وأطلقت سامية ضحكة قصيرة جافة ثم مطت شفتيها الرفيعتين في امتعاض: التجارة بالدين لها سوق كبير أوي أكبر من سوق الفياجرا يا نوال، على العموم التجارة حلال، والوزراء بقوا من رجال الأعمال، مش أحسن من اللي بيسرقوا، وعندهم حصانة برلمانية؟! خدي الجورنال اقرئي عن السيد الوزير والسيدة الوزيرة، وطبعا عندهم حصانة وماحدش قفل الجمعية بتاعتهم، ولا حد عمل تحقيق معاهم، وشوفي حكاية نواب القروض وسرقات أعضاء مجلس الشعب واللي هربوا من أصحاب البلايين من غير ما حد يمسكهم في المطار، رغم أن ما حدش يقدر يخرج من المطار إذا كانوا عاوزين، و... ثم تمط شفتيها وتسكت.
حتى المجلات والصحف الحكومية أصبحت تنشر عن ظاهرة تهريب الأموال وفساد النظام السياسي في مصر. في مجلة روز اليوسف يوم 24 يونيو 2000 قرأت موضوعا كبيرا تحت عنوان «الشائعات صناعة رجال الأعمال»، جاء بالحرف الواحد: «انتشرت الشائعات عن الهروب وسوء الموقف إلى حد ينذر بزعزعة سوق المال.» ثم مانشيت كبير: «ديون رجال الأعمال للبنوك 7 مليارات فقط مشكوك في تحصيلها من إجمالي 240 مليار جنيه.»
وفي جريدة الأهالي، إحدى الصحف المعارضة، جاء في الصفحة الأولى يوم 28 يونيو 2000 هذا المانشيت الضخم: «القائمة السرية للقروض التي تواجه خطر الضياع، 25 مليار جنيه، ديون 37 رجل أعمال للبنوك، شركات وهمية، وقروض؛ نظير عمولات وشيكات وسماسرة لنهب الأموال، نواب القروض ليسوا وحدهم، والنظام المصرفي بلا ضوابط.»
أزمة الاقتصاد في مصر أصبحت حديث الساعة، أزمة السيولة وأزمة الركود، وانتشرت النكت والفكاهات حول القطط السمان والرءوس الكبيرة والحيتان، أصغرها بلقب وزير أو وزيرة أو نائب بمجلس الشعب أو الشورى.
الصديقات القديمات
أجلس إلى مكتبي الصغير في غرفة نومي، أطل على القاهرة من الدور السادس والعشرين، ترقد المدينة تحت سحابة من الضباب الأسود بلون الدخان، يبدو أول النهار كأول الليل. عدت إلى مصر بعد سنوات الغربة، أعيش الغربة داخل الوطن كالغربة خارجه، لم تعد السماء زرقاء صافية كما كانت، الهواء أصبح مشبعا بالدخان والهزيمة، نهر النيل أصبح حبيسا داخل مدينة من الأسمنت، ارتفعت الجدران السوداء وزحفت على كل شيء، لم تعد هناك شجرة واحدة خضراء ألمحها في مجال الرؤية.
نافذتي عالية أطل منها على نهر النيل، كانت له رائحة جدتي وطفولتي، الطمي الأسود بلون بشرتي. كنت أسبح في النيل مغمضة العينين، يدفعني التيار الهادئ، يهبط نحو الشمال مع الأشرعة البيضاء، وأجنحة حمائم السلام، والطيور المهاجرة من الشمال أو من الجنوب، مع حركة الشمس والقمر.
في مصر تنساب مياه النيل مع الأرض من الجنوب إلى البحر الأبيض، وقد تعاكسها الرياح الشمالية تبطئ حركتها. تمشي بجوار الشاطئ مع حركة الحمير والجاموس، والأقدام الحافية بلون الأرض، يذهبون إلى الحقول عند الفجر، يعودون مع الغروب، بيوتهم من الطين المحترق بالشمس، وجوههم بلون أقدامهم وأكثر سمرة، ضامرة ممصوصة، وأيديهم مشققة بالفأس.
تركت حي الجيزة الذي كنت أسكنه قبل أن أسافر إلى المنفى، قررت ألا أعود إليه، أركان شقتي في الجيزة تعشش فيها ذكريات سوداء، سنوات المطاردة والحبس، وجوه رجال البوليس تطل من الباب، فوهات البنادق مصوبة ناحيتي، رائحة الخيانة أشمها في كل ركن، تحت الابتسامات الناعمة ألمح آلة القتل، تحت اسم الحماية يمشي البودي جارد خلفي ويده فوق المسدس.
عدت من المنفى منذ عامين إلى هذه الشقة الصغيرة في حي قديم اسمه شبرا، يكتظ بالجوامع والكنائس. تبرز قبابها ومآذنها فوق أسطح البيوت الواطئة المتلاصقة. بحر أسود من الأسمنت بلا شجرة واحدة خضراء، يرتفع عند جبل المقطم ناحية الشرق، تعلوه قلعة محمد علي، قمم الأهرامات الثلاثة خوفو وخفرع ومنقرع تبرز من الضباب بلون الدخان ناحية الغرب، والنهر يمشي يشق طريقه بين الأسفلت، كالسهم الأبيض ينعكس عليه الضوء، ينقسم عند شبرا ليحتضن الجزيرة الصغيرة، اسمها وراق العرب، ثم يمشي رغم محطة الكهرباء الضخمة إلى القناطر الخيرية، يجتازها رغم السدود، وشبح السجن الأسود بنوافذه الصغيرة المسدودة بالقضبان الحديد.
Unknown page