاب المنطق - ومن يريد أن ينظر في هذا العلم فيحتاج أن يرتاض أولا في علم النحو والعروض مما لا بد منه، وقد ذكرنا في رسالة المنطق ما يحتاج إليه المتعلم والمبتدئ، ونحتاج أن نذكر ها هنا أصل العروض وهو ميزان الشعر وقوانينه؛ إذ كانت قوانين الموسيقى مماثلة لقوانين العروض، فنقول:
إن العروض هو ميزان الشعر يعرف به المستوي والمنزحف، وهي ثمانية مقاطع في الأشعار العربية، وهي هذه: فعولن، مفاعيل، متفاعلن، مستفعلن، فاعلاتن، فاعلن، مفعولات، مفاعلتن، وهذه الثمانية مركبة من ثلاثة أصول، وهي: السبب، والوتد، والفاصلة، فالسبب حرفان: واحد متحرك وآخر ساكن أو متحرك، مثل قولك: هل لم، وما شاكلها، والوتد ثلاثة أحرف: اثنان متحركان، وواحد ساكن، مثل قولك: نعم وبلى وأجل وما شاكلها، والفاصلة أربعة أحرف: ثلاثة متحركة، وواحد ساكن، مثل قولك: غلبت فعلت وما شاكلها. وأصل هذه الثلاثة حرف ساكن وحرف متحرك، فهذه قوانين العروض وأصوله.
وأما قوانين الغناء والألحان فهي أيضا ثلاثة أصول، وهي السبب والوتد والفاصلة، فأما السبب فنقرة متحركة يتلوها سكون، مثل قولك: تن تن تن تن ويكرر دائما، والوتد نقرتان متحركتان يتلوهما سكون، مثل قولك: تنن تنن تنن تنن، يكرر دائما، والفاصلة ثلاث نقرات متحركة يتلوها سكون، مثل قولك: تننن تننن تننن تننن.
فهذه الثلاثة هي الأصل والقانون في جميع ما يركب منها من النغمات، وما يركب من النغمات في جميع اللغات من الألحان، وما يتركب منها من الغناء في جميع اللغات، فإذا ركبت من هذه الثلاثة الأصول اثنين اثنين كانت منها تسع نغمات ثنائية، وهي هكذا: نقرة ونقرتان مثل قولك: تن تنن، وتكرر دائما.
ومنها نقرتان ونقرة مثل قولك: تنن تن، وتكرر دائما، ومنها نقرة وثلاث نقرات مثل قولك: تن تننن، ويكرر دائما، ومنها نقرتان ونقرتان مثل قولك: تنن تنن، ويكرر دائما، ومنها ثلاث نقرات ثلاث نقرات مثل قولك: تننن تننن.
ومنها ثلاث نقرات ونقرتان مثل قولك: تننن تنن، ويكرر دائما، ومنها ثلاث نقرات ونقرة مثل قولك: تننن تن، ويكرر دائما، ومنها نقرة وسكون قدر نقرة، وهي الأصل والعمود مثل قولك: تن تن تن تن، ويكرر دائما، فهذه جملة النغمات الثنائية.
وأما الثلاثية فهي عشرة تركيبات: نقرة ونقرتان، وثلاث نقرات، ونقرتان ونقرة وثلاث نقرات، ونقرة وثلاث نقرات ونقرتان، وثلاث نقرات ونقرة ونقرتان، ونقرتان وثلاث نقرات ونقرة، وثلاث نقرات ونقرتان ونقرة، ونقرة وثلاث نقرات ونقرة، ونقرتان وثلاث نقرات ونقرتان، وثلاث نقرات ونقرة وثلاث نقرات، وثلاث نقرات ونقرتان وثلاث نقرات، فهذه جميع أنواع الإيقاع المركبة من النقرات، ثلاثة منها مفردة، وتسعة ثنائية، وعشرة ثلاثية، فذلك اثنان وعشرون تركيبا.
والذي تركب من هذه في غناء العربية ثمانية أنواع، وهي: الثقيل الأول وخفيفه، والثقيل الثاني وخفيفه، والرمل وخفيفه، والهزج وخفيفه، وهذه الثمانية الأجناس هي الأصل، ومنها يتفرع سائر أنواع الألحان، وإليها تنسب، كما أن من الثمانية مقاطع يتفرع سائر ما في دوائر العرض، فقد تبين بما ذكرنا أن كل صناعة من الرياضيات أربعة أصول، منها يتركب سائرها، وتلك الأربعة أصلها واحد. كما بينا في رسالة الأرثماطيقي كيفية تركيب العدد من الواحد الذي قبل الاثنين، وفي رسالة جومطريا بينا بأن النقطة في صناعة الهندسة مماثلة للواحد في صناعة العدد، وفي رسالة الأسطرنوميا بينا أن الشمس وأحوالها من بين الكواكب كالواحد في العدد والنقطة في صناعة الهندسة.
وفي رسالة النسب العددية بينا أن نسبة المساواة أصل وقانون في علم النسب كالواحد في صناعة العدد، وفي هذه الرسالة قد بينا أن الحركة كالواحد، والسبب كالاثنين، والوتد كالثلاثة، والفاصلة كالأربعة، وسائر نغمات الألحان والغناء مركبة منها، كما أن سائر الأعداد من الآحاد والعشرات والمئين والألوف مركبة من الأربعة والثلاثة والاثنين والواحد، وفي رسالة المنطق قد بينا أيضا أن الجوهر كالواحد والتسع المقولات الأخر كتسعة الآحاد، أربعة منها متقدمة على باقيها، وهي الجوهر والكم والكيف والمضاف وسائرها مركبة منها.
وفي رسالة الهيولى بينا أن الجسم مركب من الجوهر والطول والعرض والعمق، وسائر الأجسام مركبة من الجسم المطلق، وفي رسالة المبادئ بينا أن الباري - جل ثناؤه - نسبته من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، والعقل كالاثنين، والنفس كالثلاثة، والهيولى كالأربعة، وسائر الخلائق مركبة من الهيولى والصورة المخترعين من النفس الكلية، والنفس الكلية منبعثة من العقل الكلي، والعقل مبدع بأمر الباري - جل ثناؤه - أبدعه الله لا من شيء، وصور فيه جميع الأشياء بالقوة والفعل.
وغرضنا من هذه الرسائل كلها أن نبين لأهل كل صناعة وحدانية الباري - جل ثناؤه - من صناعتهم؛ لتكون أقرب إلى فهمهم، وأبين لحجتهم، وأوضح لبرهانهم، وهكذا فعلنا في سائر الرسائل، ونبين أيضا كيفية حدوث الموجودات بعضها من بعض بإذن الله - جل ثناؤه - وحسن عنايته وإتقان حكمته ودقة صنعته، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول: إن كل نقرتين من نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان فلا بد من أن يكون بينهما زمان سكون - طويلا كان أو قصيرا - وأنه إذا تواترت نقرات تلك الأوتار وإيقاعات تلك القضبان؛ تواترت أيضا سكونات بينهما، ثم لا تخلو أزمان تلك السكونات من أن تكون مساوية لأزمان تلك الحركات، أو تكون أطول منها، وإذا كانت أقصر منها فالمتفق عليه بين أهل هذه الصناعة أن زمان الحركة لا يمكن أن يكون أطول من زمان السكون الذي هو من جنسه، فإن كانت أزمان السكونات مساوية لأزمان الحركات في الطول، ولا يمكن أن يقع في تلك الأزمان حركة أخرى؛ سميت تلك النغمات عند ذلك العمود الأول، وهو الخفيف الذي لا يمكن أن يكون أخف منه؛ لأنه إن وقعت في تلك الأزمان حركة أخرى صارت نغمتها متصلة بنغمة النقرة التي قبلها والتي بعدها، وصار الجميع صوتا متصلا.
وإن كانت أزمان السكونات طولها بمقدار ما يمكن أن يقع فيها حركة أخرى؛ سميت تلك النغمات العمود الثاني والخفيف الثاني، وإن كانت أزمان تلك السكونات أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيها حركتان، سميت تلك النغمات الثقيل الأول، وإن كانت تلك الأزمان أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيها ثلاث حركات سميت تلك النغمات الثقيل الثاني.
وهذا الذي ذكرناه ووصفناه على ما يوجبه القياس والقانون، فأما على ما يعرفه أهل هذا الزمان من المغنين وأصحاب الملاهي من الخفيف والثقيل؛ فهو غير هذا، وسنذكره بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي بأنه إذا زادت أزمان السكونات التي بين النقرات والإيقاعات على هذا المقدار من الطول خرج من الأصل والقانون والقياس؛ أعني: من أن تدركها وتميزها القوة الذائقة السمعية، والعلة في ذلك أن الأصوات لا تمكث في الهواء زمانا طويلا إلا ريثما تأخذ المسامع حظها من الطنين، ثم تضمحل تلك الأصوات من الهواء الحامل لها المؤدي إلى المسامع - كما بينا في فصل قبل هذا - وهكذا أيضا طنين الأصوات لا يمكث في المسامع زمانا إلا ريثما تأخذ القوة المتخيلة رسومها، ثم تضمحل من المسامع تلك الطنينات.
وإذا طالت أزمان السكونات بين النقرات والإيقاعات وزادت على المقدار الذي تقدم ذكره، اضمحلت النغمة الأولى وطنينها من المسامع قبل أن ترد النغمة الأخرى، فلا تقدر القوة المفكرة أن تعرف مقدار الزمان الذي بينهما، فتميزهما وتعرف التناسب الذي بينهما؛ لأن جودة الذوق في المسامع هي معرفة كمية الأزمان التي بين النغمتين، وما بين أزمان السكونات وبين أزمان الحركات من التناسب والمقدار، وعلى هذا المثال يجري حكم سائر المحسوسات والقوى الحاسة المدركة لها، وذلك أن القوة الباصرة أيضا لا تقدر أن تعرف مقدار أبعاد ما بين المرئيات إلا إذا كانت متقاربة في الأماكن، وأما إذا بعد ما بينها من الأماكن كما بعد ما بين المسموعات بالأزمان، فلا تقدر القوة الباصرة أن تدركها وتميز البعد ما بينها إلا بآلات هندسية كالذراع والأشل والباب والقبضة والأصابع، كما بينا في رسالة الجومطريا.
وهكذا إذا بعد ما بين أزمان الحركات بطول أزمان السكونات، فلا تقدر القوة الذائقة السامعة أن تدركها وتعرف بعد ما بينها إلا بآلات رصدية كالطرجهارات والشياهين والأصطرلاب، وما شاكلها من آلات الرصد، فأما إن كانت قريبة أدركها السمع وميزها الذوق - كما هو معروف في العروض - فقد تبين بما ذكرناه من العلة في أزمان السكونات التي بين النقرات، وأنه إذا زاد طولها على المقدار المذكور وخرج من الأصل والقانون.
وعلة أخرى أيضا وهي أن النغمة الواحدة إذا وردت على القوة السامعة لا يمكث فيها صوتها إلى أن يضمحل إلا بمقدار زمان ثلاث نقرات أخرى من أخواتها، بين كل واحدة زمان سكون أحدهما، فتكون جملتها ثمانية أزمان فحسب، مثل هذا الشكل: اه اه اه اه الألف علامة السكون، والهاء علامة المتحرك.
وإذ قد فرغنا من ذكر مقادير أزمان الحركات والسكونات وما بينهما من البعد والتناسب؛ فنريد أن نذكر أيضا طرفا من أمر الآلات المصوتة وكيفية صناعتها وإصلاحها، وما التام الكامل منها.
(6) فصل في كيفية صناعة الآلات وإصلاحها
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الحكماء قد صنعوا آلات وأدوات كثيرة لنغمات الموسيقى وألحان الغناء، مفننة الأشكال، كثيرة الأنواع؛ مثل الطبول والدفوف والنايات والصنوج والمزامير والسرنايات والصفارات والسلباب والشواشل والعيدان والطنابير والجنك والرباب والمعازف والأراغن والأرمونيقي وما شاكلها من الآلات والأدوات المصوتة، ولكن أتم آلة استخرجتها الحكماء وأحسن ما صنعوها الآلة المسماة بالعود.
ونحتاج أن نذكر من كيفية صنعها وإصلاحها واستعمالها، وكمية نسب ما بين نغمات أوتارها وطولها وعرضها وغلظها ورقتها ونقراتها طرفا شبه المدخل والمقدمات؛ ليكون تنبيها لنفوس الطالبين للعلوم الفلسفية والناظرين في الآداب الرياضية، ونبين لهم دقائق الحكمة وأسرار الصنائع التي هي كلها دلالة على الصانع الحكيم الذي هو الباري - تبارك وجل ثناؤه - وهو الذي خلق الصناع وألهمهم الصنائع الأول والحكم والعلوم والمعارف، والله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين.
ولكن نبدأ أولا بذكر ما قال أهل هذه الصناعة؛ فإنه قد قيل: استعينوا في كل صناعة بأهلها، فنقول: إن أهل هذه الصناعة قالوا: ينبغي أن تتخذ الآلة التي تسمى العود خشبا طوله وعرضه وعمقه يكون على النسبة الشريفة، وهي أن طوله مثل عرضه ومثل نصفه، ويكون عمقه مثل نصف العرض، وعنق العود مثل ربع الطول، وتكون ألواحه رقاقا متخذة من خشب خفيف، ويكون الوجه رقيقا من خشب صلب خفيف يطن إذا نقر.
ثم يتخذ أربعة أوتار بعضها أغلظ من بعض على النسبة الأفضل، وهو أن يكون غلظ البم مثل غلظ المثلث ومثل ثلثه، وغلظ المثلث مثل غلظ المثنى ومثل ثلثه، وغلظ المثنى مثل غلظ الزير ومثل ثلثه، وهو أن يكون البم أربعة وستين طاقة إبريسم، والمثلث ثمانيا وأربعين طاقة، والمثنى ستا وثلاثين طاقة، والزير سبعا وعشرين طاقة إبريسم، ثم تمد هذه الأوتار الأربعة على وجه العود مشدودة أسفالها في المشط، ورءوسها في الملاوي فوق عنق العود، فعند ذلك تكون أطوالها متساوية وهي في دقتها وغلظها مختلفة على هذه النسبة «سد مح لوكز».
ثم يقسم طول الوتر الواحد بأربعة أقسام متساوية ويشد دستان الخنصر عند الثلاثة الأرباع مما يلي عنق العود، ثم يقسم طول الوتر من الرأس بتسعة أقسام متساوية، ويشد دستان السبابة على التسع مما يلي عنق العود، ثم يقسم طول الوتر عند دستان السبابة إلى المشط بتسعة أقسام متساوية ويشد دستان البنصر على التسع منه، فإنه يقع فوق دستان الخنصر مما يلي دستان السبابة.
ثم يقسم طول الوتر عند دستان الخنصر مما يلي المشط بثمانية أقسام، ويزاد عليها هذا الدستان، أعني: دستان الوسطى يشد بحيال نقطة من الوتر بينها وبين دستان الخنصر ثمن ما بين الخنصر إلى المشط، فيصير نسبة نغمة الوسطى هذه إلى نغمة الخنصر مثلها، فما بقي من الوتر فوق، ويشد عند ذلك دستان الوسطى، فإنه يقع فيما بين دستان السبابة والبنصر، فهذا هو إصلاح العود ونسب الأوتار ومواضع الدساتين.
فأما كيفية إصلاح النغم ومعرفة ما يكون بينها من النسب، فهو أن يمد الزير ويحزق بحسب ما يحتمل أن لا ينقطع، ثم يمد المثنى فوق الزير ويحزق ثم يزم بالخنصر وينقر مع مطلق الزير، فإذا سمعت نغمتاهما متساويتين فقد استويا، وإلا يزاد في حزق المثنى وإرخائه حتى يستويا، ثم يمد المثلث ويحزق ويزم بالخنصر وينقر مع مطلق المثنى حتى تسمع نغمتاهما متساويتين، وإلا يزاد في الحزق والإرخاء حتى يستويا ويسمع نغمتاهما كأنهما نغمة واحدة. ثم يمد المثلث ويحزق ويزم بالخنصر، وينقر مع مطلق المثنى حتى يسمع نغمتاهما متساويتين كأنهما نغمة واحدة.
ثم يمد البم ويحزق ويزم بالخنصر، وينقر مع مطلق المثلث، فإذا سمعت نغمتاهما متساويتين كأنهما نغمة واحدة فقد استويا، وإذا استوت هذه الأوتار على هذا الوصف وجدت نغمة مطلق كل وتر بالإضافة إلى نغمة مزمومة بالخنصر مثله ومثل ثلثه في الغلظ والثقل، ويوجد أيضا نغمة كل وتر مزموم بالخنصر مثل نغمة الوتر الذي تحته مطبقا بالسواء، أيضا نغمة مطلق كل وتر مثل نغمة مزمومة بالسبابة ومثل ثلثه سواء.
ويوجد أيضا نغمة مطلق كل وتر ضعف نغمة الوتر الذي تحته وهو الثالث منه مزموما بالسبابة، ويوجد أيضا نغمة سبابة كل وتر منه مثل نغمة بنصره ومثل ثمنه سواء، ويوجد أيضا نغمة وسطى كل وتر مثل نغمة خنصره ومثل ثمنه سواء.
وبالجملة: ما من وتر ولا دستان من هذه الأوتار والدساتين إلا ولنغماتها نسبة بعضها إلى بعض، ولكن منها ما هي فاضلة شريفة، ومنها ما دون ذلك، فمن النسب الفاضلة الشريفة أن تكون النغمة مثل الأخرى سواء، وتكون النغمة الغليظة مثل الحادة ومثل ثلثها ومثل نصفها أو مثلها ومثل ربعها أو مثلها ومثل ثمنها.
فإذا استوت هذه الأوتار على هذه النسب الفاضلة وحركت حركات متواترة متناسبة؛ حدث عند ذلك منها نغمات متواترة متناسبة، حادات، خفيفات وثقيلات غليظات، فإذا ألفت ضروبا من التأليفات - كما تقدم ذكرها في فصل قبل هذا - وصارت النغمات الغليظات الثقال للنغمات الحادات الخفاف كالأجساد وهي لها كالأرواح، واتحد بعضها ببعض وامتزجت وصارت ألحانا وغناء؛ كانت نقرات تلك الأوتار عند ذلك بمنزلة الأقلام، والنغمات الحادات منها بمنزلة الحروف، والألحان بمنزلة الكلمات، والغناء بمنزلة الأقاويل، والهواء الحامل لها بمنزلة القراطيس، والمعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان بمنزلة الأرواح المستودعة في الأجساد.
فإذا وصلت المعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان إلى المسامع؛ استلذت بها الطباع، وفرحت فيها الأرواح وسرت بها النفوس؛ لأن تلك الحركات والسكونات التي تكون بينها تصير عند ذلك مكيالا للأزمان وأذرعا لها، ومحاكية لحركات الأشخاص الفلكية، كما أن حركات الكواكب والأفلاك المتصلات المتناسبات هي أيضا مكيال للدهور وأذرع لها، فإذا كيل بها الزمان كيلا متساويا متناسبا معتدلا؛ كانت نغماتها مماثلة لنغمات حركات الأفلاك والكواكب ومناسبة لها، فعند ذلك تذكرت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد سرور عالم الأفلاك ولذات النفوس التي هناك، وعلمت وتبين لها بأنها في أحسن الأحوال وأطيب اللذات وأدوم السرور؛ لأن تلك النغمات هي أصفى وتلك الألحان أطيب؛ لأن تلك الأجسام أحسن تركيبا وأجود هنداما وأصفى جوهرا، وحركاتها أحسن نظاما ومناسباتها أجود تأليفا.
فإذا علمت النفس الجزئية التي في عالم الكون والفساد أحوال عالم الأفلاك وتيقنت حقيقة ما وصفنا؛ تشوقت عند ذلك إلى الصعود إلى هناك واللحوق بأبناء جنسها من النفوس الناجية في الأزمان الماضية، من الأمم الخالية.
فإن قال قائل: إن الفلك طبيعة خامسة لا يجوز أن يكون لأجسامه نغمات وأصوات؛ فليعلم هذا القائل أن الفلك وإن كانت طبيعته خامسة فليس بمخالف لهذه الأجسام في كل الصفات؛ وذلك أن منها ما هو مضيء مثل النار وهي الكواكب، ومنها ما هو مشف كالبللور وهي الأفلاك، ومنها ما هو صقيل كوجه المرآة وهو جرم القمر، ومنها ما هو يقبل النور والظلمة مثل الهواء وهو فلك القمر وفلك عطارد.
وبيان ذلك: أن ظل الأرض يبلغ مخروطه إلى فلك عطارد، وهذه كلها أوصاف للأجسام الطبيعية، والأجسام الفلكية تشاركها فيها، فقد تبين أن الفلك وإن كانت طبيعته خامسة فليس بمخالف للأجسام الطبيعية في كل الصفات، بل في بعضها دون بعض؛ وذلك أنها ليست بحارة ولا باردة ولا رطبة بل يابسة صلبة أشد صلابة من الياقوت، وأصفى من الهواء، وأشف من البلور، وأصقل من وجه المرآة، وأنها يماس بعضها بعضا وتصطك وتحتك، وتطن كما يطن الحديد والنحاس، وتكون نغماتها متناسبات مؤتلفات وألحانها موزونات - كما بينا مثالها في نغمات أوتار العيدان ومناسباتها.
(7) فصل في أن لحركات الأفلاك نغمات كنغمات العيدان
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ولا نغمات؛ لم يكن لأهلها فائدة من القوة السامعة الموجودة فيهم، فإن لم يكن لهم سمع فهم صم بكم عمي، وهذه حال الجمادات الجامدات الناقصات الوجود، وقد قام الدليل وصح البرهان بطريق المنطق الفلسفي أن أهل السماوات وسكان الأفلاك هم ملائكة الله وخالص عباده، يسمعون ويبصرون ويعقلون ويقرأون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، وتسبيحهم ألحان أطيب من قراءة داود للزبور في المحراب، ونغمات ألذ من نغمات أوتار العيدان الفصيحة في الإيوان العالي.
فإن قال قائل: فإنهم ينبغي أن يكون لهم أيضا شم وذوق ولمس؛ فليعلم هذا القائل بأن الشم والذوق واللمس إنما جعل للحيوان الآكل للطعام والشارب للشراب؛ ليميز بها النافع من الضار، ويحرز جثته عن الحر والبرد المفرطين المهلكين لجثته، فأما أهل السماوات وسكان الأفلاك فقد كفوا هذه الأشياء، وهم غير محتاجين إلى أكل الطعام والشراب بل غذاؤهم التسبيح، وشرابهم التهليل، وفاكهتهم الفكر والروية والعلم والشعور والمعرفة والإحساس واللذة والفرح والسرور والراحة.
فقد تبين بما ذكرنا أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحانا طيبة لذيذة مفرحة لنفوس أهلها، وأن تلك النغمات والألحان تذكر النفوس البسيطة التي هناك سرور عالم الأرواح التي فوق الفلك التي جواهرها أشرف من جواهر عالم الأفلاك، وهو عالم النفوس ودار الحياة التي نعيمها كلها روح وريحان في درجات الجنان، كما ذكر الله تعالى في القرآن.
والدليل على صحة ما قلنا والبرهان على حقيقة ما وصفنا أن نغمات حركات الموسيقار تذكر النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد سرور عالم الأفلاك، كما تذكر نغمات حركات الأفلاك والكواكب النفوس التي هي هناك سرور عالم الأرواح، وهي النتيجة التي أنتجت من المقدمات المقرر بها عند الحكماء، وهي قولهم: إن الموجودات المعلولات الثواني تحاكي أحوالها أحوال الموجودات الأولى التي هي علل لها، فهذه مقدمة واحدة.
والأخرى قولهم: إن الأشخاص الفلكية علل أوائل لهذه الأشخاص التي في عالم الكون والفساد، وأن حركاتها علة لحركات هذه، وحركات هذه تحاكي حركاتها، فوجب أن تكون نغمات هذه تحاكي نغماتها، والمثال في ذلك حركات الصبيان في لعبهم؛ فإنهم يحاكون أفعال الآباء والأمهات، وهكذا التلامذة والمتعلمون يحاكون في أفعالهم وصنائعهم أفعال الأستاذين والمعلمين وأحوالهم، وأن أكثر العقلاء يعلمون بأن الأشخاص الفلكية وحركاتها المنتظمة متقدمة الوجود على الحيوانات التي تحت فلك القمر، وحركاتها علة لحركات هذه، وعالم النفوس متقدم الوجود على عالم الأجسام - كما بينا في رسالة الهيولى ورسالة المبادئ العقلية.
فلما وجد في عالم الكون حركات منتظمة لها نغمات متناسبة؛ دلت على أن في عالم الأفلاك، لتلك الحركات المنتظمة المتصلة نغمات متناسبة مفرحة لنفوسها، ومشوقة لها إلى ما فوقها، كما يوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع التلامذة والمتعلمين اشتياق إلى أحوال الأستاذين، وفي طباع العامة اشتياق إلى أحوال الملوك، وفي طباع العقلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة والتشبه بهم، كما ذكر في حد الفلسفة أنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسية.
ويقال: إن فيثاغورس الحكيم سمع - بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه - نغمات حركات الأفلاك والكواكب فاستخرج بجودة فطرته أصول الموسيقى ونغمات الألحان، وهو أول من تكلم في هذا العلم، وأخبر عن هذا السر من الحكماء، ثم بعده نيقوماخس وبطليموس وإقليدس وغيرهم من الحكماء، وهذا كان غرض الحكماء من استعمالهم الألحان الموسيقية ونغم الأوتار في الهياكل وبيوت العبادات، عند القرابين في سنن النواميس الإلهية، وخاصة الألحان المحزنة المرققة للقلوب القاسية، المذكرة للنفوس الساهية والأرواح اللاهية الغافلة عن سرور عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيوانية.
وكانوا يلحنون مع نقرات تلك الأوتار كلمات وأبياتا موزونة قد ألفت في هذا المعنى ووصف فيها نعيم عالم الأرواح ولذات أهله وسرورهم، كما يقرأ غزاة المسلمين عند النفير آيات من القرآن أنزلت في هذا المعنى لترقق القلوب، وتشوق النفوس إلى عالم الأرواح ونعيم الجنان؛ مثل قوله تعالى: @QUR033 إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وأخوات هذه الآيات من القرآن، وكما ينشد غزاة المسلمين عند اللقاء أيضا أو الحملة على الهيجاء ما قيل من أبيات الشعر في وصف الحور العين ونعيم الجنان مما يشوق النفوس إلى هناك، أو يشجع على الإقدام، بالعربية والفارسية، نحو قول الشاعر:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقدامي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أوتستريحي لأدفع عن مآثر صالحات
وأحمي بعد عن عرض صحيح
وقول الشاعر الفارسي:
بيا تادل وجان بخد أوند سباريم
أندوه درم وغم دينارنه داريم جان رازبي دين وديانت بفروشيم
وأين عمر فنار أبره غزو كذاريم
فأما الأشعار التي كان الحكماء الإلهيون يلحنونها عند استعمالهم الموسيقى في الهياكل وبيوت العبادات؛ لترقيق القلوب القاسية وتنبيه النفوس الساهية من نومة الغفلة، والأرواح اللاهية في رقدة الجهالة، ولتشويقها إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني، ودارها الحيوانية؛ ولإخراجها من عالم الكون والفساد، ولتخليصها من غرق بحر الهيولى ونجاتها من أسر الطبيعة، فهي ما هذه معانيها: «يا أيتها النفوس الغائصة في بحر الأجسام المدلهمة، ويا أيتها الأرواح الغريقة في ظلمات الأجرام ذوات الثلاثة الأبعاد، الساهية عن ذكر المعاد، المنحرفة عن سبيل الرشاد؛ اذكروا عهد الميثاق؛ إذ قال لكم الحق ألست بربكم، قلتم: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا الجسمانيون من قبل، وكنا ذرية من بعدهم جرمانيين في دار الغرور، وضنك القبور. اذكروا عالمكم الروحاني وداركم الحيوانية ومحلكم النوراني، وتشوقوا إلى آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم الروحانيين الذين هم في أعلى عليين، الذين هم من أوساخ الأجرام مبرءون، وعن ملابسة الأجسام الطبيعية منزهون، بادروا وارحلوا من دار الفناء إلى دار البقاء قبل أن يبادر بكم إلى هناك مكرهين مجبورين، غير مستعدين نادمين خاسرين.»
ففي مثل هذه الأوصاف وما شاكل هذه المعاني كانت الحكماء تلحن مع نغمات الموسيقى في الهياكل وبيوت العبادات، فقد تبين إذن - بما ذكرنا - طرف من غرض الحكماء في استعمالهم الموسيقى واستخراجاتهم أصول ألحانه وتركيب نغماته، وأما علة تحريم الموسيقى في بعض شرائع الأنبياء - عليهم السلام - فهو من أجل استعمال الناس لها على غير السبيل التي استعملها الحكماء، بل على سبيل اللهو واللعب، والترغيب في شهوات لذات الدنيا والغرور بأمانيها، والأبيات التي تنشد مشاكلة لها مثل قول قائل:
خذوا بنصيب من نعيم ولذة
فكل وإن طال المدى يتصرم
وقول القائل:
ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنة مذمات أو في نار
واعلم بأن مثل هذه الأبيات إذا سمعها أكثر الناس ظنوا وتوهموا أنه ليست لذة ولا نعيم ولا فرح ولا سرور غير هذه المحسوسات التي يشاهدونها، وأن الذي أخبرت به الأنبياء - عليهم السلام - من نعيم الجنات ولذات أهلها باطل، والذي أخبرت به الحكماء من سرور عالم الأرواح وفضله وشرفه كذب وزور ليست له حقيقة، فيقعون في شكوك وحيرة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إن لم تؤمن للأنبياء - عليهم السلام - بما أخبروك عنه من نعيم الجنان ولذات أهلها، ولم تصدق الحكماء بما عرفوك من سرور عالم الأرواح، ورضيت بما تخيل لك الأوهام الكاذبة والظنون الفاسدة؛ بقيت متحيرا شاكا ضالا مضلا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن غرض الأنبياء - عليهم السلام - في وضعهم النواميس والشرائع، وغرض الحكماء في وضع السياسات ليس هو إصلاح أمور الدنيا فحسب، بل غرضهم جميعا في ذلك إصلاح الدين والدنيا جميعا، فأما غرضهم الأقصى فهو نجاة النفوس من محن الدنيا وشقاوة أهلها وإيصالها إلى سعادة الآخرة ونعيم أهلها.
ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول: إنه إذا وصلت معاني النغمات والألحان إلى أفكار النفوس بطريق السمع وتصورت فيها رسوم تلك المعاني التي كانت مستودعة في تلك الألحان والنغمات؛ استغني عن وجودها في الهواء كما يستغنى عن المكتوب في الألواح إذا فهم وحفظ ما كان فيها مكتوبا من المعاني.
وهكذا يكون حكم النفوس الجزئية إذا ما هي تمت وكملت، وبلغت إلى أقصى مدى غاياتها مع هذه الأجسام، فعند ذلك هدمت أجسامها إما بموت طبيعي أو عرضي، أو بقربان في سبيل الله تعالى، واستخرجت تلك النفوس من الأجسام كما يستخرج الدر من الصدف، والجنين من الرحم، والحب من الأكمام، والثمرة من القشرة، واستؤنف بها أمر آخر، كما يستأنف بالدر أمر آخر إذا رمي بالصدف وحصل الدر، وهكذا حكم الثمار والحب إذا أدركت ونضجت، فليس إلا الصرام والحصاد والرمي بقشورها وتحصيل لبها ويستأنف بها حكم آخر، وهذا حكم النفوس بعد مفارقة الأجسام يراد بها أمر آخر كما ذكر الله تعالى: @QUR027 أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون.
هكذا أيضا حكم نفوس الحيوانات بعد الذبح يستأنف بها أمر آخر، فلا تقدر يا أخي بأن غرض واضعي النواميس في تحليل ذبح البهائم في الهياكل عند القرابين إنما هو لأكل لحومها حسب، بل غرضهم تخليص نفوسها من دركات جهنم عالم الكون والفساد ونقلها من حال النقص إلى حال التمام والكمال في الصورة الإنسانية التي هي أتم وأكمل صورة تحت فلك القمر، وهذه الصورة هي آخر باب في جهنم عالم الكون والفساد، كما بينا في رسالة حكمة الموت.
فانظر الآن يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، وتفكر واعلم بأن جسمك صدف ونفسك درة ثمينة لا تغفل عنها، فإن لها قيمة عظيمة عند بارئها وخالقها، وقد بلغت آخر باب في جهنم، فإن بادرت وتزودت وسعيت وخرجت من هذا الباب الذي ظاهره من قبله العذاب، ودخلت من الباب الذي باطنه فيه الرحمة، ساجدا في صورة الملائكة؛ فقد أفلحت وفزت ونجوت.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن صورة الملائكة هي التي توفى نفسك عند مفارقة الجسد، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR011 قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن ملك الموت هو قابلة الأرواح وداية النفوس، كما أن الداية للأجسام هي قابلة الأطفال.
واعلم يا أخي بأن لكل نفس من المؤمنين أبوين في عالم الأرواح، كما أن لأجسادهم أبوين في عالم الأجساد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه: أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة، قال الله تعالى: @QUR06 ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين، وهذه الأبوة روحانية لا جسمانية.
فنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: إن الحكماء الموسيقاريين إنما اقتصروا من أوتار العود على أربعة لا أقل ولا أكثر؛ لتكون مصنوعاتهم مماثلة للأمور الطبيعية التي دون فلك القمر؛ اقتداء بحكمة الباري - جل ثناؤه - كما بينا في رسالة الأرثماطيقي، فوتر الزير مماثل لركن النار ونغمته مناسبة لحرارتها وحدتها، والمثنى مماثل لركن الهواء ونغمته مناسبة لرطوبة الهواء ولينه، والمثلث مماثل لركن الماء ونغمته مناسبة لرطوبة الماء وبرودته، والبم مماثل لركن الأرض ونغمته مماثلة لثقل الأرض وغلظها.
وهذه الأوصاف لها بحسب مناسبة بعضها إلى بعض وبحسب تأثيرات نغماتها في أمزجة طباع المستمعين لها؛ وذلك أن نغمة الزير تقوي خلط الصفراء، وتزيد في قوتها وتأثيرها وتضاد خلط البلغم وتلطفه، ونغمة المثنى تقوي خلط الدم وتزيد في قوته وتأثيره وتضاد خلط السوداء وترققه وتلينه، ونغمة المثلث تقوي خلط البلغم وتزيد في قوته وتأثيره وتضاد خلط الصفراء، وتكسر حدتها، ونغمة البم تقوي خلط السوداء وتزيد في قوتها وتأثيرها وتضاد خلط الدم وتسكن فورانه.
فإذا ألفت هذه النغمات في الألحان المشاكلة لها، واستعملت تلك الألحان في أوقات الليل والنهار المضادة طبيعتها طبيعة الأمراض الغالبة والعلل العارضة، سكنتها وكسرت سورتها، وخففت على المرضى آلامها؛ لأن الأشياء المتشاكلة في الطباع إذا كثرت واجتمعت قويت أفعالها، وظهرت تأثيراتها، وغلبت أضدادها كما يعرف الناس مثل ذلك في الحروب والخصومات.
فقد تبين بما ذكرنا طرف من حكمة الحكماء الموسيقيين المستعملين لها في المارستانات في الأوقات المضادة لطبيعة الأمراض والأغراض والأعلال، وهم اقتصروا على أربعة أوتار لا أكثر ولا أقل، فأما العلة التي من أجلها جعلوا غلظ كل وتر مثل غلظ الذي تحته ومثل ثلثه؛ فذلك منهم أيضا اقتداء بحكمة الباري - جل ثناؤه - واتباع لآثار صنعه في المصنوعات الطبيعية.
وذلك أن الحكماء الطبيعيين ذكروا أن أقطار أكر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، كل واحد منها مثل الذي تحته ومثل ثلثه في الكيفية؛ أعني: في اللطافة والغلظ، فقالوا: إن قطر كرة الأثير - أعني: كرة النار التي دون فلك القمر - مثل قطر كرة الزمهرير ومثل ثلثها، وقطر كرة الزمهرير مثل قطر كرة النسيم ومثل ثلثها، وقطر كرة النسيم مثل قطر كرة الماء ومثل ثلثها، وقطر كرة الماء مثل قطر كرة الأرض ومثل ثلثها.
ومعنى هذه النسبة أن جوهر النار في اللطافة مثل جوهر الهواء ومثل ثلثه، وجوهر الماء في اللطافة مثل جوهر الماء ومثل ثلثه، وجوهر الماء في اللطافة مثل جوهر الأرض ومثل ثلثها.
وأما علة شدهم الزير الذي هو مماثل لركن النار ونغمته مماثلة لحرارة النار وحدتها تحت الأوتار كلها، وشدهم البم المماثل لركن الأرض فوقها كلها، والمثنى مما يلي الزير، والمثلث مما يلي البم، فهي أيضا لعلتين اثنتين؛ إحداهما أن نغمة الزير حادة خفيفة تتحرك علوا، ونغمة البم غليظة ثقيلة تتحرك إلى أسفل، فيكون ذلك أمكن لمزاجهما واتحادهما، وكذلك حال المثنى والمثلث.
والعلة الأخرى: أن نسبة غلظ الزير إلى غلظ المثنى، والمثنى إلى المثلث، والمثلث إلى البم؛ كنسبة قطر الأرض إلى قطر كرة النسيم، وكرة النسيم إلى كرة الزمهرير، والزمهرير إلى الأثير، فهذا كان سبب شدهم لها على هذا الترتيب.
وأما استعمالهم نسبة الثمن في نغمة الأوتار دون الخمس والسدس والسبع وتفضيلهم إياها؛ فمن أجل أنها مشتقة من الثمانية، والثمانية هي أول عدد مكعب، وأيضا فإن الستة لما كانت أول عدد تام وكانت الأشكال ذوات السطوح الستة أفضلها، والمقدم عليها هو المكعب لما فيه من التساوي كما بينا في رسالة الجومطريا، وذلك أن طول هذا الشكل وعرضه وعمقه كلها متساوية، وله ستة سطوح مربعات كلها متساويات، وله ثماني زوايا مجسمة كلها متساوية، وله اثنا عشر ضلعا متوازية متساوية، وله أربع وعشرون زاوية قائمة متساوية، وهي من ضرب ثلاثة في ثمانية.
وقد قلنا: إن كل مصنوع كان التساوي فيه أكثر فهو أفضل، وليس بعد الشكل الكري شكل أكثر تساويا من الشكل المكعب، فمن أجل هذا قيل في كتاب إقليدس في المقالة الأخيرة: إن شكل الأرض بالمكعب أشبه، وشكل الفلك بذي اثنتي عشرة قاعدة مخمسات أشبه، وقد بينا في رسالة الأسطرنوميا فضيلة الشكل الكري والعدد الاثني عشر.
ومن فضيلة الثمانية ما ذكرته الحكماء الرياضيون بأن بين أقطار أكر الأفلاك وبين قطر الأرض والهواء نسبة موسيقية؛ وبيان ذلك أنه إذا كان نصف قطر الأرض ثمانية، وكان نصف قطر كرة الهواء تسعة؛ فإن قطر كرة فلك القمر اثنا عشر، وقطر فلك عطارد ثلاثة عشر، وقطر فلك الزهرة ستة عشر، وقطر فلك الشمس ثمانية عشر، وقطر فلك المريخ إحدى وعشرون ونصف، وقطر فلك المشتري أربعة وعشرون، وقطر فلك زحل سبعة وعشرون وأربعة أسباع، وقطر فلك الكواكب الثابتة اثنان وثلاثون.
فنسبة قطر فلك القمر من قطر الأرض مثله وثلث، ومن قطر الهواء المثل والربع، ونسبة قطر الزهرة من قطر الأرض نسبة الضعف، ومن قطر القمر المثل والثلث، ونسبة قطر الشمس من قطر الهواء الضعف، ومن قطر الأرض الضعفان والربع، ومن قطر القمر المثل والنصف، ونسبة قطر المشتري من قطر القمر الضعف، ومن قطر الأرض الثلاثة الأضعاف، ومن الزهرة المثل والنصف، ونسبة قطر فلك الكواكب الثابتة من قطر المشتري المثل والربع، ومن الزهرة الضعف، ومن الشمس المثل والثلاثة الأرباع، ومن القمر الضعفان والثلاثة الأرباع، ومن الأرض أربعة أضعاف.
وأما عطارد والمريخ وزحل فغير هذه النسبة ، فمن أجل هذا قيل: إنها نحوس، وذكر هؤلاء الحكماء أيضا أن بين عظم أجرام هذه الكواكب بعضها لبعض نسبا شتى، إما عددية وإما هندسية وإما موسيقية، وهكذا بينها وبين جرم الأرض هذه النسب أيضا موجودة، ولكن منها شريفة فاضلة ومنها دون ذلك، يطول شرحها.
فقد تبين بما ذكرنا أن جملة جسم العالم بجميع أفلاكه وأشخاص كواكبه وأركانها الأربعة وتركيب بعضها جوف بعض، مركبة ومؤلفة ومصنوعة وموضوعة بعضها من بعض على هذه النسب المذكورة المقدم ذكرها، وأن جملة جسم العالم يجري مجرى جسم حيوان واحد وإنسان واحد ومدينة واحدة، وأن مدبرها ومصورها ومركبها ومؤلفها ومبدعها ومخترعها واحد لا شريك له، وهذا كان أحد أغراضنا في هذه الرسالة.
ومن فضيلة الثمانية أيضا أنك إذا تأملت يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، وتصفحت الموجودات وعنصر الكائنات الفاسدات؛ وجدت موجودات كثيرة مثمنات كطبائع الأركان: الحار الرطب والبارد اليابس والبارد الرطب والحار اليابس ثمانية، وهي أصل الموجودات الطبيعية، وعنصر الكائنات الفاسدات.
وأيضا من فضيلة الثمانية أنك تجد مناظرات الكواكب إلى ثمانية مواضع في الفلك مخصوصة دون غيرها، وهي المركز والمقابلة والتثليثان والتربيعان والتسديسان، وهذه الثمانية هي أيضا أحد أسباب الكائنات الفاسدات التي دون فلك القمر، وإذا تأملت أيضا واعتبرت؛ وجدت الثمانية والعشرين حرفا التي في اللغة العربية المماثلة لثمان وعشرين منزلة من منازل القمر، هجاؤها ثمانية أحرف، وهي: «أ ل ف ي م ن د و». ومفاعيل أشعار العرب أيضا ثمانية أجزاء، وهي أجزاء العروض وأجناس ألحان غنائهم أيضا ثمانية - كما سنبين في فصل آخر.
وقد قيل: إن للجنان ثماني مراتب، وحملة العرش ثمانية والنيران سبعة أبواب، وقد بينا في رسالة البعث والقيامة حقيقتها، وعلى هذا القياس يا أخي إذا تأملت الموجودات وتصفحت أحوال الكائنات وجدت أشياء كثيرة ثنائيات وثلاثيات ورباعيات وخماسيات وسداسيات وسباعيات وثمانيات ومتسعات ومعشرات، وما زاد على ذلك بالغا ما بلغ.
وإنما أردنا بذكر المثمنات أن ننبهك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة؛ ولتعلم أن المسبعة الذين قد شغفوا بذكر المسبعات وتفضيلها على غيرها إنما كان نظرهم جزئيا وكلامهم غير كلي.
وكذلك حكم الثنوية في المثنويات والنصارى في تثليثهم والطبيعيين في مربعاتهم والحزمية في مخمساتهم والهند في مسدساتهم، والكيالية في متسعاتهم، وليس هذا مذهب إخواننا الكرام أيدهم الله وإيانا بروح منه؛ حيث كانوا في البلاد، بل نظرهم كلي وبحثهم عمومي وعلمهم جامع ومعرفتهم شاملة.
ولنعد الآن إلى ما كنا فيه فنقول: قد تبين إذن بما ذكرنا طرف من صفة العود وكمية أوتاره وتناسب ما بين غلاظها ودقاقها وكمية دساتينها وكيفية شدها وما بينها من التناسب وكمية نغمات نقرات أوتاره مطلقا ومزموما وما بينها من التناسب، فإن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات وأحسن المؤلفات ما كان تأليف أجزائه وهيئة تركيبه على النسبة الأفضل، ومن أجل هذا صارت الألحان تستلذها أكثر المسامع وتستحسن صفتها واستعمالها أكثر العقول، ويغنى بها في مجالس الملوك والرؤساء.
(8) فصل في أن إحكام الكلام صنعة من الصنائع
ومن المصنوعات المحكمة المتقنة أيضا صنعة الكلام والأقاويل، وذلك أن أحكم الكلام ما كان أبين وأبلغ، وأتقن البلاغات ما كان أفصح، وأحسن الفصاحة ما كان موزونا مقفى، وألذ الموزونات من الأشعار ما كان غير منزحف، والذي غير منزحف من الأشعار هو الذي حروفه الساكنة وأزمانها مناسبة لحروف متحركاتها وأزمانها، والمثال في ذلك: الطويل والمديد والبسيط؛ فإن كل واحد منها مركب من ثمانية مقاطع، وهي هذه: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن.
وهذه الثمانية مركبة من اثني عشر سببا وثمانية أوتاد؛ جملتها ثمانية وأربعون حرفا، عشرون منها سواكن، وثمانية وعشرون حرفا متحركات، والمصراع منه أربعة وعشرون حرفا، عشرة سواكن وأربعة عشر متحركات، ونصف المصراع الذي هو ربع البيت اثنا عشر حرفا، خمسة منها سواكن وسبعة متحركات، ونسبة سواكن حروف ربعه إلى متحركاته كنسبة سواكن حروف نصفه إلى متحركاته وكنسبة سواكن حروفه كلها إلى متحركاته كلها.
وهكذا تجد حكم الوافر والكامل، فإن كل واحد منهما مركب من ستة مقاطع، وهي هذه: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن ست مرات، ونسبة سواكن حروف ثلث البيت إلى حروف متحركاته كنسبة حروف سواكن نصفه إلى متحركاته، وكنسبة سواكن كله إلى متحركات كله، وعلى هذا المثال والحكم يوجد كل بيت من الأشعار إذا سلم من الزحاف منصفا كان أو مربعا أو مسدسا، وكذلك حكم الأزمان التي بينها، وهذه صورتها: فعولن مفاعيلن «ه ه ا ه ا ه ه ا ه اه ا» الهاءات علامة المتحركات والألفات علامة السواكن.
فقد تبين بهذا المثال أيضا أن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات ما كان تأليف أجزائه وأساس بنيته على النسبة الأفضل، ومن أمثال ذلك أيضا صناعة الكتابة التي هي أشرف الصنائع، وبها يفتخر الوزراء والكتاب وأهل الأدب في مجالس الملوك، مع كثرة أنواعها وفنون فروعها، وذلك أن لكل أمة من الأمم كتابة غير ما للأخرى، كالعربية والفارسية والسريانية والقبطية والعبرانية واليونانية والهندية وما شاكلها، لا يحصي عددها إلا الله - عز وجل - الذي خلقهم مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأخلاقهم وطبائعهم وصناعاتهم وعلومهم ومعارفهم؛ كل ذلك لسعة علمه ونفاذ مشيئته وإتقان حكمته - سبحانه وتعالى.
ونريد أن نذكر في هذا الفصل أصل الحروف وكيفية ترتيبها وكمية مقاديرها ونسب تأليفها الفاضلة بينها، فنقول: إن أصل حروف الكتابات كلها في أي لغة وضعت، ولأي أمة كانت، وبأي أقلام كتبت وخطت، أو بأي نقش صورت، وإن كثرت فإن أصلها كلها هو الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيط الدائرة، فأما سائر الحروف فمركبة منهما ومؤلفة، كما بينا في رسالة الجومطريا شبه المدخل إلى صناعة الهندسة، ونبين مثالا لما ذكرنا من الحروف التي في الكتابة العربية؛ ليكون دليلا على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، من أن أصل الحروف كلها هو الخط المستقيم والخط المقوس اللذان أحدهما قطر الدائرة والآخر محيطها، وهي هذه: أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن ه و لا ي.
فانظر الآن واعتبر وتأمل يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه؛ فإنك تجد هذه الحروف بعضها خطا مستقيما مثل هذا: أ ب ت ث، وبعضها مقوسا مثل هذا: د ذ ر ز، وبعضها مركبا منهما مثل سائر الحروف، وعلى هذا المثال والقياس توجد حروف كتابات سائر الأمم مثل الهندية، فإنها هكذا: 1 2 3 4 5 6 7 8 9، وكذلك السريانية والعبرانية واليونانية والرومية، فإن لكل منها اصطلاحا في أشكال الحروف وصورها لا يخرج عما قلنا.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن أصل الحروف والكتابات كلها هو الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيطها؛ فنريد أن نبين أيضا أن أجود الخطوط وأصح الكتابات وأحسن المؤلفات ما كان مقادير حروفها بعضها من بعض على النسبة الأفضل، فلنذكر أولا ما قاله أهل هذه الصناعة، أعني: صناعة الكتابة؛ ليكون أقوى وأصح للحجة وأوضح للبيان وأرشد إلى القياس والقانون.
قال المحرر الحاذق المهندس: ينبغي لمن يريد أن يكون خطه جيدا وكتابته صحيحة أن يجعل لها أصلا يبني عليه حروفه وقانونا يقيس عليه خطوطه، والمثال في ذلك في كتابة العربية هو أن يخط الألف أولا بأي قدر شاء ويجعل غلظه مناسبا لطوله، وهو الثمن وأسفله أدق من أعلاه، ثم يجعل الألف قطر الدائرة، ثم يبني سائر الحروف مناسبا لطول الألف ولمحيط الدائرة التي الألف مساو لقطرها، وهو أن يجعل الباء والتاء والثاء كل واحد منها طوله مساو لطول الألف، وتكون رءوسها إلى فوق الثمن مثل هذا: أ ب ت ث، ثم يجعل الجيم والحاء والخاء كل واحد منها مدته من فوق نصف الألف، وتقويسه إلى أسفل نصف محيط الدائرة التي الألف مساو لقطرها مثل هذا: ج ح خ.
ثم يجعل الدال والذال كل واحد منهما مثل طول الألف إذا قوس؛ مثل هذا: د ذ، ثم يجعل الراء والزاي كل واحد منهما كمثل ربع محيط الدائرة التي الألف قطرها، ثم يجعل السين والشين كل واحد منهما رءوسها إلى فوق ثمن الألف، ومدتها إلى أسفل نصف محيط الدائرة مثل هذا: س ش، ثم يجعل الصاد والضاد مدة طول كل واحد منهما إلى قدام مثل طول الألف وفتحتها مثل ثمن الألف ومدتها إلى أسفل مثل نصف الدائرة المقدم ذكرها مثل هذا: ص ض؛ ويجعل الطاء والظاء كل واحد منهما طوله مثل طول الألف وفتحتها مثل ثمن الألف، ورءوسها إلى فوق بطول الألف مثل هذا: ط ظ، ثم يجعل العين والغين كل واحد منهما تقويسه من فوق ربع محيط تلك الدائرة وتقويسه من أسفل نصف محيطها، مثل هذا: ع غ.
ثم يجعل مدة الفاء إلى قدام مثل طول الألف، وفتحته ثمن الألف وحلقته وحلقة القاف والواو والميم والهاء كلها متساوية مثل ثلث الألف إذا دور مثل هذا: ف ق و م ه، ويجعل مدة القاف إلى أسفل مثل نصف محيط تلك الدائرة مثل هذا: ق، ثم يجعل مدة الكاف إلى قدام مثل طول الألف، وفتحته مثل ثمن الألف، وكسرته إلى فوق ربع الألف مثل هذا: ك، ثم يجعل طول اللام مثل الألف، ومدته إلى قدام نصف الألف، مثل هذا: ل، ثم يجعل مدة الميم والواو كل واحد منهما إلى أسفل مثل تقويس الراء والزاي مثل هذا: م و.
ثم يجعل تقويس النون مثل نصف محيط تلك الدائرة التي الألف مساو لقطرها مثل هذا: ن، ثم يجعل الياء مثل الدال ومدته إلى خلف مثل طول الألف أو تقويسه إلى أسفل مثل نصف محيط الدائرة مثل هذا: ي، وهذا الذي ذكرناه من نسب هذه الحروف وكمية مقاديرها طولا وعرضا بعضها عند بعض، فهو شيء توجبه قوانين الهندسة والنسب الفاضلة.
وأما ما يتعارفه الناس ويستحسنه الكتاب فعلى غير ما ذكرنا من المقادير والنسب، وذلك بحسب موضوعاتهم ومرضياتهم واختياراتهم دون غيرها، وبحسب طول الدربة وجريان العادة فيها؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا ماهية النسب الفاضلة ومقادير الحروف وكمية أطوالها؛ فنريد أن نذكر ها هنا أيضا طرفا من كيفية صورها وتخطيط أشكالها وكيفية تركيبها بعضها مع بعض على ما يوجبه القياس والقانون بطريق الهندسة.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن صور حروف الكتابات كثيرة الفنون مختلفة الأنواع، كما تقدم ذكرها ، وهي بحسب موضوعات الحكماء من الكتاب واختياراتهم لها وتواطئهم عليها يطول ذكر علة ذلك وشرحه، ولكن نذكر قولا مجملا مختصرا في ثلاث كلمان بحسب ما توجبه قوانين الهندسة والقياسات الفلسفية، كما أوصى المحرر الحاذق المهندس، فقال: ينبغي أن تكون صور الحروف كلها لأي أمة كانت، في أي لغة كانت، وبأي أقلام خطت إلى التقويس والانحناء ما هو الألف التي في كتابة العربية وأن يكون غلظ الحروف إلى الانخراط ما هو وأن يكون عند التركيب الزوايا كلها حادة وإلى التدوير ما هو، فهذا ما قاله أهل الصناعة في تقدير هذه الحروف ومناسباتها مفردة مفردة، فأما عند التركيب والتأليف فربما تختلف وتتغير لعلل يطول شرحها، ولكن على المحرر يجب عند تعليمه للخط التوقيف عليها.
فقد تبين إذن بما ذكرنا أن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات وأحسن المؤلفات ما كان تركيب بنيته وتأليف أجزائه على النسبة الأفضل، والنسب الفاضلة هي المثل، والمثل والنصف، والمثل والثلث، والمثل والربع، والمثل والثمن - كما قد بينا قبل - ومن أمثال ذلك أيضا صورة الإنسان وبنية هيكله، وذلك أن الباري - جل جلاله - جعل طول قامته مناسبا لعرض جثته، وعرض جثته مناسبا لعنق تجويفه، وطول ذراعيه مناسبا لطول ساقيه، وطول عضديه مناسبا لطول فخذيه، وطول رقبته مناسبا لطول عمود ظهره، وكبر رأسه مناسبا لكبر جثته، واستدارة وجهه مناسبة لسعة صدره، وشكل عينيه مناسبا لشكل فمه، وطول أنفه مناسبا لعرض جبينه، وقدر أذنيه مناسبا لمقدار خديه، وطول أصابع يديه مناسبا لأصابع رجليه، وطول أمعائه مناسبا لطول أوردته، وتجويف معدته مناسبا لكبر كبده، ومقدار قلبه مناسبا لكبر رئته.
وشكل طحاله مناسبا لشكل كبده، وسعة حلقومه مناسبة لكبر رئته، وطول أعضائه وغلظها مناسبا لكبر عظامه، وطول أضلاعه وتقويسها مناسبا لصندوق صدره، وطول عروقه وسعتها مناسبا لبعد مسافة أقطار جسده، وعلى هذا المثال إذا تأملت واعتبرت كل عضو من أعضاء بدن الإنسان؛ وجدته مناسبا لجملة جثته نسبة ما ومناسبا لعضو عضو من أعضاء الجسد نسبة أخرى، لا يعلم كنه معرفتها إلا الله - جل ثناؤه - الذي خلقها وصورها كما شاء كيف يشاء، كما ذكر بقوله - جل ثناؤه: @QUR06 لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وقال: @QUR010 خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك.
(9) فصل في تناسب الأعضاء على الأصول الموسيقية
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النطفة إذا سلمت في الرحم من الآفات العارضة هناك ومن فساد الأخلاط وتغير المزاج ومناحس أشكال الفلك عند مسقط النقطة وعند المبادئ شهرا بشهر وتمت بنية البدن، وكملت صورة الجسد، كما بينا في رسالة لنا، خرج الطفل من الرحم صحيح البنية تام الصورة، فكان طول قامته ثمانية أشبار بشبره سواء، فمن رأس ركبتيه إلى أسفل قدميه شبران، ومن رأس ركبتيه إلى حقويه شبران، ومن حقويه إلى رأس فؤاده شبران، ومن رأس فؤاده إلى مفرق رأسه شبران.
وإذا فتح يديه ومدهما يمنة ويسرة كما يفتح الطائر جناحيه وجد ما بين رأس أصابع يده اليمنى إلى رأس أصابع يده اليسرى ثمانية أشبار؛ النصف من ذلك عند ترقوته والربع عند مرفقيه، وإذا مد يديه إلى فوق رأسه ووضع رأس البركار على سرته وفتح إلى رءوس أصابع يديه، ثم أدبر إلى رءوس أصابع رجليه كان البعد بينهما مساويا عشرة أشبار بزيادة ربع طول قامته، ويوجد طول وجهه من رأس ذقنه إلى منبت الشعر فوق جبينه شبرا وثمنا، ويوجد البعد ما بين أذنه شبرا وربعا ويوجد طول أنفه ربع شبره، ويوجد طول شق عينيه كل واحد ربع ثمن شبره، وطول جبينه ثلث طول وجهه.
ويوجد شق فمه وشفتيه كل واحد مساويا لطول أنفه، وطول قدميه كل واحد شبر وربع شبر، وطول كفيه من رأس الكرسوع إلى رأس الإصبع الوسطى شبرا، ويوجد طول إبهامه وطول خنصره متساويين، ورأس البنصر زائدا على رأس الخنصر ثمن شبره، وكذلك زيادة الوسطى على البنصر وكذلك السبابة، ويوجد عرض صدره شبرا ونصفا وبعد ما بين ثدييه شبرا، وما بين سرته إلى عانته شبرا، ومن رأس فؤاده إلى رأس ترقوته شبرا، ويوجد البعد ما بين منكبيه شبرين .
وعلى هذا المثال والقياس يوجد إذا اعتبر طول أمعائه ومصارين جوفه وعروق جسده والعصبات الممسكات لعظامه وأوتار مفاصله متناسبات بعضها إلى بعض طولا وعرضا وعمقا مثل ما ذكرنا من مناسبات مقادير أعضائه الظاهرة، وعلى هذا القياس والمثال يوجد بنية أبدان سائر الحيوانات مناسبة أعضاء صورة كل نوع منها لجملة بدنه، أو بعضها إلى بعض مناسبة إما بالكيفية وإما بالكمية وإما بهما جميعا، لا تخل شيئا إذا سلمت من الآفات العارضة عند الابتداء وعند النشوء من فساد الأخلاط وتغيير المزاج ومناحس أشكال الفلك.
وعلى هذا المثال والقياس يعمل الصناع الحذاق مصنوعاتهم من الأشكال والتماثيل والصور مناسبات بعضها لبعض في التركيب والتأليف والهندام؛ كل ذلك اقتداء بصنعة الباري تعالت قدرته، وتشبه بحكمته، كما قيل في حد الفلسفة: إنها هي التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
(10) فصل في حقيقة نغمات الأفلاك
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن في اعتبار هذه المقالات التي تقدم ذكرها في هذه الفصول الدالة على أن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات، وأحسن التأليفات هو ما كان تركيب بنيته على النسبة الأفضل، وتأليف أجزائه على مثل ذلك دليل وقياس لكل عاقل متفكر معتبر، على أن تركيب الأفلاك وكواكبها ومقادير أجرامها ومقادير الأركان ومولداتها موضوعة بعضها على بعض على النسبة الأفضل.
وهكذا أبعاد هذه الأفلاك وكواكبها وحركاتها؛ متناسبات على النسبة الأفضل، وأن لتلك الحركات المتناسبة نغمات متناسبات مطربات متوازنات لذيذات، كما بينا في حركات أوتار العيدان ونغماتها، فإذا تفكر ذو اللب واعتبر؛ تبين له عند ذلك وعلم بأن لها صانعا حكيما صنعها ومركبا حاذقا ركبها ومؤلفا لطيفا ألفها وتيقن بذلك، فتزول الشبهة المموهة التي دخلت على قلوب كثير من المرتابين وترتفع الشكوك ويتضح الحق ويعلم أيضا ويتبين له أن في حركات تلك الأشخاص ونغمات تلك الحركات لذة وسرورا لأهلها مثل ما في نغمات أوتار العيدان لذة وسرورا لأهلها في هذا العالم، فعند ذلك تشوقت نفسه إلى الصعود إلى هناك والاستماع لها والنظر إليها كما صعدت نفس هرمس الثالث بالحكمة لما صفت ورأت ذلك، وهو إدريس النبي - عليه السلام - وإليه أشار بقوله تعالى: @QUR03 ورفعناه مكانا عليا، وكما سمعته نفس فيثاغورس الحكيم لما صفت من درن الشهوات الجسمانية ولطفت بالأفكار الدائمة وبالرياضات العددية والهندسية والموسيقية.
فاجتهد يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، في تصفية نفسك وتخليصها من بحر الهيولى وأسر الطبيعة وعبودية الشهوات الجسمانية، وافعل كما فعلت الحكماء، ووضعت في كتبها، فإن جوهر نفسك من جوهر نفوسهم، واعمل كما وصفنا في كتاب الأنبياء - عليهم السلام - وصف نفسك من الأخلاق الرديئة والآراء الفاسدة والجهالات المتراكمة والأفعال السيئة؛ فإن هذه الخصال هي المانعة لها عن الصعود إلى هناك بعد الموت كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR014 لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن جوهر نفسك من الأفلاك نزل يوم مسقط النطفة - كما بينا في رسالة لنا - وإلى السماء يكون مصيرها بعد الموت الذي هو مفارقة الجسد، كما أن من التراب يكون جسدك، وإلى التراب يكون جسدك بعد الموت.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن هذه الحياة الدنيا للنفوس المتجسدة إلى وقت المفارقة التي هي الموت مماثلة لمدة كون الجنين في الرحم من يوم مسقط النطفة إلى يوم الولادة.
واعلم يا أخي أن الموت ليس شيئا سوى مفارقة النفس الجسد، كما أن الولادة ليست شيئا سوى مفارقة الجنين الرحم، وقال المسيح - عليه السلام: من لم يولد ولادتين لم يصعد إلى ملكوت السماء، وقال - جل ثناؤه - في صفة أهل الجنة: @QUR07 لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وهو مفارقة النفس الجسد مرة واحدة على الشريطة التي تقدم ذكرها، وهم السعداء الذين أشار إليهم بقوله: @QUR018 وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق، فأما الأشقياء فهم الذين يتمنون العود إلى الدنيا والتعلق بالأجساد مرة أخرى ويذوقون الموت مرة أخرى، كما ذكر الله تعالى حكاية عنهم: @QUR013 قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل أعاذك الله أيها الأخ من حال هذه الطائفة وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد إنه لطيف بالعباد، فلنرجع إلى ما كنا فيه، وقد وعدنا به من ذكر قوانين الألحان العربية، فنقول:
إن اللغة العربية وألحانها ثمانية قوانين هي كالأجناس لها، ومنها يتفرع سائرها، وإليها ينسب باقيها، كما أن لأشعارها ثمانية مقاطع، منها يتركب سائر دوائر العروض وأنواعها، وإليها ينسب وعليها يقاس باقيها كما هو مذكور في كتب العروض بشرحها.
وأما الثمانية التي هي قوانين غناء العربية، فأولها الثقيل الأول ثم خفيف الثقيل ثم الثقيل الثاني ثم خفيفه، ثم الرمل ثم خفيف الرمل ثم خفيف الخفيف ثم الهزج، فهذه الثمانية هي كالأجناس وسائرها كالأنواع المتفرعة منها المنسوبة إليها، فأما الثقيل الأول فهو تسع نقرات، ثلاث منها متواليات وواحدة مفردة ثقيلة ساكنة، ثم خمس نقرات، واحدة مطوية في أولها مثل قولك: مفعولن مف مفاعيلن، مف تن تن تن تن تن تن تن تن، ثم يعود الإيقاع ويكرر دائما إلى أن يسكت الموسيقار.
وأما الثقيل الثاني فهو إحدى عشرة نقرة، ثلاث نقرات متواليات، ثم واحدة ساكنة، ثم واحدة ثقيلة، ثم ست نقرات في أولها واحدة مطوية، مثل قولك: مفعولن مفعو مفاعيلن مفعو تن تن تن تن تن تن تن تن تن تن، ثم يعود الإيقاع ثانيا دائما.
وأما خفيف الثقيل الأول فهو سبع نقرات، نقرتان منها متواليتان، لا يكون بينهما زمان، نقرة ثم نقرة مفردة ثقيلة، ثم أربع نقرات، واحدة مطوية في أولها، مثل قولك: مفاعل مفاعيلن تنن تن تنن تن، ثم يعود الإيقاع ويكرر إلى أن يسكت المغني، وأهل زماننا يسمون هذا اللحن الماخوري، وهو مثال صياح الفاختات ككو كو كككو كو.
وأما خفيف الثقيل الثاني فهو ثلاث نقرات متواليات لا يكون بينها زمان نقرة، ولكن بين كل ثلاث نقرات وثلاث نقرات زمان نقرة، مثل قولك: فعلن فعلن تكرر دائما تننن تننن إلى أن يسكت المغني.
وأما الرمل فهو عكس الماخوري ، وذلك أنه سبع نقرات مثله، ولكن أوله نقرة مفردة ثقيلة، ثم نقرتان متواليتان لا يكون بينهما زمان نقرة، ثم أربع نقرات كل اثنتين منها متواليتان، لا يكون بينهما زمان نقرة مثل قولك: فاعلن مفاعلن مثل صياح القباج تن تنن تنن كي ككي ككي ككي، وأما خفيف الرمل فهو ثلاث نقرات متواليات متحركات مثل قولك: متفاعلتن تننن تننن.
وأما خفيف الخفيف فهو نقرتان متواليتان لا يكون بينهما زمان نقرة، ولكن بين كل نقرتين ونقرتين زمان نقرة مثل قولك: مفاعلن مفاعلن تنن تنن تنن تنن، وأما الهزج فهو نقرة مسكنة ونقرة أخرى أخف منها، بينهما زمان نقرة، وبين كل اثنتين زمان نقرتين مثل قولك: فاعل فاعل.
فهذه الثمانية الأجناس التي قلنا: إنها أصل وقوانين لغناء العرب وألحانها، وأما غير العربية كالفارسية والرومية واليونانية فلألحانها وغنائها قوانين أخر غير هذه، ولكنها كلها مع كثرة أجناسها وفنون أنواعها؛ ليست تخرج من الأصل والقانون الذي ذكرناه قبل هذا الفصل، وإذا تأملت يا أخي، أيدك الله وإيانا؛ وجدت صحة ما قلنا وعرفت حقيقة ما وصفنا.
(11) فصل في ذكر المربعات
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله تعالى جعل بواجب حكمته الأشياء الطبيعية التي تحت الكون والفساد وأسبابها وعللها الموجبة؛ لكونها أكثرها مربعات بعضها متضادات وبعضها متشاكلات، لما فيها من إحكام الصنعة وإتقان الحكمة، لا يعلم أحد من خلقه كنه معرفتها إلا هو الذي أبدعها واخترعها وأوجدها وركبها وألفها كما شاء كيف شاء.
ونريد أن نذكر طرفا من تلك الأشياء المربعات المتضادات والمتشاكلات؛ ليكون تنبيها لنفوس الغافلين عن النظر فيها، وحثا لهم على التفكر بها والاعتبار لها وتسهيلا لنفوس الباحثين عن معرفة عللها والطالبين ما الحكمة فيها.
فمن الأمور المربعات الظاهرات البينات: الأزمان الأربعة، التي هي فصول السنة، وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء، والذي يشاكل الربيع من البروج من أول الحمل إلى آخر الجوزاء، والذي يشاكلها من أرباع الفلك الربع الشرقي الصاعد إلى وتد السماء، والذي يشاكلها من الشهر الرابع الأول، سبعة أيام من أول الشهر ، والذي يشاكلها من اتصالات الكواكب التربيع الأيسر، ومن الأركان الأربعة ركن الهواء.
ومن الطبائع الحرارة والرطوبة، ومن الجهات الجنوب، ومن الرياح التيمي، ومن أرباع اليوم الست ساعات الأولى، ومن أخلاط المزاج الدم، ومن أرباع العمر أيام الصبا، ومن القوى الطبيعية القوة الهاضمة، ومن القوى الحيوانية القوة المتخيلة.
ومن الأفعال الظاهرة الفرح والسرور والطرب، ومن الأخلاق الجود والكرم والعدل، ومن المحسوسات المشاكلات لهذه أيضا وتر المثنى ونغماته، ومن الألحان الترنم، ومن الكلام والأشعار المديح، ومن الطعوم الحلاوات، ومن الألوان ما اعتدلت أصباغه كالمنثور، ومن الروائح الغالية البنفسج والمرزنجوش وما شاكلها من الروائح الحارة اللينة، وبالجملة كل طعم ورائحة ولون معتدل.
والذي شاكل زمان الصيف من أرباع الفلك الربع الهابط من وتد السماء إلى وتد المغرب، ومن البروج من أول السرطان إلى آخر السنبلة، ومن أرباع الشهر الربع الثاني سبعة أيام، ومن الاتصالات ما جاوز التربيع الأيسر إلى المقابلة، ومن الأركان ركن النار، ومن الطبائع الحرارة واليبس، ومن الجهات الشرق، ومن الرياح الصبا، ومن أرباع اليوم ست ساعات إلى آخر النهار، ومن الأخلاط المرة الصفراء، ومن أرباع العمر أيام الشباب، ومن القوى الطبيعية القوة الجاذبة، ومن القوى الحيوانية القوة المفكرة، ومن الأخلاق الباطنة الشجاعة والسخاء، ومن الأفعال الظاهرة سرعة الحركة والقوة والجلد.
ومن المحسوسات المقوية لها مثل نغمات وتر الزير، ومن الألحان الماخوري وما شاكله، ومن الكلام الأشعار وما شاكلها من مديح الفرسان والشجعان، ومن الطعوم الحريفات، ومن الألوان الصفرة والحمرة، ومن الروائح المسك والياسمين وما شاكلهما، وبالجملة كل طعم ولون ورائحة حارة يابسة، والذي شاكل زمان الخريف من أرباع الفلك الربع الهابط من وتد المغرب إلى وتد الأرض، ومن البروج من أول الميزان إلى آخر القوس.
ومن أرباع الشهر الربع الثالث السبعة الأيام بعد النصف، ومن الاتصالات بعد المقابلة إلى التربيع الأيمن، ومن الأركان ركن الأرض، ومن الطبائع البرودة واليبوسة، ومن الجهات المغرب، ومن الرياح الدبور، ومن أرباع اليوم ست ساعات من أول الليل، ومن الأخلاط المرة السوداء، ومن أرباع العمر أيام الكهولة.
ومن القوى الطبيعية القوة الماسكة، ومن القوى الحيوانية القوة الحافظة، ومن الأخلاق العفة، ومن الأفعال الظاهرة التأني والتثبت، ومن المحسوسات المشاكلة لها نغمات المثلث، ومن الألحان الثقيل وما شاكله، ومن الكلام المديح وما كان في وصف العقل والرزانة والزكانة والحصافة، ومن الطعوم الحموضات، ومن الألوان السواد الغبرة وما شاكلهما، ومن الروائح رائحة الورد والعود وما شاكلهما من الروائح الباردة اليابسة.
والذي شاكل زمان الشتاء من أرباع الفلك الربع الصاعد من وتد الأرض إلى أفق المشرق، ومن البروج من أول الجدي إلى آخر الحوت، ومن أرباع الشهر الربع الأخير سبعة أيام، ومن الاتصالات التربيع الأيمن، ومن الأركان ركن الماء، ومن الطبائع البرودة والرطوبة، ومن الجهات الشمال، ومن الرياح الجرباء، ومن أرباع اليوم النصف الأخير من الليل، ومن أخلاط المزاج البلغم، ومن القوى الطبيعية القوة الدافعة، ومن القوى الحيوانية القوة المذكرة.
ومن الأخلاق الحلم والتجاوز، ومن الأفعال الظاهرة السهولة في المعاملة وحسن المعاشرة، ومن المحسوسات المشاكلة له أيضا نغمات وتر البم، ومن الألحان الهزج والرمل، ومن الكلام والأشعار ما كان مديحا في الجود والكرم والعدل وحسن الخلق، ومن الطعوم الدسومات والعذوبات، ومن الألوان الخضرة، ومن الروائح النرجس والنيلوفر وما شاكلهما. وبالجملة: كل لون أو طعم أو رائحة باردة رطبة.
وعلى هذا المثال والقياس إذا تصفحت يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أحوال الموجودات الطبيعيات واعتبرت أنواع الكائنات المحسوسات؛ وجدت كلها داخلة في هذه الأقسام الأربعة، مشاكلات بعضها لبعض، أو مضادات بعضها لبعض، كما ذكر الله بقوله جل ثناؤه: ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين، وقوله عز وجل: @QUR011 خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون.
واعلم يا أخي بأن هذه الأشياء المتشاكلة إذا جمع بينها على النسبة التأليفية ائتلفت وتضاعفت قواها، وظهرت أفعالها، وغلبت أضدادها، وقهرت ما يخالفها، وبمعرفتها استخرجت الحكماء الأدوية المبرئة من الأمراض، الشافية للأسقام مثل الترياقات والمراهم والشرابات المعروفة بين الأطباء، الموصوفة في كتبهم.
وعلى مثل ذلك عمل أصحاب الطلسمات بعد معرفتهم بطبائع الأشياء وخواصها ومشاكلتها وكيفية تركيبها ونسب تأليفها، والمثال في ذلك الشكل المتسع في تسهيل الولادة إذا كتب فيه الأعداد التسعة في الشهر التاسع من الحمل في الساعة التاسعة من الطلق، ويكون رب الطالع في التاسع، أو رب التاسع في الطالع، أو يكون القمر التاسع أو متصلا بكوكب منه في التاسع، وما شاكل ذلك من المتسعات.
(12) فصل في الانتقال من طبقات الألحان
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله - جل جلاله - جعل بواجب حكمته لكل جنس من الموجودات حاسة مختصة بإدراكها، وقوة من قوى النفس تنالها بها وتعرفها بطريقها، لا تنال بطريقة أخرى، وجعل أيضا في جبلة كل حاسة دراكة أو قوة علامة أن تستلذ من إدراك محسوساتها، وتتشوق إليها إذا فقدتها وملت منها إذا دامت عليها وتستروح إلى غيرها من أبناء جنسها، مثل ما هو معروف بين الناس في مأكولاتهم ومشروباتهم وملبوساتهم ومشموماتهم ومبصراتهم ومسموعاتهم، فالموسيقار الحاذق الفاره هو الذي إذا علم بأن المستمعين قد ملوا من لحن غنى لهم لحنا آخر، إما مضادا له أو مشاكلا له.
واعلم يا أخي أن الخروج من لحن إلى لحن، والانتقال منه ليس له طريق إلا على أحد الوجهين، إما أن يقطع ويسكت ويصلح الدساتين والأوتار بالحزق والإرخاء ويبتدئ ويستأنف لحنا آخر أو يترك الأمر بحاله ويخرج من ذلك اللحن إلى لحن آخر قريب منه مشاكل له، وهو أن ينتقل من الثقيل إلى خفيفه، أو من الخفيف إلى ثقيله أو إلى ما قارب منه، والمثال في ذلك أنه إذا أراد أن ينتقل من خفيف الرمل إلى الماخوري أن يقف عند النقرتين الأخيرتين من ثقيل الرمل ثم يتلوهما بنقرة، ثم يقف وقفة خفيفة، ثم يبتدئ بالماخوري.
ومن حذق الموسيقار أيضا أن يكسو الأشعار المفرحة الألحان المشاكلة لها، مثل الأرمال والأهزاج، وما كان منها من المديح في معاني المجد والجود والكرم أن يكسوها من الألحان المشاكلة لها مثل الثقيل الأول والثاني، وما كان في المديح من معاني الشجاعة والإقدام والنشاط والحركة أن يكسوها من الألحان مثل الماخوري والخفيف وما يشاكلها.
ومن حذق الموسيقار أيضا أن يستعمل الألحان المشاكلة للأزمان في الأحوال المشاكلة بعضها لبعض، وهو أن يبتدئ في مجالس الدعوات والولائم والشرب بالألحان التي تقوم الأخلاق والجود والكرم والسخاء، مثل ثقيل الأول وما شاكلها، ثم يتبعها بالألحان المفرحة المطربة، مثل الهزج والرمل، وعند الرقص والدستبند الماخوري وما شاكله، وفي آخر المجلس إن خاف من السكارى الشغب والعربدة والخصومة أن يستعمل الألحان الملينة المنومة الحزينة.
(13) فصل في نوادر الفلاسفة في الموسيقى
يقال: إنه اجتمعت جماعة من الحكماء والفلاسفة في دعوة ملك من الملوك فأمر أن يكتب كل ما يتكلمون به من الحكمة، فلما غنى الموسيقار لحنا مطربا، قال أحد الحكماء: إن للغناء فضيلة يتعذر على المنطق إظهارها، ولم يقدر على إخراجها بالعبارة فأخرجها النفس لحنا موزونا، فلما سمعتها الطبيعة استلذتها وفرحت وسرت بها، فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها ودعوا الطبيعة والتأمل لزينتها لا تغرنكم، وقال آخر: احذروا عند استماع الموسيقى أن تثور بكم شهوات النفس البهيمية نحو زينة الطبيعة فتميل بكم عن سنن الهدى وتصدكم عن مناجاة النفس العليا.
وقال آخر للموسيقار: حرك النفس نحو قواها الشريفة من الحلم والجود والشجاعة والعدل والكرم والرأفة، ودع الطبيعة لا تحرك شهواتها البهيمية.
وقال آخر: الموسيقار إذا كان حاذقا بصنعته حرك النفوس نحو الفضائل، ونفى عنها الرذائل.
وقال آخر: إنه سمع فيلسوف نغمة القينات، فقال لتلميذه: امض بنا نحو هذا الموسيقار؛ لعله يفيدنا صورة شريفة، فلما قرب منه سمع لحنا غير موزون ونغمة غير طيبة، فقال لتلميذه: زعم أهل الكهانة أن صوت البوم يدل على موت إنسان، فإن كان ما قالوا صدقا، فصوت هذا الموسيقار يدل على موت البوم.
وقال آخر: الموسيقار وإن كان ليس بحيوان فهو ناطق فصيح يخبر عن أسرار النفوس وضمائر القلوب، ولكن كل كلامه أعجمي يحتاج إلى الترجمان؛ لأن ألفاظه بسيطة ليس لها حروف معجمة، وقد أنشدت أبيات بالفارسية تدل على تصديق قول هذا الفيلسوف، وهي هذه:
وقت شب كيرنانك ناله زير
خوشتر أيد بكوشم أزتكير زاري زير وأين مدار شكفت
كرزوشت أندراورد نخجير تن أوتيرنه زمان بزمان
بدل اندرهمي كذازد شير كان كريان وكه تبالدزار
بامداد أن وروزتا شبكير إن زبان أوري زباتش نه
خبر عاشقان كند تفسير كان ديوانه راكند هشيار
كه بهشيار برنهد زنجير
وقال آخر: أصوات الموسيقار ونغماته - وإن كانت بسيطة - ليس لها حروف معجم، فإن النفوس إليها أشد ميلا ولها أسرع قبولا لمشاكلة ما بينهما؛ وذلك أن النفوس أيضا جواهر بسيطة روحانية غير مركبة ونغمات الموسيقار كذلك والأشياء إلى أشكالها أميل، وقال آخر: إن الموسيقار هو الترجمان عن الموسيقى والمعبر عنه، فإن كان جيد العبارة عن المعاني أفهم أسرار النفوس وأخبر عن ضمائر القلوب وإلا فالتقصير منه يكون.
وقال آخر: لا يفهم معاني الموسيقار، ولطيف عبارته عن أسرار الغيوب إلا النفوس الشريفة الصافية، والبريئة من الشوائب الطبيعية، والبريئة من الشهوات البهيمية.
وقال آخر: إن الباري - جل ثناؤه - لما ربط النفوس الجزئية بالأجساد الحيوانية ركب في جبلتها الشهوات الجسمية، ومكنها من تناول اللذات الجرمانية في أيام الصبا، ثم سلبها عنها في أيام الشيخوخة وزهدها فيها كما يدلها على الملاذ والسرور والنعيم الذي في عالمها الروحاني، ويرغبها فيها، فإذا سمعتم نغمات الموسيقار فتأملوا إشاراته نحو عالم النفوس.
وقال آخر: إن النفوس الناطقة إذا صفت عن الشهوات الجسمانية، وزهدت في الملاذ الطبيعية، وانجلت عنها الأصدية الهيولانية؛ ترنمت بالألحان الحزينة، وتذكرت عالمها الروحاني الشريف العالي، وتشوقت نحوه، فإذا سمعت الطبيعة ذلك اللحن تعرضت للنفس بزينة أشكالها ورونق أصباغها كيما ترد إليها، فاحذروا من مكر الطبيعة أن لا تقعوا في شبكتها، وقال آخر: إن السمع والبصر هما من أفضل الحواس الخمس وأشرفها التي وهب الباري - جل ثناؤه - للحيوان، ولكن أرى البصر أفضل؛ لأنه كالنهار والسمع كالليل، وقال آخر: لا بل السمع أفضل من البصر؛ لأن البصر يذهب في طلب محسوساته ويخدمها حتى يدركها مثل العبيد، والسمع يحمل إليه محسوساته حتى تخدمه مثل الملوك.
وقال آخر: إن البصر لا يدرك المحسوسات إلا على خطوط مستقيمة والسمع يدركها من محيط الدائرة، وقال آخر: محسوسات البصر أكثرها جسمانية ومحسوسات السمع كلها روحانية، وقال آخر: النفس بطريق السمع تنال خبر من هو غائب عنها بالمكان والزمان وبطريق البصر لا ينال إلا ما كان حاضرا في الوقت.
وقال آخر: السمع أدق تمييزا من البصر؛ إذ كان يعرف بجودة الذوق الكلام الموزون والنغمات المتناسبة والفرق بين الصحيح والمنزحف والخروج من الإيقاع واستواء اللحن، والبصر يخطئ في أكثر مدركاته، فإنه ربما يرى الكبير صغيرا والصغير كبيرا، والقريب بعيدا والبعيد قريبا، والمتحرك ساكنا والساكن متحركا، والمستوي معوجا والمعوج مستويا.
وقال آخر: إن جوهر النفس لما كان مجانسا ومشاكلا للأعداد التأليفية وكانت نغمات ألحان الموسيقار موزونة وأزمان حركات نقراتها وسكونات ما بينها متناسبة؛ استلذت بها الطباع، وفرحت بها الأرواح، وسرت بها النفوس؛ لما بينها من المشاكلة والتناسب والمجانسة، وهكذا حكمها في استحسان الوجوه وزينة الطبيعيات؛ لأن محاسن الموجودات الطبيعية هي من أجل تناسب صنعتها وحسن تأليف أجزائها.
وقال آخر: إنما تشخص أبصار الناظرين إلى الوجوه الحسان؛ لأنها أثر من عالم النفس؛ ولأن عامة المرئيات في هذا العالم غير حسان؛ لما يعرض لها من الآفات المشينة المشوهة، إما في أصل التركيب أو بعده، وبيان ذلك أن الصغار من المواليد يكونون ألطف بنية وأظرف شكلا وصورة؛ لقرب عهدها من فراغ الصانع منها، وهكذا حكم ما يرى من حسن الثياب ورونقها في مبدأ كونها قبل الآفات العارضة لها من الهوام والبلى والفساد.
وقال آخر: إنما تشخص أبصار النفوس الجزئية نحو المحاسن اشتياقا إليها؛ لما بينها من المجانسة؛ لأن محاسن هذا العالم من آثار النفس الكلية الفلكية.
وقال آخر: إن وزن نقرات وتر الموسيقار وتناسب ما بينها ولذيذ نغماتها؛ تنبئ النفوس الجزئية بأن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات متناسبة مؤتلفة لذيذة.
وقال آخر: إذا تصورت رسوم المحسوسات الحسان في الأنفس الجزئية؛ صارت هذه مشاكلة ومناسبة للنفس الكلية ومشتاقة نحوها ومتمنية للحوق بها، فإذا فارقت الهيكل الجسداني ارتقت إلى ملكوت السماء ولحقت بالملأ الأعلى، وعند ذلك أيقنت بالبقاء، وأمنت من الفناء، ووجدت لذة العيش صفوا، فقال قائل منهم: وما الملأ الأعلى؟ فقال: أهل السماوات وسكان الأفلاك، فقال: أنى لهم السمع والبصر؟ فقال: إن لم يكن في عالم الأفلاك وسعة السماوات من يرى تلك الحركات المنظمة، وينظر إلى تلك الأشخاص الفاضلة، ويسمع تلك النغمات اللذيذة الموزونة، فقد فعلت الحكمة إذن شيئا باطلا، ومن المقدمات المتفق عليها بين الحكماء أن الطبيعة لم تفعل شيئا باطلا لا فائدة فيه.
وقال آخر: إن لم يكن في فضاء الأفلاك وسعة السماوات خلائق وسكان، فهي إذن قفر خاوية، وكيف يجوز في حكمة الباري - جل ثناؤه - أن يترك فضاء تلك الأفلاك مع شرف جواهرها فارغا خاويا قفرا بلا خلائق هناك، وهو لم يترك قعور البحار المالحة المرة المظلمة فارغا حتى خلق في قعرها أجناس الحيوانات من أنواع الأسماك والحيتان وغيرها؛ ولم يترك جو هذا الهواء الرقيق حتى خلق له أجناس الطيور تسبح فيه كما تسبح الأسماك والحيتان في المياه ولم يترك البراري اليابسة والآجام الوحلة والجبال الراسية حتى خلق فيها أجناس السباع والوحوش، ولم يترك ظلمات التراب وأجناس النبات والحب والثمر حتى خلق فيها أجناس الهوام والحشرات.
وقال آخر: إن أجناس هذه الحيوانات التي في هذا العالم إنما هي أشباح ومثالات لتلك الصور والخلائق التي في عالم الأفلاك وسعة السماوات، كما أن النقوش والصور التي على وجوه الحيطان والسقوف أشباح ومثالات لصور هذه الحيوانات اللحمية، وإن نسبة الخلائق اللحمية إلى تلك الخلائق التي جواهرها صافية كنسبة هذه الصور المنقشة المزخرفة إلى هذه الحيوانات اللحمية الدموية.
وقال آخر: إن كانت هناك خلائق وليس لهم سمع ولا بصر ولا عقل ولا فهم ولا نطق ولا تمييز؛ فهم إذن صم بكم عمي، وقال آخر: فإن كان لهم سمع وبصر، وليس هناك أصوات تسمع ولا نغمات تلذ؛ فسمعهم وبصرهم إذا باطل لا فائدة فيه، فإن لم يكن لهم سمع وبصر وهم يسمعون ويبصرون فهم إذن أشرف وأفضل مما ها هنا؛ لأن تلك الجواهر هي أصفى وأنور وأشف وأتم وأكمل، وقال آخر: إنما استخرجت هذه الألحان الموسيقية التي ها هنا مماثلة لما هناك كما عملت الآلات الرصدية مثل الأسطرلاب والرباب والبنكان وذوات الحلق مماثلة لما هناك.
وقال آخر: إن لم تكن تلك المحسوسات التي هناك أشرف وأفضل مما ها هنا، ولم يكن للنفوس إليها وصول فترغيب الفلاسفة في الرجوع إلى عالم الأرواح وترغيب الأنبياء - عليهم السلام - وتشويقهم إلى نعيم الجنان إذن باطل وزور وبهتان ومعاذ الله من ذلك! فإن توهم متوهم أو ظن ظان أو قال مجادل: إن الجنان هي من وراء هذه الأفلاك وخارجة من فسحة السماوات؛ قيل له: وكيف تطمع في الوصول إليها إن لم تصعد أولا إلى ملكوت السماوات وتجاوز سع الأفلاك؟ ويقال: إنه إذا هبت نسيم الجنان بالأسحار تحركت أشجارها، واهتزت أغصانها، وتخشخشت أوراقها، وتناثرت ثمارها، وتلألأت أزهارها، وفاحت روائحها، فلو عاين أهل الدنيا منها نظرة واحدة لما تلذذوا بالحياة في الدنيا بعد ذلك أبدا، فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون، والفلاسفة تسمي الجنة «عالم الأرواح».
(14) فصل في تلون تأثيرات الأنغام
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن تأثيرات نغمات الموسيقار في نفوس المستمعين مختلفة الأنواع، ولذة النفوس منها وسرورها بها متفننة متباينة؛ كل ذلك بحسب مراتبها في المعارف وبحسب معشوقاتها المألوفة من المحاسن، فكل نفس إذا سمعت من الأوصاف ما يشاكل معشوقاتها، ومن النغمات ما يلائم محبوبها؛ فرحت وسرت والتذت بحسب ما تصورت من رسوم معشوقها، واعتقدت في محبوبها حتى ربما وقع النكير من الآخرين إذا لم يعرفوا مذهبه ولا ما قصد نحوه، والمثال في ذلك ما يحكى أن رجلا من أهل الوجد من المتصوفة سمع قارئا يقرأ: @QUR010 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية فاستعادها من القارئ مرارا وجعل يقول: كم أقول لها ارجعي فليس ترجع، وتواجد وزعق وصعق صعقة فخرجت روحه، وسمع آخر رجلا يقرأ: @QUR014 فما جزاؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، فاستعادها وزعق وصعق فخرجت روحه، فقال أهل الوجد: إنما حمل معنى قوله جزاؤه من وجد في رحله أن المحبوب هو جزاء الحبيب؛ لأنه هو الموجود في رحله، يعنون أن صورة المحبوب مصورة في نفس الحبيب ورسوم شكله منقوشة في قلبه فذلك جزاؤه، ألا ترى يا أخي كيف حمل معنى القول على مذهبه ومقصده مع شهرة معنى الآية في الظاهر.
وآخر سمع قول القائل وهو يغني:
قال الرسول غدا تزو
ر فقلت تدري ما تقول
فاستفزه القول واللحن وتواجد وجعل يكرره ويجعل مكان التاء نونا ويقول: غدا نزور حتى غشي عليه من شدة الفرح واللذة والسرور، فلما أفاق سئل عن وجده مم كان؟ فقال: ذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة مرة.
ويروى في الخبر أن ألذ نغمة يجدها أهل الجنة وأطيب نغمة يسمعونها مناجاة الباري - جل ثناؤه - وذلك قوله تعالى: تحيتهم يوم يلقونه سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، ويقال: إن موسى عليه السلام لما سمع مناجاة ربه داخله من الفرح والسرور واللذة ما لم يتمالك نفسه حتى طرب وترنم وصغر عنده بعد ذلك كل النغمات والألحان والأصوات - وفقك الله أيها الأخ لفهم معاني هذه الإشارات اللطيفة والأسرار الخفية، وبلغك بلاغها وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا وأين كانوا من البلاد؛ إنه رءوف بالعباد.
(تمت الرسالة الخامسة في الموسيقى، والحمد لله حمد الشاكرين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.)
الرسالة السادسة في النسبة العددية والهندسية في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من الرسالة التي تقدم ذكرها، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة نسبة العدد بعضها إلى بعض، فنقول:
اعلم بأن النسبة هي قدر أحد المقدارين عند الآخر، وكل عددين إذا أضيف أحدهما إلى الآخر فلا يخلو من أن يكونا متساويين أو مختلفين ، فإن كانا متساويين فيقال لإضافة أحدهما إلى الآخر: نسبة التساوي، وإن كانا مختلفين فلا بد من أن يكون أحدهما أكثر والآخر أقل، فإن أضيف الأقل إلى الأكثر يقال له: الاختلاف الأصغر، ويعبر عنه بأحد تسعة الألفاظ التي ذكرنا قبل، وهي النصف والثلث والربع والخمس والسدس والسبع والثمن والتسع والعشر وما تركب من هذه الألفاظ. ويضاف إليها مثل ما يقال: نصف السدس وثلث الخمس وما شاكل ذلك، وهذه النسبة معروفة بين الحساب مثل نسبة الستة إلى الستين وغيره من الأعداد، وأما إن أضيف العدد الأكثر إلى الأقل، فيقال له: الاختلاف الأعظم، والنظر والكلام في مثل هذه النسبة للمتفلسفين لا لحساب الدواوين.
وهذه النسبة معروفة تتنوع بخمسة أنواع، ويعبر عنها بخمسة ألفاظ، أولها نسبة النصف، والثاني نسبة المثل الزائد جزءا، والثالث نسبة المثل والزائد جزء، والرابع نسبة الضعف والزائد جزء، والخامس نسبة الضعف والزائد جزء، ولا يمكن أن يضاف عدد أكثر إلى عدد أقل، فيكون خارجا من هذه النسب الخمس.
أما نسبة الضعف فهو مثل إضافة سائر الأعداد المبتدأة من الاثنين على النظم الطبيعي، بالإضافة إلى الواحد بالغا ما بلغ، فإن الاثنين ضعف الواحد، والثلاثة ثلاثة أضعافه، والأربعة أربعة أضعافه، وكذلك الخمسة خمسة أضعافه، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغا ما بلغ، وإذا أضيف إلى الواحد يقال له: نسبة ذي الأضعاف، وهذه صورتها:
1 2 3 4 5 6 7 8 9
وأما نسبة المثل والزائد جزء فهو مثل نسبة سائر الأعداد المبتدأة من الاثنين المنتظمة على النظم الطبيعي، كل واحدة إلى نظيرتها كالثلاثة إلى الاثنين والأربعة إلى الثلاثة والخمسة إلى الأربعة والستة إلى الخمسة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغا ما بلغ إذا أضيف إلى الذي قبله بواحد، فإنه لا يخرج من هذه النسبة التي هي مثل وجزء منه، وهذه صورتها:
وأما نسبة المثل والزائد أجزاء فهو مثل نسبة سائر الأعداد المبتدأة من الثلاثة المنتظمة على النظم الطبيعي إذا أضيف إليها سائر الأعداد المبتدأة من الخمسة، المنتظمة على نظم الأفراد دون الأزواج؛ كالخمسة إلى الثلاثة والسبعة إلى الأربعة والتسعة إلى الخمسة والأحد عشر إلى الستة والثلاثة عشر إلى السبعة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغا ما بلغ، وهذه صورتها:
وأما نسبة الضعف والزائد جزء فهو مثل سائر الأعداد المبتدأة من الاثنين المنتظمة على النظم الطبيعي إذا أضيف إليها سائر الأعداد المبتدأة من الخمسة على نظم الأفراد دون الأزواج؛ كالخمسة إلى الاثنين والسبعة إلى الثلاثة والتسعة إلى الأربعة والأحد عشر إلى الخمسة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغا ما بلغ، وهذه صورتها:
وأما نسبة الضعف والزائد أجزاء فهو مثل نسبة سائر الأعداد المبتدأة من الثلاثة على النظم الطبيعي إذا أضيف إليها سائر الأعداد المبتدأة من الثمانية بزيادة الثلاثة؛ كالثمانية إلى الثلاثة والأحد عشر إلى الأربعة والأربعة عشر إلى الخمسة والسبعة عشر إلى الستة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغا ما بلغ يتخطى ثلاثة ثلاثة على هذا المثال، وهذه صورتها:
فقد تبين أن كل عددين مختلفين إذا أضيف الأكثر إلى الأقل فلا يخلو من هذه الخمس النسب التي ذكرناها، وهي نسبة الضعف والمثل وجزء، والمثل وأجزاء والضعف وجزء والضعف وأجزاء، وأما إذا أضيف الأقل إلى الأكثر على هذا الترتيب الذي بيناه فيزاد في هذه الخمسة الألفاظ لفظة أخرى هي لفظة تحت، فيقال: إذا أضيف الواحد إلى سائر الأعداد فهي تحت ذي الأضعاف والاثنان إذا أضيفت للثلاثة، فيقال: تحت المثل والزائد جزءا، وكذلك إذا أضيف الثلاثة إلى الأربعة والأربعة إلى الخمسة، وعلى هذا القياس وبالعكس مما ذكرناه في الباب الأول من نسبة الأكثر إلى الأقل كل واحد بالنسبة إلى نظيره كالثلاثة إذا أضيف إلى الخمسة والأربعة إلى السبعة والخمسة إلى التسعة، فيقال: تحت المثل والزائد أجزاء، وأما الاثنان إلى الخمسة والثلاثة إلى السبعة والأربعة إلى التسعة؛ فيقال: تحت الضعف والزائد جزءا، وأما الثلاثة إلى الثمانية والأربعة إلى الأحد عشر والخمسة إلى الأربعة عشر والستة إلى سبعة عشر، فيقال: تحت الضعف والزائد أجزاء، فقد تبين أن نسبة الأقل إلى الأكثر لا تخلو من هذه الخمسة المعاني التي تحت ذي الأضعاف وتحت المثل والزائد جزءا ، وتحت المثل والزائد أجزاء، وتحت ذي الأضعاف والزائد جزءا، وتحت ذي الأضعاف والزائد أجزاء.
(1) فصل في النسب
اعلم أن النسبة على ثلاثة أنواع، إما بالكمية وإما بالكيفية وإما بهما جميعا، فالتي بالكمية يقال لها: نسبة عددية، والتي بالكيفية يقال لها: نسبة هندسية، والتي بهما جميعا يقال لها: نسبة تأليفية وموسيقية، وأما النسبة العددية فهي تفاوت ما بين عددين مختلفين بالتساوي؛ مثال ذلك واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة، فإن تفاوت ما بين كل عددين من هذه الأعداد واحد واحد، وكذلك اثنان أربعة ستة ثمانية عشرة اثنا عشر أربعة عشر ستة عشر ثمانية عشر وما زاد، فإن التفاوت بين كل عددين من هذه الأعداد اثنان اثنان.
وكذلك: واحد ثلاثة خمسة سبعة تسعة أحد عشر وما زاد على ذلك، فإن التفاوت بين كل عددين منها اثنان اثنان، وعلى هذا القياس تبنى سائر النسب العددية، وإنما يعتبر مساواة تفاوت ما بينهما، ومن خاصية هذه النسبة أن كل عددين - أي عددين كانا - إذا أخذ نصف كل واحد منهما وجمع يكون منهما عدد آخر متوسط بين العددين، مثال ذلك ثلاثة وأربعة تفاوت ما بينهما واحد، فإن أخذ نصف الثلاثة وهو واحد ونصف الأربعة وهو اثنان، وجمع بينهما يكون ثلاثة ونصفا وثلاثة ونصف أكثر من ثلاثة بنصف، وينقص عن الأربعة بنصف، وعلى هذا القياس يعتبر سائر النسب العددية.
وأما النسبة الهندسية فهي قدر أحد العددين المختلفين عند العدد الآخر؛ مثال ذلك أربعة ستة تسعة، فإنما هي في نسبة هندسية، وذلك أن نسبة الأربعة إلى الستة كنسبة الستة إلى التسعة، وذلك أن الأربعة ثلثا الستة، والستة ثلثا التسعة، وكذلك بالعكس فإن نسبة التسعة إلى الستة كنسبة الستة إلى الأربعة، وذلك أن التسعة مثل الستة ومثل نصفها، والستة مثل الأربعة ومثل نصفها، وهكذا: ثمانية واثنا عشر وثمانية عشر وسبعة وعشرون، فإنها كلها في نسبة هندسية، وذلك أن الثمانية ثلثا الاثني عشر، والاثني عشر ثلثا الثمانية عشر، والثمانية عشر ثلثا السبعة والعشرين، وكذلك بالعكس سبعة وعشرون مثل ثمانية عشر ومثل نصفها، وثمانية عشر مثل اثني عشر ومثل نصفها، والاثنا عشر مثل الثمانية ومثل نصفها، وعلى هذا المثال يعتبر سائر النسب الهندسية.
وهي تنقسم نوعين: متصلة ومنفصلة، فالمتصلة مثل هذه التي قدمنا ذكرها، ومن خاصية هذه النسبة إذا كانت ثلاثة أعداد، فإن ضرب الأول في الثالث مثل ضرب الثاني في نفسه، مثال ذلك أن ضرب الأربعة في التسعة مثل ضرب الستة في نفسها، وإن كانت أربعة أعداد، فإن ضرب الأول في الرابع مثل ضرب الثاني في الثالث، مثال ذلك ثمانية واثنا عشر وثمانية عشر وسبعة وعشرون، وأما المنفصلة فهي مثل أربعة وستة وثمانية واثني عشر، فإن نسبة الأربعة إلى الستة كنسبة الثمانية إلى الاثني عشر؛ لأن الثمانية ثلثا الاثني عشر، وليست الستة ثلثي الثمانية، لكن الأربعة ثلثا الستة، فهذه النسبة وأمثالها يقال لها: منفصلة.
ومن خاصية هذه النسبة أن ضرب الأول في الرابع مثل ضرب الثاني في الثالث، ومن خاصية هذه النسبة المتصلة أن الحد الأوسط مشترك في النسبة، وأما المنفصلة فالحد الوسط غير مشترك في النسبة، وأما النسبة التأليفية فهي المركبة من الهندسية والعددية، مثال ذلك واحد واثنان وثلاثة وأربعة وخمسة وستة، فالستة تسمى الحد الأعظم، والثلاثة الحد الأصغر، والأربعة الحد الأوسط، وواحد واثنان هما التفاضل بين الحدود، وذلك أن فضل ما بين الستة والأربعة اثنان، وفضل ما بين الأربعة والثلاثة واحد، فنسبة الاثنين الذي هو التفاضل بين الستة والأربعة والثلاثة إلى الواحد الذي هو التفاضل بين الأربعة والثلاثة كنسبة الحد الأعظم الذي هو الستة إلى الحد الأصغر الذي هو الثلاثة.
وكذلك بالعكس نسبة الثلاثة الذي هو الحد الأصغر إلى الستة الذي هو الحد الأعظم، كنسبة الواحد إلى الاثنين الذي هو تفاوت ما بين الأربعة والستة.
ومن وجه آخر نسبة الواحد إلى الاثنين كنسبة الاثنين إلى الأربعة، وكنسبة الثلاثة إلى الستة، وعكس ذلك نسبة الستة إلى الثلاثة كنسبة الأربعة إلى الاثنين، ونسبة الاثنين إلى الواحد، ومن وجه آخر نسبة الستة إلى الأربعة كنسبة الثلاثة إلى الاثنين، وعكس ذلك نسبة الاثنين إلى الثلاثة كنسبة الأربعة إلى الستة؛ فإن هذه النسبة مؤلفة من العددية والهندسية، ومركبة منهما، ومن هذه النسبة استخراج تأليف النغم والألحان - كما بينا في رسالة الموسيقى.
(2) فصل في استخراج النسب المتصلة
كل عدد - أي عدد كان - أضيف إلى عدد آخر أكثر منه، فله إليه نسبة ما، وقد يوجد عدد آخر أقل منه في تلك النسبة، مثال ذلك عشرة إذا نسبت إلى مائة فإنها في نسبة العشر، ودونها الواحد في تلك النسبة؛ لأن الواحد عشر العشرة، كما أن العشرة عشر المائة، وكذلك نسبة العشرة إلى التسعين كنسبة الواحد والتسع إلى العشرة، وكذلك نسبة العشرة إلى الثمانين كنسبة الواحد والربع إلى العشرة، وكذلك نسبة العشرة إلى السبعين كنسبة الواحد وثلاثة أسباع إلى العشرة، وكذلك نسبة العشرة إلى الستين كنسبة الواحد والثلثين إلى العشرة، وكذلك نسبة العشرة من الخمسين كنسبة الاثنين من العشرة، ونسبة العشرة من الأربعين كنسبة الاثنين ونصف إلى العشرة، ونسبة العشرة من الثلاثين كنسبة الثلاثة والثلث من العشرة، ونسبة العشرة من العشرين كنسبة الخمسة من العشرة، وعلى هذا القياس تعتبر سائر النسب المتصلة.
والقياس في استخراج هذه النسبة أن يضرب ذلك العدد في نفسه، ويقسم العدد الحاصل منه على العدد الأكثر، فما خرج فهو العدد الأقل في تلك النسبة، وإن قسم المبلغ على العدد الأقل خرج العدد الأكثر في تلك النسبة، مثال ذلك إذا قيل لك: أوجدني عددا يكون نسبته إلى العشرة كنسبة العشرة إلى الأحد عشر، فبابه أن تضرب العشرة في نفسها ويقسم المبلغ على أحد عشر فيخرج تسعة وجزء من أحد عشر، فيكون نسبة التسعة وجزء من أحد عشر إلى العشرة كنسبة العشرة إلى الأحد عشر، وإن قسمت ذلك على تسعة خرج أحد عشر وتسع.
فنسبة العشرة إلى التسعة كنسبة الأحد عشر والتسع إلى العشرة، ومن خاصية هذه النسبة أنه متى كان اثنان منها معلومين والثالث مجهولا، يمكن أن يعلم ذلك المجهول من المعلومين، فبابه أن يضرب أحد المعلومين في نفسه، ويقسم المبلغ على الآخر، فما خرج فهو ذلك المجهول المطلوب، مثال ذلك إذا قيل لك: أوجدني عددا يكون نسبته إلى الاثنين كنسبة الأربعة إلى الستة، أو قال: نسبة الأربعة إليه كنسبة الستة إلى الأربعة، فالقياس فيهما واحد وهو أن تضرب الأربعة في نفسها فيكون ستة عشر، فنقسمها على الستة فيكون اثنين وثلثين، فتقول: نسبة الاثنين وثلثين إلى الأربعة كنسبة الأربعة إلى الستة، وعكس ذلك نسبة الأربعة إلى الاثنين والثلثين كنسبة الستة إلى الأربعة، فإن ذكر الستة فافعل بها مثل ما فعلت بالأربعة، فإن الباب فيهما واحد، وذلك أن الستة إذا ضربت في نفسها وقسم المبلغ على أربعة كانت تسعة، فنقول: نسبة التسعة إلى الستة كنسبة الستة إلى الأربعة.
وعكس ذلك نسبة الستة إلى التسعة كنسبة الأربعة إلى الستة، وعلى هذا المثال فقس نظائر ذلك، ومن هذه النسبة يستخرج المجهولات الهندسية بالمعلومات، وكذلك المجهولات التي في المعاملات إن كان ثمنا أو مثمنا، مثاله إذا قيل: عشرة نسبة إلى أربعة بكم، فاضرب الأربعة في ستة، واقسم المبلغ على العشرة فما خرج فهو المطلوب.
واعلم بأنه تارة يكون المجهول هو الثمن، وتارة هو المثمن، فاجتهد في القياس أن لا يضرب الثمن في الثمن والمثمن في المثمن، ولكن الثمن في المثمن والمثمن في الثمن.
(3) فصل في التناسب
اعلم أن التناسب هو اتفاق أقدار الأعداد بعضها من بعض، والعددان لا يتناسبان؛ أقل النسبة من ثلاثة أعداد وأقل الأعداد المتناسبة بثلاثة أعداد المتناسبة إذا كانت ثلاثة، فإن قدر أولها من ثانيها كقدر ثانيها من ثالثها، وكذلك بالعكس كل ثلاثة أعداد متناسبة، فإن مضروب أولها في ثالثها كمضروب ثانيها في نفسه، وهذا مثال ذلك 964، كل ثلاثة أعداد متناسبة إذا كانت حاشيتاها معلومتين والواسطة مجهولة؛ أعني: بالحاشيتين الأول والثالث، فإذا ضربت إحدى الحاشيتين في الأخرى، وأخذ جذر المجتمع كان ذلك هو الواسطة المجهولة؛ فإن كانت إحدى الحاشيتين معلومة والواسطة معلومة ضربت الواسطة في مثلها، وقسم المبلغ على الحاشية المعلومة، فما خرج من القسمة فهو الحاشية المجهولة الأعداد المتناسبة إذا كانت أربعة فإن نسبتها على نوعين، أحدهما نسبة التوالي والآخر غير التوالي.
فأما الأعداد المتناسبة المتوالية على نسبتها إذا كانت أربعة، فإن قدر أولها من ثانيها كقدر ثانيها من ثالثها، وثانيها من ثالثها كثالثها من رابعها، مثال ذلك: «ب د ح يو» إذا كانت أعدادا متناسبة غير متوالية كان قدر أولها من ثانيها كقدر ثالثها من رابعها، ولم يكن قدر ثانيها من ثالثها كقدر ثالثها من رابعها، مثل هذه الصورة: ح و ج يو، كل أربعة أعداد متناسبة متوالية كانت أو غير متوالية، فإن مضروب أولها في رابعها مثل مضروب ثانيها في ثالثها، وإذا ضربت إحدى الواسطتين في الأخرى وقسم المبلغ على الحاشية المعلومة، فما خرج فهو الحاشية المجهولة.
فإن كانت إحدى الواسطتين مجهولة وسائرها معلومة ضربت إحدى الحاشيتين في الأخرى وقسمت المبلغ على الواسطة المعلومة، فما خرج فهو الواسطة المجهولة الأعداد المتناسبة المتوالية على نسبتها إذا كانت أربعة وكان عددان منها معلومين والباقيان مجهولين أمكن إخراج المجهولين بالمعلومين، فإن كان الأول والثاني معلومين ضربت الثاني في مثله، وقسمت المبلغ على الأول، فما خرج فهو الثالث، فإن كان الأول والثالث معلومين ضربت الأول في الثالث، وأخذت جذر المبلغ، فما كان فهو الثاني، ثم ضربت الثالث في نفسه، وقسمت المبلغ على الثاني، فما خرج فهو الرابع، وكذلك العمل في سائر الأعداد.
فأما إذا كانت أربعة أعداد متناسبة غير متوالية، وكان المعلوم منها عددين لم يمكن استخراج المجهولين بالمعلومين، غير أنه إذا كان الأول والثاني معلومين، وكان الثاني أكثر من الأول، قسم الثاني على الأول فما خرج من أضعاف الأول ونسبته، فإن في الرابع مثل ذلك من أضعاف الثالث، وإذا كان الأول أكثر من الثاني قسم الأول على الثاني، فما خرج من القسمة ففي الثالث مثل ذلك من أضعاف الرابع.
وأما قلب النسبة فأن تجعل نسبة الأول إلى الثالث كنسبة الثاني إلى الرابع على الاستواء والعكس، وأما ترتيب النسبة فأن تجعل نسبة الأول إلى الأول والثاني معا كنسبة الثالث إلى الثالث والرابع معا، وكذلك هو في العكس والتبديل، وأما تفضيل النسبة فهو نسبة زيادة الأول على الثاني إلى الثاني، كذلك يكون نسبة زيادة الثالث على الرابع إلى الرابع، وأما تنقيص النسبة فأن تجعل نسبة ما بقي من الثاني بعد ما نقص منه الأول إلى الأول كنسبة الرابع بعد ما نقص منه الثالث، وكذلك في العكس وتبديل النسبة.
(4) فصل في فضيلة علم النسب العددية والهندسية والموسيقية
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد اتفقت الأنبياء - صلوات الله عليهم - والفلاسفة بأن الله - عز وجل - الذي لا شريك له ولا شبه له، واحد بالحقيقة من جميع الوجوه وأن كل ما سواه من جميع الموجودات مثنوية مؤلفة ومركبة، وذلك أن الله لما أراد إيجاد العالم الجسماني اخترع أولا الأصلين وهما الهيولى والصورة، ثم خلق منهما الجسم المطلق وجعل بعض الأجسام يعني الأركان على الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، والأركان هي النار والهواء والماء والأرض، ثم خلق من هذه الأركان جميع ما على وجه الأرض من الحيوان والنبات والمعادن.
واعلم أن هذه الأركان متفاوتات القوى، متضادات الطبائع، مختلفات الصور، متباينات الأماكن، متعاديات متنافرات، لا تجتمع إلا بتأليف المؤلف لها، والتأليف متى لا يكون على النسبة لم يمتزج ولم يتحد، ومن أمثال ذلك أصوات النغم الموسيقية، وذلك أن نغمة الزير رقيق خفيف، ونغمة البم غليظ ثقيل، والرقيق ضد الغليظ والخفيف ضد الثقيل.
وهما متباينان متنافران لا يجتمعان ولا يلتقيان إلا بمركب ومؤلف يؤلفهما، ومتى لا يكون التأليف على النسبة لا يمتزجان ولا يتحدان ولا يستلذهما السمع، فمتى ألفا على النسبة ائتلفا وصارا كنغمة واحدة لا يميز السمع بينهما وتستلذهما الطبيعة وتسر بهما النفوس، وهكذا أيضا الكلام الموزون إذا كان على النسبة يكون في السمع ألذ من النثر الذي ليس بموزون؛ لما في الموزون من النسب.
ومن أمثال ذلك عروض الطويل، فإنه ثمانية وأربعون حرفا؛ ثمانية وعشرون حرفا متحركة وعشرون حرفا ساكنة، فنسبة سواكنه إلى متحركاته كنسبة خمسة أسباع ، وهكذا نسبة نصف البيت وهو أربعة عشر حرفا متحركة وعشرة أحرف ساكنة، وهكذا نسبة الربع سبعة أحرف متحركة وخمسة أحرف سواكن، وأيضا فهو مؤلف من اثني عشر سببا، والأسباب اثنا عشر حرفا متحركة واثنا عشر ساكنة وثمانية أوتاد ثمانية أحرف منها سواكن وستة عشر حرفا متحركة.
ومن أمثال ذلك أيضا حروف الكتابة، فإنها مختلفة الأشكال، متباينة الصور، وإذا جعل تقديرها ووضع بعضها من بعض على النسبة كان الخط جيدا، وإن كان على غير النسبة كان الخط رديئا، وقد بينا نسبة الحروف بعضها من بعض كيف ينبغي أن تكون في رسالة أخرى.
ومن أمثال ذلك أيضا أصباغ المصورين؛ فإنها مختلفة الألوان، متضادة الشعاع كالسواد والبياض والحمرة والخضرة والصفرة وما شاكلها من سائر الألوان، فمتى وضعت هذه الأصباغ بعضها من بعض على النسبة كانت تلك التصاوير براقة حسنة تلمع، ومتى كان وضعها على غير النسبة كانت مظلمة كدرة غير حسنة، وقد بينا في رسالة أخرى كيف ينبغي أن يكون وضع تلك الأصباغ على النسبة بعضها من بعض حتى تكون حسنة.
ومن أمثال ذلك أيضا أعضاء الصور ومفاصلها فإنها مختلفة الأشكال، متباينة المقادير، فمتى كانت مقادير بعضها من بعض على النسبة ووضع بعضها من بعض على النسبة؛ كانت الصورة صحيحة محققة مقبولة، ومتى كانت على غير ما وصفنا كانت سمجة مضطربة غير مقبولة في النفس، وقد بينا من ذلك طرفا كيف ينبغي تقدير الصور ووضع أعضائها بعضها من بعض في الرسالة المتقدم ذكرها.
ومن أمثال ذلك أيضا عقاقير الطب وأدويتها فإنها متضادات الطباع، مختلفات الطعوم والروائح والألوان، فإذا ركبت على النسبة صارت أدوية ذات منافع كثيرة؛ مثل الترياقات والمراهم وما شاكل ذلك، ومتى ركبت على غير نسبة في أوزانها ومقاديرها، صارت سموما ضارة قاتلة.
ومن أمثال ذلك أيضا حوائج الطبيخ، فإنها مختلفة الطعم واللون والروائح والمقادير فمتى جعلت مقاديرها في القدر عند الطبخ لها على النسبة كان الطبيخ طيب الرائحة، لذيذ الطعم، جيد الصنعة، ومتى كان على غير النسبة كان بخلاف ذلك، ومن أجل هذا ذكر في كتاب الطب وفي كتب الصنعة أن تلك العقاقير متى ركبت على النسبة، ودبرت على تلك النسبة صحت، ومتى كانت على غير ذلك فسدت ولم تصح.
وعلى هذا القياس تركيب جواهر المعادن كلها من الزئبق والكبريت، وذلك أن الزئبق والكبريت متى امتزجا، وكان مقدارهما على النسبة وطبختهما حرارة المعدن على ترتيب واعتدال؛ انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز، ومتى لم تكن أجزاؤهما على تلك النسبة وقصرت حرارة المعدن عن طبخهما صارت فضة بيضاء، ومتى كانت أجزاء الكبريت زائدة الحرارة نشفت رطوبة الزئبق، وغلب اليبس عليها وصارت نحاسا أحمر.
ومتى كان الزئبق والكبريت غليظين غير صافيين صار منهما الحديد، ومتى كان الزئبق أكثر والكبريت أقل والحرارة ناقصة؛ غلب البرد عليها وصارت أسربا، وعلى هذا القياس تختلف جواهر المعادن بحسب مقادير الزئبق والكبريت وامتزاجهما على النسبة والخروج إلى الزيادة والنقصان واعتدال طبخ الحرارة لها والخروج منها بالإفراط والتقصير.
وعلى هذا القياس تختلف أشكال الحيوان والنبات وهيئاتها وألوانها وطعومها وروائحها على حسب تركيب أجزاء الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض ونسبة مقادير أجزائها وقوى بعضها من بعض.
ومن أمثال ذلك أن المولودين من البشر متى كانت كمية الأخلاط التي ركبت منها أجسامهم؛ أعني: الدم والبلغم والمرتين في أصل تركيبهم على النسبة الأفضل، ولم يعرض لها عارض كانت أجسادهم صحيحة المزاج وبنية أبدانهم قوية وألوانهم صافية.
وهكذا متى كان تقدير أعضائهم ووضع بعضها من بعض على النسبة الأفضل؛ كانت صورهم حسنة وهيئاتهم مقبولة وأخلاقهم محمودة، ومتى كانت على خلاف ذلك كانت أجسادهم مضطربة وصورهم وحشة وأخلاقهم غير محمودة، والمثال في ذلك المولودون الذين غلبت على أمزجة أبدانهم الحرارة؛ فإن أجسادهم تكون نحيفة وألواهم سمرا ويكونون سريعي الحركة والغضب زائدين في الشجاعة إلى التهور ومن السخاء إلى التبذير، وأما الذين الغالب على أبدانهم البرودة، فإنهم يكونون بطيئي الحركة، عبلى الأجساد، بيض الألوان، قليلي الغضب، زائدين في الجبن والبخل.
وقد تبين هذا في كتب الطب وكتب الفراسة بشرح طويل ، وإنما أردنا نحن أن نذكر من كل جنس من الموجودات مثالا؛ ليكون دالا على شرف علم النسب الذي يعرف بالموسيقى، وأن هذا العلم محتاج إليه في الصنائع كلها، وإنما خص هذا العلم باسم الموسيقى الذي هو تآلف الألحان والنغم؛ لأن المثال فيه أبين؛ وذلك أن القدماء من الحكماء إنما استخرجوا أصول الألحان والنغم من المعرفة بالنسبة العددية والهندسية لما جمعوا بينهما خرجت النسبة الموسيقية كما بينا في الفصل الذي في استخراج النسب.
وذكر أصحاب النجوم والمتفلسفون بأن للسعود من الكواكب لأفلاكها ولأعظام أجرامها ولسرعة حركاتها إلى الأركان الأربعة؛ نسبة موسيقية، وأن لتلك الحركات نغمات لذيذة، وأن النحوس من الكواكب ليست لها تلك النسبة، وكذلك لبيوت الفلك التي يناظر بعضها بعضا نسبة شريفة.
وأن البيوت التي لا تتناظر ليست لها تلك النسبة، وأن لبيوت النحوس وأفلاكها بعضها إلى بعض نسبة، وأن لبيوت السعود وأفلاكها بعضها إلى بعض نسبة شريفة ليست بينها وبين النحوس تلك النسبة ولا بين النحوس بعضها من بعض، ومن أجل شرف علم النسبة ولطيف معانيها أفرد في كتاب إقليدس مقالتان في علم النسب بمثالات وبراهين، وبالجملة إن كل مصنوع من أشياء متضادة الطبائع، متعادية القوى، مختلفة الأشكال، فإن أحكمها وأتقنها ما كان تركيب أجزائه وتأليف أعضائه على النسبة الأفضل.
ومن عجائب خاصية النسبة ما يظهر في البعاد والأثقال من المنافع، من ذلك ما يظهر في القرسطون أعني القبان، وذلك أن أحد رأسي عمود القرسطون طويل بعيد من المعلاق، والآخر قصير قريب منه، فإذا علق على رأسه الطويل ثقل قليل، وعلى رأسه القصير ثقل كثير تساويا وتوازنا متى كانت نسبة الثقل القليل إلى الثقل الكثير كنسبة بعد رأس القصير إلى بعد رأس الطويل من المعلاق.
ومن أمثال ذلك ما يظهر في ظل الأشخاص من التناسب بينها، وذلك أن كل شخص مستوي القد منتصب القوام، فإن له ظلا ما وإن نسبة طول ظل ذلك الشخص إلى طول قامته في جميع الأوقات كنسبة جيب الارتفاع في ذلك الوقت إلى جيب تمام الارتفاع سواء ، وهذا لا يعرفه إلا المهندسون أو من يحل الزيج، وهكذا توجد هذه النسبة في جر الثقيل بالخفيف وفي تحريك المحرك زمانا طويلا بلا ثقل ثقيل.
ومن ذلك ما يظهر أيضا في الأجسام الطافية فوق الماء ما بين أثقالها ومقعر أجرامها في الماء من التناسب، وذلك أن كل جسم يطفو فوق الماء فإن مكانه المقعر يسع من الماء بمقدار وزنه سواء، فإن كان ذلك الجسم لا يسع مقعره بوزنه من الماء، فإن ذلك الجسم يرسب في الماء ولا يطفو، وإن كان ذلك المقعر يسع بوزنه من الماء سواء، فإن ذلك الجسم لا يرسب في الماء، ولا يبقى منه شيء ناتئ عن الماء، بل يبقى سطحه منطفحا مع سطح الماء سواء، وكل جسمين طافيين فوق الماء فإن نسبة سعة مقعر أحدهما إلى الآخر كنسبة ثقل أحدهما إلى الآخر سواء، وهذه الأشياء التي ذكرناها يعرفها من كان يتعاطى صناعة الحركات أو كان عالما بمراكز الأثقال والأفلاك والأجرام والأبعاد.
ومن الفوائد ما يظهر من المجهولات علمها بمعرفة النسب، من ذلك ما يتبين من التناسب بين الأشياء المثمنة وبين أثمانها المفروضة لها، وذلك أن كل شيء يقدر بقدر ما من الوزن والكيل والذرع والعدد، ثم يفرض له ثمن، فإن بين ذلك الشيء المقدر وبين ثمنه المفروض له نسبتين، إحداهما مستوية والأخرى معكوسة، مثال ذلك إذا قيل: عشرة بستة فالعشرة هي الشيء المقدر والستة هي الثمن المفروض وبينهما نسبتان؛ إحداهما مستوية والأخرى معكوسة، وذلك أن الستة نصف العشرة وعشرها، وعكس ذلك العشرة فإنها مثل الستة وثلثيها، وكل سائل إذا سأل عن ثمن شيء ما فلا بد له أن يلفظ بأربعة مقادير؛ ثلاثة منها معلومة وواحدة مجهولة، وبين كل قدرين منها نسبتان مستوية ومعكوسة.
مثال ذلك إذا قيل: عشرة بستة بأربعة كم؟ فقوله: عشرة هي قدر معلوم وكذا ستة وأربعة، وأما قوله: كم، فقدر مجهول، فنقول: إن بين الستة والعشرة نسبتين كما بينا، وكذلك بين الأربعة وبين الكم الذي هو القدر المجهول نسبتان، وكذلك بين العشرة وبين المجهول نسبتان، وكذلك بين الستة وبينه نسبتان، بيان ذلك أن القدر المجهول هو الستة وثلثان، فنقول: إن الكم ثلثا العشرة كما أن الأربعة ثلثا الستة، وإن العشرة مثل الكم ومثل نصفه كما أن الستة مثل الأربعة ومثل نصفها، وأيضا الكم مثل الأربعة ومثل ثلثيها كما أن العشرة مثل الستة ومثل ثلثيها، وعكس ذلك أن الأربعة نصف الكم وعشره كما أن الستة نصف العشرة وعشرها.
فإذا قيس على هذا المثال وجد بين كل مثمن وبين ثمنه نسبتان؛ مستوية ومعكوسة وعرف المجهول بالمعلوم، وإن ضرب أحد المعلومين في الآخر وقسم المبلغ على الثالث فما خرج فهو المجهول المطلوب، مثال ذلك إذا قيل: عشرة بستة كم بأربعة، فاضرب الأربعة في عشرة واقسمها على ستة فما خرج فهو المجهول المطلوب وهو ستة وثلثان.
وعلى هذا المثال فقد بان أن علم نسبة العدد علم شريف جليل وأن الحكماء جميع ما وضعوه من تأليف حكمتهم فعلى هذا الأصل أسسوه وأحكموه وقضوا لهذا العلم بالفضل على سائر العلوم؛ إذ كانت كلها محتاجة إلى أن تكون مبنية عليه، ولولا ذلك لم يصح عمل ولا صناعة ولا ثبت شيء من الموجودات على الحال الأفضل، فاعلم ذلك أيها الأخ وتفكر فيه غاية التفكر؛ فإنه علم يهدي إلى سواء الصراط، نفعك الله، وأرشدنا وإياك وجميع إخواننا بمنه ورحمته.
الرسالة السابعة في الصنائع العلمية والغرض منها
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ، أيدك اله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من ذكر النسب العددية وأخبرنا بماهياتها وكمية أجناسها وأنواع تلك الأجناس ووصفنا كيفية إظهارها من القوة إلى الفعل، وبينا أن الموضوع فيها كلها أجسام طبيعية وأن مصنوعاتها كلها جواهر جسمانية، وأن أغراضها كلها عمارة الأرض لتتميم أمر معيشة الحياة الدنيا. فنريد أن نذكر في هذه الرسالة الصنائع العلمية التي هي الموضوع فيها جواهر روحانية التي هي أنفس المتعلمين، ونبين أن تأثيراتها في المتعلمين كلها روحانية، كما ذكرنا في رسالة المنطق ، ونبين أيضا ماهية العلوم ونذكر كمية أجناسها وأنواع تلك الأجناس ونصف أيضا كيفية إخراج ما في قوة النفس من العلوم إلى الفعل الذي هو الغرض الأقصى في التعاليم، وهو إصلاح جواهر النفوس وتهذيب أخلاقها وتتميمها وتكميلها للبقاء في دار الآخرة التي هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، والذين يريدون الخلود في الدنيا هم الغافلون عن أمر الآخرة.
(1) فصل في مثنوية الإنسان
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان لما كان هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال ومشتركان في الأفعال العارضة والصفات الزائلة؛ صار الإنسان من أجل جسده الجسماني مريدا للبقاء في الدنيا، متمنيا للخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية صار طالبا للدار الآخرة، متمنيا للبلوغ إليها.
وهكذا أكثر أمور الإنسان وتصرف أحواله مثنوية، متضادة كالحياة والممات والنوم واليقظة والعلم والجهالة والتذكر والغفلة والعقل والحماقة والمرض والصحة والفجور والعفة والبخل والسخاء والجبن والشجاعة والألم واللذة، وهو متردد بين الصداقة والعداوة والفقر والغنى والشبيبة والهرم والخوف والرجاء والصدق والكذب والحق والباطل والصواب والخطأ والخير والشر والقبح والحسن وما شاكلها من الأخلاق والأفعال والأقاويل المتضادة المتباينة التي تظهر من الإنسان الذي هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية.
واعلم يا أخي بأن هذه الخصال التي عددنا لا تنسب إلى الجسد بمجرده ولا إلى النفس بمجردها، ولكن إلى الإنسان الذي هو جملتهما والمجموع منهما الذي هو حي ناطق مائت، فحياته ونطقه من قبل نفسه وموته من قبل جسده، وهكذا نومه من قبل جسده ويقظته من قبل نفسه، وعلى هذا القياس سائر أموره وأحواله المتباينات المتضادات؛ بعضها من قبل النفس، وبعضها من قبل الجسد، مثال ذلك عقله وعلمه وحلمه وتفكره وسخاؤه وشجاعته وعفته وعدله وحكمته وصدقه وصوابه وخيره وما شاكلها من الخصال المحمودة، فكلها من قبل نفسه وصفاء جوهرها وأضدادها من قبل أخلاط جسده ومزاج أخلاطه.
(2) فصل في الصفات المختصة بالجسد والنفس
واعلم يا أخي بأن الصفات المختصة بالجسد بمجرده هي أن الجسد جوهر جسماني طبيعي ذو طعم ولون ورائحة وثقل وخفة وسكون ولين وخشونة وصلابة ورخاوة، وهو متكون من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان المتولدة من الغذاء الكائن من الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض ذوات الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وهو منفسد؛ أعني الجسد ومتغير ومستحيل وراجع إلى هذه الأركان الأربعة بعد الموت الذي هو مفارقة النفس الجسد وتركها استعماله.
وأما الصفات المختصة بالنفس بمجردها فهي أنها جوهرة روحانية سماوية نورانية حية بذاتها علامة بالقوة، فعالة بالطبع، قابلة للتعاليم، فعالة في الأجسام، ومستعملة لها، ومتممة للأجسام الحيوانية والنباتية إلى وقت معلوم، ثم إنها تاركة لهذه الأجسام ومفارقة لها وراجعة إلى عنصرها ومعدنها ومبدئها كما كانت، إما بربح وغبطة أو ندامة وحزن وخسران، كما ذكر الله - عز وجل - بقوله: @QUR010 كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة، وقال - عز وجل: @QUR010 كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين، وقال تعالى: @QUR08 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فكفى بهذا يا أخي زجرا ووعيدا وتهديدا وتوبيخا ومذكرا ونذيرا، إن كنت منتبها من نوم الغفلة ومستيقظا من رقدة الجهالة.
وأعيذك أيها الأخ البار الرحيم أن تكون من الذين ذمهم رب العالمين بقوله: @QUR023 لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون، أفترى ذمهم من أجل أنهم لم يكونوا يعقلون أمر معيشة الدنيا؟ إنما ذمهم لأنهم لم يكونوا يتفكرون في أمر الآخرة والمعاد ولا يفقهون ما يقال لهم من معاني أمر الآخرة وطريق المعاد، فقال: @QUR010 يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وقال - عز وجل: @QUR08 فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون.
(3) فصل في مثنوية قنية الإنسان ومثنوية الأعمال
ولما تبين أن أكثر أمور الإنسان وتصرف أحواله مثنوية متضادة من أجل أنه جملة مجموعة من جوهرين متباينين؛ جسد جسماني ونفس روحانية، كما بينا قبل ، صارت قنيته أيضا نوعين؛ جسمانية كالمال ومتاع الدنيا وروحانية كالعلم والدين، وذلك أن العلم قنية للنفس كما أن المال قنية للجسد، وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة، وبالدين يصل إليها، وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن بالأكل والشرب ينمى الجسد ويزيد ويربو ويسمن.
فلما كان هكذا صارت المجالس أيضا اثنين؛ مجلس للأكل والشرب واللهو واللعب واللذات الجسمانية من لحوم الحيوان ونبات الأرض لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاسد الفاني، ومجلس للعلم والحكمة وسماع روحاني من لذة النفوس التي لا تبيد جواهرها، ولا ينقطع سرورها في الدار الآخرة، كما ذكر الله - جل ثناؤه - بقوله: @QUR09 وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون، فلما كانت المجالس اثنين صار أيضا السائلون اثنين، واحد يسأل حاجة من عرض الدنيا، لصلاح هذا الجسد ولجر المنفعة إليه، أو لدفع المضرة عنه، وواحد يسأل مسألة من العلم لصلاح أمر النفس وخلاصها من ظلمات الجهالة أو للتفقه في الدين؛ طلبا لطريق الآخرة واجتهادا في الوصول إليها، وفرارا من نار جهنم ونجاة من عالم الكون والفساد وفوزا بالوصول إلى عالم الأفلاك وسعة السماوات والسيحان في درجات الجنان والتنفس من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن.
(4) فصل في العلم والمعلوم والتعلم والتعليم وأوجه السؤال
وينبغي لطالبي العلم والباحثين عن حقائق الأشياء أن يعرفوا أولا ما العلم وما المعلوم، وعلى كم وجه يكون السؤال وما جواب كل سؤال حتى يدروا ما الذي يسألون وما الذي يجيبون إذا سئلوا؛ لأن الذي يسأل ولا يدري أي شيء سأل فإذا أجيب لا يدري بأي شيء أجيب.
واعلم يا أخي بأن العلم إنما هو صورة المعلوم في نفس العالم، وضده الجهل وهو عدم تلك الصورة من النفس، واعلم بأن أنفس العلماء علامة بالفعل وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئا سوى إخراج ما في القوة؛ يعني: الإمكان، إلى الفعل؛ يعني الوجود، فإذا نسب ذلك إلى العالم سمي تعليما ، وإن نسب إلى المتعلم سمي تعلما.
واعلم بأن السؤالات الفلسفية تسعة أنواع مثل تسعة آحاد: أولها هل هو؟ والثاني ما هو؟ والثالث كم هو؟ والرابع كيف هو؟ والخامس أي شيء هو؟ والسادس أين هو؟ والسابع متى هو؟ والثامن لم هو؟ والتاسع من هو؟ تفسيرها: هل هو سؤال يبحث عن وجدان شيء أو عن عدمه؟ والجواب نعم أو لا. وقد بينا معنى الوجود والعدم في رسالة العقل والمعقول، وما هو سؤال يبحث عن حقيقة الشيء وحقيقة الشيء تعرف بالحد أو بالرسم، ذلك أن الأشياء كلها نوعان مركب وبسيط، فالمركب مثل الجسم، والبسيط مثل الهيولى والصورة، وقد بينا معناهما في رسالة الهيولى.
والأشياء المركبة تعرف حقيقتها إذا عرفت الأشياء التي هي مركبة منها، مثال ذلك إذا قيل: ما حقيقة الطين؟ فقال: تراب وماء مختلطان، وهكذا إذا قيل: ما حقيقة السكنجبين؟ فيقال: خل وعسل ممزوجان، وعلى هذا القياس كل مركب إذا سئل عنه، فيحتاج أن يذكر الأشياء التي هو مركب منها وموصوف بها، والحكماء يسمون مثل هذا الوصف الحد، ومن أجل هذا قالوا في حد الجسم: إنه الشيء الطويل العريض العميق، فقولهم: الشيء إشارة إلى الهيولى، وقولهم: الطويل والعريض والعميق إشارة إلى الصورة؛ لأن حقيقة الجسم ليست بشيء غير هذه التي ذكرت في حده، وهكذا قولهم في حد الإنسان: إنه حي ناطق مائت، فقولهم: حي ناطق يعنون به النفس، ومائت يعنون به الجسد؛ لأن الإنسان هو جملة مجموعة منهما؛ أعني: جسدا جسمانيا ونفسا روحانية، وعلى هذا القياس تعرف حقائق الأشياء المركبة من شيء.
وأما الأشياء التي ليست مركبة من شيء بل مخترعة مبدعة كما شاء باريها وخالقها تعالى فحقيقتها تعرف من الصفات المختصة بها، مثال ذلك إذا قيل: ما حقيقة الهيولى؟ فيقال: جوهر بسيط قابل للصورة لا كيفية فيه البتة، وإذا قيل: ما الصورة؟ فيقال: هي التي يكون الشيء بها ما هو، فمثل هذا الوصف تسميه الحكماء الرسم، والفرق بين الحد والرسم أن الحد مأخوذ من الأشياء التي المحدود مركب منها - كما بينا - والرسم مأخوذ من الصفات المختصة بالرسوم.
وفرق آخر: أن الحد يخبرك عن جوهر الشيء المحدود ويميزه عما سواه، والرسم يميز لك المرسوم عما سواه حسب، فينبغي لك أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، إذا سئلت عن حقيقة شيء من الأشياء أن لا تستعجل بالجواب بل تنظر هل ذلك الشيء المسئول عنه مركب أم بسيط حتى تجيب بحسب ذلك، وأما كم هو؟ فسؤال يبحث عن مقدار الشيء.
والأشياء ذوات المقادير نوعان متصل ومنفصل، فالمتصل خمسة أنواع: الخط والسطح والجسم والمكان والزمان، والمنفصل نوعان: العدد والحركة، وهذه الأشياء كلها يقال فيها: كم هو؟ وقد بينا ماهية العدد في رسالة الأرثماطيقي وماهية الحركة والزمان والمكان والجسم في رسالة الهيولى، وماهية الخط والسطح في رسالة الهندسة، وأما كيف هو؟ فسؤال يبحث عن صفة الشيء، والصفات كثيرة الأنواع، وقد بيناها في رسالة شرح المقولات العشر التي كل واحدة منها جنس الأجناس، وأما أي شيء هو؟ فسؤال يبحث عن واحد من الجملة أو عن بعض من الكل.
مثال ذلك إذا قيل: طلع الكوكب، فيقال: أي كوكب هو؟ لأن الكواكب كثيرة، وأما إذا قيل: طلعت الشمس، فلا يقال أي شمس هي؟ إذ ليس من جنسها كثرة وكذلك القمر، وأما أين هو؟ فسؤال يبحث عن مكان الشيء أو عن رتبته، والفرق بينهما أن المكان صفة لبعض الأجسام لا لكلها، مثال ذلك إذا قيل: أين زيد؟ فيقال: في البيت أو في المسجد أو في السوق أو في موضع آخر، وأما المحل فهو صفة للعرض، والعرض نوعان: جسماني وروحاني، فالأعراض الجسمانية حالة في الأجسام، مثال ذلك إذا قيل: أين السواد؟ فيقال: حال في الجسم الأسود وهكذا الألوان كلها والطعوم والروائح حالة في الأجسام ذات الطعم واللون والرائحة، وهكذا حكم جميع الأعراض الجسمانية.
وأما الأعراض الروحانية فحالة في الجواهر الروحانية، مثال ذلك إذا قيل: أين العلم؟ فيقال: حال في نفس العالم، وكذلك السخاء والشجاعة والعدل وما شاكلها من الصفات حالة في النفس وهكذا حكم أضدادها، وقد ظن كثير من أهل العلم ممن ليست له خبرة بأمر النفس ولا معرفة بجوهرها أن هذه الأعراض حالة في الجسم؛ كل واحد في محل مختص، مثال ذلك ما قالوا: إن العلم في القلب والشهوة في الكبد والعقل في الدماغ والشجاعة في المرارة والجبن في الطحال، وعلى هذا القياس سائر الأعراض، وقد بينا نحن أن هذه الأعضاء آلات وأدوات للنفس تظهر بها ومنها في الجسد هذه الأفعال والأخلاق في رسالة تركيب الجسد.
وأما الرتبة فهي من صفات الجواهر الروحانية، مثال ذلك إذا قيل: أين النفس؟ فيقال: هي دون العقل وفوق الطبيعة، وهكذا إذا قيل: أين الخمسة من العدد؟ فيقال: بعد الأربعة وقبل الستة، وعلى هذا القياس حكم الجواهر الروحانية التي لا توصف بالمكان ولا بالمحل، ولكن بالرتبة - كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
وأما متى هو؟ فسؤال يبحث عن زمان كون الشيء. والأزمان ثلاثة؛ ماض مثل أمس، ومستقبل مثل غد، وحاضر مثل اليوم، وهكذا حكم السنين والشهور والساعات، وقد بينا ماهية الزمان واختلاف أقاويل العلماء في ماهيته في رسالة الهيولى، وأما لم هو؟ فسؤال يبحث عن علة الشيء المعلول.
واعلم يا أخي بأن لكل معلول صناعي أربع علل؛ إحداها علة هيولانية، والثانية علة صورية، والثالثة علة فاعلية، والرابعة علة تمامية، مثال ذلك الكرسي والباب والسرير، فإن العلة الهيولانية فيها الخشب، والعلة الصورية الشكل والتربيع، والعلة الفاعلية النجار، والعلة التمامية للكرسي القعود عليه، وللسرير النوم عليه، وللباب ليغلق على الدار. وعلى هذا القياس كل معلول لا بد له من هذه الأربع العلل، فإذا سئلت عن علة شيء فاعرف أولا عن أيها تسأل؛ حتى يكون الجواب بحسب ذلك.
وأما من هو؟ فسؤال يبحث عن التعريف للشيء، ويقول علماء النحو: إن هذا السؤال لا يتوجه إلا إلى كل ذي عقل، ويقول قوم آخرون: إلى كل ذي علم وتمييز، والجواب فيه أن يعرف السؤال بأحد ثلاثة أشياء، إما أن ينسب إلى بلده، أو إلى أصله، أو إلى صناعته، مثال ذلك إذا قيل: من زيد؟ فيقال : البصري، ينسب إلى بلده، والهاشمي إلى أصله، والنجار إلى صناعته.
فهذه جملة مختصرة في كمية السؤالات وأجوبتها ومباحث العلوم والنظر في حقائق الأشياء شبه المدخل والمقدمات؛ ليقرب من فهم المتعلمين النظر في المنطق الفلسفي، وليوقفوا عليها قبل النظر في إيساغوجي الذي هو المدخل إلى المنطق الفلسفي.
(5) فصل في أجناس العلوم
وإذ قد فرغنا من ذكر ماهية العلوم وأنواع السؤالات وما يقتضي كل واحد من الأجوبة فنريد أن نذكر أجناس العلوم وأنواع تلك الأجناس؛ ليكون دليلا لطالبي العلم إلى أغراضهم وليهتدوا إلى مطلوباتهم؛ لأن رغبة النفوس في العلوم المختلفة وفنون الآداب كشهوات الأجسام للأطعمة المختلفة الطعم واللون والرائحة.
فاعلم يا أخي بأن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس، فمنها الرياضية، ومنها الشرعية الوضعية، ومنها الفلسفية الحقيقية. فالرياضية هي علم الآداب التي وضع أكثرها لطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا، وهي تسعة أنواع، أولها علم الكتاب والقراءة، ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات، ومنها علم الشعر والعروض، ومنها علم الزجر والفأل وما يشاكله، ومنها علم السحر والعزائم والكيمياء والحيل وما شاكلها، ومنها علم الحرف والصنائع، ومنها علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل، ومنها علم السير والأخبار.
فأما أنواع العلوم الشرعية التي وضعت لطب النفوس وطلب الآخرة فهي ستة أنواع؛ أولها علم التنزيل، وثانيها علم التأويل، والثالث علم الروايات والأخبار، والرابع علم الفقه والسنن والأحكام، والخامس علم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف، والسادس علم تأويل المنامات، فعلماء التنزيل هم القراء والحفظة، وعلماء التأويل هم الأئمة وخلفاء الأنبياء، وعلماء الروايات هم أصحاب الحديث، وعلماء الأحكام والسنن هم الفقهاء، وعلماء التذكار والمواعظ هم العباد والزهاد والرهبان ومن شاكلهم، وعلماء تأويل المنامات هم المعبرون.
وأما العلوم الفلسفية فهي أربعة أنواع؛ منها الرياضيات ومنها المنطقيات ومنها الطبيعيات ومنها الإلهيات، فالرياضيات أربعة أنواع؛ أولها الأرثماطيقي وهو معرفة ماهية العدد وكمية أنواعه وخواص تلك الأنواع وكيفية نشوئها من الواحد الذي قبل الاثنين وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض.
والثاني الجومطريا وهو الهندسة وهي معرفة ماهية المقادير ذوات الأبعاد وكمية أنواعها وخواص تلك الأنواع وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض وكيفية مبدئها من النقطة التي هي رأس الخط، وهي في صناعة الهندسة كالواحد في صناعة العدد.
والثالث الأسطرنوميا وهي النجوم، وهي معرفة كمية الأفلاك والكواكب والبروج وكمية أبعادها ومقادير أجرامها وكيفية تركيبها وسرعة حركاتها وكيفية دورانها وماهية طبائعها وكيفية دلائلها على الكائنات قبل كونها، والرابع الموسيقى الذي هو علم التأليف، وهو معرفة ماهية النسب وكيفية تأليف الأشياء المختلفة الجواهر المتباينة الصور، المتضادة القوى، المتنافرة الطبائع كيف تجمع ويؤلف بينها؛ كيما لا تتنافر وتأتلف وتتحد وتصير شيئا واحدا، وتفعل فعلا واحدا أو عدة أفعال، وقد عملنا في كل صناعة من هذه الصناعات رسالة شبه المدخل والمقدمات.
والعلوم المنطقيات خمسة أنواع؛ أولها أنولوطيقيا وهي معرفة صناعة الشعر، والثاني ديطوريقيا وهي معرفة صناعة الخطب، والثالث طوسيقا وهي معرفة صناعة الجدل، والرابع يولوطيقا وهي معرفة صناعة البرهان، والخامس سوفسطيقا وهي معرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجدل، وقد تكلم الحكماء الأولون والمتأخرون في هذه الصنائع والعلوم، وصنفوا فيها كتبا كثيرة، وهي موجودة في أيدي الناس.
وقد عمل أرسطاطاليس ثلاثة كتب أخر وجعلها مقدمات لكتاب البرهان؛ أولها قاطيغورياس والثاني باريميناس والثالث أنولوطيقيا الأولى، وإنما جعل عنايته أكثرها بكتاب البرهان؛ لأن البرهان ميزان الحكماء يعرفون به الصدق من الكذب في الأقوال والصواب من الخطأ في الآراء والحق من الباطل في الاعتقادات والخير من الشر في الأفعال، كما يعرف جمهور الناس بالموازين والمكاييل والأذرع؛ تقدير الأشياء الموزونة والمكيلة والمذروعة إذا اختلفوا في حزرها وتخمينها، فهكذا العلماء العارفون بصناعة البرهان يعرفون بها حقائق الأشياء إذا اختلف فيها حزر العقول وتخمين الرأي كما يعرف الشعراء العروضيون استواء القوافي وانزحافها إذا اختلف فيه بصناعة العروض الذي هو ميزان الشعر.
وقد عمل فرقوريوس الصوري كتابا وسماه إيساغوجي، وهو المدخل إلى صناعة المنطق الفلسفي، ولكن من أجل أنهم طولوا الخطب فيها ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن عارفا بها وبمعانيها انغلق على الناظرين في هذه الكتب فهم معانيها وعسر على المتعلمين أخذها، وقد عملنا في كل واحدة من هذه الصنائع رسالة ذكرنا فيها نكت ما يحتاج إليه وتركنا التطويل.
لكن نريد أن نذكر غرض ما في كل رسالة منها ها هنا؛ ليكون من ينظر فيها قد عرف غرض كل صناعة من هذه قبل النظر فيها، فنقول: أما غرض ما في إيساغوجي فهو معرفة معاني الستة الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها، وهو قولهم: الشخص والنوع والجنس والفصل والخاصة والعرض وماهية كل واحد منها وكيفية اشتراكاتها وماهية رسومها التي تميز بعضها من بعض وكيفية دلالاتها على المعاني التي في أفكار النفوس.
وأما غرض قاطيغورياس فهو معرفة معاني العشرة ألفاظ التي كل واحدة منها يقال لها: جنس الأجناس، وإن واحدا منها جوهر وتسعة أعراض وماهية كل واحد منها وكمية أنواعها ورسم كل واحد منها المميز لها بعضها من بعض، وكيفية دلالتها على جميع المعاني التي في أفكار النفوس.
وأما غرض ما في باريمنياس فهو معرفة تلك العشرة الألفاظ التي هي في قاطيغورياس، وما تدل عليه من المعاني عند التركيب حتى تصير كلمات وقضايا، ويكون منها الصدق والكذب، وأما غرض ما في أنولوطيقا الأولى فهو معرفة كيفية تركيب تلك الألفاظ مرة أخرى؛ حتى يكون منها مقدمات وكمية أنواعها وكيف تستعمل حتى يكون منها شيء محسوس واقتران القضايا ونتائجها. وأما غرض ما في أنولولطيقا الثانية فهو معرفة كيفية استعمال القياس الحق والبرهان الصحيح الذي لا خطأ فيه ولا زلل.
وأما العلوم الطبيعية فهي سبعة أنواع؛ أولها علم المبادئ الجسمانية وهي معرفة خمسة أشياء: الهيولى والصورة والزمان والمكان والحركة، وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، والثاني علم السماء والعالم وهو معرفة جواهر الأفلاك والكواكب وكميتها وكيفية تركيبها وعلة دورانها وهل تقبل الكون والفساد كما تقبل الأركان الأربعة التي هي دون فلك القمر أم لا؟ وما علة حركات الكواكب واختلافها في السرعة والإبطاء؟ وما علة حركة الأفلاك؟ وما علة سكون الأرض في وسط الفلك في المركز ؟ وهل خارج العالم جسم آخر أم لا؟ وهل في العالم موضع فارغ لا شيء فيه؟ وما شاكل ذلك من المباحث.
والثالث علم الكون والفساد، وهو معرفة ماهية جواهر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض وكيف يستحيل بعضها إلى بعض بتأثيرات الأشخاص العالية، ويكون منها الحوادث والكائنات من المعادن والنبات والحيوان، وكيف تستحيل إليها راجعة عند الفساد.
والرابع علم حوادث الجو، وهو معرفة كيفية تغييرات الهواء بتأثيرات الكواكب بحركاتها ومطارح شعاعاتها على هذه الأركان وانفعالاتها منها وخاصة الهواء؛ فإنه كثير التلون والتغير من النور والظلمة والحر والبرد وتصاريف الرياح والضباب والغيوم والأمطار والثلوج والبرد والبروق والرعود والشهب والصواعق وكواكب الأذناب وقوس قزح والزوابع والهالات وما شاكلها مما يحدث فوق رءوسنا من التغييرات والحوادث.
والخامس علم المعادن، وهو معرفة الجواهر المعدنية التي تنعقد من البخارات المحتقنة في باطن الأرض، والعصارات المنعقدة في الأهوية وكهوف الجبال، وقعور البحار من العقاقير والجواهر من الكباريت والزوابيق والشبوب والأملاح والنوشادر والذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والأسرب والكحل والزرنيخ والبلور والياقوت والبازهرات وما شاكلها، ومعرفة خواصها ومنافعها ومضارها.
والسادس علم النبات، وهو معرفة كل نبت يغرس أو يبذر أو ينبت على وجه الأرض أو في رءوس الجبال أو قعر المياه أو شطوط الأنهار من الأشجار والزروع والبقول والحشائش والعشب والكلاء ومعرفة كمية أنواعها وخواص تلك الأنواع ومواضع منابتها من البقاع وكيفية امتداد عروقها في الأرض وارتفاع فروعها وأصولها في الهواء؛ وانبساطها على وجه الأرض وتفرق فروعها في الجهات وأشكال أغصانها من الطول والقصر والدقة والغلظ والاستقامة والاعوجاج. وكيفية أشكال أوراقها من السعة والضيق واللين والخشونة وألوان أزهارها وأصباغ أنوارها وكيفية صور ثمارها وحبوبها وبذورها وصموغها وطعومها وروائحها وخواصها ومنافعها ومضارها واحدا واحدا.
والسابع علم الحيوان، وهو معرفة كل جسم يغتذي وينمى ويحس ويتحرك مما يمشي على وجه الأرض أو يطير في الهواء أو يسبح في الماء أو يدب في التراب أو يتحرك في جوف جسم آخر كالديدان في جوف الحيوان وفي لب النبات والثمر والحبوب وما شاكلها، ومعرفة كمية أجناسها وأنواع الأجناس وخواص تلك الأنواع ومعرفة كيفية تكونها في الأرحام أو في البيض أو في العفونات؛ ومعرفة كيفية تأليف أعضائها وتركيب أجسادها واختلاف صورها وائتلاف أزواجها وفنون أصواتها ومنافرة طباعها وتباين أخلاقها وتشاكل أفعالها ومعرفة أوقات هيجانها وسفادها واتخاذ أعشاشها ورفقها بتربية أولادها وتحننها على صغار نتاجها ومعرفتها بمنافعها ومضارها وأوطانها وأربابها وأعدائها ومعارفها، وما شاكل ذلك.
فالنظر في هذه كلها والبحث عنها ينسب إلى العلوم الطبيعيات، وكذلك علم الطب والبيطرة وسياسة الدواب والسباع والطيور والحرث والنسل وعلم الصنائع أجمع داخل في الطبيعيات.
(6) فصل في العلوم الإلهية
والعلوم الإلهية خمسة أنواع: أولها معرفة الباري - جل جلاله - وعم نواله وصفة وحدانيته وكيف هو علة الموجودات وخالق المخلوقات وفائض الجود ومعطي الوجود ومعدن الفضائل والخيرات وحافظ النظام ومبقي الدوام ومدبر الكل وعالم الغيب والشهادة لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأول كل شيء ابتداء وآخر كل شيء انتهاء وظاهر كل شيء قدره وباطن كل شيء علما، وهو السميع العليم اللطيف الخبير الرءوف بالعباد، عز شأنه، وجلت قدرته، وتعالى جده، وجل ثناؤه، ولا إله غيره، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
والثاني علم الروحانيات وهو معرفة الجواهر البسيطة العقلية العلامة الفعالة التي هي ملائكة الله، وخالص عباده وهي الصور المجردة من الهيولى، المستعملة للأجسام المدبرة بها لها ومنها أفعالها ومعرفة كيفية ارتباط بعضها ببعض وفيض بعضها على بعض، وهي أفلاك روحانية محيطات بالأفلاك الجسمانية.
والثالث علم النفسانيات، وهي معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض ومعرفة كيفية إداراتها للأفلاك وتحريكها للكواكب وتربيتها للحيوان والنبات وحلولها في جثث الحيوانات وكيفية انبعاثها بعد الممات.
والرابع علم السياسة وهي خمسة أنواع: أولها السياسة النبوية، والثاني السياسة الملوكية، والثالث السياسة العامية، والرابع السياسة الخاصية، والخامس السياسة الذاتية.
فأما السياسة النبوية فهي معرفة كيفية وضع النواميس المرضية والسنن الزكية بالأقاويل الفصيحة ومداواة النفوس المريضة من الديانات الفاسدة والآراء السخيفة والعادات الردية والأفعال الجائرة ومعرفة كيفية نقلها من تلك الأديان والعادات، ومحو تلك الآراء عن ضمائرها بذكر عيوبها ونشر تزييفها ومداواتها من سقام تلك الآراء وتلك العادات بالحمية لها من العود إليها وشفائها بالرأي المرضي والعادات الجميلة والأعمال الزكية والأخلاق المحمودة بالمدح لها والترغيب في جزيل الثواب يوم المآب.
وكيفية سياسة النفوس الشريرة بصدودها عن قصد سبيل الرشاد وسلوكها في وعور طرق الغي والتمادي بالقمع لها والزجر والوعيد والتوبيخ والتهديد؛ لترجع إلى سبل النجاة وترغب في جزيل الثواب ومعرفة كيفية تنبيه الأنفس اللاهية والأرواح الساهية من طول الرقاد ونسياها ذكر المعاد، والإذكار لها عهد يوم الميثاق؛ لئلا يقولوا ما جاءنا من رسول ولا كتاب، وهذه السياسة تختص بها الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم.
وأما السياسة الملوكية فهي معرفة حفظ الشريعة على الأمة، وإحياء السنة في الملة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإقامة الحدود وإنفاذ الأحكام التي رسمها صاحب الشريعة، ورد المظالم وقمع الأعداء وكف الأشرار ونصرة الأخيار، وهذه السياسة يختص بها خلفاء الأنبياء - صلوات الله عليهم - والأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
وأما السياسة العامية التي هي الرياسة على الجماعات كرياسة الأمراء على البلدان والمدن، ورياسة الدهاقين على أهل القرى، ورياسة قادة الجوش على العساكر وما شاكلها؛ فهي معرفة طبقات المرءوسين وحالاتهم وأنسابهم وصنائعهم ومذاهبهم وأخلاقهم وترتيب مراتبهم ومراعاة أمورهم وتفقد أسبابهم وتأليف شملهم والتناصف بينهم وجمع شتاتهم واستخدامهم في ما يصلحون له من الأمور واستعمالهم في ما يشاكلهم من صنائعهم وأعمالهم اللائقة بواحد واحد منهم.
وأما السياسة الخاصية فهي معرفة كل إنسان كيفية تدبير منزله وأمر معيشته ومراعاة أمر خدمه وغلمانه وأولاده ومماليكه وأقربائه، وعشرته مع جيرانه وصحبته مع إخوانه وقضاء حقوقهم، وتفقد أسبابهم والنظر في مصالحهم من أمور دنياهم وآخرتهم.
وأما السياسة الذاتية فهي معرفة كل إنسان نفسه وأخلاقه وتفقد أفعاله وأقاويله في حال شهواته وغضبه ورضاه والنظر في جميع أموره.
والخامس علم المعاد وهو معرفة ماهية النشأة الأخرى وكيفية انبعاث الأرواح من ظلمة الأجساد وانتباه النفوس من طول الرقاد وحشرها يوم المعاد وقيامها على الصراط المستقيم وحشرها لحساب يوم الدين ومعرفة كيفية جزاء المحسنين وعقاب المسيئين.
وقد عملنا في كل فصل من هذه العلوم التي تقدم ذكرها رسالة، وذكرنا فيها طرفا من تلك المعاني وأتممناها بالجامعة؛ ليكون تنبيها للغافلين وإرشادا للمريدين وترغيبا للطالبين ومسلكا للمتعلمين، فكن به يا أخي سعيدا، واعرض هذه الرسالة على إخوانك وأصدقائك، ورغبهم في العلم، وزهدهم في الدنيا، ودلهم على طريق الآخرة؛ فإنك بذلك تنال الزلفى من الله تعالى، وتستوجب رضوانه، وتفوز بسعادة الآخرة، وتبلغ به المرتبة العليا كما دل عليه قول النبي - عليه السلام: «الدال على الخير كفاعله.»
واعلم يا أخي بأن هذه الطريقة هي التي سلكها الأنبياء - صلوات الله عليهم - واتبعهم عليها الأخيار الفضلاء من العلماء والحكماء، فاجتهد لعلك تحشر في زمرتهم كما وعد الله تعالى، فقال:@QUR019 فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله، @QUR09 والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين، وفقك الله وإيانا أيها الأخ للسداد، وهدانا وإياك سبيل الرشاد.
الرسالة الثامنة في الصنائع العملية والغرض منها
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
وإذ قد فرغنا من ذكر الجواهر الجسمانية ووصفنا هيولاتها وصورها وتركيبها وما يعرض للمركب من الأغراض، وبينا أيضا كيفية إدراكها بطريق الحواس بتوسط أعراضها في رسائلنا «الطبيعيات» نريد أن نذكر في العقليات الجواهر الروحانية؛ لأنه لما كانت الموجودات كلها معقولة أو محسوسة، جواهر أو أعراضا أو مجموعا منهما؛ صورا أو هيولى، أو مركبا منهما؛ جسمانيا أو روحانيا، أو مقرونا بينهما؛ وكانت الجواهر الجسمانية منفعلة كلها، مدركة بطريق الحواس، والجواهر الروحانية فاعلة، ولا تدرك بطريق الحواس، ولا تعرف إلا بالعقل وبما يصدر عنها من الأفعال العقلية، والصنائع العملية بعد العلمية في الجواهر الجسمانية؛ احتجنا أن نذكر الصنائع العملية في الهيوليات وماهياتها وكمياتها وكيفياتها وكيفية إظهار صناعاتها في الهيوليات الموضوعة لها؛ ليكون أوضح في الدليل على إثبات الذوات الروحانية الفاعلة، وأبين لمعرفة جواهرها وفنون حركاتها وعجائب قوتها وغرائب علومها وبدائع صنائعها واختلاف أفعالها.
فاعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الصنائع البشرية نوعان علمية وعملية، وتقدم القول في العلمية فيما تقدم، فنقول: أولا ما العلوم؟ العلوم هي صور المعلومات في نفس العالم.
واعلم يا أخي بأن العلم لا يكون إلا بعد التعليم والتعلم، والتعليم هو تنبيه النفس العلامة بالفعل للنفس العلامة بالقوة، والتعلم هو تصور النفس لصورة المعلوم.
واعلم يا أخي بأن النفس إنما تنال صور المعلومات من طرقات ثلاث؛ إحداها طريق الحواس والأخرى طريق البرهان، والأخيرة طريق الفكر والروية، وقد عملنا في كل واحدة منها رسالة، فنريد أن نذكر الآن الصنائع العملية؛ فنقول:
إن الصنعة العملية هي إخراج الصانع العالم الصورة التي في فكره ووضعها في الهيولى، والمصنوع هو جملة مصنوعة من الهيولى والصورة جميعا، وابتداء ذلك من تأثير النفس الكلية فيها بقوة تأييد العقل الكلي بأمر الله - جل ثناؤه.
واعلم بأن المصنوعات أربعة أجناس: بشرية وطبيعية ونفسانية وإلهية، فالبشرية مثل ما يعمل الصناع من الأشكال والنقوش والأصباغ في الأجسام الطبيعية في أسواق المدن وغيرها من المواضع. والمصنوعات الطبيعية هي صور هياكل الحيوانات، وفنون أشكال النبات وألوان جواهر المعادن، والمصنوعات النفسانية مثل نظام مراكز الأركان الأربعة التي هي تحت فلك القمر، وهي النار والهواء والماء والأرض، ومثل تركيب الأفلاك ونظام صورة العالم بالجملة، والمصنوعات الإلهية هي الصور المجردة من الهيوليات المخترعات من مبدع المبدعات تعالى وجودا من العدم، ليس من ليس، وشيء لا من شيء، دفعة واحدة بلا زمان ولا مكان ولا هيولى ولا صورة ولا حركة؛ لأنها كلها مبدعات الباري ومخترعاته ومصنوعاته - فتبارك الله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
واعلم يا أخي بأن كل صانع من البشر محتاج في تتميم صنعته إلى ستة أشياء مختلفة وهو السابع، وإلى سبع حركات وإلى سبع جهات، فأما الأشياء المختلفة فهي الهيولى والمكان والزمان والأداة والآلة والحركة والسابع النفس، وكل صانع طبيعي فمحتاج إلى أربعة منها، وهي الهيولى والمكان والزمان والحركة، وكل صانع نفساني فمحتاج إلى اثنين منها، وهما الهيولى والحركة حسب، وكل صانع عقلي فمحتاج إلى صورة واحدة فقط، وهو العقل الأول أثر من مبدع البدائع الحق، لا من شيء إلى شيء.
وأما الباري - جل ثناؤه - فغير محتاج إلى شيء منها؛ لأنها كلها مخترعاته ومبدعاته؛ أعني: الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة والآلة والأدوات كلها.
(1) فصل في الصورة والهيولى والأداة
واعلم يا أخي أن الجسم الواحد يسمى تارة هيولى وتارة موضوعا وتارة صورة وتارة مصنوعا وتارة آلة وتارة أداة، وإنما يسمى الجسم هيولى للصورة التي يقبلها، وهي الأشكال والنقوش والأصباغ وما شاكلها، ويسمى موضوعا للصانع الذي يعمل منه وفيه صنعته من الأشكال والنقوش، وإذا قبل ذلك سمي مصنوعا، وإذا استعمله الصانع في صنعته أو في صنعة أخرى يسمى أداة، مثال ذلك قطعة حديد، فإنه يقال لها هيولى لكل صورة تقبلها، ويقال لها أيضا إنها موضوع للحداد الذي يعمل فيها صنعته، وإذا صنع الحداد منه سكينا أو فأسا أو منشارا أو مبردا أو غير ذلك سمي مصنوعا، وإذا استعمل السكين القصاب أو غيره تسمى أداة، وهكذا الفأس وغيرها.
واعلم يا أخي أن موضوعات الصناع البشريين في صناعاتهم نوعان فقط: بسيط ومركب، فالبسيط أربعة أنواع، وهي النار والهواء والماء والأرض، والمركب ثلاثة أنواع، وهي الأجسام المعدنية والأجسام النباتية والأجسام الحيوانية، وهي كلها مصنوعات الطبيعة، كما أن موضوعات الطبيعة كلها مصنوعات نفسانية، وأن الموضوعات النفسانية كلها مصنوعات إلهية.
واعلم أن كل صانع من البشر لا بد له من أداة أو أدوات أو آلة أو آلات، يستعملها في صنعته، والفرق بين الآلة والأداة: أن الآلة هي اليد والأصابع والرجل والرأس والعين، وبالجملة أعضاء الجسد. وأن الأداة ما كانت خارجة من ذات الصانع كفأس النجار ومطرقة الحداد وإبرة الخياط وقلم الكاتب وشفرة الإسكاف وموس المزين، وما شاكل هذه من الأدوات التي يستعملها الصناع في صنائعهم ولا تتم صناعاتهم إلا بها.
واعلم بأن كل صانع له في صنعته أدوات مختلفة الأشكال والهيئات، وهذا أحد أسبابه في اختلاف أفعاله، وهو يظهر بكل واحد منها في صنعته ضروبا من الحركات وفنونا من الأفعال.
مثال ذلك النجار، فإنه بالفأس ينحت وحركته من فوق إلى أسفل وبالمنشار ينشر وحركته من قدام إلى خلف وبالمثقب يثقب وحركته قوسية يمنة ويسرة وحركة مثقبه دورية، وعلى هذا القياس يوجد في كل صنعة لصانعها سبع حركات؛ واحدة دورية وست مستقيمة، وذلك بواجب الحكمة الإلهية؛ لأنه لما كانت حركات الأجرام العلوية الفلكية سبعة أنواع؛ واحدة دورية بالقصد الأول وست عرضية كما بينا في رسالة «السماء والعالم»؛ صارت حركات الأشخاص التي تحت فلك القمر أيضا مماثلة لها؛ لأن تلك علل وهذه معلولات ومن شأن المعلولات أن يوجد فيها علتها وتأثيراتها، ومن أجل هذا قالت الحكماء إن الثواني من الأمور تحكي أوائلها كما يحكي الصبيان في لعبهم صناعة الآباء والأمهات والأستاذين.
واعلم يا أخي بأنه لا بد لكل صانع من البشر من تحريك عضو من أعضائه في صناعته أو عدة أعضاء كاليد والرجل والظهر والكتف والركبة.
وبالجملة: ما من عضو في الجسد إلا وللنفس بذلك العضو فعل أو عدة أفعال خلاف ما يكون بعضو آخر؛ فإن أعضاء الجسد هي آلات للنفس وأدوات لها، وقد بينا طرفا من ذلك في رسالة تركيب الجسد وفي رسالة الحاس والمحسوس، وفي رسالة العقل والمعقول، وفي رسالة الإنسان عالم صغير.
(2) فصل في أن موضوع الصناع نوعان
واعلم يا أخي بأنه لا بد في كل صنعة من موضوع يعمل الصانع منه وفيه صنعته، فالموضوع في صناعة البشريين نوعان: روحاني وجسماني، فالروحاني هو الموضوع في الصناعة العلمية - كما بينا في رسالة المنطق - والجسماني هو الموضوع في الصناعة العملية، وهو نوعان بسيطة ومركبة، فالبسيطة هي النار والهواء والماء والأرض، والمركبة ثلاثة أنواع، وهي الأجسام المعدنية والأجسام النباتية والأجسام الحيوانية.
فمن الصنائع ما هي الموضوع فيها الماء حسب، كصناعة الملاحين والسقائين والروائين والشرابين والسباحين ومن شاكلهم، ومنها ما هي الموضوع فيها التراب حسب، كصناعة حفار الآباء والأنهار والقني والقبور والمعادن، وكل من ينقل التراب ويقلع الحجارة، ومنها ما هي الموضوع فيها النار حسب كصناعة النفاطين والوقادين والمشعلين، ومنها ما هي الموضوع فيها الهواء حسب كصناعة الزمارين والبواقين والنفاخين أجمع، ومنها ما هي الموضوع فيها الماء والتراب حسب كصناعة الفخارين والغضارين والقدوريين وضرابي اللبن وكل من يبل التراب، ومنها ما هي الموضوع فيها أحد الأجسام المعدنية كصناعة الحدادين والصفارين والرصاصين والزجاجيين والصواغين ومن شاكلهم.
ومنها ما هي الموضوع فيها أصول النبات من الأشجار والقضبان والأوراق كصناعة النجارين والخواصين والبوارين والحصريين والأقفاصيين ومن شاكلهم، ومنها ما هي فيها لحاء النبات حسب، كصناعة الكتانين، ومن يعمل القنب والكاغد ومن شاكلهم، ومنها ما هي الموضوع فيها ورق الأشجار والحشائش وزهر النبات ونورها وعروقها وقشورها، ومنها ما هي الموضوع فيها ثمر الأشجار وحب النبات؛ كصناعة الدقاقين والرزازين والنوائيين والعصارين والبزارين والشيرجيين، وكل من يخرج الأدهان من ثمر الشجر وحب النبات.
ومنها ما هي الموضوع فيها الحيوان كصناعة الصيادين ورعاة الغنم والبقر وساسة الدواب والبياطرة وأصحاب الطيور ومن شاكلهم، ومنها ما هي الموضوع فيها أحد الأجسام الحيوانية من اللحم والعظم والجلد والشعر والصوف والقز؛ كصناعة القصابين والشوائين والطباخين والدباغين والأساكفة والخرازين والسيوريين والدنانين والحذائين ومن شاكلهم، ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها مقادير الأجسام كصناعة الوزانين والكيالين والذراعين ومن شاكلهم، ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها قيمة الأشياء كصناعة الصيارفة والدلالين والمقومين ومن شاكلهم.
ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها أجساد الناس؛ كصناعة الطب والمزينين ومن شاكلهم، ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها نفوس الناس؛ كصناعة المعلمين أجمع، وهي نوعان: عملية وعلمية، فالعلمية مثل ما ذكرنا في رسالة أجناس العلوم وأنواعها، مما قد شرحناه في إحدى وخمسين رسالة من رسائلنا والعملية مثل ما ذكرنا في ما تقدم.
(3) فصل في الحاجة إلى الآلات والأدوات
واعلم يا أخي أن من الصناع من يحتاج في صنعته إلى استعمال عضو من جسده أو عضوين، وأداة من خارج أو أدوات كثيرة كالحراث والبناء والدباغ والحائك وأمثالهم، فإن كل واحد منهم يحتاج إلى أدوات من خارج وتحريك يديه ورجليه في صناعته، ومن الصنائع ما لا يحتاج فيها إلى أدوات من خارج، بل يكفيه عضو من جسده كالخطيب والشاعر والقاضي والقارئ ومن شاكلهم، فإن كل واحد منهم يكفيه لسانه حسب.
وكذلك الناطور والديدبان وأصحاب المراتب يكفيهم في صناعتهم العينان حسب، ومنهم من يستعمل في صنعته عضوين كالحاكي والنائحة باليد واللسان، ومنهم من يحتاج إلى استعمال جسده كله كالرقاص والسابح، ومن الصناع من يحتاج في صنعته إلى المشي كالساعي والماسح، ومنهم من يحتاج إلى القعود دائما كالرفاء والنداف.
ومن الصناع من لا يحتاج في صناعته إلا إلى أداة واحدة كالبواق والزمار والدفاف، ومنهم من يحتاج إلى أداتين كالخياط والكاتب؛ فإن الخياط يكفيه في صنعته الإبرة والمقص، والكاتب يكفيه القلم والدواة، وأما استعمال الكاتب السكين فليس من صناعة الكتابة، ولكن من صناعة النجارة.
ومن الصناع من يحتاج إلى القيام دائما في صناعته كالحلاج ودقاق الأرز والذي يدير الدولاب برجليه.
(4) فصل في أن النار من الأدوات المفيدة في الصناعة
واعلم يا أخي بأن أكثر الصنائع لا بد من استعمال النار فيها، وكل صانع استعمل النار في صناعته فلأحد أسباب ثلاثة، إما في موضوعه كالحدادين والصفارين والزجاجين، ومن يطبخ الجص والنورة وأمثالهم وغرضهم هو تليين الهيولى لقبول الصورة والأشكال، وذلك أنه لما كانت موضوعاتهم أحجارا صلبة لا تقبل الصورة والأشكال إلا بعد تليين بالنار، فإذا لانت أمكن الصانع أن يصنع الصنعة التي في فكره، فتصير الهيولى بعد قبولها تلك الصورة مصنوعة.
ومن الصناع من يستعمل النار كالجرارين والقدوريين والغضارين ومن يطبخ الآجر، وغرضهم في ذلك تقييد الصورة في الهيولى وثباتها فيها؛ لئلا تنسل منها الصورة بالعجلة؛ لأن من شأن الهيولى دفع الصورة عن ذاتها ورجوعها إلى حالها الأول جوهرا بسيطا لا تركيب فيه ولا كمية ولا كيفية.
ومن الصناع من يستعمل النار في موضوعه ومصنوعه كالطباخين والشوائين والخبازين وأمثالهم، وغرضهم تتميمها وتنضيجها ليتم الانتفاع بها.
(5) فصل في مراتب الصناعات
واعلم يا أخي بأن من هذه الصنائع ما هي بالقصد الأول دعت الضرورة إليها، ومنها ما هي تابعة لها وخادمة، ومنها ما هي متممة لها ومكملة، ومن الصنائع ما هي جمال وزينة، فأما التي بالقصد الأول فثلاثة، وهي الحراثة والحياكة والبناء، وأما سائرها فتابعة وخادمة ومتممة؛ وذلك أن الإنسان لما خلق رقيق الجلد عريانا من الشعر والصوف والوبر والصدف والريش، وما هو موجود لسائر الحيوان دعته الضرورة إلى اتخاذ اللباس بصناعة الحياكة، ولما كانت الحياكة لا تتم إلا بصناعة الغزل وصناعة الغزل لا تتم إلا بصناعة الحلج؛ فصارت هذه الثلاثة تابعة لها وخادمة.
وأيضا لما كان اللباس لا يتم إلا بالحياكة حسب صارت صناعة الخياطة والقصارة والرفو والطرز متممة لها ومكملة، وأيضا لما خلق الإنسان محتاجا إلى القوت والغذاء، والقوت والغذاء لا يكونان إلا من حب النبات وثمر الشجر دعت الضرورة إلى صناعة الحراثة والغرس، ولما كانت صناعة الحراثة والغرس محتاجة إلى إثارة الأرض وحفر الأنهار، ولا يتم هذا إلا بالمساحي والفدن وما شاكلها، والمساحي والفدن لا تكون إلا بصناعة النجارة والحدادة؛ دعت الضرورة إلى اتخاذهما، وصناعة الحديد محتاجة إلى صناعة المعدن وإلى صنائع أخرى، فصارت كلها تابعة وخادمة لصناعة الحراثة والغرس.
ولما كان حب الزرع وثمر الشجر يحتاج إلى الدق والطحن؛ دعت الضرورة إلى اتخاذ صناعة الطحن والعصر، ولما كان الطحن لا يتم الغذاء به إلا بعد الخبز دعت الضرورة إلى صناعة الخبز والطبخ، وكل واحد منهما محتاج إلى صناعة أخرى متممة له وخادمة، وأيضا لما كان الإنسان محتاجا إلى ما يكنه من الحر والبرد، والتحرز من السباع وتحصين القوت؛ دعته الضرورة إلى صناعة البناء، وصناعة البناء محتاجة أيضا إلى صناعة النجارة والحدادة، وكل واحدة منهما محتاجة إلى صناعة أخرى معينة أو متممة بعضها لبعض.
وأما صناعة الزينة والجمال فهي كصناعة الديباج والحرير وصناعة العطر وما شاكلها، والصنائع كلها الحذق فيها هو تحصيل الصور في الهيولى وتتميمها وتكميلها؛ لينال الانتفاع بها في الحياة الدنيا حسب.
واعلم يا أخي أن الناس كلهم صناع وتجار أغنياء وفقراء، فالصناع هم الذين يعملون بأبدانهم وأدواتهم في مصنوعاتهم الصور والنقوش والأصباغ والأشكال، وغرضهم طلب العوض عن مصنوعاتهم لصلاح معيشة الحياة الدنيا، والتجار هم الذين يتبايعون بالأخذ والإعطاء، وغرضهم طلب الزيادة فيما يأخذونه على ما يعطون، والأغنياء هم الذين يملكون هذه الأجسام المصنوعة الطبيعية والصناعية، وغرضهم في جمعها وحفظها مخافة الفقر، والفقراء هم المحتاجون إليها وطلبهم الغنى.
واعلم أن الغرض في كون الناس أكثرهم فقراء، وخوف الأغنياء من الفقر؛ هو الحث لهم على الاجتهاد في اتخاذ الصنائع والثبوت فيها والتجارات، والغرض فيها جميعا هو إصلاح الحاجات وإيصالها إلى المحتاجين، والغرض في ذلك متاع لهم إلى حين، والغرض في تمتعهم إلى حين هو أن تتمم النفس بالمعارف الحقيقية والأخلاق الجميلة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية، والغرض في تتميم النفس التمكين لها من الصعود إلى ملكوت السماء، والغرض في صعودها إلى ملكوت السماء هو النجاة من بحر الهيولى وأسر الطبيعة والخروج من هاوية عالم الكون والفساد إلى فسحة عالم الأرواح والمكث هناك فرحا مسرورا ملتذا مخلدا أبدا.
(6) فصل في أن كل صناعة تحتاج إلى الفكر والتعقل
واعلم يا أخي أنا إنما ذكرنا هذه الصنائع والمهن ونسبنا هذه الرسالة إلى رسائل العقل والمعقول؛ لأن هذه الصنائع يعملها الإنسان بعقله وتمييزه ورويته وفكرته التي كلها قوى روحانية عقلية، وأيضا إن كل عاقل إذا فكر في هذه الصنائع والأفعال التي تظهر على أيدي البشر، فيعلم أن مع هذا الجسد جوهرا آخر هو مظهر هذه الأفعال المحكمة، وهذه الصنائع المتقنة من هذا الجسد؛ لأن الجسد قد يوجد بعد الممات برمته تاما لم ينقص منه شيء، وقد فقدت منه هذه كلها، فيعلم أن معه جوهرا آخر فارقه، فمن أجل ذلك فقدت هذه الفضائل كلها؛ لأنه هو الذي يحرك هذا الجسد وينقله من موضع إلى موضع في الجهات الست.
وكان يحرك أيضا بتوسطه أشياء خارجة من ذاته، وكان أيضا يحمل معه حملا على ظهره وكتفه، فلما فارقه احتاج هذا الجسد إلى أربعة نفر يحملونه على لوح مطروحا عليه لا يطيق قياما ولا قعودا ولا حركة ولا يحس بوجوده ولا ما يفعل به من غسل ودفن.
وقد زعم كثير من أهل العلم ممن ليست له خبرة بأمر النفس ولا معرفة بجوهرها؛ أن هذه الصنائع المحكمة والأفعال المتقنة التي تظهر على أيدي البشر الفاعل لها هو هذا الجسد المؤلف من اللحم والدم والشحم والعظام والعصب بأعراض تحله مثل الحياة والقدرة والعلم وما شاكلها، ولم يعرفوا أن هذه الأعراض ليس حلولها في الجسم، وإنما هي أعراض نفسانية تحل جوهر النفس، وذلك أن الإنسان لما كان مجموعا من جسم ميت ونفس حية، وجدت هذه الأعراض في حال حياته وفقدت في حال مماته وليست الحياة شيئا سوى استعمال النفس الجسد، ولا الممات شيئا سوى تركها استعماله، كما أنه ليست اليقظة سوى استعمالها الحواس الخمس ولا النوم شيئا سوى تركها استعمالها.
(7) فصل في شرف الصنائع
اعلم يا أخي بأن الصنائع يتفاضل بعضها على بعض من عدة وجوه؛ إحداها من جهة الهيولى التي هي الموضوع فيها، ومنها من جهة مصنوعاتها، ومنها من جهة الحاجة الضرورية الداعية إلى اتخاذها، ومنها من جهة منفعة العموم، ومنها من جهة الصناعة نفسها. فأما التي شرفها من جهة الحاجة الضرورية إليها فهي ثلاثة أجناس، وهي: الحياكة والحراثة والبناء كما ذكرنا قبل. وأما التي شرفها من جهة الهيولى الموضوع فيها فمثل صناعة الصاغة والعطارين وما شاكلها. وأما التي من جهة مصنوعاتها فمثل صناعة الذين يعملون آلات الرصد، مثل الأسطرلاب وذوات الحلق والأكر الممثلة بصورة الأفلاك وما شاكلها؛ فإن قطعة من الصفر قيمتها خمسة دراهم إذا عمل منها أسطرلاب يساوي مائة درهم، فإن تلك القيمة ليست للهيولى، ولكن لتلك الصورة التي جعلت فيها.
وأما الذهب والفضة اللذان هما الهيولى الموضوع في صناعة الصواغين أو الضرابين إذا ضرب منهما دراهم ودنانير أو صياغة ما، فليس مبلغ تفاوت القيمة ما بين الموضوع والمصنوع مثل ما يبلغ في صناعة أسطرلاب وغيرها.
وأما التي شرفها من جهة النفع منها للعموم فهي مثل صناعة الحمامين والسمادين والكناسين وغيرهم ، وذلك أن الحمام المنفعة منه للصغير والكبير والشريف والوضيع والمدني والغريب والقريب والبعيد كلهم بالسوية لا يتفاضلون في الانتفاع به.
وأما أكثر الصنائع فأهلها متفاوتون في منافعها كاختلافهم في الملبوسات والمأكولات والمشروبات والمسكونات وأمثالها من الأمتعة المصنوعة، حال الغني فيها خلاف حال الفقير إلا الحمام المزين وأمثالهما، وأما صناعة السمادين والزبالين فإن الضرر في تركها عظيم عام على أهل المدينة؛ وذلك أن العطارين الذين الموضوع في صناعاتهم مضاد للموضوع في صناعة السمادين لو أنهم أغلقوا دكاكينهم وأسواقهم شهرا واحدا لم يلحق من ذلك من الضرر لأهل المدينة مثل ما يلحق من الضرر من ترك السمادين صناعاتهم أسبوعا واحدا؛ فإن المدينة تمتلئ من السماد والسرقين والجيف والقاذورات وما يتنغص عيش أهلها من أجله.
وأما التي شرفها من الصناعة نفسها فهي مثل صناعة المشعبذين والمصورين والموسيقيين وأمثالهم، وذلك أن الشعبذة ليست شيئا سوى سرعة الحركة وإخفاء الأسباب التي يعملها الصانع فيها حتى إنه مع ضحك السفهاء منها يتعجب العقلاء أيضا من حذق صانعها. وأما صناعة المصورين فليست شيئا سوى محاكاتهم صور الموجودات المصنوعات الطبيعية أو البشرية أو النفسانية، حتى إنه يبلغ من حذقهم فيها أن تصرف أبصار الناظرين إليها عن النظر إلى الموجودات أنفسها بالتعجب من حسنها ورونق منظرها، ويبلغ أيضا التفاوت بين صناعها تفاوتا بعيدا، فإنه يحكى أن رجلا في بعض المواضع عمل صورا وتماثيل مصورة بأصباغ صافية وألوان حسنة براقة، وكان الناظرون إليها يتعجبون من حسنها ورونقها، ولكن كان في الصنعة نقص حتى مر بها صانع فاره حاذق، فتأملها فاستزرى بها وأخذ فحمة من الطريق ومثل بجانب تلك التصاوير صورة رجل زنجي كأنه يشير بيديه إلى الناظرين، فانصرفت أبصار الناظرين بعد ذلك عن النظر إلى تلك التصاوير والأصباغ بالنظر إليه والتعجب من عجيب صنعته وحسن إشارته وهيئة حركته.
وأما شرف صناعة الموسيقى فمن وجهين اثنين: أحدهما من جهة الصناعة نفسها، والآخر من جهة تأثيراتها في النفوس، وأيضا من جهة تفاوت ما بين صناعها؛ وذلك أن الواحد منهم يضرب لحنا فيطرب بعض المستمعين وآخر يضرب لحنا فيطرب كل المستمعين، وقد يحكى أن جماعة من أهل هذه الصناعة كانوا مجتمعين في دعوة رجل كبير رئيس؛ إذ دخل عليهم إنسان رث الحال عليه ثياب النساك، فرفعه صاحب المجلس عليهم كلهم، فتبين الإنكار في وجوههم فأراد أن يبين فضله، فسأله أن يسمعهم شيئا من صنعته، فأخرج خشبات وركبها تركيبا ومد عليها أوتارا كانت معه وحركها تحريكا، فأضحك كل من كان في المجلس من اللذة والفرح، ثم قلب وحرك تحريكا آخر، فأبكى كل من كان في المجلس من الحزن ورقة القلب، ثم قلب وحرك تحريكا فنوم كل من كان في المجلس، وقام وخرج فلم يعرف له خبر!
واعلم يا أخي بأن الحذق في كل صنعة هو التشبه بالصانع الحكيم الذي هو الباري - جل ثناؤه - ويقال إن الله تعالى يحب الصانع الفاره الحاذق، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله تعالى يحب الصانع المتقن في صنعته، ومن أجل هذا قيل في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان، وإنما أردنا بالتشبه التشبه في العلوم والصنائع وإفاضة الخير؛ وذلك أن الباري - جل ثناؤه - أعلم العلماء وأحكم الحكماء وأصنع الصناع وأفضل الأخيار، فكل من زاد في هذه الأشياء درجة ازداد من الله قربة، كما ذكر الله سبحانه في وصف الملائكة الذين هم خالص عباده؛ فقال: @QUR08 يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته.
واعلم يا أخي أن الوسيلة لا تكون إلا بعمل أو علم أو عبادة؛ لأن العباد لا يملكون شيئا سوى سعيهم كما ذكر الله - عز وجل - فقال: @QUR011 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى.
(8) فصل في قابلية الإنسان الصنعة
واعلم أن قبول الصبيان تعلم الصنائع يختلف بحسب طباعهم المختلفة واختلاف طباعهم بحسب مواليدهم، وقد شرحنا ذلك في رسالة تأثيرات النجوم في المواليد، ولكن نريد أن نذكر ها هنا من ذلك طرفا، فاعلم أن من الناس من هو مطبوع على تعلم صناعة واحدة أو عدة صنائع بسهولة في قبولها حتى إن كثيرا من الناس من يتعلم صناعة بجودة قريحته، إذا رأى أهل تلك الصناعة في أعمالهم بأدنى تأمل كأنه قد وقف عليها، ومنهم من يحتاج إلى توقيف شديد وحث دائم وترغيب، وربما لا يفلح فيها إذا لم يكن فيها موافقا للطبيعة، وما أوجبه له مولده، ومن الناس من لا يتعلم الصناعة البتة، ويكون فارغا خلوا منها جميعا، والسبب في ذلك أن الصناعة لا تأتي للمولود إلا بدلالة كوكب متول لبرج العاشر من طالعه؛ وذلك أنه إذا استولى عليه من أحد الكواكب الثلاثة واحد فلا بد من صنعة يتعلمها، وهي المريخ والزهرة وعطارد؛ وذلك أن كل صنعة فلا بد لها من حركة ونشاط وحذق، فالحركة للمريخ والنشاط للزهرة والحذق لعطارد.
وأربعة منها إذا انفرد أحدها بالدلة فلا يعطي الصنعة ولكن يدل على ما يشاكله من الأعمال، وهي الشمس وزحل والمشتري والقمر؛ وذلك أن من استولى عليه في مولده على الدرجة العاشرة الشمس، فهو لا يتعلم الصناعة لكبر نفسه مثل أولاد الملوك، وأما من استولى عليه المشتري فهو لا يتعلم ولا يعمل لزهده وورعه ورضاه بقليل من أمور الدنيا وإقباله على طلب الآخرة مثل الأنبياء - عليهم السلام - ومن يقتدي بهم.
وأما من استولى عليه زحل فإنه لا يعمل ولا يتعلم لكسله وثقل طبيعته عن الحركة ويرضى بالذل والهوان في طلب معاشه كالمكدين والسؤال، وأما من استولى عليه القمر فإنه لا يعمل من أجل مهانته واسترخاء طبيعته وقلة فهمه مثل النساء وأمثالهن من الرجال.
ومن أجل هذا كان اليونانيون الذين كانوا في قديم الزمان إذا أرادوا تسليم الصبي إلى صناعة من الصنائع اختاروا له يوما من الأيام وأدخلوه إلى هيكل الصنائع وصور سائر الكواكب وقربوا قربانا لصنم ذلك الكوكب الذي دل على صناعته وسلموه إلى تلك الصناعة بعد ما عرفوا ذلك من مولده، وإن لم يكونوا عرفوه من مولده عرضوا عليه الصنائع المصورة في ذلك الهيكل، فإن رغب في واحدة منها بعد توقيفهم له على أحوال تلك الصنعة سلموه إليها.
واعلم يا أخي بأن صناعة الآباء والأجداد أنجع في الأولاد من صناعة الغرباء، وخاصة من دل مولده عليها، ويكونون فيها أحذق وأنجب. ومن أجل هذا أوجبوا في سياسة أزدشير بن بابكان على أهل كل طبقة من الناس لزوم صناعة آبائهم وأجدادهم قطعا وأن لا يتجاوزوها، وزعموا أن ذلك فرض من الله - عز وجل - في كتاب زرادشت.
واعلم بأن هذا كله صيانة للملك أن لا يرغب فيه من ليس من أهله؛ لأنه إذا كثر الطالبون للملك كثر التنازع بينهم، وإذا كثر التنازع كثر الشغب، واضطربت الأمور، وانفسد النظام، وفساد النظام يتبعه البوار والبطلان.
(9) فصل في الغرض من الملك
واعلم بأن الغرض من الملك هو حفظ الناموس على أهله أن لا يندرس بتركهم القيام بموجباته؛ لأن أكثر أهل الشرائع النبوية والفلسفية لولا خوف السلطان لتركوا الدخول تحت أحكام الناموس وحدوده وتأدية فرائضه واتباع سنته واجتناب محارمه واتباع أوامره ونواهيه.
واعلم بأن الغرض من حفظ الناموس هو طلب صلاح الدين والدنيا جميعا، فمتى ترك القيام بواجباته انفسدا جميعا وبطلت الحكمة، ولكن السياسة الإلهية والعناية الربانية لا تتركهما ينفسدان؛ لأنها هي العلة الموجبة لوجودهما وبقائهما ونظامهما وتمامهما وكمالهما، وكل صورة في المصنوع فإنها أولا تكون في فكر الصانع وعلمه.
(10) فصل في أن الجسم لا يتحرك من ذاته
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن موضوعات الصناع ومصنوعاتهم وآلاتهم وأدواتهم وأجسادهم كلها أجسام، والجسم من حيث الجسمية ليس بمتحرك والأفعال لا تكون إلا بالحركة، فالمحرك للأجسام جوهر آخر وهو الذي نسميه نفسا، والنفوس من حيث النفسية جوهر واحد، كما أن الأجسام من حيث الجسمية جوهر واحد، وإنما تختلف النفوس بحسب اختلاف قواها واختلاف قواها بحسب اختلاف أفعالها ومعارفها وأخلاقها، كما أن اختلاف الأجسام بحسب اختلاف أشكالها، واختلاف أشكالها بحسب اختلاف أعراضها.
واعلم بأن نفس العالم نفس واحدة، كما أن جسمه جسم واحد بجميع أفلاكه وكواكبه وأركانه ومولداته، ولكن لما كانت لنفس العالم أفعال كلية بقوى كلية، وأفعال جنسية بقوى جنسية، وأفعال نوعية بقوى نوعية، وأفعال شخصية بقوى شخصية، وهي حركتها من المشرق إلى المغرب وبالعكس، ومن الشمال إلى الجنوب وبالعكس، ومن فوق إلى أسفل وبالعكس؛ سميت هذه القوى بأفعالها نفوسا جنسية ونوعية وشخصية، فتكثرت النفوس بحسب قواها المختلفة، وتكثرت قواها بحسب أفعالها المفتنة، كما تكثر جسم العالم بحسب اختلاف أشكاله، وتكثر أشكاله بحسب اختلاف أعراضه، فأفعال نفس العالم الكلية هي إدارتها الأفلاك والكواكب من المشرق إلى المغرب بالقصد الأول وتسكينها مركزها الخاص بها، وأفعالها الجنسية ما يختص بكل فلك وكل كوكب من الحركات الست العارضة، كما بينا في رسالة السماء والعالم، وما يختص أيضا بالأركان الأربعة التي تحت فلك القمر من الحركات الطبيعية، كما بينا في رسالة الكون والفساد.
وأفعالها النوعية ما يختص بالكائنات المولدات التي هي الحيوان والنبات والمعادن وأفعالها الشخصية التي تظهر من أشخاص الحيوانات وما يجري على أيدي البشر من الصنائع التي تقدم ذكرها.
واعلم يا أخي بأن النفس جوهرة روحانية حية بذاتها، فإذا قارنت جسما من الأجسام صيرته حيا مثلها، كما أن النار جوهرة جسمانية حارة بذاتها، فإذا جاورت جسما من الأجسام صيرته حارا مثلها، واعلم بأن للنفس قوتين اثنتين؛ إحداهما علامة والأخرى فعالة، فهي بقوتها العلامة تنزع رسوم المعلومات من هيولاها وتصورها في ذاتها، فتكون ذات جواهرها لتلك الرسوم كالهيولى، وهي فيها كالصورة وبقوتها الفعالة تخرج الصور التي في فكرها، وتنقشها في الهيولى الجسماني، فيكون الجسم عند ذلك مصنوعا لها، وكل متعلم علما فإن صورة المعلوم في نفسه بالقوة، فإذا تعلمها صارت فيها بالفعل.
وهكذا كل متعلم صنعة فإن صور المصنوعات في نفسه بالقوة، فإذا تعلمها صارت فيها بالفعل، والتعلم ليس شيئا سوى الطريق من القوة إلى الفعل، والتعليم ليس شيئا سوى الدلالة على الطريق.
والأستاذون هم الأدلاء وتعليمهم هو الدلالة، والتعلم هو الطريق، والمعلوم هو المطلوب المدلول عليه، فنفوس الصبيان علامة بالقوة، ونفوس الأستاذين علامة بالفعل، وكل نفس علامة بالقوة لا بد لها من نفس علامة بالفعل تخرجها من القوة إلى الفعل.
واعلم يا أخي بأن كل صانع من البشر لا بد له من أستاذ يتعلم منه صنعته أو علمه، وذلك الأستاذ من أستاذ له قبل، وهكذا حتى ينتهي إلى واحد ليس علمه من أحد من البشر، فيكون عند ذلك أحد الأمرين، إما أن نقول: إنه استخرجه بقوة نفسه وفكره ورويته واجتهاده - كما يزعم المتفلسفون - وإما أن نقول: إنه أخذه عن موقف له ليس من البشر كما يقول الأنبياء - صلوات الله عليهم.
واعلم يا أخي علما يقينا أنه ليس من البشر أحد يحيط بعلم من العلوم لا الأنبياء ولا الفلاسفة ولا غيرهم إلا بما شاء الذي وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم؛ وذلك أن الذين زعموا أنهم استخرجوا العلوم والصنائع بقوة عقولهم وجودة فكرهم ورويتهم لولا أنهم رأوا وشاهدوا مصنوعات الطبيعة، فاعتبروها وقاسوا عليها، وكان ذلك لهم كالتعليم من الطبيعة؛ لما اهتدوا إلى شيء منها، والطبيعة أيضا لولا أنها مؤيدة بالنفس الكلية، والنفس الكلية لولا إنها مؤيدة بالعقل الكلي الذي هو أول الموجودات من الباري سبحانه، والباري سبحانه هو المؤيد للكل كيف شاء الذي هو صانع الأسباب، والمؤيد للب ذوي الألباب.
وإذ قد فرغنا من ذكر الصنائع البشرية وموضوعاتها وأغراضها وشرفها ومنافعها؛ فقد بينا أن خير صناعة تبلغ إليها طاقة البشر وضع الناموس الإلهي، وقد ذكرنا كيفيتها وشرائطها في رسالة الناموس الإلهي، فاجتهد يا أخي في معرفة أسراره؛ لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتحيا بروح المعارف العقلية، فتعيش بعيش العلماء الربانيين وتنال نعيم عالم الروحانيين في جوار الملائكة المقربين مخلدا أبد الآبدين، فإن لم يستو لك ذلك فكن خادما في الناموس بحفظ أحكامه والقيام بحدوده، فلعلك تنجو بشفاعة أهله من بحر الهيولى وأسر الطبيعة وهاوية عالم الجسام بالكون والفساد ذوي الآلام، وفقك الله وإيانا أيها الأخ للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه كريم جواد، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله.
الرسالة التاسعة في بيان الأخلاق وأسباب اختلافها وأنواع عللها ونكت من آداب الأنبياء، وزبد من أخلاق الحكماء
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
وإذ قد فرغنا من ذكر الجواهر الجسمانية ووصفنا هيولاتها وصورها وتركيبها.
وإذ فرغنا من ذكر تصاريف الأحوال بالإنسان في الرحم من يوم مسقط النطفة إلى يوم ولادة الجسد، وبينا كيف ينضاف إلى خلقة الجنين قوى روحانيات الكواكب، وكيف تنطبع في جبلته الأخلاق المختلفة المركوزة في الطبيعة تسعة أشهر شهرا بعد شهر الذي هو المكث الطبيعي إلى يوم ولادة الطفل، واستئناف الإنسان العمر في الحياة الدنيا مائة وعشرين سنة الذي هو العمر الطبيعي في رسالة مسقط النطفة؛ فنريد أن نذكر في هذه الرسالة ما ينضاف إلى تلك الطباع المركوزة في الأخلاق المكتسبة بعد الولادة بالعادات الجارية والأسباب الداعية المولدة لها، إما زائدة عليها أو ناقصة عنها في تصاريف أيام الحياة الدنيا إلى يوم الممات الذي هو مفارقة النفس الجسد وولادتها الثانية التي هي النشأة الأخرى، كما ذكر الله - جل ثناؤه - بقوله: @QUR06 ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون يعني: النشأة الآخرة، وقال تعالى: @QUR05 وننشئكم في ما لا تعلمون وقال الله - عز وجل: @QUR011 ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير.
(1) فصل في قابلية الإنسان جميع الأخلاق
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الله - جل ثناؤه - لما أراد أن يجعل في الأرض خليفة له من البشر؛ ليكون العالم السفلي الذي هو دون فلك القمر عامرا بكون الناس فيه، مملوءا من المصنوعات العجيبة على أيديهم، محفوظا على النظام والترتيب بالسياسات الناموسية والملكوتية والفلسفية والعامية والخاصية جميعا؛ ليكون العالم باقيا على أتم حالاته وأكمل غاياته، كما ذكر في السفر الرابع من صحف هرمس وهو إدريس النبي - عليه السلام - وذكرناه في الرسالة الجامعة، وأشرنا إليه في رسائلنا، وكما سنبين في هذه الرسالة.
فبدأ أولا ربنا تعالى فبنى لخليفته هيكلا من التراب عجيب البنية، ظريف الخلقة، مختلف الأعضاء، كثير القوى، ثم ركبها وصورها في أحسن صورة من سائر الحيوانات؛ ليكون بها مفضلا عليها، مالكا لها، متصرفا فيها كيف يشاء، ثم نفخ فيه من روحه، فقرن ذلك الجسد الترابي بنفس روحانية من أفضل النفوس الحيوانية وأشرفها؛ ليكون بها متحركا حساسا دراكا علاما عاملا فاعلا ما يشاء.
ثم أيد نفسه بقوى روحانية سائر الكواكب في الفلك؛ ليكون متهيئا له بها، وممكنا له قبول جميع سائر الأخلاق، وتعلم جميع العلوم والآداب والرياضيات والمعارف والسياسات، كما مكنه وهيأ له بأعضاء بدنه المختلفة الأشكال والهيئات تعاطي جميع الصنائع البشرية والأفعال الإنسانية والأعمال الملكية.
وذلك أنه قد جمع في بنية هيكله جميع أخلاط الأركان الأربعة وكل المزاجات التسعة في غاية الاعتدال؛ ليكون بها متهيئا وقابلا لجميع أخلاق الحيوانات وخواص طباعها؛ كل ذلك كيما يسهل عليه ويتهيأ له إظهار جميع الأفعال والصنائع العجيبة والأعمال المتقنة المختلفة والسياسات المحكمة؛ إذ كان إظهارها كلها بعضو واحد وأداة واحدة وخلق واحد ومزاج واحد؛ يتعذر على الإنسان، كما بينا في رسالة الصنائع البشرية.
والغرض من هذه كلها هو أن يتمكن للإنسان ويتهيأ له التشبه بإلهه وباريه الذي هو خليفته في أرضه وعامر عالمه، ومالك ما فيه وسائس حيوانها ومربي نباتها ومستخرج معادنها ومتحكم ومتسلط على ما فيها، ليدبرها تدبيرات سياسية ويسوسها سياسة ربوبية، كما رسم له الوصايا الناموسية والرياضات الفلسفية؛ كل ذلك كيما تصير نفسه بهذه العناية والسياسة والتدبير ملكا من الملائكة المقربين، فينال بذلك الخلود في النعيم أبد الآبدين ودهر الداهرين، كما ذكر في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل، قال الله تعالى: «يا ابن آدم خلقتك للأبد، وأنا حي لا أموت؛ أطعني فيما أمرتك به، وانته عما نهيتك عنه؛ أجعلك حيا لا تموت أبدا، يا ابن آدم أنا قادر على أن أقول للشيء: كن فيكون؛ أطعني فيما أمرتك به، وانته عما نهيتك عنه؛ أجعلك قادرا على أن تقول للشيء: كن فيكون.»
وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الغرض وما المراد من وجود الأخلاق المختلفة في جبلة الإنسان وطبيعته؛ فنريد أن نذكر العلل والأسباب التي بها ومن أجلها تختلف أخلاق البشر وسجاياهم: كم هي، وما هي، وكيف هي؟ إذ قد تبين فيما تقدم: لم هي؟
(2) فصل في وجوه اختلاف الأخلاق
اعلم يا أخي أن أخلاق الناس وطبائعهم تختلف من أربعة وجوه؛ أحدها من جهة أخلاط أجسادهم ومزاج أخلاطها، والثاني من جهة تربة بلدانهم واختلاف أهويتها، والثالث من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم ومعلميهم وأستاذيهم ومن يربيهم ويؤدبهم، والرابع من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم ومساقط نطفهم، وهي الأصل وباقيها فروع عليه، ونحتاج إلى شرح هذا الباب؛ ليتبين صدق ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، ونبدأ أولا بذكر العلل والأسباب التي تكون من جهة أخلاط الجسد وتغيرات أمزجتها من الاعتدال والزيادة والنقصان، وما يتبعها من الخلاق والسجايا المختلفة المتضادة.
(3) فصل في اختلاف الأخلاق من جهة الأخلاط
اعلم يا أخي بأن المحروري الطباع من الناس وخاصة مزاج القلب يكونون على الأمر الأكثر شجعان القلوب، أسخياء النفوس، متهورين في الأمور المخوفة، قليلي الثبات والتأني في الأمور، مستعجلي الحركة، شديدي الغضب، سريعي المراجعة، قليلي الحقد، أذكياء النفوس، حادي الخواطر، جيدي التصور. والمبرودين في الأمر الأكثر يكونون بليدي الذهن، غليظي الطباع، ثقيلي الأرواح، غير نضيجي الأخلاق، والمرطوبين يكونون في أكثر الأمر ذوي طباع بليدة وقلة ثبات في الأمور، ليني الجانب، سمحاء النفوس، طيبي الأخلاق، سهلي القبول، سريعي النسيان، مع كثرة تهور في الأمور الطبيعية. واليابسي المزاج يكونون في أكثر الأمور صابرين في الأعمال، ثابتي الرأي، عسري القبول، الغالب عليهم الصبر والحقد والبخل والإمساك والحفظ.
(4) فصل في خلق آدم عليه السلام - كما وجد في بعض كتب بني إسرائيل
وجد في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل من صفة خلقة آدم وتكوين جسده أن الله - عز وجل - حين ابتدعه واخترعه قال: إني خلقت آدم وركبت بدنه من أربعة أشياء، ثم جعلتها وراثة في ولده وذريته تنشأ في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة، ركبت جسده من رطب ويابس وحار وبارد، وذلك أني خلقته من تراب وماء، ثم نفخت فيه نفسا وروحا فيبوسة جسده من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من النفس، وبرودته من الروح . ثم جعلت في الجسد بعد هذا أربعة أنواع أخر، هن ملاك أمور الجسد لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة منهن إلا بالأخرى، فمنهن المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم والبلغم، ثم أسكنت بعضها في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، والحرارة في المرة الصفراء، والرطوبة في الدم، والبرودة في البلغم، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الأربعة الأخلاط التي جعلتها ملاكه وقوامه، وكانت كل واحدة منهن ربعا لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته، واعتدلت بنيته، وإن زادت واحدة منهن على أخواتها وقهرتهن ومالت بهن، دخل السقم على الجسد من ناحيتها بقدر ما زادت، وإذا كانت ناقصة ضعفت طاقتها عن مقاومتهن فغلبنها ودخل السقم على الجسد من نواحيهن بقدر قلتها عنهن وضعف طاقتها عن مقاومتهن.
ثم علمته الطب وكيفية الدواء وكيف يزيد في الناقص أو ينقص في الزائد حتى يعتدل ويستقيم أمر الجسد، فالطبيب الماهر العالم بالداء والدواء هو الذي يعرف من أين دخل السقم على الجسد من الزيادة والنقصان ويعلم الدواء الذي يعالج به، فيزيد في ناقصها وينقص من زائدها حتى يستقيم أمر الجسد على فطرته ويعتدل الشيء بأقرانه.
ثم صيرت هذه الأخلاط التي ركبت عليها الجسد فطرا وأصولا عليها تبنى أخلاق بني آدم وبها توصف، فمن التراب العزم، ومن الماء اللين، ومن الحرارة الحدة، ومن البرودة الأناة، فإن مالت به اليبوسة، وأفرطت كانت عزمته قساوة وفظاظة، وإن مالت به الرطوبة كان لينه توانيا ومهانة، وإن مالت به الحرارة كانت حدته طيشا وسفاهة، وإن مالت به البرودة كانت أناءته ريثا وبلادة، وإن اعتدلت وكن سواء اعتدلت أخلاقه، واستقام أمره، وكان عازما في أناته لينا في عزمه، هادئا في لينه، متأنيا في حدته، لا يغلبه خلق من أخلاقه، ولا تميل به طبيعة من أخلاطه عن المقدار المعتدل من أيها شاء استكثر، ومن أيها شاء قلل وكيف شاء عدل.
ثم نفخت فيه من روحي، وقرنت بجسده نفسا وروحا، فبالنفس يسمع ابن آدم ويبصر ويشم ويذوق ويلمس ويحس ويأكل ويشرب وينام ويقعد ويضحك ويبكي ويفرح ويحزن، وبالروح يعقل ويفهم ويدري ويتعلم ويستحي ويحلم ويحذر ويتقدم ويمنع ويتكرم ويقف ويهجم، فمن النفس تكون حدته وخفته وشهوته ولعبه ولهوه وضحكه وسفهه وخداعه ومكره وعنفه وخرقه، ومن الروح يكون حلمه ووقاره وعفافه وحياؤه وبهاؤه وفهمه وتكرمه وحذقه وصدقه ورفقه وصبره.
فإذا خاف ذو اللب أن يغلب عليه خلق من أخلاق النفس، قابله بضده من أخلاق الروح، وألزمه إياه فيعدله به ويقومه، فيقابل الحدة بالحلم والخفة بالوقار والشهوة بالعفاف واللعب بالحياء، واللهو بالبهاء، والضحك بالهم، والسفه بالكرم، والخداع بالشجاعة، والكذب بالصدق، والعنف بالرفق، والنزق بالصبر، والخرق بالأناة؛ إذ كل مرض يعالج بضده، ومن التراب تكون قساوته وبخله وفظاظته وشحه ويأسه وقنوطه وعزمه وإصراره، ومن الماء يكون لينه وسهولته واسترساله ومعروفه وتكرمه وسماحته وقوته وقربه وقبوله ورجاؤه واستبشاره.
فإذا خاف ذو اللب أن يغلب عليه خلق من أخلاقه الترابية؛ قابله بضده من الأخلاق المائية، وألزمه إياه ليعدله ويقومه، فيقابل القسوة باللين، والبخل بالعطاء، والفظاظة بالبشر، والشح بالكرم، واليأس بالرجاء، والقنوط بالاستبشار، والعزم بالقبول، والإصرار بالعدل.
واعلم يا أخي بأن لكل خلق من الأخلاق أخوات مشاكلات، ولهن أضداد مخالفات، ولهن كلهن أفعال متباينات متضادات تحتاج إلى شرح لتبين وتعرف؛ لأن هذا الباب من العلوم الشريفة والمعارف اللطيفة؛ إذ كان من هذا الفن تعرف أخلاق الكرام من بني آدم، وأخلاق الملائكة الذين هم سكان الجنان كما ذكر الله تعالى، فقال: @QUR02 كراما كاتبين و@QUR02 كرام بررة، ومن هذا الباب تعرف أيضا أخلاق الشياطين الذين هم أهل النيران كما ذكر الله تعالى بقوله: كلما دخلت أمة لعنت أختها وقالوا لا مرحبا بهم إنهم صالو النار؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا طرف من الأسباب المؤدية إلى اختلاف أخلاق الإنسان من جهة مزاج أخلاط جسده؛ فنريد أيضا أن نذكر طرفا من الأسباب التي تكون من جهة اختلاف تربة البلاد وتغييرات أهويتها المؤدية إلى اختلاف الأخلاق.
(5) فصل في تأثير طبيعة البلدان في الأخلاق
واعلم يا أخي بأن ترب البلاد والمدن والقرى تختلف وأهويتها تتغير من جهات عدة، فمنها كونها في ناحية الجنوب أو الشمال أو الشرق أو الغرب أو على رءوس الجبال أو في بطون الأودية والأغوار أو على سواحل البحار، أو شطوط الأنهار أو في البراري والقفار أو في الآجام والدحال والأرض ذات الرملة والأرضين السباخ السهلة، أو في البقاع الصخرية والحجارة والحصى والرمال أو في الأرضين السهلة والتربة اللينة بين الأنهار والأشجار والزروع والبساتين والزهر والنور.
وأيضا فإن أهوية البلاد والبقاع تختلف بحسب اختلاف تصاريف الرياح الأربع ونكباواتها، وبحسب مطالع البروج عليها ومطارح شعاعات الكواكب عليها من آفاقها، وهذه كلها تؤدي إلى اختلاف أمزجة الأخلاط، واختلاف أمزجة الأخلاط يؤدي إلى اختلاف أخلاق أهلها وطباعهم وألوانهم ولغتهم وعاداتهم وآرائهم ومذاهبهم وأعمالهم وصنائعهم وتدابيرهم وسياساتهم، لا يشبه بعضها بعضا بل تنفرد كل أمة منها بأشياء من هذه التي تقدم ذكرها لا يشاركها فيها غيرها.
مثال ذلك: أن الذين يولدون في البلاد الحارة ويتربون هناك وينشأون على ذلك الهواء؛ فإن الغالب على باطن أمزجة أبدانهم البرودة، وهكذا أيضا الذين يولدون في البلدان الباردة ويتربون هناك، وينشأون على ذلك الهواء، يكون الغالب على باطن أمزجة أبدانهم الحرارة؛ لأن الحرارة والبرودة هما ضدان لا يجتمعان في حال واحدة، في موضع واحد، ولكن إذا ظهر أحدهما استبطن الآخر واستجن؛ ليكونا موجودين في دائم الأوقات؛ إذ كانت المكونات لا وجود لها ولا قوام إلا بهما، والدليل على ما قلنا أن مزاج أبدان أهل البلدان الجنوبية من الحبشة والزنج والتربة وأهل السند وأهل الهند، فإنه لما كان الغالب على أهوية بلادهم الحرارة بمرور الشمس على سمت تلك البلاد في السنة مرتين سخنت أهويتها، فحمي الجو فاحترقت ظواهر أبدانهم واسودت جلودهم وتجعدت شعورهم لذلك السبب وبردت بواطن أبدانهم، وابيضت عظامهم وأسنانهم، واتسعت عيونهم ومناخرهم وأفواههم بذلك السبب.
وبالعكس في هذا حال أهل البلدان الشمالية وعلتها أن الشمس لما بعدت من سمت تلك البلاد وصارت لا تمر عليها لا شتاء ولا صيفا، غلب على أهويتها البرد وابيضت لذلك جلودهم، وترطبت أبدانهم، واحمرت عظامهم، وأسنانهم، وكثرت الشجاعة والفروسة فيهم، وسبطت شعورهم، وضاقت عيونهم، واستجنت الحرارة في بواطن أبدانهم لذلك السبب، وعلى هذا القياس توجد صفات أهل البلدان المتضادة بالطباع والأهوية يكونون مختلفين في الطباع والأخلاق في أكثر الأمر وأعم الحالات.
وإذ قد تبين بما ذكرنا طرف من تغير أخلاق الناس من جهة اختلاف ترب البلاد وتغير أهويتها؛ فنريد أن نذكر طرفا من أسباب موجبات أحكام النجوم، فنقول: إن الذين يولدون بالبروج النارية في الأوقات التي يكون المستولي عليها الكواكب النارية مثل المريخ وقلب الأسد وما شاكلهما من الكواكب؛ فإن الغالب على أمزجة أبدانهم الحرارة وقوة الصفراء، والذين يولدون بالبروج المائية في الأوقات التي يكون المستولي عليها الكواكب المائية مثل الزهرة والشعرى اليمانية؛ فإن الغالب على أمزجة أبدانهم يكون الرطوبة والبلغم.
وهكذا الذين يولدون بالبروج الترابية في الأوقات التي يكون المستولي عليها زحل وما شاكله من الكواكب الثابتة، فإن الغالب على أمزجة أبدانهم اليبوسة والمرة السوداء.
وهكذا الذين يولدون بالبروج الهوائية في الأوقات التي يكون المستولي عليها المشتري وما شاكله من الكواكب الثابتة؛ فإن الغالب على أمزجة أبدانهم الدم والاعتدال. يعرف حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا أهل الصناعات والتجارب.
وإذ قد تبين بما قلنا وذكرنا ما الأسباب والعلل الموجبة لوجود الأخلاق المركوزة في الجبلة؛ فنريد أن نبين ما الأخلاق المركوزة في الجبلة، وما المكتسبة بالعادة الجارية منها، وما الغرض في ذلك، وما الفرق بينهما، يعني: الأخلاق المكتسبة والمركوزة.
(6) فصل في ماهية الأخلاق
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الأخلاق المركوزة في الجبلة هي تهيؤ ما في كل عضو من أعضاء الجسد يسهل به على النفس إظهار فعل من الأفعال أو عمل من الأعمال أو صناعة من الصنائع أو تعلم علم من العلوم أو أدب من الآداب أو سياسة من غير فكر ولا روية، مثال ذلك أنه متى كان الإنسان مطبوعا على الشجاعة فإنه يسهل عليه الإقدام على الأمور المخوفة من غير فكر ولا روية، وهكذا متى كان مطبوعا على السخاء يسهل عليه بذل العطية من غير فكر ولا روية، وهكذا متى كان الإنسان مطبوعا على العفة سهل عليه اجتناب المحظورات المحرمات من غير فكر ولا روية.
وهكذا من كان مطبوعا على الاعتدال؛ سهل عليه الحكومة في الخصومات والعدل والنصفة في المعاملات، وعلى هذا المثال والقياس سائر الأخلاق والسجايا المطبوعة في الجبلة المركوزة فيها، إنما جعلت؛ لكي ما يسهل على النفس إظهار أفعالها وعلومها وصنائعها وسياساتها وتدبيرها بلا فكر ولا روية.
وأما من كان مطبوعا على الضد من ذلك فهو يحتاج عند استعمال هذه الخصال وإظهار هذه الأفعال إلى فكر وروية واجتهاد شديد وكلفة ولا يفعل الإنسان هذه الأمور إلا بعد أمر ونهي ووعد ووعيد ومدح وذم وترغيب وترهيب، وعلى هذا المثال يكون كل حكم في الطبع خلافه، يحتاج صاحبه إلى أمر ونهي وفكر واجتهاد ورغبة، وبهذه العلة وردت أكثر أوامر الناموس ونواهيه؛ ولهذا السبب كان وعده ووعيده وترغيبه وترهيبه، ولو كان الإنسان الواحد مطبوعا على جميع الأخلاق لما كان عليه كلفة في إظهار كل الأفعال وجميع الصنائع، ولكن الإنسان المطلق الكلي هو المطبوع على قبول جميع الأخلاق وإظهار جميع الصنائع والأعمال لا الإنسان الجزئي.
واعلم بأن كل الناس أشخاص لهذا الإنسان المطلق، وهو الذي أشرنا إليه أنه خليفة الله في أرضه منذ يوم خلق آدم أبو البشر إلى يوم القيامة الكبرى، وهي النفس الكلية الإنسانية الموجودة في كل أشخاص الناس، كما ذكر - جل ثناؤه - بقوله: @QUR07 ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة كما بينا في رسالة البعث.
واعلم يا أخي، أيدك الله بروح منه، بأن هذا الإنسان المطلق الذي قلنا هو خليفة الله في أرضه، وهو مطبوع على قبول جميع الأخلاق البشرية وجميع العلوم الإنسانية والصنائع الحكمية هو موجود في كل وقت وزمان، ومع كل شخص من أشخاص البشر تظهر منه أفعاله وعلومه وأخلاقه وصنائعه، ولكن من الأشخاص من هو أشد تهيؤا لقبول علم من العلوم أو صناعة من الصنائع أو خلق من الأخلاق، أو عمل من الأعمال ، والإظهار بحسب ذلك يكون.
مطلب في التربية
واعلم بأن العادات الجارية بالمداومة فيها تقوي الأخلاق المشاكلة لها، كما أن النظر في العلوم والمداومة على البحث عنها والدرس لها والمذاكرة فيها يقوي الحذق بها والرسوخ فيها، وهكذا المداومة على استعمال الصنائع والدءوب فيها يقوي الحذق والأستاذية فيها، وهكذا جميع الأخلاق والسجايا.
والمثال في ذلك أن كثيرا من الصبيان إذا نشئوا مع الشجعان والفرسان وأصحاب السلاح وتربوا معهم تطبعوا بأخلاقهم وصاروا مثلهم، وهكذا أيضا كثير من الصبيان إذا نشئوا مع النساء والمخانيث والمعيبين وتربوا معهم تطبعوا بأخلاقهم وصاروا مثلهم، إن لم يكن في كل الخلق ففي بعض.
وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق والسجايا التي يتطبع عليها الصبيان منذ الصغر، إما بأخلاق الآباء والأمهات أو الإخوة والأخوات والأتراب والأصدقاء والمعلمين والأستاذين المخالطين لهم في تصاريف أحوالهم، وعلى هذا القياس حكم الآراء والمذاهب والديانات جميعا.
فصل
واعلم يا أخي بأن من الناس من يكون اعتقاده تابعا لأخلاقه، ومنهم من تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده؛ وذلك أن من يكون مطبوعا على طبيعة مريخية فإنه تميل نفسه إلى الآراء والمذاهب التي يكون فيها التعصب والجدال والخصومات أكثر، وهكذا أيضا من يكون مطبوعا على طبيعة مشترية، فإنه تكون نفسه مائلة إلى الآراء والمذاهب التي يكون فيها الزهد والورع واللين أكثر، وعلى هذا القياس توجد آراء الناس ومذاهبهم تابعة لأخلاقهم.
وأما الذي تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده فهو الذي إذا اعتقد رأيا أو مذهبا وتصوره وتحقق به صارت أخلاقه وسجاياه مشاكلة لمذهبه واعتقاده؛ لأنه يصرف أكثر همه وعنايته إلى نصرة مذهبه وتحقيق اعتقاده في جميع متصرفاته، فيصير ذلك خلقا له وسجية وعادة يصعب إقلاعه عنها وتركه لها.
وعلى هذا الجنس من الأخلاق تقع المجازاة من المدح والذم والثواب والعقاب والوعد والوعيد والترغيب والترهيب؛ لأنه اكتساب من صاحبه وفعل له، والمثال في ذلك ما جاء في الخبر أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان، وكان المجوسي راكبا على بغلة عليها كل ما يحتاج إليه المسافر في سفره من الزاد والنفقة والأثاث، فهو يسير مرفها، واليهودي كان ماشيا ليس معه زاد ولا نفقة، فبينما هما يتحدثان؛ إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك واعتقادك يا خوشاك؟ قال اليهودي: اعتقادي أن في هذه السماء إلها هو إله بني إسرائيل وأنا أعبده وأسأله وأطلب إليه، ومنه سعة الرزق وطول العمر وصحة البدن والسلامة من الآفات والنصرة على الأعداء؛ أريد منه الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، ولا أفكر فيمن يخالفني في ديني ومذهبي، بل أرى وأعتقد أن من يخالفني في ديني ومذهبي فحلال لي دمه وماله، وحرام علي نصرته أو نصيحته أو معاونته أو الرحمة أو الشفقة عليه.
ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني عنه، فأخبرني يا مغا، أنت أيضا عن مذهبك واعتقادك، قال المجوسي: أما اعتقادي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم ولا أريد لأحد من الخلق سوءا، لا لمن كان على ديني ويوافقني ولا لمن يخالفني ويضادني في مذهبي.
فقال اليهودي له: وإن ظلمك وتعدى عليك؟ قال نعم؛ لأني أعلم أن في هذه السماء إلها خبيرا فاضلا عادلا حكيما عليما لا تخفى عليه خافية في أمر خلقه، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم ويكافئ المسيئين على إساءتهم.
فقال اليهودي للمجوسي: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك، فقال المجوسي وكيف ذلك؟ قال؛ لأني من أبناء جنسك وأنت تراني أمشي متعوبا جائعا، وأنت راكب شبعان مترفه، قال: صدقت، وماذا تريد؟ قال: أطعمني واحملني ساعة لأستريح فقد أعييت، فنزل المجوسي عن بغلته وفتح له سفرته، فأطعمه حتى أشبعه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان، فلما تمكن اليهودي من الركوب، وعلم أن المجوسي قد أعيا حرك البغلة وسبقه وجعل المجوسي يمشي فلا يلحقه، فناداه: يا خوشاك، قف لي وانزل فقد أعييت، فقال له اليهودي: أليس قد أخبرتك عن مذهبي يا مغا، وخبرتني عن مذهبك ونصرته وحققته، وأنا أريد أيضا أن أنصر مذهبي وأحقق اعتقادي.
وجعل يجري البغلة والمجوسي في أثره يعدو، ويقول : ويحك يا خوشاك، قف لي قليلا، واحملني معك، ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعا وعطشا وارحمني كما رحمتك، وجعل اليهودي لا يفكر في ندائه، ولا يلوي عليه حتى مضى وغاب عن بصره، فلما يئس المجوسي منه وأشرف على الهلاك تذكر تمام اعتقاده وما وصف له بأن في السماء إلها خبيرا فاضلا عالما عادلا لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء، فقال: يا إلهي، قد علمت أني قد اعتقدت مذهبا ونصرته وحققته ووصفتك بما سمعت وعلمت وتحققت، فحقق عند اليهودي خوشاك ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت.
فما مشى المجوسي إلا قليلا حتى رأى اليهودي، وقد رمت به البغلة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها، فلما لحق المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت، فناداه اليهودي: يا مغا، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعا وعطشا، وحقق مذهبك، وانصر اعتقادك، قال المجوسي: قد فعلت مرة، ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك ولم تعقل ما وصفت لك، فقال اليهودي: وكيف ذلك؟ فقال: لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، وذلك أني قلت لك: إن في هذه السماء إلها خبيرا فاضلا عالما عادلا لا يخفى عليه خافية، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم، قال اليهودي: قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت، فقال له المجوسي: فما الذي منعك أن تتعظ بما قلت لك يا خوشاك؟ فقال اليهودي: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد ألفته وصار عادة وجبلة بطول الدءوب فيه وكثرة الاستعمال له؛ اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، فقد صار جبلة وطبيعة ثابتة يصعب علي تركها والإقلاع عنها.
فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة وسلمه إلى أهله مكسورا، وحدث الناس بقصته وحديثه معه فجعلوا يتعجبون، فقال بعض الناس للمجوسي: كيف حملته بعد شدة جفائه بك وقبيح مكافأته إحسانك إليه؟ قال المجوسي اعتذر إلي، وقال: مذهبي كيت وكيت، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة لطول الدءوب فيه وجريان العادة به، يصعب الإقلاع عنها والترك لها، وأنا أيضا قد اعتقدت رأيا، وسلكت مذهبا صار لي عادة وجبلة فيصعب الإقلاع عنها والترك لها.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن العلل الموجبة لاختلاف أخلاق النفوس والأسباب المؤدية إليها أربعة أنواع حسب، كما قلنا في أول الرسالة؛ فنقول الآن: إن الأخلاق كلها نوعان، إما مطبوعة في جبلة النفوس مركوزة فيها، وإما مكتسبة معتادة من جريان العادة وكثرة الاستعمال، ومن وجه آخر أيضا إن الأخلاق نوعان، منها ما هي أصول وقوانين، ومنها ما هي فروع وتابعة لها، فنحتاج أن نبينها ونفصلها ليعرف بعضها من بعض؛ إذ كان هذا الفن من المعرفة من العلوم الشريفة النافعة جدا، وخاصة لمن له عناية برياضة النفس وتهذيبها وإصلاح أخلاقها؛ إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأسباب المنجية لها من الهلكة، المفصلة بعضها من بعض، كما بينا في رسالة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
(7) فصل في مراتب الأنفس
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري - جل ثناؤه - لما أبدع النفوس واخترعها وأبرز المستكن والمستجن من الكائنات رتبها ونظمها كمراتب الأعداد المفردات - كما ذكر تعالى بقوله حكاية عن الملائكة قولهم: @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون.
واعلم يا أخي بأن أعداد النفوس كثيرة لا يحصيها إلا الله - جل ثناؤه - كما قال: @QUR06 وما يعلم جنود ربك إلا هو، ولكن نحتاج أن نذكر طرفا من مراتبها ومقاماتها الجنسية؛ إذ كانت الأنواع والأشخاص لا يمكن تعديدها ولا يعلمها إلا هو.
واعلم يا أخي بأن مراتب النفوس ثلاثة أنواع، فمنها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما هي فوقها، ومنها ما هي دونها، فالتي هي دونها سبع مراتب، والتي فوقها سبع أيضا، وجملتها خمس عشرة مرتبة.
والمعلوم من هذه المراتب التي ذكرناها عند العلماء، ويمكن لكل عاقل أن يعرفها ويحس بها؛ خمس، منها اثنتان فوق رتبة الإنسانية وهي رتبة الملكية والقدسية، ورتبة الملكية هي رتبة الحكمية، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة والناموسية، واثنتان دونها وهي مرتبة النفس النباتية والحيوانية، ويعلم صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا الناظرون في علم النفس من الحكماء والفلاسفة وكثير من الأطباء.
وأما الرتبتان اللتان فوق رتبة الإنسانية فهي مرتبة الحكمة وفوقها الناموسية، وأما مرتبة الإنسانية فهي التي ذكرها الله تعالى بقوله: @QUR06 لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وأما التي فوق هذه فما أشار إليه بقوله: @QUR04 ولما بلغ أشده واستوى؛ يعني الإنسان @QUR03 آتيناه حكما وعلما، وقال أيضا: @QUR018 أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؛ يعني الإنسان أحيينا نفسه بنور الهداية، وهذه هي مرتبة نفوس المؤمنين العارفين والعلماء الراسخين.
فأما التي فوقها فمرتبة النفوس النبوية الواضعين النواميس الإلهية، وإليها أشار بقوله - جل ثناؤه: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، وهذه المرتبة تلي مرتبة القدسية الملكية، فقد تبين بما ذكرنا المراتب الخمس التي يمكن الإنسان أن يعلمها ويحس بها، فأما المراتب التي دون النباتية وفوق القدسية فبعيدة معرفتها على المرتاضين بالعلوم الإلهية، فكيف على غيرهم؛ وإذ قد فرغنا من ذكر ما أردنا أن نقدمه فنقول الآن ونخبر بكل ما يخص كل نوع من هذه النفوس الخمس من المعونة والتأييد.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله - جل ثناؤه - لما ربط الأنفس الجزئية بالأجسام الجزئية للعلة التي ذكرناها في رسالة «الإنسان عالم صغير» أيدها وأعانها بضروب من المعاونة وفنون من التأييدات؛ كل ذلك جود منه ولطف بها، وإنعام منه عليها وإفضال وإحسان إليها وإكرام لها، وذلك أنه كلما بلغت نفس منها رتبة ما، أمدها بزيادة فضلا منه وجودا أو نقلها إلى ما فوقها وأرفع منها وأعز وأشرف وأجل وأكرم؛ كل ذلك ليبلغها إلى أقصى مدى غاياتها وتمام نهاياتها.
وإذ قد تبين بما ذكرنا مراتب النفوس الخمس وما الفائدة والحكمة في رباطها بالأجسام؛ فنريد أن نذكر ما يخص كل نوع منها من المعاونة والتأييد، وهي القوى الطبيعية والأخلاق المركوزة والهياكل الجسمانية والأدوات الجسدانية والشعورات الحسية والأوهام الفكرية والحركات المكانية والأفعال الإرادية والأعمال الاختيارية والصنائع الحكمية والأوضاع الناموسية والسياسات الملكوتية، ونبدأ أولا بذكر الشهوات المركوزة في الجبلة والقوى الطبيعية المعينة لها؛ إذ كانت هي الأصل والقانون في جميع القوى والأخلاق والخصال والأفعال والحركات والحس والشعور بها ومن أجلها - كما سنبين بعد.
فصل
واعلم يا أخي بأن من الأخلاق والقوى ما هي منسوبة إلى النفس النباتية الشهوانية، ومنها ما هي منسوبة إلى الحيوانية الغضبية، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس الإنسانية الناطقة، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس العاقلة الحكمية، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس الناموسية الملكية.
فأما المنسوبة إلى النفس الشهوانية من الخصال والقوى التي تخصها، فأولها شهوة الغذاء وهي النزوع والشوق نحو المأكولات والمشروبات والمشتهيات والرغبة فيها والحرص في طلبها واحتمال المشقة والذل من أجلها والفرح والسرور بوجدانها والراحة واللذة في تناولها والملل والشبع عند الاستكفاء منها، والنفور من الضار منها والبغض له.
ومن القوى المختصة بها أيضا القوة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصورة، ومن الشعور والتمييز معرفة الجهات الست، ومن الأفعال إرسال العروق نحو الجهات الندية والتراب اللين، وتوجيه الفروع والقضبان إلى الجهات المتسعة والميل والانحراف عن الأمكنة الضيقة والأجسام المؤذية.
كل هذه الخصال مركوزة في الجبلة من غير فكر ولا روية، وكل ذلك معاونة من الطبيعة لنفوسها وتأييد لها بإذن باريها - جل ثناؤه - على طلب مشتهياتها والوصول إلى منافعها والفرار من المضرة منها؛ إذ كانت تلك المشتهيات هي غذاء لأجسامها ومادة لقوامها وسببا لبقائها كلها؛ إذ كان في بقائها كلها تتميم لمعارفها وتكميل لفضائلها، وفي تتميم معارفها وتكميل فضائلها ترق لها إلى أفضل حالاتها وأشرف نهاياتها.
وأما المنسوبة إلى النفس الحيوانية المختصة بها من الخصال المركوزة في الجبلة زيادة على ما تقدم فهي شهوة الجماع وشهوة الانتقام وشهوة الرياسة، ولها أيضا الهياكل اللحمية، والأعضاء المختلفة للأغراض العجيبة، والمفاصل اللينة للحركات المكانية والتنقل في الجهات الست لمآرب ومنافع كثيرة، ولها الشعور بالحواس المخصوصة والأصوات المختلفة لدلالات متباينة.
ولها أيضا الوهم والتخيل للمطالب والمنافع والحفظ والذكر لعرفان أبناء الجنس والمخالف، وإمكان الاحتراس من المضار، والنفور والفرار من العدو؛ كل هذه مركوزة في جبلة الحيوانات القريبة النسبة إلى الإنسان، فأما علة شهوة الجماع المركوزة في جبلتها فهي من أجل التناسل، والتناسل هو من أجل بقاء الصورة في الأشخاص المتواترة؛ إذ كانت الهيولى دائمة في السيلان لا تقف طرفة عين، وأما علة شهوة الانتقام المركوزة في جبلتها فهي من أجل دفع المضرات المفسدات لهياكلها المتشخصة.
واعلم يا أخي بأن دفع المضار تارة يكون بالقهر والغلبة، وتارة يكون بالهرب والفرار وتارة بالتحرز والتحصن، وتارة بالمكر والحيلة، كما قد شرحنا ذلك في رسالة الحيوانات، وأما شهوة الرياسة المركوزة في جبلتها فهي من أجل تأكيد السياسة؛ إذ كانت السياسة لا تتم إلا بعد وجدان الرياسة.
واعلم يا أخي بأن المراد من السياسة هو صلاح الموجودات وبقاؤها على أفضل الحالات وأتم الغايات - كما سنبين في فصل آخر.
وأما المنسوبة إلى النفس الناطقة المختصة بها زيادة على ما تقدم ذكره، فهي شهوة العلوم والمعارف والتبحر والاستكثار منها، وشهوة الصنائع والأعمال والحذق فيها والافتخار بها وشهوة العز والرفعة والترقي في غايات نهاياتها والشوق إليها والرغبة فيها، والحرص في طلبها، واحتمال الذل والمشقة من أجلها، والفرح والسرور من وجدانها واللذة والراحة عند الوصول إليها، والغم والحزن من فقدانها.
(8) فصل في اختلاف مناهج النفوس
واعلم يا أخي بأن هذه الخصال مركوزة في جبلة الإنسان، ولكن تختلف اختيارات كل واحد لها حسب ما تيسر له وتتأكد أسبابه، وذلك أن من الناس من تيسر له أسباب الصنائع والحرف، وآخر أسباب العلوم والآداب، وآخر تيسر له أسباب العمل والتصرف، وآخر أسباب التجارات والبيع والشراء، وآخر أسباب الملك والسلطان، وآخر أسباب البطالة والفراغ، وآخر أسباب الحكم والمعارف - كما سنبينه بعد هذا الفصل.
ومما أعطيت النفس الناطقة من نعم الله تعالى وخصت به من إحسانه من بين نفوس سائر الحيوانات ، وأعينت به على البلوغ إلى أقصى مدى غاياتها، وأيدت للوصول إلى تمام نهاياتها؛ هذا الهيكل العجيب البنية المحكم الصورة المتقن الصنعة، الذي قد عجزت الحكماء عن كنه معرفته وتركيب بنيته من غرائب الصنعة، مما قد وصف طرف منه في كتاب منافع الأعضاء وكتاب التشريح من كيفية انتصاب قامته من بين سائر الحيوانات، وما خص به أيضا من فصاحة لسانه وغرائب لغاته وفنون أقاويله وحسن بيانه من بين سائرها، وما خص به أيضا من طريف شكل يديه، وما يتأتى له بهما من الصنائع المحكمة والأعمال المتقنة من بين سائرها، وما خص به أيضا من طرائف أدوات حواسه وغرائب طرقات إدراكها للمحسوسات - كما وصفنا في رسالة الحاس والمحسوس.
ومما خصت به أيضا النفس الناطقة الإنسانية من نعم الله تعالى وإحسانه؛ العقل الغريزي وكثرة أعوانه وجنوده وخصاله المحمودة، كما سنبين بعد، وأما التي تنسب من الخصال المحمودة إلى النفس الحكمية فشهوة العلوم والمعارف وما أعينت به على طلبها وإدراكها والوصول إليها من الخصال المركوزة والقوى المجبولة؛ كالذهن الصافي والفهم الجيد وذكاء النفس وصفاء القلب وحدة الفؤاد، وسرعة الخاطر، وقوة التخيل وجودة التصور، والفكر والروية والتأمل والاعتبار، والنظر والاستبصار والحفظ والتذكار ومعرفة الروايات والأخبار ووضع القياسات واستخراج النتائج بالمقدمات والتكهن والقيافة والفراسة وقبول الوحي والإلهام، ورؤية المنامات والإنذار بالكائنات بعلم النجوم والزجر.
كل ذلك معاونة لها وتأييد إلى البلوغ إلى الغاية والوصول إليها، وأما التي تنسب إلى النفس الملكية القدسية فهي شهوة القرب إلى ربها والزلفى لديه، وقبول الفيض منه وإفاضة الجود على من دونها من أبناء جنسها، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR06 يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وقوله سبحانه: @QUR04 ويستغفرون لمن في الأرض، وقوله: @QUR03 فاغفر للذين تابوا، وقال: @QUR02 كراما كاتبين الآية، فهذا تفصيل جملة ما ينسب إلى كل جنس من النفوس، والمخصوص بها من الشهوات المركوزة فيها، فأما التي تعمها كلها فشهوة البقاء على أتم الحالات وأكمل الغايات وكراهية الفناء والنقص عن الحال الأفضل والأكمل.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إن أنعمت النظر فيما وصفنا وتأملت ما ذكرنا، وجودت البحث عن مبادئ الكائنات وعلة الموجودات؛ علمت وتيقنت أن هاتين الحالتين؛ أعني: شهوة البقاء وكراهية الفناء أصل وقانون لجميع شهوات النفوس المركوزة في جبلتها، وأن تلك الشهوات المركوزة في جبلتها أصول وقوانين لجميع أخلاقها وسجاياها، وتلك الأخلاق أصول وقوانين لجميع أفعالها وصنائعها ومعارفها ومتصرفاتها - كما سنبين في هذه الفصول.
وإنما صارت هاتان الحالتان مركوزتين في جبلة كل الموجودات وجميع الكائنات من أجل أن الباري - جل ثناؤه - لما كان هو علة الموجودات وسبب الكائنات ومبدعها ومخترعها وموجدها ومبقيها ومتممها ومكملها ومبلغها إلى أقصى مدى غاياتها وأفضل حالاتها، وكان - جل ثناؤه - دائم البقاء لا يعرض له شيء من الفناء؛ صار من أجل هذا في جبلة الموجودات محبة البقاء وشهوته وكراهية الفناء وبغضه؛ لأن في جبلة المعلول يوجد بعض صفات العلة دلالة دائمة عليها، وإنما لا يعرض للباري - جل ثناؤه - شيء من النقص والفناء من أجل أنه علة الوجود لذاته وبقاؤه من نفسه، وأما سائر الموجودات وجميع الكائنات فلوجودها أسباب وعلل، ومتى عدم منها شيء أو نقص عرض لها الفناء والنقص والقصور عن البلوغ إلى الحال الأفضل والوجود الأكمل، والمثال في ذلك النبات والحيوان؛ فإنه متى عدم الغذاء الذي هو هيولى الأجساد، ومادة بقائها هلك وانفسد وتغير واضمحل.
وهكذا حكم نفوسها متى بطلت هياكلها بطل شعورها وإحساسها ولم يمكنها إظهار أفعالها وتأثيراتها، فتكون بتلك الحال النفوس موجودة ولكن على حال النقص، كما أن تراب أجسادها يكون موجودا لكن على حال النقص، وقد يعلم بأوائل العقول بأن الوجود على الحال الأفضل ألذ وأشرف وأفضل من الوجود على النقص. وقد قالت الحكماء والفلاسفة بأن كل شيء يراد فهو من أجل الخير، والخير يراد من أجل ذاته، والخير المحض السعادة، والسعادة تراد لنفسها لا لشيء آخر.
وقد قلنا وبينا في رسالة الإيمان بأن السعادة نوعان دنيوية وأخروية، فالسعادة الدنيوية هي أن يبقى كل موجود أطول ما يمكن على أفضل حالاته وأتم غاياته ، والسعادة الأخروية أن تبقى كل نفس إلى أبد الآبدين على أفضل حالاتها وأتم غاياتها.
واعلم يا أخي بأن النفوس الجزئية إنما ربطت بأجسادها التي هي أجسام جزئية كي ما تكمل فضائلها وتخرج كل ما في القوة والإمكان إلى الفعل والظهور من الفضائل والخيرات، ولم يمكن ذلك إلا بارتباطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها، كما أن الباري - جل ثناؤه - لم يكن إظهار جوده وفيض إحسانه وأفضاله وإنعامه إلا بإيجاد هذا الهيكل العظيم المبني بالحكمة، المصنوع بالقدرة، أعني: الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات الكائنات وتدبيره لها وسياسته إياها.
وإذ قد تبين بما ذكرنا: ما الغرض وما الفائدة من الشهوات المركوزة في الجبلة، وما يتبعها من الأخلاق والخصال، وهي أن تدعو تلك الشهوات النفوس إلى طلب المنفعة لأجسادها ودفع المكروه والمضرة عنها وتعينها تلك الأخلاق والخصال عليها؛ فنريد أن نبين الآن ما الخير منها، وما الشر وما المذموم منها، وما المحمود، ومتى يكون الإنسان مثابا بها أو معاقبا؟
(9) فصل في ترتب الأخلاق على بعضها وكونها فضيلة أو رذيلة
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان لما كان جسده مركبا من الأخلاط الأربعة، وكان مزاجه من الطبائع الأربع جعل الباري - جل ثناؤه - بواجب الحكمة أكثر أموره وتصاريف أحواله مربعات مشاكلات مطابقات بعضها لبعض؛ ليكون أعون له على ما يراد منه وأدل، من ذلك أنك تجد أخلاقه وأفعاله بعضها طبيعية مركوزة في الجبلة، كما ذكرنا طرفا من ذلك، وبعضها نفسانية اختيارية، وبعضها عقلية فكرية، وبعضها ناموسية سياسية.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الطبيعة هي خادمة للنفس ومقدمة لها، وأن النفس خادمة للعقل ومقدمة له، وأن العقل خادم للناموس ومقدمة له؛ وذلك أن الطبيعة إذا أصلت خلقا وركزته في الجبلة جاءت النفس بالاختيار فأظهرته وبينته، ثم جاء العقل بالفكر والروية فتممه وكمله ثم جاء الناموس بالأمر والنهي فسواه وقومه وعدله.
وذلك أنه متى ظهرت من الطبيعة هذه الشهوات المركوزة في الجبلة، وكانت على ما ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي، من أجل ما ينبغي؛ سميت خيرا. ومتى كانت بخلافه سميت شرا، ومتى فعل ذلك باختياره وإرادته على ما ينبغي بمقدار ما ينبغي من أجل ما ينبغي؛ كان صاحبه محمودا، ومتى كان بخلافه كان مذموما، ومتى كان اختياره وإرادته بفكر وروية على ما وصفنا كان صاحبه حكيما فيلسوفا فاضلا، ومتى كان بخلافه سمي سفيها جاهلا رذلا.
ومتى كان فعله وإرادته واختياره وفكره ورويته مأمورا بها ومنهيا عنها وفعل ما ينبغي كما ينبغي على ما ينبغي كان صاحبه مثابا بها ومجازى عليها، ومتى كان بخلاف ما ذكرناه كان مأخوذا بها ومعاقبا عليها، فقد تبين بما ذكرنا أن الشهوات المركوزة في الجبلة والأخلاق المنتشئة منها والأفعال التابعة لها وجميع المتصرفات من أجلها هي لأن تبقى النفوس على أفضل حالاتها، ويبلغ كل نوع منها إلى أقصى مدى غاياتها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري - جل ثناؤه - لما رتب النفوس مراتبها كمراتب الأعداد المفردات على ما اقتضت حكمته؛ جعل أولها متصلا بآخرها، وآخرها متصلا بأولها، بوسائطها المرتبة بينهما؛ لترتقي بها ما دونها إلى المرتبة التي فوقها؛ ليبلغها إلى مدى غاياتها، وتمام نهاياتها، وذلك أنه رتب النفوس النباتية تحت الحيوانية وجعلها خادمة لها ورتب الحيوانية تحت الناطقة الإنسانية وجعلها خادمة لها، ورتب الناطقة الإنسانية تحت العاقلة الحكمية وجعلها خادمة لها، ورتب العاقلة تحت الناموسية وجعلها خادمة لها، ورتب الناموسية تحت الملكية وجعلها خادمة لها.
فأية نفس منها انقادت لرئيسها وامتثلت أمره في سياستها؛ نقلت إلى مرتبة رئيسها، وصارت مثلها في الفعل، والمثال في ذلك من المشاهد أن أي تلميذ أو متعلم في علم أو صناعة امتثل أمر أستاذه وانقاد لمعلمه ودام عليه، فإنه سيصير يوما ما إلى مرتبة أستاذه ويصير مثل معلمه؛ لا يخفى هذا على كل عاقل متأمل مثل ما وصفنا، فعلى هذا المثال يكون تنقل النفوس في مراتبها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أحق النفوس الحيوانية أن تنقل إلى رتبة الإنسانية التي هي الخادمة للإنسان، المستأنسة به، المنقادة لأمره، المتعوبة في طاعته، الشقية في خدمته، وخاصة المذبوحة منها في القرابين، وعلى هذا المثال والقياس حكم النفوس الإنسانية؛ فإن أحقها أن تنتقل إلى رتبة الملائكة التي هي الخادمة في أوامر الناموس ونواهيه، المنقادة لأحكامه، المتعوبة في حفظ أركانه، كما سنبين بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الناس أصناف وطبقات في متصرفاتهم في أمور الدنيا لا يحصي عددها إلا الله - جل ثناؤه - كما ذكر بقوله تعالى: @QUR03 وقد خلقكم أطوارا، ولكن يجمعهم كلهم هذه السبعة الأقسام؛ وذلك أن منهم أرباب الصنائع والحرف والأعمال، ومنهم أرباب التجارات والمعاملات والأموال، ومنهم أرباب البنايات والعمارات والأملاك، ومنهم الملوك والسلاطين والأجناد وأرباب السياسات، ومنهم المتصرفون والخدامون والمتعيشون يوما بيوم، ومنهم الزمنى والعطل وأهل البطالة والفراغ، ومنهم أهل العلم والدين والمستخدمون في الناموس، وكل طائفة من هذه السبعة تنقسم إلى أصناف كثيرة، ولكل صنف منها أخلاق وطباع وسجايا ومآرب، أكسبتهم إياها أعمالهم، وأوجبتها لهم متصرفاتهم، لا يشبه بعضها بعضا، ولا يحصي عددها إلا الله - عز وجل.
ولكن نريد أن نذكر منها ما يحتاج إليه من الأخلاق والسجايا والخصال والأعمال والآداب والعلوم؛ أهل الدين المتمسكون بأحكام الناموس الحافظون أركانه الذين يرجى لهم النجاة بها والفوز باستعمالها، كما ذكر الله - جل ثناؤه: @QUR011 قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وقوله: @QUR05 وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم، وقال تعالى: @QUR09 ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى إلى آخر الآية، وآيات كثيرة من القرآن في مثل هذه المعاني.
(10) فصل في مراتب الناس في الأخلاق حسب الأعمال
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الناس إذا اعتبرت أحوالهم وتبينت أمورهم وجدتهم كلهم كالآلات والأدوات لواضعي النواميس الإلهية في تأسيسهم بنياتهم، وتتميمهم أحكامها وتكميلهم شرائطها وحفظهم أركانهم، ثم تجدهم خدما وخولا للملوك الذين هم خلفاء الأنبياء من بعدهم في حفظها وحراستها على نظامها وترتيبها، كما رتبها واضعو النواميس وأمروا بمراعاتها، وهم في ذلك أصناف وطبقات ومراتب مرتبات كترتيب الأعداد المفردات؛ وذلك أن واضع الناموس في مبدئه كالواحد في العدد، وأصحابه وأنصاره الذين اتبعوه كالآحاد، ومن تبعهم على مناهجهم كالعشرات، ومن جاء من بعدهم كالمئات، ومن بعدهم كالألوف، ومن جاء من بعدهم كعشرات الألوف ومئات الألوف بالغا ما بلغ إلى يوم القيامة.
ثم يصيرون بذلك كلهم جملة واحدة، كما ذكر الله - جل ثناؤه - بقوله وأشار إلى هذا المعنى: @QUR07 يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون وقال: @QUR010 وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا * وعرضوا على ربك صفا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إذا أنعمت النظر في الأمور المعقولة وجودت التأمل لأحكام الناموس وحدوده واعتبرت أحوال صاحب الناموس ونفاذ أمره ونهيه في نفوس أتباعه وأنصاره، وامتثالهم أمره ونهيه وطاعتهم له؛ تبينت وعرفت بأن الناموس مملكة روحانية، وأن وجوده وقوامه في حفظ أركانه الثمانية، وتبينت بأن أركانه الذين هم أتباع صاحب الناموس وأنصاره، وهم ثمانية أصناف؛ كل صنف منهم كأنهم صف قيام، حاملون ركنا من أركان الناموس.
فأول الأصناف هم قراء تنزيله وكتبه وحفاظ ألفاظه على رسومها ومعلموها لمن بعدهم من ذراريهم؛ ليؤدوا إلى من بعدهم من أتباعهم ما أخذوا عمن قبلهم؛ كل ذلك لكي لا يجهلها من يجيء من بعدهم وتنسى فتندرس معالم الدين وتضمحل وتبطل أحكام الناموس، والصنف الثاني هم رواة أخباره وناقلو أحاديثه وحافظو سيره ومؤدوها إلى من بعدهم؛ ليبلغوها إلى آخرهم كي لا يجهل وينسى فتندرس آثاره وتموت أخباره فلا تعرف.
والصنف الثالث هم فقهاء أحكام الناموس وعلماء سننه وحفاظ حدوده؛ كي لا تجهل فلا تستعمل أو تنسى فتندرس معالم الدين وتضمحل ويبطل الناموس، والصنف الرابع هم المفسرون ألفاظ تنزيله الظاهرة وأقاويله المروية والمعبرون عن وجوه معانيه المختلفة لمن قصر فهمه عنها وقلت معرفته بها؛ كل ذلك كي لا يجهلها من يجيء من بعدهم من ذراريهم وأتباعهم في أحكام الناموس أو تنسى فتندرس معالم الدين وتضمحل وتبطل أحكام الناموس.
والصنف الخامس هم أنصاره المجاهدون وغزاة أعدائه، الحافظون ثغور بلاد أتباع صاحب الناموس وأنصاره؛ كي لا يغلب عليها أعداؤهم ويفسد أمر دينهم عليهم، كما فعل بخت نصر بإيلياء في هيكل بني إسرائيل، وهو ببيت المقدس، وكما فعلت الروم بثغور المسلمين.
والصنف السادس هم خلفاء صاحب الناموس في أمته ورؤساء الجماعات والحارسون شريعته على أمته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المانعون لهم أن يسيروا بغير سيرة الناموس، الحافظون أطراف المملكة؛ كي لا يخرج خارجي سرا أو علانية، فيفسد أحكام الناموس بتمويهه وزوره على قلوب العامة والجهال كما فعل مزدك الخرمي في مملكة قباد ملك الفرس.
والصنف السابع هم الزهاد والعباد في المساجد، والرهبان والقوام في الهياكل، والخطباء على المنابر الواعظون الناس المحذرون لهم من ترك استعمال أحكام الناموس، الذامون أمور الدنيا، المحذرون لهم من الاغترار بأمانيها، المزهدون للمنهمكين في الشهوات، المذكرون أمر المعاد وأحوال القيامة للغافلين عنها، المشوقون إلى نعيم الآخرة المقرون بها.
كل ذلك كي لا يجهل أمر المعاد ولا ينسى ذكر الآخرة والاستعداد للرحلة إليها والتزود من الدنيا التقوى الذي هو خير الزاد؛ إذ كان هذا هو الغرض الأقصى في وضع الناموس الإلهي والغاية والمطلب من الرياضيات الفلسفية.
والصنف الثامن هم علماء تأويل تنزيله والراسخون في العلوم الإلهية والمعارف الربانية، العارفون خفيات أسرار الناموس الذين هم الأئمة المهديون والخلفاء الراشدون، الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
فصل
واعلم يا أخي بأنك إذا تأملت ونظرت إلى كل صنف من هذه الأصناف الثمانية واعتبرت أحوالهم وما هم عليه ومتعلقون به من حفظ هذه الأمور الثمانية وحرصهم على مراعاتها بشرائطها كما وصفنا، ثم نظرت بعين قلبك ونور بصيرتك وصفاء جوهرك إلى جملتهم وتخيلتها في وهمك وفكرت؛ رأيت الناموس مملكة روحانية ورأيت أتباع صاحب الناموس وأنصاره يسعون فيه ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، ورأيت واضع الناموس قد استوى على عرشه نافذا فيهم أمره ونهيه، وهم حاملون عرشه يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون لمن في الأرض، وهم من بعدهم من أتباعهم؛ لأنهم كالسماء لمن بعدهم، ومن بعدهم كالأرض لهم، ولمن قبلهم من أسلافهم .
واعلم يا أخي بأن كل طائفة من هذه الأصناف الثمانية تحتاج في حفظها ركنا من أركان الناموس إلى شرائط معلومة وخصال محمودة وأخلاق جميلة؛ نحتاج أن نشرحها ونصفها: أما التي يحتاج إليها القراء والحفظة من الأخلاق الجميلة والخصال المحمودة والشرائط المعلومة، فأولها فصاحة الألفاظ وتقويم اللسان وطيب النغمة وجودة العبارة وسرعة الحفظ وجودة الفهم ودوام الدرس والنشاط في القراءة والتواضع لمن يتعلم منه والتعظيم له ومعرفة حقه وحرمته والرفق بمن يعلمه والشفقة عليه وقلة الضجر من إبطاء فهمه وحفظه وترك ضيق الصدر من تلقينه وقلة الطمع في أخذ العوض منه وقلة المنة عليه بما يعلمه.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق أصحاب الأخبار وحملة الأحاديث، فأولها جودة الاستماع واستيفاء الكلام وضبط الألفاظ على رسمها وتقييدها بالكتابة والتحرز والتحرج والحذر من الزيادة فيها والنقصان عن تمامها والصدق وحسن الأداء وتجنب الكذب ثم الحكاية عنها بهيئتها وبذلها ونشرها لمن سأل عنها أو يصلح له الإخبار عنها، وطيها وصولا عمن لا تصلح له ولا تليق به؛ كل ذلك نصيحة للإخوان ونصرة للدين ولواضع الناموس وابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه في الآخرة.
وأما التي يحتاج إليها الفقهاء والقضاة والمفتون من هذه الخصال والأخلاق والشرائط المحمودة فيها والقيام منها بما هم بسبيله، فأولها: معرفة الرتب التي رتبها واضع الناموس من الأوامر والنواهي والفرائض والسنن والنوافل والحلال والحرام والحدود والأحكام.
ثم معرفة القياس وكيفية استخراج الفروع من الأصول في الفتاوى والمسائل الواردة التي ليس لها ذكر في الأصول، والتثبت والتأني في الفتيا والاستقصاء في استفهام السؤال بجميع شرائطه، ثم قلة الترخيص في الشبهات من المحذورات وترك التحريج في المشكلات ودرء الحدود بالشبهات وقلة الخلاف مع أبناء الجنس وترك الحسد للأقران وبذل النصيحة للإخوان والشفقة والتحنن على الجهال، وترك الافتخار في الإصابة في الأحكام، وقلة الشنعة على العلماء بزلاتهم، والاحتمال لأذية الجيران، وقلة الرغبة في حطام الدنيا، وعفة الفرج وترك الطمع والقيام بواجب أحكام الناموس، وأن لا يكون قوله مخالفا لعمله.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط المفسرون لألفاظ التنزيل، فأولها معرفة غرض صاحب الناموس في إيراده التنزيل واستعماله الألفاظ المشتركة المعاني، ثم أن يكون له اتساع في معرفة تصاريف الكلام والأقاويل، وما يحتملها من المعاني مما يؤكد غرض واضع الناموس، ويكون له جودة بحث وبعد غور في استخراج المعاني ولطف العبارة عنها بحسب ما تحتمل عقول المستمعين، ويقرب من فهم المتعلمين، ويكون له من يقظة القلب ما لا يناقض أقاويله وعباراته ولا في المعاني التي يشير إليها في تفسيره لألفاظ تنزيل واضع الناموس وأقاويله وكلامه وبيانه.
واعلم يا أخي بأنه متى لم يكن المفسر عارفا بغرض واضع الناموس في إيراده الألفاظ المشتركة المعاني في تنزيله وأقاويله وعباراته وبيانه، تخيل له من تلك الألفاظ من المعاني غير ما أشار إليه واضع الناموس، وتوهم سوى ما أراد فيها، فأفهم المستمعين من تفسيره ما تخيل هو، وعلم المتعلمين ما علم به، فصار له ذلك دينا ومذهبا غير دين واضع الناموس وطريقته، وكان مخالفا له في اعتقاده في الشريعة وهو لا يشعر، ويكون بذلك مفسدا في أحكام الناموس، وهو يظن أنه من المصلحين ولا يدري، فاحذر يا أخي من هذا الباب؛ فإن فساد ديانات واضعي الناموس وأحكام شرائعهم أكثرها من هذا الباب يكون.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط أنصار واضع الناموس وغزاة أعدائه والحافظون ثغور بلاد أتباعه وأنصاره أن يكون لهم تعصب للدين وغيرة على حرمة الناموس، وحمية من أجل فساد يدخل عليه، وحنق على الأعداء المجاهرين بالعداوة لواضع الناموس ودينه، المريدين فساد أحكامه وقلة الهيبة منهم، وشجاعة النفس عند البراز، وخفة الحركة عند الجولان، وتيقظ القلب من غدر العدو، وأخذ الحذر في أوقات الغفلة وقلة الاغترار بقلتهم وطلب الحيلة للظفر ما استوى من غير قتال، ومخادعة في الحروب، ومبادرة في البراز إلى الأقران والأكفاء وصبر عند اللقاء، وكثرة الذكر لله - عز وجل - والاستعانة به، والأنفة من الفرار وما يكون فيه من العار، وقلة الرغبة في النهب، والتقية من هتك الحريم عند الظفر ، وكثرة الشكر لله، وترك الإفساد عند هزيمة العدو، ورحمة الأسير، وقبول الصلح عند الهدنة، والوفاء بالعهد، وترك الإعجاب عند كثرة عدد الأعوان والأنصار.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط الزهاد والعباد والمذكرون للناس أمر الآخرة وذكر المعاد؛ فأولها التي هي أساس الدين وملاك الأمر القناعة باليسير من حطام الدنيا، والرضا بالقليل من متاعها ولذاتها، وصيانة النفس عن الانهماك في شهواتها ولذاتها، وترك طلب المنزلة والجلالة والكرامة، وقلة الحرص في طلب الحاجات فيها، والاشتغال بطلب العلم، والعبادة بالصوم والصلاة مع أبناء الجنس، وترك الخلطة في الراغبين فيها من أبنائها، والتفرد في الخلوات، وكثرة ذكر الموت وفناء نعيم الدنيا وزوال ملكها، والنظر إلى آثار القرون الماضية، والاعتبار بها، والدور الخربة والمنازل الدارسة العافية للأمم الخالية، والنظر في كتب الحكماء وأخبار سير الملوك الماضية، والتفكر في الأمثال المضروبة على ألسنة الحكماء ذوي التجربة في وصفهم الدنيا واعتبارهم تصاريف الزمان ونوائب الحدثان، والتيقن بأمر المعاد، وشدة الاشتياق إلى نعيم الآخرة دار القرار مع الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط خلفاء واضع الناموس، وهم طائفتان؛ إحداهما خلفاؤه في الملك والرياسة في أمور الدنيا والتدبير والسياسة في حفظ ظاهر أحكام الناموس على أهله؛ فقد أفردنا له رسالة؛ إذ كان هذا الباب يحتاج إلى خطب طويل وشرح كثير.
وأما خلفاؤه في أسرار أحكام الناموس الذين هم الأئمة المهديون والخلفاء الراشدون؛ فقد بينا أخلاقهم وخصالهم وشرائطهم وعلومهم ومعارفهم وطرائقهم في إحدى وخمسين رسالة عملناها ودوناها، وهذه الرسالة واحدة منها. فقم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بالعمل بواجبها والقيام بحقها، وأخبر جميع إخواننا حيث كانوا في البلاد بما في هذه الرسالة والرسائل الأخر؛ إذ الدال على الخير كفاعله.
وقد بينا بما ذكرنا طرفا من خصال صاحب الناموس وحكم أتباعه معه في حفظهم أركان الناموس وتصاريف أحوالهم في الدنيا، فنريد أن نذكر طرفا من كيفية أحوالهم في الآخرة وتصاريف أحكامها؛ إذ كان هذا هو الغرض الأقصى في وضع النواميس الإلهية وسنن الديانات النبوية.
فاعلم يا أخي بأن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهرا وباطنا، وظواهر الأمور قشور وعظام، وبواطنها لب ومخ، وأن الناموس هو أحد الأشياء الموجودة في هذا العالم منذ كان الناس، وله أحكام وحدود ظاهرة بينة، يعلمها أهل الشريعة وعلماء أحكامها من الخاص والعام، ولأحكامه وحدوده أسرار وبواطن لا يعرفها إلا الخواص منهم، والراسخون في العلم.
واعلم يا أخي بأن الناموس وضع لصلاح الدين والدنيا جميعا، وأن الدنيا والآخرة هما داران متقابلتان واسماهما مضادان، ومعناهما وحقيقتهما وصفتهما مختلفات متضادات؛ إحداهما كالقشرة وهي الدنيا، والأخرى كاللب وهي الآخرة، ولهما أهل وبنون ولأهلهما وبنيهما صفات وأخلاق وسجايا وأعمال متخالفات متضادات؛ نحتاج أن نشرحها ونفصلها ونذكر الفرق بينها وبين حقيقتها، ونميز بين أهلها؛ ليعلمها ويعرفها كل من أراد أن يفهم ويريد هذا العلم؛ إذ كان هو من أشرف العلوم وأجل المعارف التي يتعاطاها الناس من سائر العلوم.
فنقول: أما الدنيا فاسمها مشتق من الدنو والقرب، والآخرة من التأخر، وأما حقيقتهما فالدنيا هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم ولادة الجسد إلى يوم الممات الذي هو ولادة النفس ومفارقتها إياه، والآخرة هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم الممات ومفارقة النفس الجسد إلى ما بعدها أبد الآبدين ودهر الداهرين.
واعلم يا أخي بأن الله - جل ثناؤه - سمى الحياة الدنيا عرضا ومتاعا إلى حين؛ لأن كون الإنسان في الدنيا عارض عرض في طريق الآخرة، ولم يكن القصد والغرض المقام فيها، كما أن الغرض في الكون في الرحم لم يكن الغرض والقصد طول المكث والمقام هناك، ولكن طريقا وجوازا إلى الدنيا، فكذلك كون النفس في هذا الجسد هو سفينة ومركوب ومعبر إلى الدار الآخرة، وذلك أنه لم يكن الورود إلى الدنيا دون الكون هنالك زمانا لتتميم بنية الجسد، وتكميل صورته كما بينا في رسالة مسقط النطفة، فهكذا أيضا حكم المكث في الدنيا والكون فيها زمانا هو طريق وجواز إلى ما بعدها ؛ وذلك أنه لم يكن الورود إلى الدار الآخرة دون الجواز على الدنيا والكون فيها زمانا ما لكي ما تتم أحوال النفس، وتكمل فضائلها، كما بينا في رسالة الإنسان عالم صغير، ورسالة حكمة الموت.
ولهذا المعنى الذي ذكرناه ووصفناه قيل في الخطب على المنابر في الأعياد والجمعات: اعلموا أيها الناس أنكم إنما خلقتم للأبد، ولكن من دار إلى دار تنقلون، ومن الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى الجنة أو إلى النار، كما ذكر الله - عز وجل - بقوله: @QUR08 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون، وقوله: @QUR06 تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، وقوله: @QUR012 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وآيات كثيرة في القرآن في التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، مثل قوله تعالى: @QUR08 وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون؛ يعني أبناء الدنيا لرغبوا فيها أكثر وحرصوا في طلبها أشد، ولكنهم عنها غافلون ساهون جاهلون، لا يدرون ما هناك من النعيم واللذات والسرور والفرح والراحة، كما ذكر الله - عز وجل - واختصر بقوله: @QUR09 فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون.
فلما جهل أبناء الدنيا أمور الآخرة، وغفلوا عنها اشتغلوا عند ذلك بطلب الدنيا ونعيمها ولذاتها وشهواتها، وتمنوا الخلود فيها؛ لأنها محسوسة لهم يشهدونها، وتلك غائبة عن إدراك الحواس، فتركوا البحث عنها، والرغبة فيها والطلب لها وإليهم أشار بقوله - جل ثناؤه: @QUR010 ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون.
واعلم يا أخي بأن الله - جل ثناؤه - سمى الدار الآخرة الحيوان؛ لأنها عالم الأرواح ومعدن النفوس، والدنيا عالم الأجسام، وجواهر الأجسام موات بطبائعها، وإنما تكسبها الحياة النفوس والأرواح بكونها فيها ومعها، كما تكسب الشمس الهواء النور والضياء بإشراقها عليه، وفيه الدليل على أن النفوس هي التي تكسب الأجساد الحياة بكونها معها، وما يرى من حال الأجساد قبل الموت من الحس والحركة والشعور والأصوات والتصاريف وكيفية فقدانها ذلك عند الموت الذي ليس هو شيئا سوى مفارقة النفس الجسد، مما لا خفاء به عند كل عاقل منصف بعقله في موجبات أحكامه.
واعلم يا أخي بأن أكثر الناس من أتباع واضعي الناموس وأنصارهم مقرون بالآخرة مؤمنون بها، ولكنهم لا يعرفون ماهيتها، ولا يدرون ما حقيقتها ولا كيفيتها ولا أبنيتها ولا متى وقت الوصول إليها، وهكذا أيضا كثير من المتفلسفين مقرون بعالم الأرواح وجواهر النفوس، ولكن أكثرهم أيضا لا يدرون كيف الطريق نحوها ولا كيف الوصول.
وقد بينا نحن في رسائلنا الناموسية والعقلية ما يحتاج إليه كلا الفريقين جميعا في هذا المعنى؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الدنيا وما الآخرة، فنقول الآن: إن الناس كلهم أبناء الآخرة وأهلها كما هم أبناء الدنيا وأهلها، ولكنهم ينقسمون في الآخرة قسمين اثنين، كما هم في الدنيا قسمان اثنان: سعداء وأشقياء، فأما سعداء بني الدنيا وأشقياؤهم فهم معروفون ولسنا نحتاج إلى ذكرهم؛ إذ كان هذا هو مشاهد، ولكن الذي نحتاج أن نذكره علامات سعداء أبناء الآخرة وأخلاقهم وأعمالهم؛ إذ كان هذا أمرا خفيا لا يعلم إلا بعد الوصف والشرح والدليل والعلامات.
(11) فصل في انقسام الناس في السعادة أربعة أقسام
اعلم يا أخي أن الناس ينقسمون في سعادة الدنيا والآخرة وشقائهما أربعة أقسام، فمنهم سعداء في الدنيا والآخرة جميعا، ومنهم أشقياء فيهما جميعا، ومنهم أشقياء في الدنيا سعداء في الآخرة، ومنهم سعداء في الدنيا أشقياء في الآخرة.
فأما السعداء في الدنيا والآخرة جميعا فهم الذين وفر حظهم في الدنيا من المال والمتاع والصحة، ومكنوا فيها فاقتصروا منها على البلغة، ورضوا بالقليل، وقنعوا به، وقدموا الفضل إلى الآخرة ذخيرة لأنفسهم، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR08 وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله، وقال الله سبحانه: @QUR04 ووجدوا ما عملوا حاضرا وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
وأما سعداء أبناء الدنيا وأشقياء أبناء الآخرة فهم الذين وفر حظهم من متاعها ومكنوا منها وارتقوا فيها فتمتعوا وتلذذوا وتفاخروا وتكاثروا، ولم يتعظوا بزواجر الناموس، ولم ينقادوا له، ولم يأتمروا لأمره، وتعدوا حدوده، وتجاوزوا المقدار ، وطغوا وبغوا وأسرفوا، والله لا يحب المسرفين، وهم الذين أشار إليهم بقوله - جل ثناؤه: @QUR07 أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها إلى آخر الآية، وقال: @QUR013 ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب، وآيات كثيرة في القرآن في وصف هؤلاء.
وأما أشقياء الدنيا وسعداء الآخرة فهم الذين طالت أعمارهم فيها، وكثرت مصائبهم في تصاريف أيامها، واشتدت عنايتهم في طلبها، وفنيت أبدانهم في خدمة أهلها، وكثرت همومهم من أجلها، ولم يحظوا بشيء من نعيمها ولذاتها، وائتمروا بأوامر الناموس، ولم يتعدوا حدوده، وقد ذكر الله ذلك في آيات كثيرة من القرآن: @QUR06 إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وأما أشقياء الدنيا والآخرة فهم الذين بخسوا حظهم من الدنيا، ولم يمكنوا منها، وشقوا في طلبها، فعاشوا فيها طول أعمارهم بأبدان متعوبة ونفوس مهمومة، ولم ينالوا خيرا، ثم لم يأتمروا بأوامر الناموس، ولم ينقادوا لأحكامه، وتجاوزوا حدوده، ولم يتعظوا بزواجره، ولم يعملوا في عمارة بنيانه ولا في حفظ أركانه، فهم الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعا، ذلك هو الخسران المبين.
فصل
وإذ قد تبين بما ذكرنا بأقسام عقلية أنه لا يخلو أحد من الناس من أن يكون داخلا في أحد تلك الأقسام الأربعة، فنريد أن نذكر أخلاق أبناء الدنيا وطباعهم، وأخلاق أبناء الآخرة وسجاياهم؛ ليعرف الفرق بينهم.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أخلاق بني الدنيا هي التي ركزتها الطبيعة في الجبلة من غير كسب منهم ولا اختيار ولا فكرة ولا روية ولا اجتهاد ولا كلفة، فهم يسعون فيها ويعملون عليها مثل البهائم في طلب منافع الأجساد ودفع المضرة عنها، كما قال الله تعالى ذكره: @QUR07 يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم، وأما أخلاق أبناء الآخرة فهي التي اكتسبوها باجتهادهم، إما بموجب العقل والفكر والروية، وإما باتباع أوامر الناموس وتأديبه، كما سنبين، وتصير عند ذلك عادة لهم بطول الدءوب فيها، وكثرة الاستعمال لها، وعليها يجازون ويثابون، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR016 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إذا أنعمت النظر بعقلك، وفكرت برويتك، وتأملت أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده وترغيبه وترهيبه ووعده وعيده وزجره وتهديده؛ عرفت وتبينت أن أكثر أوامره هي بخلاف ما في طباع الناس، ونواهيه عما هو في الجبلة مركوز من تركب الشهوات أو طلب الراحة والنعيم والتلذذ، وما هو مركوز في الجبلة.
وذلك أنه أمر بالصيام وترك الأكل والشرب عند شدة الجوع والعطش، وبالطهارة عند البرد، وبالقيام في الصلاة وترك النوم على الفراش الوطيء، وبالمواساة عند القلة وشدة الحاجة، وبالتعفف عند هيجان الشهوة، وبالحلم عند سورة الغضب، وبالشجاعة عند المخاوف، وبالعفو عند المقدرة، وبالعدل عند الحكومة، وبالصبر عند الشدائد، وبالرضا عند مر المقادير، وبحسن العزاء عند المصائب، وبالاجتهاد والتشمير عند الكسل، وبصدق القول عند شدة الخوف منه، وبالسخاء عند شدة الفقر، وبوفاء العهد عند المغيب، وبالزهد في الدنيا عند التمكن منها، وما شاكل هذه الأفعال والأعمال والأخلاق والسجايا التي في الجبلة خلافها وفي الطباع مركوز غيرها، ويروى في الخبر أنه سئل رسول الله - صلى الله عليه وآله - عن معنى قول الله - عز وجل: @QUR07 خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، فقال: جمع في هذه الآية مكارم الأخلاق، وهي سبعة: عفوك عمن ظلمك، وإعطاؤك من حرمك، وصلتك لمن قطعك، وإحسانك إلى من أساء إليك، ونصيحتك لمن غشك، واستغفارك لمن اغتابك، وحلمك عمن أغضبك.
واعلم يا أخي بأن هذه هي أمهات أخلاق الكرام من أولياء الله الذين أشار إليهم بقوله: @QUR07 وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا إلى آخر الآية، وقوله: @QUR05 رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا وهي أخلاق الملائكة الذين أشار إليهم بقوله - جل ثناؤه: @QUR05 الذين يحملون العرش ومن حوله الآية، انظر الآن يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، إلى ما ذكرناه من أخلاق الكرام، وتفكر فيها إن كنت تريد أن تكون من أولياء الله وأهل جنته، ومن حزب ملائكته الكرام البررة، فاقتد بهم، وتخلق بأخلاقهم باجتهاد منك وروية وعناية شديدة وكثرة استعمال لها وطول دربة بها؛ لتصير لك عادة وطبيعة وجبلة مركوزة، وتبقى في نفسك مصورة عند المفارقة، ودع أخلاق إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين.
واعلم علما يقينا بأن ليس يصحب الإنسان بعد الموت عند مفارقة النفس الجسد، ويبقى معه من كل ما يملك في الدنيا من المال والأهل والمتاع، إلا ما كسبت يداه من هذه الأخلاق والأعمال المشاكلة لها، والعلوم والمعارف والآراء التي اعتقدها وأضمرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي أعمالكم ترد إليكم، وقال الله - جل ثناؤه: @QUR04 ووجدوا ما عملوا حاضرا.
واعلم يا أخي بأن أخلاق بني الدنيا وسجاياهم إنما جعلت طبيعة مركوزة في الجبلة؛ لأنهم وردوا إلى الدنيا جاهلين غير مستعدين لها، فأزيحت عللهم في ذلك، فأما أبناء الآخرة فصارت أخلاقهم مكتسبة معتادة؛ لأنهم أزيحت عللهم قبل ورودهم إلى الآخرة بما أعلموا بها، وأخبروا عنها، وبشروا بها، وأنذروا منها، وجدوا في طلبها.
وأوضح لهم طريقها، وأزيحت عللهم فيما يحتاجون إليه من البيان والاستطاعة والقدرة والهداية والأمر والنهي والوعد والوعيد والترغيب والترهيب وما شاكل ذلك مما هو بين واضح في أحكام النواميس وحدودها، وفي موجبات العقول وقضاياها؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والعقول المركوزة.
وإذ قد تبين بما ذكرنا ما العلة وما السبب في كون أخلاق أبناء الدنيا مركوزة في الجبلة، وأخلاق أبناء الآخرة مكتسبة معتادة؛ فنريد أن نبين أن من الأخلاق المكتسبة ما هي مذمومة وما هي محمودة، وأن المحمودة منها ما هي بموجب العقل وقضاياه، ومنها ما هي بموجب أحكام الناموس وأوامره، وهكذا حكم المذمومة منها.
واعلم يا أخي بأن كل عاقل ذكي القلب إذا نظر بعقله وتفكر برويته في أحوال الناس، وميز بين طبقاتهم، واعتبر تصاريف أمورهم في دنياهم؛ عرف، وتبين له بأن منهم خاصا وعاما وملوكا وسوقة، ويعلم ويتبين له بأن أخلاق الملوك وسجاياهم وآداب أتباعهم ومن يصحبهم وينادمهم خلاف أخلاق العامة والسوقة، ويعلم بأنه لا يترك أحد من العامة والسوقة أن يدخل إلى مجالس الملوك إلا بعد أدب وعلم وسكون ووقار وهيبة وجلالة، فيكون في هذا دلالة له.
فيعلم أنه لا يمكن أحدا من الناس، ولا يليق به، ولا يثق أن يصعد إلى ملكوت السماوات وسعة الأفلاك والدخول في زمرة الملائكة إلا بعد عناية شديدة في تهذيب نفسه وإصلاح أخلاقه وصحة اعتقاده وحقيقة معلوماته، فيجتهد عند ذلك في إصلاح ما هو فاسد منها، ويتجنب ما هو مذموم بحسب ما توجبه قضية عقله، ويؤدي إليه اجتهاده كما هو مذكور في كتب السياسة الفلسفية.
واعلم يا أخي أنه لما لم يكن في مكنة كل عاقل أن يفعل ما وصفنا؛ إذ كان يحتاج فيه إلى عناية شديدة، وبحث دقيق، ونظر قوي؛ خفف الله تعالى ذلك عليهم، وبعث واضعي النواميس الإلهية مؤيدين مع الوصايا المرضية، وأمرهم بامتثال أمرهم ونهيهم، فبنوا لهم الهياكل والمساجد والبيع ومواضع الصلوات وبيوت العبادات، وأمروهم بالدخول إليها بعد طهارة ونظافة ولبس الزينة بسكينة ووقار وأدب وورع وخشوع وتسبيح واستغفار، وترك أشياء كانت مباحة لهم وجائزا أن يفعلوها في بيوتهم وأسواقهم ومجالسهم وطرقاتهم؛ كل ذلك ليكون دلالة لكل عاقل فهم أنه هكذا ينبغي أن تكون سيرة من يريد أن يدخل الجنة، ويعرج بروحه إلى ملكوت السماوات طول عمره وأيام حياته كلها؛ لتصير عادة له وجبلة وطبيعة ثابتة، فيستحق ويستاهل أن يعرج بروحه إلى هناك كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR07 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه يعني روح المؤمن.
فإذا تفكر كل عاقل فيما يسمع من الخطب على المنابر في كل الديانات والملل في الأعياد والجمعات، تبين له حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا.
واعلم يا أخي أن لواضعي النواميس وصايا كثيرة مفننة؛ لأن دعوتهم عموم للخاص والعام جميعا؛ وهم - أعني أتباعهم - مختلفو الأحوال، فبينوا لكل طبقة ما ينبغي ويصلح لها، ولكن الذي عمهم كلهم هي الدعوة إلى الإقرار بما جاءوا به، والتصديق لهم بما خبروا عنه من الأمور الغائبة، علم ذلك أتباعهم أو لم يعلموا.
هذا هو الإيمان كما قال تعالى: @QUR08 يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فآمنوا بالله ورسوله، ثم أمرهم بعد هذا بأشياء ونهاهم عن أشياء كثيرة هي معروفة معلومة عند علماء أهل الشريعة وفقهائهم، ولكن آخر ما ختمها به قوله: @QUR015 واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، ويروى في الخبر بأن هذا آخر ما نزل من القرآن.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أوامر الله تعالى لعباده مماثلة لأوامر الملوك، وذلك أن من سنة الملوك والخلفاء وكثير من الرؤساء ومن آدابهم أنهم إذا تفرس أحدهم في أحد أولاده أو عبيده النجابة والفلاح؛ عني به أفضل عناية في تعليمه وتأديبه ورياضته، وحماه من اللعب واللهو والانهماك في الشهوات، ونهاه عن ترك الآداب وسوء الأخلاق وما لا يليق بأخلاق الرؤساء والعقلاء والأخيار؛ كل ذلك ليتخرج ويكون مهذبا متهيئا لقبول ما يراد منه أن يكون خليفة لمولاه ومكان أبيه في الرياسة والملك.
وهكذا كان تأديب الله تعالى لأنبيائه ورسله وأوليائه من المؤمنين فيما أمرهم به من اتباع رضوانه ونهاهم عنه من اتباع هوى أنفسهم - كما قال تعالى: @QUR014 وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى وهكذا أيضا إن كثيرا من أولاد الملوك وعبيدهم إذا أحس من أبيه أو مولاه ما ذكرنا أخذ نفسه بامتثال أمره ونهيه وترك شهواته واتباع هواه؛ كل ذلك لما يرجو من الأمر الجليل والخطب العظيم، فهكذا حكم أولياء الله من المؤمنين الذين يرجون لقاء الله.
وأما المتخلفون والمدابير من أولاد الملوك والرؤساء وعبيدهم الأشقياء الذين لا يرجون ما يوعدون؛ فهم لا يقبلون ما يؤمرون، ولا يسمعون ما يقال لهم، ولا يفكرون فيما يقال من الترغيب والترهيب، بل يسعون ليلهم ونهارهم في طلب شهواتهم وارتكاب هوى أنفسهم، فلا جرم أنهم يحرمون ما ينال إخوانهم من الرياسة والأمر والنهي والسلطان والعز والكرامات، فأما هؤلاء المدابير من أولاد الملوك فلا يصلحون لشيء غير أن يكونوا رهائن عند أعدائهم، أو معتقلين عند إخوتهم.
فهكذا يا أخي حكم الكافرين والمنافقين والفاسقين في الآخرة؛ يحرمون ما ينال المؤمنين من الكرامات والقرب والمراتب والدرجات والسرور واللذات؛ عقوبة لهم لما تركوا من وصية ربهم، وارتكبوا هوى أنفسهم، وضلوا عن الهدى، وحرموا الثواب والجزاء، كما قال الله تعالى: @QUR017 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة الآية.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن تأديب الله للمؤمنين مماثل لتأديب الملوك لأولادهم، فنقول: اعلم يا أخي أن وعده ووعيده وعذابه للكافرين والمنافقين والفاسقين مماثل لوعيد الطبيب المشفق الحكيم لولده الجاهل العليل، كما بينا في رسالة الآلام واللذات، وقد ذكر الله وعده للمؤمنين ووعيده للكافرين والمنافقين في القرآن في نحو من ألف آية؛ مثل قوله تعالى: @QUR09 وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية، وإنما جعل الله - جل ثناؤه - ثواب المؤمنين الجنان ونعيم الآخرة؛ لأن الإيمان خصلة تجمع فضائل كثيرة ملكية وشرائط كثيرة عقلية، فللمؤمنين علامات يعرفون بها ويتميزون على الكافرين والمنافقين، وقد بينا طرفا من هذا العلم في رسالة الإيمان وخصال المؤمنين، ولكن نحتاج أن نذكر في هذه الرسالة طرفا منها؛ ليكون تذكارا وموعظة للغافلين، كما أمر الله تعالى بقوله: @QUR05 وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
فصل
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن خواص عباده المؤمنين العارفين المستبصرين يعاملون الله - جل ثناؤه - بالصدق واليقين، ويحاسبون أنفسهم في ساعات الليل والنهار فيما يعملون، كأنهم يشاهدون الله ويرونه، فيجدون ثواب أعمالهم ساعة ساعة، لا يتأخر عنهم لحظة واحدة، وهي البشرى في الحياة الدنيا قبل بلوغهم إلى الآخرة، ويرون جزاء سيئاتهم أيضا يعقب أفعالهم، لا يخفى عليهم إلا قليل، وإليهم أشار بقوله - جل ثناؤه: @QUR012 إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وبقوله تعالى: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وقال: @QUR04 إلا عبادك منهم المخلصين، وآيات كثيرة ذكرها بمدحهم وحسن الثناء عليهم، وهم أعرف الناس بالله وأحسنهم معاملة معه.
وذكروا أن واحدا منهم اجتاز يوما في بعض سياحته براهب في صومعة له على رأس تل، فوقف بإزائه فناداه: يا راهب، فأخرج رأسه إليه من صومعته، وقال: من هذا؟ قال: رجل من أبناء جنسك الآدميين، قال: فما تريد؟ قال: كيف الطريق إلى الله؟ قال الراهب: في خلاف الهوى، قال له: فما خير الزاد؟ قال: التقوى، قال: لم تباعدت عن الناس وتحصنت في هذه الصومعة؟ قال: مخافة على قلبي من فتنتهم وحذرا على عقلي الحيرة من سوء عشرتهم، فطلبت راحة نفسي من مقاساة مداراتهم وقبيح أفعالهم، وجعلت معاملتي مع ربي فاسترحت منهم.
قال: فأخبرني كيف وجدتهم؟ قال: أسوأ قوم وأشر أصحاب، ففارقتهم، قال: فكيف وجدتم يا معشر أتباع المسيح معاملتكم مع ربكم؟ فاصدقني القول ودع عنك تزويق الكلام وزخارف الألفاظ، فسكت الراهب متفكرا، ثم قال: أسوأ معاملة تكون، قال له: وكيف ذلك؟ قال: لأنه أمرنا بكد الأبدان وجهد النفوس وصيام النهار وقيام الليل وترك الشهوات المركوزة في الجبلة ومخالفة الهوى الغالب ومجاهدة العدو المتسلط والرضا بخشونة العيش والصبر على الشدائد والبلوى، ومع هذه كلها جعل الأجر نسيئه في الآخرة بعد الموت مع بعد الطريق وكثرة الشكوك والحيرة، فهذه حالتنا في معاملتنا مع ربنا، فخبرني عنكم يا معشر أتباع أحمد، كيف وجدتم معاملتكم مع ربكم؟ قال: خير معاملة تكون وأحسنها.
قال الراهب: صفها لي، قال له: إنه أعطانا سلفا كثيرة ومواهب جزيلة لا تحصى فنون أنواعها من النعم والإحسان والأفضال، فنحن ليلنا ونهارنا نتقلب في أنواع من نعمه وفنون من آلائه ما بين سالف معتاد وآنف مستفاد وخالف منقاد، قال الراهب: كيف خصصتم بهذه المعاملة دون غيركم والرب واحد؟ قال: أما النعمة والإحسان والأفضال فعموم للجميع، قد عمتنا كلنا، ولكن نحن خصصنا بحسن الاعتقاد وصحة الرأي والإقرار بالحق والإيمان والتسليم، فوفقنا لمعرفة الحقائق لما أعطينا بالانقياد والإيمان والتسليم وصدق المعاملة من محاسبة النفس وملازمة الطريق، وتفقد تصاريف الأحوال الطارئة من الغيب ومراعاة القلب بما يرد عليه من الخواطر والوحي والإلهام ساعة بساعة.
قال الراهب: زدني في البيان، قال: نعم، اسمع ما أقوله وافهمه، واعقل ما تفهم. إن الله - جل ثناؤه - لما خلق الإنسان من طين ولم يكن شيئا مذكورا وجعل نسله من سلالة ماء مهين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم قلبه حالا بعد حال تسعة أشهر إلى أن أخرجه من هناك خلق سويا بنية صحيحة وصورة تامة وقامة منتصبة وحواس سالمة، ثم زوده من هناك لبنا لذيذا خالصا سائغا لذة للشاربين حولين كاملين، ثم رباه وأنشأه وأنماه بفنون من لطفه وغرائب من حكمته إلى أن بلغه أشده واستوى ثم آتاه حكما وعلما وقلبا ذكيا وسمعا دقيقا وبصرا حادا وذوقا لذيذا وشما طيبا ولمسا لينا ولسانا ناطقا وعقلا صحيحا وفهما جيدا وذهنا صافيا وتمييزا وفكرا وروية ومشيئة واختيارا وجوارح طائعة ويدين صانعتين ورجلين ساعيتين.
ثم علمه الفصاحة والبيان والخط بالقلم والصنائع والحرف والزراعة والبيع والتجارة والتصرف في المعاش وطلب وجوه المنافع واتخاذ البنيان وطلب العز والسلطان والأمر والرياسة والتدبير والسياسة، وسخر له ما في الأرض جميعا من الحيوان والنبات والمعادن، فغدا متحكما عليها تحكم الأرباب ومتصرفا فيها تصرف الملاك، متمتعا بها إلى حين.
ثم أراد الله أن يزيده من إحسانه وفضله وجوده وإنعامه شيئا آخر أشرف وأجل مما عددنا وذكرنا، وهو ما أكرم الله به ملائكته وخالص عباده وأهل جنته من النعيم الذي لا يشوبه نقص ولا تنغيص؛ إذ كان نعيم الدنيا مشوبا بالبؤس ولذاتها بالآلام وسرورها بالحزن وراحتها بالنصب وعزتها بالذل وصفوها بالكدر وغناها بالفقر وصحتها بالسقم وأهلها فيها معذبون في صورة المنعمين، مغتمون في صورة المغبوطين، مغرورون في صورة الواثقين، مهانون في صورة المكرمين، وجلون غير مطمئنين، خائفون غير آمنين.
مترددون بين الأضداد من نور وظلمة، وليل ونهار وشتاء وصيف وحر وبرد ورطب ويابس ونوم ويقظة وجوع وشبع وعطش وري وراحة وتعب وشباب وهرم وقوة وضعف وحياة وموت، وما شاكل ذلك من الأمور التي أهل الدنيا وأبناؤها مترددون بينها، متحيرون فيها، مدفوعون إليها.
فأراد ربك أن يخلصهم من هذه الآلام المشوبة باللذات، وينقلهم منها إلى نعيم لا بؤس فيه ، ولذة لا يشوبها ألم، وسرور بلا حزن، وفرح بلا غم، وعز بلا ذل، وكرامة بلا هوان، وراحة بلا تعب، وصفو لا يخالطه كدر، وأمن بلا خوف، وغناء بلا فقر، وصحة بلا سقم، وحياة بلا موت، وشباب بلا هرم، ومودة لازمة، ونور لا يشوبه ظلام، ويقظة بلا نوم، وذكر بلا غفلة، وعلم بلا جهالة، وصداقة بلا عداوة بين أهلها، ولا حسد ولا غيبة، إخوانا على سرر متقابلين، آمنين مطمئنين أبد الآبدين ودهر الداهرين.
ولما لم يمكن أن يكون الإنسان هناك بهذا الجسد الفاني والجسم الثقيل المستحيل الطويل العريض العميق المظلم المركب من أجزاء الأركان المتضادة، المؤلفة من الأخلاط الأربعة؛ إذ كان لا يليق بمن هذه سبيله من تلك الأوصاف الصافية والأحوال الباقية اقتضت العناية بواجب حكمة الباري - جل ثناؤه - أن ينشأ نشوءا آخر، كما ذكر الله - جل ثناؤه - بقوله: @QUR06 ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون؛ يعني: النشأة الأخرى، وقال: @QUR05 وننشئكم في ما لا تعلمون، وقال: @QUR05 ثم الله ينشئ النشأة الآخرة فبعث بلطفه أنبياءه ورسله يرغبونهم فيها، ويدلونهم على طريقها؛ كي ما يطلبوها ويكونوا لها مستعدين قبل الورود إليها، ولكي يسهل عليهم مفارقة ما ألفوا من الدنيا من شهواتها ولذاتها، وتخفف عليهم شدائد الدنيا ومصائبها؛ إذ كانوا يرجون بعدها ما يغمرها ويمحو ما قبلها من نعيم الدنيا وبؤسها، ويحذرونهم أيضا التواني في طلبها؛ كي لا يفوتهم ما وعدوا به، فإنه من فاتته فقد خسر الدنيا والآخرة جميعا، وضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا.
فهذا رأينا واعتقادنا يا راهب في معاملتنا مع ربنا، وبهذا الاعتقاد طاب عيشنا في الدنيا، وسهل علينا الزهد فيها وترك شهواتها، واشتدت رغبتنا في الآخرة، وزاد حرصنا في طلبها، وخف علينا كد العبادة، فلا نحس بها، بل نرى أن ذلك نعمة وكرامة وعز وشرف؛ إذ جعلنا أهلا أن نذكره؛ وإذ هدى قلوبنا وشرح صدورنا ونور أبصارنا لما عرفنا من كثرة إنعامه وفنون ألطافه وإحسانه.
قال الراهب: جزاك الله خيرا من واعظ ما أبلغه، ومن ذاكر أنعاما ما أحسنه، ومن هاد رشيد ما أبصره، وطبيب رفيق ما أحذقه، وأخ ناصح ما أشفقه.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الأمور الطبيعية محيطة بنا ومحتوية على نفوسنا كإحاطة الرحم بالجنين، وكإحاطة قشرة البيضة بمحها؛ كل ذلك حرص من الطبيعة على تتميمها وتكميلها وصيانتها من الآفات العارضة إلى أجل معلوم، فإذا جاء وقت الخروج من هناك بعد تتميم البنية وتكميل الصورة، فالجنين حينئذ هو الذي يحرك أعضاءه، ويركض برجليه، ويضرب بيديه حتى يخرق المشيمة، وتتقطع تلك الأوتار والرباطات التي كانت تمسكه هناك، ويمكنه الخروج من الرحم، وكذلك أفعال الفرخ بالبيضة، فهذا قياس ودليل لكل نفس تريد فراق الدنيا والخروج من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح، وتنبيه لها على أنه ينبغي لنا أن نتحرك ونجتهد حتى ندفع عن أنفسنا الأخلاق الطبيعية المركوزة في الجبلة المذمومة منها، المانعة للنفوس عن النهوض والخروج من عالم الكون والفساد إلى عالم الأفلاك وسعة السماوات ومعدن الأرواح ومقر النفوس.
فلما كان هذا كما ذكرناه، ولم يكن في منة إنسان أن يعقل هذا الأمر الجليل، ويفهم هذا الخطب الخطير؛ كان من فضل الله وإحسانه وإكرامه لعباده أن بعث إليهم النبيين والمرسلين مؤيدين؛ ليعلموا الناس هذه الأمور ويعرفوهم هذا الخطب وينبهوهم عليه ويدعوهم إليه ويرغبوهم فيه ويحثوهم على طلبه، ويكلفوهم الاجتهاد في نيله طوعا أو كرها، وهذه من جسيم نعم الله سبحانه على عباده وعظيم إحسانه إليهم، الذي عمهم كلهم، ولم يخص أحدهم دون الآخر؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا بأن بعض نعم الله تعالى وإحسانه ما هي عموم لجميع خلقه لا يخص واحدا دون الآخر، فنريد أن نذكر ما يخص منها، ونبين كيف يكون ذلك، ومن يستحقها ويستأهلها.
فاعلم يا أخي أن من نعم الله وإحسانه وإكرامه ما يخص به خواص من عبيده بحسب اجتهادهم وسعيهم وحسن معاملتهم، ويحرمه قوما آخرين عقوبة لهم؛ إذ كان سعيهم واجتهادهم ومعاملتهم بخلاف سعي أولئك واجتهادهم، فهذا الباب من عدله وإنصافه بين خلقه؛ إذ كان الإحسان إليهم والنعم التي هي من قبله تفضلا عليهم تعمهم كلهم والتي يستحقونها بحسب سعيهم، ويستأهلونها باجتهادهم لا يساوي بينهم فيها؛ إذ لم يكونوا متساوين في العمل.
واعلم يا أخي بأن الله - جل ثناؤه - لما بعث أنبياءه ورسله إلى الأمم الجاهلة الغافلة عن هذا الأمر الجليل الخطير؛ لم يأمرهم ولا كلفهم شيئا شاقا سوى ما في وسع طاقتهم من القول والعمل والنية والإضمار، فأول شيء أمرهم الأنبياء وطالبوهم به هو الإيمان الذي هو إقرار اللسان لهم بما جاءوا به من الأنباء والأخبار عن أمور غائبة عن حواسهم وترك الجحود والإنكار لها، كما ذكر بقوله - جل ثناؤه: @QUR013 قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ... فآمنوا بالله ورسوله، فمن أعطاه الإقرار باللسان وثبت ولم يرجع؛ كان جزاؤه ومكافأته لإقراره في الدنيا عاجلا أن يهدي الله قلبه بنور اليقين، ويشرح صدره للتصديق بما أخبر به عن الغيب، وينجي قلبه من ألم الكرب والتكذيب، ويخلص نفسه من عذاب الشك والريبة والحيرة، كما وعد - جل ثناؤه - بقوله: @QUR05 ومن يؤمن بالله يهد قلبه؛ يعني: من يقر بلسانه يهد قلبه للتصديق واليقين والإخلاص، وقال: @QUR02 والذين اهتدوا؛ يعني: أقروا، @QUR02 زادهم هدى؛ يعني: يقينا واستبصارا @QUR02 وآتاهم تقواهم؛ يعني: أزال عنهم الشك والارتياب.
واعلم يا أخي بأن المقر بلسانه والمنكر بقلبه يكون شاكا مرتابا متحيرا دهشا، وهذه كلها آلام للقلوب وعذاب للنفوس، فأراد الله - جل ثناؤه - أن يخلص عباده المقرين لأنبيائه بما جاءوا به من هذه الآلام والعذاب، فأمر المقرين بأشياء يفعلونها ونهاهم عن أشياء ليتركوها؛ كل ذلك ليبلوهم، فمن قبل وصاياه وعمل بها وثبت عليها كان جزاؤه وثواب عمله في الدنيا عاجلا قبل وصوله إلى الآخرة؛ أن هدى قلوبهم بنور اليقين وشرح صدورهم من ضيق الشك والريبة والإنكار والحيرة والدهشة والنفاق وخلصهم من عذابها.
وأما من ترك الوصية ولم يعمل بها، بل خادع ومكر، وأضمر خلاف ما أظهر، وأسر غير ما أعلن، وأخلف الوعد، وأقام على هذه المساوئ والمخازي؛ كان جزاؤه وعقوبته أن يترك في ريبه مترددا في دينه، متحيرا شاكا مذبذبا معذبا قلبه ، متألمة نفسه، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR015 فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، وقوله تعالى: @QUR013 ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: @QUR07 هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، فقد تبين بما ذكرنا طرف من كيفية اختصاص الله تعالى المؤمنين بأفضاله وأنعامه وإحسانه إلى قوم دون قوم مكافأة لهم بحسب معاملتهم مع ربهم في عاجل الحياة الدنيا قبل وصولهم إلى الآخرة، وكيف يحرم تلك النعم قوما آخرين عقوبة لهم وجزاء لما تركوا من وصاياه ولم يعملوا بها.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله، بأنه - جل ثناؤه - قد فرض على المؤمنين المقرين به وبأنبيائه أشياء يفعلونها، ونهاهم عن أشياء ليتركوها؛ كل ذلك ليبتليهم بها، وجعلها عللا وأسبابا ليرقيهم فيها، وينقلهم بها حالا بعد حال إلى أن يبلغهم إلى أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم.
واعلم يا أخي بأن من بلغه الله درجة ورتبة، فوقف عندها ولم يرجع القهقرى بعد بلوغها، ثم قام بحقها ووفى بشرائطها؛ جعل جزاءه وثوابه أن ينقله من تلك الرتبة والدرجة إلى ما فوقها، ويرفعه من تلك إلى ما هو أشرف وأجل منها، ومن جهل قدر النعمة في تلك الرتبة فلم يشكرها، ولا اجتهد في طلب ما فوقها، ولا رغب في الزيادة عليها؛ كان جزاؤه أن يترك مكانه ويوقف حيث انتهى به عمله، ويحرم المزيد، فيفوته ما وراء ذلك وفوقه من الدرجات والمراتب، وكان ذلك الفوت والحرمان هو عقوبته، والمثال في ذلك ما تقدم ذكره في أمر المؤمنين المقرين المخلصين الصادقين والمنافقين المخادعين المرتابين.
وقد ذكر الله تعالى علامات المؤمنين المخلصين الموقنين الصادقين وأعمالهم وأخلاقهم في آيات كثيرة من سور القرآن، وذكر أيضا علامات المنافقين المرتابين المرائين في آيات كثيرة، وخاصة ما في سورة الأنفال وسورة التوبة وسورة الأحزاب، بما فيه كفاية عن إعادته ها هنا، ويروى في الخبر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يأمر الناس أيام إمارته بقراءة هذه السور، ويأمرهم بحفظها ودرسها، وأن يأخذوا أنفسهم بواجب ما ذكر فيها وبراءة ساحتهم مما وصف فيها من صفات المنافقين المرتابين الشاكين المرائين المخادعين.
فينبغي لك يا أخي أن تجعل هذا الذي ذكرنا دليلا وقياسا لك في كل ما تعامل به ربك طول عمرك وأيام حياتك، إن أردت أن يرقيك برحمته في المراتب، ويرفعك في الدرجات حتى يبلغك أقصاها وأشرفها في الدنيا والآخرة جميعا، كما وعد الله تعالى ذلك بقوله: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.
(12) فصل في فضل طلب العلم
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الله - جل ثناؤه - قد فرض على المؤمنين أشياء كثيرة يفعلونها، ونهاهم عن أشياء كثيرة يتركونها - كما قلنا آنفا - ولكن ليس من فريضة من جميع مفروضات الشريعة وأحكام الناموس أوجب ولا أفضل ولا أجل ولا أشرف ولا أنفع لعبد، ولا أقرب له إلى ربه بعد الإقرار به والتصديق لأنبيائه ورسله فيما جاءوا به وخبروا عنه من العلم وطلبه وتعليمه.
وبيان ذكر شرف العلم على ما ذكرناه من فضيلته وجلالته وفضل طلبه وتعلمه، ما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: تعلموا العلم؛ فإن في تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمونه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبيل الجنة والمؤنس في الوحدة والوحشة، والصاحب في الغربة، والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والمقرب عند الغرباء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة يهتدى بهم، وأئمة في الخير تقتفى آثارهم، ويوثق بأعمالهم، وينتهى إلى آرائهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تستغفر لهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى الحيتان في البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها.
لأن العلم حياة القلب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالس الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة ، والفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام؛ به يطاع الله، وبه يعبد، وبه يعلم الخير، وبه يتورع، وبه يؤجر، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، واعلم أن العلم إمام العمل، والعمل تابعه، ويلهمه الله السعداء، ويحرمه الأشقياء.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن طالب العلم يحتاج إلى سبع خصال، أولها السؤال والصمت، ثم الاستماع، ثم التفكر، ثم العمل به، ثم طلب الصدق من نفسه، ثم كثرة الذكر أنه من نعم الله، ثم ترك الإعجاب بما يحسنه، والعلم يكسب صاحبه عشر خصال محمودة، أولها الشرف وإن كان دنيا، والعز وإن كان مهينا، والغناء وإن كان فقيرا، والقوة وإن كان ضعيفا، والنبل وإن كان حقيرا، والقرب وإن كان بعيدا، والقدر وإن كان ناقصا، والجود وإن كان بخيلا، والحياء وإن كان صلفا، والمهابة وإن كان وضيعا، والسلامة وإن كان سقيما، وقال الله - جل ذكره: @QUR011 هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب، وقال سبحانه: @QUR06 إنما يخشى الله من عباده العلماء، وقال: @QUR07 ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وآيات كثيرة في القرآن في مدح العلماء وفضائلهم وحسن الثناء عليهم في مثل ذلك.
واعلم يا أخي بأن للعلماء - مع كثرة فضائل العلم - آفات وعيوبا وأخلاقا ردية، تحتاج أن تتجنبها وتتحذرها، فمنها الكبر والعجب والافتخار، وقد روي عن رسول الله أنه قال: من ازداد علما ولم يزدد لله تواضعا، وللجهال رحمة، وللعلماء مودة؛ لم يزدد من الله إلا بعدا. ومنها كثرة الخلاف والمنازعة فيه وطلب الرياسة به والتعصب والعداوة والبغضاء فيما بينهم، وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور العلم، كما تحيى الأرض الميتة بوابل المطر، وإياك ومنازعة العلماء؛ فإن الحكمة نزلت من السماء صافية، فلما تعلمها الرجال صرفوها إلى أهواء أنفسهم.
ومن آفات العلماء الخوض في المشكلات والترخيص في الشبهات وترك العمل بموجبات العلم، ومن آفات العلماء أيضا كثرة الرغبة في الدنيا وشدة الحرص في طلبها، وقد قيل في المثل : إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، والحرص في طلبها مرض للنفوس وسقام لها، وعلماء أحكام الناموس هم أطباء النفوس ومداووها، فمثل العالم الراغب في الدنيا الحريص على طلب شهواتها كمثل الطبيب المداوي غيره وهو مريض لا يرجى صلاحه، فكيف يشفي المريض بعلاجه؟ وقد قيل: إن عالما زاهدا في الدنيا، يكون عالما بدين الله وبصيرا بطريق الآخرة خير من ألف عالم راغب فيها، وقال المسيح - عليه السلام: أيها العلماء والفقهاء قعدتم على طريق الآخرة، فلا أنتم تسيرون إليها فتدخلون الجنة، ولا تتركون أحدا يجوزكم فيصل إليها، وإن الجاهل أعذر من العالم، وليس لواحد منهما عذر.
واعلم يا أخي بأن كل علم وأدب لا يؤدي صاحبه إلى طلب الآخرة ولا يعينه على الوصول إليها، فهو وبال على صاحبه وحجة عليه يوم القيامة؛ وذلك أن الملوك والجبابرة والفراعنة والقرون الماضية كانت لهم عقول رضية، وآداب بارعة، وسياسة وحكمة وصنائع عجيبة، وهكذا من كان يعاشرهم وينادمهم ويقرب إليهم من وزرائهم وكتابهم وعمالهم وقوادهم وعلمائهم وأدبائهم، ولكن هلكوا من أجل أنهم صرفوا تلك القوى والعقول والأفهام وأكثر أفكارهم وتمييزهم ورويتهم في طلب شهوات الدنيا والتمتع بلذاتها ونعيمها بالرغبة الشديدة والحرص والتمني للخلود فيها، وجعلوا أكثر كدهم وسعيهم في صلاح أمور الدنيا حتى عمروها وأهملوا الآخرة وذكر المعاد، ولم يستعدوا له وذكروا الدنيا وغفلوا عن الآخرة ولم يتزودوا من الدنيا، وتركوها لغيرهم، ورحلوا عنها كارهين، فصارت تلك النعم وبالا عليهم؛ إذ لم ينالوا بها الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وإنما أكثر الله سبحانه في القرآن ذم هؤلاء وسوء الثناء عليهم؛ لكي ما يعتبر بهم المعتبرون ممن يجيء بعدهم ويتعظوا بحالهم، ولا يغتروا بالدنيا كاغترارهم، كما قال الله - جل ذكره: @QUR08 فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، وقال: @QUR06 أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة إلى آخر الآية، وقال - تعالى ذكره: @QUR09 زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة الآية، وقال: @QUR037 واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا، وآيات كثيرة في القرآن في ذم الراغبين في الدنيا، والتحذير منها ومن غرورها وأمانيها.
كل ذلك نصح من الله سبحانه لعباده المؤمنين ولطف بهم ونظر ورحمة؛ لئلا تفوتهم الآخرة كما فاتت أولئك؛ ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من يحيى عن بينة، قال الله تعالى: @QUR014 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن من الأخلاق المكتسبة ما هي محمودة منسوبة إلى الملائكة، كما سنبينها بعد، ومنها ما هي مذمومة منسوبة إلى الشيطان، وهي كثيرة نحتاج أن نبينها ونشرحها؛ ليظهر الفرق بينهما ويعرفها إخواننا الكرام، فيجتنبوا أخلاق الشياطين ويتركوها ويتخلقوا بأخلاق الملائكة الكرام ويؤثروها، ويجتهدوا في اكتسابها؛ إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأربعة الأشياء التي لا تفارق النفس بعد مفارقتها الأجساد وعليها أيضا تجازى النفوس إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وهذه الأربعة الأشياء التي ذكرنا أن النفس تجازى عليها بعد الفراق، أولها الأخلاق المكتسبة المعتادة، والثاني العلوم التعليمية، والثالث الآراء المعتقدة، والرابع الأعمال المكتسبة بالاختيار والإرادة، فمن أخلاق الشياطين أولها كبر إبليس وحرص آدم وحسد قابيل.
واعلم يا أخي بأن هذه الخصال الثلاث هي أمهات المعاصي وأصول الشرور، ولها أخوات مشاكلات لها، وفروع وأغصان متفننات منها نحتاج أن نذكر طرفا منها ليعلم صحة ما قلنا ويعرف حقيقة ما وصفنا.
فمن أخوات الكبر وأشكاله عجب المرء برأي نفسه، والأنفة عن قبول الحق، وترك الإقرار به، والانقياد لأمر الآمر والناهي الواجب الطاعة، والتعدي والخروج عن الحد الواجب والحق اللازم، والظلم والجور عند القدرة في الحكومات، وترك الإنصاف في المعاملة، والتهاون في الواجبات، والإعراض عن اللوازم من الحقوق، والقحة والصلابة في الوجه في دفع الحق والعيان والضرورات والفحش والسفاهة في الخطاب والجدال واللجاج في الخصومات والخرق والنزق في العشرة، والحدة والطيش في التصرف، والغش والمكر في المعاملة، والاستصغار والاحتقار لأبناء الجنس، والاستطالة عليهم والافتخار في الأمور بما خص من المواهب، والإنكار لفضل من فضل عليه، والبغي والعدوان وما شاكلها من الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة والأفعال السيئة والأعمال القبيحة.
ومن أخوات الحرص وأشكاله الطمع الكاذب، وشدة الرغبة، والطلب الحثيث، والعجلة في السعي، وتعب البدن، وعناء النفس، وكد الروح في الجمع والادخار، والاستكثار والاحتكار من خوف الفقر، والبخل والمنع والشح واللؤم والنكد، وما يتبعها من الشؤم والخذلان وقلة الانتفاع بالموجود، والحرمان من المدخور، والمضايقة في المعاملة، والمناقشة في المحاسبة، وسوء الظن بالأمين، والتهمة للثقات والمؤتمنين، والخيانة في الأمانة، وطلب الحرام وهتك الحرم، وارتكاب الفحشاء، وإضمار القلب على الإضرار، وإظهار الكذب لكتمان السر، والحيل في أسباب الطلب من البيع والشراء، والغش في الأمتعة، وقلة النصيحة في الصنائع، والحلف واليمين الكاذبة عند الاعتذار في الحكومات، وأقاويل الزور في أسباب الخصومات، والعداوة والتعدي في الحدود، وما شاكلها من الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة والأقاويل الباطلة والأفعال القبيحة والأعمال السيئة.
ومن أخوات الحسد وأشكاله الحقد والغل والدغل، ثم تدعو هذه الخصال إلى المكاشفة بالعداوة والبغضاء والبغي والغضب والحرد والتعدي والعدوان وقساوة القلب وقلة الرحمة والفظاظة والغلظة والطعن واللعن والفحشاء، وتكون سببا للخصومة والشر والحرب والقتال، إن أمكن ذلك جهارا وإعلانا، وإلا يدعو إلى المكر والحيلة والخداع والغدر والخيانة والسعاية والغيبة والنميمة والزور والبهتان والكذب والمداهنة والنفاق والرياء، ويصير ذلك سببا لتشتيت الشمل وتفريق الجميع وقطيعة الرحم والبعد من الإخوان ومفارقة الإلف وخراب الديار ووحشة الوحدة والحزن والغم وألم القلب وهموم النفس وعذاب الأرواح وتنغيص العيش وسوء المنقلب وخسران الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من هذه الخصال والشرور والأخلاق والأفعال القبيحة والأعمال السيئة الدنية التي تنكرها العقول السليمة والنفوس المهذبة والأرواح الطاهرة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن المتكبر عن قبول الحق عدو للطاعة، وقد قيل: إن الطاعة هي اسم الله الأعظم الذي به قامت السماوات والأرض بالعدل ، وضد الكبر التواضع للحق والقبول له، ويقال في المثل السائر: من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله، وقيل في بعض كتب بني إسرائيل: قال الله - سبحانه وتعالى: الكبر ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما كببته في نار جهنم على منخريه، قال الله - عز وجل - في القرآن: @QUR05 أليس في جهنم مثوى للمتكبرين، وقيل: إن الحرص الشديد ربما كان سبب الحرمان، والحاسد عدو لنعم الله، وليس للحاسد إلا ما حسد، وقال الله - جل ذكره: @QUR09 أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فاحذر يا أخي من هذه الخصال والأخلاق والأعمال؛ فإنها من أخلاق الشياطين وجنود إبليس أجمعين الذين يبغض بعضهم بعضا، ويعادي بعضهم بعضا كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR05 كلما دخلت أمة لعنت أختها، وقال تعالى: @QUR06 لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار، وآيات كثيرة في القرآن في ذم هؤلاء وسوء الثناء عليهم.
فقد تبين بما ذكرنا أن الكبر والحرص والحسد أصول وأمهات لسائر الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة المنتشئة منها الشرور والمعاصي كلها، فاحذر يا أخي منها، فإن قيل: ما الحكمة والفائدة في كون هذه الخصال الثلاث موجودة في الخليقة، مركوزة في الجبلة؟ فنقول: أما التكبر فهو من كبر النفس، وكبر النفس هو من علو همتها، وعلو الهمة جعل في جبلة النفس لطلب الرياسة، وطلب الرياسة من أجل السياسة، وذلك أن الناس محتاجون في تصاريف أمورهم إلى رئيس يسوسهم على شرائط معلومة، كما ذكر ذلك في كتب السياسات بشرح طويل، وقد ذكرنا طرفا منها في رسالة سياسة النبوة والملك، فإذا لم يكن الرئيس عالي الهمة كبير النفس؛ لم يصلح للرياسة، وكبر النفس يليق بالرؤساء، ويصلح للملوك وسياسة الجماعات، فأما الرعية والأعوان والأتباع والخدم والعبيد فلا يصلح لهم كبر النفس ولا يليق بهم.
وأقول بالجملة: إن كبر النفس في كل وقت وفي كل شيء ليس بأمر محمود، ولكن إذا استعمل كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي بمقدار ما ينبغي من أجل ما ينبغي؛ سمي ذلك محمودا، فيكون عامل ذلك طلق النفس ذا مروءة ، عالي الهمة عفيفا كريما جميلا دينا، ويكون صاحبه محمودا معظما مبجلا مهيبا، وأما التكبر عن قبول الحق وترك الإقرار بالواجب والفسق عن أمر الرئيس وترك الانقياد والإذعان للطاعة المفروضة؛ فهو المذموم وهو هو الشر والمعصية والمنكر.
وأقول بالجملة: ينبغي لك يا أخي أن تعلم وتتيقن بأنك كما تريد وتحب وتشتهي من عبدك أن ينقاد لأمرك وكذلك خادمك وأجيرك وتابعك وزوجك وولدك ولا يتكبرون عليك ولا يخرجون عن أمرك، ولا يجاوزون نهيك؛ فهكذا ينبغي ويجب أن تكون لرئيسك ومن هو فوقك في الأمر والنهي حتى تكون عادلا منصفا محقا ممدوحا مثابا مجازا ملتذا فرحا مسرورا منعما مكرما؛ فقد تبين بما ذكرنا ما الحكمة والفائدة في وجود التكبر في طباع النفس المركوزة في جبلتها، ومتى يكون صاحبه مذموما معاقبا، ومتى يكون محمودا مثابا.
وأما كون الحرص في طلب المرغوب فيه الموجود في الخليقة، المركوز في الجبلة؛ فهو من أجل أن الإنسان لما خلق محتاجا إلى مواد لبقاء هيكله ودوام شخصه مدة ما وإبقاء صورته في نسله زمانا ما؛ جعل في طبعه وجبلته الرغبة فيها والحرص في طلبها والجمع لها والادخار والحفظ لوقت الحاجة إليها؛ إذ كان ليس في كل وقت وفي كل مكان موجودا ما يريده ويحتاج إليه، فإذا رغب الإنسان فيما يحتاج إليه وطلب ما ينبغي له وجمع مقدار الحاجة وحفظه إلى وقت الحاجة، ثم استعمل ما ينبغي كما ينبغي، وأنفق بقدر الحاجة؛ فهو يكون محمودا عادلا منصفا محقا مصيبا مأجورا ملتذا مثابا منعما فرحا مسرورا مكرما.
فقد بينا ما الحكمة والفائدة في كون الرغبة والحرص في الجبلة المركوزة، فإذا طلب ما لا يحتاج إليه كان مذموما، أو جمع أكثر مما يحتاج إليه كان متعوبا، أو جمع ولم ينفق ولم يستعمل في وقت الحاجة إليه كان مقترا محروما، فإن أنفق واستعمل فيما لا ينبغي كان مسرفا مخطئا جائرا معاقبا معذبا، وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - أنه قال: من طلب الدنيا تعففا عن المسألة، وتوسعا على عياله ، وتعطفا على جاره؛ لقي الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مكاثرا مفاخرا مرائيا؛ جعل الله فقره بين عينيه، ولم يبال الله به بأي واد هلك.
فأما كون الحسد المركوز في الجبلة، الموجود في الخليقة، فهو من أجل التنافس في الرغائب من نعم الله، وذلك أن نعم الباري تعالى على خلقه كثيرة لا يحصي عددها إلا هو، ولم يمكن أن يجمع عددها كلها على شخص واحد، ففرقت في الأشخاص بالقسط كما شاء ربهم - عز وجل - وضعها، وفضل بعضهم على بعض كما اقتضت حكمته فلم يخل أحد من الخلق من نعم الله وآلائه، ولا استوفاها أحد من خلقه، فمن رأى على أحد من الخلق نعمة ليست عليه بعينها، فلينظر هل عليه نعمة ليست بعينها على ذلك الشخص، فيقابل هذه بتلك، ويشكر الله، ويسأله أن يديمها عليه، ومن رأى على أخيه نعمة ليس عليه مثلها، فليسأل الله تعالى من فضله، ولا يتمنى زوال تلك عن أخيه؛ فإن ذلك هو الحسد بعينه، وهو المذموم الذي يكون الحاسد به معذبة نفسه، مؤلما قلبه، عدوا لنعم الله على خلقه.
(13) فصل في الحرص والزهد ودرجات الناس
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إن أنعمت النظر بعقلك، وجودت الفكر برويتك، وتأملت أمور الدنيا، واعتبرت تصاريف أحوال الناس؛ تبينت وعرفت أن أكثر الشرور التي تجري بين الناس إنما سببها شدة الرغبة في الدنيا والحرص على طلب شهواتها ولذاتها ورياستها، وتمني الخلود فيها. وإذا تأملت واعتبرت؛ وجدت أس كل خير وأصل كل فضيلة الزهد في الدنيا وقلة الرغبة في شهواتها ونعيمها ولذاتها والرغبة في الآخرة وكثرة ذكر المعاد في آناء الليل وأطراف النهار والاستعداد للرحلة إليها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الخلق كلهم عبيد الله وأهل طاعته طوعا أو كرها، ولكن منهم خاص وعام وما بينهما طبقات متفاوتة الدرجات، فأول الخواص هم العقلاء الذين توجه نحوهم الخطاب بالأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم والترغيب والترهيب، ثم إن الله تعالى - بواجب حكمته - رفع قدر المؤمنين على سائر العقلاء وهم المقرون والقابلون أوامره ونواهيه، المنقادون لطاعته فيما رسم لهم في أحكام النواميس وموجبات العقول، التاركون لما نهوا عنه سرا وعلانية.
ثم إن الله سبحانه رفع من المؤمنين المقرين المخلصين، واصطفى منهم طائفة، وفضلهم على غيرهم، وهم العلماء والفقهاء الذين اجتهدوا في تعلم أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده وشرائطه بواجبها، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.
ثم إن الله - جل اسمه - رفع من جملة العلماء طائفة، وهم التائبون العابدون الصالحون الورعون المتقون المحسنون بما استحقوا باجتهادهم من القيام بواجبات أحكام الناموس درجات، كما ذكر الله - عز وجل - بقوله: @QUR013 أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه الآية، وقال تعالى: @QUR012 قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب، وقال تعالى: @QUR04 تتجافى جنوبهم عن المضاجع الآية، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر هؤلاء ومدحهم وحسن الثناء عليهم.
ثم إن الله - جل ثناؤه - رفع من هؤلاء طائفة في الدرجات وهم الزاهدون في الدنيا، العارفون عيوبها، الراغبون في الآخرة، المتحققون بها، الراسخون في علمها، وهم أولياء الله المخلصون، وعباده المؤمنون، وصفوته من خلقه أجمعين، الذين سماهم الباري تعالى: أولي الألباب وأولي الأبصار وأولي النهى، وأخلصهم بخالصة ذكرى الدار، التي هي الحيوان، وإليهم أشار بقوله سبحانه: @QUR05 وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار، وقوله: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وآيات كثيرة في القرآن، في ذكرهم ومدحهم وحسن الثناء عليهم.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن للمؤمنين فضائل كثيرة من محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال وفضائل الأعمال وجميل الفعال، لا يمكن أن تجمع كلها في شخص واحد، بل في عدة أشخاص فمقل ومكثر، ولكن ليس بعد العلم والإيمان خصلة للمؤمنين ولا خلق من أخلاق الكرام أشرف ولا أجل ولا أفضل من الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وذلك أن الزهد في الدنيا إنما هو ترك فضول متاع الحياة الدنيا وترك طلب شهواتها والرضا بالقليل والقناعة باليسير من الذي لا بد منه، وهذه خصلة تتبعها خصال كثيرة من محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال وجميل الأفعال.
وضد الزهد هو الرغبة في الدنيا والحرص في طلب شهواتها، وهي خصلة تتبعها أخلاق ردية وأفعال قبيحة وأعمال سيئة - كما تقدم ذكره - وذلك أن من خصال الزهاد وشعارهم قلة الأكل وترك الشهوات، وفي قلة الأكل وترك الشهوات خصال محمودة كثيرة، ومناقب حسنة جميلة، فمنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أجيعوا أنفسكم تفرح بكم سكان السماء»، ومنها أن الإنسان يكون أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأجلى قلبا وأقل نوما وأصدق رؤيا وأخف نفسا وأحد بصرا وألطف فكرا وأصغى سمعا وأصح حسا وأثبت رأيا وأقبل للعلم وأسرع حركة وأسلم طبيعة وأقل مؤنة وأوسع مواساة وأكرم خلقا وأثبت صحبة وأحلى في القلوب.
وقلة الأكل إذا ساعدته القناعة كان مزرعة الفكر وينبوع الحكمة وحياة الفطنة ومصباح القلب وطبيب البدن وقاتل الشهوات وهادم الوسواس ومنزل الإلهام، وعصمة من شر النفس وأمانا من شدة الحساب، والشكر له تابع، وكفر النعمة عنه زائل.
(14) فصل في آفات الشبع وكثرة الأكل وخصال الزهاد
يروى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد ذهاب نبيها صلى الله عليه وسلم الشبع وكثرته؛ وذلك أن القوم إذا شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، وقست قلوبهم، وجمحت نفوسهم، واشتدت شهواتهم.
ومن آفات الشبع وكثرة الأكل عفونة القلب، ومرض الأجساد، وذهاب البهاء، ونسيان الرب، وعمى القلوب، وهزال الروح، وسلاح الشياطين، وجراحة الدين، وذهاب اليقين، ونسيان العلم، ونقصان العقل، وعداوة الحكمة، وذهاب السخاء، وزيادة البخل، ومزرعة إبليس، وترك الأدب، وركوب المعاصي، واحتقار الفقراء، وثقل النفس، وإدرار الشهوات، وزيادة الجهل، وكثرة فضول القول، ويزيد في حب الدنيا، وينقص الخوف، ويكثر الضحك، ويحبب العيش، وينسي ذكر الموت، ويهدم العبادة، ويقل الإخلاص، ويذهب بالحياء، ويهيج عادة السوء، ويطيل النوم، ويكثر الغفلة، ويسبب تفريق الأصحاب، ويحرج الأعمال، ويكدر الصفو، ويذهب الحلاوة من القلوب، ويحبب الشيطان، ويبغض الرحمن، ويكثر الغم يوم الحساب، ويقرب من النيران، ويبعد من الجنان؛ لأنه سبب المعاصي، ويحرك الكبر، ويثبت الحسد، ويقل الشكر، ويذهب الصبر، فهذه خمسون خصلة تهيج من الشبع وكثرة الأكل.
ويقال: إن المعدة قدر الطعام، ونارها حرارة الكبد، فإذا لم ينطبخ كان سبب الأمراض المختلفة، فحسب ابن آدم أكلات تعمر بطنه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس.
ومن خصال الزهاد وشعارهم العفة والتصون؛ فهذه خصلة يتبعها أخلاق جميلة وخصال محمودة وفضائل كثيرة، فمنها الكف والورع والحفظ والوقار والتقى والأمانة والمروءة والكرم واللين والسكون والمراقبة والتوقي والصحة والسلامة وحسن الثناء عليهم والتزكية لهم والغبطة والسرور ومحبة القلوب وبراءة الساحة وسكون الناس إليهم والثقة بهم والإجلال لهم والإكرام، ومن خصال الزهاد أيضا وشعارهم السخاء والكرم والجود والبذل والمواساة والإحسان والإيثار والإفضال والرأفة والرحمة والتودد والبر والمعروف والصدقة والهدية، ومن خصالهم أيضا وشعارهم الحلم والأناة والتثبت والرزانة والتؤدة والرفق والمداراة والسكينة والوقار والحياء والصفح والعفو والتغافل والشفقة والرحمة والعدل والنصفة والمحبة والقبول والإجابة والتواضع والاحتمال، ومن خصالهم أيضا الرضا والقناعة والتجمل والكفاف واليأس من الطمع والراحة من العناء والتسليم للقضاء والصبر في الشدائد والبلوى وحسن العزاء.
ومن خصالهم وشعارهم التوكل على الله والثقة به والطمأنينة إليه والإخلاص له في العمل والدعاء والصدق بالقول والتصديق في الضمير والنصح للإخوان والوفاء بالعهد والحزم والعزم في عمل الخير والإحسان والبر والمعروف والمسارعة في الخيرات رغبا ورهبا، وهم من خشية ربهم مشفقون، فهؤلاء هم أولياء الله وخالص عباده من المؤمنين الذين يحبون الله ويحبهم - كما ذكر بقوله: @QUR05 والذين آمنوا أشد حبا لله وهم الذين يتمنون لقاءه لما يرجون من التحية، قال الله تعالى: @QUR04 تحيتهم يوم يلقونه سلام، فهل لك يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن ترغب في صحبتهم وتقصد مناهجهم وتقفو أثرهم وتتخلق بأخلاقهم وتسير بسيرتهم، لعلك تفوز بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
واعلم يا أخي بأن الطريق إلى هذه الخصال التي وصفناها هو أن تبتدئ أولا بسنة الناموس فتعمل بوصايا صاحبه كما هي في كتب النواميس الإلهية يعرفها أكثر علماء أهل الشريعة قد استغنينا عن ذكرها، والذي نوصيك به نحن أن تنزع عن نفسك القشور التي تعلقت عليها من صحبة الجسد، وتخلع اللباس الذي أحاط بها من الأمور الطبيعية والصفات الجسمانية وتجلو عنها الصدأ الذي تركب عليها من أخلاط البدن وسوء الأخلاق وتراكم الجهالات وفساد الآراء، وتنحي عنها هذه الأشياء ليصفو لك اللب والمخ وهو جوهر نفسك النيرة الشفافة الروحانية النورانية التي هي كلمة من كلمات الله وروح منه نفخها في الجسد وأحياه بها، وهي التي مدحها الله تعالى بقوله: «ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء» الآية، وقال: @QUR07 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه؛ يعني به روح المؤمن إذا فارقت الجسد صعد بها إلى سعة السماوات وفسحة الأفلاك فيكون سائحا هناك حيث شاء ذهب وجاء، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح بالنهار في الجنة على رءوس أشجارها وأنهارها وثمارها، وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش.» فهذه حال أرواح المؤمنين الصالحين بعد الموت، وأما حال أرواح الكافرين والفاسقين والفاجرين والمنافقين فلا يصعد بها إلى هناك بل تحجب دون السماء وتهيم في هاوية البرزخ إلى يوم يبعثون، وإليهم أشار بقوله تعالى: @QUR08 لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة إلى قوله: @QUR03 وكذلك نجزي الظالمين؛ لأنه لا يليق بها ذلك المكان الشريف والمحل الأعلى، كما لا يليق بالأوساخ من الناس والأقذار منهم مجالس الملوك والسادة والكرام.
فإن أردت يا أخي أن تعرج بروحك إلى هناك بعد فراق الجسد؛ فاجتهد قبل ذلك، واغسلها من درن الأخلاق الرديئة ووسخ الآراء الفاسدة، وأخرجها من ظلمات الجهالات المتراكمة وجنبها الأعمال السيئة، وألبسها لباس التقوى، وزمها عن الانهماك في الشهوات الجرمانية والغرور باللذات الجسمانية، فأما الآراء الفاسدة فقد بيناها في رسالة لنا، وأما كيفية الخروج من الجهالات المتراكمة فقد بيناها في إحدى وخمسين رسالة عملناها في فنون العلوم وغرائب الحكم وطرائف الآداب، وأما تهذيب الأخلاق فقد وصفنا بعضها في هذه الرسالة وبعضها في رسالة عشرة إخوان الصفاء والأصدقاء الكرام، فاقرأهما واعمل بما ذكرنا فيهما وعلمهما إخوانك وأصدقاءك؛ فإنك بذلك تفوز وتنال الزلفى عند ربك أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
(15) فصل في بيان علامات أولياء الله عز وجل وعباده الصالحين
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لأولياء الله صفات وعلامات كثيرة يعرفون بها، ويمتازون عمن سواهم، وهكذا أيضا لأعداء الله علامات وصفات يعرفون بها ويمتازون عن غيرهم؛ نحتاج أن نذكر طرفا منها ليعلم كل عاقل فهم مميز مستبصر إذا أراد أن يعرف من أي الفريقين هو لم يخف عليه ذلك.
واعلم يا أخي بأن العاقل الفهم المستبصر هو الذي يعرف الفرق بين الأشياء المتشابهة، ويميز بين الأمور المتجانسة، ويفضل بعضها على بعض بعلامات وصفات مختصة بواحد واحد منها.
فنقول الآن: إن من إحدى علامات أولياء الله الصالحين المختصين به ما ذكره الله تعالى بقوله لإبليس اللعين: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وحكي أيضا قول إبليس مجاوبا له: @QUR08 فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر أولياء الله وصفاتهم وعلاماتهم وهي مثل قوله تعالى: @QUR011 وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون ... إلى آخر الآيات، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر أولياء الله تعالى ومدحهم وصفاتهم وعلاماتهم وحسن الثناء عليهم.
ومن علاماتهم وصفاتهم أيضا حفظ الجوارح من كل ما لا يحل في الشريعة، ولا يجوز في السنة، ولا يحسن في المروءة، ومن علاماتهم وصفاتهم حفظ اللسان عن الكذب والغيبة والبهتان والزور والنميمة والفحش والسفاهة والطعن واللغو والوقيعة في أحد من الخليقة عدوا كان أو صديقا، مخالفا كان أو مؤالفا، ومن علاماتهم أيضا وصفاتهم وهي العمدة والأصل في جميع الخيرات والخصال المحمودة سلامة الصدر من الغل والغش والدغل والحسد والبغض والكبر والحرص والطمع والمكر والنفاق والرياء وما أشبهها من الخصال المذمومة، ومما هي مملوءة منها قلوب أبناء الدنيا الراغبين فيها، المكبين عليها، الطالبين لها، ومن علاماتهم أيضا وصفاتهم المختصة بهم الرحمة والتحنن ورقة القلب على كل ذي روح يحس بالآلام، ومن خصالهم أيضا النصيحة والشفقة والرفق والمداراة والتلطف والتودد لكل من يصحبهم ويعاشرهم.
ومن إحدى علامات أولياء الله وعباده المخلصين، ومن أخص صفاتهم التي يمتازون بها عن غيرهم هي معرفتهم بحقيقة الملائكة وكيفية إلهامها، وقد ذكرنا طرفا من هذا العلم في رسالة الإيمان وماهيته وخصال المؤمنين، ومن دقيق معرفتهم ولطيف علومهم معرفة حقيقة الشياطين وجنود إبليس اللعين وكيفية وسواسهم ومسهم كما ذكر الله سبحانه بقوله: @QUR020 إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.
ومن علاماتهم وصفاتهم ودقيق علومهم ولطيف أسرارهم معرفة البعث والقيامة والنشر والحشر والحساب والميزان والصراط والجواز؛ وذلك أن أكثر علماء أهل الشرائع النبوية وفقهائهم المتعبدين فيها متحيرون في معنى الإبليسية وحقيقة إبليس المخاطب لرب العالمين بقوله: @QUR04 أنظرني إلى يوم يبعثون، وأكثر العلماء شاكون في وجود هذا القائل: @QUR02 لأغوينهم أجمعين، وأكثر المتفلسفة منكرون قصته مع آدم وعداوته له وخطابه لرب العالمين ومواجهته له بخشونة الخطاب، بما ذكر الله سبحانه في القرآن في نحو من خمسين آية مثل قوله: @QUR015 ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين، وآيات كثيرة في أمثال هذه الحكايات موجودة في التوراة والإنجيل وصحف الأنبياء - عليهم السلام - كثيرة، وقد بينا نحن معانيها في رسالة البعث والقيامة، ولكن نريد أن نذكر في هذا الفصل منها طرفا في كيفية عداوة أولياء الله تعالى مع إبليس، وكيفية محاربتهم مع الشياطين ومخالفتهم ومجاهدتهم معهم طول أعمارهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا، وأنه لا يخفى عليهم مكائدهم، ولا يذهب عنهم غرورهم وأمانيهم.
(16) فصل فيما حكاه ولي من أولياء الله عن كيفية معرفة مكايد الشياطين ومحاربته معهم ومخالفته جنود إبليس أجمعين
قال العالم المستبصر لأخ له من أبناء جنسه فيما جرى بينهما من المذاكرة في أمر الشياطين وعداوتهم : كيف عرفت الشياطين ووساوسهم؟ قال: إني لما نشأت وتربيت وشدوت من الآداب طرفا، وأخذت من العلم نصيبا، وعقلت من أمر المعاش قسطا، وعرفت أمر المنافع والمضار؛ تبينت ما يجب علي من أحكام الناموس من الأوامر والنواهي والسنن والفرائض والأحكام والحدود والوعد والوعيد والذم والمدح على الأعمال والأفعال وعلى تركها، ثم قمت بواجبها جهدي وطاقتي بحسب ما وفقت له وقضي علي ويسر لي، ثم تفكرت في قول الله تعالى: @QUR06 إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وقوله: @QUR06 إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى، وتفكرت في قول النبي - صلى الله عليه وآله: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» يعني: مجاهدة النفس، وتصديقه قول الله تعالى: @QUR05 ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه وفكرت في قوله - عليه السلام: «لكل إنسان شيطانان يغويانه.» وقوله: «إن شيطاني أعانني الله عليه فأسلم.» وقوله: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.» وتصديق ذلك قول الله تعالى: @QUR010 من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس إلى آخر السورة، وقوله تعالى: @QUR08 إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم وآيات كثيرة في القرآن في مثل هذا المعنى وأحاديث مروية أيضا في هذا المعنى كثيرة.
فلما سمعت ما ذكر الله تعالى وتفكرت فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، نظرت عند ذلك بعقلي وفكرت بقلبي وتأملت برويتي، فلم أر أحدا في ظاهر الأمر يضادني في هذا المعنى ولا يخالفني ولا يعاديني من أبناء جنسي؛ وذلك لأني وجدت الخطاب متوجها عليهم كلهم مثل ما هو متوجه علي، ووجدت حكمهم في ذلك حكمي سواء لا فرق بيني وبينهم في هذا الأمر، فعلمت أن هذا أمر عموم يشمل جميع بني آدم ويعمهم، ثم تأملت وبحثت ودققت النظر؛ فوجدت حقيقة معنى الشياطين وكثرة جنود إبليس اللعين أجمعين ومخالفتهم بني آدم وعداوتهم لهم ووساوسهم إياهم؛ هي أمور باطنة وأسرار خفية مركوزة في الجبلة، مطبوعة في الخليقة، وهي الأخلاق الرديئة، والطباع المذمومة المنتشئة منذ الصبا مع الإنسان بالجهالات المتراكمة واعتقادات آراء فاسدة من غير معرفة ولا بصيرة، وما يتبعها من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة المكتسبة بالعادات الجارية الخارجة من الاعتدال بالزيادة والنقصان، المنسوبة إلى النفس الشهوانية والنفس الغضبية.
ثم تأملت ونظرت فوجدت الخطاب في الأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم متوجها كله إلى النفس الناطقة العاقلة المميزة المستبصرة ووجدتها هي بما توصف من الأخلاق الجميلة والمعارف الحقيقة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية ملكا من الملائكة بالإضافة إلى النفس الشهوانية والغضبية جميعا، ووجدت هاتين النفسين؛ أعني: الشهوانية والغضبية بما توصفان به من الجهالات المتراكمة والأخلاق المذمومة والطباع المركوزة والأفعال القبيحة التي لهما بلا فكر ولا روية كأنهما شيطانان بالإضافة إلى النفس الناطقة.
ثم تأملت وبحثت ودققت النظر فوجدت جميع الأعمال الزكية والأفعال الحسنة التي هي منسوبة إلى النفس الناطقة إنما هي لها بحسب آرائها الصحيحة واعتقاداتها الجميلة، ثم وجدت تلك الآراء والاعتقادات إنما هي لها بحسب أخلاقها المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية والعادات الجارية العادلة، أو ما كانت مركوزة في الجبلة، فتبينت عند ذلك، وعرفت - بهذا الاعتبار - أن أصل جميع الخيرات وصلاح الإنسان كلها هي الأخلاق المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية والمركوزة في الجبلة.
وتبين لي وعرفت أيضا أن أصل جميع الشرور وفساد أمور الإنسان كلها هي الأخلاق المذمومة المكتسبة بالعادات الجارية منذ الصبا من غير بصيرة، أو ما كانت مركوزة في الجبلة، فلما تبين لي ما قلت وعرفت حقيقة ما وصفت؛ تأملت قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله أجمعين: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» وقول الله تعالى: @QUR06 إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا؛ يعني: خالفوه وحاربوه كما تحاربون أعداءكم المشركين، فتبين لي بقول النبي صلى الله عليه وسلم وقول الله - عز وجل - أن العدو جنسان والعداوة نوعان والجهاد قسمان: أحدهما ظاهر جلي، وهو عداوة الكفار والمخالفين في الشريعة وحربهم وجهادهم، والآخر باطن خفي وهو عداوة الشياطين المخالفين في الجبلة المتضادين في الطبيعة، وتبين أن حربهم وعداوتهم وخلافهم هي الحقيقة، وعداوة الكفار، وحربهم هي العرضية.
وذلك أن عداوة الكفار هي من أجل أسباب دنيوية وعداوة الشياطين من أجل أسباب دينية وأن غلبتهم وظفرهم يعرض منها شقاوة الدنيا ويفوت العز والسلطان والتمتع باللذات الدنيوية ونعيمها وطيب عيشها، ثم تزول يوما ما، وأما عداوة الشياطين وغلبتهم وظفرهم فيعرض منها شقاوة الآخرة وعذابها ويفوت عزها وسلطانها ونعيمها ولذاتها وسرورها وفرحها وروحها وريحانها ودوامها، فبحسب التفاوت ما بين هذين الأمرين، قال النبي - صلى الله عليه وآله: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» وما ذكر الله سبحانه في القرآن في عدة سور في آيات كثيرة من التحذير من مكر الشياطين والغرور بخطراتهم، والأمر بمخالفتهم وعداوتهم والجهاد لهم؛ إذ كان الخطب فيهم أجل والخطر أعظم، بحسب التفاوت ما بين السعادتين في الدنيا والآخرة والشقاوة فيهما.
فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت؛ تبين لي أعدائي وشياطيني ومخالفي ومن يريد أن يغويني عن رشدي ويضلني عن هداي الذي دعاني إليه ربي وإلهي وأوصاني به وما نصحني نبيي - عليه السلام - ببيانه لي، وعلمت أني إن لم أقبل وصية ربي ونصيحة نبيي وأني متى توانيت وتركت الاجتهاد في مخالفة أعدائي وعداوتهم غلبوني وظفروا بي وأسروني وملكوني واستخدموني في أهوائهم ومراداتهم المشاكلة لأفعالهم السيئة، وصارت تلك الأشياء عادة لي وجبلة في وطبيعة ثانية، فتصير نفسي الناطقة - التي هي جوهرة شريفة - شيطانة مثلهم، فأكون قد هلكت وبقيت في عالم الكون والفساد مع الشياطين معذبا كما قال الله سبحانه: @QUR06 كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها الآية، وكقوله تعالى: @QUR03 لابثين فيها أحقابا الآية.
ثم تفكرت وعرفت وتبين لي أني إذا قبلت وصية ربي ونصيحة نبيي واقتديت بهما، واستعنت بربي وشمرت واجتهدت وخالفت هوى نفسي الشهوانية وعاديت نفسي الغضبية وحاربت أعدائي المخالفين لنفسي الناطقة؛ فإني أظفر بهم وأغلبهم بقوة ربي وأملكهم بإذنه وأستعبدهم بحوله وقوته، وأكون ملكا عليهم وسلطانا، ويصيرون كلهم عبيدا لي وخدما وخولا، فأصرفهم تحت أمر نفسي الناطقة ونهيها، وتكون هي عند ذلك ملكا من الملائكة بإظهار أفعالها الحسنة وأعمالها الزكية وأخلاقها الجميلة وآرائها الصحيحة ومعارفها الحقيقية ، وتكون هاتان النفسان الباقيتان؛ أعني: الشهوانية والغضبية، عبدين مقهورين لها وتحت أمرها ونهيها، ويكون جميع أخلاقهما وسجاياهما كالجنود والأعوان والخدم والعبيد للنفس الناطقة، مسوسين بسياسة عادلة، جارية على هذا السداد، كما رسم في الشريعة الوضية أو في الموجبات العقلية، فأكون عند ذلك قد فعلت ما وصاني به ربي بقولي وفعلي بقوله: @QUR05 وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية، وقال لنبيه - عليه السلام: @QUR06 قل هذه سبيلي أدعو إلى الله الآية.
فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت؛ نظرت عند ذلك في أحوالي، وتفكرت في تصاريف أموري؛ فوجدت بنية هيكلي مركبة من أخلاط ممتزجة، متضادة القوى، مركوزة فيها شهوات مختلفة، فتأملتها فإذا هي كأنها نيران كامنة في أحجار كبريتية، ووجدت وقودها هي المشتهيات من ملاذ الدنيا ونعيمها، ووجدت اشتعال تلك النيران عند الوقود كأنها حريق لا يطفأ، ولهب لا يخمد، أو كأمواج بحر متلاطمة، أو رياح عاصفة تدمر كل شيء، أو كعساكر أعداء حملت في غارة؛ وذلك أني وجدت حرارة شهوات المأكولات والمشروبات في نفسي عند هيجان نار الجوع والظمأ كأنها لهب النيران التي لا تطفأ.
ووجدت نفسي الشهوانية عند الأكل والشرب من الشره؛ كأنها كلاب وقعت على جيف تنهش، ووجدت حرارة الحرص في نفسي عند هيجان نار الطمع كأنها حريق تلهب الدنيا كلها، ووجدت نفسي عند ذلك كأنها وعاء لا يمتلئ من جميع ما في الدنيا من المتاع، ووجدت حرارة الغضب في نفسي الحيوانية عند هيجان نار الحركة كأنها حريق ترمي بشرر كالقصر، ورأيتها عند هيجان حرارة نار الافتخار والمباهاة كأنها خير خليقة الله وأشرفهم، ورأيتها عند هيجان نار حرارة شهوة الرياسة وتملكها لها كأن الناس كلهم عبيد لها وخول، ورأيتها عند هيجان حرارة نار شهوة الكرامة وطلبها لها كأنها دين لازم حال.
ورأيتها عند هيجان نار طلب خدمة خولها كأنها ترى الطاعة لها حتما فريضة كالطاعة لله، وكالحتم والفريضة، ورأيتها عند قضاء ما يجب عليها من حق من حقوق غيرها متوانية في تأديته كأنها ناقلة أجبال، وكأنها عليها أحمال ثقيلة، ورأيت حركتها عند اللهو واللعب كأنها مجنونة والهة سكرانة، ورأيتها عند محبة المدح والثناء عليها كأنها أعقل الناس وأفضلهم وأجلهم، ورأيتها عند هيجان نار الحسد كأنها عدو يريد خراب الدنيا وزوال النعم عن أهلها وحلول النقم بهم، وعلى هذا المثال وجدت ورأيت سائر أخلاقها الرديئة وخصالها المذمومة وأعمالها السيئة وأفعالها القبيحة وآرائها الفاسدة، فعلمت عند ذلك أن هذه كلها نيران لا تخمد، وحريق لا يطفأ، وأعداء لا يتصالحون، وحرب لا تهدأ، وقتال لا يسكن، وداء لا يبرأ، ومرض لا يشفى، وعناء طويل، وشغل لا يفرغ منه إلى الموت.
فشمرت عند ذلك بالعزم الصحيح والنية الصادقة، وشددت وسطي بإزار الحزم، وأخذت سلاح الاجتهاد، وارتديت براءة الورع، ولبست قميص الحياء وتسربلت سربال الجد، ووضعت على رأسي تاج الزهد في الدنيا، وأثبت قدمي على التقوى، وأسندت ظهري إلى الله بالتوكل عليه، وجعلت شعاري الخوف منه والرجاء، وزممت قوى نفسي بالنهي، وفتحت عيني بالنظر إلى إشارة المعلم، وجعلت دليلي حسن الظن بربي، وسلكت منهاج السنة، وقصدت الصراط المستقيم للقاء ربي، وناديته نداء الغريق، ودعوته دعوة المضطر، وأقررت بالعجز والتقصير، وطرحت نفسي بين يديه بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتضرعت إليه مثل الصبي إلى والده الشفيق الرفيق، فلما رآني ربي على تلك الحال سمع ندائي، وأجاب دعائي، ورحم ضعفي، وأعطاني سؤلي، وأمدني بجنوده، ودلني على مكايد أعدائي، فغزوتهم مع ملائكته، وأظفرني بهم، وأعانني عليهم، وحرسني من غرورهم، وأحرزني من خطواتهم، وسلمت من خطر كيدهم، وفزت بالغنيمة سالما غانما، @QUR016 ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وجند الله كانوا هم الغالبين، وحزب الشيطان كانوا هم الخاسرين، وكل هذا @QUR018 من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم.
(17) فصل في حكاية أخرى
عن ولي من أولياء الله تعالى لما تفكر في معنى التكليف والبلوى، ولم يتجه له وجه الحكمة فيهما، قال في مناجاته : رب خلقتني ولم تستأمرني، وتوفيتني ولم تستشرني، وأمرتني ونهيتني ولم تخيرني، وسلطت علي هوى مؤذيا وشيطانا مغويا، وركبت في نفسي شهوات مركوزة، وجعلت في عيني دنيا مزينة، وخوفتني وزجرتني بوعيد وتهديد، وقلت لي: فاستقم كما أمرت، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيلي، واحذر الشيطان لا يغوينك، والدنيا لا تغرنك، وتجنب شهواتك لا تردك، وأمانيك وآمالك أن تلهيك، وأوصيك بأبناء جنسك فدارهم، ومعيشة الدنيا فاطلبها من وجه الحلال.
وأما الآخرة فلا تنسها، ولا تعرض عنها فتخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، فقد حصلت يا رب بين أمور متضادة، وقوى متجاذبة، وأحوال متغالبة، فلا أدري كيف أعمل، ولا أي شيء أصنع، وقد تحيرت في أموري، وضلت عني حيلتي، فأدركني يا رب وخذ بيدي، ودلني على سبيل نجاتي وإلا هلكت.
فأوحى الله سبحانه إليه وألقى في سره وألهمه وقال: يا عبدي ما أمرتك بشيء تعاونني فيه، ولا نهيتك عن شيء كان يضرني إن فعلته، بل إنما أمرتك لتعلم بأن لك ربا وإلها هو خالقك ومصورك ورازقك ومنشيك وحافظك وهاديك وناصرك ومعينك، ولتعلم بأنك محتاج في جميع ما أمرتك به إلى معاونتي وتوفيقي وهدايتي وتيسيري وعنايتي، ولتعلم أيضا بأنك محتاج في جميع ما نهيتك عنه إلى عصمتي وحفظي ورعايتي، وإنك محتاج في جميع متصرفاتك وأحوالك في جميع أوقاتك من أمر دنياك وآخرتك ليلا ونهارا إلى تأييدي لك، وأنه لا يخفى علي من أمرك صغيرة ولا كبيرة سرا وعلانية، وليتبين لك وتعرف أنك محتاج ومفتقر إلي وأنك لا بد لك مني، فعند ذلك لا تعرض عني ولا تنساني، بل تكون في دائم الأوقات في ذكري، وفي جميع أحوالك تدعوني، وفي جميع حوائجك تسألني، وفي جميع متصرفاتك تخاطبني، وفي جميع خلواتك تناجيني وتشاهدني وتراقبني، وتكون منقطعا إلي عن جميع خلقي ومتصلا بي دونهم، وتعلم أني معك حيث ما تكون أراك ولا تراني، فإذا عرفت هذه كلها وتيقنت وبان لك حقيقة ما قلت وصحة ما وصفت، تركت كل شيء وراءك وأقبلت علي وحدك، فعند ذلك أقربك مني وأوصلك إلي وأرفعك عندي وتكون من أوليائي وأصفيائي وأهل جنتي في جواري مع ملائكتي مكرما مفضلا فرحا مسرورا منعما ملتذا آمنا أبدا دائما سرمدا.
فلا تظن بي يا عبدي الظن السوء، ولا تتوهم علي غير الحق، واذكر سالف إنعامي عليك وقديم إحساني إليك وجميل آلائي لديك؛ إذ خلقتك ولم تكن شيئا مذكورا خلقا سويا، وجعلت لك سمعا لطيفا وبصرا حادا وحواس دراكة وقلبا ذكيا وفهما ثاقبا وذهنا صافيا وفكرا لطيفا ولسانا فصيحا وعقلا رصينا وبنية تامة وجنانا ثابتا وصورة حسنة وأعضاء صحيحة وأدوات كاملة وجوارح طائعة.
ثم ألهمتك الكلام والمقال وعرفتك المنافع والمضار وكيفية التصرف في الأحوال والصنائع والأعمال وكشفت الحجب عن بصرك، وفتحت عينيك لتنظر إلى ملكوتي، وترى عجائب فعلي وتقدير مجاري الليل والنهار والأفلاك الدوارة والكواكب السيارة، وعلمتك حساب الأوقات والأزمان والشهور والأعوام، وسخرت لك ما في البر والبحر من المعادن والنبات والحيوان تتصرف فيها تصرف الملاك، وتتحكم عليها تحكم الأرباب، فلما رأيتك متعديا وجائرا ظالما طاغيا باغيا متجاوزا للحدود والمقدار؛ عرفتك الحدود والأحكام والقياس والمقدار والعدل والإنصاف والحق والصواب والخير والمعروف والسيرة العادلة؛ ليدوم لك الفضل والنعم، وينصرف عنك العذاب والنقم، وعرضتك لما هو خير وأفضل وأجل وأشرف وأعز وأكرم وألذ وأنعم، ثم أنت تظن بي ظنون السوء وتتوهم غير الحق.
يا عبدي إذا تعذر عليك فعل شيء مما أمرتك به، فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كما قال حملة العرش لما ثقل عليهم حمله، وإذا أصابتك مصيبة، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، كما يقول صفوتي وأهل ولايتي، وإذا زلت بك القدمان في معصيتي، فقل كما قال صفيي آدم وزوجته: @QUR03 ربنا ظلمنا أنفسنا إلى آخر الآية، وإذا أشكل عليك أمر وأهمك رأي وأردت رشدا وقولا صوابا، فقل كما قال خليلي إبراهيم: @QUR014 الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين إلى آخر الآيات إلى قوله: @QUR06 إلا من أتى الله بقلب سليم، وإذا أصابتك مصيبة أو غم أو حزن، فقل كما قال يعقوب إسرائيل: @QUR012 إنما أشكو بثي وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون وقال: @QUR010 يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن ... الآية، وإذا جرت منك خطيئة، فقل كما قال موسى نجيي: @QUR04 هذا من عمل الشيطان الآية، وإذا صرفت عنك معصية، فقل كما قال يوسف الصديق: @QUR03 وما أبرئ نفسي الآية، وإذا ابتليت بفتنة فافعل كما فعل داود خليفتي: @QUR05 فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب، وإذا رأيت العصاة من خلقي والخاطئين من عبادي ولا تدري ما حكمي فيهم فقل كما قال المسيح روحي: @QUR011 إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإذا استغفرتني وطلبت عفوي فقل كما قال محمد نبيي صلى الله عليه وآله وأنصاره: @QUR018 ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا إلى آخر السورة، وإذا خفت من عواقب الأمور ولا تدري بماذا يختم لك، فقل كما قال أصفيائي: @QUR015 ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
(18) فصل في فضل التوبة والاستغفار والدعاء
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الله - عز وجل - لم يذكر ذنوب أنبيائه وخطاياهم في القرآن شنعة عليهم ولا تقبيحا لآثارهم ولا لسوء الثناء عليهم، ولكن ليكون للباقين قدوة بهم في التوبة والندامة والرجوع عن الذنوب والاستغفار لله - عز وجل - والإنابة إليه، كما أمر الله بقوله: @QUR06 توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون، وقال الله تعالى: @QUR06 إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين؛ يعني: الذين لم يذنبوا، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: @QUR05 قل يا عبادي الذين أسرفوا الآية، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لولا أن بني آدم إذا أذنبوا تابوا واستغفروا فيغفر الله لهم لخلق الله خلقا يذنبون فيتوبون ويستغفرون فيغفر لهم.» وإنما ذكرنا هذه الحكايات؛ لكي ما تتفكر فيها وتعتبر، وما ذكر الله من أخبار رسوله وقصص أوليائه . فلا تيأس من روح الله، ولا تقنط من رحمته إذا سمعت قول الذين لا يعلمون، وذلك أن قوما من أهل الحشوية والجدل يتعصبون في الورع من غير حقيقة، ولا معرفة بأحكام الدين، فيكفرون المؤمنين بالذنوب، ويفسقونهم ويحكمون لهم بالخلود في النار بغير علم ولا بيان، بل بقياسات لفقوها لهم، وسولوها بعقولهم الناقصة، وحكموا بها بزعمهم فلا جرم أنهم انقطعوا عن الله، ويئسوا من روحه، وقنطوا من رحمته.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لكل طائفة من المؤمنين وجماعة من المتدينين صناعة ينفردون بها عن غيرهم أو حرفة يمتازون بها عمن سواهم، وأن من صنعة أولياء الله وعباده الصالحين الدعاء إلى الله بالتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة على بصيرة ومعرفة ويقين وحقيقة - كما ذكر الله تعالى وأخبر عنهم واحدا واحدا.
من ذلك حكاية عن رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه قوله: @QUR011 أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم إلى قوله: @QUR010 فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب، ومن ذلك قوله: @QUR04 يا ليت قومي يعلمون الآية، وقوله حكاية عن نفر من الجن قولهم: @QUR09 يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم إلى آخر الآية، ومن ذلك قوله: @QUR04 إنهم فتية آمنوا بربهم الآية.
ومن ذلك قوله حكاية عن أحد الأخوين في الدنيا: @QUR011 أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا إلى قوله: @QUR04 فلن تستطيع له طلبا وقوله حكاية عن أخ مؤمن في الآخرة قوله لأهل الجنة: @QUR09 إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين إلى آخر الآية، ومن ذلك قوله حكاية عن لقمان: @QUR021 يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله الآية.
ومن ذلك قوله حكاية عن السحرة قولهم لفرعون: @QUR05 إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إلى آخر الآيات، ومن ذلك قوله حكاية عن العلماء المستبصرين في أمر الآخرة؛ إذ قالوا لقومهم المريدين الحياة الدنيا : @QUR022 يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن إلى آخر الآية، ومن ذلك قول أصحاب طالوت: وقال الذين لا يعلمون لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، ومن ذلك قول أتباع المسيح: إذ قال المسيح من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله، وقول أتباعه أيضا لما سمعوا القرآن: @QUR09 وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق الآية، ومن ذلك قول المؤمنين العارفين المستبصرين: @QUR015 ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وآيات كثيرة في القرآن في صفات المؤمنين وعلامات أولياء الله وكلام عباد الله الصالحين.
فهذه الكلمات والأقاويل وأمثالها من كلام أولياء الله وعباده الصالحين المستبصرين؛ تدل على أنهم يعرفون حقيقة المعاد وحقيقة أمر الآخرة، وهؤلاء العلماء بأسرار النبوات والمتخرجون بالرياضات الفلسفية، وهم ورثة الأنبياء، وصناعتهم الدعاء إلى الله وإلى الدار الآخرة التي هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، يعني أبناء الدنيا.
ومن صناعتهم أيضا التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة بضروب الأمثال والوصف البليغ، والمواعظ الحسنة والحكمة البالغة والتذكار والبشارة والإنذار بمعرفة واستبصار ويقين ودراية بلا شك ولا ريبة، وقال الله تعالى في مدحهم: @QUR013 ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين.
ومن علامات أولياء الله أيضا وصفات عباده الصالحين أنهم لا يذكرون في مجالسهم وخلواتهم أحدا إلا الله ولا يتفكرون إلا في مصنوعاته ولا ينظرون إلا إلى فنون إحسانه وعظيم إنعامه وجميل آلائه، ولا يعلمون إلا لله، ولا يخدمون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، ولا يرجون إلا منه، ولا يسألون إلا هو، ولا يخافون غيره، وهم من خشيته مشفقون؛ كل ذلك لصحة آرائهم وتحقق اعتقادهم في ربهم وشدة استبصارهم أنه لا يقدر على ذلك بالحقيقة إلا الله تعالى، وهذا الاعتقاد الحق والرأي الصحيح الجميل ، ينتج لهم من صحة معرفتهم بربهم وتيقن علمهم به؛ وذلك أنهم يرونه رؤية الحق في جميع متصرفاتهم، ويشاهدونه في كل حالاتهم، لا يسمعون إلا منه، ولا ينظرون إلا إليه، ولا يرون غيره على الحقيقة، فمن أجل ذلك انقطعوا إليه عن الخلق، واشتغلوا بالخالق عن المخلوق، وبالرب عن المربوب، وبالصانع عن المصنوع، وبالمسبب عن السبب، وتساوت عندهم الأماكن والأزمان، وانمحقت الأغيار عند رؤيتهم حقيقته، فتركوا الشك وأخذوا باليقين، وباعوا الدنيا بالدين، وربحوا السلامة من التعب والعناء، وعاشوا في الدنيا آمنين، ورحلوا عنها سالمين، ووصلوا إلى الآخرة غانمين؛ لأنهم كانوا في الدنيا محسنين، وما على المحسنين من سبيل.
وقد ذكر الله تعالى نعت هؤلاء القوم في القرآن في آيات كثيرة وأثنى عليهم ومدحهم، ووردت عن النبي - عليه السلام - أخبار كثيرة في نعتهم وصفتهم ومدحهم وحسن الثناء عليهم، ومن ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزال في هذه الأمة أربعون رجلا من الصالحين على ملة إبراهيم الخليل - عليه السلام - فقيل: يا رسول الله: خبرنا عن ملة إبراهيم عند ربه، فقال: إنه كان حنيفا مسلما سليم القلب، وذلك أنه لما هم به قومه يقذفونه في النار بكت الملائكة في السماء رحمة له، فأوحى الله سبحانه إلى جبرائيل أن الحقه وأعنه إن استعان بك، فجاء جبرائيل - عليه السلام - وهو في المنجنيق ليرمى به في النار، فقال له: يا إبراهيم هل لك من حاجة؟ فلشدة تعلق قلبه بربه وتوكله عليه وثقته بوعده ويقينه بتخليصه إياه واستغنائه عمن سواه، قال: أما إليك فلا، فعند ذلك قال الله تعالى: @QUR07 يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، ويقال: إن من هؤلاء الأربعين رجلا أربعة منهم الأبدال، وإنما سموا الأبدال؛ لأنهم بدلوا خلقا بعد خلق، وصفوا تصفية بعد تصفية.
وذلك أن هؤلاء الأربعين منتقون من جملة أربعمائة من الزاهدين العارفين المحققين، وهؤلاء الأربعمائة منتقون من أربعة آلاف من المؤمنين التائبين المخلصين، وكلما مضى شخص من الأربعة قام في رتبته شخص من الأربعين، وإذا مضى شخص من الأربعين قام في رتبته شخص من الأربعمائة، وإذا مضى شخص من الأربعمائة ارتقى إلى منزلته شخص من الأربعة الآلاف، فبلغ مرتبته وقام مقامه، وكلما مضى شخص من الأربعة الآلاف ارتقى مكانه بدلا منه واحد من المؤمنين التائبين المخلصين، فبلغ درجته وقام مقامه.
وإليهم أشار أمير المؤمنين علي - عليه السلام - بقوله لكميل بن زياد: أولئك الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح حقيقة اليقين إلى آخر كلامه، وفيهم يقول: صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى.
وإليهم أشار موسى - عليه السلام - بقوله في مناجاته: يا رب إني أجد في التوراة نعت رجال كادوا يكونون أنبياء من قوة التمييز والمعرفة والصلاح، من هم يا رب؟ اجعلهم من أمتي، فأوحى الله تعالى إليه وقال الله: تلك أمة أحمد، وإليهم أشار بقوله تعالى: @QUR017 ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
واعلم يا أخي بأن هؤلاء القوم الذين تقدم ذكرهم هم ورثة أنبياء الله وخلفاء رسله في الأرض، وأن الذي ورثوه منهم إنما هو العلم والإيمان والتعبد وقبول التأييد والإلهام والزهادة في الدنيا وترك طلبها والرغبة في الآخرة والاشتياق إليها، وذلك أنهم متشبهون بالملائكة في أفعالهم وأخلاقهم وسيرتهم من تركهم الشهوات الجسمانية، وإعراضهم عن اللذات الحسية المركوزة في الطبيعة، بالامتناع عنها بعد المقدرة عليها مع شدة مجاذبة الطبيعة لهم إليها.
وهم يتركونها باجتهاد منهم وعناية شديدة بعد الفكر والروية، ويختارون الشدة على الرخاء، والتعب على الراحة، ومخالفة الهوى وحمل ثقل التعبد على النفس؛ وكل ذلك لمرضاة الله والاقتداء بأنبيائه ورسله في سنة الدين، فلا جرم أنهم ملائكة بالقوة، فإذا فارقت نفوسهم أجسادهم كانت ملائكة بالفعل، فهذا الذي كان الغرض من رباط النفس بالجسد أن تصير النفس الناطقة ملكا من الملائكة بالفعل بعدما كانت بالقوة.
واعلم يا أخي بأنه لو لم يكن في قوة النفس الناطقة أن تصير ملكا بالفعل لما جاءت الوصية من الله تعالى لها بأمرها بالتشبه بالملائكة في أفعالها وأخلاقها وسيرتها، ولا كانت موعودة بملاقاتها ومخاطبتها مثل قوله - جل ثناؤه: @QUR012 تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون يعني: المؤمنين عند قبض أرواحهم، مثل قوله تعالى: @QUR012 الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، ومثله قوله تعالى: @QUR014 والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى يطول تعدادها.
واعلم يا أخي أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الصالحين هم الذين سماهم الله تعالى أولي الألباب وأولي النهى وأولي الأبصار وهم أولياء الله وأحباؤه، وإليهم أشار بقوله تعالى لإبليس: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وهم المفلحون وهم الفائزون، وإليهم أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لأبي هريرة بقوله: عليك يا أبا هريرة بطريق أقوام إذا فزع الناس لم يفزعوا، وإذ طلب الناس الأمان من النار لم يخافوا، قال: من هم يا رسول الله؟ عدهم لي وصفهم حتى أعرفهم، قال: قوم من أمتي في آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الأنبياء، إذا نظر إليهم الخلائق ظنوهم أنبياء مما يرون من حالهم؛ حتى أعرفهم أنا بسيماهم فأقول: أمتي أمتي؛ ليعرف الخلائق أنهم ليسوا بأنبياء، ويمرون مثل البرق والريح يغشى أبصار الجميع نورهم، قلت: يا رسول الله مرني بمثل عملهم لعلي ألحق هم، قال: يا أبا هريرة إن القوم ارتكبوا طريقا صعبا لحقوا بدرجة الأنبياء، آثروا الجوع بعدما أشبعهم الله، والعطش بعدما أرواهم الله، والعري بعدما كساهم الله، تركوا ذلك رجاء ما عند الله، تركوا الحلال مخافة حسابه، صحبوا الدنيا بأبدانهم من غير أن تعلق بشيء منها قلوبهم، تعجب الأنبياء والملائكة من طاعتهم لربهم، فطوبى لهم، وددت أن الله جمع بيني وبينهم، ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إلى رؤيتهم، ثم قال: إذا أراد الله سبحانه بأهل الأرض عذابا، فنظر إليهم إن كان واحد منهم صرف العذاب عنهم، فعليك يا أبا هريرة بطريقتهم، فمن خالف طريقتهم وقع في شدة الحساب.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى لإخواني، قيل: يا رسول الله، أولسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، وأولئك إخواني، قيل: من هم إخوانك يا رسول الله - صلى الله عليك؟ قال: قوم يكونون في آخر الزمان يؤمنون بي ولم يروني، يصدقونني ويتبعونني، هم إخواني وأنتم أصحابي طوبى لهم، وإليهم أشار بقوله في وصيته لأسامة بن زيد: عليك بطريق الجنة، وإياك أن تختلج بدونها، قال: يا رسول الله، ما أيسر ما يقطع به تلك الطريق؟ قال: الظمأ في الهواجر، وكسر النفوس عن لذة الدنيا، يا أسامة، عليك بالصوم؛ فإنه يقرب إلى الله، إنه ليس شيء أحب إلى الله من ريح فم الصائم وترك الطعام والشراب لله تعالى، فإنك إن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فافعل، فإنك تدرك بذلك أشرف المنازل في الآخرة وتحل مع النبيين - عليهم السلام - وتفرح الأنبياء والملائكة بقدوم روحك عليهم، ويصلي عليك أهل الجنان.
إياك يا أسامة ودعاء كل كبد جائع قد أذابوا اللحوم، وأحرقوا الجلود في الرياح والسمائم، وأظمئوا الأكباد حتى غشيت أبصارهم، فإن الله سبحانه إذا نظر إليهم باهى كرام الملائكة بهم، بهم يصرف الله الزلازل والفتن حيث كانوا.
ثم بكى رسول الله شوقا إلى رؤيتهم حتى اشتد بكاؤه وعلا نحيبه وهاب الناس أن يتكلموا حتى ظنوا أنه أمر حدث من السماء، ثم قال: ويح لهذه الأمة ما يلقى منهم من أطاع الله فيهم، كيف يقتلونهم ويكذبونهم من أجل أنهم أطاعوا الله، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله والناس يومئذ على الإسلام؟ قال: نعم، قال: فيم يقتلون من أطاع الله؟ قال: يا عمر ترك القوم الطريق وركبوا فره الدواب، ولبسوا الحرير والديباج واللين من الثياب، وأكلوا الطيبات وشربوا بارد الشراب، وجلسوا على أرائكهم متكئين، وخدمهم أبناء فارس والروم، يتزين الرجل منهم زينة المرأة لزوجها، ويتبرج النساء بزي كسرى بن هرمز والملوك الجبابرة، ويسمنون أبدانهم، ويتباهون بالكساء واللباس، فإذا نظروا أولياء الله وعليهم العباء منحنية أصلاهم، قد ذبحوا أنفسهم من شدة العطش، وإن تكلم منهم متكلم كذب وأبعد وطرد، وقيل: قرين الشيطان ورأس ضلالة، يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، فأولوا كتاب الله بغير تأويله، واستذلوا أولياء الله وأخافوهم.
يا أسامة، إن أقرب الناس إلى الله يوم القيامة من طال حزنه وجوعه وعطشه في الدنيا، هم الأخيار الأبرار الذين إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، يعرفهم أهل السماء، ويخفون على أهل الأرض، تشتاق إليهم البقاع، وتحف بهم الملائكة، ينعم الناس بالدنيا، وينعمون بالجوع والعطش، لبس الناس لين الثياب، ولبسوا الخشن، افترش الناس الوطاء، وافترشوا هم الجباه والركب، ضحك الناس وبكوا هم.
يا أسامة ألا لهم الشرف الأعلى يوم القيامة، وددت أني رأيتهم، وبقاع الأرض لهم رحيبة، والجبار عنهم راض، والراغب إلى الله من رغب فيما رغبوا، والخاسر من خالفهم، تبكي الأرض إذا فقدتهم، ويسخط الجبار على بلد ليس فيه منهم أحد.
يا أسامة إذا رأيت أحدهم في قرية فاعلم أنه أمان لأهلها، لا يعذب الله قوما فيهم منهم أحد، اتخذهم يا أسامة لنفسك أصحابا، عساك تنجو معهم، وإياك أن تسلك غير طريقهم فتزل قدمك فتهوي في النار.
يا أسامة ترك القوم الحلال من الطعام والشراب، طلبوا الفضل في الآخرة، ولم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف، أكلوا العلق ولبسوا الخلق، تراهم شعثا غبرا إذا رآهم الناس ظنوا أن بهم داء وما بهم داء، وظنوا أنهم خولطوا وما خولطوا، ولكن خالط القوم أمر عظيم، ظن الناس أن قد ذهبت عقولهم وما ذهبت، ولكن نظروا بقلوبهم إلى أمر إلهي، فهم في الدنيا عند أهلها يمشون بلا عقول.
يا أسامة عقلوا حين ذهبت عقول الناس، طوبى لهم وحسن مآب، ألا لهم الشرف الأعظم.
ويحكى عن بعضهم أنه كان يسمع في خلواته وهو يقول: يا رب ويحي، كيف أغفل ولست بمغفول عني، أم كيف يهنئني العيش، واليوم الثقيل أمامي، أم كيف لا يطول حزني، ولا أدري ما يكون من ذنبي، أم كيف أؤخر عملي، ولا أدري متى يأتي أجلي، أم كيف أسكن إلى الدنيا وليست بداري أم كيف أجمعها وفي غيرها مقامي ومأواي، أم كيف تعظم رغبتي فيها والقليل منها يكفيني، أم كيف آمن فيها وأنا لا يدوم فيها حالي، أم كيف يشتد حرصي عليها ولا ينفعني منها ما أخلفه لغيري، أم كيف أؤثرها، وقد طردت من آثرها قبلي، أم كيف لا أبادر بعملي من قبل أن يتصرم منها مدتي، أم كيف لا أعمل في فكاك نفسي، قبل أن يغلق ذهني، أم كيف يشتد عجبي بها وهي مفارقة لي ومنقطعة عني.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: @QUR09 إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى، قال: كان فيها مكتوبا عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يعمل السيئات، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب بدنه، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالجنة كيف لا يعمل الحسنات، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ويروى عن أبي ذر - رحمة الله عليه - أنه قال: قلت لرسول الله أوصني، قال: عليك بتقوى الله، فإنه رأس أمرك، فقلت: زدني يا رسول الله، قال: عليك بذكر الله، فإنه رأس كل خير، وقراءة القرآن فإنه نور لك في السماء وذكر لك في الأرض، قلت: زدني، قال: عليك بالجهاد فإنه رهبانية هذه الأمة، قلت: زدني، قال: انظر إلى من دونك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، قلت: زدني، قال: أقل الكلام إلا من ذكر الله؛ فإنك بذلك تغلب الشيطان، قلت: زدني، قال: أحب المساكين وجالسهم، قلت: زدني، قال: كن في الدنيا كأنك غريب وعد نفسك في الموتى، قلت: زدني، قال: قل الحق ولو كان مرا، قلت: زدني، قال: لا يأخذك في الله لومة لائم، قلت: زدني، قال: ارض من الدنيا بكسرة تقيم بها جسدك وخرقة تواري بها عورتك وظل تسكن فيه، قلت: زدني، قال: اكظم الغيظ، وأحسن إلى من أساء إليك، قلت: زدني، قال: إياك وحب الدنيا فإنه رأس الخطايا، إن الدنيا تهلك صاحبها، وصاحب الدنيا لا يهلكها، قلت: زدني، قال: انصح للناس كما تنصح لنفسك، ولا تعب عليهم بما فيك مثله، يا أبا ذر إنه لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن أشفق من النار سلا عن الشهوات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ويقال: إن الزهد في الدنيا مفتاح كل خير، والرغبة فيها مفتاح كل شر وخطيئة، وقيل في الحكمة: الدنيا قنطرة فاعبروها إلى الآخرة، ولا تعمروها، إنكم خلقتم للآخرة لا للدنيا، وإنما الدنيا دار العمل والآخرة دار الجزاء، وهي دار القرار ودار المقام ودار النعيم ودار الخلود.
(19) فصل في حسن التكليف
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الله تعالى كلم موسى بن عمران وناجاه باثني عشر ألف كلمة، يقول له في عقب كل كلمة: يا موسى ادن مني واعرف قدري، فأنا الله يا موسى، أتدري لم كلمتك من بين خلقي، واصطفيتك لرسالتي من بين بني إسرائيل؟ قال موسى: فمن علي يا رب، قال: لأني أطلعت على أسرار عبادي، فلم أر قلبا أصفى لمودتي من قلبك، قال موسى - عليه السلام: لم خلقتني يا رب بعد أن لم أكن شيئا؟ قال: أردت بك خيرا، قال: رب من علي، قال: أسكنك جنتي، وأدخلك دار كرامتي مع ملائكتي، فتخلد هناك منعما، ملتذا مسرورا.
قال فما الذي ينبغي لي أن أعمل؟ قال: لا يزل لسانك رطبا من ذكري، وقلبك وجلا من خشيتي، وبدنك مشغولا بخدمتي، ولا تأمن مكري إلى أن ترى رجلك في الجنة، قال: يا رب لم ابتليتني بفرعون؟ قال: إنما اصطنعتك على أن أخاطب بلسانك بني إسرائيل، فأسمعهم كلامي، وأعلمهم شريعة التوراة وسنة الدين وأدلهم على الآخرة، ومن اتبعك منهم ومن غيرهم كائنا من كان، يا موسى بلغ بني إسرائيل أني لما خلقت السماوات والأرض جعلت لهما أهلا وسكانا، فأهل سماواتي هم ملائكتي وخالص عبادي الذين لا يعصونني ويفعلون ما يؤمرون، يا موسى قل لبني إسرائيل وبلغهم عني أنه من قبل وصيتي ووفى بعهدي، ولم يعصني رقيته إلى رتبة ملائكتي، وأدخلته جنتي وجازيته بأحسن الذي كانوا يعملون.
يا موسى قل لبني إسرائيل وأبلغهم عني أني لما خلقت الجن والإنس والحيوانات أجمع، ألهمتهم مصالح الحياة الدنيا، وعرفتهم كيفية التصرف فيها لطلب منافعها والهرب من المضار منها؛ كل ذلك بما جعلت لهم من السمع والبصر والفؤاد والتمييز والشعور أجمع، وهكذا ألهمت أنبيائي ورسلي والخواص من عبادي وعرفتهم أمر المبدأ والمعاد والنشأة الآخرة، وبينت لهم الطريق وكيفية الوصول إليها.
يا موسى قل لبني إسرائيل يقبلون من أنبيائي وصيتي، ويعملون بها، واضمن لهم عني أني أكفيهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدنيا والآخرة جميعا، ومن وفى بعهدي وفيت بعهده، كائنا من كان من بني آدم وألحقتهم بأنبيائي وملائكتي في الآخرة دار القرار، قال موسى: يا رب لو خلقتنا في الجنة وكفيتنا محن الدنيا ومصائبها وبلاءها، أليس كان خيرا لنا؟ قال: يا موسى قد فعلت بأبيكم آدم ما ذكرت، ولكن لم يعرف حقي وقدر نعمتي، ولم يحفظ وصيتي، ولم يوف بعهدي بل عصاني فأخرجته منها، فلما تاب وأناب وعدته أن أرده إليها وآليت على نفسي أن لا يدخلها أحد من ذريته إلا من قبل وصيتي وأوفى بعهدي، ولا ينال عهدي الظالمين، ولا يدخل جنتي المتكبرون؛ لأني جعلتها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
يا موسى ادع لعبادي وذكرهم آلائي؛ فإنهم لا يذكرون مني إلا كل خير سالفا وخالفا، عاجلا وآجلا، يا موسى ويل لمن تفوته جنتي، ويا حسرة عليه وندامة حين لا ينفعانه.
يا موسى خلقت الجنة يوم خلقت السماوات، وزينتها بألوان المحاسن، وجعلت نعيم أهلها وسرورها روحا وريحانا، فلو نظر أهل الدنيا إليها نظرة من بعيد لما تهنوا بالحياة في الدنيا بعدها.
يا موسى هي مدخرة لأوليائي والصالحين من عبادي تحيتهم يوم يلقونه سلام وطوبى لهم وحسن مآب.
قال موسى: يا رب قد شوقتني إليها ، فأرني يا رب لأنظر إليها، قال: يا موسى، لا يهنئك العيش في الدنيا بعد النظر إليها؛ لأنك من أبناء الدنيا إلى وقت معلوم، فإذا فارق الروح الجسد رأيتها، ووصلت إليها ودخلتها، وتكون فيها ما دامت السماوات والأرض، فلا تعجل يا موسى، واعمل كما أمرت، وبشر بني إسرائيل بالذي بشرتك به، وادعهم إليها، ورغبهم فيها، وزهدهم في الدنيا.
فصل
واعلم يا أخي بأن الرغبة في الدنيا مع طلب الآخرة لا يجتمعان، فمن زهد في الآخرة رغب في الدنيا ومن رغب في الآخرة زهد في الدنيا، وقال المسيح - عليه السلام - في بعض مواعظه لبني إسرائيل: اعلموا أن مثل دنياكم مع الآخرة كمثل مشرقكم ومغربكم، كلما أقبلتم إلى الغرب ازددتم من المشرق بعدا، وكلما أقبلتم إلى المشرق ازددتم من المغرب بعدا.
وقيل في بعض كتب بني إسرائيل: رغبناكم في الآخرة فلم ترغبوا، وزهدناكم في الدنيا فلم تزهدوا، وخوفناكم من النار فلم تخافوا، وشوقناكم إلى الجنة فلم تشتاقوا، ووبخناكم فلم تبكوا، بشر القائلين بأن لله سيفا لا ينام، وهو نار جهنم.
ويقول الله تعالى: يا ابن آدم خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، أتحبب إليك بالغنى، وأنت تتبغض إلي بالمعاصي، لا يزال يأتيني كل يوم ملك كريم بقبيح أفعالك، يا ابن آدم، أما تراقبني؟ أما تعلم أنك بعيني؟ يا ابن آدم، اذكرني عند خلواتك وعند حضور الشهوات الحرام، واسألني أن أنزعها من قلبك وأعصمك عن معصيتي وأبغضها إليك وأيسر لك طاعتي وأحببها إليك وأزينها في عينيك، يا ابن آدم، إنما أمرتك ونهيتك؛ لتستعين بي وتعتصم بحبلي؛ لئلا تستغني وتتولى عني، فأعرض عنك، وأنا الغني عنك وأنت الفقير إلي، إنما خلقتك في الدنيا وسخرتها لك لتستعد للقائي وتتزود منها للقدوم علي؛ لئلا تعرض عني وتخلد إلى الأرض، واعلم يا ابن آدم بأن الدار الآخرة خير لك من الدنيا، فلا تختر غير ما اخترت لك ولا تكره لقائي، فإنه من كره لقائي كرهت لقاءه، ومن أحب لقائي أحببت لقاءه.
(20) فصل في عظات مختلفة
تأمل يا أخي ، أيدك الله وإيانا بروح منه، ما ترى من الأمور الدنيوية واعتبر بما تشاهد فيها من تصاريفها بأهلها حالا بعد حال، وتفكر فيما ذكرنا في هذه الرسالة من هذه الحكايات عن أنبياء الله وأوليائه وعباده الصالحين، وما وصفنا من أخلاقهم الحسنة وسيرتهم العادلة وأفعالهم الجميلة، فاجتهد أن تقتدي بهم وتسلك طريقهم، واستعن بالله واسأله التوفيق، وانظر إن استوى لك أن تكون في أعلى المراتب، فلا ترض لنفسك بأدونها، واحذر مخالفتهم وترك الاقتداء بهم، فإنهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى والدعاة والهداة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم حجج الله على خلقه وصفوته من عباده، فالمفلح من اتبعهم، والخاسر من خالف طريقهم، هم صفوة الله وخيرته من خلقه.
واعلم يا أخي بأنه ليس بين الله - عز وجل - وبين أحد من خلقه من قرابة، وأن أكرم عباده عنده أتقاهم، وأحبهم إليه أطوعهم له، وأكثرهم له ذكرا، وأكيسهم في الأمور وأشدهم اجتهادا وأشدهم استعدادا للرحلة من الدنيا إلى الآخرة وأكثرهم زادا للمعاد.
واعلم أن أخفهم مؤنة في الدنيا وأروحهم قلبا من زهد فيها، فبادر يا أخي وتزود من الدنيا لطريق الآخرة، فإن خير الزاد التقوى، فسارع إلى الخيرات، ونافس في الدرجات قبل فناء العمر ونفاد الأجل وقرب الفوت.
واعلم يا أخي بأن خير مناقب الإنسان العقل، وأفضل خصاله العلم، ولكل شيء خاصية، وخاصية العقل صحة التمييز ومعرفة الحقائق والسيرة العادلة وحسن الاختيار، فانظر الآن إن كنت عاقلا، واختر من الأمور أفضلها ومن الأخلاق أجملها ومن الأعمال خيرها ومن المراتب أشرفها ومن المنافع أعمها وأدومها.
واعلم يا أخي بأن الآخرة أفضل من الدنيا، وأهلها أفضل من أهل الدنيا، وأخلاقهم أكرم من أخلاقهم، وسيرتهم أعدل من سيرهم، ومراتبهم أشرف ونعيمهم أدوم وسرورهم أبقى، ولذاتهم أخلص، فانظر الآن على ما يقع اختيارك وكيف يكون ولأيهما تعمل؟ ولا يكن إيثارك - إن كنت عاقلا - إلا للآخرة؛ فقد تبين لك الرشد من الغي، وعرفت الضلالة من الهدى، وميزت الصواب من الخطأ، وعلمت الحق من الباطل، وانزاحت العلة، وقد أعذر من أنذر ، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة؛ ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
فانظر الآن يا أخي إن كان لم يتبين لك بعد ما قد شرحناه من هذه الأوصاف، ولم ينبهك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ما خولناك، ولم يشفك ما ذكرناه ولم ينفعك ما وصفناه، فأبيت إلا التغمد والغمرة في طغيان أبناء الدنيا المغرورين بها، الغافلين عن الآخرة الجاهلين لها، بأن تقول: لا بد لي من الاقتداء بهم ومداخلتهم فيما هم فيه من الغرور ومزاحمتهم على ما هم مزدحمون عليه، ورضيت لنفسك بالتشبه بهم في سوء أخلاقهم، وتراكم جهالاتهم وفساد آرائهم وسوء أعمالهم وقبيح أفعالهم وسيرتهم الجائرة وأمورهم المسيئة وأحوالهم المتغايرة وتصاريفهم المختلفة وأسبابهم المتضادة، من عداوة بعضهم بعضا وحسد بعضهم بعضا وبغي بعضهم على بعض، وتكبرهم وتكاثرهم وتفاخرهم فيما هم فيه من أمور هذه الدنيا الدنية والاغترار بها، وما يتكلفونه بينهم من زخرف القول غرورا، ويتمكنون به من الكلام خداعا وقلوبهم مملوءة غشا وغلا وحسدا وكبرا وحرصا وطمعا وبغضا وعداوة ومكرا وحيلا، مثل قوم دينهم التعصب واعتقادهم النفاق وأعمالهم الرياء، واختيارهم شهوات الدنيا، يتمنون الخلود فيها مع علمهم بأنه لا سبيل إليه، يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤملون ما لا يدركون، ويكسبون من الحرام، وينفقون في المعاصي، ويمنعون من المعروف، ويركبون كل منكر سكارى متمردون في طغيانهم يعمهون، لا يسمعون النداء، ولا يبصرون الهدى، ولا ينجع فيهم الوعظ ولا الذكر ولا الأمر ولا النهي ولا الوعد ولا الوعيد ولا الترغيب ولا الترهيب ولا الزجر ولا التهديد، بل تراهم في غيهم يترددون، وفي طغيانهم يعمهون، مولون مدبرون عن الآخرة معرضون، على الدنيا يتكالبون تكالب الكلاب على الجيفة، منهمكين في الشهوات، تاركين للصلوات، لا يسمعون الموعظة، ولا تنفعهم التذكرة، فلا جرم أنهم يمهلون قليلا ويمتعون يسيرا، ثم تجيئهم سكرة الموت بالحق، إن شاءوا أو أبوا، فيفارقون محبوباتهم على رغم منهم، ويتركون ما جمعوا لغيرهم ، يتمتع بمال أحدهم حليل زوجه وامرأة ابنه وبعل ابنته وصاحب ميراثه، لهم المهنأة وعليه الوبال ثقيل ظهره بأوزاره، معذب النفس بما كسبت يداه، يا حسرة عليهم قامت القيامة على أهلها، وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهداك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة الأخلاق والحمد لله والصلاة على رسوله مستنبط ينابيع الحكمة بصفاء جوهره، والمقارع به أنوف الجاحدين لأوله ومصدره، والمفصح عن غرائبه وعلى آله وسلم، حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.)
الرسالة العاشرة في إيساغوجي
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما كان الإنسان أفضل الموجودات التي تحت فلك القمر، وكان من فضيلته العلوم والصنائع، وكان النطق من أفضل الصنائع البشرية؛ أردنا أن نبين ماهية النطق وكميته وكيفيته؛ إذ كان به ينفصل الإنسان عن سائر الحيوانات، كما يقال في حده: إنه حي مناطق مائت؛ لأن سائر الحيوانات كلها أحياء مائتون غير ناطقين، وأيضا فإن النطق من سائر الصنائع البشرية إلى الروحانية ما هو أقرب، وذلك أن سائر الصنائع الموضوع فيها الأجسام الطبيعية موضوعاتها كلها جواهر جسمانية - كما بينا في رسالة الصنائع.
فأما النطق فإن الموضوع فيه جواهر النفس الجزئية الحية وتأثيراته فيها روحانية؛ مثل الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والمديح والهجاء، والدليل على ذلك ما يتبين لنا من تأثيرات الكلام في النفوس؛ مثل ما يرى من تأثيرات الأجسام بعضها في بعض.
وذلك أن تأثيرات الأجسام بعضها في بعض نوعان: مفسد ومصلح، فالمصلح مثل الطعام والشراب المصلحين لأجساد الحيوانات، ومثل العقاقير والأدوية المصلحة لأجساد المرضى، والمفسد مثل النار المهلكة لأجساد الحيوانات وأجساد النبات، ومثل الضرب بالسيف والسكين وما شاكله من الأجساد المفسدة المهلكة لأجسام الحيوانات، فكذا حكم الكلام والأقاويل في النفوس نوعان: مصلح ومفسد، فالمصلح كالمديح والثناء الجميل الباعثين للنفوس على مكارم الأخلاق، ومثل المواعظ والمواعيد الزاجرين للنفوس عن الأفعال القبيحة وعن مساوئ الأخلاق، والمفسد من الكلام للنفوس كالشتيمة والتهديد والقبيح من الأقاويل الجالبة إلى النفوس العداوة والبغضاء، كما يقال: رب كلمة جلبت فتنة وحروبا، كما قيل في المثل: إن سبب العداوة بين الغربان والبوم كلمة تكلم بها الغراب يوم اجتماع الطير على تمليك البوم، ورب كلمة أطفأت نيران الحروب - كما قيل في قصيدة:
لفظ يثبت في النفوس مهابة
يكفي كفاية قائد القواد لا تبلغ الأسياف باستهلاكها
ما تبلغ الأقلام بالإيعاد
ومن فضيلة النطق أيضا أنه كاد أن يكون مطابقا للموجودات كلها كمطابقة العدد للمعدودات، والدليل على ذلك كثرة اللغات واختلاف الأقاويل وفنون تصاريف الكلام، مما لا يبلغ أحد كنه معرفتها إلا الله - عز وجل - فنريد أن نذكر من ذلك طرفا شبه المدخل ليقرب على المتعلمين، وليسهل على الناظرين في علم المنطق فهم معانيها.
(1) فصل في اشتقاق المنطق وانقسام النطق إلى قسمين
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن المنطق مشتق من نطق ينطق نطقا، والنطق فعل من أفعال النفس الإنسانية، وهذا الفعل نوعان: فكري ولفظي، فالنطق اللفظي هو أمر جسماني محسوس، والنطق الفكري أمر روحاني معقول، وذلك أن النطق اللفظي إنما هو أصوات مسموعة لها هجاء وهي تظهر من اللسان الذي هو عضو من الجسد، وتمر إلى المسامع من الآذان التي هي أعضاء من أجساد أخر، وأن النظر في هذا المنطق والبحث عنه والكلام على كيفية تصاريفه وما يدل عليه من المعاني يسمى علم المنطق اللغوي، وأما النطق الفكري الذي هو أمر روحاني معقول، فهو تصور النفس معاني الأشياء في ذاتها، ورؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها، وتمييزها لها في فكرها، وبهذا النطق يحد الإنسان، فيقال: إنه حي ناطق مائت، فنطق الإنسان وحياته من قبل النفس، وموته من قبل الجسد؛ لأن اسم الإنسان إنما هو واقع على النفس والجسد جميعا.
واعلم أن النظر في هذا النطق والبحث عنه ومعرفة كيفية إدراك النفس معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواس، وكيفية انقداح المعاني في فكرها من جهة العقل الذي يسمى الوحي والإلهام، وعبارتها عنها بألفاظ بأي لغة كانت، يسمى علم المنطق الفلسفي.
ولما كان النطق اللفظي أمرا جسمانيا ظاهرا جليا محسوسا وضع بين الناس لكي ما يعبر به كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس السائلين عنه والمخاطبين له؛ احتجنا إلى أن نذكر من هذا المنطق طرفا شبه المدخل ليقرب على المتعلمين فهم علم المنطق الفلسفي، ويسهل تأمله على الناظرين، فنقول أيضا: إنه لما كان النطق اللفظي هو ألفاظ مؤلفة من الحروف المعجمة؛ احتجنا أن نذكر الحروف أولا، فنقول: إن الحروف ثلاثة أنواع: فكرية ولفظية وخطية، فالفكرية هي صورة روحانية في أفكار النفوس مصورة في جواهرها قبل إخراجها معانيها بالألفاظ، والحروف اللفظية هي أصوات محمولة في الهواء، فمدركة بطرق الأذنين بالقوة السامعة، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس، والخطية هي نقوش خطت بالأقلام في وجوه الألواح وبطون الطوامير مدركة بالقوة الباصرة بطريق العينين.
واعلم أن الحروف الخطية إنما وضعت سمات ليستدل بها على الحروف اللفظية، والحروف اللفظية وضعت سمات ليستدل بها على الحروف الفكرية، والحروف الفكرية هي الأصل.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وسنبين ماهيتها في فصل آخر.
واعلم أن الحروف اللفظية إنما هي أصوات تحدث في الحلقوم والحنك، وبين اللسان والشفتين عند خروج النفس من الرئة بعد ترويحها الحرارة الغريزية التي هي في القلب وهي ثمانية وعشرون حرفا في اللغة العربية، وأما سائر اللغات فربما تزيد وتنقص، وقد بينا علة ذلك في رسالة اختلاف اللغات، واعلم أن الحروف إذا ألفت صارت ألفاظا، والألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت أسماء، والأسماء إذا ترادفت صارت كلاما، والكلمات إذا اتسقت صارت أقاويل والأقاويل نوعان: موزون ونثر، فالموزون كالشعر والرجز والقوافي، والنثر نوعان، فمنه فصاحة وبلاغة، ومنه مخاطبات ومحاورات، والخطاب نوعان، فمنه ما يتكلم به جمهور الناس فيما بينهم في طلب حاجاتهم بلا احتجاج ولا خصومة، ومنه ما يتكلمون به في دعاويهم وخصوماتهم باحتجاج وبراهين، والدعاوى والخصومات نوعان: إما في أمور الدنيا، وإما في أمور الديانات والمذاهب والعلوم.
ولما كانت البراهين على صحة الدعاوى التي في أمور الدنيا لا تكون إلا بالشهود والعقود والصكوك، صارت البراهين أيضا على صحة الدعاوى في أمور الديانات والمذاهب والعلوم لا تكون إلا باستشهاد ما في الكتب الإلهية والإخبار عن أصحاب الشرائع أو إجماع الخصوم، أو شهادة العقول بالقياس الصحيح الذي هو ميزان الحق.
ولما كان اختلاف الناس بالحزر والتخمين في مقادير الأشياء الموزونة والمكيلة دعتهم إلى وضع الموازين والمكاييل ليرفع الخلف بها عند الحزر، وكذلك اختلاف العلماء في الحكم بالحزر والتخمين على الأمور الغائبة عن الحواس، دعتهم إلى وضع القياسات ليرفع الخلف بها عند النظر، ولما كان في صحة الوزن والكيل يحتاج إلى شرائط من عيار الصنجات، وصحة المكيال والميزان، وتقويم الكيل والوزن بها، كذلك حكم القياسات التي يعرف بها الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والخير من الشر؛ يحتاج إلى شرائط ليصح بها الحكم، وقد ذكر ذلك في كتب المنطق الفلسفي بشرح طويل، ولكن نريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا؛ ليقرب على المتعلمين فهمها، ونرجع الآن إلى ذكر الألفاظ الدالة على المعاني التي في أفكار النفوس؛ فنقول:
(2) فصل في الألفاظ الدالة على المعاني
* **أولا: **ما الاسم وما المسمى وما التسمية وما المسمى؟ ونقول أيضا: من الواصف وما الوصف وما الموصوف وما الصفة؟ وأيضا: من الناعت؟ وما المنعوت؟ وما النعت؟
(3) فصل في الألفاظ الستة
واعلم أن الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها وإشاراتها إلى المعاني التي في أفكار الناس ستة أنواع؛ ثلاثة منها دالات على الأعيان التي هي موصوفات، وثلاثة منها دالات على المعاني التي هي الصفات، فالألفاظ الثلاثة الدالة على الموصوفات قولهم: الشخص والنوع والجنس، والثلاثة الدالة على الصفات هي قولهم: الفصل والخاصة والعرض.
وأما شرح معانيها فنقول: الشخص كل لفظة يشار بها إلى موجود مفرد عن غيره من الموجودات، مدرك بإحدى الحواس، مثل قولك: هذا الرجل وهذه الدابة وهذه الشجرة وذا الحائط وذاك الحجر، وما شاكل هذه الألفاظ المشار بها إلى شيء واحد بعينه.
والنوع كل لفظة يشار بها إلى كثرة تعمها صورة واحدة، مثل قولك: الإنسان والفرس والجمل والغنم والبقر والسمك، وبالجملة كل لفظة تعم عدة أشخاص متفقة الصور.
وأما الجنس فهو كل لفظة يشار بها إلى كثرة مختلفة الصور، تعمها كلها صورة أخرى كالحيوان والنبات والثمار والحب وما شاكلها من الألفاظ، فإن كل لفظة منها تعم جماعات مختلفة الصور، وذلك أن قولك: الحيوان يعم الناس كلهم والسباع والطيور والسمك وحيوان الماء أجمع، وهي كلها صور مختلفة يعمها الحيوان، وهي صورة روحانية متممة للجسم.
وأما قولهم: الفصل والخاصة والعرض، فهي ألفاظ دالة على الصفات التي يوصف بها الأجناس والأنواع والأشخاص. واعلم أن الصفات ثلاثة، فمنها صفات إذا بطلت بطل وجدان الموصوف معه، فتسمى فصولا ذاتية جوهرية مثل حرارة النار ورطوبة الماء ويبوسة الحجر وما شاكلها، وذلك أن حرارة النار إذا بطلت بطل وجدان النار، وكذلك حكم رطوبة الماء ويبوسة الحجر وكل صفة لموصوف هكذا حكمه سميت فصلا ذاتيا جوهريا.
ومنها صفات إذا بطلت لم يبطل وجدان الموصوف ولكنها بطيئة الزوال؛ مثل سواد القير وبياض الثلج وحلاوة العسل ورائحة المسك والكافور وما شاكلها من الصفات البطيئة الزوال، ولكن ليس من الضرورة أنه إذا بطل سواد القير أو بياض الثلج أن يبطل وجدان أعيانها، فمثل هذه الصفات تسمى خاصية.
ومنها صفات سريعة الزوال تسمى عرضا؛ مثل حمرة الخجل وصفرة الوجل ومثل القيام والقعود والنوم واليقظة وما شاكل هذه من الصفات يسمى عرضا؛ لأنها تعرض لشيء وتزول عنه من غير زواله، وسميت الصفات البطيئة الزوال خاصية؛ لأنها صفات تختص بنوع دون سائر الأنواع.
وتسمى الصفات الذاتية الجوهرية فصولا؛ لأنها تفصل الجنس فتجعله أنواعا.
واعلم أن الصفات التي تسمى خاصية أربعة أنواع، فمنها ما يكون خاصية لنوع ويشاركه فيها نوع آخر، مثل خاصية الإنسان أنه ذو رجلين من بين سائر الحيوانات، ولكن يشاركه فيه الطير، ومنها ما هي خاصية لنوع ولا يشاركه فيها غيره، ولكن لا يوجد في جميع أشخاصه تلك الخاصية مثل الكتابة والتجارة وأكثر الصنائع، فإنها خاصية لنوع الناس، ولكن لا توجد في كل إنسان، ومنها خاصية قد توجد لكل أشخاص النوع، ولكن لا توجد في كل وقت، مثل المشيب فإنه خاصية للإنسان دون سائر الحيوانات، ولكن لا يوجد إلا في آخر العمر.
ومنها خاصية لنوع دون غيره وتوجد في كل أشخاصه وفي كل وقت وتسمى خاص الخاص، مثل الضحك والبكاء، فإنهما من خاصية الإنسان دون سائر الحيوانات، ولكل أشخاصه وفي كل وقت، وذلك أن الضحك والبكاء يوجدان للإنسان من وقت ولادته إلى وقت موته، وكذلك الصهيل للفرس والنهيق للحمار والنباح للكلاب، وبالجملة ما من نوع من أنواع الحيوان إلا وله خاصية تختص به دون غيره، وهكذا حكم كل موجود من الموجودات له خاصية تميزه عما سواه تسمى رسوما، علم ذلك أو لم يعلم.
واعلم أن بالفصول تنقسم الأجناس فتصير أنواعا، وبها تحد الأنواع؛ لأنها مركبة منها، وبالرسوم تختلف الأنواع ويخالف بعضها بعضا؛ يعني: خاص الخاص، وبالخواص التي هي أعراض بطيئة الزوال تختلف الأشخاص التي تحت نوع واحد، مثل الزرقة والشهلة والغطشة والقنوة والنحافة والسمرة والطول والقصر، وما شاكلها من الصفات التي تختلف بها أشخاص الناس ويمتاز بعضهم عن بعض، وكل هذه الصفات بطيئة الزوال، وبالأعراض تختلف أحوال الأشخاص مثل القيام والقعود والغضب والرضا وما شاكلها من الصفات التي لا تدوم ويتعاقبها ضدها.
واعلم بأن كل صفة للجنس فهي في جميع أنواعه، وكل صفة للنوع فهي في جميع أشخاصه ضرورة، وليس من الضرورة أن كل صفة للشخص لجميع نوعه، ولا صفة النوع لجميع جنسه.
(4) فصل في أن الأشياء كلها صور وأعيان
وإذ قد ذكرنا طرفا من المنطق اللفظي شبه المدخل، فنريد أن نذكر طرفا من المنطق الفكري؛ إذ كان هو الأصل وهذا فرع عليه، كما ذكرنا قبل، فإن الألفاظ إنما هي سمات دالات على المعاني التي في أفكار النفوس، وضعت بين الناس ليعبر كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس عند الخطاب والسؤال، فنقول: إن الأشياء كلها بأجمعها صور وأعيان غيريات؛ أفاضها الباري تعالى على العقل الفعال الذي هو جوهر بسيط مدرك حقائق الأشياء، كما بينا في رسالة المبادئ العقلية، ومن العقل على النفس الكلية الفلكية التي هي نفس العالم بأسره، كما بينا في الرسالة التي فسرنا فيها معنى قول الحكماء: إن الإنسان عالم صغير، وإن العالم إنسان كبير، ومن النفس الكلية فاضت على الهيولى الأولى التي بينا ماهيتها في رسالة الهيولى والصورة، ومن الهيولى على النفس الجزئية البشرية التي بينا كيفية نشوئها في رسالة لنا ترجمتها «الإنسان عالم صغير» وهي ما يتصور الناس في أفكارهم من المعلومات بعد مشاهدتهم لها في الهيولى بطريق الحواس.
فمن أراد أن يعرف كيف كانت صور الأشياء في النفس الكلية قبل فيضها على الهيولى، فليعتبر صور مصنوعات البشر كيف تكونها في نفوسهم قبل إظهارهم لها في الهيوليات الموضوعة لهم في صناعتهم كما بينا في رسالة الصنائع، ومن أراد أن يعرف أيضا كيف كانت صور الأشياء في العقل الفعال قبل فيضه على النفس الكلية، وكيف كان قبولها تلك الرسوم والصور، فليعتبر حال رسوم المعلومات التي في أنفس العلماء، وكيف إفادتهم للمتعلمين، وكيف قبولهم لها، كما بينا في رسالة التعليم، ومن أراد أيضا أن يعرف كيف حال المعلومات في علم الباري - عز وجل - قبل فيضه على العقل، فليعتبر حال العدد كيف كان في الواحد الذي قبل الاثنين، وكيف نشأ منه كما بينا في رسالة خواص العدد.
(5) فصل في العلم والتعلم والتعليم
واعلم أن العلم ليس بشيء سوى صورة المعلوم في نفس العالم، وأن الصنعة ليست شيئا سوى إخراج تلك الصورة التي في نفس الصانع العالم ووضعها في الهيولى.
واعلم يا أخي أن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، والتعليم ليس شيئا سوى إخراج ما في القوة إلى الفعل، والتعلم هو الخروج من القوة إليه، وأن كل شيء بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا لشيء هو بالفعل يخرجه إليه، وأن النفس الكلية الفلكية هي علامة بالفعل، والأنفس الجزئية علامة بالقوة، فكل نفس جزئية تكون أكثر معلومات وأحكم مصنوعات؛ فهي أقرب إلى النفس الكلية؛ لقرب نسبتها إليها وشدة شبهها بها كما قيل في حد الفلسفة: إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية. فاجتهد أن تكتسب معلومات كثيرة تكن أفعالك كلها حكمية زكية، فإنها القنية الروحانية، كما تجتهد أبناء الدنيا في اكتساب المال الذي هو القنية الجسدية.
واعلم أنه كما أن المال يتمكن الإنسان به مما يريده من اللذات في الدنيا وطيب العيش، فهكذا بالعلم تتمكن النفس من اللذات في الدار الآخرة، وبالعلم يتقرب إلى الله أبناء الآخرة، وبه يتفاضل بعضهم على بعض، كما قال الله تعالى: @QUR08 قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الآية.
واعلم أن بالعلم تحيا النفوس من موت الجهالة، وبه تنتبه من نوم الغفلة، كما قال الله: @QUR09 أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به الآية، فالعلم يهديك إلى طريق ملكوت السماء، ويعينك على الصعود إلى هناك؛ كقوله تعالى: @QUR08 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وأخبر عن أهل الجهالة فقال تعالى: @QUR014 لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وهذا وعيد لهم بالإياس عن الصعود إلى ملكوت السماء، فأعيذك أيها الأخ أن ترضى بأن تكون منهم أو معهم، وقيل: إن المرء مع من أحب، بل كن من الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كن عالما أو متعلما أو تجالس العلماء أو تحب العلماء، وإياك والخامس إلا أن تكون من الطوائف.
(6) فصل في اشتراك الألفاظ وأخواتها
وإذ قد فرغنا من ذكر المعاني، وأخبرنا بأنها صور كلها ورسوم في أفكار النفوس الجزئية، وأنها تناولتها من الهيولى بطريق الحواس، وقلنا أيضا : إن الصور التي في الهيولى فاضت عليها من النفس الكلية الفلكية، وإن التي في النفس أيضا فاضت عليها من العقل الفعال، وإن التي في العقل أيضا أفاضها عليه الباري - عز وجل - وذكرنا أيضا الألفاظ بمجردها، وأخبرنا أن الحروف التي هي أصوات مفردة إذا ألفت صارت ألفاظا، وأن الألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت أسماء، وأن الأسماء إذا ترادفت صارت كلاما، وأن الكلام إذا ألصق صار أقاويل.
واعلم أن المعاني هي الأرواح، والألفاظ كالأجساد لها، وذلك أن كل لفظة لا معنى لها فهي بمنزلة جسد لا روح فيه، وكل معنى في فكر النفس لا لفظ له فهو بمنزلة روح لا جسد له، واعلم أن الكلمات إذا اتسقت صارت أقاويل، وأن الأقاويل تختلف تارة من جهة اللفظ، وتارة من جهة المعنى، وتارة منهما جميعا، وهي خمسة أنواع، فمنها المشتركة في اللفظ، المختلفة في المعنى، كقولك: عين الإنسان، وعين الماء، ومقابلتها هي المترادفة التي هي المختلفة في اللفظ المتفقة في المعنى، كقولك: البر والحنطة، ومنها المتباينة في اللفظ والمعنى جميعا، كقولك: حجر وشجر، ومقابلتها المتواطئة وهي المتفقة في اللفظ والمعنى جميعا، كقولك: هذا إنسان اسمه زيد، وهذا اسمه عمر، ومنها المشتق أسماؤها وهي كقولك: الضارب والمضروب وما شاكلها من الأسماء المشتقة من الأفعال.
(7) فصل في أن الأشياء كلها جواهر وأعراض
واعلم يا أخي أن العلماء قالوا: إن الأشياء كلها نوعان؛ جواهر وأعراض، وإن الجواهر كلها جنس واحد قائمة بأنفسها، وإن الأعراض تسعة أجناس، وهي حالة في الجواهر وهي صفات لها، وإن الباري - عز وجل - ليس يوصف بأنه عرض ولا جوهر بل هو خالقهما وعلتهما الفاعلة. ونحن نقول: إن الأشياء كلها صور وأعيان غيريات؛ مرتب بعضها تحت بعض كترتيب العدد ومتعلق وجود بعضها ببعض كوجود العدد من الواحد الذي قبل الاثنين، كما بينا في رسالة العدد، وإن الباري - جل جلاله - هو علتها وهو موجدها كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
واعلم أن الصورة نوعان: مقومة ومتممة، وقد سمت العلماء الصور المقومة جواهر، وسمت الصور المتممة أعراضا، وقد بينا الفرق بين الصورة المقومة والصورة المتممة في رسالة الهيولى والصورة، وفي رسالة الكون والفساد، فاعرفهما من هناك إن شاء الله.
(8) فصل في حاجة الإنسان إلى المنطق
واعلم أيها الأخ أنه لو أمكن الناس أن يفهم بعضهم من بعض المعاني التي في أفكار نفوسهم من غير عبارة اللسان لما احتاجوا إلى الأقاويل التي هي أصوات مسموعة؛ لأن في استماعها واستفهامها كلفة على النفوس من تعليم اللغات وتقويم اللسان والإفصاح والبيان، ولكن لما كانت نفس كل واحد من البشر مغمورة في الجسد، مغطاة بظلمات الجسم، حتى لا ترى واحدة منهما الأخرى إلا الهياكل الظاهرة التي هي الأجسام الطويلة العريضة العميقة، ولا يدري ما عند كل واحد منها من العلوم إلا ما عبر كل إنسان عما في نفسه لغيره من أبناء جنسه، ولا يمكنه ذلك إلا بأدوات وآلات مثل اللسان والشفتين واستنشاق الهواء وما شاكلها من الشرائط التي يحتاج الإنسان إليها في إفهامه غيره من العلوم واستفهامه منه، فمن أجل هذا احتيج إلى المنطق اللفظي وتعليمه والنظر في شرائطه التي يطول الخطاب فيها.
فأما النفوس الصافية غير المتجسدة فهي غير محتاجة إلى الكلام والأقاويل في إفهام بعضها بعضا من العلوم والمعاني التي في الأفكار، وهي النفوس الفلكية؛ لأنها قد صفت من درن الشهوات الجسمانية، ونجت من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، واستغنت عن الكون مع الأجساد المظلمة التي هي أسفل السافلين وعالم الكون والفساد، وارتفعت إلى أعلى أفق العالم العلوي، وسرت في الجواهر النيرة والشفافة التي هي الكواكب والأفلاك، وذلك كما توجب الحكمة الإلهية والعناية الربانية؛ إذ لم تقرن بالأجسام الساترة، ولم تحتج إلى كتمان أسرارها ولا إلى إخفاء ما في ضمائرها؛ إذ كانت صافية من الخبث والدغل وبريئة من الإضمار للشر، فقرنت بالجواهر النيرة والأكر الشفافة التي يتراءى الجزء منها في الكل، والكل يتراءى في الجزء، كما تتراءى وجوه المرايا المجلاة بعضها في بعض، وكما تتراءى وجوه الجماعة المتقابلين في عين الواحد منهم، ووجه الواحد في أعين الجميع، فهم غير محتاجين إلى الإخبار عن الإضمار ولا السؤال عن كتمان الأسرار؛ لأنهم في الإشراق والأنوار التي هي معدن الأخيار والأبرار.
فاجتهد يا أخي فلعل نفسك تصفو وهمتك تعلو من الرغبة في هذه الدنيا الدنية التي ذمها رب العالمين، فقال - عز وجل: @QUR07 أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر إلى قوله: @QUR06 وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، وقال تعالى: @QUR06 زين للناس حب الشهوات من النساء الآية، وقال تعالى: @QUR010 قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات الآية، وقال تعالى: @QUR014 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
واعلم بأنه إذا عدم الجنس عدم جميع أنواعه معه، وإذا عدم النوع عدم جميع أشخاصه معه، وليس من الضروري إذا وجد الشخص وجد النوع كله، ولا إذا وجد النوع وجد الجنس كله، واعلم بأن الأجناس أربعة أنواع؛ ثلاثة يستعملها صاحب اللغة في أقاويله، وواحد يستعمله صاحب الفلسفة في أقاويله، فالذي يستعمله صاحب اللغة من هذه الثلاثة؛ أحدها جنس البلدي والآخر جنس الصناعي والآخر جنس النسبي، فالجنس البلدي كقولك لجماعة تشير إليهم فتقول: البغداديون والبصريون والخراسانيون وما شاكله، والصناعي كقولك لجماعة تشير إليهم فتقول: نجارون حدادون خبازون وما شاكله، والنسبي كقولك لجماعة: هاشميون علويون ربعيون، وأما الذي يستعمله الفيلسوف في أقاويله فهو عشرة ألفاظ بيناها في قاطيغورياس.
الرسالة الحادية عشرة في المقولات العشر التي هي قاطيغورياس
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا من ذكر الستة الألفاظ التي في إيساغوجي وبينا ماهية المعاني التي تدل عليها واحدا واحدا؛ فنريد أن نذكر العشرة الألفاظ التي في قاطيغورياس ونبين معانيها ونصف كيف هي، وأن كل لفظة منها اسم لجنس من الأجناس الموجودة، وأن المعاني كلها كيف هي داخلة تحت هذه العشرة الألفاظ.
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الحكماء الأولين لما نظروا إلى الأشياء الظاهرة بأبصار عيونهم، وشاهدوا الأمور الجليلة بحواسهم؛ تفكروا عند ذلك في معاني بواطنها بعقولهم، وبحثوا عن خفيات الأمور برويتهم، وأدركوا حقائق الموجودات بتمييزهم ، وبان لهم أن الأشياء كلها أعيان غيريات مرتبة في الوجود كترتيب العدد ومتعلقة مرتبطة بعضها ببعض في البقاء والدوام عن العلة الأولى الذي هو الباري سبحانه كتعلق الأعداد ورباط بعضها ببعض من الواحد الذي قبل الاثنين - كما بينا في رسالة العدد.
ولما تبين لهم هذه الأشياء - كما ذكرنا - لقبوا وسموا الأشياء المتقدمة في الوجود الهيولى، وسموا الأشياء المتأخرة في الوجود الصورة، ولما بان لهم أن الصورة نوعان مقومة ومتممة كما بينا في رسالة «الكون والفساد» سموا الصور المقومة جواهر، وسموا الصور المتممة أعراضا، ولما بان لهم أيضا أن الصور المقومة حكمها حكم واحد، قالوا: إن الجواهر كلها جنس واحد، وكذلك لما تبينوا أن الصور المتممة أحكامها مختلفة قالوا: إن الأعراض مختلفة الأجناس، وهي تسعة أجناس مثل تسعة آحاد، فالجوهر في الموجودات كالواحد في العدد، والأعراض التسعة كالتسعة الآحاد التي بعد الواحد، فصارت الموجودات كلها عشرة أجناس مطابقة لعشرة آحاد، وصارت الأعراض مرتبة بعضها تحت بعض كترتيب العدد وتعلقه في الوجود عن الواحد الذي قبل الاثنين.
فأما الألفاظ العشرة التي تتضمن معاني الموجودات كلها؛ فهي قولهم: الجوهر والكم والكيف والمضاف والأين ومتى والنصبة «الوضع» والملكة ويفعل وينفعل.
(1) فصل في أن كل لفظة من هذه الألفاظ اسم لجنس من الأشياء الموجودة
واعلم يا أخي بأن كل لفظة من هذه الألفاظ اسم لجنس من الأشياء الموجودة، وكل جنس ينقسم إلى عدة أنواع، وكل نوع إلى أنواع أخر، وهكذا دائما إلى أن تنتهي القسمة إلى الأشخاص - كما سنبين بعد.
واعلم يا أخي بأن الحكماء لما نظروا إلى الموجودات؛ فأول ما رأوا الأشخاص مثل زيد وعمرو وخالد، ثم تفكروا فيمن لم يروه من الناس الماضين والغابرين جميعا؛ فعلموا أن كلهم تشملهم الصورة الإنسانية وإن اختلفوا في صفاتهم من الطول والقصر والسواد والبياض والسمرة والزرقة والشهلة والفطسة والقنوة وما شاكلها من الصفات التي يمتاز بها بعضهم من بعض، فقالوا كلهم: إنسان وسموا الإنسان نوعا؛ لأنه جملة الأشخاص المتفقة في الصور المختلفة بالأعراض.
ثم رأوا شخصا آخر مثل حمار زيد وأتان عمرو وجحش خالد؛ فعلموا أن الصورة الحمارية تشملها كلها فسموها أيضا نوعا، ثم رأوا فرس زيد وحصان عمر ومهر خالد فعلموا أن صورة الفرسية تشملها كلها فسموها أيضا نوعا، وعلى هذا القياس سائر أشخاص الحيوانات من الأنعام والسباع والطير وحيوان الماء ودواب البر، كل جماعة منها تشملها صورة واحدة سموها نوعا.
ثم تفكروا في جميعها فعلموا أن الحياة تشملها كلها فسموها الحيوان، ولقبوها الجنس الشامل لجماعات مختلفة الصور وهي أنواع له، ثم نظروا إلى أشخاص أخر كالنبات والشجر وأنواعها، فعلموا أن النمو والغذاء يشملها كلها، فسموها النامي، فقالوا: هي جنس، والحيوان والنبات نوعان له.
ثم رأوا أشياء أخر مثل الحجر والماء والنار والهواء والكواكب، وعلموا بأنها كلها أجسام فسموها جنسا، وعلموا بأن الجسم من حيث هو جسم لا يتحرك ولا يعقل ولا يحس ولا يعلم شيئا، ثم وجدوه متحركا منفعلا ومصنوعا فيه الأشكال والصور والنقوش والأصباغ فعلموا أن مع كل الجسم جوهرا آخر هو الفاعل في الأجسام هذه الأفعال والآثار فسموه روحانيا.
ثم جمعوا هذه كلها في لفظة واحدة وهي قولهم: جوهر، فصار الجوهر جنسا والروحاني والجسماني نوعان له، والجسم جنس لما تحته من النامي والجماد، وهما نوعان له، والنامي جنس لما تحته من الحيوان والنبات، وهما نوعان له، والحيوان جنس لما تحته من الناس، والطير التي هي سكان الهواء، والسابح التي هي سكان الماء، والمشاء التي هي سكان البر، والهوام التي هي سكان التراب، وهي كلها أنواع الحيوان وهو جنس لها.
فالإنسان نوع الأنواع والجوهر جنس الأجناس، والجسم والنامي والحيوان نوع من جنس المضاف؛ لأنها إذا أضيفت إلى ما تحتها سميت أجناسا لها، وإذا أضيفت إلى ما فوقها سميت أنواعا لها، فهذا وجيز من القول في معاني أحد المقولات العشر التي هي الجوهر وأقسامه وأنواعه وأشخاصه وليس له حد، ولكن رسمه أنه القائم بنفسه القابل للأعراض المتضادة.
ولما رأوا من الجوهر ما يقال له: ثلاث أذرع وأربعة أرطال وخمسة مكاييل وما شاكلها؛ جمعوا هذه وسموها جنس الكم، وهي كلها أعراض في الجوهر.
ولما رأوا أشياء أخر ليست بالجوهر ولا يقال لها: كم، مثل البياض والسواد والحلاوة والمرارة والرائحة وما شاكلها؛ جمعوها كلها وسموها جنس الكيف، وهذه الأعراض هي صفات للجوهر، وهو موصوف بها وهي قائمة به، وكلها صور متممة له - كما بينا في رسالة الكون والفساد.
ثم إنهم وجدوا أشياء شتى تقع على شيء واحد لم يتغير في ذاته، بل من أجل إضافته إلى أشياء شتى، فسموها جنس المضاف؛ مثال ذلك رجل يسمى أبا وابنا وأخا وزوجا وجارا وصديقا وشريكا وما شاكلها من الأسماء التي لا تقع إلا بين اثنين يشتركان في معنى من المعاني، وذلك المعنى لا يكون موجودا في ذاتيهما، ولكن في نفس المفكر سموها جنس المضاف، وأصحاب الصفات يسمون هذه المعاني أحوالا.
ثم إنهم وجدوا أسماء أخر معانيها غير معاني ما تقدم ذكرها، مثل فوق وتحت وها هنا، وما شاكلها من الأسماء، فجمعوها كلها وسموها جنس الأين، ثم وجدوا أسماء أخر معانيها غير معاني ما ذكرنا، مثل يوم وشهر وسنة وحين ومدة، وما شاكلها من الأسماء، فجمعوها كلها وسموها جنس المتى، ثم وجدوا أسماء معانيها غير ذلك؛ مثل قائم وقاعد ونائم ومنحن ومتكئ ومستند ومستلق، وما شاكل ذلك من الأسماء فجمعوها كلها وسموها جنس النصبة يعني الوضع.
ثم وجدوا أسماء أخر مثل قولك: له وبه ومنه وعليه وعنده وما شاكلها من الأسماء فجمعوها كلها وسموها جنس الملكة، ثم وجدوا أسماء أخر مثل قولك: ضرب وفعل وصنع وما شاكلها من الألفاظ التي تدل على تأثير الفاعل فجمعوها كلها وسموها جنس يفعل، ثم وجدوا أسماء أخر مثل قولك: انقطع انكسر انبعث انبجس وما شاكلها من الألفاظ وجمعوها كلها وسموها جنس ينفعل.
ثم تأملوا الأشياء كلها فلم يجدوا معنى خارجا عن هذه التي ذكرنا، فاجتمعت لهم معاني الأشياء كلها في عشرة ألفاظ حسب، كما وجدوا لمراتب الآحاد عشرة ألفاظ حسب.
واعلم يا أخي بأنه قد جمعت هذه الأجناس كل موجود من الجواهر والأعراض ، وما كان وما يكون ولا يقدر أحد أن يتوهم شيئا خارجا عن هذه الأجناس وما تحتويه من الأنواع والأشخاص.
واعلم بأنه ربما اجتمعت هذه المعاني في شخص واحد؛ مثال ذلك زيد، فإنه جوهر وفيه كمية؛ لأنه طويل، وفيه كيفية لأنه أسود، وفيه مضاف لأنه ابن، وأين لأنه في مكان، ومتى لأنه في زمان، ونصبة لأنه قائم أو قاعد، وملكة لأنه ذو مال، ويفعل إذا ضرب، وينفعل إذا ضرب.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأجناس العشرة بقول وجيز فإنا نذكر الآن طرفا من كيفية تقسيمها إلى الأنواع؛ ليكون إرشادا للمتعلمين إلى أحد طرق التعاليم؛ إذ كانت طرق التعاليم أربعة أنواع، أحدها طريق الحدود، والآخر طريق البرهان، والآخر طريق التحليل، والآخر طريق التقسيم، وهي هذه: الجوهر نوعان جسماني وروحاني، فالجسماني نوعان: فلكي وطبيعي، فالطبيعي نوعان بسيط ومركب، فالبسيط أربعة أنواع: نار وهواء وماء وأرض.
والمركب نوعان جماد ونام، فالجماد هو الأجسام المعدنية، والنامي نوعان نبات وحيوان، والنبات ثلاثة أنواع، منه ما يكون بالغرس كالأشجار، ومنه ما يتكون بالبذر كالزرع، ومنه ما يكون بنفسه كالحشائش والكلأ.
والحيوان نوعان ناطق كالإنسان وغير ناطق كسائرها، وهو ثلاثة أنواع، منه ما يتكون في الرحم، ومنه ما يتكون في البيض، ومنه ما يتكون في العفونات كالدبيب، وتحت كل نوع من هذه أنواع وتحت تلك الأنواع أنواع أخر إلى أن ينتهي إلى الأشخاص.
وأما الجواهر الروحانية فتنقسم قسمين: الهيولى والصورة، فالصورة نوعان: مفارقة كالنفس والعقل، وغير مفارقة كالأشكال والأصباغ، والكم ينقسم نوعين: متصل ومنفصل، فالمتصل خمسة أنواع: الخط والسطح والجسم والمكان والزمان، والمنفصل نوعان: العدد والحركة، والخط ثلاثة أنواع: مستقيم ومقوس ومنحن، والسطوح ثلاثة أنواع: بسيط ومقبب ومقعر، والجسم قد تقدم ذكر أقسامه، والمكان سبعة أنواع: فوق وتحت وقدام وخلف ويمنة ويسرة ووسط، والزمان ثلاثة: ماض ومستقبل وحاضر، وكل واحد ينقسم أربعة أنواع: السنون والشهور والأيام والساعات، والعدد نوعان: أزواج وأفراد، ووجه آخر صحيح وكسور، ووجه آخر آحاد وعشرات ومئون وألوف.
والحركة ستة أنواع: الكون والفساد والزيادة والنقصان والتغير والنقلة ، وخاصة هذا الجنس مساو وغير مساو، والكيف نوعان: جسماني وروحاني، فالجسماني ما يدرك بالحواس، والروحاني ما يعرف بالعقول كالعلم والقدرة والشجاعة والاعتقادات، والجسماني نوعان: مفردة ومركبة، فالمفردة نوعان: فاعلة وهي الحرارة والبرودة ومنفعلة وهي اليبوسة والرطوبة، والمركبة نوعان: ملازمة ومزايلة، فالملازمة كالطعوم والألوان والروائح وزرقة الأزرق وفطسة الأفطس، والمزايلة كالقيام والقعود وصفوة الوجل وحمرة الخجل.
والكيفية الروحانية أربعة أنواع: الأخلاق والعلوم والآراء والأعمال، وخاصية هذا الجنس الشبيه وغير الشبيه، والمضاف نوعان: النظير وغير النظير، فالنظير ما كان المضافان في الأسماء سواء، كالأخ والجار والصديق، وغير النظير ما كان المضافان في الأسماء مختلفين، كالأب والابن والعبد والمولى والعلة والمعلول والأول والآخر والنصف والضعف والأصغر والأكبر وكلها في الإضافة معا.
فأما ذواتها في الوجوه فعلى وجهين، الوجه الأول أن يكون أحدهما قبل الآخر كالأب والابن والعلة والمعلول، والآخر أن يكونا موجودين قبل الإضافة مثل العبد والمولى والجار والصديق، وجنس المضاف إذا أضيفت إدارته دخل باقي الأجناس كلها فيه بالعرض لا بالذات؛ وذلك أن الجوهر موصوف بالأعراض، والأعراض صفات له، والصفة صفة الموصوف، والموصوف موصوف بالصفة، كما أن الأب أب للابن، والابن ابن للأب.
وخاصية هذا الجنس أن المضافين يدوران أحدهما على الآخر ولا يتنافيان، وهما في الإضافة معا، فهذه الأربعة الأجناس يقال لها: البسيطة.
وأما الستة الباقية فيقال لها: مركبة أولها الأين وهو من تركيب جوهر مع المكان، والأماكن سبعة أنواع كما بينا في جنس الكمية التي هي من تركيب جوهر مع الزمان، وقد بينا أنواع الزمان في جنس الكم، والنصبة تركيب جوهر مع جوهر آخر، فإن المتكئ متكئ على المتكأ، والمستند مستند على المستند، والملكة من تركيب جوهر مع جوهر آخر.
وهو ينقسم نوعين: إما داخل وإما خارج، فالداخل إما في النفس كما يقال له: علم وعقل وحلم، وإما في الجسم كما يقال له: حسن وجمال ورونق، والذي من خارج نوعان: حيوان وجماد كما يقال له: عبيد ودواب ودراهم وعقارات وتجارات، وجنس يفعل نوعان، إما أن يكون أثر الفاعل يبقى في المصنوع؛ كالكتابة والبناء وما شاكلهما من الصنائع، ومنها ما لا يبقى للفاعل أثر كالرقص والغناء، وجنس ينفعل نوعان إما في الأجسام كما بينا في رسالة الصنائع العملية، وإما في النفوس كما بينا في رسالة الصنائع العلمية.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأجناس العشرة وبينا كيفية انقسامها إلى الأنواع، فنحتاج أن نذكر الأشياء التي لا بد من ذكرها، وذلك أن هذه الأشياء إذا قابل بعضها بعضا فلا يخلو أن يكون تقابلها في القول أو في ذواتها، فالذي في القول هو الإيجاب والسلب، فالإيجاب هو إثبات صفة لموصوف، والسلب هو نفي صفة عن موصوف، والذي يخص هذا التقابل الصدق والكذب.
وأما الذي في ذوات الأشياء فهو ثلاثة أنواع، أحدها في الأشياء المتضادة، والآخر في الأشياء التي في جنس المضاف، والآخر في القنية والعدم، والمتضادان هما الشيئان اللذان ينافي كل واحد منهما صاحبه ولا يدور عليه، والمتضادان نوعان: ذو وسط وغير ذي وسط، فالذي هو ذو وسط مثل السواد والبياض اللذين هما ضدان وبينهما وسائط من الألوان كالحمرة والصفرة والخضرة وغيرها، ومثل الحلو والمر فإنهما ضدان وبينهما طعوم أخر، كالحموضة والملوحة والعذوبة وغيرها من الطعوم، وغير ذي الوسط كالصحة والمرض.
ومن خاصية هذين الضدين أن أحدهما إذا كان في الجسم فالآخر أيضا يكون في الجسم، فإن كان أحدهما في النفس فالآخر أيضا يكون في النفس، وخاصية أخرى أن إدراك أحدهما إذا كان بحاسة فالآخر أيضا يدرك بتلك الحاسة.
مثال ذلك أن السواد لا يكون إلا في الجسم ولا يدرك إلا في البصر، كذلك حكم البياض، والعلم لا يكون إلا في النفس ولا يدرك إلا بالعقل، والجهل كذلك حكمه، وأما المضافان فإنهما متقابلان ولا يتنافيان ويدور أحدهما على الآخر كما بينا قبل، وأما القنية والعدم فشبيه الضد والمضاف جميعا، وذلك أن العدم يضاف إلى القنية، والقنية لا تضاف إلى العدم، فيقال: عمى البصر ولا يقال: بصر العمى، والقنية والعدم لا يجتمعان، كما أن الضدين لا يجتمعان، فإذا كانت القنية جسمانية كان العدم أيضا جسمانيا ، وإن كانت روحانية فكذلك العدم أيضا روحاني، ولا يقال: العادم للقنية إلا إذا حان وقت وجوده، مثال ذلك لا يقال للطفل: إنه أدرد إلا إذا حان خروج أسنانه، ولا تاركا للفعل إلا حين إمكانه الفعل.
(2) فصل في معنى قدم الأشياء
واعلم بأن تقدم الأشياء بعضها على بعض من خمسة أوجه، أحدها بالزمان والكون كما يقال: إن موسى أقدم من عيسى، والآخر بالطبع كما يقال: إن الحيوان أقدم من الإنسان، والثالث بالشرف كما يقال: الشمس أقدم من القمر، والرابع بالمرتبة كما يقال في العدد: إن الخمسة أقدم من الستة، والوجه الخامس بالذات كالعلة والمعلول، والشيء في الشيء على عدة أوجه، الشيء في المكان وفي الزمان وفي الوعاء، والعرض في الجوهر، والجوهر في العرض، والشخص في النوع، والنوع في الجنس، وعكس هذا، والسائس في السياسة، والسياسة في السائس والشيء في التمام، والأجزاء في الكل وما شاكلها، والشيء مع الشيء يقال على ثلاثة أوجه: مع الزمان مثل الفيء مع الضوء، ومثل المضافين كما بينا، ومثل الأنواع التي كلها معا تحت جنس واحد.
واعلم يا أخي بأن مثل هذه العشرة الألفاظ وما يتضمنها من المعاني التي هي عشرة أجناس، المحتوية على جميع معاني الأشياء وما تحت كل واحد من الأنواع، وما تحت تلك الأنواع من الأشخاص، كمثل بستان فيه عشر أشجار، على كل شجرة عدة فروع وأغصان، وعلى كل غصن عدة قضبان، وعلى كل قضيب عدة أوراق، وتحت كل ورقة عدة أنوار وثمار، وكل ثمرة لها طعم ولون ورائحة لا تشبه الأخرى.
وأن مثل النفس إذا هي عرفت معاني هذه العشرة الأجناس وتصورتها في ذاتها، وتأملت فنون تصاريفها، وما تحتوي عليه من المعلومات المختلفة الصور، المفننة الهيئات، المتلونة الأصباغ، كمثل صاحب ذلك البستان، إذا فتح بابه ونظر إلى ما فيه من الألوان والأزهار، واشتم من روائح تلك الأنوار، وتناول من تلك الثمار، وتطعم من تلك الطعوم، وتمتع بنتائج ذلك البستان.
فاجتهد يا أخي في طلب العلوم وفنون الآداب، فإن العلوم بساتين النفوس ، وفنون معانيها وفوائدها وألوان الثمار، والعلوم غذاء النفس كما أن الطعام غذاء الجسد، وبها تكون حياها ولذة عيشها وسرورها ونعيمها بعد مفارقة الجسد كما بينا في رسالة المعاد.
وفقك الله أيها الأخ البار الرحيم للسداد والرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
(تمت الرسالة الحادية عشرة في المنطق الفلسفي، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على نبيه محمد وآله أجمعين.)
الرسالة الثانية عشرة في معنى بارامانياس «وهي الرسالة الثالثة من المنطقيات»
وإذ قد فرغنا من ذكر العشرة الألفاظ التي يسميها الحكماء المنطقيون «المقولات العشرة»، ووصفنا كمية ما يتضمن كل واحد منها جنسا من المعاني، وهي الصور المنتزعة من الهيولى، ورسومها المصورة في أفكار النفوس الإنسانية، مثالها في رسالة قاطيغورياس، وقبل ذلك قد ذكرنا في فصل آخر الستة الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها، وفي فصل آخر قبله وصفنا أن الحروف المفردة إذا ألفت صارت ألفاظا، وأن الألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت سمات، وأن السمات إذا ترادفت صارت كلاما مفيدا، فنقول في هذا الفصل:
إن الكلام كله ثلاثة أنواع، فمنها ما هي سمات دالات على الأعيان يسميها المنطقيون والنحويون الأسماء، ومنها ما هي سمات دالات على تأثيرات الأعيان بعضها في بعض، ويسميها النحويون الأفعال ويسميها المنطقيون الكلمات، ومنها ما هي سمات دالات على معان كأنها أدوات للمتكلمين تربط بعضها ببعض، كالأسماء بالأفعال، والأفعال بالأسماء، يسميها النحويون الحروف، ويسميها المنطقيون الرباطات.
فالأسماء هي كل لفظة دالة على معنى بلا زمان، كقولك: زيد وعمرو وحجر وخشب وما شاكلها من الألفاظ، والفعل مثل ضرب يضرب وعقل يعقل، وهو كل لفظة دالة على معنى في زمان، والحروف مثل قولك: من وفي وعلى وما شاكلها من ألفاظ مذكور شرحها في كتب النحو. وبالجملة: ينبغي لمن يريد أن ينظر في المنطق الفلسفي أن يكون قد ارتاض أولا في علم النحو قبل ذلك.
واعلم يا أخي أن الكلمات والأسماء إذا اتسقت صارت أقاويل، والأقاويل نوعان فمنها ما يقع فيه الصدق والكذب ومنها ما لا يقع فيه لا الصدق ولا الكذب، وهذه أربعة أنواع: الأمر والسؤال والنداء والتمني، والذي يقع الصدق والكذب فيه يسمى الأخبار، والأخبار نوعان إما إيجاب صفة لموصوف، وإما سلبها عنه كقولك: النار حارة وليست بحارة، فقولك: ليست بحارة سلب، فالإيجاب إما أن يكون صدقا وإما أن يكون كذبا، وكذلك السلب مثل قولك: إذا قلت النار حارة فصدق، وإذا قلت: باردة فكذب، وإذا قلت: النار ليست بباردة فصدق، وإذا قلت: ليست بحارة فكذب، فقد تبين لك كيف يكون السلب والإيجاب تارة صدقا وتارة كذبا.
واعلم بأن الإيجاب والسلب تارة يكون حكما حتما، وتارة شرطا واستثناء، فالإيجاب الحتم مثل قولك: الشمس فوق الأرض وهو نهار، والشرط مثل قولك: إن كانت الشمس فوق الأرض فهو نهار، وكذلك حكم السلب مثله، مثال ذلك ليست الشمس فوق الأرض ولا هو نهار، والشرط والاستثناء مثل قولك: إن كانت الشمس ليست فوق الأرض فليس هو نهارا.
واعلم بان الحكم نوعان: تارة يكون الصدق والكذب فيه ظاهرين، وتارة يكونان فيه خفيين، بيان ذلك أنه متى كان قول القائل محتملا للتأويل؛ لم يتبين فيه الصدق والكذب، ومتى كان غير محتمل للتأويل بان فيه الصدق والكذب.
واعلم بأن القول يكون غير محتمل للتأويل متى كان محصورا، والمحصور من الأقاويل ما كان عليه سور، وسور الأقاويل نوعان كلي وجزئي، فالسور الكلي مثل قولك: كل إنسان حيوان، فهذه صدق وظاهر بين؛ لأن عليه سورا كليا، والكذب الظاهر البين مثل قول القائل ليس واحد من الناس حيوانا فكذب ظاهر؛ لأن عليه سورا كليا، وأما السور الجزئي فمثل قولك: بعض الناس كاتب، وبعض الناس ليس بكاتب، والصدق فيهما ظاهر بين؛ لأن عليهما سورا جزئيا.
وأما ما كان من الأقاويل غير المحصورة فهو الذي ليس عليه سور، وهو نوعان مهمل ومخصوص، فالمهمل مثل قولك: الإنسان كاتب، والإنسان ليس بكاتب، فلا يتبين فيه الصدق والكذب؛ لأنه لا يمكن للقائل أن يقول: أردت بعض الناس، وأما المخصوص فمثل قول القائل: زيد كاتب، وزيد ليس بكاتب، فلا يتبين فيهما الصدق والكذب؛ لأنه يمكنه أن يقول: أردت بزيد الفلاني، وأما إذا جعل على كل قول قائل سور كلي كما وصفنا، فيتبين الصدق عند ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن يقول: أردت غير ما أوجبه الحكم.
واعلم أنه يجب على المستمع أن يلزم القائل ما يوجبه قوله ويطالبه به لا بما في ضميره؛ لأن الضمائر لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالى، فقد تبين بهذا المثال أن الكلام إذا لم يكن محصورا بسور لا يتبين فيه الصدق ولا الكذب ظاهرا.
واعلم بأن الأسوار إنما تحصل الصفات للموصوفات وتحتاج أيضا أن يكون الموصوف محصلا بصفات معلومة معروفة، وذلك أن الموصوف إذا لم يكن معروفا باسم فلا يتبين فيه الصدق والكذب في القول؛ مثل قولك: غير الإنسان حيوان وغير زيد كاتب وما سوى الحيوان جواهر ميتة، وما شاكل هذه الألفاظ التي هي سمات لأعيان غير معروفة، بل مشتركة لكل شيء سوى ذلك المستثنى منه.
واعلم يا أخي بأن السلب والإيجاب هما حكمان متناقضان في اللفظ والمعنى جميعا، لا يجتمعان في الصدق والكذب في صفة واحدة في زمان واحد من جهة واحدة في إضافة واحدة؛ لأنه رفع الشيء الذي أوجب من الشيء الذي أوجبته له على النحو الذي أوجبته له، في الوقت الذي أوجبته له، من الوجه الذي أوجبته له، ومتى نقصت من هذه الشرائط واحدة جاز اجتماعها على الصدق والكذب جميعا، مثال ذلك قولك: بعض الناس كاتب، وبعض الناس ليس بكاتب، وفي الصبي: إنه كاتب بالقوة ليس بكاتب بالفعل، وإليه أشار بقوله - عليه السلام: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين.» عنى كنت نبيا بالقوة لا بالفعل، وفي الرجل الواحد أنه عالم بشيء ليس بعالم بشيء آخر، وصائم في رمضان بالنهار ليس بصائم بالليل، وكبير بالإضافة إلى ما هو أصغر منه وليس بكبير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه، والكلب ليس يتحرك؛ لأن الكلب اسم مشترك، وكذلك يتحرك اسم يقع فيه الحركات الست.
واعلم يا أخي بأنه إذا حكم بالقول على موصوف بصفة سميت تلك الصفة قضية ثنائية مثل قولك : زيد كاتب ؛ لأنه يجوز أن يكون كاتبا وغير كاتب، فإذا قطعت على أحد الخبرين كان قولا جازما وقضية جازمة، وإذا قرن بهذه القضية أحد الأزمان الثلاثة سميت قضية ثلاثية مثل قولك: زيد كتب أمس أو يكتب غدا أو هو كاتب اليوم، وإن زدت على إحدى القضايا الثلاثية أحد العناصر الثلاثة الذي هو من الممكن والممتنع والواجب سميت رباعية مثل قولك: يمكن أن يكون هذا الصبي يوما ما رجلا جلدا وممتنع أن يحمل يوما ما ألف رطل، وواجب أن يموت يوما ما.
واعلم بأن السلب والإيجاب نوعان كلية وجزئية، فالكلية الموجبة مثل قولك: كل نار حارة، وسالبتها ليس شيء من النيران حارة، فإذا تقابلتا سميتا أضدادا كبرى، والموجبة الجزئية مثل قولك: بعض الناس كاتب، وسالبتها ليس واحد من الناس بكاتب، وإذا تقابلتا سميتا أضدادا صغرى، وإذا تقابلت قضيتان موجبتان أوسالبتان سميتا متتاليتين مثل قولك: بعض الناس حيوان، بل كل الناس حيوان، وإن بعض الناس لا يطير، بل كل الناس لا يطيرون، والقضيتان المتلائمتان هما اللتان تتفقان في المعنى وتختلفان في اللفظ، مثال ذلك كل نار حارة، وليست شيء من النيران باردة، وبعض الناس كاتب ليس بعض الناس أميا.
واعلم أن الصفة تسمى محمولا، والموصوف يسمى موضوعا لحمله، فإذا كثرت الموصوفات والصفة واحدة؛ فالقضايا تكون كثيرة مثل قولك: زيد كاتب وخالد كاتب وعمرو كاتب، وإذا كثرت الصفات والموصوف واحد، فالقضايا كثيرة مثل قولك: زيد كاتب وحداد ونجار، فإذا كثرت الصفات في اللفظ والمعنى واحد؛ فالقضية واحدة مثل قولك: زيد فهم فقيه عالم.
واعلم أن القضايا تختلف تارة بالسلب والإيجاب، وتارة بالكل والجزء، والاختلاف بالسلب والإيجاب يسمى كيفية وبالكلية والجزئية يسمى كمية، فإذا اختلفت القضايا بالكيفية والكمية سميتا متناقضتين، وإذا اختلفت بالكيفية سميتا متضادتين، والمتناقضان أشد عنادا من المتضادين، والمتضادان مثل قولك كل إنسان كاتب، كل إنسان ليس بكاتب، والمتناقضان مثل قولك: كل إنسان كاتب ليس كل من الناس بكاتب.
واعلم بأن الواجب في الكون أقدم في الطبع من الممكن، والممكن أقدم من الممتنع؛ لأنه لو لم يكن الواجب في الكون لما عرف الممكن، ولو لم يكن الممكن لما عرف الممتنع.
واعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن كل قضية كلية أو جزئية، موجبة كانت أو سالبة، فهي مركبة من حدين، يسمى أحدهما الموضوع والآخر المحمول، مثال ذلك قولك: النار حارة، فالنار هي الموضوعة، والحرارة هي المحمولة.
واعلم بأنه ربما جعل الموضوع محمولا، والمحمول موضوعا، مثال ذلك إذا قيل: النار حارة ثم قيل: الحارة نار ويسمى هذا عكس القضية.
واعلم بأنه ربما تكون القضية قبل العكس صادقة وبعده كاذبة مثل قولك: كل حيوان إنسان، وكل إنسان حيوان، وربما تكون صادقة قبل العكس وبعده مثل قولك: كل إنسان ضحاك، وكل ضحاك إنسان، وربما تكون كاذبة في الحالتين جميعا مثل قولك: كل إنسان طائر وكل طائر إنسان.
(هذه آخر رسالة بارامانياس وتليها رسالة أنولوطيقا الأولى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.)
الرسالة الثالثة عشرة في معنى أنولوطيقا
(1) فصل في أنولوطيقا الأولى
اعلم يا أخي بأن كل قضيتين إذا قرنتا ووجب عنهما حكم آخر، سميت القضيتان مقدمتين، وسمي ذلك الحكم نتيجتهما، مثال ذلك إذا قيل: كل إنسان حيوان، وكل حيوان نام، فينتج من هاتين أن كل إنسان نام.
واعلم بأن المقدمتين لا تقترنان إلا أن تشتركا في كل حد واحد، وتتباينان بحدين آخرين، وذلك الحد لا يخلو من أن يكون موضوعا في إحداهما ومحمولا في الأخرى، أو يكون محمولا في كلتيهما أو يكون موضوعا فيهما جميعا، فإن كان موضوعا في إحداهما، محمولا في الأخرى يسمى ذلك الشكل الأول، وهو مثل قولك: كل إنسان حيوان وكل حيوان متحرك، فالحيوان هو الحد المشترك في المقدمتين جميعا، محمولا في الأولى، موضوعا في الأخرى، وإن كان محمولا فيهما جميعا سمي ذلك الشكل الثاني، وهو قولك: كل إنسان حيوان وكل طير حيوان، فالحد المشترك الذي هو الحيوان محمول فيهما جميعا، وإن كان موضوعا فيهما سمي ذلك الشكل الثالث، وهو مثل قولك: كل إنسان حيوان وكل إنسان ضحاك .
واعلم يا أخي بأنه إذا اقترنت هذه المقدمات على هذه الشرائط واستخرج بها حكم ما؛ سمي جميع ذلك الشكل «سلوجيموس» يعني القياس المنتج.
واعلم يا أخي بأن من المقدمات ما هو منتج ومنها ما هو غير منتج، فالمنتج ما تقدم ذكره، وغير المنتج هو ما ليس له حد مشترك مثل قولك: كل إنسان حيوان وكل حجر يابس، فإن هاتين المقدمتين، وإن كانتا صادقتين فليستا تنتجان شيئا؛ لأنه ليس لهما حد مشترك.
واعلم يا أخي أنه إنما احتيج في المقدمات إلى الحد المشترك ليقع الازدواج بينهما، وإنما يراد الازدواج لتخرج النتيجة التي هي الغرض من تقديم المقدمات، كما أن الغرض من تزويج الحيوان الذكور مع الإناث هو أن ينتج منها أولاد مثلها، فهكذا أيضا حكم المقدمتين واقترانهما هو لأن ينتج منهما حكم على شيء ليس بظاهر للعقول، فمن أجل هذا احتيج إلى اقتران المقدمات.
واعلم يا أخي بأنه ليس كل اقتران منتجا، كما أنه ليس من كل تزويج يكون الولادة، وذلك أنه إذا قيل: كل إنسان حيوان وكل طائر حيوان، فإن هاتين المقدمتين وإن كانتا قد اشتركتا في حد فليس ينتج من اقترانهما نتيجة؛ لأنهما من الشكل الثاني، وهكذا إذا قيل: ليس واحد من الناس طائرا ولا واحد من الناس حجرا، فإن هاتين المقدمتين وإن كانتا قد اشتركتا، فليس ينتج من اقترانهما شيء؛ لأنهما من الشكل الثالث، وهذان الشكلان ليس يوثق بنتيجتهما دون أن يعتبر بالشكل الأول كما بين ذلك في كتب المنطق بشرح طويل.
واعلم يا أخي بأن مقدمات الشكل الأول منتجة كلها، كلية كانت أو جزئية، سالبة كانت أو موجبة؛ مثال ذلك إذا قيل: كل إنسان حيوان، كلية موجبة صادقة؛ وكل حيوان متحرك، كلية موجبة صادقة، ينتجان كل إنسان متحرك، كلية موجبة صادقة، وإذا قيل: ليس واحد من الناس حجرا كلية سالبة صادقة، ولا واحد من الأحجار طائرا، كلية سالبة صادقة، نتيجتهما ليس واحد من الناس طائرا، كلية سالبة صادقة، وبعض الناس كاتب جزئية موجبة صادقة، وبعض الكتاب حاسب جزئية موجبة صادقة، نتيجتهما بعض الناس حاسب جزئية موجبة صادقة وبعض الناس ليس بكاتب، جزئية سالبة صادقة، وبعض الكتاب ليس بحاسب، جزئية سالبة صادقة، نتيجتهما بعض الناس ليس بحاسب، جزئية سالبة صادقة، فقد بان أن هذا الشكل ومقدماته ينبغي أن يتحفظ بها ويعرف استعمالها في القياسات وكيفية استخراج نتائجها، ويتحرز من السهو والغلط فيها، فإنه يدخل عليها الآفات العارضة، كما يدخل في سائر الموازين والقياسات، إما بقصد من المستعملين لها، أو بسهو يدخل عليهم فيها، وذلك أنه ربما تكون المقدمات صادقة، ونتائجها كاذبة، وربما كانت المقدمات كاذبة، ونتائجها صادقة، وربما تكون المقدمات والنتيجة كاذبة كلها أو صادقة كلها.
واعلم يا أخي بأن هذا الباب ينبغي أن يتفحص وينظر موضع المغالطة فيه ويتحرز منه، فإن الذين راموا إبطال القياس المنطقي من هذا الباب أتوا، وذلك أن أرسطاطاليس لما عمل كتاب القياس وبين فيه القياس الصحيح الذي لا يدخله الخطأ والزلل، وذكر أنه ميزان يعرف به الصدق من الكذب في الأقاويل، والصواب من الخطأ في الآراء، والحق من الباطل في الاعتقادات، والشر من الخير في الأفعال، فكثر الراغبون فيه في ذلك الزمان والطالبون له وتركوا ما سواه من كتب الجدل وزال الاختلاف الذي كان بينهم لرجوعهم إلى الميزان الذي يريهم الحق ووثقوا به وأيقنوا أنه لا يجوز غيره. كقوم اختلفوا في وزن شيء من الأشياء، فلما اعتبروه بالميزان عرفوه يقينا، ورجعوا إليه، وتركوا الجدل والمراء، فلما زال الاختلاف فيما بينهم حسده جماعة من أبناء جنسه من المتفلسفة وراموا إبطال ذلك عليه من هذا الطريق، وهو أن أتوا بمقدمات صادقة نتائجها كاذبة، وبمقدمات كاذبة نتائجها صادقة، وبمقدمات كاذبة نتائجها كاذبة، وعارضوا بها تلامذة أرسطاطاليس؛ لكي ما ينفروهم عنها ويزهدوهم فيها وهي هذه: ليس واحد من الناس بحجر، سالبة صادقة. و: لا واحد من الأحجار بحيوان، سالبة صادقة، نتيجتهما: لا واحد من الناس بحيوان، سالبة كاذبة، والآخر: كل إنسان طائر، موجبة كاذبة. وكل طائر ناطق، موجبة كاذبة، نتيجتهما كل إنسان ناطق موجبة صادقة، وكل إنسان طائر موجبة كاذبة وكل طائر حجر موجبة كاذبة نتيجتهما كل إنسان حجر موجبة كاذبة وكل إنسان حيوان موجبة صادقة.
واعلم يا أخي بأن مثل هذه المغالطة تدخل في الصناعة من وجهين؛ أحدهما أن يكون المتعاطي جاهلا بصناعة القياس أو ناقصا فيها، فيغالط ولا يدري من أين وكيف ولم، كما يغلط من يحسب ولا يدري الحساب، أو يزن أو يكيل ولا يدري كيف الوزن والكيل، أو يكون عارفا بالصناعة، ولكن يقصد عمدا وعنادا لغرض من الأغراض كما يفعل الحاسب والوزان والكيال دغلا وغشا وحيلة، فمن أجل هذه المغالطة التي أتى بها القوم أوصى أرسطاطاليس تلاميذه بسبع شرائط أن لا يستعمل قياس برهاني من مقدمتين سالبتين لا كليتين ولا جزئيتين أصلا، ولا مهملتين ولا جزئية ولا خاصة البتة؛ إذ كان منها تكون هذه المقدمات التي أتى بها القوم لمغالطتهم، بل يقتصر على استعمال المقدمات الصادقة التي نتائجها صادقة، وهي التي تغافل القوم عن ذكرها، والمقدمات التي تصدق هي ونتائجها في كل مادة، وفي كل زمان قبل العكس وبعد العكس، تبين ذلك كله في أنولوطيقا الثانية.
(2) فصل في بيان العلة الداعية إلى تصنيف القياسات المنطقية
اعلم يا أخي بأن الحكماء الأولين لما نظروا في فنون العلوم وأحكموها واستخرجوا الصنائع العجيبة وأتقنوها واستنبطوا عند ذلك لكل علم وصناعة أصلا، منه تتفرع أنواعه، ووضعوا له قياسا يعرف به فروعها وميزانا يتبين به الزائد والناقص والمستوي منها، مثل صناعة العروض التي هي ميزان الشعر يعرف بها الصحيح والمنزحف من الأبيات، ومثل صناعة النحو التي هي ميزان الإعراب يعرف بها اللحن والصواب في الكلام، ومثل الأسطرلاب الذي هو ميزان يعرف به الأوقات في صناعة النجوم، ومثل المسطرة والبركار والكونيا التي هي موازين في أكثر الصنائع يعرف بها الاستواء من الاعوجاج، ومثل المكيال والذراع والشاهين والقبان التي هي موازين يعرف بها الزائد والناقص والمستوي في البيع والشراء في معاملات التجار، ومثل الحساب الذي هو ميزان العمال وأصحاب الدواوين.
واعلم يا أخي بأن هذه المقاييس والموازين هي أحكام بين الناس؛ نصبها الله الباري - جل ثناؤه - بين خلقه قضاة وعدولا تحكم بالحق فيما يختلف الناس فيه من الحكم بالحزر والتخمين؛ لكي ما إذا تحاكموا إلى الموازين والمكاييل والمقاييس حكمت بينهم بالحق، وقضي الأمر، وانفصل الخطاب، وارتفع الخلف، فلما رأى الحكماء المنطقيون اختلاف العلماء في الأقاويل والحكم على المعلومات بالحزر والتخمين بالأوهام الكاذبة ومنازعتهم فيها وتكذيب بعضهم بعضا وادعاء كل واحد أن حكمه الحق وخصمه المبطل، ولم يجدوا لهم قاضيا من البشر يرضون بحكمه؛ لأن ذلك القاضي أيضا يكون أحد الخصوم فرأوا من الرأي الصواب والحكمة البالغة أن يستخرجوا بقرائح عقولهم ميزانا مستويا وقياسا صحيحا؛ ليكون قاضيا بينهم فيما يختلفون فيه لا يدخله الخلل، وإذا تحاكموا إليه قضى بالحق وحكم بالعدل، لا يحابي أحدا وهو القياس الذي يسمى البرهان المنطقي المماثل للبرهان الهندسي الذي يشبه البرهان العددي.
(3) فصل في القياس المنطقي
واعلم بأنه لما كان مقياس كل صناعة وميزان كل بضاعة متخذا من الأشياء التي تشاكلها من موضوعاتها؛ كالموازين التي يعرف بها الأثقال بصنجات لها ثقل وميزان المساحة الذي تعرف به أبعاد أشياء لها أبعاد، وهي الذراع والباب والأشل، ومثل المسطرة التي تعرف بها الأشياء المستوية؛ فهكذا قاس الذين استخرجوا البرهان المنطقي وقالوا: إن اختلاف العلماء فيما يدعون من الحق والباطل والصواب والخطأ الذي في ضمائرهم لا يتبين لنا إلا في أقاويلهم من الصدق والكذب، وإن الأقاويل الصادقة والكاذبة لا تعرف إلا بميزان وقياس يقاس بها ويوزن.
ولما كان الميزان أيضا لا يكون إلا من أشياء تجمع وتركب ضربا من التأليف حتى تصير ميزانا يمكن أن يوزن به ويقاس عليه، مثال ذلك الميزان الذي تعرف به الأثقال، فإنه مجموع من كفتين وعمود وخيوط وصنجات، فهكذا سلكوا في اتخاذ الميزان المنطقي الذي يسمى البرهان وبدءوا أولا فذكروا الأشياء التي منها يكون الميزان والموزون جميعا في قاطيغورياس، ثم ذكروا في بارامانياس كيف تركب وتؤلف تلك الأشياء حتى يكون منها ميزان ومقياس، ثم ذكروا في أنولوطيقا الأولى كيف يعتبر ذلك الميزان حتى لا يكون فيه الغبن والاعوجاج، ثم ذكروا كيفية الوزن به حتى يصح ولا يدخل الخلل في أنولوطيقا الثانية.
(4) فصل في أن الحكم على الأشياء بالعقل والحث على تحري الصواب
واعلم يا أخي بأن الإنسان قادر على أن يقول خلاف ما يعلم، ولكن لا يقدر أن يعلم خلاف ما يعقل؛ وذلك أنه يمكنه أن يقول: زيد قائم قاعد في حال واحدة، ولكن لا يمكنه أن يعلم ذلك؛ لأن عقله ينكره عليه، فلما كان هذا هكذا فلا ينبغي أن ينزل بالحكم على قول القائلين، ولكن على حكم العقول.
واعلم يا أخي بأن أهل كل صناعة يحرصون على حفظ أنفسهم من الخطأ والزلل في صناعتهم، وذلك أن أهل كل علم يتجنبون الخطأ ويتحرون الصواب والحق، ويجتهدون في ذلك، فينبغي لإخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، ومن يتعاطى منهم المنطق الفلسفي أن يحفظ أقاويله من التناقض من أولها إلى آخرها؛ فإن من المتكلمين من يحفظ أقاويله من التناقض في مجلس واحد أو عدة مجالس، ولكن قل من يحفظ كل أقاويله من أوائلها إلى أواخرها حتى لا يناقض بعضها بعضا.
مثال ذلك من قال في كتاب له: إن من شأن النفس أن تتبع مزاج البدن، ثم قال في كتاب آخر: إن النفس مزاج البدن، ثم قال في كتاب آخر لا أدري ما النفس، أو مثل من يعتقد بأن الله - عز وجل - خلق الخلق لينفعهم، ثم يقول ويعتقد بأنه لا يغفر لهم ولا يخرجهم من النار. ومثل من يعتقد بأن المكان جسم أو عرض حال في الجسم، ثم يعتقد أنه يبطل الجسم ويبقى المكان فارغا، ومثل من يقول: إن الجزء لا يتجزأ، ثم يعتقد بأن له ست جهات، وهو يشغل الحيز، وما شاكل ذلك من الأقاويل المتناقضة والآراء الفاسدة يعتقدها إنسان واحد في نفسه ثم يتعاطى مع هذا المنطق الفلسفي والبرهان الحقيقي.
واعلم يا أخي علما يقينا بأن أهل كل صناعة وعلم إذا لم يكن لهم أصل صحيح في صناعتهم منه يتفرع علمهم، وقياس مستو عليه يقاس ما يعملونه، مثل صناعة العدد كما بينا قبل؛ فإنه لا يمكنه أن يتحرز فيه من الخطأ، ولا أن يتجنب فيه من الباطل؛ لأن الأصل إذا كان خطأ فالفروع عليه تدور.
واعلم بأن من لا يحس بالتناقض في أقاويله، فكيف يوثق به في آرائه واعتقاده، وكيف يؤمن عليه أنه غير معتقد آراء متناقضة، ويكون فيها مخالفا لنفسه ولا يدري، وكيف يرجى منه الوفاق مع غيره وهو مخالف لنفسه ومناقض لاعتقاده وجاهل في معلوماته؟
(5) فصل أن المنطق أداة الفيلسوف
واعلم يا أخي بأن الحكماء المنطقيين إنما وضعوا القياس المنطقي واستخرجوا البرهان الصحيح؛ ليكون المتعاطي للمنطق يبتدئ أولا ويقيم البرهان من عند نفسه على اعتقاداته، فإذا صحت في نفسه تلك رام أن يصححها عند غيره، وقبل كل شيء تحتاج يا أخي أن تعلم كيف تحفظ أقاويلك من التناقض؛ فإنك إذا فعلت ذلك فقد أحكمت صناعة المنطق الفلسفي.
واعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة، وقد قيل: إنه أداة الفيلسوف، وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات؛ لأنه قيل في حد الفلسفة: إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
واعلم بأن معنى قولهم: طاقة الإنسان هو أن يجتهد الإنسان ويتحرز من الكذب في كلامه وأقاويله، ويتجنب من الباطل في اعتقاده، ومن الخطأ في معلوماته، ومن الرداءة في أخلاقه، ومن الشر في أفعاله، ومن الزلل في أعماله، ومن النقص في صناعته، هذا هو معنى قولهم: التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان؛ لأن الله - عز وجل - لا يقول إلا الصدق، ولا يفعل إلا الخير، فاجتهد يا أخي في التشبه به في هذه الأشياء؛ فلعلك توفق لذلك فتصلح أن تلقاه فإنه لا يصلح للقائه إلا المهذبون بالتأديب الشرعي والرياضات الفلسفية.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا أن نقدمه من هذه الرسالة بلفظ وجيز، عمدنا إلى الرسالة التي هي موضوعة للبرهان.
الرسالة الرابعة عشرة في معنى أنولوطيقا الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا من ذكر المقولات العشرة وكمية أنواعها وكيفية اقتراناتها وفنون نتائجها فيما تقدم؛ فنريد الآن أن نبين ما القياس البرهاني وكمية أنواعه وكيفية تأليفه واستعماله واستخراج نتائجه، ولكن نحتاج قبل ذلك كله أن نخبر أولا ما غرض الفلاسفة في استعمال القياس البرهاني.
واعلم يا أخي بأنه لما كانت طرق العلوم والمعارف والاستشعار والإحساس كثيرة، كما بينا بعضها في رسالة الحاس والمحسوس، وبعضها في رسالة العقل والمعقول، وبعضها في رسالة أجناس العلوم، وكانت الطرق التي سلكها الفلاسفة منها في التعاليم وطلبهم معرفة حقائق الأشياء أربعة أنواع، وهي التقسيم والتحليل والحدود والبرهان؛ احتجنا أن نذكر واحدا واحدا منها، ونبين كيفية المسلك فيها، وأن المعلومات كيف تعرف بها، ولم هي أربع طرق لا أقل ولا أكثر.
أما علة ذلك فإنه لما استبان واتضح في قاطيغورياس بطريق القسمة أن الموجودات كلها ليست تخلو أن تكون أجناسا وأنواعا وفصولا وأشخاصا؛ وجب ضرورة أن تكون طريق المعرفة بكل واحد منها غير الأخرى؛ بيان ذلك أنه بالقسمة تعرف حقيقة الأجناس من الأنواع، والأنواع من الأشخاص، وبالتحليل تعرف حقيقة الأشخاص؛ أعني: كل واحد منها من ماذا هو مركب، ومن أي الأشياء هو مؤلف، وإلى ماذا ينحل.
وبالحدود تعرف حقيقة الأنواع من أي الأجناس كل واحد منها، وبكم فصل يمتاز عن غيره، وبالبرهان تعرف حقيقة الأجناس التي هي أعيان كليات معقولات، كما سنبين بعد هذا الفصل، فنريد أن نشرح أولا طريق التحليل في هذا الفصل؛ إذ قد فرغنا من طريق القسمة في قاطيغورياس، ولعلة أخرى أيضا أن طريق التحليل أقرب إلى أفهام المتعلمين؛ لأنها طريق يعرف بها حقيقة الأشخاص، والأشخاص هي أمور جزئية محسوسة، كما سنبين بعد هذا الفصل.
وأما طريق الحدود وطريق البرهان فهما أدق وألطف وإنما يعرف بهما الأشياء المعقولة وهي الأنواع والأجناس.
(1) فصل في طريق التحليل والحدود والبرهان
واعلم بأن معنى قولنا: الشخص إنما هو إشارة إلى جملة مجموعة من أشياء شتى أو مؤلفة من أجزاء عدة منفردة متميزة عن غيرها من الموجودات، والأشخاص نوعان ، فمنها مجموع من أجزاء متشابهة مثل هذه السبيكة وهذا الحجر وهذه الخشبة وما شاكل ذلك من الأشخاص التي أجزاؤها كلها من جوهر واحد، ومنها أشخاص مجموعة من أجزاء مختلفة الجواهر، متغايرة الأعراض مثل هذا الجسد وهذه الشجرة وهذه المدينة وما شاكل ذلك من المجموعات من أشياء شتى، فإذا أردنا أن نعرف حقيقة شخص من هذه الأشخاص نظرنا أولا إلى الأشياء التي هي مركبة منها، ما هي، وبحثنا عن الأجزاء التي هي مؤلفة منها: كم هي.
واعلم يا أخي بأن الأشياء المركبة كثيرة الأنواع، لا يحصي عددها إلا الله - عز وجل - ولكن يجمعها كلها ثلاثة أجناس، إما أن تكون جسمانية طبيعية، أو جرمانية صناعية، أو نفسانية روحانية، فنريد أن نذكر من كل جنس منها مثالا واحدا؛ لكي ما يقاس عليه سائرها.
فمن الأشخاص الجسمانية الطبيعية جسد الإنسان، فإنه جملة مجموعة مؤلفة من أعضاء مختلفة الأشكال كالرأس واليدين والرجلين والرقبة والصدر وما شاكلها، وكل عضو منها أيضا مركب من أجزاء مختلفة الجواهر والأعراض كالعظم والعصب والعروق واللحم والجلد وما شاكلها، وكل واحد منها مكون من الأخلاط الأربعة، وكل واحد من الأخلاط له مزاج من الكيموس، والكيموس من صفو الغذاء، والغذاء من لب النبات، والنبات من لطائف الأركان، والأركان من الجسم المطلق بما يخصها من الأوصاف، والجسم مؤلف من الهيولى والصورة، وهما البسيطان الأولان والجسد هو المركب الأخير. وأما سائرها فبسائط ومركبات بالإضافة.
ومثال آخر من الجرمانية الصناعية، وهو قولنا: المدينة، فإنا نشير به إلى جملة من أسواق ومحال، وكل واحد منها جملة من منازل ودور وحوانيت، وكل واحد منها مؤلف ومركب من حيطان وسقوف، وكل واحد منها أيضا مركب من الجص والآجر والخشب وما شاكل ذلك، وكلها من الأركان، والأركان من الجسم والجسم من الهيولى والصورة.
ومثال آخر من الروحاني والنفساني، وهو قولنا: الغناء؛ إشارة إلى ألحان مؤتلفة، واللحن مؤلف من نغمات متناسبة وأبيات متزنة، والأبيات مؤلفة من المفاعيل، والمفاعيل من الأوتاد والأسباب، وكل واحد منهما أيضا مؤلف من حروف متحركات وسواكن ، وإنما يعرف هذه الأشياء صاحب العروض ومن ينظر في النسب الموسيقية، وعلى هذه المثالات يعتبر طريق التحليل حتى يتضح أن الأشياء المركبة من ماذا هي مركبة ومؤلفة، فعند ذلك يعرف حقيقتها.
وأما طريق الحدود فالغرض منها حقيقة الأنواع وكيفية المسلك فيه هو أن يشار إلى نوع من الأنواع ثم يبحث عن جنسه وكمية فصوله وتجمع كلها في أوجز الألفاظ ويعبر عنها عند السؤال؛ مثال ذلك: ما حد الإنسان؟ فيقال: حيوان ناطق مائت، فإن قيل: ما حد الحيوان؟ فيقال: جسم متحرك حساس، فإن قيل: ما حد الجسم؟ فيقال: جوهر مركب طويل عريض عميق، فإن قيل: ما حد الجوهر؟ فيقال: لا حد له، ولكن له رسم، وهو أن تقول: هو الموجود القائم بنفسه، القابل للصفات المتضادة، فإن قيل: ما الصفات المتضادة؟ فيقال: أعراض حالة في الجواهر لا كالجزء منها. فعلى هذا القياس يعتبر طريق الحدود، وقد أفردنا لها رسالة.
وأما طريق البرهان والغرض المطلوب فيه فهو معرفة الصور المقومة التي هي ذوات أعيان موجودة، والفرق بينها وبين الصور المتممة لها التي هي كلها صفات لها ونعوت وأحوال ترادفت عليها، وهي موصوفة بها، ولكن الحواس لا تميزها؛ لأنها مغمورة تحت هذه الأوصاف مغطاة بها، فمن أجل هذا احتيج إلى النظر الدقيق والبحث الشافي في معرفتها والتمييز بينها وبين ما يليق بها ويترادف عليها بطريق القياس والبرهان.
(2) فصل في ماهية القياس
واعلم يا أخي أنه لما كان أكثر معلومات الإنسان مكتسبا بطريق القياس، وكان القياس حكمه تارة يكون صوابا وتارة يكون خطأ؛ احتجنا أن نبين ما علة ذلك؛ لكي ما يتحرز من الخطأ عند استعمال القياس، فنقول:
القياس هو تأليف المقدمات، واستعماله هو استخراج نتائجها، ومقدمات القياس مأخوذة من المعلومات التي في أوائل العقول، وتلك المعلومات أيضا مأخوذة أوائلها من طرق الحواس - كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس كيفيتها.
(3) فصل في بيان حاجة الإنسان إلى استعمال القياس
اعلم يا أخي بأنه لما كانت الحواس تدرك أن الأشخاص مركبة من جواهر بسيطة في أماكن متباينة ، وأعراض جزئية ، في محال متميزة؛ عرفت بأنها أعيان غيريات موجودة فحسب، وأما كمياتها وكيفياتها فلم تعلم على الاستقصاء إلا بالقياسات الموضوعة المركبة، مثال ذلك أنه إذا علم الإنسان بالحواس أن بعض الأجسام ثقيلة أو كثيرة أو عظيمة؛ فإنه لا يمكنه أن يعلم كمية أثقالها إلا بالميزان ولا كثرتها إلا بالكيل ولا عظمها إلا بالذراع وما شاكل هذه، وهي كلها موازين ومقاييس يعلم الإنسان بها ما لا يمكنه أن يعلمه بالحزر والتخمين.
(4) فصل في وجوه الخطأ في القياس
واعلم يا أخي بأن الخطأ يدخل في القياس من وجوه ثلاثة؛ أحدها أن يكون المقياس معوجا ناقصا أو زائدا، والثاني أن يكون المستعمل للقياس جاهلا بكيفية استعماله، والثالث أن يكون القياس صحيحا والمستعمل عارفا ولكن يقصد فيغالط دغلا وغشا لمأرب له.
(5) فصل في كيفية دخول الخطأ من جهة المستعمل الجاهل
واعلم يا أخي بأن الإنسان مطبوع على استعمال القياس منذ الصبا كما هو مجبول على استعمال الحواس، وذلك أن الطفل إذا ترعرع واستوى وأخذ يتأمل المحسوسات ونظر إلى والديه وعرفهما حسا وميز بينهما وبين نفسه؛ أخذ عند ذلك باستعمال الظنون والتوهم والتخمين، فإذا رأى صبيا مثله وتأمله علم عند ذلك أن له والدين وإن لم يرهما حسا قياسا على نفسه، وهذا قياس صحيح لا خطأ فيه؛ لأنه استدلال بمشاهدة المعلول على إثبات العلة.
فإن كان له إخوة - وقد عرفهم بالحس - أخذ عند ذلك أيضا بالتوهم والظن والتخمين، بأن لذلك الصبي أيضا إخوة قياسا على نفسه، وهذا القياس يدخله الخطأ والصواب؛ لأنه استدلال بمشاهدة المعلول على إثبات أبناء جنسه، لا على إثبات علته.
وهكذا أيضا كلما رأى هذا الصبي امرأة ورجلا ظن وتوهم أن لهما ولدا وإن لم ير ولدهما قياسا على حكم والديه، وربما صدق هذا القياس حكمه وربما كذب؛ لأنه استدلال بمشاهدة أبناء جنس العلة على إثبات معلولاتها، وعلى هذا المثال يقيس الإنسان من الصبا كلما وجد حالا أو سببا لنفسه أو لأبويه أو لإخوته، ظن مثل ذلك وتوهم لسائر الصبيان ولآبائهم وإخوتهم قياسا على نفسه وأبويه وإخوته، حتى إنه كلما أصابه جوع أو عطش أو عري أو وجد حرا أو بردا أو أكل طعاما فاستلذه أو شرب شرابا فاستطابه، أو لبس لباسا فاستحسنه أو حزن على شيء فاته أو فرح بشيء وجده؛ ظن عندما يصيبه من هذه الأحوال شيء أن قد أصاب سائر الصبيان - الذين هم أبناء جنسه - مثل ذلك.
وعلى هذا المثال تجري سائر ظنونه وتوهمه في أحكام المحسوسات حتى ربما كان في دار والديه دابة أو متاع أو أثاث أو بئر ماؤها مالح؛ ظن وتوهم أن سائر دور الصبيان مثل ذلك حتى إذا بلغ وعقل وتفحص الأمور المحسوسة واعتبر أحوال الأشخاص الموجودة؛ عرف عند ذلك حقائق ما كان يظن ويتوهم في أيام الصبى، واستبان له شيء بعد شيء صوابا كان ظنه أو خطأ.
(6) فصل في بيان طريق الخطأ عند العقلاء وخطأ القياس عند الفلاسفة
واعلم يا أخي بأن على هذا المثال يجري سائر أحكام العقلاء وظنونهم وتوهمهم في الأشياء قبل البحث والكشف؛ وذلك أن أكثر الناس إذا رأوا في بلدهم ريحا أو مطرا أو حرا أو بردا أو ليلا أو نهارا أو شتاء أو صيفا؛ ظنوا وتوهموا بأن ذلك موجود في سائر البلدان قياسا على ما يجدون في بلدهم كما كانوا يظنون وهم صبيان في سائر بيوت الناس مثل ما كانوا يجدون في بيوت آبائهم حتى استبان لهم بعد التجربة حقيقة ما كانوا يتوهمون كما بينا قبل، فهكذا يجري حكم العقلاء من الناس في ظنونهم وتوهمهم في مثل هذه الأشياء التي تقدم ذكرها حتى إذا نظروا في العلوم الرياضية، وخاصة علم الهيئة استبان لهم عند ذلك حقيقة ما كانوا يظنون ويتوهمون صوابا كان أو خطأ.
واعلم يا أخي بأن الإنسان لا ينفك من هذه الظنون والأوهام، لا العقلاء المتيقنون ولا العلماء المرتاضون، ولا الحكماء المتفلسفون أيضا؛ وذلك أنا نجد كثيرا ممن يتعاطى الفلسفة والمعقولات والبراهين يظنون ويتوهمون أن الأرض في موضعها الخاص بها هي ثقيلة أيضا قياسا على ما وجدوا من ثقل أجزائها، أي جزء كان، فإذا كان هذا هكذا، فغير مأمون أن تكون سائر القياسات تجري هذا المجرى، وفي هذا ما يدل على ضعف القياس وفساده ودلالته، وهكذا يظن كثير منهم من يكون في مقابلة بلدهم من جانب الأرض أن قيامهم يكون منكوسا؛ قياسا على ما يجدون من حال من يكون واقفا تحت سطح وآخر هو قائم فوقه رجلاه في مقابلة رجليه.
وهكذا يظن كثير منهم أن خارج العالم فضاء بلا نهاية إما ملاء وإما خلاء؛ قياسا على ما يجدون من خارج دورهم من أماكن أخر وخارج بلدهم بلدانا أخر، وخارج عالمهم عالم الأفلاك، وهكذا يظنون أن الباري - عز وجل - خلق العالم في مكان وزمان قياسا على ما يجدون من أفعالهم وصنائعهم في مكان وزمان، ولهذه العلة ظن كثير منهم أن الباري - جل جلاله - جسم قياسا على ما شاهدوا؛ إذ لم يجدوا فاعلا إلا جسما ووجدوا الباري فاعلا وإذا ارتاضوا في العلوم الإلهية استبان لهم أن الأمر بخلاف ذلك - كما بينا في الرسالة الإلهية.
واعلم يا أخي بأن الإنسان لا يرتقي في درجات العلوم والمعارف رتبة إلا وتسنح له أمور يكون علمه بها قبل البيان والكشف كظنونه بالأشياء المحسوسات قبل معرفة حقائقها وهو طفل - كما بينا قبل.
(7) فصل في معقولات الحواس ونتائجها
واعلم يا أخي بأن نسبة المعلومات التي يدركها الإنسان بالحواس الخمس بالإضافة إلى ما ينتج عنها في أوائل العقول؛ كثيرة كنسبة الحروف المعجمة بالإضافة إلى ما يتركب عنها من الأسماء، ونسبة المعلومات التي هي في أوائل العقول بالإضافة إلى ما ينتج عنها بالبراهين والقياسات من العلوم؛ كثيرة كنسبة الأسماء إلى ما يتألف عنها في المقالات والخطب والمحاورات من الكلام واللغات. والدليل على صحة ما قلنا بأن المعلومات القياسية أكثر عددا من المعلومات التي هي في أوائل العقول ما ذكر في كتاب إقليدس، وذلك أنه يذكر في صدر كل مقالة مقدار عشر معلومات أقل أو أكثر مما هي في أوائل العقول، ثم يستخرج من نتائجها مائتي مسألة معلومات برهانية ، وهكذا حكم كتاب المجسطي، وأكثر كتب الفلسفة هكذا حكمها.
وإذ قد فرغنا من ذكر كيفية دخول الخطأ في القياس من جهة جهل المتعلمين؛ فنريد أن نذكر كيفية دخول الخطأ من جهة القياس واعوجاجه.
(8) فصل في كيفية اعوجاج القياس وكيف التحرز منه
واعلم يا أخي بأن الخطأ الذي يدخل في القياس من جهة اعوجاجه كثير الفنون كثرة يطول شرحها، ذكر ذلك في كتب المنطق، إلا أنا نريد أن نذكر في هذا الفصل شرائط القياس المستوي حسب؛ ليتحفظ بها ويقتصر على استعمال ما في البراهين، ويترك ما سواه من القياسات التي لا يؤمن فيها من الخطأ والزلل، فمن القياسات التي تخطئ وتصيب القياس على مجرى العادة بالأنموذج، وهو قياس الجزء على الكل.
واعلم يا أخي أن القياس الذي لا يدخله الخطأ والزلل هو الذي حفظ في تركيبه واستعماله الشرائط التي أوصى بها أرسطاطاليس تلاميذه، وهي هذه: ينبغي أن يؤخذ في كل علم وتعلم قياسي معنيان معلومان، مما هو في أوائل العقول وهي: هل هو، وما هو، وإنما أوصى هذا من أجل أنه لا يمكن أن يعلم مجهول بمجهول، ولا أن يقاس على شيء مجهول وشيء معلوم، فلا بد أن يؤخذ شيء معلوم مما هو في أوائل العقول، ثم يقاس عليه سائر ما يطلب بالبرهان.
والذي في أوائل العقول شيئان اثنان هويات الأشياء وماهياتها، وذلك أن هويات الأشياء تحصل في النفوس بطريق الحواس، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس، وإذا حصلت هويات المحسوسات في النفس بطريق الحواس، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز، سميت النفوس عند ذلك عاقلة، وإذا تأملت وأردت يا أخي أن تعرف ما العقل الإنساني، فليس هو شيئا سوى النفس الإنسانية التي صارت علامة بالفعل بعدما كانت علامة بالقوة، وإنما صارت علامة بالفعل بعدما حصل فيها صور هوية الأشياء بطريق الحواس وصور ماهيتها بطريق الفكر والروية.
(9) فصل في أساس القياس البرهاني
واعلم يا أخي بأن على هذين العلمين يبنى سائر القياسات البرهانية؛ أعني: هل هو، وما هو، مثال ذلك ما ذكر في كتاب إقليدس في أول المقالة الأولى تسع معلومات مما هو في أوائل العقول، ثم بتوسطها يبرهن على سائر المسائل، وهي قوله: إذا كانت أشياء متساوية لشيء واحد، فهي أيضا متساوية، وإن زيد على أشياء متساوية أشياء متساوية صارت كلها متساوية، وإن نقص منها متساوية كانت الباقية متساوية، وإن زيد على أشياء غير متساوية أشياء متساوية كانت كلها غير متساوية، وإن نقص منها أشياء متساوية كانت الباقية غير متساوية، وإن كان كل واحد مثلين لشيء واحد فهي متساوية، وإن كان كل واحد نصف الشيء، فهي أيضا متساوية، وإذا انطبقت مقاديرها ولم يفضل بعضها على بعض، فهي أيضا متساوية، والكل أكثر من جزء، فهذه الحكومات كلها مأخوذة من العلوم التي هي في أوائل العقول بالسوية لا يختلف العقلاء في شيء منها، ثم يقاس عليها ما هم مختلفون فيه.
(10) فصل في أوائل العقول وأوائل المعلومات
واعلم يا أخي بأن هذه الأشياء وأمثالها تسمى أوائل في العقول؛ لأن كل العقلاء يعلمونها ولا يختلفون فيها إذا تأملوها وأنعموا النظر فيها، وإنما اختلافاتهم تكون في الأشياء التي تعلم بطريق الاستدلال والمقاييس، وسبب اختلافهم فيها كثرة الطرق وفنون المقاييس وكيفية استعمالها، وشرح ذلك طويل قد ذكر في كتب المنطق وكتب الجدل، ونريد أن نبين كيف تحصل حقائق هذه المعلومات في أنفس العقلاء.
واعلم يا أخي بأن هذه المعلومات التي تسمى أوائل في العقول إنما تحصل في نفوس العقلاء باستقراء الأمور المحسوسة شيئا بعد شيء، وتصفحها جزءا بعد جزء، وتأملها شخصا بعد شخص، فإذا وجدوا منها أشخاصا كثيرة تشملها صفة واحدة حصلت في نفوسهم بهذا الاعتبار أن كل ما كان من جنس ذلك الشخص ومن جنس ذلك الجزء؛ هذا حكمه، وإن لم يكونوا يشاهدون جميع أجزاء ذلك الجنس، وأشخاص ذلك النوع، مثال ذلك أن الصبي إذا ترعرع واستوى وأخذ يتأمل أشخاص الحيوانات واحدا بعد واحد، فيجدها كلها تحس وتتحرك، فيعلم عند ذلك أن كل ما كان من جنسها هذا حكمه ، وهكذا إذا تأمل كل جزء من الماء أي جزء كان، فوجده رطبا سيالا، وكل جزء من النار فوجده حارا محرقا، وكل جزء من الأحجار فوجده صلبا يابسا؛ علم عند ذلك أن كل ما كان من ذلك الجنس فهذا حكمه، فبمثل هذا الاعتبار تحصل المعلومات في أوائل العقول بطريق الحواس.
واعلم يا أخي بأن مراتب العقلاء في مثل هذه الأشياء التي تحصل في النفوس بطريق الحواس متفاوتة في الدرجات؛ وذلك أن كل من كان منهم أنعم نظرا وأحسن تأملا وأجود تفكرا وألطف روية وأكثر اعتبارا؛ كانت الأشياء التي تعلم ببدائة العقول في نفوسهم أكثر مما في نفوس من يكون طول عمره ساهيا لاهيا مشغولا بالأكل والشرب واللهو واللذات والأمور الجسمانية.
واعلم يا أخي بأن أكثر ما يدخل الخطأ على المتأملين في حقائق الأشياء المحسوسة إذا حكموا على حقيقتها بحاسة واحدة، مثال ذلك من يرى السراب ويتأمله فيظن أنه غدران وأنهار، وإنما دخل الخطأ عليه؛ لأنه حكم على حقيقته بحاسة واحدة وليس كل الأشياء تعرف حقائقها بحاسة واحدة، ذلك أن بحاسة البصر لا يدرك إلا الألوان والأشكال وحقيقة الماء لا تعرف باللون واللمس والشكل بل بالذوق، وذلك أن كثيرا من الأجساد السيالة تشبه لون الماء مثل الخل المصعد والنفط الأبيض وما شاكلهما.
واعلم بأن لكل جنس من المحسوسات حاسة تعرف بها حقيقة ذلك الجنس، والأجسام السيالة يعرف فرق ما بينها وبين غيرها باللمس، وبعضها يعرف الفرق بينها بالذوق، وألوانها تعرف بالبصر فلا ينبغي للمتأمل أن يحكم على حقيقة شيء من المحسوسات إلا بتلك الحاسة المختصة بمعرفة حقيقة ذلك الجنس من المحسوسات، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس، ونرجع الآن إلى ما كنا فيه؛ فنقول:
وأما قوله: ينبغي أن يوضع في القياس البرهاني أولا شيء معلوم: هل هو، وما هو؛ ليعلم به شيء آخر، كما يفعل المهندس فيضع خط ![](../Images/figure83.png) ثم يعمل عليه مثلثا متساوي الأضلاع أو يقسمه بقسمين، أو يقيم عليه خطا آخر أو يعمل عليه زاوية وما شاكل ذلك، مما قد ذكر في كتاب إقليدس وغيره من كتب الهندسة، والمعلوم هل هو، وما هو، خط ![](../Images/figure84.png) أو المطلوب المجهول؛ ليعلم أو يعمل هو المثلث، فهكذا ينبغي أيضا أن يعمل في القياس البرهاني أن تؤخذ أولا أشياء مما هي معلومة في أوائل العقول، ويركب التأليف ضربا من التركيب، ثم يطلب بها أشياء مجهولة، ليس تعلم بأوائل العقول ولا تدرك بالحواس، وأما قوله: ولا ينبغي في البرهان أن يكون الشيء علة نفسه، فهذا بين في أوائل العقول؛ أي أن الشيء المعلول لا يكون علة نفسه، ولكن من أجل أن كثيرا ممن يتعاطى البرهان ربما جعل المعلول علة لنفسه وهو لا يشعر لطول الخطاب.
مثال ذلك من يتعاطى علم الطبيعيات إذا سئل ما علة كثرة الأمطار في بعض السنين، فيقول: كثرة الغيوم، فإن سئل: ما علة كثرة الغيوم، فيقول: كثرة البخارات المتصاعدة من البحار والآجام في الهواء، فإن سئل: ما علة كثرة البخارات المتصاعدة، فيقول - أو يظن - كثرة المدود وانصباب مياه الأنهار والأودية والسيول إلى البحار، فإن سئل: ما علة كثرة المياه والمدود والسيول إلى البحار، فيقول: كثرة الأمطار، فعلى هذا القياس يلزمه أن علة كثرة الأمطار هي كثرة الأمطار، فمن أجل هذا يحتاج صاحب البرهان أن يقول: إحدى العلل كيت وكيت، والثانية والثالثة والرابعة، ليسلم من الاعتراض؛ إذ قد تكون الغيوم كثيرة والأمطار قليلة؛ لأن لكل شيء معلول أربع علل - كما بينا في رسالة العلل والمعلولات.
(11) فصل في أن المعلول لا يوجد قبل العلة
وقوله: أن لا يكون المعلول قبل العلة، فهذا أيضا بين في أوائل العقول؛ لأن المعلول لا يكون قبل العلة، ولكن من أجل أنهما من جنس المضاف إنما يوجدان معا في الحس، وإن كانت العلة قبل المعلول بالعقل حتى ربما يشكل، فلا تتبين العلة من المعلول؛ مثال ذلك إذا سئل من يتعاطى علم الهيئة ما علة طول النهار في بلد دون بلد، فيقول: كون الشمس فوق الأرض هناك زمانا أطول، وإذا عكس هذه القضية وقيل: كل بلد يكون فيه مكث الشمس فوق الأرض أكثر ، فنهاره أطول؛ فتصدق فيخفى على كثير ممن ليست له رياضة بالتعاليم أيهما علة للآخر، أكون الشمس فوق الأرض لطول النهار أو طول النهار لكون الشمس فوق الأرض؟ وهكذا النار والدخان ربما يوجدان معا، وربما يوجد أحدهما قبل الآخر، وربما يستدل بالدخان على النار، وربما تجعل النار سببا لوجود الدخان فلا يدرى أيهما علة للآخر.
واعلم يا أخي بأن النار والدخان ليس أحدهما علة للآخر، بل علتهما الهيولانية هي الأجسام المستحيلة، وعلتهما الفاعلية هي الحرارة، وهما يختلفان في الصورة، وذلك أن الحرارة إذا فعلت في الأجسام المستحيلة فعلا تاما صارت نارا، وإن قصرت عن فعلها لرطوبة غالبة صارت دخانا وبخارا.
(12) فصل في قوله: وأن لا يستعمل في البرهان الأعراض الملازمة وأن علة الشيء من ذاتياته وكون المقدمة كلية
قوله: أن لا يستعمل في البرهان الأعراض الملازمة إنما هو؛ لأن الأعراض الملازمة لا تفارق الأشياء التي هي لازمة لها، كما أن العلة لا تفارق معلولها، وذلك أنه متى حكم على شيء بأنه معلول، فقد وجب أن له علة فاعلة له، والأعراض الملازمة، وإن كانت لا تفارق فليست هي فاعلة له، مثال ذلك أن الموت وإن كان لا يفارق القتل، فإنه ليس له بعلة، ولا القتل أيضا علة للموت ذاتية؛ إذ قد يكون موت كثير بلا قتل فلا يكون معلول بلا علة.
وأما قوله: وأن تكون العلة ذاتية للشيء فإنما قال هذا من أجل أنه قد يكون للشيء الواحد علل عرضية، ولكنها لا تكون مستمرة في جميع أنواع ذلك الجنس، ولا جميع أشخاص النوع؛ كالقتل الذي هو علة عرضية للموت غير مستمرة في جميع أنواعه، ولكن تحتاج أن تكون العلة ذاتية، حتى تكون القضية صادقة قبل العكس وبعده، كقولك: كل ذي لون فهو جسم، فإذا عكسته وقلت: وكل جسم فهو ذو لون؛ لأنه لا يوجد شيء ذو لون إلا وهو جسم، فإذن الجسم علة ذاتية لذي اللون.
وأما قوله: وأن تكون المقدمة كلية، فمن أجل أن المقدمات الجزئية لا تكون نتائجها ضرورية، ولكن ممكنة، كقولك: زيد كاتب وبعض الكتاب وزير، فيمكن أن يكون زيد وزيرا، وأما إذا قيل: كل كاتب فهو يقرأ وزيد كاتب، فإذن زيد بالضرورة قارئ.
(13) فصل في أن الحكم بالصفات الذاتية
وأما قوله: وأن يكون كون المحمول في الموضوع كونا أوليا فمن أجل أن المحمولات في الموضوعات على نوعين منها أوليات، ومنها ثوان، مثال ذلك كون ثلاث زوايا في كل مثلث كونا أولا؛ لأنها هي الصورة المقومة له، فأما أن تكون حادة أو قائمة أو منفرجة، فهو كون ثان، فقد استبان أنه لا يستعمل في القياس البرهاني إلا الصفات الذاتية الجوهرية، وهي الصورة المقومة للشيء، وبها يكون ذلك الحكم المطلوب الذي يخرج في النتيجة الصادقة.
واعلم يا أخي أن الصفات الذاتية الجوهرية ثلاثة أقسام جنسية ونوعية وشخصية، كما بينا في رسالة إيساغوجي، فأقول: واحكم حكما حتما كما تعلمه ولا تشك فيه بأن كل صفة جنسية فهي تصدق عند الوصف على جميع أنواع ذلك الجنس ضرورة، وهكذا أيضا كل صفة نوعية فهي تصدق على جميع أشخاص ذلك النوع عند الوصف لها، فهذه الصفات هي التي تخرج في النتيجة صادقة، فاستعملها في البرهان، واحكم بها.
وأما الصفات الشخصية فإنها ليس من الضرورة أن تصدق على جميع النوع، ولا كل صفة نوعية تصدق على جميع الجنس، فلا تستعملها في البرهان، ولا تحكم بها حكما حتما؛ فإنك لست منها على حكم يقين، فقد عرفت واستبان لك أن الحكماء والمتفلسفين ما وضعوا القياس البرهاني إلا ليعلموا به الأشياء التي لا تعلم إلا بالقياس، وهي الأشياء التي لا يمكن أن تعلم بالحس ولا بأوائل العقول، بل بطريق الاستدلال، وهو المسمى البرهان.
واعلم يا أخي بأن لكل صناعة أهلا، ولأهل كل صناعة أصولا في صناعتهم، هم متفقون عليها، وأوائل في علومهم لا يختلفون فيها؛ لأن أوائل كل صناعة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها في الترتيب.
(14) فصل في أن صناعة البرهان نوعان
واعلم بأن أوائل صناعة البرهان مأخوذة مما في بداية العقول، وأن التي في بداية العقول مأخوذة أوائلها من طريق الحواس - كما بينا قبل.
واعلم أن صناعة البرهان نوعان هندسية ومنطقية، فالأوائل التي في صناعة الهندسة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها مثل قول إقليدس: النقطة هي شيء لا جزء له، والخط طول بلا عرض، والسطح ما له طول وعرض، وما شاكل هذه من المصادرات المذكورة في أوائل المقالات، فهكذا أيضا حكم البراهين المنطقية؛ فإن أوائلها مأخوذة من صناعة قبلها، ولا بد للمتعلمين أن يصادروا عليها قبل البرهان، فمن ذلك قول صاحب المنطق: إن كل شيء موجود سوى الباري - جل جلاله - فهو إما جوهر وإما عرض، ومثل قوله: إن الجوهر هو القائم بنفسه، القابل للمتضادات، وإن العرض هو الذي