252

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

عيناي مشدودتان إلى الماضي بحكم الحنين، رغم الجرح الدفين يبدو الماضي أجمل من الحاضر. والنيل كما كان يمشي إلى الإمام لا ينظر إلى الخلف، ينقسم إلى الفرعين الكبيرين، دمياط ورشيد، كالأم تفرد ذراعيها وتحتضن دلتا النيل، تشبه المروحة أو الكف المفتوحة الأصابع على البحر ، صدرها مفتوح لتلقي الضربات من الغرب فوق منارة الإسكندرية. واحترقت بورسعيد من الشرق تحت قنابل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وأمريكا من وراء الستار. لم تكن مياه النيل تتقهقر إلى الوراء، تمشي في طريقها، تفرغ شحنتها في جوف البحر، تلقي فيه نفسها كالفتاة العذراء تفضل الموت غرقا عن أن يغتصبها الإله.

من نافذتي أطل على المدينة كلها التي يسمونها القاهرة الكبرى، هي العاصمة منذ أكثر من ألف عام، عندها يختنق النيل بالدخان والجدران المسلحة، إنها القاهرة، وتقهر أهلها منذ الفراعنة، كما تقهر معبودها المقدس إله الفيضان، وترفع صيحاتها قبل الشروق عبر مكبرات الصوت المثبتة فوق المآذن، وأجراس الكنائس في حي شبرا تتبارى مع أصوات الرجال يؤذنون للصلاة خمس مرات في النهار، وفي الليل تعلو فوق التراتيل المقدسة طرقعة الصاجات في حفلات الزفاف مع دقات الطبول والغناء والرقص.

في طفولتي كنت أحب الغناء والرقص، وأجلس إلى جوار عمتي بهية، تتربع فوق الأرض الترابية، بين ساقيها تحتضن الطبلة، تنقر عليها بأصابعها السمراء المشققة، ينطلق اللحن الراقص، والقدم تدق الأرض مع الإيقاع. أقدام النساء كبيرة مثل قدم جدتي، بحجم قدم النبي المحفورة فوق الحجر الأسود، أقدام نساء يخرجن قبل الفجر حاملات الفئوس، يأكلن ما تزرعه أيديهن، يشربن من ماء النيل. جدتي أطولهن قامة، ورثت قامتها الفارعة عن أمها، لم تكن أجيرة عند أحد، زوجها مات قبل أن يسيطر عليها، العمدة كانت تقف أمامه مرفوعة الرأس، تشوح في وجهه بيديها الكبيرتين المشققتين، وفي الليل تغني مع النساء على إيقاع الطبلة: يا عزيز يا عزيز كبة تاخد الإنجليز.

في الخامسة من عمري سألتها «الإنجليز مين يا ستي الحاجة؟» تضحك حتى تدمع عيناها، تمسحهما بطرف جلبابها الواسع، وتحكي حكاية الإنجليز حين دخلوا مصر وهي طفلة، تمد عنقها القوي العضلات وتشمخ بأنفاسها وتقول: كنت عيلة صغيرة ألعب مع العيال، سمعنا أن الإنجليز دخلوا مصر، روحنا للعمدة كان عددنا عشرين أو تلاتين وكلنا عيال صبيان وبنات، وسألنا العمدة عاوزين إيه يا عيال؟ قلنا عاوزين نحارب الإنجليز يا عمدة. كان راجل كشر غلس وشه أحمر زي الإنجليز، شخط فينا، وقال: امشوا على بيوتكم يا ولاد المركوبة. حسيت إن جتتي ولعت نار، يقول على أمي المركوبة، أمي اللي عمر ما حد ركبها حتى جوزها ما عرفش يركبها، رحت ماسكة طوبة وزقلاها في عينه، طارت عينه الشمال، وأنا جريت على الدار ورايا العيال والغفر ورانا بالشوم، ضربوا العيال، فتحوا راس الواد عقلة الصباع، كان زي القرد، ياما فتحوا راسه وأمه تلطم وتقول مات لكن بعد يومين يقوم زي العفريت، وهو اللي فتن علي وقال إني أنا اللي رميت الطوبة في عين العمدة، وأبويا كان يخاف من العمدة، وقال لازم البنت نجوزها، ما فيش غير الجواز يشكمها ويا لا هوب مسكوني وجوزوني.

ورثت بشرة جدتي السمراء، والدماء في جسدي تشدني إليها، في أعماقي عشق لقوة ملامحها، كأنما منحوتة في الصخر، والنيل تسميه البحر، تنعكس عليه أشعة الشمس بلون الذهب السائل، أو الدم القاني المخلوط بالطمي. كانت جدتي جامحة كالنيل في عصره الأول حين كان يفيض ، ينحدر من منابعه العليا جموحا يجتاز الصخور والنتوءات الحجرية لا يجسر على ركوبه أحد، فإذا ترك الأرض العالية يفقد جموحه، يستطيع الناس الاقتراب منه، قد يضيق فلا يصبح سوى أذرع مسطحة، يجتازه الناس مع بهائمهم وسلالهم من الجريد المضفور أو القش المبروم، يبولون فيه دون حرج، يفقد إله الفيضان شموخه القديم، يمضي منحدرا إلى الوادي السهل، يبتلع في جوفه قمامة الصعيد والدلتا، وعظاما مفزعة من اللحم، جلود خراف مذبوحة ومسلوخة ثم منفوخة، يتعلق بها جسد فتاة صغيرة تسبح مع النهر جسدا إلى جسد، ترتج مع رجرجات الموجات كأنما في رقصة النفس الأخير.

أتطلع إلى وجوه النساء أبحث عن وجه جدتي، قسمات وجهها كانت أكثر حدة، قامتها أطول بحثا من هامات الرجال، رأسها في السماء كالشجرة، عيناها سوداوان، بريقهما خاطف كالبرق، نظرتها ثاقبة كالسهم تفلق الكون نصفين، تنطلق إلى الحقل كالشراع لا يوقفها شيء، وحيدة من غير حارس ولا زوج، وجهها ناحية الشمس رفيقها القمر في الليل، وأشجار النخيل على ضفاف النيل.

القلم في يدي يتحرك فوق الورق كأنما بقوة لا إرادية، أريد التوقف عن الكتابة دون جدوى، إنها الملاذ الوحيد أتمسك بها حتى النفس الأخير، لولا الكتابة لاندثرت منذ نصف قرن وراح اسمي في العدم كما راح اسم جدتي وأمي.

منذ طفولتي كنت أندهش كيف تروح أسماء النساء في العدم، أتلفت حولي أبحث عن أحد مندهش غيري فلا أجد. أمامي فوق المكتب صورة في الصفحة الأولى من جميع الصحف، كلمتان تحت الصورة، صاحب الجلالة، الملك أو الرئيس، أتلفت حولي وأندهش، كأنما الماضي يبعث حيا، ينهض من قبره الإله خادم فرعون، أو فرعون خادم الإله. وفي كل بلد أسافر إليه داخل الوطن العربي، أرى الصورة فوق الجدران، لا يكاد يخلو جدار من الصورة بالحجم الطبيعي، بالبدلة العسكرية أو بدلة الصلاة أو بدلة التشريفات، أو وشاح القضاء، أو الروب الجامعي، أو بدلة العمال أو الفلاحين إلا فئة النساء، لا يمكن للرجل أن يرتدي ملابسهن وإن تحدث باسمهن في الانتخابات وحصل على أصواتهن .

في رحلاتي داخل الوطن العربي أتلفت حولي وأندهش، أبحث عن أحد مندهش غيري فلا أجد، وأسأل الناس فيضحكون، يحكي أحدهم فكاهة أو حكاية. كثيرة هي الحكايات عن الحكام العرب، يختلفون ويتفقون، يتخاصمون ويتصالحون، يتغير الحلفاء إلى أعداء، وينقلب الأعداء أصدقاء. يجتمعون في حلقات هرمية يسمونها القمة، بعضهم يسلك الممشى المركزي ويطوف حول المحراب وصولا إلى البيت الأبيض في واشنطن، بعضهم يفضل الممشى الجانبي الأكثر ظلالا المفضي إلى الحظيرة حيث تحجز خراف الأضاحي، أما الخيول الجامحة فهي تحبس وراء القضبان، تسرح الغزلان والحملان في أي مكان دون خوف، وفي مواسم الانتخابات تطوف بهم العربات البوكس، تجمعهم للإدلاء بأصواتهم وأصواتهن، تتراوح ما بين 98,9٪ و99,9٪ أو شيئا من هذا القبيل.

أهبط الأدوار الستة والعشرين لأمشي على شاطئ النيل، ساعة ونصفا أمشيها كل صباح، عضلاتي قوية، بشرتي مشدودة إلا من خطوط خافتة تحت العينين، البريق الأسود داخل النني يطل كأنما من بؤرة لم تكشف عن نفسها بعد، لم يبق أمامي إلا عامان وأبلغ السبعين من العمر، ياه سبعين سنة؟! الرقم يرن في أذني مهولا؛ مع ذلك تبدو طفولتي قريبة، تزداد قربا مع التقدم في العمر، كأنما كنت بالأمس في العاشرة، ذكريات الطفولة تعود أقوى مما كانت، وسنوات الشباب حين كنت في العشرين أو الثلاثين تبدو الأمس.

Unknown page