ثمن الكتابة
هكذا جئت إلى الدنيا
حادث ختان
من الإسكندرية إلى منوف
الحلم
الحب الأول
العروسة والعريس
من نبوية موسى إلى مدرسة السنية
لقيط في دورة المياه
سنة أولى سياسة
مظاهرات البنات
هواجس الشك ويقين الإيمان
ألفة الموت
الحب والموت فوق منضدة واحدة
أوراقي ... حياتي
ثمن الكتابة
هكذا جئت إلى الدنيا
حادث ختان
من الإسكندرية إلى منوف
الحلم
الحب الأول
العروسة والعريس
من نبوية موسى إلى مدرسة السنية
لقيط في دورة المياه
سنة أولى سياسة
مظاهرات البنات
هواجس الشك ويقين الإيمان
ألفة الموت
الحب والموت فوق منضدة واحدة
أوراقي ... حياتي
أوراقي ... حياتي (الجزء الأول)
أوراقي ... حياتي (الجزء الأول)
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
هكذا جئت إلى الدنيا
منذ يناير 1993م، وأنا في هذا البيت الصغير المطل على غابة «ديوك»، كتل من شجر الأرز والصنبور والبلوط، الأشجار الطويلة الكثيفة، فيضان من الخضرة.
منظر غير مألوف لي، كلمة غابة في حد ذاتها غير مألوفة لأذن امرأة عاشت حياتها في مصر «وادي» النيل النهر الهادئ، تتناقص مياهه بلا فيض أو فيضان، الشريط الأخضر المنبسط من المزارع وسط الرمال، تتناقص مساحته، تزحف الصحراء والجدران الإسمنت.
كانت هناك شجرة أمام بيتي في الجيزة، كلمة «الجيزة» ترتبط في أذهان السياح (وعلماء المصريات) بصورة الهرم، وأبو الهول، ومقبرة توت عنخ أمون، والجمال يركبونها، أو الحمير يجرها أولاد البلد الظرفاء ذوو الوجوه الضامرة المحروقة بالشمس، والكعوب السوداء المشققة، ترمقها بانبهار عيونهم النهمة إلى التحديق فيما يسمى اختلاف الأجناس أو الثقافات. كنت أفتح النافذة، وأطل على هذه الشجرة الخضراء الوحيدة، عيناي تتجذبان إلى الخضرة، أتنفسها مع الهواء، يتحول اللون الأخضر في صدري إلى أكسجين.
قضيت طفولتي وصباي في الريف وسط الدلتا، بين قريتي «كفر طحلة» في محافظة القليوبية، وبلدة «منوف » في محافظة المنوفية، عيناي تعودتا رؤيا المزارع والحقول، صدري كان يتسع مع اتساع المساحات الخضراء أمام عيني.
فتحت نافذتي ذات يوم عام 1977م، لم أجد الشجرة الوحيدة اليتيمة، جاء «البلدوزر» فاجتثها من جذورها، أصبح جداران من الإسمنت يرتفعان حتى حجبا الشمس عن نافذتي.
فوق جدار ارتفعت مئذنة طويلة لجامع جديد تحوطها لمبات النيون، فوق الجدار الآخر ارتفعت لوحة «ماكدونالد» تعلوها أيضا دائرة متحركة من اللمبات النيون، في الطابق السفلي دائرة أخرى لشيء جديد اسمه «أنديسكوكلوب.»
كنت أغلق نافذتي بالزجاج والشيش ليل نهار، لكن الأصوات العالية مع الأضواء المتحركة تنفذ إلى جسدي، تختلط فيها رائحة «الهامبرجر» بدقات الديسكو بالتكبير وحي على الصلاة.
في ليالي الأرق المؤلمة فكرت، أهناك اتفاق بين «المؤذن» و«مكدونالد» على طرد النوم من عيني أو طردي من بيتي!
غابة «ديوك» مساحة من الأشجار الخضراء الباسقة، عيناي مشدودتان إلى الخضرة مثل الأرض الجافة تحن إلى الماء، الشمس تنفذ إلى نافذتي، وأنا جالسة أكتب، عامان قضيتهما في هذا المكان البعيد، يبعد عن مصر حوالي عشرة آلاف ميل، غابة «ديوك» هي جزء من الجامعة في تلك البلدة الصغيرة الشبيهة بالقرية، اسمها «ديرهام» في ولاية نورث كارولينا، على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلنطي.
أرفع رأسي من فوق الورقة، أترك القلم لحظة، لماذا أكتب سيرة حياتي اليوم؟ ألحنين إلى عمري الذي مضى؟ هل مضى؟! أم في العمر بقية؟ أتكون الكلمات هي الملاذ الأخير للإمساك بما فات قبل أن يفوت؟ تثبت الصور في الذاكرة قبل أن تتلاشى؟ مقاومة الفناء من أجل البقاء في الوجود أو الخلود؟
كلمة «الخلود» في طفولتي وصباي كان سحر الآلهة، اليوم لم يعد هناك سحر، الكلمة في حد ذاتها تبعث على الضجر، الاستمرار الدائم لأي شيء يؤدي إلى الملل، لولا الموت لأصبحت الحياة أمرا غير محتمل.
أهي محاولة كشف المخبوء في أعماق نفسي؟ تعرية المستور بالخوف من الله، أو الأب، أو الزوج، أو الأستاذ، أو الصديق، أو الصديقة من رفاق الزمالة أو الحب أو الوطن؟
من الطبيعي أن نغضب ونثور على من نكرههم، لكن إذا تحول الغضب أو الثورة إلى من نحبهم، فكيف تكون الكلمات المكتوبة؟
كلمة «الوطن» كنت أتغنى بها في طفولتي وشبابي، كيف تحولت إلى «سجن» أو «رجل بوليس» يطاردني في اليقظة والنوم، يضع فوق رأسه طربوشا أو طاقية أو عمامة أو قبعة، يتكلم اللغة الإنكليزية أو العربية الفصحى أو الدارجة أو الخليجية؟
كلمة «الحب»! كنت أنشدها مع البنات، لا نكف عن الغناء في ضوء القمر، فكيف تحولت إلى أربعة جدران سوداء داخل مطبخ في بيت آيل للسقوط «بيت الزوجية»؟ «الطب» أيضا كان مثل كلمة العلم والفن والأدب، أحلم بها مثل عصفورة تحلم بالطيران، كيف تحولت إلى ما يشبه السلاسل تشدني إلى الأرض أو تحت الأرض؟
منذ ولدت حتى بلغت الستين من عمري، وأنا أعيش في مصر، أحاول أن أتذكر يوم مولدي، لا أذكر شيئا سوى أنني ولدت «أنثى».
فسمعت من الناس أن الله هو الذي يخلق الأنثى والذكر، سمعت أنه قبل زمن طويل كانت البنت تدفن في القبر وهي طفلة، ثم نزلت آية في القرآن تقول:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت .
كان يمكن أن أكون ضمن هؤلاء الموءودات لو أنني ولدت في ذلك الزمان، هكذا سمعت من الناس وأنا في الرابعة من العمر.
الزمان الذي ولدت فيه كان أفضل، لم يكن يحدث شيء حين تولد الأنثى؛ فقد يصيب الناس الحزن، لكن الحزن أخف من الوأد؛ فقد ينطوي الحزن على رغبة مخبوءة في الوأد، إلا أنه يظل حزنا لا غير، يظل شيئا طافحا فوق الوجوه، لونا قاتما يخفي الشيء الكظيم.
في أول أيام الولادة لا تشهد المولودة هذا الحزن، عيناها المفتوحتان لأول مرة على العالم بريئتان صغيرتان عاجزتان عن رؤية المخبوء.
كنت أنا واحدة من هؤلاء البنات المولودات، لم أر المشهد بعيني رأسي، ضاعت الصورة الأصلية من ذاكرتي، أسترجعها عن طريق الخيال، أجمع في خيالي الكلمات التي سمعتها من جدتي وأنا في الخامسة من العمر لأرسم المشهد الحزين لأول مرة خرجت فيها من بطن أمي ... •••
أول خيوط الفجر تلك الليلة من أكتوبر، قبل أن تخرج الشمس إلى الأرض المحددة على الخريطة بنقطة صغيرة لا تراها العين، فوق الخط الرفيع كالشعرة يشق الصحراء من الجنوب إلى الشمال تحت اسم النيل، ومع الدقة الرابعة المتحشرجة كالنفس الأخير لساعة الحائط، انطلقت الصرخة من فوق السرير النحاسي الأصفر ذي الأعمدة الأربعة، صرخة واحدة لامرأة في المخاض، تبعها صمت طويل ثقيل كأنما ماتت الأم والمولود معا.
توقفت الأنفاس في حلوق الحشد المجتمع في الصالة الخارجية، عائلة شكري بيه سليلة المجد حتى طلعت باشا في إسطنبول، وعائلة السعداوي من «كفر طحلة» بالوجوه الكالحة المتربة، والأقدام الحافية المشققة، رائحة العرق والطين في الجلاليب البالية تختلط برائحة العطور الفرنسية في الفساتين الحريرية الهفهافة، والبدل الإفرنجية من الصوف الإنجليزي تفوح برائحة الويسكي أو الدخان المتصاعد من البايب.
توقفت أنفاسهم داخل الصالة الضيقة، وتوقفت معها أنفاس الفجر المترددة بين الإقبال والإدبار، وأنفاس الساعة المتهالكة العتيقة منذ الخديو إسماعيل، وقرص الشمس أيضا توقف وانحشر في بطن الأرض يرفض الخروج.
ربما تبدو هذه اللحظة بعيدة عن الواقع، لكن هذا ما حدث كما حكت لي جدتي الحاجة مبروكة أم أبي، وكنا نسميها «ستي الحاجة»، هي أيضا توقفت أنفاسها في حلقها حين دب الصمت بعد الصرخة الأولى والأخيرة، أطلت من الباب الموارب لترى الرأس الصغير محشورا في فرج الأم يرفض الخروج إلى الدنيا، رأس ناشف، عنيد، صلب، مثل الحجر، أسود بلون الليل، مستدير «مثل الكرة الأرضية»، متوقف في الفرج المتسع على شكل دائرة بحجم قرص شمس حمراء بلون الدم.
مع الصرخة القوية المنطلقة من بطن الأم خرج الرأس الأسود الصلب، توقف عند منتصف العنق مترددا بين الخروج والدخول، وهنا انقبضت من حوله عضلات الفرج حتى اختنق، لم يكن أمامه لإنقاذ نفسه إلا الاندفاع إلى الخارج.
خرج مثل الكرة، ملفوفا حول نفسه كالقنفذ، ذراعاه وساقاه مضمومة حول جسده، تلقفاه الكفان الكبيرتان بأصابعهما الطويلة المعروقة تفتح الفخذين بحركة أسرع من البرق، أصابع خشنة صلبة مثل المسامير الصدئة، مدربة في مهنة الدايات منذ الاحتلال التركي .
كانت الفخذان الصغيرتان مضمومتين بقوة خارقة للعادة، كأنما بينهما شيء يستوجب الخزي، لكن الأصابع الحديدية أبعدت الفخذ عن الأخرى، كأنهما فخذا دجاجة، لتكشف عما بينهما من خير أو شر، ولتكون أول من يطلق الزغرودة، إذا ما سقطت عيناها فوق القضيب، العضو الغالي المبجل شبه المقدس الممنوح للمذكر فحسب، أو تكون أول من تنكس الرأس بوجه كظيم، وتصمت صمت الموتى، إذا لم يكن هناك إلا الشق، الفرج التعيس الملعون منذ حواء.
لم تنطق الزغرودة من فم أم محمد الداية، ولم تفتح الأم الوالدة جفونها لترى ماذا ولدت، وكنت «أنا» بالمصادفة ذلك الشيء المولود، قلبته أم محمد الداية بين يديها، ممصمصة شفتيها في حسرة، ثم ألقت به داخل طشت الماء ليغرق.
لم تمتد أي يد من عائلة شكري بيه أو آل السعداوي لتنقذني، أغلب الظن أنهم اختفوا جميعا، وأصبحت حياتي بين يدي أم محمد، الداية المدربة منذ قرون على حل الأزمات والمصائب. لها قرون استشعار تفهم العيون دون الكلام، تعيش المولودة أو تموت، كله بإرادة الله، وهي على علاقة طيبة بالله.
لم تفتح أمي جفونها وتركتني داخل الطشت أرفس ... لا أعرف كيف تغلبت على الموت في اللحظات الأولى من حياتي، ربما هي إرادة شيطانية ركبتني، لم أكن أعرف حينئذ ما هو الشيطان، ثم عرفت في الخامسة من عمري أن اسمه إبليس، إنه الوحيد الذي امتلك القوة ليرفض أمر الله ويرفع راية العصيان.
ربما فتحت أمي نصف عين (بعد انصراف الداية أم محمد)، رأت بشرتي الزرقاء الداكنة السمرة مثل آل السعداوي الفلاحين، فأطبقت جفونها كأنما إلى الأبد، شفتاها انطبقتا مزمومتين بلون أزرق، الصمت أصبح ثقيلا أثقل من وزن الأرض، امتد من البيت الصغير إلى القرية كلها تحت جسر النيل، من القرية امتد إلى المدينة العاصمة، القاهرة لأهلها منذ عصر العبيد، المقهورة تحت بنادق الغزاة من الفراعنة حتى الاحتلال الإنجليزي عام 1882م، الواقعة أسفل جبل المقطم، أسفل الأهرامات ومقبرة فرعون، أسفل قدمي «أبي الهول» الإله الحجري الأكبر.
أغمضت الأم عينيها وتكورت حول نفسها كالجنين، تضم فخذيها السمينتين البيضاوين حول الفرج المفتوح النازف، لم تمتد ذراعيها لتضمني إلى صدرها، تركتني أرتجف إلى جوارها في السرير داخل خرقة بالية تلتف حول صدري وبطني حتى الاختناق، مددت ذراعي نحوها، والتفت أصابعي الخمسة حول يدها، فانقبضت أصابعها الخمسة حول يدي، ثم راحت أمي فيما يشبه النعاس أو حمى النفاس، عاد بها الألم والنزيف إلى ليلة الزفاف، تسير بخطوة ثقيلة بطيئة مع دقات الطبول، قدماها تتأرجحان فوق الكعب العالي المدبب، تتعثران في ذيل الثوب الطويل ذي الكرانيش والكشاكيش، الطبل يدق في أذنيها كالشواكيش ... فخذاها ترتجفان، تضمهما بقوة حول الفرج المنزوع الشعر والكرامة، عمرها خمسة عشر ربيعا، أخرجها أبوها من المدرسة بالقوة والعصا، عريسها يكبرها بستة عشر عاما، لم تره إلا من ظهره من وراء ثقوب الشيش، وجهها تحت مسحوق البودرة ابيض بلون الطباشير، تشوبه صفرة مرتعشة تحت أضواء الكهرباء، خداها عظامهما بارزة مصبوغان بلون أحمر مثل عرائس المولد، عيناها العسليتان يكسوهما بريق طفولي، يدور «النني» حول نفسه كالفأر في المصيدة يبحث عن ثقب للفرار، اسمها مطبوع فوق بطاقة الدعوة بحبر أسود:
الآنسة المهذبة زينب هانم شكري، كريمة صاحب العزة محمود بك شكري مدير القرعة العسكرية.
تزف إلى السيد أفندي السعداوي، المدرس بوزارة المعارف العمومية.
يقام حفل الزفاف في السابعة مساء 25 مارس 1929م، بفيلا شكري بك رقم 6 بشارع الزيتون، عزبة الزيتون، ضاحية مدينة القاهرة.
تسمرت ذاكرتها مع قدميها فوق عتبة غرفة النوم، كان هناك السرير النحاسي الأصفر بأعمدته الأربعة، ورجل عريض طويل منتصب مثل عمود السرير، لم تره من الوجه أبدا، من وراء شقوق الشيش، لم تكن ترى إلا قفاه، غليظا محلوقا بالموسى، ملفوفا بعمامة مثل الفقيه في المقابر يقرأ القرآن على أرواح الموتى، ويتلقى بعض الفطائر، ستكون بعد دقائق قليلة فوق السرير بين ذراعي هذا الرجل مغمضة تحبل بطفلها الأول دون أن تخلع ملابسها، دون أن تفتح عينيها، تلده بعد تسعة شهور كاملة، ثم تحبل من جديد قبل أن تفطم طفلها الأول، دون أن تخلع ملابسها أيضا ، في الظلمة الدامسة دون أن تدوس على النور أو تفتح عينيها لترى وجه الرجل الذي يمتطيها العام بعد العام.
وهكذا في ظلمة الليل حملت أمي عشر مرات، ولدت تسعة من الأطفال، أجهضت الحمل العاشر، قبل أن تبلغ الثلاثين من العمر، دون أن تعرف ذلك الشيء الذي اسمه لذة الجنس، ثم ماتت في ريعان الشباب ممسكة يدها في يدي، عيناها العسليتان الطفوليتان تتطلعان نحوي في اندهاش، تكتشف لأول مرة في حياتها أنها تمسك يدي، أصابعها الخمسة تلتف حول يدي كما التفت أصابعي الخمسة حول يدها وأنا أرقد بجوارها ليلة مولدي.
في المرآة أرى وجهي شاحبا طويلا يشبه وجه أمي حين ماتت، كانت في ريعان الشباب، وأنا تجاوزت الستين، ثلاثون عاما مرت من حياتي دون أن أدري، أجزاء من عمري سقطت في العدم، أحاول أن أستعديها، أن أشدها من براثن الماضي ... لحظات تريد الفرار والاختفاء بعيدا عن الذاكرة وأعين الناس، لحظات الألم واليأس والضعف والانحدار حين كنت أنسى اليوم والساعة والمكان الذي أنا فيه، أنسى اسمي واسم أمي وأبي ومسقط رأسي، لحظات الغضب تتملكني فأود الإقدام على جريمة قتل، أرى نفسي أمشي في الشارع بلا هدف، ألمح وجهي داخل مرآة أو زجاج، شاحب أسمر حزين، ينظر إلى الدنيا بعين سواء داكنة السواد مثل عين الليل.
كنت أغمض عين أحوال الهروب من وجهي، أستعيد وجه أمي حين كانت تضحك، لا أعرف كم كان عمري حين سمعتها تضحك لأول مرة، كانت لها ضحكة مميزة خاصة بها لا تشبه أي ضحكة في العالم، ترى في البيت تجاوز الجدران إلى الشارع إلى الكون كله، أسمعها وأنا أمشي في الطريق بجوار أبي، لها رنين في أذني عجيب مثل رنين الماء الرائق العذب المقطر داخل إبريق من الفضة أو البلور، أسمعها قبل أن أدخل إلى البيت، أنفلت من يد أبي وأجري إلى أمي تحملني فوق صدرها وتطعمني، رائحة أمي لا تزال في أنفي كأنما هي رائحة جسدي، ومعها رائحة اللبن الطازج والخبز الساخن والشوربة يتصاعد منها الدخان في الشتاء البارد.
رقدت أمي عامين اثنين في فراش المرض، في السرير النحاسي الأصفر ذي الأعمدة الأربعة الذي رقدت فوقه ليلة زفافها، الذي حبلت فيه بأطفالها، ثلاثة من الذكور وست من البنات، أحمل أمي من فراش الموت فوق صدري وأطعمها، لم يحملها فوق صدره أحد من الذكور.
في المرآة ألمح نفسي وأندهش، كيف مرت السنون وأصبحت أطعم الأم التي كانت تطعمني، في المرأة أرى الملعقة في يدي أقربها من فمها ورأسها فوق صدري كما كنت أضع رأسي فوق صدرها أهمس لها بأحلامي، هي التي تهمس هذه اللحظة بأحلامها، صوتها متقطع، أنفاسها خافتة، الكلمات مبتورة ممزقة، أرهف أذني، أستجمع حواسي كلها في حاسة واحدة هي السمع، أستمهل الزمن، أستوقف عقارب الساعة لتكمل أمي النطق، ألصق أذني بفمها، أستنطق الصمت، أساعدها على العثور على الكلمات كما كانت تعلمني الكلام، تفتح فمها تحاول النطق، لكن الكلمات تفلت منها، الزمن يفلت، كل شيء يفلت، يروح في العدم.
في المرآة أرى وجهي، والقلم في يدي أحركه فوق الورق، الساعة العاشرة صباحا، المكان هو مدينة ديرهام بأمريكا الشمالية، وجهي أصبح أكثر طولا، بشرتي أكثر سمرة وشحوبا، عيناي السوداوان أقل بريقا، في أعماقي لحظات تولد من العدم، أطرد بيدي شبح الموت كأنما هو ذبابة، ألمح فوق مكتبي مظروفا أبيض عليه اسمي: الدكتورة السعداوي، الأستاذة في جامعة «ديوك»، كلمة «ديوك» ترن في أذني غريبة، أغرب منها اسم «السعداوي»، من هو صاحب الاسم؟ قالت جدتي: إنه رجل مجهول الأصل، حملته مياه النيل من الحبشة أو الجنوب داخل قارب من القش أو الجريد، يشبه القارب الذي رقد فيه سيدنا موسى بعد أن ولدته أمه وتركته لمصيره يسبح مع مياه النيل.
كنت في السادسة من العمر حين كنت أجلس إلى جوار ستي الحاجة فوق عتبة الدار في قريتنا «كفر طحلة»، تفرش أمامها الحصيرة من فوقها الأرز أو القمح أو الغلة، تلتقط من بينها الحصى بأصابعها الكبيرة المشققة، كل من يمر أمامها في الطريق من الفلاحين أو الفلاحات يقول:
العواف يا أم السيد أفندي.
تمد ستي الحاجة عنقها القوي العضلات من طول حمل الزكائب أو زلع الماء، تشمخ بأنفها المرتفع حين تسمع كلمة «الأفندي»، ترد التحية مضاعفة:
يا اخويا، العوافين عليكي يا أختي.
ثم تعود إلى التنقية بأصابعها السمراء المحروقة بالشمس، تكمل حكاية السعداوي، الجد الأكبر لأبي، لم يكن يذكر من أهله في الحبشة أو الجنوب إلا أمه «حبشية».
أستمع إلى حكاية جدتي، فمي مفتوح، خيالي يسبح مع قارب القش أو الجريد فوق مياه النيل، صوتها يسري في أذني كأنما من عالم مسحور:
أمه كان اسمها حبشية، ماكانش له أب، تمام زي سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام، كان يحكي عن أمه حبشية كأنها ستنا مريم، شلاه يا ست، ويقول: أمي حبشية كانت من الأشراف في الحبشة، عندها الأملاك والعبيد ولا الملكة بلقيس في زمانها، وكان أهل الكفر يصدقونه إلا المرحومة أمي كانت تقول لي: «إذا كانت أمه حبشية من الأشراف بصحيح، ليه ربنا ماجابش سيرتها في القرآن؟ لازم أمه حبشية كانت جارية من الجواري أو واحدة من عبيد السلطات.» كانت المرحومة أمي تكره السعداوي كره العمى، وتقول: إنه «شيطان ابن شيطان»، عينيه في الليل تطق شرار، ويغيب طول الصيف ماحدش يعرف له قرار، وفي الشتا يرجع يرقد فوق الفرن، ويزعق على واحدة من نسوانه، كان يتجوز ويطلق، ويتجوز على كيفه، وما حدش يعرف عدد نساوينه، يدخل الدار ويخرج ولباسه على كتفه، وماكانشي يحفظ من القرآن إلا:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء .
وكان له ابن كشر غلس زيه تمام، اسمه حبش، سماه على اسم امه حبشية، وجوزه لواحدة من الكفر ماتت بعدما جابت له ولدين، وكنت أنا عيلة صغيرة ألعب مع العيال وبزازي ماطلعوش والعادة ماجاتنيش، ويالا هوب مسكوني وجوزوني حبش، وأنا أصرخ وأقول: يامه، انتي فين؟ لكن الولية اللي ماتتسماش، أم محمد، الداية الآرحة بنت الغازية مسكتني هي وأربعة من النساوين وكتفوني زي الفرخة، وخبوا رأسي بالطرحة وفتحوا فخادي عشان أم محمود تاخد وشي، وقريت الفاتحة على روحي، وقلت: أشهد أنا لا إله إلا الله ، محمد رسول الله.
شفت الموت، وأم محمود بتاخد وشي بصباعها زي المسمار يشق لحمي زي النار، والطبل بيدق في وداني زي الشواكيش وقلت لنفسي: خلاص يا بت يا مبروكة، روحك طلعت ودي جنازتك مش جوازتك، أي والله يا بنت ابني، الجوازة في بلدنا زي الجنازة بصحيح.
تتوقف ستي الحاجة عن الكلام وتضحك فجأة، وينتفض جسدها الطويل الضامر داخل الجلباب الأسود شهقات مكتومة متقطعة كالنسيج، تشد طرف الطرحة وتخفي فمها وأنفها تحاول أن تحبس الضحك حتى تختنق وتطفر الدموع من عينيها تمسحها بطرف طرحتها السوداء. •••
لم أكن أعرف في طفولتي إن كانت جدتي تضحك أم تبكي، أغلب الظن أنها كانت تضحك، عيناها بعد أن تمسحها تلمعان فجأة، يكسوهما بريق غريب، يعودها الضحك حتى تختنق مرة أخرى، تخفي فمها وأنفها بالطرحة السوداء، وتقول: «اللهم اجعله خير يا رب.»
تضحك من جديد وعيناها تغرقان في الدموع.
اسمي الرباعي في السجلات الرسمية: «نوال السيد حبش السعداوي»، سقط اسم «حبش» من شهادة ميلادي وشهاداتي المدرسية وبطاقتي الشخصية حتى نسيته تماما، لكنه ظل موجودا في سجلات السجون أو وزارة الداخلية، لم أكن أعرف ذلك حتى عام 1981م، حين أصبحت السجينة رقم 1536 في سجن النساء بالقناطر، وأنا في الخمسين من العمر، سألني الضابط فجأة عن اسمي الرباعي، فلم أذكر اسم حبش، بادرني الضباط بالاسم، أخرجه من دفتر قديم عتيق، كأنما يخرجه من القبر معه جثة جدي حبش الذي مات قبل أن أولد، وجثة أبيه السعداوي الرجل الغريب المجهول الذي انحفر اسمه فوق جسدي منذ ولدت، وفوق كراريسي في المدرسة، وشهادات نجاحي وتفوقي، وفوق أغلفة كتبي التي كتبتها بقلمي، بالعرق والدم في ليالي البرد والحر، في الليل والنهار على مدى أربعين عاما من عمري.
على مكتبي المظروف الأبيض عليه اسمي ولقبي: الدكتورة الأستاذة بجامعة ديوك، من هو «ديوك»؟ كان رجلا من أصحاب الملايين في أمريكا الشمالية، لحظة الموت اكتشف فجأة أنه لن يأخذ ماله إلى القبر، لاحت له الفكرة قبل أن يلفظ النفس الأخيرة أن يحفر اسمه فوق جدار أو تمثال، ويدفع من أجل ذلك كل ماله، لم يشأ أن يأخذ اسمه معه إلى العدم.
لكن اسم أمي ذهب معها إلى العدم، لم تكن تملك شيئا، أطفالها التسعة وأنا منهم كانوا من أملاك زوجها بحسب القانون وشرع الله، ولم أحمل اسم أمي، دفن اسمها مع جسمها في القبر، واندثرت في التاريخ.
منذ أمسكت القلم بين أصابعي وأنا أقاوم هذا التاريخ، أقاوم هذا التزييف في السجلات الرسمية، أود لو شطب اسم جدي وأضع مكانه اسم «زينب»، وهي التي علمتني الحروف: «أ، ب، ج، د» حتى «ه، و، ي»، تمسك يدي تحت يدها، وتجلعني أكتب اسمي من أربعة حروف: «ن و ل»، وأسمع صوتها مثل تغريد عصفورة: نوال ... يا نوال.
صوتها يناديني، فأنفلت من يد أبي، أجري إليها لتحملني فوق صدرها، الشمس ساطعة في سناء ديرهام الزرقاء، يسمونها هنا «كارولينا بلو»، تشبه زرقة السماء في قريتي «كفر طحلة» بدلتا النيل، رائحة الهواء تشبه نسمة القاهرة في الليل، لحظات الماضي تذوب في الحاضر، كلاهما لحظة واحدة ممدودة منذ أن ولدت، طفلة تحبو وتمشي فوق الأرض، جسمي يذكر رائحة التراب، ملمس الأرض فوق البحار آلاف الأميال، واجتازت المحيط الأطلسي حتى مدينة ديرهام، مضت الأعوام، أكثر من نصف قرن، لكن الرائحة تملأ أنفي، والضوء القوي يجعلني أغمض عيني، وصوت أمي يغزوني من جميع مسام جسدي، ومعه أشعة الشمس، أترك نفسي لطغيان هذا الضوء وهذا الصوت وهذه الرائحة.
يحملني الثلاثة معا إلى طفولتي الأولى حين كنت أجري مثل الفراشة بين المساحات الممدودة من الخضرة تحت سماء زرقاء، ثم تهبط الشمس وراء الأفق، تهبط برفق، السماء تشتعل بألوان حمراء برتقالية، كل شيء يتغير لحظة بعد لحظة، يزول اللونان الأحمر والبرتقالي، تصبح السحب رمادية، الهواء يبرد فوق ذراعي وساقي العارية، الأرض لا تزال تحتفظ بأثر قدمي فوق التراب، أرتعش بالبرد مع مجيء الظلام، لكن الأرض لا تزال دافئة تحت قدمي، جسمي يشعر بالتعب فأغمض عيني وأتمدد فوق الأرض وأنام، أفتح عيني، أرى النجوم وصوت ستي الحاجة لا يزال يحكي عن ليلة الدخلة، الدم المدبب، حملتها الحمارة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، أغرق الدم بردعة الحمارة وهي تسير من خلفها الطبول، في بيت العريس رقدت فوق الحصيرة تنكمش داخل جلبابها الجديد المزركش ببقع الدم، جاء العريس ناداها بصوت غليظ: قومي يا بت حضري العشا، تأخرت في النهوض، فانهالت عليها العصا الخيزران التي يقود بها حمارته. «قومي يا بت قامت قيامتك.»
كان هذا هو التقليد في القرية، لا بد للعريس أن يضرب عروسه ليلة الدخلة قبل أي شيء آخر، لتذوق طعم العصا قبل أن تذوق طعامه، لتعرف أن الله فوق وهو تحت، ليس هناك إلا الضرب إن لم تسمع الكلام.
تلك الليلة كانت ستي الحاجة في العاشرة من العمر، لم يدركها الحيض بعد، رقد حبش فوقها وهي تدس الطرحة في فمها تكتم الصراخ، لم يكن للعروس أن تصرخ وإلا لسعتها الخيزرانة، أو ألسنة الجيران، فلا يعود لها أو لأبيها وجه في القرية.
بعد بضعة أعوام، ثلاثة أو أربعة، كما حكت ستي الحاجة، ارتفع بطنها بالحمل، ثم ولدت أبي، تأكدت من العضو بين فخذيه قبل أن تطلق الزغرودة، صارعت حمى النفاس وغلبتها من شدة الفرح، بعد أن انقطع الدم توضأت وسجدت لله شكرا لأنه لم يخذلها ورزقها بالولد.
عاشت ستي الحاجة مع زوجها حبش ثمانية عشر عاما قبل أن يموت، لم يكن لديها سرير نحاسي له أعمدة أربعة، الحصيرة فوق الأرض التراب، حبلت فوقها خمس عشرة مرة، أربعة ذكور وإحدى عشرة بنتا، مات ثلاثة من أبنائها ولم يبق إلا أبي، مات ست من بناتها ولم يبق إلا عماتي الخمس: فاطمة وبهية ورقية وزينب، وأصغرهن نفيسة، كانت ترضع ثدي أمها حين مات أبوها حبش وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، مات بالبلهارسيا كأبيه، ينزف الدم مع البول، مرض الفلاحين منذ الفراعنة وعصور العبيد ... بلاء من عند الله كما كانت ستي الحاجة تقول: البلاء الأعظم في نظرها كانت الإحدى عشر بنتا، لم تمت منهن لسوء حظها إلا ست فقط.
تضم أصابعها الخمسة في قبضة قوية تهزها في عين العدو أو الشيطان: خمس بنات، كبة بنات.
حين ولدت ابنتها الحادية عشرة مات حبش من الكمد، حملوه إلى القبر داخل صندوق من الخشب يسمونه التابوت، لم تذرف عليه ستي الحاجة دمعة واحدة، انتظرت حتى توارى جسده في بطن الأرض، فنهضت سخنت صفيحة من الماء واغتسلت، سجدت لله شكرا لأنه خلصها من الزوج، أصبحت أرملة وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، ربطت رأسها بمنديل أسود وأقسمت ألا يقربها رجل حتى الموت، كانت قد كرهت جنس الرجال منذ ليلة الدخلة، بل من قبل ليلة الدخلة بأربع سنوات، وهي في السادسة من العمر، حين جاءت الداية أم محمود.
وتتلاشى صورة ستي الحاجة من ذاكرتي، صوتها يسري في أذني من بعيد كأنما من بطن الأرض: «كنت يادوب عرفت أمشي وأروح الغيط وألعب مع العيال لما جاءت الولية اللي ماتتسماش أم محمود الداية الآرحة بنت الغازية، ومسكتني وكتفتني زي الفرخة هي وأربع نساوين، وقالت لي: اسمعي يا بت يا مبروكة، أنا حأقطع لك ظنبورك عشان تبقي طاهرة ونظيفة ليلة الدخلة والعريس ما يقرفش منك، وعشان يا بت ما تجريش ورا الرجالة، ومسكت أم محمود الموسى وسنته على الحجر لما بقى حامي زي اللهلوب، وقلت: خلاص جالك الموت يا بت يا مبروكة، ورقدت فوق الحصير أنزف الدم زي الحنفية لغاية أمي اتشهدت وقرت الفاتحة على روحي ثلاث مرات، وبعد كام يوم ربنا خد بيدي وقمت زي العفريت، أصل البنات زي القطط بسبع أرواح يا بنت ابني، الولد روحه خفيفة والناس تحسده مش زي البنت، وكنت ألبس أبوكي جلاليب البنات عشان ماحدش يحسده، وأعلق في صدره خمسة وخميسة، وكل ليلة أبخره وأرقيه وأقرأ عليه سورة «يس».
وكنت أخبي له الأكل في الجورة جوه الحيطة، وأحلب له اللبن من بز الجاموسة، وأملأ له الصحن قشطة، وفي الفجر قبل ما الشمس تطلع أصحي البنات ونروح ع الغيط مع البهايم نشتغل لغاية الشمس ما تغيب، ونرجع شايلين الزكايب ، ويوم السبت أروح السوق أبيع اللي أقدر عليه، وأحط القرش على القرش لغاية ما يكون عندي في آخر السنة ثلاثة جنيه، ثلاثة كاملين، كل جنيه ينطح أخوه، أخبيهم في صدري لغاية ما يرجع ابني السيد، أناوله الثلاث ورقات صحاح وأقوله: خد يا ضنايا ثلاثة جنيه كاملين أهم، ادفع يا عين أمك تذكرة القطر من بنها لمصر، وادفع مصاريف المدرسة والكتب والكراريس وإيجار الأوضة في القلعة، واشتري لك يا ضنايا جزمة جديدة بدل القديمة المقطعة دي، أيوة أمال، كان لازم أبوكي يلبس جزمة جديدة، ويمشي رافع رأسه، ويدخل الأزهر ودار العلوم كمان، كان لازم يدخل أحسن مدرسة في مصر ويبقى أكبر رأس في البلد، ولا يمكن أبدا يكون فلاح زي أبوه، ولا يموت بالبلهارسيا، ويعيش ويتعلم ويبقى السيد أفندي على سن ورمح، والسيد بيه كمان زي شكري بيه، وليه، وهي البطن اللي ولدت شكري بيه مش زي بطنك يا بت يا مبروكة؟!
وحلفت اليمين وقلت: وحياة ربنا، وحياة النبي محمد، وحياة سيدنا الحسين، والإمام الشافعي، وستنا مريم، لازم ابنك يا مبروكة يا بنت الغزاوية يكون له نصيب في واحدة من بنات شكري بيه، ولا يمكن تموتي يا بت يا مبروكة قبل ما ترقصي في فرح ابنك وليلة دخلته على واحدة من بنات البهاوات أو البشاوات في مصر، وليه لا، ويعني هي البطن اللي ولدت البهوات والبشوات مش زي بطنك يا مبروكة؟»
صوت ستي الحاجة في ذاكرتي رغم مرور السنين، وقامتها الطويلة المديدة الشامخة وهي تمشي في الكفر، تدب على الأرض بقدميها الكبيرتين داخل البلغة الجديدة، وتدق بكفها الكبيرة المشققة المحروقة بالشمس باب العمدة وهي تصيح: «اطلع يا عمدة، كلمني، أنا مبروكة بنت الغزاوية، ورأسي برأس أكبر راجل في البلد.»
مهما حاولت، لا أتذكر ملامح آمنة «أم أمي»، كل ما أذكره منها العينين، بياض العينين كان رمادي اللون، سواد العين أو «النني» لم يكن موجودا! ... كنت أسأل أمي: أين راح «النني» في عين جدتي؟ هل اختفى تحت الجفن أم ذاب في بياض العين؟ كنت أظن أنها عمياء ، لكنها كانت ترى كل شيء وهي جالسة فوق الكنبة في الصالة الكبيرة، رأسها ملفوف بطرحة حريرية بيضاء، بين يديها سبحة صفراء، تتمتم بآيات القرآن، لا تكلم أحدا ولا أحد يكلمها إلا حينما يأتي الخادم يناديها لتتناول الطعام، أو ابنتها فهيمة «الأستاذة فهيمة شكري» حين تعود من العمل ساعة الظهر، تجلس إلى جوارها بضع لحظات، يدور بينهما حوار أشبه بالصمت: إزيك يا نينة النهاردة؟ - نحمده يا بنتي. - أيوة يا نينة نحمده. - نحمده على كل شيء يا فهيمة. - نحمده يا نينة، ولا يحمد على مكروه سواه. - أيوة يا بنتي، لا يحمد على مكروه سواه.
كنت أسمع هذه العبارة «لا يحمد على مكروه سواه» تتردد على لسان جدتي آمنة وخالتي فهيمة، كانت «طنط فهيمة» تدرس للبنات في مدرسة المعلمات، وأسألها: «مين اللي لا يحمد على مكروه سواه؟»
تتنهد طنط فهيمة تنهيدة طويلة، عيناها الجاحظتان من وراء النظارة البيضاء تزدادان جحوظا، وتقول بغضب: «حيكون مين يعني غير ربنا؟» ثم تنتفض واقفة كأنما لدغها عقرب متمتمة: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.» وتمشي فوق الأرض تدب بكعب حذائها الحديدي، تدق الأرض، تخرق الأرض بكعب حذائها، تنادي الخادم أو الخادمة بصوت حاد: «هات كباية مية يا ولد»، «هاتي الشبشب بتاعي يا بنت»، لا تكف من إعطاء الأوامر للخدم، صوتها في جميع أنحاء البيت، تتقمص شخصية أبيها «شكري بيه»، فإذا ظهر أبوها عند عتبة الباب الخارجي انخفض صوتها إلى حد الهمس، وانكمش جسمها إلى حد الاختفاء في غرفتها وإغلاق الباب.
بيت جدي كان فيللا من دورين في ضاحية الزيتون في مدينة القاهرة، تحوطه حديقة كبيرة لها سور عال، نصفه الأسفل حجر، والنصف الأعلى من الحديد على شكل أعمدة لها نهايات مدببة مثل السكاكين، نمت عليها أشجار «البوجانفيليا» بزهورها الحمراء والبنفسجية، وأشجار الياسمين ذات الزهور البيضاء الصغيرة الفواحة بعطر الياسمين، وأشجار الورد البلدي الأحمر والأبيض برائحتها القوية البنفسجية، وعباد الشمس، الزهور الصفراء الكبيرة، تتحرك أوراقها إذا لامسها شعاع الصبح، تدور معه ويدور حولها كما تدور الأرض حول الشمس. •••
كان هناك جرس معلق أعلى الباب الخارجي الحديدي، يصلصل بدقات عالية إذا انفتح الباب أو انغلق، مع الصلصلة ينطلق الكلب الوولف يجري نحو الباب في نباح حاد، العيون داخل البيت تتطلع من الذي جاء أو من الذي خرج.
حين يخرج جدي تتنفس جدتي آمنة الصعداء، تزحف قدماها داخل «البانتوفلي» الأسود من غرفة نومها إلى الصالة، رأسها ملفوف بالطرحة البيضاء، وجهها أبيض خال من الدم، عيناها رماديتان منطفئتان بلا قطرة ضوء، كالميت يخرج من القبر، تجلس في مكانها المعتاد فوق الكنبة بين يديها السبحة تتمتم بآيات من القرآن.
خالتي نعمات تفتح باب غرفتها وتخرج هي الأخرى شاحبة الوجه مثل أهل الكهف، جفونها متورمة كأنما تبكي طول الليل، ترمقني من بعيد بنظرات صفراء كأنما أنا السبب في تعاستها.
كنت في السادسة من عمري، لا أعرف معنى التعاسة، فوق جسدي أحسها مثل قشعريرة البرد، مثل ملمس الجدران الحجرية، رمادية اللون مثل عيني جدتي آمنة، مثل الصمت الذي يملأ هذا البيت، لا أسمع فيه إلا طرقعات الأوامر الصادرة إلى الخدم، أو قرقعة الريح تضرب النوافذ، أو نباح الكلب مع صلصلة الجرس.
حين تعود خالتي فهيمة من المدرسة تدب في البيت حركة، يدق حذاؤها الأرض، يرتفع صوتها وهي تتشاجر مع أختها نعمات، أختان شقيقتان من أم واحدة وأب واحد، لكن الواحدة منهما تختلف عن الأخرى في كل شيء، لا شيء يجمعهما إلا الكراهية، تتخاصمان فلا تنظر الواحدة إلى الأخرى، فإذا انتهى الخصام بدأ الشجار بلا سبب أو لأقل سبب، مجرد الهواء تحركه واحدة منهما حين تمشي بالقرب من الأخرى، أو ربما هي نظرة من بعيد صفراوية اللون ترشق بها نعمات أختها فهيمة.
طنط نعمات تبتلع على الريق كنكة من القهوة السادة السوداء، تربط رأسها بمنديل أسود، وتجلس على الكنبة الأخرى في مواجهة أمها، وتحملق حولها بالنظرات صفراء من بين الجفون المتورمة.
قد يصدف في هذه اللحظة أن تمر أختها فهيمة أمامها في طريقها إلى الصالة الداخلية، تسقط واحدة من هذه النظرات فوقها، فإذا بها تتوقف، قبل أن تتوقف تدب بكعب حذائها الأرض مثل الجندي في الجيش، تشد قامتها القصيرة وتنفر العروق في عنقها، تضع يدها في خصرها وعيناها جاحظتان من وراء النظارة. - بتبصيلي كدة ليه يا نعمات؟ مش عاجباكي؟ - أيوة مش عاجباني يا فهيمة. - ليه يا أختي؟ مش أحسن منك واللا إيه؟ - أحسن مني في إيه يا أم شنب يا عانس. - العانس أحسن من المطلقات يا نعمات. - فشر، ع الأقل لقيت حد يجوزني ويطلقني، لكن انتي يا حسرة لا حد بيجوزك ولا يطلقك.
وتخرج خالتي نعمات لسانها الطويل وهي تصحن قبضة يدها اليمنى في كفها الأيسر، ترشق أختها فهيمة بنظراتها مرددة: يا عانس! وتدق الأستاذة فهيمة شكري بكعب حذائها الأرض، ترفع ذراعها عاليا، يدها اليمنى مضمومة الأصابع إلا أصبع السبابة منتصب مدبب كالسهم في اتجاه أختها نعمات، يكاد يدخل في عينها، مرددة بصوتها الحاد: يا مطلقة ياللي مش لاقية حد يلمك. - يا عانس ياللي مش لاقية حد يجوزك.
لم أكن أعرف معنى كلمة مطلقة أو عانس، حين أسأل أمي تمط شفتيها وتقول: الاثنتان أسخم من بعض، كانت أمي في الرابعة والعشرين من عمرها، من حولها أطفالها الخمسة، بطنها مرتفع بالحمل السادس، تعد على أصابعها الأيام الباقية من الإجازة لتعود إلى بيتنا، كانت مثلي تكره هذا البيت وكل من فيه حتى أمها، تلك الصامتة طول الوقت، الغائبة في عالم آخر من التمتمات والتسبيحات، لا شيء يعيدها إلى عالمنا إلا صلصلة الجرس، صلصلة معينة غير الصلصلات الأخرى، تعرفها بأذنيها وإن كانت غائبة في الملكوت الآخر.
تنتصب أذناها في انتباه مفاجئ كالقطة تعرف أنه زوجها «شكري بيه» الذي فتح الباب، تسمع وقع قدميه فوق الممر الحجري بين الباب والسلم، خطوته البطيئة يدوس بكل قدمه على الأرض، قصير القامة نحيف الجسم، داخل بدلة من الصوف الداكن، ياقة القميص بيضاء منشاة، تحوطها ربطة عنق من الحرير اللامع، رأسه كبير بالنسبة لجسمه داخل طربوشه الأحمر يميل قليلا ناحية أذنه اليمين، وتطل من تحته شعره الأبيض كبير الحجم، الأنف أبرز ملامح الوجه، كبير له غضروف مقوس قليلا، تحت الأنف شارب طويل غزير الشعر، أبيض اللون، يمتد فوق الصدغ، يكاد يصل إلى طرف الأذن، كنت أقف في الصالة أرقب جدي وهو يصعد السلالم الرخامية العريضة، يضع قدمه على درجة السلم رافعا رأسه، عنقه يلتوي قليلا إلى الوراء مثل عنق الديك الرومي، طربوشه أحمر بلون عرف الديك، يتنحنح بصوت عال معلنا عن حضوره، يدق بلاط الفرندة بعصاه السوداء من خشب الأبنوس، ثم يدخل الصالة وهو يرد بصوت خشن وقور: يا إلهي، أنت جاهي.
كانت فهيمة ونعمات قد اختفت كل منهما داخل غرفتها وأغلقت الباب، جدتي آمنة ترمقهما بنوع من الحسد، لم يكن لها غرفة مستقلة تغلقها على نفسها، ولا بد أن تنهض لتستقبل هذا الرجل الغريب الذي يشاركها السرير منذ خمسة وثلاثين عاما.
كانت جدتي آمنة في الرابعة والأربعين من عمرها، لكنها تبدو في السبعين داخل جسمها المنكمش، وبشرتها الخالية من الدم المليئة بالكرانيش، وساقيها المتورمتين داخل جورب سميك من الصوف، وملامح وجهها المتهدلة، جفونها الساقطة فوق عينين رماديتين وغاب عنهما «النني» ولم يبق منهما إلا ماء متجمد.
كنت أسأل أمي: ما الذي حدث لجدتي آمنة حتى تفقد سواد عينيها؟ تضع أمي يدها فوق فمي، تكتم السؤال، تهمس في أذني لأسكت، إن جدي في البيت، وحين يكون في البيت فالكل يسكت، دون أن تنطق أمي عرفت كل شيء، المعرفة كانت تسري في جسدي على شكل القشعريرة، عرفت أنه جدي، وأن جدي هو زوج جدتي، وتزوجها وهي في الرابعة عشرة، وأنجب منها ستة من الأولاد والبنات: (نعمات وفهيمة وزينب وهانم ويحيى وزكريا)، كان يكبرها بثمانية عشر عاما، ولم يجمعهما شيء إلا ورقة «الجواز». «الجواز»: كلمة غامضة تحوطها الأسرار، ما إن ترن في الجو حتى يشحب وجه خالتي نعمات، تمط خالتي فهيمة شفتيها في ازدراء، تطفو فوق ملامح أمي سحابة شفقة من الحزن الغامض، أما جدتي آمنة فهي تكف عن التمتمة، تتوقف حركة السبحة الصفراء بين يديها، عيناها الرماديتان تتجمدان ، يتعكر لونهما مثل ماء البركة الراد، يصبح قاتما معتما لا يطل منه بصيص ضوء، أسمعها تهمس: «نحمده، ولا يحمد على مكروه سواه»، ترد عليها خالتي فهيمة من فوق الكنبة الأخرى قائلة: «أيوة يا نينة، نحمده على كل شيء»، من غرفتها أسمع خالتي نعمات تتنهد وتقول: «النصيب والمقدر والمكتوب على الجبين، كله من عند ربنا، نحمده.»
بدأت أدرك أن ضمير الغائب في كلمة «نحمده» يعود إلى «ربنا»، وأن جميع المصائب في هذا البيت جاءت من عند «ربنا»، لم أكن أعرف معنى كلمة «ربنا»، لكنها ارتبطت في ذهني بكلمة أخرى هي «المصائب»، وهذه الكلمة ارتبطت بكلمة أخرى هي «الجواز»، منذ السادسة من عمري وأنا أحفظ هذه الكلمات الثلاث عن ظهر قلب في عبارة واحدة: «ربنا، المصائب، الجواز.»
بعد تسعة أشهر من ليلة زفافها ولدت أمي طفلها الأول، لم أكن أنا جئت إلى الدنيا بعد، سمعت ستي الحاجة تقول: إن أبواب السماء كانت مفتوحة حين رفعت يديها ودعت ربنا أن يرزق ابنها «السيد أفندي» بولد يرفع رأس أبيه في الدنيا والآخرة وتسميه «محمد» على اسم النبي محمد
صلى الله عليه وسلم .
تقبل الله دعوة ستي الحاجة وجاء أخي الأكبر، بشرته بيضاء مثل بشرة امه وأهلها من عائلة شكري بيه، كانوا جميعا نساء ورجالا من ذوي البشرة البيضاء مثل الأتراك، عيونهم عسلية، الأنف روماني يتسق مع ملامح الوجه البيضاوي، عيب واحد موروث عن أسلاف شكري بيه، الأسنان الأمامية الكبيرة التي كانت تسميها عمتي رقية «الضب»، أسمعها تهمس حين تغضب على أمي قائلة عنها: «أم ضب»، لم تكن أمي تسمعها طبعا، وتنهرها ستي الحاجة: «عيب يا بت رقية، دي مرات أخوكي السيد أفندي.»
أصبح أخي الأكبر المدلل لدى عائلة أمي وأبي، الكل يقول عنه طفل جميل، ورث ملامح أخواله، لكن جدتي الحاجة مبروكة لم تكن تبتهج بهذه الملامح، كانت تريد لحفيدها الأول أن يرث البشرة السمراء الملوحة بالشمس علامة الرجولة، والعينين السوداوين ذات البريق، يشع مثل قطعة من الحجر الأسود الكريم في الحرم الشريف، أطلقت عليه اسم «محمد» على اسم النبي، شكري بيه أراد أن يسميه على اسم جده الأكبر طلعت باشا الذي دفن في مقبرة بإسطنبول. «مالنا ومال الراجل التركي الغريب دا؟ لازم نسميه على اسم النبي بتاعنا يا ابني»، همست الحاجة مبروكة في أذن ابنها السيد أفندي، لم يشأ السيد أفندي أن يغضب أمه، ولا أن يغضب حماه، فكتب اسم أخي الأكبر في شهادة الميلاد: «محمد طلعت»، اسم مركب من اسمين، كان شائعا في المملكة المصرية رغم سقوط الإمبراطورية العثمانية، كانت الطبقة البرجوازية في مصر لا تزال تتجه في أحلامها نحو الآستانة وأسلافها من الأتراك، عائلة شكري بيه رغم إفلاسها مع الأزمة العالمية (وانهيار البورصات وأسعار القطن) تتمسك ببعض أمجاد الماضي ومظاهر الطبقة العليا المنحدرة إلى الطبقة الوسطى.
عائلة السعداوي تتطلع إلى المستقبلة والصعود من طبقة الفلاحين الفقراء إلى طبقة الموظفين في الحكومة، أبي هو أول رجل في القرية يحصل على الشهادة العليا من دار العلوم، أول من يخلع الجلباب أو الجبة والقفطان ويرتدي البدلة والكرافتة والطربوش، وأصبح أهل الكفر ينادون ستي الحاجة: أم السيد أفندي.
حين حصل أبي على وظيفة «مفتش للتعليم» في محافظة المنوفية، منحته أمه لقب «السيد بيه»، وأصبح أهل القرية ينادونها: «أم البيه»، تجلس على عتبة دارها داخل جلبابها الحريري الأسود، شامخة برأسها داخل الطرحة الشفافة من الشيفون الأسود، تفرق ساقيها أمامها ليرى الناس البلغة الجلدية في قدميها، بلغة من الجلد الحقيقي اشتراها لها ابنه «السيد بيه» في العيد الكبير، ومعها الجلباب من الحرير الطبيعي، والطرحة من الشيفون.
كل من يمر بها وهي جالسة يحييها قائلا: العواف يا أم البيه.
كلمة «العواف» تعني العافية والصحة، كنت أجلس إلى جوار ستي الحاجة فوق عتبة الدار، عمتي فاطمة تحمل الكرسي الخيزران من قاعة المندرة تقدمه لي لأجلس عليه وهي تقول: «بنت السيد بيه مش ممكن تقعد على الأرض زي الفلاحين.»
ولدتني أمي بعد مولد أخي بعام واحد، كنت أسمع ستي الحاجة تقول: خرجت واقفة على حيلك زي الشياطين، وسألت أمي فقالت إنها ولدتني بسهولة دون ألم ، ولادة أخي الأكبر كانت عسيرة، لم يشأ أن يخرج من الرحم بسرعة، كان يستعذب الراحة والدفء في بطن أمه، حين تغضب عليه عمتي رقية تقول إنه ابن أمه، حين تغضب خالتي نعمات علي تقول: إنني بنت الفلاحين، وأطلقت علي اسم: «جارية ورور» على اسم جارية من عبيد جدها الأكبر في إسطنبول.
ترمقني ستي الحاجة في صمت، بشرتي السمراء كأنما لوحتها شمس داخل الرحم، العينان سوداوان تشعان البريق قطعة من الحجر الكريم في الحرم الشريف، تخفي ستي الحاجة فمها بالطرحة السوداء وتهمس في أذن ابنتها رقية: «كلها شبه أبوها»، ثم تمصمص شفتيها في حسرة قائلة: «يا ريتها كانت ولد!»
وترفع عمتي رقية كفيها نحو السماء تدعو الله أن يقلبني ولدا، أسمعها تقول: «ربنا قادر على كل شيء»، وترد عليها ستي الحاجة: «من بقك لباب السما يا بنتي.»
كنت أتطلع نحو السماء بعينين مشدوهتين، أخشى أن يكون باب السماء مفتوحا وأن الدعوة سوف تنطلق من فم عمتي مباشرة إلى أذن الله، وأنني سأصحو في الصباح لأجد الشق (أو الفرج) بين فخذي مسدودا، وقد نبت مكانه العضو الذي عند أخي.
في الصباح أدخل الحمام أختلس النظر إلى جسدي، لا أستطيع النظر بين ساقي، أخشى أن تتسع المسافة بينهما أكثر من اللازم، لا أقوى على النظر إلى تلك المنطقة المحرمة المحوطة بالخزي والخوف والخشية من قدرة الله.
كنت في السادسة من العمر، لا أستطيع التأكد من قدرة الله، عيناي تختلسان النظر إلى حيث تصورت أن قدرة الله يمكن أن تحدث، لم أكن أرى شيئا إلى تلك المنطقة المختفية بين الفخذين في العمق، تتراءى لي من وراء الخوف والخزي كالضباب الكثيف، لا أقوى على أن أمد بصري إليها، فما بال أن أمد يدي لألمسها أو فحصها لأتأكد من قدرة الله.
في أعماقي العميقة كنت أتمنى ألا يملك الله القدرة ليقلبني ذكرا مثل أخي، لم أكن أحب أخي، كان يبدو كبيرا جدا، يضربني على يدي ويشد مني العروسة، يخلع عنها ثوبها الحرير الأبيض، يخلع قميصها الداخلي وسروالها الصغير المشغول بالدانتيلا، يخلع عنها كل شيء حتى تصبح عارية تماما، يفتح ساقيها كأنما يبحث عن شيء، لم يكن هناك شيء، يخلع عنها ساقيها وذراعيها ورأسها وعنقها، تصبح العروسة أشلاء ممزقة، حين يرى الدموع يضحك ساخرا ويقول: «يا عبيطة، دي عروسة مش بني آدم!»
في العيد كان أبي يشتري لي العرائس لألعب بها، يشتري لأخي طيارة لها زنبلك أو سفينة لها شراع، أو مسدسا يطرقع به فينطلق الشرار، كنت أكره تلك الدمى الصامتة الميتة التي لا تتحرك من مكانها كما تتحرك السفينة أو الطائرة، ولا يصدر عنها أي صوت أو ضوء مثل المسدس، وحين أمسك المسدس تشده خالتي نعمات من يدي، تمط شفتيها وهي تقول: «البنات الحلوين يلعبوا بالعرايس مش بالمسدسات زي الصبيان.»
خالتي نعمات قصيرة بدينة الجسم، صدرها كبير ممتلئ باللحم، ساقاها بيضاوان سمينتان عاريتان تحت الفستان القصير حتى الركبتين، وجهها مستدير أبيض تفوح منه رائحة البودرة أو العطر أو الروج الأحمر، تمضغ بين أسنانها لبانة كبيرة تخرجها أحيانا على طرف شفتيها تمطها أو تنفخها، ثم تلويها بطرف لسانها إلى داخل فمها، تلوكها من جديد بين فكيها، وهي جالسة فوق الكرسي العالي ممدودة الساقين، قدماها داخل طشت من الماء الدافئ، أظافرها حمراء مصبوغة بالمانيكير، ناعمة بضة، تدلكها عمتي رقية الجالسة فوق الأرض، بأصابعها الكبيرة المحروقة بالشمس مشققة بلون الأرض، تدلك الأصابيع الناعمة البضة وهي تقول: «صوابعك يا نعمات هانم حلوين ومدملكين، الله يجحمه الراجل الحمار اللي اسمه محمد الشامي.»
تمصمص طنط نعمات شفتيها بحسرة وتقول: «النصيب، والمكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين، من يوم ما اتولدت ربنا كاتب علي الشقا، حظي مهبب والعياذ بالله، ربنا رزقني بمحمد أفندي الشامي، لا دخل علي ولا حاجة، يدوبك كتب الكتاب، وليلة الدخلة لا دخلة ولا يحزنون، وجتني ورقة الطلاق في البوستة.»
تتوقف أصابع عمتي رقية داخل الطشت، ترفع عينيها الذابلتين نحو طنط نعمات وهي تشهق: «يا خبر يا نعمات هانم! يعني انتي لسة بنت بنوت؟ ربنا يجحمه مطرح ما راح، وكله يتعوض يا نعمات هانم، كله من عند ربنا، وبكره ربنا يرزقك بعريس يسوا عمر محمد الشامي وعمر اللي خلفوه كمان.»
تخرج طنط نعمات من صدرها منديلا حريريا أبيض، تمسح الدموع في عينيها، تخفي وجهها وراء المنديل حتى لا أرى دموعها، وتمسح عمتي رقية عينيها بطرف طرحتها السوداء، تخفي فمها وراء الطرحة وتهمس: «عشت مع متعوس الرجا أربعتاشر سنة، وراني المر، وكان يضربني كل ليلة قبل ما يتعشى السم الهاري، وياما درت على المشايخ عشان الخلف، لكن أعمل إيه يا نعمات هانم، ده نصيب ومكتوب، وكله من عند ربنا، نحمدك يا رب ع الحلوة وع المرة، وكله من عندك يا رب.»
طنط نعمات ترمقني بعيني حمراوين صفراوين من وراء منديلها الأبيض، وأسمعها تقول: «البنات الصغيرين مش مفروض يقعدوا مع الكبار.»
لم أحس أنني بنت صغيرة، منذ السادسة من العمر وأنا أحس أنني كبيرة، أسمع ستي الحاجة تقول: إنني كبرت وجسمي يفور، أصبحت قامتي أطول من أخي الأكبر، أسبقه في الجري حين نلعب مع أطفال الجيران، وفي المدرسة أتفوق عليه، لم يكن أخي يحب المدرسة، في الصباح حين تلبسه أمي المريلة يرفس بقدميه ويبكي، ويأتي أبي ويقول له: عيب يا ولد تعيط زي البنات، يرمقني أبي بطرف عينه وأنا واقفة منتصبة القامة داخل مريلة المدرسة، وحقيبتي في يدي أتعجل الانطلاق خارج البيت وليس في عيني أي دموع.
كنت ألمح في عيني أبي شيئا، وهو يرمقني من تحت حاجبيه الكثيفين بذلك «النني» الأسود داكن السواد، كأنما المفروض أن أكون أنا الباكية بالدموع وليس أخي، كأنما أبي يكره قامتي المرفوعة أو البريق في عيني المتعجل الانطلاق خارج البيت.
منذ طفولتي وأنا أود الانطلاق خارج البيت، كنت أحب المدرسة رغم العصا الخيزران يلسعني بها إسماعيل أفندي على أطراف أصابعي، وأكثر ما كنت أحب هو الانطلاق إلى الشارع أو الحقول لألعب وأجري وأسابق الريح كالعصفورة الطليقة.
في ذاكرتي منذ الطفولة حلم واحد، أن أطير بجناحين وأهرب من البيت في الكون الواسع ، أهرب إلى أين؟ لم أكن أعرف وأنا في السادسة من العمر، إحساس ثقيل أثقل من جسمي يشدني إلى الأرض، يشدني من الهواء الطلق والشمس والطيران مع الفراشات إلى البيت والجدران الأربعة والمطبخ.
في المطبخ تجعلني أمي أقف أمام النار لأتعلم كيف أطبخ وكيف أقطع البصل إلى قطع صغيرة جدا بالسكين الحاد، رائحة البصل النفاذة تلهب أنفي وعيني فتنهمر دموعي كأنها السيل، لم يكن أخي أو أبي يدخلان المطبخ أو يقشران البصل أو يغسلان الصحون، أصبح المطبخ هو المكان الذي أحس فيه بالمهانة وكوني أنثى.
في حوش المدرسة ألعب مع البنات، نجري فوق الرمل الساخن بحرارة الشمس، نجلس فوق الدكك الخشبية، نختبئ تحتها حين نلعب المساكة، نجري نتسابق، نلعب الثعلب فات فات وفي ديله سبع لفات، أو جمل جمالك فين، أو حبة ملح عند الجارة، وأكثر ما كنت أحب هو نط الحبل، لا أكف عن اللعب حتى يقرصني الجوع، فأفتح السلة الصغيرة تفوح منها رائحة الخبز المحمص، كأنها هي رائحة أمي. •••
الحنين إلى أمي يزداد كلما تقدمت في العمر، تجاوزت الستين عاما وأصبحت أمي تتراءى لي في الأحلام، أحس يدها تمسك يدي، وفمها مفتوح تحاول النطق، ثم تموت دون أن تقول شيئا، وأحيانا أراها واقفة داخل فستانها الحريري الأصفر ذي الحمالات الرفيعة تضحك الضحكة الخاصة بها وحدها، وتغني معي: «دي، تي، تسا، دي، تي، تسا، ...»
لا أعرف معنى هذه الكلمات أو الحروف، أمي قالت إنني كنت أغني لنفسي هذه الأغنية قبل أن أتعلم النطق، كان رأسي يهتز حين تجلسني فوق الكنبة، ربما كان رأسي أثقل من جسمي، تحوطني بالوسائد من كل جانب، وتجلسني. كنت طفلة هادئة، أجلس بالساعات، لا أبكي ولا أصرخ (كما كان أخي يفعل)، كل ما كنت أفعله هو أن أهز رأسي وأغني لنفسي: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا ...
وجدتني أهز رأسي وأنا جالسة في مكتبة «بيركينز»، أدندن لنفسي باللحن القديم: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا ... وأدق بأصابعي على مفاتيح الكمبيوتر كأنما البيانو، أغمض عيني وأحلم بأي كتاب، كنت أطوف المكتبات أبحث عن الكتب فلا أجدها، إنها هنا تحت الكمبيوتر جزء من الحقيقة وجزء من الخيال، عرفت سر المفاتيح، أدق حروف اسمي الأخير «السعداوي»، وأرى فوق الشاشة عناوين كتبي كلها (العربية والإنجليزية). تحت ضلوعي أحس الخفقات مثل قلب الطفلة، يغمرني الفرح، فأعود أدق فوق المفاتيح وأدندن: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا ...
يبدو أن صوتي كان مسموعا، رأيت بعض العيون تتجه نحوي، كنت جالسة في قاعة القراءة إلى جواري أستاذ أميركي ذو لحية طويلة صفراء حمراء محروقة بالشمس، رأيته يرمقني بعين جاحظة من وراء عدسة بيضاء تشبه نظرة خالتي فهيمة، النظرة الصامتة المؤنبة تسلبني الفرح إذا فرحت، تسلبني الطفولة، وتنقلني فجأة إلى الشيخوخة، يعود إلى ذاكرتي أنني تجاوزت الستين عاما، أنكمش داخل جسدي كما كنت أنكمش في المدرسة الابتدائية داخل ثوبي القديم، كنت أخجل في طفولتي من الفقر، وعمتي الفلاحة كنت أخفيها من عيون زميلاتي.
أصبحت أخجل من الشيخوخة، أخفي يدي النافرة العروق عن عيون الناس، حين يسألني أحد عن عمري أسكت لحظة، ثم أقول بصوت خافت: ستين، أنطقها بصعوبة، تتكور الحروف في حلقي مثل الغصة، أكاد أختنق، أمد عنقي نحو السماء، أرفع قامتي وأشد عضلاتي، أتحدى السنين والزمن، أرتدي حذائي الكوتش وأجري إلى غابة ديوك، لم أعد أجري كما كنت، وإنما هي الخطوة السريعة التي تشبه الجري، لا زلت أشعر بقوة عضلات الساقين، أدب بقدمي فوق الأرض، قدماي كبيرتان مثل قدمي ستي الحاجة، أدق بهما على الأرض كما كانت قامتها مرفوعة، لا أعرف حتى اليوم كيف جاءتها تلك الشمخة أو ذلك الكبرياء، كبرياء حقيقي ينبع من جسدها الممشوق، ولدت به، تسرب إليها مع الدم من أهلها أو جدتها الغزاوية، لم أكن أعرف من هي الغزاوية وماذا كانت. تمد ستي الحاجة عنقها الطويل إلى أعلها وتقول: أنا مبروكة بنت الغزاوية، تبدو لي أمها أو جدتها الغزاوية كأنما هي الإلهة نفرتيتي أو الملكة حتشبسوت.
كنت أحب ستي الحاجة أكثر من جدتي آمنة أو أي امرأة أخرى من عائلتي أبي وأمي، لكني كنت أكرهها حين تقول: «الولد الواحد بخمستاشر بنت»، أنفجر بالغضب وأضرب الأرض بقدمي: لا يا ستي الحاجة، البنت الواحدة بخمستاشر ولد، وهنا تفرد أصابعها السمراء الطويلة تهزها عدة مرات في الهواء وتردد: كبة بنات! الولد صلاة النبي عليه يرفع رأس أبوه دنيا وآخرة، يحمل اسم أبوه هو وولاده، وبيته يفضل مفتوح، لكن البنت تتجوز وتخرج من بيت أبوها، وولادها يحملوا اسم جوزها ... أضرب الأرض بقدمي وأصرخ: مش حتجوز أبدا أبدا أبدا ... وتضحك ستي الحاجة من جديد حتى تختنق بالضحك وهي تقول: الجواز مصيرك زي كل البنات، ده أمر ربنا يا بنت ابني.
صوتها يعود إلي وأنا أتصور أن العريس هو الذي تصنعه أمي من فضلات الخياطة وتحشو بطنه بالقطن أو الخرق الممزقة، وتصنع له جاكتة سوداء مثل التي يرتديها أبي أو جدي، وسرواله أسود طويل تربطه أمي حول وسطه بشريط رفيع من التفتاه، وطربوش أحمر تغطي به رأسه تصنعه بقطعة من الصوف، ثم تثبت له عينان من الخرز الأسود.
كانت أختي الصغرى «ليلى» تلعب معي بالعرائس، تمسك العروسة والعريس وتلقي بهما من النافذة إلى الشارع، وتصنع أمي لنا عرائس جديدة ... أتربع فوق السجادة على الأرض ... من حولي العرائس أحكي لأختي الحكايات، لا أذكر ما هي الحكايات، لكني أذكر أن أختي ليلى كانت تبكي بالدموع حين تموت العروسة بعد أن يضربها العريس، تغطي العروسة بالملاءة كأنما ماتت، ونمسك العريس لنعاقبه نخلع عنه الطربوش والجاكتة والسروال الأسود الطويل، لم يكن خلع السروال سهلا مثل الطربوش أو الجاكتة، فأمسك المقص وأشق السروال من الوسط حتى القدمين، كنت أظن أنني سوف أرى قطعة اللحم بين الفخذين مثل تلك التي عند أخي، والتي تسميها طنط نعمات: «العصفورة» بطرف المقص، كنت أبحث أنا وأختي عن ذلك الشيء الذي يجعل الزغاريد تنطلق من الحلوق، لم يكن هناك شيء بين الفخذين، وتقول أختي ليلى: لازم هو مخبي العصفورة في بطنه.
وأمسك المقص وأفتح بطن العريس، فلا أجد إلا خرقا من القماش أو القطن، وأرى أختى ليلة تبكي على موت العريس فتغطيه بالملاءة، فيرقد بجوار العروسة، تمسك أختي ليلى العروسة وتهزها كأنما توقظها من النوم أو الموت، وتهمس في أذنها: اصحي يا عروسة اصحي، خلاص العريس مات، وربنا هيبعت لك عريس تاني أحسن منه.
كانت أمي تغضب علينا حين ترى بطون العرائس مفتوحة، تخبئ المقص في مكان مجهول، نفتش عنه في كل مكان دون جدوى، نعثر في درج الدولاب بالمطبخ على السكين، صغير حاد، تقطع أمي به الجبن، له نصل لامع مثل المقص أو شفرة الموسي.
لم تكن الأطفال البنات من عائلة شكري بيه يفتحن بطون العرائس، تضع الواحدة منهن العروسة فوق صدرها تهدهدها كالأم، تضعها في السرير وتغطيها، تغني لها حتى تنام، وحين تصحو ترضعها من ثدي لم ينبت بعد.
لم أكن أحب اللعب مع الأطفال البنات من عائلة أمي، كنت أحب الأطفال من عائلة أبي، ونركب الحمير ونذهب إلى الحقل، نجري بين الزرع الأخضر، نتسابق مع الفراشات، نخلع ملابسنا ونسبح في الترعة أو النيل، نعجن الطين ونصنع منه بيوتا وأشجارا وأجساما لها شكل الحيوانات أو الطيور.
منذ ولدت والقرية أقرب إلي من المدينة، اسمها القاهرة، أهل قريتي يسمونها «مصر»، القرية كفر طحلة يختصرونها في كلمة واحدة «الكفر»، تقع على النيل، يسمونه البحر، فوق الخريطة اسمه فرع رشيد، يلتقي الفرعان رشيد ودمياط ليكونا نهر النيل، لم يكن لها وجود على الخريطة، لكنها موجودة وحقيقة أكثر من المدينة.
رأيت القاهرة لأول مرة وأنا طفلة صغيرة، لا أذكر كم كان عمري، رأيتها مدينة غريبة الشكل، ضخمة الحجم، كأنما هي كائن خرافي يخرج من بدن النيل، كل شيء في المدينة كان يبدو عتيقا، كأنما هو موجود قبل وجودها، قبل وجود أبي الهول أو هرم خوفو، والبيوت كلها مصنوعة من الحجر، يشبه الحجر الذي صنع منه الهرم، حجر كبير مربع، وأسوار البيوت أيضا من الحجر، لم أتصور وأنا طفلة أن وراء هذه الجدران الحجرية يمكن أن يعيش الأطفال.
في خيالي كنت أقارنها بقريتي، لم تكن السماء التي تظلل المدينة هي سماء القرية، الشمس كانت مختلفة والقمر والنجوم، تصورت أنها سماء أخرى وشمس أخرى وقمر آخر ونجوم أخرى.
بيت جدي شكري بيه كان كبيرا من الحجر الأبيض، يحوطه سور عال من الحجر، وحديقة واسعة بها كلب يشبه الذئب، متوحش يكاد يعضني، وليس مثل الكلاب الأليفة في القرية، كنت أطبق بأصابعي الخمس على يد أمي، أخشى أن تفلت يدها من يدي، وحين أمشي في الشارع أتلفت حولي كأنما أمشي فوق مدينة مسحورة، نهاية كل شارع تلتقي ببداية الشارع الآخر، وكلها متشابهة، مقسمة إلى أجزاء منتظمة كبيرة تبدو أكبر من مجموع أجزائها، مصنوعة من الأسفلت والحجر والحديد.
أكانت قاهرة أخرى تلك التي رأيتها في طفولتي؟ كانت تبدو لي غير حقيقية، والناس بشرتهم شاحبة بيضاء كأنما من الطباشير، وخدود النساء شديدة الحمرة مثل خدود العرائس، الشفاه أيضا مدهونة بلون أحمر.
كانت القرية أقرب إلي، بيوتها صغيرة متلاصقة من الطين، طين حقيقي في متناول يدي، الشوارع أزقة صغيرة أرى بدايتها ونهايتها، والتراب فوقها حقيقي، وجوه الناس حقيقية، بشرة سمراء لوحتها الشمس، جلابيبهم من القطن تفوح منها رائحة البشر، عرق وتراب وجميز وذرة وفطير وقمح، ومياه النيل تروي الزرع، وأنا أجري مع الأطفال في الحقول، نقطع من فوق الشجر التين البرشومي، والبرتقال أبو صرة، نأكل الخيار والفول الحراتي، نملأ كفنا بمياه النيل ونشرب.
كان الماء في المدينة يخرج من صنبور حديد، وله طعم معدني، وكل شيء في المدينة حتى الخضروات والفاكهة كأنما هي صناعية غير حقيقية.
كنت طفلة لا أعرف شيئا عن القرية أو المدينة، لا أعرف أنهما رغم الاختلاف في كل شيء يتفقان في شيء واحد، شيء واحد أراه يطل من العيون، شيء لا أعرفه بالضبط، أحسه فوق جسدي قشعريرة، لقد ولدت أنثى في عالم لا يريد إلا الذكور.
هذه الحقيقة كانت تسري في جسدي مثل قشعريرة البرد، أو ربما هي قشعريرة أخرى، غامضة مثل الموت، كنت أمسك القلم وأكتب الحروف، أتركها تعبر عن نفسها دون فاصل بين الحرف والحقيقة، لكن الكلمات فوق الورق لم تكن أبدا هي الحقيقة ، صراع لم يكن ينتهي بيني وبين الكلمات، بدل أن تكون الحروف أداة اتصال تصبح عازلة بيني وبين الأشياء.
أحيانا كنت أكسر القلم، أمزق الورقة، أتوقف تماما عن الكتابة، سرعان ما أعود إليها كما تعود الطفلة إلى حضن الأم، الكتابة في حياتي مثل حضن الأم، مثل الحب يحدث بلا سبب، ومع ذلك لم أكف عن البحث في السبب، لماذا أكتب؟ لماذا قضيت عمري أكتب القصص والروايات؟ وربما كنت أريد شيئا، أن أرسم للعالم من حولي صورتي الحقيقية، تلك التي طمسوها بصورة أخرى، أن أجعل الطفلة الصامتة في أعماقي تنطق، لم أكن تعلمت النطق بعد، لكن جسدي كان قادرا على الإحساس بالقشعريرة، قادرا على إدراك الصمت في العيون، قادرا على رؤية الكلام في الحملقة من حولي، كنت أريد أن أمسك شيئا له نصل حاد شفرة المقص أو الموسى أو سن القلم، وأفتح بطن العريس مع أختي الصغرى.
كنت أمسك القلم وأدوس بالسن فوق الورق، أجعل أختي الصغرى تتكلم، أجعل أخواتي البنات ينطقن رغم إرادة الجميع، أجعل الطفلة في أعماقي تنطق من خلال شخصيات فوق الورق.
كنت طفلة تتطلع حولها في انبهار، ما الذي كان يبهرني في العالم من حولي منذ ولدت؟ كانت الدنيا تبدو في عيني مثل عالم سحري، غير حقيقي، وهناك عالم آخر حقيقي يتخفى وراءه، وعلي أن أبحث عنه.
وربما كانت حياتي كلها هي هذا البحث عن الحقيقي وراء غير الحقيقي، لم أكن أعرف وأنا طفلة من أين يأتي الخداع؟ أهما عيناي؟ أم أن الناس من حولي يصورون لي كل شيء على غير حقيقته، بما في ذلك نفسي؟
أتطلع إلى نفسي في المرآة، أحاول أن أرى نفسي على حقيقتها، لم أعرف وأنا طفلة من يخدعني ويرسم لي صورة غير الأصل.
على مدى سنين العمر كنت أكتب لأجتاز هذه المسافة بين الأصل والصورة، دون جدوى، ولا يمكن للحروف فوق الورق أن تكون هي الجسد. •••
في غابة «ديوك» في الصباح الباكر أمشي سبعة من الكيلومترات، كل يوم أمشي هذه المسافة بالخطوة السريعة ، كما كنت أمشيها حول النيل في الجيزة، أشجار الغابة طويلة من نوع الصنوبر والأرز والبلوط، السماء رمادية بلا شمس ولا مطر، والهواء ساكن، وحدي أمشي بين ظلال الشجر، لا حركة ولا صوت إلا وقع قدمي فوق الأرض، القدم وراء القدم، دب، لب، دب، لب، الدقات تتعاقب في أذني تذكرني بالدقات فوق الباب. تلك الليلة من شهر يونيو عام 1992م، بعد منتصف الليل، كنت نائمة في سريري، والساعة تقترب من الثانية صباحا، الهواء شبه معدوم، صيف القاهرة كان حارا رطبا، والدقات المتعاقبة في أذني كأنما هو حلم أو كابوس.
رأيتهم واقفين وراء الباب، مسلحين ومؤدبين، مرت إحدى عشر سنة، منذ سبتمبر 1981م، حين جاءوا ودقوا الباب، ثم كسروا بأعقاب بنادقهم ودخلوا، لكنهم هذه المرة دقوا الجرس، كنت غارقة في النوم ولم أسمع صوت الجرس، حينما لم أفتح دقوا الباب.
وجوههم تتراءى لي من وراء الضباب، من وراء البحار والمحيط، من وراء الزمن الساقط في العدم، من وراء العقل إذا كان العقل جريمة.
منذ بدأت أكتب وأنا أدرك الإثم، إثم التفكير أو الإحساس أو مجرد التفكير، لكن الكتابة عندي كانت ضرورية مثل التنفس، أحاول عن طريق الكلمات أن أستعيد وجه أمي، ملامحها تضيع من ذاكرتي كأنما لم يكن لي أم، وأحيانا تتجسد أمامي قبل أن أتعلم النطق.
كنت أبكي لترفعني أمي من الفراش وتجلسني، كنت أراها أكثر وضوحا وأنا جالسة، تحوطني بالوسائد حتى لا أسقط من فوق الكنبة، تمسك رأسي وتضع من ورائي وسادة طرية، ملمس يدها كان ناعما، تفوح منها رائحة أمي، رائحة خاصة بها وحدها، تتجسد أمامي على شكل دوائر من الألوان، تتداخل الألوان وتختلط مع حاسة اللمس والشم، ألمس الألوان بيدي، أشمها بأنفي، أتذوقها بلساني، أمصها بفمي من ثدي أمي، أتطلع إلى وجهها.
كان وجهها مستديرا ناعما أبيض بلون الثدي، عيناها واسعتان مملوءتان بالضوء، دائرتان كبيرتان من اللون الأبيض، داخلهما دائرتان من اللون العسلي تشعان الدفء، ناعمتان تلامسان وجهي مثل اللبن الدافئ يسري من الثدي إلى جسدي يملؤني بالنوم، فأغمض عيني ، أطفو فوق مساحات من الضوء الأبيض، أسبح في البحر، لا أرسو على الأرض، أفتح عيني وأصحو فوق صدر أمي كالشاطئ، الشاطئ الوحيد في هذا البحر الواسع، صدر أمي الناعم أحس داخله النبض، النبض في صدرها يدق مع النبض في صدري، هي وأنا قلب واحد داخل الجسم.
فوق الشاطئ تعلمني أمي المشي، أنظر إلى الأرض، أتحسس موقع قدمي، أرفع رأسي فوق عنقي، لم يعد رأسي أثقل من جسمي، عيناي تريان البحر بلون أزرق، الزرقة غارقة في ضوء الشمس، أملأ صدري بالهواء، له رائحة أمي والشمس والعشب وملوحة البحر.
صدر أمي ناعم مثل رمال الشاطئ، أنفاسها تعلو وتهبط مع أنفاسي، تروح وتجيء بين صدرها وصدري، يتخللها الهواء ورائحة البحر، وأنا راقدة فوق الرمل داخل «المايوه» له حمالتان فوق الكتفين، لونه كان أخضر فيه خطوط بيضاء وزرقاء وحمراء، في الصورة الفوتوغرافية تحولت الألوان جميعها إلى لونين اثنين الأسود والأبيض.
لم يبق من هذه الفترة من عمري إلا صورة فوتوغرافية، التقطها مصور عابر في لحظة عابرة من تسعة وخمسين عاما، أحتفظ بهذه الصورة القديمة داخل مظروف في درج مكتبي، ورقة صغيرة انطفأت لمعتها، بهت الحبر فوق الورقة، لكن الحروف بخط يد أمي لا تزال مقروءة، ماتت أمي منذ ست وثلاثين عاما، لكن حروفها أمام عيني موجودة فوق الصورة، بلاج الشاطئ بالإسكندرية، 18 يونيو 1935م.
أرى نفسي راقدة فوق الشاطئ داخل المايوه، فيه خطوط سوداء وبيضاء، إلى جواري أمي داخل المايوه، لونه أسود وأبيض، يخفي صدرها وبطنها، له حمالتان فوق الكتفين، أختي الصغرى «ليلى» تجلس بين ساقي أمي داخل مايوه صغير يشبه الذي أرتديه، في الطرف الآخر من الصورة يجلس أبي عاري الصدر والبطن، يرتدي مايوه بلا حمالات فوق الكتفين، إلى جواره أخي عاري الصدر والبطن مثله، يرتدي مايوه صغير بلا حمالات، لا يغطي من جسمه إلا الجزء الصغير أسفل البطن.
كانت أمي تحملني فوق مياه البحر، تعلمني كيف أطفو فوق الأمواج، أضرب المياه بذراعي وساقي وأضحك، أغطس وأنا أضحك، تضحك أمي وتنشلني من الماء، صوت الضحك يعلو فوق الموجات، الأمواج تعلو ثم تهبط منكسرة على شكل رغاوي بيضاء، اللون الأبيض يذوب في زرقة البحر، والزرقة تذوب في الهواء، البحر والسماء يلتقيان في الأفق البعيد على شكل نصف دائرة، ذراعا أمي من حولي ترفعاني فوق أمواج البحر، رأسي يلامس السماء.
أمي كانت تسبح وحدها كأنما هي موجة في البحر، تصورت أنها ابنة البحر، إن البحر ولدها وهي ولدتني، أنا وهي خرجنا من هذه المياه الزرقاء الدافئة، فوق هذه الرمال الناعمة البيضاء، تحت السماء الزرقاء الصافية، ومن حولنا الأشعة الذهبية من الشمس، إنه بحرنا وشاطئنا وشمسنا وهواؤنا، أنا وأمي هذه هي أرضنا، أصواتنا حين نضحك ينقلها الهواء، تحملها الأمواج إلى أمواج أخرى، إلى بلاد أخرى، بلا نهاية، بلا نهاية، تحوطني ذراعاها فوق الأمواج، ثم تتركني أسبح وحدي، ثم تعود تمسكني وتحوطني، جسمها يصبح جسمي ثم ينفصل عني، أصبح أنا وحدي وهي جسم آخر منفصل، نلعب معا فوق الأمواج هذه اللعبة اللانهائية، الاتصال ثم الانفصال، ثم الاتصال والانفصال من جديد.
في الصورة كان أبي جالسا بعيدا عني وقريبا من أخي، أبي كان يبقى دائما بعيدا، تفصلنا هذه المسافة في الصورة، هذه المساحة فوق الشاطئ، أحيانا تمتد ذراعي في الحلم لأعانق أبي، لكن ذراعاه لا تمتدان نحوي، يحافظ دائما على هذه المسافة بيننا، يحتل مساحته بعيدا عني، جسده طويل فارع القامة، له شارب أسود مربع فوق الشفة العليا، حين يقف فوق رمال الشاطئ يحجب عني البحر والشمس، يقف طويلا عملاقا لا يقترب، ولا ينحني ليطبع فوق خدي قبلة، لم يقبلني أبي مرة واحدة في حياتي حتى مات. كان يقف، عظام ذراعيه وساقيه بارزة تحت الجلد، بشرته سمراء بلون الطمي، يغطيها شعر أسود فوق الصدر، عضلاته بارزة تحت الشعر، باردة الملمس، فيها صلابة، تعلوها قطرات من مياه البحر لها طعم الملح.
كان لجسم أبي فوق الرمال البيضاء خطوط واضحة تحدد وجوده، هذا الوجود المستقل الصلب داخل كون سائل تذوب فيه زرقة السماء في مياه البحر، هذا الوجود سيصبح هو العالم الخارجي ، عالم أبي سيصبح هو الأرض، الوطن، الدين، اللغة، الأخلاق، التاريخ، المستقبل، سيصبح هو العالم من حولي، عالم من الأجسام الذكورية أعيش فيه بجسم الأنثى.
إنه البحر المالح (الأبيض المتوسط)، وأنا راقدة فوق الشاطئ، قماش المايوه من النوع المطاط، يضغط على صدري وبطني، يمنع عنهما الهواء والشمس، أبي يقف عاري الصدر والبطن، يعرض صدره وبطنه للهواء وأشعة الشمس، أخي مثل أبي يرتدي مايوه بلا حمالات فوق الكتفين، صدره وبطنه عاريان تحت الشمس والهواء.
كنت أشد الحمالات من فوق كتفي، أكشف صدري وبطني للهواء والشمس، ترتفع يد خالتي نعمات في الهواء وتضربني، وصوتها يخرق أذني: عيب! وأصرخ: إشمعنى طلعت! يعود إلى صوتها مثل نعيق البوم: هو ولد وانتي بنت!
كانت هذه العبارة تخرق أذني منذ ولدت، تدخل فمي في مياه البحر المالح: «هو ولد وانتي بنت»، أحس الملوحة في حلقي، ملوحة غريبة، زرقة البحر تتحول إلى مسحوق من الملح، الشمس تتحول إلى شيء يحرق الجلد، الألوان الخضراء والحمراء الذهبية كلها تصبح سوداء أو رمادية.
ربما هو الغضب بدأ ينمو في أحشائي مثل عشب البحر، حشائش رفيعة سوداء كنت أراها تسبح داخل المياه الزرقاء، ترسب في القاع ثم تطفو، تلفظها الأمواج فوق الشاطئ، تجف تحت الشمس مثل الثعابين أو قراميط البحر الميتة.
كان الغضب لا يزال وليدا في أحشائي كالعود الصغير الأخضر، الخضرة تذوب في الزرقة، والزرقة تذوب في اللون الأسود، تتداخل الألوان ومعها الغضب وأحاسيس أخرى مشتقة من الغضب.
أخي يكشف صدره للهواء والشمس، وأنا أخفي صدري، صدري عورة تستوجب الإخفاء، كلمة «عورة» تخرق أذني مثل المسمار، كلمة نابية، كان صدري أملس مثل صدر أخي بلا نهدين، كنت طفلة صغيرة أصغر من أخي، لم أكن تعلمت الكلام أو الرد على الكبار مثل أبي، لكن كنت قد أصبحت داخل ذلك العالم الكبير، عالم أبي، يتحدد فيه موقعي لمجرد أنني بنت.
كان أبي يتطلع نحو السماء، في الليل قبل العشاء، يجلس في الشرفة البحرية يطل على النجوم، أمي في المطبخ تجهز الطعام، أخي إلى جوار أبي يتطلع معه إلى السماء، أبي يخاطب أخي ولا يخاطبني، يقرأ القرآن كتاب الله.
تصورت في طفولتي أن هذه السماء ونجومها من اختصاص أبي وأخي، يشير أبي بإصبعه إلى مجموعة من النجوم تلمع بعيدا في الظلمة، ويقول لأخي: هذا نهر المجرة، وهذا هو المريخ، وعطارد، والمشترى، و...
كان أبي يحكي لنا عن آدم، كيف فضله الله على الملائكة، وأمر إبليس أن يسجد له، كيف سجدت الشمس والقمر والكواكب لسيدنا يوسف، أستمع إلى أبي مفتوحة الفم متسعة العينين، أنام على صوت أبي وهو يحكي: أنزلق في النوم كأنما أغرق في البحر، أغرق حتى ألمس القاع، وأشرب الماء المملح، أمي أصبحت غائبة، ذراعان غائبتان، لا أحد ينتشلني من القاع، أصحو من النوم في حلقي طعم الملح، فوق الفراش من تحتي بلولة الماء المالح لها رائحة البول.
أنهض من السرير منكمشة في خزي، أحوط صدري بذراعي أخفي عورتي، أخفي بلولة السرير تحت الغطاء، تأتي خالتي نعمات وتكشف الغطاء، ويرتفع صوتها في جميع أنحاء البيت تعلن الفضيحة في الكون.
كانت أمي تنسحب من حياتي بالتدريج، لم أعد أراها إلا في المطبخ، لم أعد أسمعها تتكلم، تجلس معظم الوقت تستمع إلى حكايات أبي ... أبي ينتقل من الحديث عن الله وسيدنا محمد إلى الحديث عن الملك والإنجليز، بعد ذلك يتحدث عن الناظر، كنا في مدينة الإسكندرية، وأبي يشتغل مدرسا في مدرسة العباسية الثانوية ورئيس المدرسة اسمه الناظر.
المسافة بيني وبين أمي كانت تتسع، المسافة بيني وبين أبي تضيق، أصبحت أمي تجلس في الطرف الآخر من الكنبة، بعيدا عني، يزداد البعد عاما وراء عام، يمدد أبي ساقيه الطويلتين ويحتل المساحة كلها، مساحة أمي تصغر وتصغر، تنكمش حول جسمها وهي جالسة، تهدل ثدياها من كثرة الترضيع، اختفى خصرها مع ارتفاعات البطن بالحمل، تراكم عليها الشحم بلون شاحب.
أمي لم تعد تنتمي إلى العالم الذي يضم أبي وأخي وأنا، إنها تنتمي إلى عالم آخر، ما إن أتخيله حتى يقشعر جسمي ، عالم المطبخ تفوح منه رائحة الثوم مع البصل ، يملؤه الدخان أو الهباب يتصاعد عن وابور الجاز، عالم أبي كان هو الشرفة البحرية، تطل على مشتل الزهور والنجوم في الليل، والله في السماء، وسيدنا محمد، والملك والإنجليز والناظر. «اقلب دواية الحبر على تقريرك يا أستاذ!»
إنه صوت أبي يخاطب الناظر، كان صوته يدوي في الشرفة البحرية، وهو يحكي لنا، صوته يملأ الكون، تسري القشعريرة في جسدي مثل برد الشتاء، أغمض عيني، أتفادى الضوء مع أن الليل مظلم، أخفي عن أبي شيئا لا أريد أن يراه، أهما عيناي، كنت أخفيهما، أخشى أن يرى فيهما أحشائي حيث العشب الراسب في القاع بلون الحبر الأسود.
حادث ختان
في الشرفة البحرية، في بيتنا بالإسكندرية، أجلس أستمع إلى أبي، بيتنا في الدور الأرضي من عمارة عالية ... للشرفة سلالم تقود إلى حديقة خلفية صغيرة لها سور عال، من وراء السور أسمع صوت القطار يأتي من عالم آخر، قويا يرج أرض البيت وأرى الجدران تهتز، هذه الجدران سوف تسقط، أبي قال: إن العمارة كبيرة متينة، لا يمكن أن تسقط، أصدق كل ما يقوله أبي، أحفظ كلامه عن ظهر قلب، أستمع إلى حكاياته كأنما هي الحقيقة، أرمق جسده الضخم، أنا ابنة هذا الرجل القوي الذي ينتصر في كل المعارك. كان أبي يخوض معارك كثيرة، مرة مع صاحب العمارة التي نسكن فيها، ومرة مع ناظر المدرسة، ومرة مع الإنجليز أو الملك أو الألمان أو الأعداء الآخرين، لا أعرف شيئا عن هؤلاء. دخلت المدرسة في الإسكندرية، لا أذكر من المدرسة إلا اسمها، محرم بك للبنات، الشارع الذي نسكن فيه اسمه «محرم بك»، شارع طويل مخيف، يقود إلى الآخرة أو العالم الآخر، أجري من البيت إلى المدرسة، ثم أعود جريا أخشى التوقف في الشارع وإلا خطفني أحد اللصوص.
أسمع الحكايات عن اللصوص، في مدينة الإسكندرية قصة تجري على ألسنة الناس: «ريا وسكينة»، ماتت الاثنتان قبل أن أولد، قصتهما ظلت تعيش لأكثر من نصف قرن، يقبض البوليس على لص أو لصة تسرق طفلا ، فيستعيد الناس ذكرى «ريا وسكينة».
قبل أن أخرج للمدرسة تخلع أمي من أذني الحلق الذهبي الصغير: «ريا وسكينة كانوا بيسرقوا الأطفال اللي لابسين حلقان دهب.» الأطفال ليس لهم قيمة في نظر اللصوص إلا إذا كان حلق دهب في الأذن. في الليل وأنا نائمة أشد الحلق، أحاول أن أخلعه من أذني، له مسمار ذهبي رفيع وقفل صغير يغلق وراء حلمة الأذن، يحتك بالوسادة كلما حركت رأسي، أشده في الصباح ترى أمي بقعة الدم فوق وسادتي، حلمة أذني حمراء متورمة، الثقب حيث المسمار الذهبي ينزف، كنت أظن أنني ولدت بهذا الثقب في أذني، أن كل البنات يولدن بهذا الثقب من أجل أن يدخل فيه الحلق، أرمق أذن أخي بطرف عين، أذنه سليمة بلا ثقب، بلا مسمار يؤلمه في الليل.
عرفت أنها الداية «أم محمد»، المرأة التي أغرقتني في «الطشت» حين ولدت، جاءت بعد أسبوع واحد من ولادتي، بين أصابعها الغليظة الخشنة إبرة طويلة حادة، وضعتها على النار، أصبح لونها أحمر، غرزتها في حلمة أذني. هذه المرأة تكن لي العداء؟! ثأر قديم بينها وبين جنس الإناث؟ تكره نفسها إلى ذلك الحد؟ عيناها السوداوان يكسوهما بريق عجيب وهي تثقب آذان البنات أو بظورهن، مزيج من الفرح والتشفي والانتقام، جسدها السمين يترجرج داخل الجلباب الأسود، تفوح منه رائحة دم قديم وعرق عفن مع رائحة الحناء الحمراء أو السوداء، وصبغة اليود والسبرتو الأحمر واللبان الدكر والبخور والشبة.
تضفر شعرها المصبوغ بالحنة الحمراء ضفيرتين رفيعتين، تربطهما بدوبارة من صوف الماعز أو فروة الخروف، تلفهما داخل منديل أسود، تشده بكل قوتها حول رأسها، تربطه فوق جبهتها على شكل عقدة.
في الجنازات ومآتم القرية أرى النسوة يربطن رءوسهن بالمنديل الأسود، في أول أيام العيد تخرج النسوة لزيارة الموتى في القبور، رءوسهن مربوطة بالمناديل السوداء، فوق جبين كل واحدة منهن العقدة.
العقدة فوق جبين الداية أم محمد لم تكن تشبه أي واحدة أخرى، سوادها داكن، حجمها كبير، لها أربعة أطراف مشرشرة «الأوية» تهتز مع حركة رأسها، تتربع عند منتصف جبهتها مثل عقرب أسود يرمقني بعين واحدة خالية من الرموش.
كنت أسمع صوتها قبل أن تدخل من الباب الخارجي يزعق: يا أهل الدار! تهتف ستي الحاجة منتصبة: «عزرائين جه.» من هو عزرائين؟ مندوب من عند ربنا يهبط من السماء إلى الأرض ليقبض على أرواح الناس دون أن ينتبهوا.
أسمع صوتها فأختفي، منذ ولدت أراها ترمقني بالعين الواحدة المفتوحة كالدائرة لا يطرف لها جفن، تضيق عينها وهي ترمق بطني أسفل البطن، بين الفخذين، لم تكف عن النظر إلى القطعة الصغيرة من اللحم - يسمونها «الظنبور»، (وفي اللغة الفصحى «البظر») - لم تكف عن النظر إليها تستعجل بروزها، كأنما كامنة في اللحم، ما هي إلا نظرة من عينها فتبرز إلى السطح، تمسك الموسى بأصابعها الغليظة الخشنة، تحميه فوق قطعة حجر، يصبح السن أحمر كالنار، تشد البظر بإصبعين تستأصله من جذوره بسن الموسى، تدفنه في حفرة بالأرض، تردمه بالتراب، تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، تغسل يديها من الدم في الطشت وتقرأ الفاتحة ثلاث مرات.
تلاوة القرآن على الجرح النازف كصبغة اليود تقتل الجراثيم وتطهر الجروح، التطهير، الطهارة، المرأة المطاهرة هي الداية التي تقوم بعملية «الطهارة» (الختان باللغة العربية الفصحى).
في مصر عام 1937م، في السادسة من عمري، كانت عملية «الختان» تجرى لجميع البنات قبل أن يدركهن الحيض، لم تكن واحدة منهن تفلت في القرية أو المدينة، في الطبقة العليا أو الطبقة الدنيا، لم تفلت أمي زينب هانم، لم تستطع أمي أن تنقذني أو أي واحدة من بناتها، أنقذت ابنتي، وبنات كثيرات أخريات حين بدأت أكتب منذ أربعين عاما.
في السادسة من عمري لم أستطع إنقاذ نفسي، أربع نسوة في حجم الداية أم محمد تجمعن حولي، مكتوفة الذراعين والساقين، دقوا يدي وقدمي بالمسامير كالمسيح المصلوب.
عرفت من زميلتي القبطية في المدرسة أن المسيح صلبوه، من هو المسيح؟ قال أبي: إنه سيدنا عيسى عليه السلام، وما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم؛ كما جاء في القرآن. خالتي نعمات تقول عن صديقتي القبطية: «نصرانية»، «عضمة زرقة»، رايحة جهنم. كان اسمها مريم، كانت في السادسة من عمرها ، أمسكتها الداية أيضا، قطعت من بين فخذيها البظر، لم تكن البنات المؤمنات بالمسيح يفلتن كالمؤمنات بسيدنا محمد. عمتي رقية تقول: النبي أمر بقطع بظور البنات!
لم أتصور أن النبي محمد أو النبي عيسى أو أي نبي آخر يصدر أمرا مثل هذا.
منذ طفولتي لم يلتئم الجرح العميق في جسدي.
الجرح الأعمق في النفس، الروح، لا أنسى ذلك اليوم، صيف عام 1937م، مر سبعة وخمسون عاما في ذاكرتي كأنما الأمس.
راقدة من تحتي بركة الدم، توقف النزيف بعد أيام، نظرت الداية بين فخذي وقالت: الجرح خلاص خف والحمد لله، الألم ظل كالدمل غائرا في اللحم، لم أنظر بنفسي لأعرف مكان الألم.
لا أستطيع النظر إلى جسدي العاري في المرآة أو هذه المنطقة المحرمة المحفوفة بالإثم والعار!
لم أعرف ماذا في جسدي من أشياء أخرى تستوجب القطع، في الليل أرقد مفتوحة العينين، لا أعرف ما يخبئه القضاء والقدر، الغيب لا يعلمه إلا الله، محفوف بمخاطر، جسدي مثل الآخرين أصبح ضدي يفاجئني بأشياء مفزعة.
في التاسعة من عمري رأيت النزيف الأحمر، يسمونه في العربية الفصحى «الحيض» أو «المحيض»، جاء ذكره في القرآن:
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فاجأني الأذى ذلك اليوم، فتحت عيني في الصباح فوجدت سروالي غارقا في الدم، هل تسللت الداية في الليل وقطعت شيئا آخر من بين فخذي؟ عفريت من الجن، أو شيطان من الشياطين، خلقه الله في أجسام البنات، دخل من تحت عقب الباب ومزق غشاء العفة؟ هذا الغشاء يفرق البنت العذراء عن المرأة المتزوجة، الدليل الوحيد على حسن الأخلاق.
هل أراد الله أن يعاقبني؟! أصابني بمرض البلهارسيا، سوف أنزف الدم حتى أموت، مات جدي حبش وأبوه السعداوي بالبلهارسيا. اختفيت تحت الغطاء أدعو الله أن يغفر ذنوبي، أخرج من السرير لأتسلل إلى دورة المياه، أخفي الإثم والعار عن الجميع، حتى أمي، هل يستجيب الله لدعائي قبل أن يعرف أحد في البيت ؟ مغفرة الله تحدث ساعة أو نصف ساعة، أحمدك يا رب ، غفرت ذنوبي، ثم يغرق السروال مرة أخرى باللون الأحمر الداكن، أعود أغسله وأتوضأ وأصلي، أدفن وجهي في صوت سجادة الصلاة، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، أركع وأسجد، لا أكف عن الاستغفار.
في حركة من حركات السجود اندفع شيء بين ساقي، صنع فوق سجادة الصلاة بقعة حمراء كبيرة، السجادة المقدسة عادت بها ستي الحاجة من أرض الحجاز، سجادة عجمية صغيرة من الصوف، رمادية اللون، مرسوم عليها الكعبة الشريفة.
الدم النجس يلوث الحرم المقدس!
كانت فضيحتي بجلاجل، الجيران عرفوا الخبر، تناقلته الألسنة من عائلة أبي وأمي في القرية والمدينة.
كيف يكون الدم في جسمي نجاسة؟ كلمة «النجاسة» سمعتها أول مرة في حياتي «الحيض دم فاسد»، لا يحق للبنت خلال أيام الحيض أن تلمس مقدسا، مثل كتاب الله، لا يحق لها الصلاة، أو الصيام، أو قراءة القرآن، لسانها يصبح نجسا، يدها إذا صافحها أحد تفسد الوضوء والصلاة.
أصبحت لا أكف عن دخول الحمام، لم تكن البقعة الحمراء تتلاشى، وإن تلاشت تترك من خلفها لونا أصفر أو أسود أشبه بظلها، إن تلاشى الظل بقيت الرائحة كالروح الشريرة تحوم حول الجسد.
أصابني المرض النفسي، نوع من الهوس، لا أكف عن غسل يدي بالماء والصابون طول النهار، مرض يصيب البنات والنساء، المسلمات منهن أو القبطيات أو اليهوديات، كانت لي زميلة يهودية، في التوراة تحدث الله عن الحيض، يسميه «الطمث»: «في أيام الطمث تكون المرأة نجسة سبعة أيام، كل شيء مقدس لا يمس، وإلى المقدس لا تجيء حتى تكمل أيام تطهيرها، إن حبلت المرأة وولدت ذكرا لا تطهرها تأتي بخروف وفرخ حمامة أو يمامة ذبيحة تقدمها لربها، فيكفر عن ذنوبها وتطهر من دمها.»
في القرآن لم يكن الحيض «أو المحيض» إلا «أذى» فقط، كلمة «أذى» بدت لي بريئة إلى جوار الكلمات الأخرى في التوراة، كلمة «حيض» بدت أفضل من كلمة «طمث». تتضاعف نجاسة الدم حين تكون المولودة أنثى! تطهير الدم النجس يكون بتقديم فرخة أو خروف مشوي للرب! لم يطلب الله من النساء في القرآن أي فرخة أو خروف مقابل الطهارة، شكرت الله كثيرا لأنه خلق أبي مسلما وليس يهوديا. كنت أظن أن المسلمين يؤمنون بالقرآن فقط، أبي قال: إن التوراة والإنجيل كليهما «مثل القرآن»، أنزلهما الله إلى الناس هدى ونورا، على المسلمين أن يؤمنوا بكتب الله الثلاثة.
وكأنما ألقى أبي فوق رأسي كوز ماء صاقع في ليلة شتوية.
كنت أصدق ما يقوله أبي، في الشرفة البحرية في الإسكندرية يجلس ونحن الأطفال حوله، ينظر إلى أخي «طلعت» وهو يتحدث، يخصه بالحديث، لم يكن يتجه نحوي إلا حين يشعر بالعطش، أو يجف حلقه: هاتي كباية مية يا نوال.
وحين تنهض أمي لإعداد مائدة العشاء: قومي ساعدي مامتك يا نوال.
لم أكن أنهض من مكاني، أود الاستماع إلى حكاياته، خاصة حكاية سعد زغلول وثورة 1919م. شارك فيها أبي، كان شابا في العشرين من عمره، طالبا في كلية دار العلوم بالقاهرة، خرج مع الطلاب يهتف ضد الإنجليز، يلقي عليهم الطوب والحجارة، ثم بدأ الرصاص يتطاير في الجو، أصابته شظية في قدمه، حمله زملاؤه إلى نقطة إسعاف، عاد إلى كفر طحلة فوق عربة كارو تجرها حمارة، استقبلته أمه ومن خلفها النساء بالزغاريد، أصبح في نظر أهل القرية بطلا مثل سعد زغلول.
كلمة «بطل» ينطقها أبي، عيناه تلمعان بالبريق، منذ الطفولة يحلم بأنه يحمل سيفا يضرب به الأعداء، يحرر الوطن. يسمع أمه تغني مع نساء القرية: يا عزيز يا عزيز، كبة تأخذ الإنجليز، كانت طفلة في الثانية حين دخل الإنجليز مصر عام 1882م.
يحكي أبي عن جدته الغزاوية، ماتت قبل أن يولد، سمع حكاياتها من أمه ونساء القرية، كانت طويلة فارعة القامة، تخرج من الفجر، فأسها على كتفها، وتعود عند الغروب، لم تكن أجيرة لأحد، تملك قطعة أرض صغيرة ورثتها عن أمها، لم يرها أحد راقدة في الدار، تلد طفلها وهي تعمل في الحقل، تحمله في القفة وتعود إلى الدار، حين دخل الإنجليز إلى مصر تجمع أهل القرية، الرجال والنساء ، ومنهم الغزاوية، حاملين الفئوس مستعدين للقتال حتى الموت، حياتهم كان أشبه بالموت .
يحكي أبي عن: حادث دنشواي، ثورة عرابي، قبل الاحتلال البريطاني، الخديو والملك فؤاد، أول دستور مصري عام 1923م، أول انتخابات عام 1924م، أصبح سعد زغلول رئيسا للوزارة، خلفه النحاس، ثم جاء إسماعيل صدقي عام 1930م، اشتد الجوع بالفلاحين والعمال، بدأت المظاهرات والإضرابات، آخر إضراب قام به عمال السكة الحديد، أعلن إسماعيل صدقي الأحكام العرفية وأمر الجيش بإطلاق الرصاص على العمال، عاد حزب الوفد إلى الحكم، أصبح النحاس رئيسا للوزارة، ودخل في مفاوضات مع الإنجليز، وقع معاهدة 1936م، والمظاهرات والإضرابات لم تكن تكف.
كان يزورنا في الإسكندرية أقارب أبي من الفلاحين، بعضهم هجر القرية من شدة الجوع، أصبحوا عمالا في شركة النسيج بالمحلة الكبرى، في مصانع شبرا الخيمة في القاهرة، وفي شركة الترامواي بالإسكندرية، يتقاضى الواحد في اليوم ثلاثة قروش، يشاركون في الإضرابات مطالبين برفع الأجور، ويهتفون مع الطلبة ضد الحكومة والإنجليز.
في إحدى المظاهرات تجمع طلبة مدرسة العباسية الثانوية في الفناء الواسع، يرددون الهتافات ضد الحكومة، خرج الناظر إلى التلاميذ، هزءوا به هاتفين: يسقط الناظر، عاد إلى مكتبه عقد اجتماعا عاجلا للمدرسين، قال الناظر لأبي: يا سيد أفندي، أنت محبوب من الطلبة، ممكن يسمعوا كلامك ونخلص من الشغب ده. - يا حضرة الناظر، دي مظاهرة وطنية مش شغب. - يا سيد أفندي، لازم الطلبة يرجعوا الفصول. - يا حضرة الناظر، البلد كلها خرجت مظاهرات، حتى العمال والفلاحين، ليه نمنع الطلبة؟ - يا سيد أفندي، ده مش وقت نقاش، لازم تخرج حالا للطلبة في الحوش وترجعهم الفصول.
أطاع أبي الناظر وخرج إلى الطلاب في فناء المدرسة، أحاطوا به يهتفون: يحيا السعداوي، حملوه فوق الأعناق، خرجوا إلى الشارع، وجد نفسه يهتف معهم: يسقط الإنجليز، تسقط الحكومة، تحيا مصر حرة!
وعمل إيه الناظر يا بابا؟ نسأله نحن الأطفال في نفس واحد، وأنفاسنا تلهث، الضربات تحت ضلوعنا تصعد وتهبط.
يكون أبي قد نهض واقفا يصور لنا كيف كتب الناظر تقريرا ضده، ألقاه أمامه فوق المكتب، أبي أمسك التقرير وألقى به فوق مكتب الناظر. «اقلب دواية الحبر على تقريرك يا حضرة الناظر.»
في ركن الشرفة البحرية كنت أجلس، أرمق أبي الفارع القامة، عيناه تلمعان بالزهو، أنا ابنة هذا الرجل الوطني الشجاع، لا يخاف أحدا، لا الناظر ولا الملك ولا الحكومة ولا الإنجليز ولا العمدة في كفر طحلة، «لا أخاف إلى الله سبحانه وتعالى.» هكذا كان أبي يقول ... ويردد دائما: أنا مش باخاف لا من النزرا ولا من الوزرا (يعني النظراء والوزراء).
عام 1938م، وأنا في السابعة من العمر انحفر صوت أبي في ذاكرتي، أصبحت لا أخاف أحدا إلا الله، إن هددني أحد بكتابة تقرير ضدي أقول بصوت أبي: اقلب دواية الحبر على تقريرك.
كم من التقارير كتبت ضدي بعد أن اشتغلت في الحكومة! تقارير سرية بحسب القانون، يكتبها الرؤساء ضد المرءوسين في الوزارات والإدارات، في كل وزارة أيضا جهاز بوليس يسمونه «مكتب الأمن»، يكتب التقارير، يرفعها إلى وزير الداخلية أو رئيس الدولة، العمدة كان في طفولتي كأنما رئيس الدولة، أهل القرية يقولون إنه أكبر رأس في البلد، يمشي من بعيد فوق الجسر حوله الرجال، جدران بيته عالية تعلو فوق الجسر تطل على النيل، ثلاثة أدوار بالطوب الأحمر يسمونه «الدوار»، يعلوها البرج له نوافذ مستديرة صغيرة أعلى من منارة الجامع، شرفتها صغيرة من الطين النيئ، يقف عليها الشيخ مرزوق ليؤذن.
بيوت القرية مثل الجامع مبنية بالطوب النيئ، الطين الممزوج بالتبن، زريبة الحيوانات جزء من البيت، الأرض ترابية عارية من الأثاث، حصيرة من القش، زير مملوء بالماء من النيل الذي يسمونه البحر، صندوق خشبي مزركش الألوان مركون إلى الجدار الطيني، داخله بعض الجلابيب الجديدة أو القديمة، ومنها جلباب العروس المشجر، المبقع بالدم منذ ليلة الزفاف.
لم يكن البيت يزيد على دورين، يسمونه «الدار»، بينهما سلم من الطين أو الخشب، يصعد إلى السطح، حيث أكوام من عيدان الذرة أو القطن الجافية، أقراص «الجلة» - روث البهائم المجفف تحت الشمس - زلع الجبنة الحادقة والمخلل، يتلوى داخلهما دود أبيض صغير «دود المش».
كان الجسر عاليا أعلى من البيوت، يمتد من كفر طحلة إلى قرية أخرى اسمها طحلة، تفصلهما مسافة كيلومتر ، تتلاصق بيوت الفلاحين، تتساند بعضها إلى بعض، راقدة في حضن الجسر بلون الطين الأسود.
أتمشى فوق الجسر مع زينب ابنة عمتي بهية، عمرها من عمري، تتطلع بعينيها إلى بيت أعلى من بيت العمدة وتقول: «دوار علما باشا، أغنى عيلة في طحلة، عندهم ألف فدان وخمسون عبدا، جدك شكري بيه أبو مامتك أبوه الشيخ الطحلاوي الكبير، كان عنده أرض وعبيد زي علما باشا، لكن الأرض راحت منهم والعبيد راحوا، ومابقاش لهم في الكفر إلا الدوار.»
كان دوار جدي شكري بيه لا يزال قائما، بيت ضخم من دورين، مبني بالطوب الأحمر، له حوش واسع من الداخل، شرفات ومشربيات من الخشب المزدوج، مغلق طول الوقت، لم يكن أحد من عائلة أمي يزور القرية إلا وقت الحرب، يهاجر أهل المدينة إلى الريف.
حين تزوجت طنط هانم (شقيقة أمي) من زوجها التاجر في الموسكي، جاءت به إلى القرية في زيارة يومين، أرادت له أن يرى أثرا عريقا من مآثر العائلة الكريمة.
كان هناك بعض دوارات قليلة، أربعة أو خمسة، يملكها أصحاب العزب الكبيرة، لهم أراضي وحقول تمتد مع امتداد الجسر حتى طحلة والرملة أو «بنها» عاصمة القليوبية.
العمدة كان صاحب السلطة بلا أملاك كبيرة، له أعوان من الرجال، يرأسهم شيخ الخفر.
مصر كانت تعيش عصر الإقطاع، كبار الملاك في القرية يملكون 98٪ من الأراضي، بقية الأرض 2٪ يملكها 80٪ من الفلاحين (لا تزيد ملكية الواحد منهم على ثلاثة أفدنة)، بقية أهل القرية 20٪ لا يملكون شيئا على الإطلاق، يعملون في أراضي تحت اسم «الأجراء»، بعضهم لا يشتغل إلا في موسم الحصاد أو جمع القطن.
كانت «ستي الحاجة» تنتمي إلى طبقة صغار الفلاحين ... تمتلك قطعة من الأرض، ثلاثة أفدنة، ورثتها عن أمها الغزاوية، ثلاثة ملايين من الفلاحين مثل ستي الحاجة، إنهم أحسن حالا من الأجراء؛ لم يكن أطفالهم يموتون من الجوع، يموتون من الإسهال أو النزلات المعوية فقط، طعامهم ليس الخبز الحاف بدون غموس، إنهم يغمسون بالجبنة الحادقة مع مخلل الخيار أو الليمون الأخضر الصغير.
سعر الأرض يرتفع على الدوام ، دخل الفلاح ينخفض العام بعد العام، المضاربات في بورصة القطن لصالح الإنجليز وكبار الملاك، المضاربات بالأراضي الزراعية يربح منها الإقطاعيون عن طريق رفع الإيجارات.
اشتغلت ستي الحاجة في أرضها عشرين عاما متصلة دون أن تدخر شيئا إلا مصاريف أبي ليتعلم، كان يمكن أن تشتري فدانا من الأرض. «الأرض تزيد فدانا أو تنقص فدانا، ولا حاجة تتغير في عيشة الفلاحين المرة يا بنت ابني، لكن التعليم للولد حلو، يخليه يتوظف في الحكومة، ويبقى راجل ملو هدومه.»
كانت امرأة لا تعرف القراءة، لم تقرأ في حياتها كتابا واحدا، لم تقرأ القرآن كتاب الله، تقول للعمدة: أنا عارفة ربنا أكثر منك يا عمدة! ربنا هو العدل، عرفوه بالعقل!
أخذتني ستي الحاجة معها إلى العمدة ذات يوم، كنت في السابعة من عمري وهي في الخمسين، قوية الجسم، فارعة القوام، العمدة إلى جوارها قصير سمين مترهل، بشرته بيضاء لم تعرف الشمس، مد يده وصافحني، بضة ناعمة صغيرة بالنسبة ليد جدتي الكبيرة الخشنة، لم تلمس أنامله الفأس ... بين أصابعه سبحة صفراء حباتها تلمع، في يده الأخرى مصحف حروفه منقوشة بماء الذهب.
كان جالسا فوق مقعد له مسند عال، يرتدي قفطانا أسود اللون، حوافه مطرزة بخيوط ذهبية، كانت ستي الحاجة واقفة أمامه داخل جلبابها الأسود المترب، من خلفها الفلاحون والفلاحات وجوههم ضامرة ممصوصة حتى آخر قطرة، بشرتهم مشققة كالأرض «البور».
لم يكن وجه ستي الحاجة ضامرا، يدها كانت مثل أياديهم، مشققة كبيرة الحجم، لكنها مرفوعة تشوح بها في وجه العمدة: الكلمة شرف يا عمدة! فين كلمتك؟
امرأة فلاحة قوية بالفطرة، مالكة أرضها، ليست أجيرة لأحد، كاملة الأهلية بعد أن مات زوجها حبش.
لم تكن ستي الحاجة الأرملة الوحيدة في القرية، كان هناك أرامل كثيرات، فلماذا هي أكثرهن قوة؟ «ستك الحاجة ورثت أمها الغزاوية.»
بعد موت زوجها أصبحت ستي الحاجة تشتغل بفأسها في أرضها من طلوع الشمس، تأتيها آلام الولادة في الحقل، تتربع فوق الأرض، تنفتح ساقاها، ترى الرأس بشعره الأسود محشورا بين عظمتي الفخذ، تملأ صدرها بالهواء في شهيق عميق، تفرغه بكل قوتها ضاغطة بكفها على بطنها، يندفع الجنين خارجا مفترشا الأرض، تمد ذراعها الطويلة لتمسك الفأس، بخبطة واحدة تقطع الحبل السري، بخبطة ثانية تقطع طرف الدوبارة من سروالها، تعقدها حول «السرة»، تلف المولود في جلبابها القديم، تتكئ بذراعيها في زفير طويل، تضغط بطنها بكفها الكبيرة ... تندفع المشيمة كرغيف من الدم المتجمد، تردمها في التراب، تمسح الدم عن فخذيها بورق الذرة الجافة، ترتدي سروالها الواسع من الدمور، تشده حول وسطها بالدوبارة، تفرش القفة بالعشب الناعم، وتضع مولودها، تغطيه بورق الذرة الأخضر ... تعود إلى دارها حاملة القفة على رأسها، من خلفها الجاموسة.
في يوم من الأيام دخل عليها ابنها السيد (أبي)، عمره عشر سنوات، ينزف من أنفه، ضربه شيخ الخفر، مسحت الدم من أنفه بخرقة قديمة، شدت طرحتها السوداء من فوق مشنة الخبز، لفت بها رأسها، انطلقت كالنمرة الغاضبة، شيخ الخفر كان واقفا من حوله الرجال ... رفعت كفها الكبيرة المشققة في الهواء: ما انخلق اللي يضرب ابني!
في الليل أصبح حديث القرية هذه الحكاية، مبروكة بنت الغزاوية ضربت شيخ الخفر، يتهامس الرجال والنساء، جدعة بنت جدعة، امرأة تساوي عشرين رجلا، لم يحدث في تاريخ القرية أن صفعت امرأة شيخ الخفر، أصبح لها هيبة ... الكل يلجأ إليها.
الغزاوية أم ستي الحاجة كانت لها سمعة أخرى في القرية، شتمت العمدة أمام بيته من حوله الخفراء، أرسل إليها في الليل رجلا يلف رأسه بعمامة كبيرة، في قدميه صندل من جلد الماعز، يمسك في يده عصا صفراء مقسمة بدوائر سوداء، في الصباح وجدوا باب دارها مفتوحا، في المدخل يرقد كلبها مرزوق رأسها معوج، فوق التراب في الزريبة رآها راقدة، عيناها مفتوحتان شاخصتان إلى السماء، حملوها فوق رءوسهم، ساروا بها في الطريق الترابي، نساء ورجال أقدامهم حافية تلامس الأرض بلا صوت، يسيرون الصف وراء الصف بجلابيبهم البالية، عند مدخل القرية حفروا لها المقبرة، فرشوها بورق الذرة الأخضر، بنوا فوقها مقاما بالحجر والإسمنت.
كل خميس كانت النساء تزورها، الرجال يمرون عليها في الأعياد، يتطلع العمدة إلى ضريحها يسأل الناس من بناه؟ لا أحد يعرف من بناه، يبنون بيوتهم بالطوب النيئ، لا أحد يعرف الإسمنت، ليس في القرية حجر أبيض. •••
حكايات كثيرة أسمعها عن ستي الحاجة وأمها الغزاوية، للنساء تاريخ غير مكتوب، تتناقله الألسنة جيلا بعد جيل، أجلس إلى جوار ستي الحاجة أستمع إلى الحكايات، أمسك ذيل جلبابها إذا ذهبت إلى الحقل، أعود معها إلى الدار، أدخل معها إلى غرفة خلفية تسميها «قاعة الخزين» مملوءة بالقمح حتى السقف.
لم تعد تزرع القمح بيدها، تنقيه من الحصى فوق الحصيرة من القش، تحمله واحدة من عماتي فوق رأسها إلى الطاحونة ليصبح دقيقا ناعما أبيض، تعجنه ستي الحاجة في وعاء كبير من الفخار اسمه «الماجور»، تقطعه على شكل كرات صغيرة ... تلقيها داخل الفرن المحمي بالنار ... يخرج على شكل أرغفة كبيرة من الخبز.
لم أعرف أن ستي الحاجة امرأة فقيرة، كانت تبدو غنية، من فوهة الفرن تخرج أرغفة بلا عدد، أقضمها بأسناني تذوب في فمي.
في حياتي كلها ألم آكل خبزا مثل خبزها، لم أعرف للخبز طعما أو رائحة منذ أرغفتها تطقطق داخل الفرن، تتلقاها ساخنة كالنار فوق كفها الكبيرة.
لم أشهد في حياتي مثل هذه الكف الكبيرة، أكبر من كف العمدة أو الملك، أكبر من كف أبي.
في السابعة من عمري علمني أبي الصلاة، بدأت اسمع منه حكايات الأنبياء ... سيدنا إبراهيم الذي أمسك الفأس وحطم الأصنام التي يعبدها قومه ... سيدنا موسى الذي تحولت عصاه إلى ثعبان كبير ابتلع ثعابين سحرة فرعون ... سيدنا يوسف رماه إخوته في البئر، وعادوا إلى أبيهم يقولون الذئب أكله، ستنا مريم العذراء ولدت سيدنا عيسى بروح من عند الله، ناداها مولودها لتهز النخلة وتأكل منها البلح الرطب، سيدنا محمد هبط إليه سيدنا جبريل في غار حراء:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم .
عاد سيدنا محمد إلى زوجته خديجة يرتعد: «دثروني، دثروني .»
في الركن من الشرفة البحرية أجلس ... خيالي يسرح مع حكايات أبي ... أحملق في السماء ... أتصور الله من وراء السحب، إلى جواره: سيدنا محمد، سيدنا موسى، سيدنا عيسى، ستنا مريم.
لم أكن أرى البحر من الشرفة البحرية، أشم رائحته فقط، حين يهب الهواء أول الصباح في أيام الصيف نذهب إلى الشاطئ، تسميه أمي «البلاج».
نركب العربة الحنطور، أتنافس أنا وأخي طلعت للجلوس بجوار السائق فوق المقعد العلوي، أمسك لجام الحصان، أرى الشارع الطويل حتى نهايته، اسمه شارع كوم الدكة، نمر أمام مدرسة أخي، اسمها «مدرسة كوم الدكة»، الحديقة الواسعة المرتفعة فوق الهضبة، يلهث الحصان وهو يصعد، تطرقع حوافره فرحا هين يهبط إلى كورنيش البحر، أشهق معه، أملأ صدري بهواء البحر، ينفتح الأفق عن عالم واسع من المياه الزرقاء الممدودة حتى السماء.
قبل أن أولد (في حياة أخرى) كنت سمكة تعيش داخل هذه المياه، شدوني خارج المياه رغم إرادتي بالسنارة، منذ رأيت البحر لأول مرة في حياتي، وإذا رأيت البحر في أي مكان من العالم ينتابني هذا الفرح، هذه الرغبة للعودة إلى حضن المياه الزرقاء، حضن الأم.
كان لنا في «بلاج الشاطئ» كابينة صغيرة من الخشب، نخلع فيها ملابسنا، نرتدي «المايوه»، لم تكن سعدية (الخادمة) تخلع جلبابها، تجلس على الرمل تحت الشمسية تحرس الحقيبة المنتفخة بالطعام. - ليه «سعدية» مش بتعوم معانا في البحر يا ماما؟ - ماعندهاش مايوه يا نوال.
رد أمي يبدو مقنعا، سعدية لا يمكن أن تسبح في البحر بدون «مايوه»، تصورت أن «المايوه» لا يشترى من السوق، شيء يهبه الله للأطفال الذين لهم أب وأم.
في الليل أنام في سريري تحت الأغطية، سعدية تنام فوق الأرض على الحصيرة أو سجادة قديمة، فتحت عيني رأيتها تبكي، كانت طفلة تكبرني ببضع سنوات قليلة ... لم يكن أحد يراها طفلة.
تصورت أنها ليست مثل الأطفال، ليس لها أب أو أم. - عاوزة أشوف أمي يا ست نوال. - عندك أم يا سعدية؟ - طبعا يا ست نوال. - وهي فين؟ - في بلدنا. - وبلدكم فين؟ - مش عارفة. - اسمها إيه ؟ - كفر الشيخ.
بدأت أفكر في سعدية، كيف يكون لها أم؟ كيف تتركها أمها تعيش في بيت مع الغرباء؟ سعدية تقف أمام الحوض لتغسل الصحون بعد أن نأكل، تلتهب أصابعها من الصابون والصودا الكاوية، في ركن المطبخ تجلس داخل جلبابها تحرس طعامنا، تتصلب عرقا، نحن في المياه الزرقاء نسبح ونلعب.
في يوم جلست إلى جوارها فوق الرمل وبدأنا نلعب معا، بنينا بيتا كبيرا من الرمل على شكل الهرم، كلما سقط البيت على ما فيه تضحك سعدية، تلمع عيناها بالفرح، تتلاشى اللمعة في لحظة، ترمق الشاطئ بنظرة تشبه نظرة جدتي آمنة: الناس قالوا لو مشيت على الشط ده على طول على طول، أكون وصلت كفر الشيخ على آخر النهار. - يا عبيطة يا سعدية، الشط ده يوديكي إيطاليا مش كفر الشيخ. سمعت أمي وأبي يقولان إن وراء هذا البحر بلدا اسمها إيطاليا، سعدية لم تكن تصدق شيئا مما يقوله أبي أو أمي، تؤكد لي أن بلدها كفر الشيخ توجد على امتداد الشاطئ على مسيرة نهار واحد.
صحونا في الصباح فلم نجد سعدية ... خرج أبي يبحث عنها ... قبل أن ينتهي النهار عثر عليها خفراء البحر سائرة على الشاطئ في طريقها إلى بلدها.
عادت سعدية إلينا مطرقة الرأس ... رفعت رأسها والتقت عيناها بعيني ... أدركت لأول مرة في حياتي معنى الحزن ... لم يكن في عينها دموع، الجفاف التام، اليأس التام.
أنظر في المرآة فأرى عيني سعدية تطلان علي، هما عيناي في لحظات الحزن أو اليأس ... لحظات الندم والإحساس بالإثم ... السؤال كان يدور في رأسي: كيف لم أنقذ سعدية؟
صحونا ذات صباح فلم نجدها، مرت الأشهر لم يعثر عليها البوليس ... تاهت على الشاطئ اللانهائي، أسرقتها واحدة من مثيلات ريا وسكينة؟ كان في أذنها حلق صغير له مسمار وقفل كالحلق في أذني، من الصفيح وليس من الذهب.
في السابعة من عمري رأيت أول مظاهرة وطنية في حياتي، كنت عائدة من المدرسة وحدي ... شارع محرم بك انقلب بحرا من الأجساد، آلاف السيقان الطويلة داخل السراويل ... كلهم رجال ... أصواتهم تدوي كالرعد ... يدبون بكعوب أحذيتهم الجلدية على الأسفلت ... سقطت وأنا أجري تحت الأقدام ... كيف نهضت؟ انتشلتني بعض الأيدي ... ضاعت حقيقة المدرسة ... دون أن التفت ورائي، كنت أجري حتى وصلت البيت.
أمي كانت واقفة عند الباب ... تلقفتني بين ذراعيها، كنت أبكي. - الشنطة راحت يا ماما. - الشنطة مش مهمة، المهم إنك سليمة.
تتطلع أمي إلى الشارع واقفة عند الباب، عيناها لا تكفان عن الحركة، تبحثان في وجوه الناس عن أبي. «ربنا يرجعه بالسلامة.»
تأخر أبي، نمت قبل أن يعود، في الحلم رأيته غارقا في بحر من الأجساد، تحمله الأمواج إلى السماء، يهتف: «تسقط الحكومة»، تهبط به أسفل، تدوسه الأقدام وتنطلق رصاصة في صدره، يحملونه إلى أمي ينزف دما، يموت بين يديها، فتشهق بالبكاء، تحمل طفلها الرضيع «أخي الأصغر» فوق صدرها، أختي الصغرى «ليلى» تحملها فوق كتف، أخي الأوسط تحمله فوق الكتف الأخرى، أنا وأخي الأكبر «طلعت» نمشي وراءها نمسك ذيل فستانها، ملابسنا ممزقة مثل الشحاذين.
أهب من النوم مذعورة، أبي مات، قتله الإنجليز أو الحكومة، أمي أيضا غرقت في بحر الأجساد، حاملة إخوتي وأخواتي، أصبحت وحدي أمشي على الشاطئ اللانهائي، أتوه كما تاهت سعدية.
من الإسكندرية إلى منوف
ذات يوم من عام 1938م استيقظت من النوم لأجد أبي وأمي يحزمان الحقائب، الحكومة أصدرت قرارا ضد أبي، النقل إلى مكان أخرى يسميه أبي «منفى»، أو «منوف»، قرية أو بلدة صغيرة مجهولة، لا تظهر فوق الخريطة، عشنا فيها عشر سنوات (من 1938م حتى 1948م)، لم يحصل فيها أبي على ترقية أو علاوة، اندرج اسمه تحت القائمة السوداء، تحت بند «الموظفون المنسيون» في وزارة المعارف العمومية.
من الإسكندرية عروس البحر إلى بلدة مظلمة صامتة، مدارسها الأولية الإلزامية يذهب إليها أطفال الفقراء بقوة القانون (الإلزام).
أصبح أبي مفتشا على هذه المدارس في محافظة المنوفية، يسير بقامته الفارعة في الشارع والناس تشير إليه: البيه المفتش!
في الإسكندرية لم يكن أحد في الشارع يشير إلى أبي، لم يكن يحمل إلا لقب «أفندي»، أهل منوف منحوه لقب «البيه»، أصبحت بنت البيه المفتش، زارتنا ستي الحاجة ثم عادت إلى كفر طحلة تحمل لقب «أم البيه».
أبي أصبح يردد هذا البيت من الشعر:
عش في القرى رأسا
ولا تعش مع الأذناب مدنا
وكنت أسأل أبي: مين هم الأذناب يا بابا؟ ويرد أبي: الأذناب هم النزرا والوزرا يا بنتي، وأعود أسأله: الوزرا يعني إيه يا بابا؟
ويقول أبي: «الوزرا يعني الوزر، والوزر يعني الذنب، والجمع ذنوب»، ويضحك أبي طويلا، ثم يشرح لي الفرق بين الذنب والذنب، يعني الذيل والجمع ذيول أو أذناب ...
لم تكن منوف قرية مثل كفر طحلة، لم يكن لها عمدة، «المأمور» أكبر رأس في البلد، مركز البوليس، الجامع، الكنيسة، المدرسة، المحكمة، مكتب الصحة، محطة القطار، صهاريج المياه، حارة اليهود، والصاغة، أجزاخانة «يني»، مقهى «جرامينو»، بقالة زخاري، خمارة مخالي، مقلة الفول السوداني واللب، دكانة ألف صنف وصنف.
بيتنا في الدور الأول، يطل على الحقول الواسعة الممدودة حتى القبور.
لم أكن أرى القبور من الشرفة الخارجية، تسميها أمي «الفرندة»، القبور مختبئة وراء المزارع، بعد أن يقطع الفلاحون أعواد الذرة تظهر القبور من بعيد، رءوس العفاريت البيضاء متربصة وراء السحب.
صاحب البيت اسمه الحاج محمود، لم يكمل بناء الدور الثاني حيث يسكن هو وزوجته «أم محمد»، وأولاده الأحد عشر، ستة من الصبيان وخمس بنات، يرقدون في غرف بلا نوافذ ولا أبواب، في الشتاء يتكومون في غرفة واحدة على الأرض التراب، يسدون الباب والنافذة بالجلاليب القديمة، يدقونها بالمسامير في الجدران.
الحاج محمود تاجر أقمشة بدون دكان، يتجول في الأسواق فوق حمارته العجوز.
جسمها نحيف ضامر، منحولة الوبر، عظامها بارزة تحت الجلد، تعلوه آثار جروح لم تلتئم، علامات حمراء على شكل كرابيج، فوق ظهرها هرم من الأقمشة الملفوفة أسطوانات طويلة، من فوقها يتربع الحاج محمود مدليا بساقيه، يلكزها بركبتيه البارزتين كالخشب، يشدها من الحبل في عنقها، يلسعها على ظهرها بالعصا الخيزران، يسعل، يبصق، يتمخط على الأرض. «شدي حيلك يا عزيزة.
شيه ... شيه.»
كان نحيفا مثل حمارته، شعر رأسه منحول مثل شعرها، رمادي اللون مثل لونها ، جلبابه طويل واسع من الجبردين، طاقيته فوق راسه ذات خروم «شباك النبي»، عاد بها من الحجاز.
كل صباح أسمع سعاله من تحت سور الفرندة، أطل عليهما يخرجان من الممر الضيق بين السور والحقول متشابهين توءمين، أنفاسها ترسم في الشتاء دوائر من الشبورة، الريح الباردة تلفح أنفيهما بدرجة واحدة، يسعلان بصوت مشابه، يشتد سعال الحمارة، يصبح نهيقا متقطع الأنفاس، يضربها على مؤخرتها ببوز العصا، تسرع الخطى، تلهث، فتحات أنفها، فمها، أذنبها، يسيل منها لعاب أبيض مثل زبد البحر، تتعثر أقدامها، تسقط فيسقط معها، يلعنها وأمها: «يا بنت القحبة»، تسبقه في الجري فيجري وراءها، يضع ذيل جلبابه بين أسنانه، يلهث، يلعن، يسيل من فمه وأنفه لعاب أبيض. يتحشرج نهيقا في حلقها، تشهق، دموع بيضاء تسيل من عينيها، يربت على عنقها بيده المعروقة، يقرب فمه من أذنها الكبيرة المنتصبة. «معلهش، حقك علي يا عزيزة، معلهش! شي! شي.»
تهز الحمارة رأسها، تشهق بصوت متحشرج يشبه صوته: ش! ش! ش! معلهش!
ابنة الحاج محمود اسمها خديجة، تذهب معي إلى المدرسة الابتدائية، نلعب معا أمام البيت «السيجة»، ننط الحبل، نجري في الحقول وراء الفراشات، أعطيها قطعة من اللبانة في فمي، قطعة من العسلية المصاصة «الكرميلا».
في العيد الكبير مكافأتي مليم، يسمونها «العيدية»، كان «المليم» له قيمة كبيرة، عرفت في المدرسة أن الجنيه يساوي مائة قرش، والقرش يساوي عشرة مليمات.
أطبق بأصابعي الخمس حول هذا المليم العظيم، قرص أحمر اللون يلمع تحت الشمس ... عليه صورة الملك، أتلفت حولي خوفا من اللصوص، أجري إلى المقلة، دكان ألف صنف وصنف، أشتري البالونات، الزمامير، البمب، املأ جيوبي باللب الأبيض والأسمر، الفول السوداني المقشر، الحمص، الخروب.
أول يوم العيد في الفجر، الجزار يأتي، يذبح الخروف الضحية، يحكي لنا أبي الحكاية، أراد الله أن يمتحن «سيدنا إبراهيم»، فأمره أن يذبح ابنه «سيدنا إسماعيل»، وضع الأب السكين على عنق الابن ليذبحه لولا أن هبط الخروف من السماء.
أنام وأحلم أن الله أراد أن يمتحن أبي، الخروف لم ينزل من السماء، قطعت السكين رقبتي ، أهب من النوم مذعورة، أتحسس عنقي، همست لأمي بأحلامي فقالت تطمئنني: ده كان زمان يا نوال، لكن الحمد لله دلوقتي ربنا يعرف كل حاجة في قلوب الناس من غير امتحانات.
كلمة «امتحانات» تفزعني، لا أصدق كل ما تقوله أمي عن الله، لا أراها تقرأ القرآن، لا تعرف الحكايات التي يحكيها أبي عن الأنبياء، لا تؤدي الصلوات الخمس كل يوم، تصوم شهر رمضان فقط.
العيد الصغير يأتي بعد شهر رمضان، أفرح بالعيد الصغير أكثر من العيد الكبير، لا خروف يذبح، لا ضحية، لا امتحانات، «الكعك» اللذيذ، البسكوت، تنقشه أمي على شكل العصافير لها أجنحة، «الغريبة» أضعها في فمي تذوب في حلقي مثل قطعة السكر.
في الأعياد يمتلئ بيتنا بالأقارب والزوار، على رأسهم ستي الحاجة، تتربع فوق الكنبة البلدي في الصالة، الملاليم الحمراء تخشخش في حجر جلبابها الواسع، تصطك بعضها بالبعض برنين الموسيقى، نتجمع حولها نحن الأطفال نتنافس على «العيدية.»
تبدأ بإخواتي الصبيان الثلاثة، تعطي كلا منهم مليمين، نحن البنات تعطي الواحدة منا مليما واحدا، ألقيه في حجرها بغضب، فتقول: ربنا قال البنت نص الولد يا عين أمك.
يرمقني أخي الأكبر «طلعت» بعين تلمع بالزهو، تفوقي عليه في المدرسة يصيبه بالإحباط، لا تخففه إلا آية في القرآن، ينطقها بصوت أبي:
لللذكر مثل حظ الأنثيين . في غرفتي، في سريري، أدفن وجهي، وأبكي.
أخي يلعب طول السنة ويسقط في الامتحانات، أشتغل في المدرسة وفي البيت بلا إجازات، لا ينوبني في النهاية إلا مليم واحد وهو يأخذ مليمين؟!
أنزوي في غرفتي بعيدا عن الأعين، في الصالحة يضحكون ويفرحون بالعيد، في غرفتي أكتم الغضب والحزن، غرفتي الصغيرة بجوار المطبخ، لها نافذة ذات أعمدة حديدية صدئة، من خلال القضبان أرى حمارة الحاج محمود راقدة في بير السلم، ترمقني بعينين دامعتين حزينتين، الوحيدة في الكون تشاركني الحزن في العيد.
أتسلل من غرفتي إلى الحمام، أغسل وجهي، ألمح الخادمة منكفئة فوق بلاط المطبخ تدعكه بالفرشة، كانت من عمري، اسمها زينب، أمي أيضا اسمها زينب، لم يكن للخادمة أن تحمل اسم ست البيت الكبيرة، أصبح اسمها «سعدية» على اسم الخادمة السابقة.
رفعت سعدية عينيها من فوق البلاط، دامعتان حزينتان مثل عيني حمارة الحاج محمود، هناك من هم أكثر تعاسة مني في الأعياد، الخادمات والحمارات. •••
السؤال عن عدالة الله كان يؤرقني، ينتابني الإحساس بالذنب، «ربنا هو العادل، عرفوه بالعقل»، فلماذا يتميز أخي طلعت دون وجه حق؟! - ربنا عادل يا ماما؟ - طبعا يا نوال.
أكدت أمي أن الله عادل، اطمأن قلبي.
لا أريد لأمي أن ترى دموعي في العيد، في الصالة تضحك بصوتها المرح، عيناها العسليتان يكسوهما بريق الفرح، لم أر الدموع في عينيها إلا مرة واحدة.
دخلت إلى غرفتها في يوم العيد، لمحتني في المرآة، مسحت عينيها بالمنديل. - انتي بتعيطي يا ماما؟ - لا أبدا. - عينيكي حمرا يا ماما. - كنت باحط فيها قطرة.
لم يكن في يدها زجاجة قطرة، لا شيء في يدها، إنها تخفي عني شيئا، هذا الشيء يجعل جسدي يقشعر، أتشك أمي في عدالة الله؟ أتسأله لماذا يفضل الذكور؟
كأن الله يختفي في الظلمة، أخفي رأسي تحت الغطاء؟ أنهض من السرير مذعورة، أتوضأ، أصلي، أدفن وجهي في سجادة الصلاة: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.» هذه العبارة أرددها المرة وراء المرة حتى يجف حلقي.
أصبحت المثل الأعلى للصلاح والتقوى بين البنات في عائلة أبي وأمي، ابتهج الجميع بالإيمان الهابط من السماء، أكثرهم ابتهاجا ستي الحاجة، تراني راكعة فوق سجادة الصلاة، دافنة وجهي في الأرض، فتقول إنني بلغت سن الرشد، إنني عرفت الله، إنني استويت مثل التينة البرشومي. إن الله سيرسل إلي عريسا من السماء، يقطفني مثل الثمرة من فوق الشجرة، وإلا سقطت إلى الأرض وأصابني العطب.
لم تكن أمي تفكر في العريس، كانت مشغولة طول الوقت، بطنها يرتفع، تأتي الحكيمة وأسمع صراخ أمي، المولود يخرج من بطن أمي، لم أعرف كيف يدخل.
إذا سألت السؤال تنهرني العيون، حياة النساء غريبة تحوطها الأسرار، بطونهن المرتفعة تبدو لي مخيفة.
كان أبي يؤمن بالتعليم مثل ستي الحاجة، تعليم البنات والأولاد، هي تؤمن بتعليم الصبيان فقط، علمت ابنها، وابن زوجها من امرأة أخرى، لم تعلم بنتا واحدة من بناتها الخمس، بقين معها في القرية فلاحات، إلا عمتي الصغيرة نفيسة، أرسلت بناتها إلى المدارس مثل الأولاد.
لم يكن في منوف إلا المدارس الأولية والإلزامية، وبعض المدارس الابتدائية الحكومية، ومدرسة التجارة المتوسطة والصنايع، ومدرسة ثانوية واحدة للبنين. القادرون على دفع المصروفات كانت لهم مدارسهم الخاصة. في الفرندة المطلة على الحقول، يجلس أبي ونحن الأطفال حوله، يحكي لنا عن معاركه الجديدة، الصراع يدور بين الأحزاب وداخل الحكومة، النواب في البرلمان يعارضون التعليم الإلزامي، صاح أحد الباشوات واسمه «البدراوي عاشور»: «أيها السادة، هذا التعليم المجاني يؤدي إلى أن يتحول أصحاب الجلابيب الزرقاء إلى أصحاب جلابيب مكوية! سوف يتعلم أولاد الفلاحين ويصبح من الصعب عليهم أن يمسكوا الفأس بعد ذلك.» أحد الباشوات الآخرين، اسمه وهيب دوس، قال: «تعليم أولاد الفقراء خطر اجتماعي هائل يؤدي إلى ثورات نفسية.» باشا آخر اسمه «طلعت حرب باشا» قال: «التعليم يؤدي إلى تفتيح الأذهان، وهذا خطر على الحكومة.»
أبي يقف في الفرندة كما كان يقف في الشرفة البحرية في الإسكندرية، يحكي لنا عن الصراعات في مجلس النواب بين حزب الوفد وأحزاب الأقلية، الصراع داخل حزب الوفد بين النحاس باشا وأحمد ماهر باشا، يوجه أبي الحديث إلى إخوتي الصبيان: «تصوروا هذا الباشا من الأحرار الدستوريين مش عاوز الفقراء يأكلون العيش الحاف، عاوزهم يموتوا من الجوع! يتهم النحاس وحكومة الوفد أنها أغدقت النعم على الفلاحين والعمال والموظفين، فين النعم دي يا باشا؟! الأسعار بتزيد يوم ورا يوم، والماهية هي هي، وإن زادت شوية ملاليم يبقى خير من عند ربنا.»
في عام 1940م قدمت حكومة الوفد إلى مجلس النواب قانونا ينص على عدم الحجز على بيت الفلاح المفلس العاجز عن دفع الضرائب، صاح الباشوات من النواب: هذه بلشفية!
سألت أبي: يعني إيه بلشفية؟ فقال: يعني شيوعية، يعني إيه شيوعية؟ يعني كل حاجة تبقى على «المشاع». لم أفهم ما معنى كلمة «المشاع»، ستي الحاجة فهمتها، قالت وهي تشوح بيدها الكبيرة المشققة: أهو الباشا ده زي العمدة في كفر طحلة، لا يمكن يرتاح إلا لما الفلاحين يموتوا من الجوع ، لكن ربنا مع الفقرا دايما.
في الأعياد يتجمع في الفرندة أقارب أمي وأبي، تتزعم عائلة السعداوي ستي الحاجة أو عمتي رقية بلسانها السليط، تتزعم عائلة شكري بيه خالتي هانم أو فهيمة أو خالي يحيى أو زكريا.
صراع يدور في الفرندة أشبه بالصراع في مجلس النواب، ينضم الفلاحون من عائلة أبي إلى حكومة الوفد والنحاس، وتنضم عائلة شكري بيه إلى الباشوات من أمثال أحمد ماهر والنقراشي وأحزاب الأقلية.
لم يكن أبي عضوا في حزب الوفد، أو أي حزب آخر، يقول: إن الأحزاب تتلاعب بالشعب تحت اسم الدستور والنظام الديمقراطي. مشايخ الأزهر والإخوان المسلمين يتلاعبون باسم «الشيخ أبو دقن». «تصوروا الشيخ أبو دقن يتعاون مع الملك والإنجليز تحت اسم الإسلام، ويقول لنا: «وأطيعوا أولي الأمر منكم»، ويقول للملك فاروق: الله معك، يرد عليه الملك يقول له: نعم الله معنا. دي شعوذة مش إسلام يا شيخ مراغي!»
كانت طنط هانم تحب الملك فاروق، تؤمن أن الله معه فعلا، عمتي رقية ترى أن الله مع النحاس، يتوتر الجو بين أقارب أبي وأمي، ترمق طنط هانم جلباب عمتي رقية بازدراء، يضع خالي زكريا ساقه فوق الساق الأخرى ويقول بطرف أنفه المرتفع: الله مع الملك طبعا.
تشوح ستي الحاجة بيدها المعروقة في وجه خالي زكريا: وماله ياخويا، خليه معاه، لكن النحاس معاه كل الناس!
ينفجر الجميع في الضحك، ستي الحاجة تضحك حتى تدمع عيناها، تمسحهما بطرف الطرحة السوداء وهي تهمس: «أستغفر الله العظيم، اللهم اجعله خير يا رب.» •••
الحرب العالمية الثانية قامت، أجبر الإنجليز الفلاحين في مصر على زراعة مساحات أكبر من القمح والحبوب لإطعام جيوش الحلفاء، تدهور إنتاج القطن، زادت المضاربات في البورصة لصالح الإنجليز والباشوات، حالت ظروف الحرب دون نقل الأسمدة، ارتفعت الأسعار، حدد الإنجليز أسعارا تعسفية للقطن المصري تقل عن السعر العالمي؛ بحجة أن رفع سعر القطن لا يفيد إلا الباشوات، غضب الباشوات في حزب الوفد والأحزاب الأخرى، أعلنوا أن الإنجليز يزرعون الحقد بين الطبقات في مصر، يشجعون الشيوعية والإلحاد، انتهز الملك الفرصة ليضرب حزب الوفد والنحاس، أقدم الملك على ما يشبه الانقلاب الدستوري، أعلن توليه زمام الأمور، لا أحد يستطيع أن يؤثر عليه إذا تبين له صواب لأمر، يعمل لصالح شعبه، واثقا من نفسه، متوكلا على الله الذي يلهمه، الله دائما معه.
كان الملك فاروق شابا من حوله من الباشوات ومشايخ الأزهر، أشاروا عليه باستمالة الشباب؛ شاب اسمه «أحمد حسين» يتزعم حزبا اسمه مصر الفتاة (تصورت أن أعضاءه كلهم فتيات) أصبح مؤيدا للملك، يستخدم كلمة «الله» كشعار، بدأ الصراع بين النحاس وأحمد حسين، قال له النحاس: «أنت دسيسة، كلمة الله التي وضعتها في أول شعارك شعوذة؛ لأن وضع كلمة الله في برنامج سياسي هو شعوذة.»
كان الإنجليز يتعاونون مع الملك والأحزاب الأخرى ضد النحاس، في أبريل 1940م اتهم النحاس الإنجليز بمساندة الانقلاب الدستوري، طالب بجلاء القوات البريطانية بعد انتهاء الحرب مباشرة. •••
كنت في التاسعة من عمري عام 1940م، في الثانية ابتدائي، لم يدخلني أبي مدرسة حكومية من المدارس التي يفتش عليها. وزارة المعارف تحشر الأطفال في الفصول مثل السردين في العلب، تعين لهم أكثر المدرسين جهلا وقسوة، يجهلون مبادئ التعليم، يضربون الأطفال بالعصا الغليظة.
أبي يعقد الاجتماعات في الفرندة لهؤلاء المدرسين، يلقنهم مبادئ التعليم واللغة والنحو والإعراب، يهددهم بخصم يوم أو يومين من المرتب إذا لم يعملوا التلاميذ على النحو الصحيح.
أجلس في الركن أستمع إلى الدرس، أستوعب ما يشرحه أبي، إذا سأل سؤالا أرفع لهم إصبعي: تلميذة في ثانية ابتدائي تعرف أكثر منكم؟!
يجلسون في الفرندة فوق الكراسي من القش، فوق رءوسهم طرابيش حمراء مكرمشة، عيونهم نصف مغمضة، وجوههم ناحلة، سراويلهم متهدلة، مرتب الواحد منهم في الشهر جنيهان أو ثلاثة، تدرج وزارة أسماءهم تحت بند: «المدرسون يعلمون النشء الجديد مستقبل الأمة الباهر.»
أبي يسخر من وزارة «المعارف»، يسميها وزارة «المقارف» (جمع كلمة قرف). المدرسون هم «قاع مقرف»، لا يعرف الواحد منهم الألف من كوز الذرة، الجنة تحت أقدام هؤلاء المدرسين، يعلمون النشء الجديد مستقبل الأمة المظلم بإذن الله.
في الأعياد، يطوف هؤلاء المدرسون على رؤسائهم من النظار أو المفتشين حاملين الهدايا، أقفاص من البيض، البرتقال، التين البرشومي، أو ذبائح من الوز، والبط، والفراخ، تشبه القرابين التي كانت تقدم لإله يهوه في التوراة، يتشمم الرؤساء رائحة الشواء فيروق المزاج، فيكتبون تقارير سرية بدرجة «ممتاز يستحق الترقية.»
كان أبي يطردهم مع أقفاصهم وذبائحهم. - النبي قبل الهدية يا سيد بيه. - الهدية رشوة يا أفندية!
لم يكن في منوف إلا مدرسة واحدة ابتدائية للبنات غير تابعة للحكومة، هي المدرسة الإنجليزية، كانت تشمل المقررات والمناهج الحكومية، بالإضافة إلى تعليم اللغة الإنجليزية.
منذ الاحتلال البريطاني عام 1882م بدأت المدارس الإنجليزية الخاصة تنتشر في مصر، بعضها مدارس الإرسالية، وبعضها مدارس عادية تابعة النظام المصري، لا تخضع لتفتيش الحكومة، الإجازة فيها يوما السبت والأحد (بدلا من يوم الجمعة)، يدرس الدين الإسلامي واللغة العربية مثل المدارس الحكومية، بالإضافة إلى تدريس الدين المسيحي لأطفال الأقباط، والدين اليهودي لأطفال اليهود.
كانت منوف «مركزا» بلدة صغيرة، لا هي قرية مثل كفر طحلة، ولا هي مدينة مثل القاهرة أو الإسكندرية، تقع على خط سكة حديد شبين الكوم، القطارات السريعة لا تقف عندها، أغلبها حقول ومزارعون، فيها بعض المصانع، أشهرها مصانع الدخان والسجائر، تملكها عائلة الدفراوي، اشتهر منها بعض رجال السياسة والأحزاب؛ منهم صبري أبو علم في عهد النحاس باشا، ولبيب شقير أصبح رئيسا لمجلس الشعب في عهد جمال عبد الناصر. شارع الكنيسة من الشوارع الكبيرة، يسكنه عدد من العائلات القبطية، في نهايته كنيسة ضخمة يصلصل جرسها يوم الأحد أو حين يموت أحد المسيحيين، حارة اليهود توازي شارع الكنيسة، تمتلئ بالمحلات الصغيرة وتجار الصاغة، وفي نهايتها الخمارة.
شارع المحطة أكبر الشوارع، يمتد من محطة القطار والسوق الكبير إلى الميدان الصغير (حيث مكتب البريد وصهاريج الماء)، يجتاز الكوبري (شارع الترعة)، ثم يزدحم بالناس والمحلات من كل الأنواع: الدخان والسجائر، عرائس مولد النبي، الكنافة، اللب، الكراريس ، زمامير العيد، الباعة الجائلون ينادون على بضائعهم راكبي الحمير أو عربات الكارو، المتاجرون في القطن أو البرسيم، عازفو الموسيقى في الأعياد والمواسم، الضاربون على الدف والطبول، الحواة يرقصون القرود ويبتلعون النار، المنادون المداحون، الندابات النداهات الغوازي العالمات الراقصات في الحفلات والحانات، بيوت البغاء، والبوليس، والشحاذون، وذوو العاهات.
كنت أمشي كل يوم في هذا الشارع الرئيسي لأذهب إلى المدرسة، أغرق في البحر الخضم، المياه العميقة المتحركة تطفو عليها وجوه بشر كالأعشاب السابحة، تنقلب إلى أمواج عالية، الشمس قوية ساطعة طول العام، بلا رعد ولا برق ولا مطر، ما عدا بعض الأيام في الشتاء، يصبح المطر مثل الفاكهة النادرة، أتلقى رذاذ المطر فوق وجهي كما يتلقاه الزرع الأخضر، عيون الفلاحين تتجه نحو السماء، تشكر الله على نعمته. يشتد الجفاف، تمتنع السماء عن المطر، يتجمع الناس في الجامع الكبير، يؤمهم الإمام الشيخ، يرفعون أيديهم، يدعون الله أن يأمر السحب لتتجمع، والسماء أن تنفجر بالرعد والبرق والمطر، إذا انخفضت مياه النيل يركعون لله، يطلبون منه المغفرة وإطلاق مياه النيل بالفيضان.
كنت أمشي في الشارع تحت إبطي حقيبة المدرسة، الشارع الرئيسي ينتهي إلى ميدان كبير، فيه أجزخانة يني، مقهى «جرانيمو»، ومكتبة صغيرة يملكها رجل اسمه «شقير»، يقف وراء طاولة خشبية يبيع الأقلام والكراريس ودوايات الحبر. «لبيب شقير» يقف بدل أبيه وراء الطاولة، يبيع لي سن القلم الحبر بنصف مليم، قال لي: أنا زميل أخوك «طلعت» في المدرسة، خرجت من المكتبة دون أن أرد عليه، كانت أمي تحذرني من الرد على الصبيان الغرباء.
أصبح الأب «شقير» من التجار الأثرياء في منوف، يجمع نصف المليم على نصف المليم ويصنع الملايين، هكذا يقول أبي، لم يكن أبي ينظر إلى مهنة التجارة باحترام، أهل منوف (المنوفية كلها) اشتهروا بالبخل، «المنوفي لا يلوفي ولو أكلته لحم الخروفي» عبارة تجري على كل لسان.
كان «لبيب شقير» تلميذا مجدا، يتفوق على أخي وأبناء المتعلمين والموظفين، يرسب أخي في الامتحان، فيقول له أبي: ابن مفتش التعليم يسقط وابن بياع الكراريس والقراطيس ينجح بتفوق ؟!
منذ مكتبة شقير في منوف لم ألتق بلبيب إلا عام 1980م (أربعون عاما تقريبا)، التقينا في أحد المؤتمرات الدولية في بيروت، دعاني إلى الغداء في مطعم طل على «الروشة»، قال لي: «فاكرة منوف؟! كنتي تركبي البسكليتة في شارع الترعة، وكان الصبيان يجروا وراكي ويقولوا: شوفو البنت راكبة عجلة! وكنا احنا شباب منوف نتجمع عند الكوبري في شارع الترعة عشان نشوف بنت البيه المفتش وهي راكبة العجلة، وكل واحد فينا يحلم بيها ويقول لنفسه: لازم أنجح بسرعة عشان أتقدم لأبوها.»
كانت المرة الأخيرة التي رأيت فيها الدكتور لبيب شقير، سمعت أنه مات، لم أعرف عنه إلا القليل، في 15 مايو 1971م ضرب السادات رجال عبد الناصر فيما أسماه «ثورة التصحيح» للقضاء على مراكز القوى، كان الدكتور لبيب شقير (رئيس مجلس الشعب) واحدا من هؤلاء، لم يدخل السجن مثل وزير الداخلية «شعراوي جمعة» أو غيره من الوزراء السابقين، كان من الأساتذة في القانون، تخرج في كلية الحقوق بدرجة الامتياز، انجذب إلى السياسة والحكم. •••
ناظرة المدرسة الإنجليزية اسمها «مس هيمر»، تمر علينا في طابور الصباح في يدها مسطرة طويلة تضرب بها البنات على أطراف أصابعهن.
تفتش عن الأظافر غير المقصوصة، تنظر بعينيها الزرقاوين من وراء النظارة البيضاء بين الأصابع أو تحت الأظافر، بطرف المسطرة تفلق شعر الرأس، عيناها الضيقتان تبحثان عن القملة الصغيرة، مثل رأس دبوس الإبرة، أو بيضة القملة «السبانة» الأصغر حجما من القملة، تدس أنفها الطويل (المقوس الأحمر) تحت المريلة، تتشمم ملابس البنت الداخلية، ترفع طرف المريلة ببوز المسطرة تكشف عن القميص الداخلي أو السروال.
كان معنا في الفصل تلميذة اسمها «فاطمة» بنت المأمور، تقف في أول الطابور، تبتسم مس هيمر في وجهها وتقول لها: جود مورننج فاتيما. - جود مورننج مس هيمر.
تمر علينا دون أن تفتشها، لم تفتش تلميذة أخرى اسمها إيزيس ابنة الدكتور مفتش الصحة، ولم تفتش «سارة» ابنة كوهين صاحب محلات الصاغة، وتفتش خديجة ابنة الحاج محمود وغيرها من التلميذات الفقيرات، تلسعهن على أصابعهن بالمسطرة، أو تخرجهن من الطابور .
فوق وجهي تمر عيناها الزرقاوان في برود وصمت، لم تبتسم لي أو تقول لي جود مورننج، لم تفتشني أيضا (لأني بنت المفتش)، لم يكن أبي يفتش على هذه المدرسة، يأتي إلى مكتب الناظرة أحيانا، شكاوى في جيبه من أولياء الأمور عن الإهمال في تعليم اللغة العربية أو الدين الإسلامي، بعض الشكاوى لآباء يخشون على بناتهم المسلمات من قراءة الإنجيل في طابور الصباح.
قبل أن تنصرف الطوابير كانت مس هيمر تصعد إلى المنصة العريضة العالية، تمسك بين يديها الإنجيل (باللغة الإنجليزية)، تقرأ هذه الآيات والتلميذات والمدرسات يرددن وراءها:
Our Father Which are in Heaven, Hallowed be gouy name.
The kingdom come, The will be done in earth as it is in heaven, Give us this day our daily bread, Forgive us our debtors as we forgive our debtors, And not lead us into temptation, but deliver us from evil: for thine is the kingdom, and the glory, forever, Amen.
وتهبط مس هيمر من فوق المنصة، تصعد مكانها واحدة من المدرسات، تقرأ هذه الفقرة من الإنجيل باللغة العربية والتلميذات يرددن وراءها:
أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفانا، أعطنا اليوم. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا. ولا تدخلنا في تجربة. لكن نجنا من الشر. لأن لك الملك والمجد إلى الأبد. آمين.
لم يكن أبي مثل غيره من الآباء في منوف، لم يكن يرى أن قراءة الإنجيل فها ضرر، بل إنها واجب، الإنجيل واحد من كتب الله الثلاثة، الإنجيل والتوراة فيهما هدى للناس ونور، هكذا قال الله في القرآن.
لم يكن أبي أيضا ضد تعلم اللغة الإنجليزية، يقول لنا: تعلموا لغة الأعداء لتنتصروا عليهم.
أحب اللغة الإنجليزية، أحب اللغة العربية أكثر، أبي يدرس لنا الأدب العربي في البيت، يقرأ معنا أبيات الشعر لأبي العلاء المعري أو غيره من الشعراء.
لأبي مكتبة في الصالة، تضم كتبا عربية قديمة وحديثة، المعلقات ولسان العرب، الجاحظ وسيبويه والرازي والأصفهاني وكتابه الأغاني، أبو العلاء وأبو نواس وجرير والفرزدق وابن المقفع، ديوان الخنساء، دنانير، بثينة، أم جعفر الهاشمية، خديجة، عائشة، تراجم النساء في بيت النبوة، المازني والمنفلوطي وطه حسين وعباس محمود العقاد وديوان حافظ وشوقي والبارودي، وغير ذلك من الكتب.
أبي كان مغرما بأبي العلاء المعري، يردد دائما قولته المشهورة حين ينقد الشيخ المراغي أو غيره من مشايخ الأزهر: «سكان الأرض قسمان؛ قسم عندهم عقول وليس عندهم دين، وقسم عندهم دين وليس عندهم عقول.»
أبي كان يشجعني على القراءة والتفكير، جعلني أحب الأدب منذ الطفولة، لم أتعلم الكثير في المدرسة، مدرس اللغة العربية والدين يشبه المدرسين في المدارس الإلزامية، يرتدي طربوشا مكرمشا وبدلة مكرمشة، يهرش رأسه وما بين فخذية، يلسعنا على أردافنا بالعصا الخيزران، نطلق عليه اسم «بعبع أفندي»، له عين أصغر من العين الأخرى، يختفي سوادها تحت الجفن، فوق شفته العليا شارب أسود كثيف الشعر، تعلوه دائما ذرات مخاط أبيض، يمسحه بمنديل كبير فيه مربعات زرقاء، يقرأ من القرآن بصوت عال وهو جالس القرفصاء فوق الكرسي، يتجمع اللعاب الأبيض عند زاويتي فمه، يتناثر الرذاذ في الجو.
كانت مس هيمر تفتش على المدرسين والمدرسات، في قدميها حذاء له كعب سميك من الكريب أو الكاوتش، تمشي بلا صوت، تفتح باب الفصل بلا صوت، تدخل فجأة فينتفض إسماعيل أفندي واقفا، رافعا يده اليمنى حتى يلمس إبهامه جبهته (التحية العسكرية منذ الاحتلال التركي)، يمسح فمه بالمنديل: جود مورننج مس هيمر. - جود مورننج مستر إسمائيل.
لم تكن مس هيمر تعرف اللغة العربية، لا تستطيع أن تنطق حرف العين، تقلبه إلى ألف أو ياء. لم يكن إسماعيل أفندي ينطق كلمة «مورننج» يقلبها إلى «مورجن»، نكتم الضحك نحن التلميذات.
تقف مس هيمر في مؤخرة الفصل، يعود إسماعيل أفندي إلى الجلوس والقراءة من القرآن، يبلل إصبعه بطرف لسانه، يفر الصفحة الواحدة وراء الأخرى، حتى يعثر على بعض الآيات المناسبة:
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ...
وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ...
قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ...
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين .
لم تكن «مس هيمر» تفهم شيئا من هذا، أو ربما كان تتفهم، لم أكن أعرف، كنت أظن أنها لا تعرف اللغة العربية، فما بال أن تفهم كلام الله في القرآن!
في النوم أفكر، هل ستدخل مس هيمر النار أو الجنة، في الحلم أراها تدخل الجنة بلا صوت كما تدخل الفصل، تصورت أنها لن تدخل النار، تصورت أن إبليس لا يعرف إلا اللغة العربية، مس هيمر لن تفهمه حين يوسوس لها.
كنت أظن أن مس هيمر لا تحيض مثل النساء المصريات، لا تبول أيضا، ترتدي دائما ملابس حريرية نظيفة مكوية، الياقة منشأة، شعرها الأصفر ملفوف بعناية لا يمكن للريح أن تطير شعرة واحدة من رأسها، وجهها متورد مشرب بحمرة الدم مثل الإنجليز.
كنت أظن أن مس هيمر أغنى من المأمور أو حتى الملك فاروق، سمعت من إسماعيل أفندي أن الله هو الذي يخلق الغني والفقير، تصورت أن الله يحب مس هيمر والإنجليز أكثر مما يحب ستي الحاجة والمسلمين؛ لأن الإنجليز أغنياء والمسلمين فقراء.
كانت معي في الفصل زميلة اسمها «حميدة» من عائلة الشقنقيري، ركبت في العيد عربة كارو، وراحت تغني مع الأطفال، كانت العربة تجتاز المزلقان، وجاء القطار، سقطت «حميدة» تحت العجلات، فقدت ساقيها الاثنتين، أصبحت تمشي على عكازين من الخشب، في حصة الألعاب الرياضية تجلس على الدكة في الفناء، تتطلع إلينا ونحن نجري، تغمض عينيها تتحسس ساقيها، تتصور أنهما من لحم ودم.
كنت أرى عكازيها مركونين إلى جواري في الفصل، القشعريرة تسري في جسدي، لم يكن في مقدوري النظر إلى جسد أصابه التشوه، كنت أتطلع إلى الأجسام الصحيحة الموفورة الصحة والحيوية.
لم أحب في المدرسة إلا حصة الموسيقى والألعاب الرياضية؛ تأخذنا «مس إيفون» إلى الفناء الواسع في الهواء الطلق والشمس، نلعب الباسكيت بول والفولي بول والبنج بونج. «مس إيفون» شابة مصرية، من الصعيد، بشرتها سمراء بلون بشرتي، قامتها تقترب من قامتي، ترتدي فستانا قصيرا فوق الركبتين، تلف خصرها النحيف بحزام جلدي عريض، شعرها قصير مجعد تلفه بشريط عريض من التافتاه، حذاؤها من الجلد المطاط بدون كعب، خطوتها سريعة تشبه القفز، شفتاها منفرجتان عن ابتسامة عريضة تكشف عن أسنان بيضاء كبيرة تشبه أسنان أمي.
غرفة الموسيقى كانت في مؤخرة الفناء، يتربع البيانو الأسود الكبير ذو المفاتيح البيضاء، تجلس «مس إيفون» على المقعد الصغير «بدون ظهر » أمامها النوتة، أجلس إلى جوارها أتعلم العزف وأغني:
دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي، دو.
تسري الموسيقى في جسدي مثل تيار الدم، تصعد إلى عنقي ورأسي، ثم تهبط إلى صدري وقلبي، أحس الخفقات تحت أضلعي، أكان هو الحب؟ هل أحببت الموسيقى أم مس إيفون؟
كنت أسمع الموسيقى والأغاني في الراديو، كلها أغاني الحب، حب الرجل للمرأة، أو حب المرأة للرجل، لم يكن من حولي رجل واحد يخفق له قلبي، كان يكفي أن أمشي في الشارع لأكره كل الرجال وكل الصبيان.
يرمقون جسدي بتلك النظرة المحملقة مثل السهم ينطلق ويصيب صدري، النهدان الصغيران أخفيهما تحت الحقيبة، أنطلق إلى المدرسة أجري، عيونهم تطاردني من أبواب المقاهي والحوانيت أو فتحات الأزقة والحواري.
يلمحني أبي وهو جالس في مقهى «جرامينو»، يشرب القهوة، يلعب الطاولة مع الرجال، ينادي علي لأذهب إليه أسلم على أصدقائه: تعالي يا نوال سلمي على الدكتور مفتش الصحة، دي بنتي نوال، أكبر بناتي، تلميذة شاطرة عند مس هيمر وعاوزة تطلع دكتورة.
كلمة «دكتورة» ترن في أذني مثل السحر، تنتشلني من عيون الرجال إلى السماء، أطير بجناحين، كنت أكره الدكاترة، خاصة الدكتور مفتش الصحة، له أصابع غليظة يقبض بها على ذراعي يغرز الإبرة في اللحم، أنفاسه لها رائحة السبرتو، أسنانه صفراء بلون الدخان، يفحص صدري بالسماعة ويضغط بإصبعه على ثديي، لم يكن لي ثدي بعد، مجرد برعم صغير مثل الدمل له بوز مدبب يؤلمني لأقل لمسة، فما بال أن يضغط عليه مثل ذلك الإصبع؟
في الحلم لم أكن أرى نفسي دكتورة تمسك بإبرة طويلة تغرزها في أذرع الناس، كنت أرى نفسي جالسة إلى البيانو أعزف الألحان، أغني وأرقص، أدب بقدمي فوق الأرض حاملة فوق رأسي قرص الشمس مثل الإلهة إيزيس.
في آخر العام كان هناك الاحتفال الكبير، اختارتني مس إيفون من بين البنات لألعب دور إيزيس فوق خشبة المسرح، حفظت الدور عن ظهر قلب، تعزف مس إيفون على البيانو من وراء الستار، أنا واقفة داخل الفستان الحريري الطويل، أبيض اللون، الضوء الملائكي الإلهي، حول رأسي تاج على شكل قرص الشمس تشع منه ملايين النجوم، أغني وأبكي على موت الإله أوزوريس، يبكي معي الجمهور الجالس في الفناء، منهم أبي وأمي وإخوتي وأخواتي وزميلاتي في المدرسة، ثم تحدث المعجزة، الإلهة إيزيس تلامس بيدها لجسد الميت، تدب فيه الحياة من الجديد، أدب بقدمي فوق خشبة المسرح، أرفع رأسي عاليا في السماء، أرقص على دقات البيانو أغنية النصر، يدب الجمهور الجالس في الفناء بأقدامه فوق الأرض، يهتفون في نفس واحد: برافو إيزيس، يقذفوني بالورد، بالفل والياسمين، يبتسمون حين يرونني أمشي في الشارع، يشاورون علي: «إيزيس أهه!»
الحلم
«نوال موهوبة، يمكن تبقى فنانة ممتازة يا زينب هانم.»
هذه العبارة تقولها مس إيفون لأمي حين تزورنا في البيت، قلبي يخفق حين أسمعها تنطق «نوال»، يصبح اسمي غير الأسماء، أسمعه لأول مرة، كلمة «موهوبة» ترفعني فوق السحب.
مس هيمر تزورنا في البيت أحيانا ومعها مس إيفون، أو تأتي مس إيفون وحدها، تفتح أمي الصالون، الغرفة المقدسة في البيت، مغلقة طول العام، النوافذ والأبواب، لا تفتح إلا للضيوف الغرباء، مقاعدها من الخشب الزان، مكسوة بالحرير الأحمر له ملمس القطيفة، مساندها ذهبية، يسمونها «الطقم المدهب»، الكرسي فيها يحمل لقب «الفوتيه»، له غطاء أبيض يحميه من الهواء والضوء. فوق الأرض سجادة عجمية كبيرة زاهية الألوان، دخلت بها أمي مع جهاز العروس ليلة زفافها.
لم يكن مسموحا لنا نحن الأطفال أن ندخل إلى الضيوف الغرباء، وتسأل مس إيفون: فين نوال؟ أسمع صوت أمي يناديني: يا نوال، تعالي سلمي على مس إيفون، أكون واقفة وراء الباب أنتظر هذه اللحظة، أرهف السمع لما يدور، أندفع إلى الصالون مثل الصاروخ.
في الصالون لم تكن أمي هي المرأة التي أراها في المطبخ، ترتدي مع ثوبها الحريري وجها آخر وجسدا آخر، ينسدل شعرها الذهبي الطويل فوق كتفيها العاريتين البيضاوين، عنقها يبدو أطول مما كان، يشع ضوءا ناعما كالرخام، يحوطه العقد «الألماظ» الماسي، تنعكس على فصوصه الأضواء، في أذنيها يتدلى الحلق الألماظ، يهتز مع رأسها، تشع فصوصه كالنجوم ، فستانها الحريري الأصفر، له حمالتان رفيعتان فوق الكتفين، يكشف عن الجزء الأعلى من صدرها حتى بداية الشق بين النهدين، يتربع «البروش» فوق صدر الفستان أعلى النهد الأيسر مثل قرص الشمس، حول معصمها الأيسر ساعة حريمي صغيرة لا يمكن رؤية أرقامها الدقيقة، محلاة بفصوص من الألماظ، حول إصبعها الخنصر خاتم الزواج الذهب، محفور عليه اسم زوجها «السيد السعداوي»، حول معصمها الأيمن الإسورة ذات الفصوص المشعة، وهي الشبكة التي قدمها أبي لأبيها يوم الخطبة.
في الصالون أمي تبدو مثل الملكة أو واحدة من الأميرات، صوتها يرن متألقا صافيا كالماء العذب، ضحكتها لها رنين الفضة، تلقي رأسها إلى الوراء مع شعرها، تضحك كاشفة عن أسنانها البيضاء، يدها صغيرة بضة تتحرك برقة في الهواء وهي تتكلم، أو تسكن في حجرها وهي صامتة، تتشابك أصابعها مع اليد الثانية، ينامان فوق فخذيها مثل توءم يمامتين.
إلى جوارها تبدو مس إيفون، تنطق أمي كلمة «إن شاء الله» بهذا الصوت، فأدرك أن الله لن يشاء أبدا، وأن البيانو لن يدخل بيتنا في حياتي.
أبي يدخل إلى الصالون ليسلم على مس إيفون، في كل مرة تسأله عن البيانو، في إحدى المرات قال لها أبي: بيانو إيه يا مس إيفون، الغلاء بيزيد يوم ورا يوم، وماهية الحكومة بتنقص!
انكمشت داخل جسدي من شدة الخزي، أصبح أبي في نظري رجلا فقيرا، داخل جلباب البيت أو البيجاما من الزفير المقلم، قدماه الكبيرتان السمراوان داخل شبشب قديم يشبه شبشب ستي الحاجة، أطرق برأسي إلى الأرض، أخفي كعب حذائي المتآكل تحت المقعد، السجادة العجمية تبدو كالحة الألوان منحولة الوبر يعلوها ثقب صغير أخفيه بقدمي.
كنت في التاسعة من العمر، أحلم كل ليلة بالبيانو، مئات الليالي، آلاف الليالي، أحلم أن البيانو هبط من السماء ودخل إلى غرفتي من النافذة، ستة وعشرون عاما أحلم بهذا البيانو حتى بلغت ابنتي «منى » العاشرة من عمرها، اشتريت لها بيانو من أحد المزادات في القاهرة، ثمنه خمسة وستون جنيها، ادخرتها من راتبي منذ تخرجت في كلية الطب، أحد عشر عاما أدخرها الشهر وراء الشهر. كنت أسكن وابنتي في شقتي في الدور الخامس «في الجيزة»، فتحت عيني في الصباح ورأيت البيانو يدخل من النافذة مربوطا بالحبال، بدت اللحظات خيال من طول ما رأيت هذا المشهد في النوم، الليلة، ستة وعشرون عاما، بدت الحقيقة هي الحلم. •••
لبيتنا في منوف غرفة واسعة تحت الأرض يسمونها «البدروم»، تخزن فيها أمي بعض الأشياء القديمة، أخي «طلعت» جعل منها عشا للحمام الزاجل، ومسكنا لكلبه الكبير «فاتي» من نوع الوولف، يشبه الذئب، تفزع منه البنات المتجمعات حول طرمبة المياه يملآن الجرار. يبتسم أخي ويمد عنقه مثل الديك الرومي. يربت على رأس الكلب كأنما هو البطل مروض الأسود. ترمقه البنات بطرف عين، تمتلئ عيونهن بالإعجاب، يتلكأن في ملء الجرار، يتضاحكن، يتغامزن، يطلقن القفشات والنكات، تطل عليهن من النافذة «أم محمد» (زوجة الحاج محمود)، فيسود الصمت، تختفي الواحدة وراء الأخرى. «بنات آخر زمن، مايستحوش!»
هذه العبارة، «أم محمد» ترددها كل يوم، كلمة «مايستحوش» تعني البنات بدون حياء أو خجل، البنات في زمن «أم محمد» كان عندهن حياء، تطرق الواحدة برأسها حين تمشي، لا يمكن أن ترفع عينها في عين رجل، لا يمكن أن يخرج منها صوت أو تضحك بصوت مسموع مثل هؤلاء الفاجرات. - في أيامنا كانت البنات مؤدبة يا أم محمد. - أيوة يا ست زينب هانم، كانت البنت قطة مغمضة، لكن النهاردة في الزمن الأغبر ده البنت من دول ماتستحيش، عينها مفتوحة، يندب فيها رصاصة يا ست زينب هانم.
هكذا يدور الحوار بين أمي وأم محمد، حين تأتي لزيارتنا، تنضم إليهما طنط نعمات (إذا جاءتنا في زيارة)، أو ستي الحاجة أو واحدة أخرى من الخالات أو العمات الزائرات. يجلسن في الصالة الواسعة على الكنب البلدي، يشربن القهوة أو المغات، تقرأ «أم محمد» لهن الفنجان، يلعبن الكوتشينة «بصرة» أو «كونكان»، تقرأ لهن طنط هانم البخت في ورق الكوتشينة، يطرقعن باللبان الدكر أو النتاية. تطرقع ضحكة طنط نعمات وهي تصيح: انا باحب الدكر أكثر من النتاية، ترتفع الضحكات النسوية الناعمة الممطوطة أو المكتومة كالشهقات، تخفي عمتي رقية نصف وجهها بطرف طرحتها السوداء وتقول: يسلم بقك يا نعمات هانم، تمط طنط فهيمة شفتيها في امتعاض: النتاية طعمها أحسن إذا كانت من الوراور، تضحك ستي الحاجة حتى تدمع عيناها تقول: الوراور مافيش زيهم، تنهض أم محمد وتعد «الحمام» أو «البخور» أو «الحلاوة». تدندن أمي بأغنية سيد درويش: «فيك عشرة كوتشينة في البلكونة»، وأغنية «يا حاير يا داير يا جوز الضراير.» - البيضة تقول للسمرة. - مين زيك عندي يا جارية. - والسمرة تقول للبيضة. - الجير كتير على الحيطاني. - واللفت بأرخص الأتماني. - وجوزي ما يحب إلا أني. - وأكثر لياليكي برة.
صوت أمي وهي تغني يترامى لي من الصالة وأنا في غرفتي الصغيرة، من وراء باب الحمام المغلق أسمع صوت صرخات طنط نعمات أو طنط هانم أو فهيمة، أدرك أن أم محمد تنزع الشعر من أجسادهن «بالحلاوة»؛ عجينة من السكر والليمون تطهى على النار حتى تصبح مطاطة، تنزع بها النساء الشعر من فوق أجسادهن، الذراعين، الساقين، تحت الإبط، أسفل البطن وبين الفخذين.
الواحدة منهن تخرج من الحمام مثل الأرنب المسلوخ، وجهها أحمر بلون الدم، ذراعاها وساقاها وعيناها، حاجباها منتوفان، وجفونها حمراء متورمة.
ترمقني الواحدة منهن بعين غاضبة، كأنما كشفت عن عورتها أو عن منبع ذلها وهوانها، تمتد يد الواحدة منهن فتلزمني في كتفي بإصبع حاد مثل الإبرة، تقرصني من خدي أو أذني أو ثديي، قرصة مؤلمة تشبه قرصة العقرب، لم أكن أعرف لماذا يفعلن ذلك، هل كانت مداعبات أم عقوبات؟ أصابع قوية مدببة متصلبة محرومة من شيء ما، تعوض عن حرماتها بأن تغرز نفسها في لحم الأطفال.
أكثرهن غضبا مني كانت طنط نعمات وعمتي رقية، امرأتان تنتميان إلى طبقتين مختلفتين، من عمر واحد تقريبا، بدون زوج «مطلقتان»، من البعد متشابهتان، عند الاقتراب يظهر بينهما التناقض؛ اليدان الكبيرتان المشققتان لإحداهما تعلوهما آثار مقبض الفأس، اليدان البيضاوان الأخريان ناعمتان من البطالة واللاعمل. الاثنتان تؤمنان بالله والرسول، تخافان من نار جهنم، تخضعان لقانون الزواج والطلاق، تقرءان الغيب في الفنجان والودع، تحضران الزار وجلسات تحضير الأرواح، تعلقان حول عنقيهما «حجابا» يبطل مفعول الحسد والسحر، ماتت الاثنتان في صمت دون أن يدري أحد، مهجورتين بلا بيت ولا أطفال.
من مكاني في «دير هام» على بعد السنين وآلاف الأميال، أراهما تسيران عبر فرجة في السحب، المرأتان الفانيتان، تحملان فوق ظهريهما صليبيها وتسيران، تلقيان بأنفسهما في النار، طاعة لله وتكفيرا عن الذنب منذ أمهما حواء.
لم أنجذب إلى حياة النسوة هؤلاء، لم أتخيل نفسي واحدة منهن، أفتح الكوتشينة لأعرف مستقبلي، أو أنزع الشعر من فوق جسدي بالحلاوة وأبكي من الألم.
حياة النساء كانت تبدو مليئة بالألم، تفوح منها رائحة البصل والثوم، أو الشبة والبخور، أو العطور الممزوجة بالعرق أو الكسل والخمول.
لم أتخيل نفسي مثل طنط نعمات أو أمي، كنت أتخيل نفسي مثل أبي، ورثت عنه حلم طفولته، أسمعه يناديني: نوال، عاوزة تشوفي السيرك؟ - أيوة يا بابا!
أبي ينتمي إلى جيل ثورة 19، من أبناء الفلاحين الذين تعلموا وحصلوا على شهادات عليا، تعلم قليلا من الكلمات الفرنسية بالجهد الذاتي، منها عبارة: «أنا أحبك
Je t’aime »، يكتبها لأمي فوق قصاصة ورق أيام الخطبة، يسمي نفسه «درعمي مودرن» (درعمي تعني المتخرج في دار العلوم)، يدخل معارك ضد فساد الحكومة، كان يمكن أن يكون وزيرا للمعارف لو أنه صادق صبري أو علم أو أحمد ماهر أو النقراشي، يلتقي بهؤلاء أحيانا في الاجتماعات، يقف على المنصة ويعلن رأيه، حاول بعضهم استمالته لدخول الحزب أو تأييد أحدهم في الانتخابات مقابل التصعيد في سلم الوزارة، كان محصنا ضد الرشوة بالفطرة والطبيعة والخوف من عقاب الله، يحلم بوطن مستقل، لا يحكمه الأجانب، نظام عادل ينصف الفقراء، نوع آخر من التعليم في الأزهر والمدارس، نوع آخر من المشايخ، يردد عبارة أمه: ربنا هو العدل، عرفوه بالعقل.
فتح مدرسة نموذجية في الجيزة للأطفال، عقد اجتماعا لرجال التعليم من جيله في الجيزة ، وضعوا خطة إقامة المدرسة، وجمعوا في عام واحد من الأموال ما يكفي، أقاموا المدرسة بجهودهم الخاصة، أقاموها في تواضع وصمت.
كان أبي يكتب الشعر ولا يسعى إلى النشر، يقرؤه لنا في الفرندة، يهز رأسه مع اللحن أو القافية، يقرأ علينا أشعار المعري وأبي نواس وبشار بن برد. أبو نواس الذي عشق الخمر والفجور. الشاعر الديب، الذي قال عن نفسه:
كأني حائط كتبوا عليه
هنا يا أيها المزنوق طرطر
أشعر بالسعادة وأنا أستمع إلى أبي، سعادتي تتضاعف حين يأخذنا نحن الأطفال معه إلى السينما أو المسرح أو السيرك.
لم يكن في منوف إلا سينما واحدة تعرض أفلام عبد الوهاب، منها فيلم «دموع الحب»، لا أذكر منه إلا أغنية: «ياما بنيت قصر الأماني»، أو عبارة واحدة من الأغنية، هي: «يا نوال فين عيونك.»
لم يكن المسرح مثل السينما، كان يأتي في المواسم أو الأعياد، مثل السيرك، الفتاة من عمري، لاعبة السيرك، تركب فوق الأسد والنمر، تمشي على الحبال، ترقص، تغني، تقفز في الهواء مثل العصفورة، جسمها الرشيق مرن بغير عظام، تحركه كما تشاء.
صورتها محفورة في ذاكرتي، صوتها يغني، حركتها الخفيفة كالريشة، أسمعها، أراها موجودة أمامي بلحمها ودمها، أنا جالسة في السيرك، صوتها السوبرانو يتجاوز جدران الخيمة الكبيرة في الميدان، مئات العيون تتطلع إليها وهي تمشي فوق الحبل، أمسك أنفاسي والجالسون إلى جواري يمسكون أنفاسهم (بمن فيهم أبي وإخوتي)، تقفز من فوق الحبل المعلق بين السماء والأرض، يصيبني الإغماء، تنفرج شفتي عن الشهقة، صورة وجهها الجانبية نحتت من الحجر المقدس، يكسوها ضوء مسحور.
السيرك يأتي في إجازة العيد، أرى الخيمة منصوبة، فأتعجب أبي للذهاب، كان أبي يتلكأ دائما، ينتظر الأقارب أو زوار العيد، هؤلاء العمات أو الخالات، لم يكن في العيد أثقل من الزوار، يتجمد قلبي وأنزوي في غرفتي، ماذا أفعل لأنقذ فرحة العيد من الضياع؟
أنتظر في غرفتي أقضم أظافري، أرهف أذني لأسمع صوت أبي يناديني: نوال، تعالي سلمي على عمتك رقية وطنط نعمات.
تظلم الدنيا في عيني، تصبح عمتي رقية وطنط نعمات أقبح وجوه في الكون، أخرج من غرفتي وأسلم عليهما، أطيع أبي ليرضي عني.
كان السيرك يبدأ أول أيام العيد، ويبقى حتى آخر اليوم، لم يكن أبي يأخذنا إلا في اليوم الأخير، منذ بداية النهار أرتدي ملابسي وأستعد، أبي يتحرك في بطء، يفرغ صبري، لا أطيق الانتظار. - يا بابا! السيرك! - سيرك إيه وكلام فارغ إيه، خليكي هنا مع مامتك ساعديها في المطبخ!
هذا هو صوت طنط نعمات أو عمتي رقية أو واحدة أخرى من النسوة، يسقط قلبي في قاع قدمي، أنظر إلى أبي، إنه متردد، سيأخذ أخي ويتركني، يشفق على أمي من التعب.
صوت أمي ينقذني: خذ نوال معاكم يا سيد، أنا مش عاوزة مساعدة.
أبي يحاول التقرب إلى أمي على حسابي، يقول لها بصوت حنون: خليها هنا تساعدك يا زينب، والشغل كتير عليكي في العيد.
يغوص قلبي مرة أخرى إلى قدمي، أتجمد واقفة في الصالة، أحملق في وجه أبي وأمي، يتبادلان الابتسامات، يغمز أبي لأمي بطرف عينه مؤكدا: خليها معاكي في المطبخ يا زينب.
أتلفت حولي، أنظر في العيون، أحاول أن أعرف الحقيقة، هل يقول أبي ذلك من باب الدعابة أو الفكاهة، كان يعرف أنني لا أطيق كلمة «المطبخ».
أخيرا بعد أن يتصبب مني العرق أرى أبي يبتسم لي ويقول: سماح المرة دي، تعالي معانا.
أقفز حتى يخبط رأسي السقف، أكاد أعانق أبي، عاش أبي ومات دون أن يعانقني أو أعانقه، لم يكن العناق جزءا من التقاليد في تلك العائلات المتوسطة، جدتي الفلاحة كانت تعانقني وتغمرني بالقبلات، «أمي» زينب هانم ابنة شكري بيه عاشت وماتت دون أن تعانقني أو تقبلني قبلة واحدة.
أعبر عن الفرح بالقفز في الهواء، أنطلق خارج البيت قبل أبي، أحرك ذراعي وساقي بقوة، قلبي مملوء بالفرح، والقلق يلازم الفرح، الوساوس تدور في رأسي: هل تأخرنا عن الموعد وانتهى السيرك من الوجود؟ أيمكن أن يغير أبي رأيه؟ يأمرني بالعودة إلى البيت لأساعد أمي؟
أبي يدرك ما أنا فيه، يتسلى أحيانا بإغاظتي، يتوقف فجأة في الطريق ، يقول: يا خبر! إحنا سايبين ماما لوحدها في المطبخ، إيه رأيك يا نوال؟
يبطئ السير أو يسلم على أحد أصدقائه في الشارع، يشتري علبة سجائر، يقف يتحدث مع البائع عن الحرب العالمية الثانية.
يا رب! أنادي على الرب وأنا واقفة أضرب بقدمي، أخي طلعت أيضا كان يضرب الأرض بقدمه، هيهات لمن ينادي، استبد بنا القلق، يشد أخي يد أبي ويقول: بابا، اتأخرنا، وأنا أصيح بدوري: السيرك خلاص راح، يا خسارة!
ينظر إلى الساعة فوق معصمه ويقول: لسة بدري أوي، يا للهول! أكره أبي إلى حد الموت، غليظ القلب، يهوى تحطيم قلوبنا، ينقلب الكره إلى حب جارف حين يمسك أخي من يد ويمسكني من اليد الأخرى وينطلق بنا إلى السيرك.
أسمع زئير الأسد أو صهيل الخيول أو النمور قبل أن نصل إلى الخيمة الكبيرة، على الباب الزحام شديد، لم نكن نلحق إلا بمقاعد فوق الدكك الخشبية العلوية «الترسو»، فاتنا بعض الألعاب البهلوانية أو رقصة الخيول أو الأسد أو الفيل أو النمر، الفتاة الراقصة تمشي على الحبال، كانت النمرة الأخيرة لحسن الحظ، قلبي لا يكف عن الخفقان، أنفاسي تصعد وتهبط، أحرك ذراعي وساقي، أرقص معها، في آخر النمرة تنحني الراقصة للجماهير، يلهبون أكفهم بالتصفيق، يصيحون، يصفرون، تمر على الصفوف في يدها الدف، تصبح على بعد صفين أو ثلاثة من مقاعدنا، أشعر بقربها مني، فإذا رأسي يدور، سأقفز من المقعد إليها، أفكر في عمل شيء خارق للعادة، أحوطها بذراعي وأعانقها، ثم أعود إلى مقعدي في غمضة عين لأجلس بين أبي وأخي مثل المصلوبة أو المحكوم عليها بالموت، أرتعد في مكاني، أخشى أن أقفز فعلا في المقعد، أخفي وجهي بيدي وأكاد أبكي.
في طريق العودة إلى البيت أسير صامتة مطرقة الرأس، ليس أمامي إلا البيت المعتم وغرفتي المعتمة والأيام المعتمة والوجوه المعتمة من العمات والخالات، لا أمل في العودة لرؤية السيرك، بدءوا ينزعون قوائمه من الأرض، واختفت الخيمة الكبيرة، وعاد الميدان مثل الخرابة الواسعة.
قبل أن أنام همست في أذن أخي: عاوزة أقول لك حاجة مهمة أوي! - إيه هي؟ - إوعى تقولها لبابا أو ماما أو أي حد. - إيه هي؟ - احلف بربنا إنك مش حتقولها لحد. - إيه هي بس؟ - احلف بربنا الأول. - والله العظيم مش حقولها لحد. - احلف ثلاث مرات. - مرة واحدة كفاية. - يا تلات مرات يا بلاش. - بلاش.
في الصباح رأيت الحاج محمود واقفا مع أبي في الصالة، جاء يستدين مبلغا من المال حتى أول الشهر، ناوله أبي المبلغ داخل مظروف صغير. «أول الشهر يا سيد بيه المبلغ كله حيكون عند سعادتك.»
قال الحاج محمود هذه العبارة وهو يمد يده لأبي بإيصال، أمسك أبي الورقة بين يديه ثم مزقها. «مش معقول، أمسك عليك ورقة يا حاج محمود، كلمتك عندي كفاية، الكلمة شرف.»
الخادمة أحضرت صينية القهوة، مع البسكويت أو الكعك. أمام البيت الحمارة واقفة فوق ظهرها أكوام من القماش، أخي طلعت يعاكسها، يناديها: يا عزيزة، معلهش معلهش ... شيه! شيه! مقلدا صوت الحاج محمود. يأتي الكلب الوولف جريا نحو أخي، يربت على رأسه، يرمق البنات المتجمعات حول الطرمبة.
رآني أخي، فاقترب وهمس في أذني: إيه بقة السر بتاع امبارح؟ - احلف بربنا ثلاث مرات ما تقوله لحد.
أخيرا يستسلم أخي، يقسم بالله العظيم ثلاث مرات، أقرب فمي من أذنه وأهمس له بالسر: أنا قررت حابقى إيه لما أكبر؟ - حتبقي إيه؟ - رقاصة زي البنت اللي في السيرك.
رمقني أخي طلعت بعينين يملؤهما البريق، قرب فمه من أذني وهمس: أنا حاضرب مزيكه على العود، وانتي ترقصي، ونعمل فيلم دموع الحب زي عبد الوهاب!
ربط هذا السر بيني وبين أخي، بدأت صداقتنا تنمو.
أخي «طلعت» متعدد الهوايات، ينتقل من هواية إلى هواية.
يشركني في بعض هواياته، علمني العزف على العود والغناء، ولغة الحمام الزاجل، يربط الرسالة في ساق الحمامة، يقرب فمه من منقارها ويهمس بشيء، تطير الحمامة في الجو ثم تعود إليه وفي ساقها رسالة أخرى.
لأخي صديقة اسمها «إيلينا» ابنة «زخاري» اليوناني صاحب البقالة في شارع الكنيسة، هي الأخرى تهوى الحمام الزاجل، تجلس إلى جواري في المدرسة وتقول إنها تفهم لغة الحمام.
حاولت أن أفهم لغة الحمام دون جدوى، أرهف أذني لصوت الحمامة وهي تقرب منقارها من منقار الحمامة الأخرى، لا أسمع إلا زغونة بلا حروف ولا كلمات، تصورت أن إيلينا وأخي طلعت أكثر ذكاء مني.
أخي من النوع الكتوم، لا يبوح بأسراره لأحد، يغلق على نفسه باب غرفته، يفتح نافذته المطلة على الطرمبة، يرمق البنات وهن يملأن الجرار، في يوم رأيت واحدة منهن تتشعبط فوق الجدار، تمسك بقضبان النافذة وتأخذ منه شيئا، ماذا كان أخي يعطي البنات؟ في يوم رأيته يعلق شرائط سوداء فوق نافذته، تصورت أن واحدة من صديقاته ماتت، كانت أمي تقول له: باين عليك ورثت خالك يحيى في الجري ورا البنات.
قبل أن تنام كانت أمي تغلق الباب على الخادمة سعدية حتى لا يدخل إليها أخي في الليل، في الإجازة الصيفية اشتركت مع أخي في هواية جديدة، هي نشر الخشب الأبلاكاش، قضينا شهور الصيف ننشر الخشب بمنشار طويل رفيع، صنعنا من الخشب أشكالا كثيرة من الطيور والحيوانات والناس، صنعنا سيركا فيه أسد ونمر وفيلة وخيول، جعلنا الراقصة رشيقة واقفة على إصبع قدم واحد، صنعنا رجلا يشبه إسماعيل أفندي في يده عصا من الخيزران، ومس هيمر بحذائها ذي الكعب السميك، وطنط نعمات، وعمتي رقية، وأم محمد، والحاج محمود فوق حمارته.
أقمنا معرضا كبيرا في البدروم، وضعنا التماثيل الخشبية منتصبة فوق قواعدها، دعونا أبي وأمي لافتتاح المعرض، مضى على هذا اليوم ثلاثة وخمسون عاما، الصورة محفورة في ذاكرتي، هبط أبي وأمي فوق السلالم على نغمات اللحن الافتتاحي، عزفه أخي على العود، قص أبي الشريط، ورفعنا الستار، ملاءة كبيرة بيضاء، جلست أمي إلى جوار أبي في الصف الأول، جلس الإخوة والأخوات وجمهور صغير من الأقارب والجيران، زملاؤنا وزميلاتنا في المدرسة.
أمسك في يدي عصا خشبية رفيعة، أحركها في الهواء على نغمات العود، أنا «المايسترو»، بطرف العصا أشير إلى الشخصيات الخشبية، أحكي عنهم قصصا من تأليفي، رأيت العيون مشدودة إلى حركة يدي، الحياة تدب في التماثيل لمجرد لمسة من طرف العصا، أشخاص حقيقيون يلعبون أدوارهم في قصص حقيقية، الحمام الزاجل يتكلم بلغة الناس، حمارة الحاج محمود أيضا نطقت وبدأت تغني مع اللحن الذي يعزفه أخي على العود: الصبح بدري أشيل فوق ضهري القماش ... - توب فوق توب فوق توب ... - يدلدل رجليه ... - أدور بيه في الحواري طول اليوم ... - آخر النهار نرجع ... - أنا ماشية وهو راكب ... - معلهش يا عزيزة! شيه! شيه!
يغني أخي طلعت معي المقطع الأخير، نردد معا مع دقات العود الراقصة: معلهش يا عزيزة! شيه! شيه! - شيه! شيه! - شيه! شيه!
المدعوون يدقون الأرض بأقدامهم ويغنون معنا، الحمام الزاجل انطلق في الهواء يتراقص مع اللحن، تتدلى من ساق الحمامة رسالة حب بيضاء ترفرف في الجو مثل العلم.
الأسد والنمر والفيلة والخيول ترقص هي الأخرى فوق قواعدها الخشبية، راقصة السيرك تقفز في الهواء، إسماعيل أفندي يضربها على ردفها بالعصا وطربوشه يقع، مس هيمر تدب بكعب حذائها على الأرض، طنط نعمات تمط الحلاوة وتنزع الشعر عن ساقيها، عمتي رقية ترقص في الزار وتنكش شعرها، «أم محمد» تهش البنات عن الطرمبة وتقول: بنات فاجرة آخر الزمن!
في نهاية العرض عزف أخي اللحن الختامي، سمعنا التصفيق يدوي في البدروم، أبي وأمي واقفان في الصف الأول يصفقان، عيونهما تلمع، تقدم أبي نحو أخي وصافحه لأول مرة في حياته، يضحك ويقول له: إذا فشلت في الدراسة اشتغل مزيكاتي زي عبد الوهاب، صافحني أبي أيضا لأول مرة في حياتي، وقال: خيالك واسع في حكاية القصص، أمي تضحك وتقول: إذا فصلوا أبوكم من الحكومة نعمل فرقة في المسرح زي بتاعة الريحاني.
بدأت أثق في خيالي وقدراتي على حكاية القصص، أصبح البدروم هو أجمل بقعة في الكون، كل شيء فيه يتراقص، حتى العنكبوت في السقف يرقص داخل خيوطه الرفيعة، بيديه ورجليه يصفق، للتصفيق في أذني دوي، حركة اليدين وهما تصفقان، أيدي أبي وأمي، عيونهما تلمع بالدموع، في أعماقي طاقة محبوسة تود الانطلاق، لا أعرف كيف. •••
الطاقة الحبيسة في جسدي أحسها تحت القلب مباشرة، في الخندق العميق تحت الضلوع، ما هي؟ الفرح، الحزن، الغضب، الحلم بالحرية والطيران خارج جدران المطبخ والبيت والمدرسة؟ إلى أين؟
الحلم يتجمع تحت ضلوعي، حلم قديم، أقدم من الذاكرة والتاريخ، أصدق حلم هو حلم الطفولة، ينفصل عن زمانه ومكانه، يصبح أكثر صدقا وأكثر نقاء، يتوالد مع الزمن.
أحتضن الحلم وأنا نائمة، أهدهده، إنه طفلي المقدس، تحوطه هالة من البراءة، يتحول في النوم إلى الجسد الدافئ، ذراعاه تلتفان حولي كذراعي أمي، إن هجرني تتسرب مني قوتي، يتملكني الحنين إليه، كأنما هو حرارة القلب، الطاقة المحركة لجسدي، إن زاد علي الحد يصبح شلالا هادرا من الغضب يكتسحني، يدمرني وأنا نائمة في الليل، يهدأ الشلال نهرا وادعا حنونا أو شعاعا دافئا من الشمس.
في الصبح أفتح عيني وأنظر في عيني أختي «ليلى» أو أخواتي الأخريات، أبحث في عيونهم عن ذلك الشيء أو الحلم الذي يؤرقني في الليل، عيونهم كانت صافية هادئة لا تكشف عن أرق أو شيء ينغص عليهم النوم، في المدرسة أيضا كنت أنظر في عيون البنات، أبحث في الجامعة، في كلية الطب، أنظر في عيون الزميلات والطبيبات، وكل من أرى من النساء، أحملق داخل عيونهم باحثة عن ذلك الحلم.
ربما خيال وليس حقيقة، الحلم يبدو لي كالحقيقة، جزءا من الحقيقة، عقلي الباطن كان يصحو في النوم، يتحرك داخل رأسي، يجعلني أطير وأحلق في السماء، في جوف البحر، في بطن الأرض، وأموات داخل القبر.
العقل الباطن مثل المخزن أو البئر، ترسب في القاع الأشياء الثقيلة على القلب، تطفو على السطح الأشياء الخفيفة، الطيران والفرح، أفتح عيني في الصباح مشرقة مثل الشمس، قلبي يخفق لليوم الجديد بدم جديد، النوم غسلني من أحزان الأمس، كيف؟ كأنما لم يكن هناك أمس.
الحب الأول
فتحت نافذتي ذلك الصباح في بداية خريف 1941م، البرودة رقيقة، أول برودة بعد قيظ الصيف، الحقول ممدودة، أمام عيني بساط أخضر، شجرة كبيرة في الحديقة المجاورة، ملونة بجميع الألوان، حمراء، زرقاء، صفراء، خضراء، برتقالية، فضية، ذهبية، ترتعش أوراقها تحت الهواء، عصافير الجنة، تتساقط إلى الأرض، ترتجف فيها بقايا الروح.
قلبي يخفق تحت ضلوعي، أنا على موعد مهم، أنتظر حدوث شيء غير عادي، هذا اليوم لا يبدو كغيره من الأيام، يوم خارق للعادة، جسدي ينتفض مع انتفاضة وريقات الشجر، عيناي متسعتان، أذناي مرهفتان، تحاولان التقاط الصوت، أي صوت؟!
أينبعث من السماء؟ كان يأتي من الفرندة العلوية في الدور الثاني، متفردا ليس أي صوت، يلامس أذني، يسري من عنقي إلى صدري، يهبط إلى قدمي، يصعد إلى رأسي مع دورة الدم.
غناء مع دقات على العود، يغني لي وحدي، ليس في الكون أذن غير أذني تلتقطه من جزيئات الهواء، حفيف أوراق الشجر يتحول مع النسمة إلى شدو غناء.
عرفت من خديجة ابنة الحاج محمود أنه قريب لهم، اسمه «فتحي»، يدرس الفنون الجميلة في مصر (القاهرة)، لا يأتي إلى منوف إلا في إجازة الصيف أو أيام العيد.
الهواء يحمل إلي صوته مع إشراقة الصباح، وعند الغروب تتورد السماء بالغسق الأحمر، تذوب الحمرة في اللون البرتقالي المتعدد الدرجات، من لون إلى لون، تنتشر الألوان فوق ذؤابات السحب البيضاء كأجنحة الفراشات.
في الفرندة أجلس وحدي أرقب السماء، أندهش لهذا الكون النابض بالحركة الخفية رغم السكون، الألوان تصبح لونا واحدا هو السواد، النجوم تظهر فجأة، تولد من بطن السماء، ملايين النجوم، ملايين العيون تطل علي يكسوها بريق حنون.
عيناي تتعلقان بنجمة وحيدة في الركن، ترمقني من بعيد، هي نجمتي، ولدت معي، تنطفئ حين أموت.
عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر،
اسألوا الليل عن نجمي، متى نجمي يظهر.
كنت أسمع هذه الأغنية في الراديو، بصوت عبد الوهاب، الناس يقولون إنه أجمل الأصوات في مصر، لم يكن يحركني، أو يجعل قلبي يخفق، كان يغني لكل الناس أو لا أحد بالذات.
الصوت القادم من الفرندة العلوية يغني لي أنا بالذات، تتصاعد الضربات تحت ضلوعي مع دقاته على العود، عيناي تجوبان معه السماء، تبحثان في النجوم، عن النجم، متى نجمه يظهر؟
تصورته خيالا في الحلم، صوتا خارج الكون، رأيته لأول مرة بلحمه ودمه، تجسد أمامي واقفا أمام الحامل الخشبي وسط الزرع الأخضر، في يده فرشاة يرسم فوق اللوحة، ظهره كان ناحيتي، فلم يرني.
كان هذا الحقل أمام بيتنا، يملكه فلاح اسمه «عم صابر»، زوجته اسمها «صابرين »، لهما ابن من عمري اسمه «عبد المنعم»، ينادونه «منعم»، يشبه ابن عمتي نفيسة «جلال».
كنت أرى الزرع وألعب في الحقل مع منعم وأطفال الجيران، كما كنت ألعب مع أولاد وبنات عماتي في كفر طحلة، تبتسم «صابرين» حين تراني وتسعل بصوت عمتي بهية وتقول باللهجة نفسها: «الغيط نور يا ست نوال.» تقطع لي كوز ذرة، باذنجانة سوداء، تملأ كفي بالفول الحراتي.
منعم يرتدي جلبابا ملوثا بالطين، بشرته سمراء، عيناه سوداوان، فمه مفتوح دائما في ابتسامة عريضة، أسنانه سوداء يأكل بها الباذنجان الأسود النيئ، يتشعبط فوق الجدار، يمسك بقضبان النافذة الحديدية وينظر داخل بيتنا، يشهق: ياه! عندكم عفش حلو أوي، أحلى من بتاع الملك، ربنا أعطاكم خير كتير، احنا الفلاحين ربنا غضبان علينا يا ست نوال.
رنت الكلمة «ست نوال» في أذني، فصعد الدم إلى وجهي، كان منعم يناديني «نوال» مثل كل الأطفال، لماذا أعطاني هذا اللقب الكئيب «ست»؟ أصبحت في عينه مثل هؤلاء الستات من أمثال طنط نعمات؟ هل ستي الحاجة أفشت السر؟! لم تكن تكف منذ أدركني الحيض عن الثرثرة، نوال بلغت سن الرشد، استوت مثل التينة البرشومي في انتظار العريس.
تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني، أردت أن أحرك ساقي وأجري، لم أتحرك من مكاني، قدماي مثبتتان في الأرض بالمسامير، ظهره ناحيتي وهو واقف أمام اللوحة، في يده الفرشاة يرسم «عم صابر» وهو يروي الزرع، ذراعاه وساقاه تحت المياه في القناة، رأسه ملفوف بكوفية رمادية اللون فيها نقط سوداء، عيناه غائرتان تلمعان في الضوء، تتحركان فوق اللوحة، تنظران إلي كأنهما عينا «عم صابر» الحقيقي.
استدرت لأختفي قبل أن يستدير، تحرك في تلك اللحظة حين نطق منعم «ست نوال»، اتسعت عيناه بدهشة حين رآني، كأنما يكتشف وجودي لأول مرة في الكون.
عيناي أيضا تتسعان، أكتشف أنه كائن حقيقي وليس من الخيال.
الاكتشاف الواحد جمعنا نحن الاثنين في لحظة واحدة، مثل «السر» ربط بيننا كالسحر، صوت عم صابر يقول وهو يشير إلى اللوحة: ياه، شكلي حلو كدة يا أستاذ فتحي؟!
عرفت اسمه ، الحروف الأربعة «ف، ت، ح، ي»، أسمع حرفا واحدا منها فتضطرب الدقات تحت ضلوعي، تفقد حركة الدم نظامها داخل القلب، الكون أيضا يفقد نظامه، لم يكن في مقدرتي أن أنطق اسمه كاملا، أول حروفه «ف» أصبح قادرا على إحداث الخلل كالاسم الكامل.
لم أنطق اسمه لأحد، أخاف أن تلتقط الآذان الرعشة في صوتي، الدقات تحت ضلوعي، أن تلمح العيون الدم يصعد إلى وجهي، خداي البارزان يصبحان بلون الطماطم أو الجزر الأحمر.
في العاشرة من عمري، أدركت قبل أن يدركني الوعي أن الحب حرام، كلمة «حرام» تعني أن الله هو الذي حرم الحب.
الراديو لا يكف عن أغاني الحب، أم كلثوم تغني ليل نهار: «مدام تحب بتنكر ليه، ده اللي يحب يبان في عينيه.» عبد الوهاب لا يكف عن نداء الحبيبة: «يا نوال، فين عيونك؟» فريد الأطرش ينوح بالليل والنهار على حبيبته، أسمهان بصوتها المبحوح تتغنى بالحبيب الغائب، ليلى مراد تردد: «يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرى لي.» فوق الجدران في الشوارع إعلانات عن فيلم: «يحيا الحب»، «دموع الحب»، «غرام وانتقام»، صور النساء نصف العاريات يعانقن الرجال.
أمي تغني مع أم كلثوم: «مدام تحب بتنكر ليه، ده اللي يحب يبان في عينيه.» طنط نعمات تغني للحب مع الراديو، خالتي فهيمة (الأستاذة فهيمة شكري)، أبي يسميها «خفير الدرك»، تدب بكعب حذائها الحديدي وتدندن لنفسها بصوت خافت: «مدام تحب بتنكر ليه.» ستي الحاجة وهي متكورة فوق سجادة الصلاة بجوار الراديو تغني مع أم كلثوم، يرتفع جلبابها وهي تربع ساقيها فألمح بطنها، قطعة من الجلد المتهدل تعلوه الكراميش، هل كان أبي بجسمه الضخم داخل هذا البطن الضامر؟ أمي تلد الأطفال من فتحة بين فخذيها، ستي الحاجة هل لديها هذه الفتحة؟ أم أصبحت مسدودة بالكراميش؟! «مدام تحب بتنكر ليه، ده اللي يحب يبان في عينيه.»
هذا هو صوت ستي الحاجة تغني مع الراديو بعد أن أدت الصلاة، وجهها الأسمر المكرمش ناحية النافذة، عيناها ممدودتان نحو الأفق في شرود، هناك ذكرى ما في ماضيها البعيد ، أهي ذكرى الحب؟
سألتها هل عرفت «الحب» في حياتها؟ رمقتني بعينيها الضيقتين الغائرتين، ابتسمت وامتلأت عيناها بالبريق: «طبعا حبيت يا بنت ابني، حبيت ربنا سبحانه وتعالى، وحبيت سيدنا محمد ألف صلاة عليه، وحبيت الإمام الشافعي والسيدة زينب، والسيد البدوي، وحبيت ابني السيد ربنا يحميه، وحبيت بناتي الخمس، أغلاهن هي زينب، أغلى الكل هو أبوكي ربنا يخليه ويطول عمره.» - قصدي الحب التاني يا ستي الحاجة. - الحب التاني إنهوه يا بنت ابني؟ - اللي أم كلثوم بتغني له. - ده كلام راديو يا بنت ابني، واحنا في الكفر لا عندنا راديو ولا عندنا حاجة اسمها حب من اللي بالك فيه، البنت في الكفر أول ما تبلغ ياللا هوب يجوزوها على طول، الشهر الجاي فرح زينب بنت عمتك بهية، انتي وهي مولودين في وقت واحد، ولازم عريسك جاي في السكة بإذن الله ونفرح بيكي في العيد (صوتها يرن في أذني: ونضحي بيكي في العيد). •••
الحب الأول هو أول الأسرار في حياتي، لم يعرفه أحد من الإنس أو لا الجن، في القرآن آية تؤكد وجود الجان، لم يكن لي أن أنكر وجود هذه الأرواح الخفية، أخشى أن تلمسني روح منها وأنا واقفة في الفرندة، أرمقه من بعيد وهو واقف وراء الحامل الخشبي، لم يكن لي أن أنطق حروف اسمه وأنا نائمة في الليل، هذه الأرواح يمكن أن تسمع أي شيء.
لا أذكر من شكله إلا بريق العينين، لم أعرف ما لون عينيه، أسود أو أزرق أو أخضر بلون البرسيم، لونهما يتغير مع حركة الشمس، مع تغير الألوان في السماء، قميصه الأبيض الواسع يمتلئ بالهواء يشبه الروح المحلقة فوق الزرع، بلا جسد، بلا بطن أو فخذين، أو أعضاء، خاصة «العضو» الذي يندفع منه البول في جسد أخي، لم أتخيل أنه يبول مثل أخي أو الآخرين من البشر، وأن له فتحة شرج تخرج منها فضلات الطعام أو الغازات.
كنت أنجح في المدرسة بامتياز، المدرسات والمدرسون يقولون إنني شديدة الذكاء، ذكائي كله كان يتبخر حين أراه، صوتي أيضا يضيع ، أفقد القدرة على النطق. «أهلا نوال.»
الكلمتان ينطقهما حين يراني، كلمتان عاديتان أسمعهما من الناس حولي، «أهلا» كلمة ترحيب مألوفة، ترن في أذني بصوته خارقة للعادة، غامضة، محملة بأسرار الكون. «نوال» اسمي المألوف يصبح غير مألوف، اسما جديدا تولد به فتاة أخرى، «سندريلا» تركب حصانا يطير بها في الجو مثل الحمامة.
أهو خيال الطفولة الجامح؟ أم الأغاني والروايات الوهمية عن الحب؟ أو الحب الحقيقي يحدث في سن العاشرة من العمر؟
قلبي لم يخفق بالقوة التي خفق بها وأنا طفلة في العاشرة من العمر، أصحو قبل الفجر على صوت بكاء مكتوم، لا أعرف من يبكي، صوت أنفاسي العميقة تشبه النشيج، أيكون هذا الصوت كافيا لأصحو من النوم؟ أم أنه حلم أيقظني؟ أتكور في الفراش تحت الأغطية، أفكر ماذا كنت أحلم، أحاول أن أتذكر، أستجمع عقلي وخلايا جسدي، الحلم يتسرب مني، قطرات تتسرب من ثقوب المصفاة أو سراب يتلاشى عند الاقتراب. •••
بعد شهر سافرنا إلى كفر طحلة لنحضر حفل زفاف زينب ابنة عمتي بهية، أول فرح أحضره في قريتنا ... زينب تكبرني في السن بقليل، قامتها من طول قامتي، بشرتها بلون بشرتي، تمسك القلم بين أصابعها وتكتب فوق الكراسة اسمها: زينب عبد الحليم سعداوي.
زينب كانت تحلم أن ترى نفسها أستاذة مثل خالها السيد بيه، خالها هو أبي، أبوها هو ابن عم أبي، يرتدي جلبابا طويلا باهت اللون، طاقيته فوق رأسه مخرمة، أصابع يديه مشققة، أظافره سوداء، ظفر الإبهام مكسورة بضربة فأس، يرى أبي قادما فينتفض واقفا، يناوله الكرسي ويجلس هو على الأرض.
لا يمكن أبدا حاكون زي أبويا، لازم اتعلم وأبقى أستاذة زي خالي البيه، والناس في كفرنا تشاور علي وتقول: دي الأستاذة زينب السعداوي.
دار عمتي بهية مثل كهف من الطين الأسود، في الصالة المظلمة جلست على الحصيرة فوق الأرض، البراغيث تلدغني، جمهرة من الفلاحين والفلاحات بالجلاليب السوداء تفوح منها رائحة التراب والعرق، مجموعة من البنات الصغيرة داخل الجلاليب المزركشة، تمسك كل واحدة منهن بذيل الأخرى، يرقصن ويغنين:
اتمختري يا حلوة يا زينة، يا وردة من جوة جنينة ... مبروك عليكي عريسك الخفة يا عروسة يا زينة الزفة مبروك عليكي ... يا عريس انظر حلوة جميلة وانت يا حلوة يا زينة الزفة مبروك عليكي.
من باب الزريبة رأيت البقرة واقفة مطرقة الرأس تمضغ التبن، تنظر إلي بعينين صامتتين مملوءتين بالحزن، زينب «العروسة» جالسة وسط البنات داخل جلبابها المزركش مطرقة الرأس، تمسح دموعها بكم جلبابها، تلتقي عيناها بطرف طرحتها السوداء، من تحت الابتسامات أرى الدموع الجافة في عيون النسوة، جالسة في الركن وسط النساء تسعل وتمسح عينيها بطرف طرحتها السوداء، من تحت الابتسامات أرى الدموع الجافة في عيون النسوة، جالسات واجمات، تتذكر كل منهن ليلة زفافها.
العريس هو ابن عمها، فارع الطول مثل رجال آل السعداوي، يمشي بين الرجال مزهوا بجلبابه الجديد، حوله الشباب والصبيان يدقون الطبول، يدبون على الأرض بكعوبهم، يرقصون، يلوحون بالعصي في الهواء، كالسيوف، يغنون:
خدناها من وسط الدار ...
وأبوها قاعد زعلان.
خدناها بالسيف الماضي ...
وأبوها ما كانش راضي.
الداية «أم محمد» ظهرت فجأة مثل عزرائيل الموت، أمسكت زينب من ذراعها وسارت بها إلى الغرفة الخلفية، أردت أن أدخل معها، الباب انغلق في وجهي، ارتفعت أصوات الطبول وزغاريد النسوة تغطي على الجريمة، صرخة زينب ارتفعت من وراء الباب المغلق، صرخة حادة ممدودة حتى السماء، تحشرجت في النهاية كالنفس الأخير.
تصورت أنها ماتت، الباب انفتح وخرجت «أم محمد» تزغرد رافعة البشكير الأبيض غارقا في الدم، انطلقت الزغاريد بأصوات النسوة الحادة تشبه صراخهن في المآتم، أبو زينب «عمي عبد الحليم» راح يمشي مختالا بين الرجال، نهضت أم زينب «عمتي بهية» لفت حول ردفيها طرحتها وراحت ترقص بين النساء، أمسك العريس عصاه الطويلة المدببة كالسيف، يحركها في الهواء ويرقص.
هذه العصا سوف تلسع ردفي زينب قبل أن تعد له العشاء، تذوق طعم عصاه قبل أن تذوق طعامه ، وتعرف أن الله فوق في السماء وهو تحت فوق الأرض، أن طاعة زوجها من طاعة ربها.
نمت على الحصيرة تحت الغطاء، أذناي أسدهما بيدي، صرخة زينب لا تزال، من الغرفة المجاورة سمعت صوت ستي الحاجة يهمس في أذن واحدة من عماتي: الدور الجاي على بنت ابني السيد، والعريس جاهز من مجاميعه، ابن عمها الحاج عفيفي، أبوه عنده أربعتاشر فدان، كل فدان ينطح أخوه، غير الدكان، عريس الهنا لبنت السيد بيه، ربنا يتمم على خير يا رب!
صرخة زينب طمست قدرتي على السماع أو الفهم، تصورت أن بنت السيد بيه واحدة غيري، ثم أدركت أنها أنا. إن العريس جاهز لي، من هو؟ لا أكاد أعرفه، رأيته مرة واحدة جالسا على الدكة الخشبية في دكان أبيه، فلاح نحيف الجسم، شاحب الوجه، عيناه صغيرتان غائرتان تلمعان مثل الصقر، له شارب أسود يمتد فوق شفته العليا من الأذن اليمنى إلى اليسرى، عظام وجهه بارزة مدببة، أنفه طويل مقوس يشبه منقار الحدأة، تزوج من قبل ثم ماتت زوجته وهي تلد طفلها، عيناي ظلتا مفتوحتين في الظلمة، الجدران الأربعة من حولي سوداء بلون الطين، السقف منخفض يكاد يسقط فوق رأسي، عروق غليظة من الخشب تمنع السقف من السقوط، في أركانها عشش العنكبوت، نخرها السوس، في شقوقها تراكم الدخان كالهباب الأسود، تئن تحت الزمن بصوت مسموع يشبه أنين القطط، فوق السطح تراكمت بلاليص المخلل والجبنة الحادقة أو المش، أكوام الذرة الجافة والقطن وأقراص الجلة «الروث» جففتها الشمس، تجري بينها السحالي والصراصير والخنافس، تتقافز من حولها القطط.
مضى على تلك الليلة أكثر من نصف قرن، لكنها في ذاكرتي حية، وأصوات الليل في أذني وأنا راقدة في تلك القرية الصغيرة المطلة على النيل، عواء الذئاب الجائعة في الحقول، نباح الكلاب من بعيد، أنفاس أختي «ليلى» الراقدة بجواري، فمها مفتوح، وريالتها تسيل فوق ذقنها، عيناها نصف مغمضتين، تهرش بيديها الاثنتين بطنها وظهرها، لدغات ترسم فوق بشرتها البيضاء آلاف النقط الحمراء.
أنين عروق الخشب في السقف لا يزال في أذني، ملمس الدموع في حلقي، طعمها فوق لساني مثل الملح، أبتلعها وأنا راقدة فوق الحصيرة، أكتم أنفاسي حتى لا يلحظ أحد أنني مستيقظة، أخبئ رأسي تحت الغطاء، أفكر ماذا أفعل؟ هل أستسلم لهم مثل زينب ابنة عمتي؟
في أعماقي العميقة الصوت يقول: لا يمكن أبدا أبدا! في النوم رأيت نفسي أجري في الظلمة، أختفي في بطن الجسر، ألقي نفسي في مياه النيل، يجري العريس من خلفي فاتحا فمه، يبتلعني كما ابتلع الحوت سيدنا يونس، في بطن الحوت أصنع بإصبعي المدبب ثغرة أنفذ منها إلى مياه البحر، أسبح كالسمكة أطفو على السطح، أحرك زعانفي تحت أشعة الشمس، تتحول الزعانف إلى أجنحة من الريش لأطير كالعصفورة، أحلق فوق الحقول الخضراء الممدودة حتى الأفق، أراه واقفا بين الزرع وراء الحامل الخشبي يرسمني فتاة، عيناها سوداوان يكسوهما البريق.
صوته يتسرب إلي من تحت الأغطية، قلبي يرفرف ريشة في الهواء، غناؤه يترامى من الفرندة العلوية:
عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر،
اسألوا الليل عن نجمي متى نجمي يظهر.
عزفه على العود يسري تحت الغطاء، ينساب في الظلمة ناعما، له نعومة جسدي، له رائحة الزرع، أشمه من تحت الأغطية، وألمسه بيدي، بذراعي العارية تحت ضوء القمر وأنا ملفوفة بالغطاء.
أفتح عيني، فأرى عروق الخشب السوداء في السقف، أسمع طنين البعوض، «نعير» البقرة في الزريبة، شخير ستي الحاجة في الغرفة المجاورة، أغمض عيني لأعود إلى النوم، أحاول استعادة الحلم، الحلم لم يعد، وإنما هو الكابوس، الوجه الغريب بعيني الصقر وأنف الحدأة، الشارب الأسود الممدود فوق الشفة مثل خنفسة سوداء ذات أرجل رفيعة كالعنكبوت ... أكره منظر الشوارب في وجوه الرجال، لأبي شارب ليس مثل شوارب الذكور، أبي ليس ذكرا، الأبوة والذكورة لا يجتمعان في خيالي. •••
العريس الأول في حياتي هو الفلاح ذو الشارب الأسود، رأيت نفسي في الحلم مثل زينب ابنة عمتي، فلاحة مشققة القدمين واليدين، لم تعد تقرأ ولا تكتب، نسيت زينب حروف اسمها، ترقد فوق الفرن في الشتاء متورمة الساقين، تسعل بصوت أمها، تنادي على حفيدتها بصوت أمها ، تنادي على حفيدتها بصوت منكسر: يا بت يا صدفة يا بت، قومي قامت قيامتك، احلبي الجاموسة واكنسي تحت البقرة!
حفيدتها في العاشرة من عمرها، أخرجتها من المدرسة تشتغل في البيت والحقل. تعدها للزواج من ابن عمها، تفعل ببناتها وحفيداتها ما فعله أبوها فيها، أذكرها بحلمها القديم فتضحك وتقول: ده كان زمان يا دكتورة نوال، النهاردة العيشة صعبة والمدارس غالية، والشغل كتير في الدار وفي الغيط، ويعني اللي اتعلموا واتخرجوا في الجامعة عملوا ايه؟ أهم قاعدين في الكفر، لا فيه شغل ولا وظايف زي مان، حتى اللي راح ليبيا والعراق مارجعش، فيهم اللي مات في الحرب وفيهم اللي رجع عريان من غير كفن جوة الصندوق، والباقي طفش على بلد ثانية، وربنا يعلم ياما قلوبنا انكسرت على ولادنا يا دكتورة.
هذا هو صوت زينب ابنة عمتي حين زرتها في كفر طحلة في صيف عام 1991م بعد حرب الخليج.
قبل ذلك بخمسين عاما كنت أسير نحو حتفي لأتزوج ابن عمي الحاج عفيفي، سوف يبني لي بيتا من الطوب الأحمر بجوار الدكان، أمه ستعلمني الخبيز والعجين، حلب اللبن من الجاموسة، عمل الجبنة القريش فوق الحصيرة، ملء الزلعة من البحر، خلط الروث بالتبن لصنع أقراص الجلة.
أمه فشلت في هذه المهمة، تقترب مني فأهب فيها مثل الكلب المسعور.
هكذا تبخر العريس الأول في الجو، ذاب مع سحب الصيف الرقيقة ... انتشرت الشائعات في عائلة أمي وأبي حول اختفاء العريس الأول.
الأستاذة فهيمة شكري تزعمت عائلة شكري بيه، تدب بكعب حذائها فوق الأرض، تشمخ بأنفها في السماء، يشبه أنف أبيها، وتقول: معقول يا ناس بنت زينب هانم تتجوز فلاح جلنف؟!
كلمة «جلنف» ترن في أذني مثل الموسيقى، لم تكن طنط فهيمة تنطق هذه الكلمة إلا في غياب أبي وستي الحاجة.
عمتي فاطمة أكبر العمات سنا تتزعم عائلة السعداوي، تلف الطرحة السوداء حول رأسها، تخفي فمها بكفها الكبيرة المشققة وتهمس في أذن أبي: قلت له: يا واد بنت خالك السيد بيه على سن ورمح. قال لي: اسكتي يا عمة، دي بنت بندر لا تعرف تعجن ولا تخبز ولا تحلب الجاموسة. قلت له: يا واد دي بنت مدارس تعرف القراءة والكتابة. قال لي: اسكتي يا عمة، حاعمل إيه بقرايتها وكتابتها، ولا قرايتها حتوكلني ولا كتابتها حتشربني!
هذا الفلاح الفصيح كان يمكن أن يكون زوجي، لولا القراءة والكتابة أنقذتني، القراءة والكتابة أنقذتني من رجال آخرين وعرسان جاءوا من بعده حاملين الشهادات العليا من جامعة القاهرة أو السوربون أو أكسفورد، يكتشف الواحد منهم أنني أحب ملمس القلم في يدي أكثر من مغرفة الأكل أو يد المكنسة فيتبخر في الجو مع نسمة الليل الرقيقة. •••
في صيف عام 1942م حصلت على الشهادة ابتدائية بامتياز، لم يبتهج أحد من عائلة أبي أو أمي؛ الحزن على فشل أخي كان يغطي على الفرح بنجاحي، ترمق ستي الحاجة النهدين البارزين فوق صدري وتهمس في أذن أمي: «البنت كبرت يا ست زينب وخايفة عليها تبور، إلهي ربنا يرزقك يا ابني بعريس الهنا لبنتك نوال، وتجوز بناتك كلهم وأنا عايشة على ضهر الدنيا.»
لم أعد أخرج لألعب مع الأطفال أو أركب البسكلتة، إذا طلبت إذنا للخروج من أبي أو أمي لا أسمع إلا هذه الكلمات: «انتي كبرتي خلاص! البيت عاوز تنضيف! البصل في المطبخ عاوز تقشير! البلاط في الحمام عاوز دعك.»
أنكفئ فوق البلاط أدعكه حتى يلمع لأرى وجهي فيه، وجها حزينا مملوءا بالدموع، العيون من حولي يملؤها الفرح، يفرحون حين أدعك البلاط أكثر مما يفرحون بنجاحي في المدرسة.
حين ينامون وقت الظهيرة أدخل مكتبة أبي، عثرت بين الكتب على كتاب «الأيام» لطه حسين، تصورت أنني سوف أفقد بصري كما فقده طه حسين، طول البكاء في الليل، أتخطئ أمي كما أخطأت أمه وتضع في عيني بدل القطرة صبغة اليود؟
في منوف وكفر طحلة كنت أرى أطفالا فقدوا أبصارهم، عين واحدة مفتوحة والأخرى مغلقة، نقطة بيضاء تزحف فوق النني الأسود، الجفون متورمة يملؤها الصديد، والذباب يغطي وجوههم. «هش الطير من على وشك يا نوال.»
هذا صوت أمي حين تلم ذبابة فوق وجهي، الذباب اسمه «الطير»، تمسك أمي الرشاشة الحمراء المرسوم عليها ذبابة ضخمة سوداء، بطنها مملوءة «أبالتوكس»، والدموع أو محلول ال «د. د. ت»، ترش أمي البيت كله والنوافذ مغلقة، يتساقط الذباب مثل رذاذ مطر أسود، أسعل وأعطس والدموع تتساقط من عيني.
قبل أن ننام تقطر أمي في عيوننا قطرة حمراء أو بيضاء أو المرهم، أو مسحوق أبيض كالدقيق يسمونه «الششم»، يمنع الالتهاب الذي يؤدي إلى العمى.
واحدة من بنات الحاج محمود كانت عمياء، أكبر من خديجة قليلا، اسمها نعمة الله، وضعت أمها في عينيها مسحوق الشطة بدل الششم، تجلس فوق الأرض حبيسة البيت، تقرأ القرآن بصوت عال، جلبابها ممزق ملوث بالتراث، تلسعها أمها على ظهرها بالعصا: قومي يا بت قامت قيامتك اغسلي المواعين على الطرمبة.
أطل عليها من بين قضبان النافذة الحديدية، تنكفئ فوق الحلل والمواعين تدعكها بالتراب أو قطعة حجر، ظهرها ناحيتي، تستدير بوجهها كأنما تراني ... لها قرون استشعار خفية، أو حاسة جديدة ولدت في جسدها تعوضها عن حاسة البصر، تتطلع بعينيها إلى نافذتي، الرموش السوداء فوق جفونها تهتز في ذبذبات سريعة، مثل رموش عرائس المولد، تنفرج شفتاها الشاحبتان عن ابتسامة وتقول: صباح الخير يا نوال.
لا أستطيع النظر إلى عينيها دون أن يصيبني الدوار، لم أتصور أنهما لا تريان، كانتا مفتوحتين واسعتين، بياضهما صافيا، «النني» أسود يكسوه البريق، كيف فقدت بصرها، لا أستطيع أن أسالها، مسحوق الشطة أحمر اللون، مسحوق الششم أبيض، كيف تخطئ أمها؟! وضعت المسحوق في عينيها في الظلمة، لم يكن في بيتهم نور كهرباء.
هبطت إليها ذلك اليوم وفي يدي كتاب «الأيام»، أردت أن أقرأ لها بعض أجزاء، تصورت أنها يمكن أن تقهر الظلام كما قهره طه حسين.
حين اقتربت منها قربت فمها من أذني وهمست بصوت تخشى أن يسمعها أحد: «فتحي» جاي بكرة.
انتقض الكتاب وسقط من يدي، كيف عرفة نعمة الله السر؟! لم يكن يعرفه أحد إلا الله، ستي الحاجة تقول: إن الله يعطي سره لأضعف خلقه. «العرافة» في كفر طحلة امرأة عمياء انكشف عنها الغيب، يلجأ إليها الناس تقرأ لهم المستقبل. شيخ أعمى كان يعرف كل ما لا يعرفه الناس، الجنين في بطن أمه ذكرا أو أنثى، كان يعرف النساء العاقرات تزوره الواحدة منهن فتحبل، تدخل معه الأوضة الضلمة، يعلق «الحجاب» حول عنقها فيه آية من القرآن، تصورت في طفولتي أنه كلما زاد العمى عند المرأة أو الرجل زادت معرفته بالله وأسرار الغيب.
واقفة أمام «نعمة الله» أرتعد، كأنما سقطت ملابسي فجأة، أصبحت عارية تحت عينيها، اسم «فتحي» حين نطقته بصوتها أصبح مادة صاعقة قادرة على تدمير نظام الكون، إحداث خلل في دورة الأفلاك، الأرض أيضا فقدت توازنها، كانت مستقلة في مكانها أصبحت تدور حول نفسها أو حول الشمس، الكتاب في يدي أيضا ساقط على الأرض.
كنت أظن أن هذا الخلل يحدث في العالم الخارجي فقط، أدركت أنه يشملني أيضا من قمة رأسي إلى أصابع قدمي، يتصبب العرق من جسدي، يبلل ملابسي، أحسه تحت الإبطين، فوق ظهري يهبط إلى الساقين ليدخل إلى حذائي يبلل الجورب.
أخفيت وجهي في الأرض لألتقط الكتاب، تفاديت النظر ناحية نعمة، بصيرتها أشد حدة من حواس الناس الخمس، حروف الاسم الأربعة «فتحي» مكتوبة فوق جبينها تقرؤها مثل كتاب مفتوح.
عيونها مثل عيون الجان، أو الملائكة يقرءون الكتاب المكتوب فوق الجبين، كتبه الله قبل أن يولد الإنسان من بطن أمه.
كنت أجري إلى البيت، نسيت أن أعطيها الكتاب، لم أنس، أدركت أنها قهرت الظلام أكثر مما قهره طه حسين، وليست في حاجة إلى الكتب.
اختفيت في سريري تحت الغطاء، هل تسرب السر إلى الآخرين عن طريق نعمة؟
أغمضت عيني، كأنما الإغماضة تخبئني عن أعين الناس أهرب إلى النوم، لكن النوم تخلي عني أيضا، تركني وحدي أحمل العبء، أي عبء؟!
عبء الكتمان؟ هذا السر؟ أهناك سر؟! جسدي مملوء بالأسرار المكبوتة كالأثقال، الأحاسيس المكتومة غير المفهومة، الكلمات المجهولة غير المنطوقة، غير القابلة للنطق بأي لسان بأي لغة.
أهي اللغة تقف بيني وبين الحب؟ الحروف المصنوعة بألسنة الناس؟ الكلمات المكتوبة فوق الورق، أهو الخوف، أكنت مملوءة بالخوف؟!
كنت أخاف «الله»، وأخاف ألسنة الناس، ألسنة الناس يمكن أن تلوث سمعتي وسمعة أهلي. «الناس تقول علينا إيه؟»
هذه العبارة أسمعها من جميع الأفراد في عائلة أمي وأبي. خالتي فهيمة لم يمكن يهمها أن أضحك بصوت عال وحدي في غرفتي، «لا أحد يسمعني إلى الله»، تنهرني فقط حين أضحك بصوت عال أمام الناس: «الناس يقولون عليكي بنت مش مؤدبة.» خالتي نعمات لم يكن يهمها أن تلدغني القملة في فروة رأسي، كل ما يهمها «مس هيمر» تقول علينا إننا مقملين؟ حين يرسب أخي في المدرسة يقول له أبي: «الناس بيقولوا ابن مفتش التعليم فاشل في التعليم.» حين يفور اللبن وأنا أغليه على النار تقول أمي: «الناس تقول عليكي مش عارفة تغلي شوية لبن.»
تسللت من السرير في منتصف الليل، البيت كله نائم، جلست في الفرندة وحدي، ضوء القمر ينعكس فوق قناة الماء بين الزرع، شريط طويل من الفضة، البدر في السماء مكتمل الاستدارة، أبيض البشرة له عينان سوداوان تنظران إلي، والصوت يهمس مثل خفيف الهواء: «فتحي جاي بكرة.»
سرت القشعريرة في جسمي، انتصب الشعر فوق ذراعي العارية تحت الضوء الأبيض، شعر أسود دقيق كالأشواك المنتصبة، جذوره مفتوحة المسام تمتص ضوء القمر، مشدودة عيناي إلى القرص المتوهج بالأشعة الفضية، تمتصانها حتى آخر قطرة.
أصابتني رجفة، حركت رأسي بعيدا عن القمر، الحملقة في البدر بالعينين المفتوحتين تسلبهما البصر، هكذا سمعت من الناس، اشتدت الرجفة في جسدي، الخوف من فقدان البصر أم الهواء ازداد برودة؟ جالسة في مقعدي بالفرندة، مقعد من القش فوق شلتة صغيرة لها كيس أبيض.
رأيت البقعة الحمراء فوق الكيس الأبيض، غاص قلبي في قدمي، لم يمض إلا أسبوعان فقط منذ الحيض الأخير، «المفروض أن يمضي شهر أو ثلاثة أسابيع على الأقل»، علاقة ما بين دورة القمر في السماء ودورة الحيض عند النساء، هكذا سمعت من جدتي: «البدر» المتوهج بالضوء قادر على تفجير دم الحيض؟! انجذاب الدم الأحمر للقرص الفضي كما تنجذب إليه العيون؟
الدورة في جسدي لم تكن تتبع دورة القمر؛ لها نظامها الخاص الخارج عن نظام الكون، تمضي أربعة أسابيع دون أن أرى البقعة المدنسة، يخف قلبي، أشعر بالفرح ... أتصور أن الله سمع دعائي، منع عني الأذى، فأراه ماثلا في السروال كالقضاء والقدر، يتحول إلى نزيف ينخلع له القلب، يستمر يوما أو يومين أو عشرة، ينقطع ثم يعود بعد أسبوع أو أسبوعين، يشتد إذا قفزت عاليا، أو إذا سعلت أو عطست أو حزنت أو فرحت أو أصابني انفعال أكثر من المعتاد. «فتحي جاي بكرة»، الفرح يشتد ومعه الألم، في الصباح لم أنهض من السرير، آلام كثيرة تجتاح جسدي، حشرجة في قلبي وصدري مع السعال، تقلصات في الأحشاء والمعدة مع القيئ، إحساس بالدنس والمهانة، الرغبة في الاختفاء عن العيون.
أبالغ في المرض، أسعل بصوت عال حتى تسمعني أمي، تتركني راقدة لا تكلفني بعمل شيء في المطبخ، يشتد السعال فيظن أبي أنني مريضة بالسل مثل عمتي بهية، أبتلع دواء مرا رائحته نفاذة كصبغة اليود، تضع أمي فوق ظهري لبخة «الأنتوفلوجيستين»، عجينة داخل علبة من الصفيح تسخن على النار حتى تغلي، ثم تفرش فوق الجلد ... لا تفعل اللبخة شيئا إلا بعض الحروق والتسلخات ... تستبدل أمي هذه اللبخة بشيء آخر يسمونه «كاسات الهواء»، كئوس زجاجية يوضع داخلها نار لإحراق الهواء ثم تقلب فوق الظهر، ينشفط اللحم داخل الكأس ليحل مكان الهواء المفرغ، كانت الفكرة أن البرد أو المرض ينشفط أيضا خارج الجسم إلى الكأس، ويحدث الشفاء، الشفاء لم يكن يحدث، بل الآلام الشبيهة بنار جهنم والحروق في الجلد.
كنت أفضل هذه الآلام على النهوض من السرير أو غسل الصحون في الحوض أو دعك بلاط المطبخ أو المرحاض، كان سريري من الصاج الأبيض يشبه أسرة المستشفيات له ملة من الأسلاك الطويلة المستقيمة المشدودة، تضيع استقامتها، تنحني تحت ثقل جسمي. في أيام الحزن والحيض يثقل قلبي، تنحني الأسلاك أكثر، تئن من تحتي كأنين القطة المريضة، ونشيج طفلة صغيرة تشعر بالوحدة.
كان لغرفتي نافذة لها قضبان حديدية مثل النوافذ الأخرى في البيت، تصورت أن وظيفة هذه القضبان هي منع البنات من الخروج، وليس منع اللصوص من الدخول، شعاع من الضوء دخل من بين القضبان ومعه صوت يشبه الغناء: أهلا نوال.
من تحت النافذة رأيته واقفا، لم أر منه شيئا إلا هو ... الحضور المفاجئ، التجسد لشيء كنت أظنه خيالا، لم أكن أرى إلا نصفه الأعلى أو هما العينان فقط ... هاتان العينان لا أرى منهما إلا البريق أو الضوء، الشمس تنعكس في عيني، فلا أرى شيئا، أو ربما هو حضوره المفاجئ يجعلني لا أرى شيئا حتى حضوره ذاته.
كنت أستحضر هذا الحضور تحت الغطاء في سريري أحاول أن أجسده، غيابه كان أكثر عذوبة، أكثر تألقا، كنت قادرة على تجسيده على النحو الذي أريد، أختفي حين أراه لأتخيل حضوره وهو غائب، أصبح الخيال أجمل من الواقع. - أهلا يا نوال. - أهلا يا ...
لم أنطق اسمه، رأيته يبتسم، أشرق وجهه، تألق البريق في عينيه كالضوء القوي، لا يمكن للعين أن تحملق فيه. مضى في طريقه ممسكا حقيبة جلدية سوداء، وفي يده الأخرى العود داخل كيس من الدمور، يضربه الهواء الذي هب فجأة، واحتجب الشعاع وراء السحب.
كنت واقفة وراء النافذة أمسك القضبان الحديدة بيدي الاثنتين، الحديد الصدئ يخدش بطن اليدين، أمسكه بقوة لا أتركه، الشيء الصلب المتزن في كون غير متزن، اختفيت وراء النافذة، أخفي وجهي، خداي ساخنتان، يداي باردتان خشنتان، الخدوش فوقهما تزيدهما خشونة، تمسكان بشرتي الملتهبة، أكنت مريضة بالحمى أو السل الرئوي؟
المرض تلاشى في غمضة عين، كيف؟ وجدتني أنطلق خارج غرفتي، صاروخ قاطرة يدفعها البخار المضغوط، أستطيع أن أفعل أي شيء، أهد بيد جدران البيت، ألوي القضبان الحديدية بيد واحدة، أكسر الباب الخارجي بضربة واحدة من قدمي، أخرج إلى الشارع وألحق به قبل أن يصل إلى شارع المحطة. توقفت في الفرندة لحظة لألتقط أنفاسي، الأشجار تتمايل تحت ضربات الريح، ريح قوية حارة كالصهد، محملة برمال الصحراء، الكون لونه أصفر، السحب بلون الرمال، السماء ترعد، رذاذ المطر يتساقط فوق الأرض الترابية تحت الفرندة .
قفزت السلالم في خطوة واحدة، في أعماقي قوة تدفعني إلى الانطلاق، قوة غريبة لم أعرف مصدرها، أهي السماء الصفراء، أم حركة الريح، أم صوت الرعد؟ دقات المطر فوق التراب ؟ الرائحة النفاذة للطين بالماء؟ فتحت الباب الخارجي بيد واحدة، نظرت إلى الخارج، المطر تحول إلى سيل هاطل، امتلأت الحفرات في الأرض الترابية بالماء كالبرك الصغيرة، وقفت على العتب ممسكة بالباب ... تساقط جسدي فوق العتبة، وجلست أشعر بالتعب، المرض، الذهول، لماذا انطلقت نحو الباب؟ هل أنوي الخروج؟ إلى أين؟!
بعد لحظات استعدت هدوئي، عاد الكون إلى اتزانه، لم تعد بي رغبة في الخروج، لم أعرف لماذا، هل أصبح الخروج غير ضروري؟ غير منطقي؟
صعدت درجات السلم عائدة إلى الفرندة، إلى الصالة، ورأيت أمي تضع فوق المائدة مفرشا جديدا بالإبرة الكروشيه، غرفة الصالون بابها مفتوح، دخلت إلى غرفتي واختفيت تحت الغطاء، لم أكن أتمارض، هو المرض الحقيقي، وجع في القلب، الندم أو تأنيب الضمير. كنت أنوي اللحاق به قبل أن يسافر، المطر أغرق الشارع، لم يكن لي أن أغوص في البرك والوحل ... أكان ذلك كل شيء؟
في اليوم التالي، أشرقت الشمس، غسل المطر أوراق الشجر من رمال عاصفة الأمس، فتحت عيني في الصباح على صوت أم كلثوم يغني في الراديو: «يا ليلة العيد آنستينا، وجددتي الأمل فينا، يا ليلة العيد.» إنه اليوم الأخير في العيد، أو اليوم بعد الأخير، الصالة في بيتنا لا تزال تمتلئ بالأقارب من عائلة أبي وأمي.
غرفة الصالون مفتوحة، فيها ضيوف ... الراديو مفتوح على أعلى درجة صوت؛ ليعرف الجيران أن عندنا راديو.
كان صوت أم كلثوم مثل صوت عبد الوهاب لا يهزني. يبعث بعض الطرب لا يهز الأعماق، صوت محايد يغني لكل الناس.
أستشعر الخواء أو الفراغ في كلمة «الكل»، أريد أن أكون شيئا، لم أتخيل أنني أعيش وأموت «مثل الكل» دون أن يحدث شيء، ما هو؟ إحساس غامض، يتملكني صوت في أعماقي يقول: لم أكون مثل كل البنات؟ لن أكون مثل أمي أو جدتي أو خالاتي أو عماتي أو غيرهن.
لن أكون أيضا مثل جدي أو أبي أو أخي أو أخوالي أو أعمامي أو غيرهم من الرجال.
مثل القنفذ أتكور في سريري، أستجمع حواسي في حاسة واحدة «السمع»، أحاول التقاط شيء مما يدور في الصالة، تجمعت النسوة من عائلة أمي وأبي، الهمس يدور بينهن مثل هسيس الريح، هناك شيء يدبر في الخفاء، شيء يتعلق بي أنا بالذات، شيء خطير يمكن أن يحطم حياتي أو أحلامي. ••• «البسي الفستان الحرير الجديد عشان تقدمي القهوة للضيوف في الصالون.»
هذا هو صوت أمي ذلك اليوم، في عينيها نظرة غريبة لا تشبه أمي، عيناها ليستا هما عينيها، هما عينا طنط نعمات أو فهيمة أو هانم، النظرة المزدوجة، ظاهرها الفرح باطنها الحزن، الصدق الكذب، الكره الحب.
كنت أدخل إلى الضيوف دائما حاملة الصينية، من فوقها فناجين القهوة وأكواب الماء، منذ أدركني البلوغ أو الحيض أصبحت أختي الأصغر «ليلى» هي التي تقدم القهوة، أو الخادمة سعدية.
العروسة والعريس
هذا الضيف غير عادي، لماذا أقدم له القهوة وليست أختي ليلى أو الخادمة؟ إذا كانوا قد دبروا خطة ما فسوف أفسدها، لن تنتصر علي هؤلاء النسوة المجتمعات في الصالة، ضحكاتهن ترن في أذني، ماذا يضحكهن بهذا الشكل الوقح؟ لماذا تكركر بضحكة أنثوية ماجنة ممطوطة، لم أسمع ضحكة أمي بين هذه الضحكات، شعرت بنوع من الطمأنينة، أتقف أمي بجانبي؟!
الضحكات تنقطع فجأة وأسمع الهمس أو الهسيس يرن في أذني أكثر وقاحة من الضحك، أراهن من شق الباب جالسات متكئات متلاصقات فوق الكراسي والكنب البلدي، يرن صوت أبي أو رجل في غرفة الصالون، فينتفضن كالدجاجات المذعورات يطاردهن ديك في عشة الفراخ يبغي اغتصابهن، يتنافسن عليه، تشده الواحدة منهن إليها بيدها، وتطرده بعيدا عنها باليد الأخرى.
أهو الانفصام أو الحلم بالاغتصاب؟ تخفيه الواحدة منهن في الأحشاء كالجنين السفاح، تحوطه بذراعيها حين تغيب في النوم، يطل في عينيها حين تصحو مثل جذوة نار مغطاة بالتراب في حفرة أرض. تحت عيونهم الرمادية الصفراوية الباردة أرى شعيرات دموية متفجرة بلون أحمر. عيناي، أيمكن أن يصبح لهما هذا اللون أو هذه النظرة المزدوجة؟ احتراق تحت السطح، وقناع أبيض فوق الوجه من مسحوق البودرة، يشبه الجير أو الجبس المذاب في الماء؟
كنت أهرب من عيونهن، لا أطيق النظر فيها، وفيها مرض معد مثل الجذام، ما إن تلامسني نظراتهن حتى ينتقل إلي المرض.
الليلة السابقة لمجيء هذا الضيف لم أذق طعم النوم من الهسيس، التقطت كلمة «العريس»، جلست في الفرندة وحدي طوال الليل.
وجهي محتقن بالدم، يداي فوق خدي ملمسها خشن، خدش القضبان الحديدي فوقهما، صورته أمامي واقفا تحت نافذتي، صوته يسري في أذني: أهلا نوال. صوته في الغياب أكثر عذوبة ورقة، الحزن على الغياب ينقيه من الشوائب كلها، ومنها الحزن ذاته، رقيق شفاف مثل رذاذ المطر، ينتشر في السماء، ملايين الذرات الضوئية تنقي الهواء من الرمل والتراب المتطاير.
نسمة الليل الناعمة، أنامل حانية تلامسني، يزحف الحزن إلى جسدي، يذكرني الحنان بغياب الحنان، تتعلق عيناي بنجمة بعيدة وحيدة تلمع عيناها بالدموع، ضوءها ثابت قوي، لا ترتعش كالنجوم الأخرى، أتكون هي نجمتي؟! كان أبي يشير إليها ويقول: «كوكب الزهرة.» كانت عند العرب قبل الإسلام واحدة من الإلهات اسمها «العزى»، تحولت إلى امرأة عاهرة منكوشة الشعر شبيهة «بالوحش»، قادرة على إغواء الرجال، على إخراج الله من قلوبهم، أغوت رجلين هما هاروت وماروت، بعد أن أغوتهما أرادت الصعود إلى السماء، الله منعها من الصعود، أوقفها في منتصف الطريق بين الأرض والسماء، أصبحت هذه النجمة الوحيدة بلا حول ولا قوة، تحمل اسما آخر غير اسمها الأول. السماء في الليل مخيفة، محاطة بالأسرار، عيون الله تراني جالسة في الفرندة، وعيون الجان، الذين ورد ذكرهم في القرآن.
كنت أخاف من الجلوس وحدي في الظلام، أخشى أن تنقض علي روح من تلك الأرواح الخفية، جلست تلك الليلة وحدي في الظلمة، كنت أفكر في شيء خطير أنساني الجان والعفاريت، هل أتسلل في الليل وأهرب من البيت قبل أن يأتي الصبح؟
كانت الفكرة تسيطر على عقلي إلى حد الرعدة، هل أمشي في الظلمة وحدي؟ تفترسني الذئاب التي تعوي طوال الليل، يسرقني اللصوص الذين يخرجون إلى الشوارع بعد أن ينام الناس؟
أنتفض جالسة فوق الشلتة في المقعد القش، المخاطر كلها تضاءلت إلى جوار الخطر القادم في الساعة السادسة والنصف مساء الغد ...
الجميع يرتبون لهذا الموعد من وراء ظهري، أشياء جديدة كانت تأتي، فناجين قهوة مزركشة لم أرها من قبل، أكواب تلمع مثل الكريستال، مفارش فوق المناضد، ستائر فوق النوافذ، البياضات فوق الكراسي، كلها انغسلت وانضغطت تحت المكواة الحديدية. السجادة العجمية الكبيرة في الصالون خرجت فوق سور الفرندة تحت الشمس، بالمضرب الخيزران ضربتها أمي وثلاث من النسوة حتى آخر ذرة تراب، تحت الضربات كانت السجادة تحتك بالسور الحجري، يصدر عنها صوت كأنين إنسان من لحم ودم.
هذه السجادة العجمية رافقت أمي من ليلة زفافها حتى ليلة موتها، تنتقل معنا من بيت إلى بيت، ومن بلد إلى بلد، حيث يحلو للحكومة أن ترسل أبي، داست فوقها الأقدام من الضيوف والزوار، شهدت مولدي ومولد إخوتي التسعة، ألوانها الزاهية بهتت مع السنين، يتراكم التراب في ثناياها مع الحزن، وهبوب الرياح، ينحل وبرها في برد الشتاء إلى حد وجود ثقب تراه العيون.
أمي حين تضرب السجادة تغلق جفونها وتزم شفتيها، ترفع المضرب الخيزران عاليا ينطح السماء، تهبط فوق السجادة بكل قوتها، كأنما تضرب مخلوقا حيا ليلفظ النفس الأخير، تبدو أمي امرأة أخرى ليست أمي، ليست المرأة الرقيقة ذات الصوت الناعم، البشرة الحريرية والعيون العسلية.
كل شيء فيها يتغير حتى لون عينيها، تكسوهما طبقة رمادية معتمة كعيني أمها، تضرب الخادمة بالمضرب الخيزران نفسه، بكل قوتها تضربها، بالغضب المخزون في جسدها منذ ولدتها أمها.
لم تشترك طنط نعمات ذلك اليوم في ضرب السجادة، كان لها دور آخر مع عمتي رقية، قبضت علي الاثنتان داخل الحمام، واحدة أمسكت يدي الاثنتين، الثانية فرشت «الحلاوة» فوق ذراعي كما تفرش لبخة الأنتوفلوجستين، ثم راحت تنزع الشعر عن الجلد ... صراخي كان يرتفع من وراء باب الحمام، أرفسهما بقدمي وركبتي، جاءت ستي الحاجة وربتت على كتفي: كله لمصلحتك يا عين أمك.
ما هي مصلحتي في نزع الشعر عن جسدي؟ أدرك بالفطرة أن الشعر فوق الجسد نوع من القوة، الكرامة؟
أي مصلحة في البشرة المسلوخة الملساء مثل جلد الثعبان ؟ أي نوع من العرسان ينجذب لهذه البشرة؟ أي نوع من الرغبة أو الشهوة تثيرها هذه البشرة إلا شهوة الاغتصاب والإذلال؟!
أقسمت وأنا جالسة في الفرندة أن أهرب قبل أن يطلع الفجر، هبطت السلالم على أطراف أصابعي، فتحت الباب الخارجي، نظرت في الظلمة الممدودة أمامي، أغمضت عيني، ألقيت نفسي فيها، أقفز في بحر أسود أغرق فيه حتى الموت.
عدت إلى مكاني فوق المقعد في الفرندة ألهث، قطع الشريان فوق معصمي أسهل من الخروج إلى الشارع المظلم. دخلت إلى الحمام معي الموسى الذي أبري به القلم الرصاص، كان أبي يحلق به ذقنه، قربت الموسى من معصمي، يدي ترتعش تكاد تقطع إصبعي بدل الشريان، رأيت الدم ينزف من إصبعي، انتفضت كالفأرة المذعورة، عاجزة عن التنفس، الهواء لم يعد هواء، مياه سوداء تغرقني. عدت إلى مكاني في الفرندة، الليل كان طويلا يتسع لكل شيء ... للهرب ... للانتحار، للقفز من سور الفرندة وكسر عظامي، أصرخ بأعلى صوت، أشعل عود كبريت في صفيحة الجاز أحرق البيت، جلست في مكاني عاجزة عن فعل أي شيء.
بدت هذه الأشياء نوعا من الجبن، حياتي بدت أعز من أن أفقدها، عظامي أثمن من أن أكسرها، لم يكن سور الفرندة عاليا بالقدر الذي يساعد على الموت، ربما أفقد عظام ساقي وأعيش على عكازين من الخشب مثل زميلتي حميدة، ولماذا أحرق البيت بكل ما فيه؟ النار ستزحف إلى غرفة أخواتي الصغيرات، بريئات بلا ذئب، وأختي الصغرى الرضيعة، لماذا أحرقها مثل الآخرين؟ أليس هو الجبن بعينه؟
الدم من إصبعي المجروح توقف عن النزف، البعوض يرن في أذني، بعوضة فوق ذراعي المنزوعة الشعر، بشرتي بيضاء ملساء تشبه ذراع أمي أو طنط نعمات، البعوضة كبيرة الحجم (بالنسبة للبعوض البريء يلدغ دون أن يسبب المرض)، ساقاها الخلفيتان أطول من الساقين الأماميتين، مؤخرتها عالية، رأسها منخفض يخرج من فمها خرطوم طويل يشبه الإبرة، تغرسه في لحمي وتمص الدم.
لم أشعر بالألم، بل هي اللذة، تمنيت أن تفرغ البعوضة عروقي من الدم، تنفث سمومها كلها في جسدي.
البعوضة تمتلئ بالدم، انتفخ بطنها مثل الأنثى الحامل، لم تعد قادرة على الطيران، التصقت بذراعي ونامت، دمي كان مسمما، مصته البعوضة حتى آخر قطرة، حلاق الصحة في كفر طحلة يضع دودة طويلة وراء أذن المريض لتمص الدم الفاسد، شعرت بالراحة كأنما شفيت، بدأ النوم يداعبني.
خيوط الفجر تولد من بطن الأفق، وضعت نفسي في السرير، لذة الشفاء بعد المرض، لذة الراحة بعد الليلة المرهقة، الاستسلام الكامل للقضاء والقدر، التحرر من الخوف من القضاء والقدر، الانتباه إلى شيء آخر، عاد الصفاء إلى عقلي مع وميض الضوء، فكرت في خطة أنقذ بها نفسي، كانت فكرة بسيطة، أبسط من فكرة الانتحار. ••• «ياللا يا نوال، البسي الفستان الجديد.»
تظاهرت بالطاعة العمياء، نهضت من السرير، امتدت أذرع النسوة بالفستان، أولها ذراع طنط هانم، يدها تسوي الكشاكيش فوق صدري، بأصابعها قرصت ثديي، تبعتها يد طنط نعمات، قرصتني في الثدي الآخر وهي تصيح: عشان ربنا يرزقني بالعريس على طول، أصابتني قرصتها بألم في حلمة الثدي، لدغة عقرب أو ثعبان.
فكرة شائعة تقول: إن قرص العروسة من ثديها أو فخذها أو ذراعها يجلب العرسان لغيرها من البنات، يدر اللبن في الأثداء الجافة، ويؤدي إلى الحبل عند النساء العقيمات.
انقضت علي النسوة من عائلتي أمي وأبي، العانسات منهن والعاقرات والمطلقات والأرامل والبائرات والعاجزات عن الحبل أو الزواج أو العثور على رجل يطفئ اللهيب تحت السطح البارد ... أصبحت قطعة لحم فريسة لأصابعهن الصلبة المتصلبة المصرة على اغتصاب اللذة المكبوتة المحرومة المدفونة في القاع، في بطن الأرض «البور» المتعطشة حتى التشقق.
وقفت مستسلمة للأيادي، الأصابع تقرصني في بطني، في ثديي، في فخذي، في عنقي، في أي مكان من جسدي، استسلام كامل دون مقاومة، أختزن طاقتي لتنفيذ خطتي السرية، في الليل وأنا نائمة في الحلم، كنت أرقد عارية الجسد تنهشني أصابع مدببة كأسنان الكماشة الحديدية ، أحاول النهوض لأهرب، لا أستطيع الحركة، ذراعاي وساقاي مربوطة في الأرض والأبواب كلها مقفولة.
كان ضمن طقوس تجميلي (في عين العريس) هو دعك أسناني بمسحوق الملح، تصبح بيضاء لامعة ، قامت بهذا الدور طنط فهيمة، أسناني ليست بيضاء بالقدر الكافي، أحب أكل الباذنجان الأسود من الحقل، أقضمه بأسناني دون طهي مثل منعم، يترك فوقها طبقة سوداء لا تغسل بفرشاة الأسنان العادية.
أمسكتني طنط فهيمة وهي تقول: «العريس يطفش على طول لو شاف سنانك السودة دي!» وراحت تدعك أسناني بمسحوق الملح وأنا أصرخ، في المرآة رأيت اللثة حمراء متورمة، تنزف الدم لأقل لمسة بطرف إصبعي.
شعري أيضا لم يكن يعجب هؤلاء النسوة من الخالات، لم يكن مرسلا ناعما مثل شعورهن، فيه تموجات طبيعية، طنط نعمات تراه نوعا من القبح، «العريس يطفش على طول لو شاف شعرك المجعد ده يا جارية ورور!» راحت تكوي شعري بالمكواة الحديدية، تسخنها على النار حتى يصبح حديدها أحمر، تلف بها خصلات شعري، في أنفي رائحة الشياط، الدخان المتصاعد من شعري المحترق يكتم أنفاسي، لسعتني بطرف المكواة في طرف أذني.
في مدخل الصالون شماعة من الخيزران لها مرآة مستطيلة، ينظر فيها الضيوف، يخلعون الطرابيش، المعاطف، الكوفيات، يعلقونها على أذرع الشماعة قبل الدخول.
الشماعة في ممر صغير مربع، أمر به حاملة صينية القهوة قبل أن أدخل إلى العريس، تحت رف الشماعة السفلى باذنجانة بشرتها سوداء، بلون وجه إبليس، توقفت أمام المرآة أنظر إلى نفسي، فتاة غيري داخل فستان حريري يكشف عن ذراعين بيضاوين مسلوختين، شعرها ناعم مرسل فوق كتفيها، شفتاها حمراوان، خداها حمراوان، عيناها حمراوان، يعلوهما حاجبان رفيعان مقوسان نتف شعرهما بالملقط، قدماها مقوستان تتأرجحان فوق كعبين رفيعين.
وضعت الصينية فوق الأرض، مسحت اللون الأحمر من شفتي بكفي، قضمت الباذنجان بأسناني، نكشت شعري بأصابعي، حملت الصينية ودخلت بلا صوت، رأسي مطرق إلى الأرض مثل البنات المؤدبات، جفوني مسدلة مثل القطط المغمضة قبل أن أدخل وقفت وراء الباب الموارب، أصغيت لحظة قبل أن ألقى نظرة دائرية في الغرفة الشديدة الإضاءة ، أسمع صوت أبي، كان منهمكا في الحديث مع العريس، الحرب العالمية، الإنجليز، الألمان، الملك، النحاس.
لم ترتفع عيناه نحوي من شدة الانهماك. - الملك باين عليه مع الألمان، والنحاس لازم يكون مع الإنجليز، والإنجليز عاوزين مصر تدخل الحرب معاهم، لكن احنا مالنا، نحارب ليه مع الإنجليز والحلفاء، بقه بذمتك دول حلفاء؟ معايا يا عبد المقصود أفندي؟ - إيوه معك يا سيد بيه.
العريس (عبد المقصود أفندي) رآني في اللحظة التي دخلت فيها، تقدمت نحوه معطية ظهري لأبي، أخفي وجهي في الصينية، سرت بخطوة بطيئة متأرجحة، أول مرة في حياتي أرتدي الكعب العالي المدبب، يرمقني العريس بعينين ضيقتين مثل عيني الصقر، فوق رأسه طربوش أحمر مائل على جنب له شراشيب سوداء تهتز فوق أذانه، يرتدي بدلة ضيقة داكنة اللون، ربطة عنق حمراء مشدودة حول عنقه، صديري ضيق، في يده منشة، يغطس جسده داخل «الفوتيه»، شفتاه منفرجتان فقدتا القدرة على الانطباق.
عند زاوية فمه شيء من اللعاب الأبيض مثل إسماعيل أفندي، اقتربت منه أزم شفتي، أمطهما في غضب، ثم فتحت فمي عن آخره في ابتسامة عريضة ليرى أسناني. سمعته يعطس بصوت عال: «أطس!» انتقلت إلي العدوى، عطست أنا أيضا: «أطس»، فاهتزت الصينية من يدي، انسكب «وش» القهوة في الصحن. بذلت أمي الجهد لتجعل للقهوة هذا «الوش». في أنفي رائحة البن مع الحبهان والباذنجان، خليط يؤدي إلى العطس لا شك، عطست مرة أخرى، واهتزت الصينية أكثر، انسكب مزيد من القهوة في الصحن. العرق يسيل مثل الماء البارد تحت الفستان، يرشح العرق من جسدي كأنما أنا نائمة، العرق يغرقني، جو الغرفة مشبع برائحة العرق. كنت أتحرك بخطوة بطيئة، جسدي متخشب، مطوق، مربوط بشيء ما، أبي الذي يعرفني جيدا كان يمكن ألا يعرفني في تلك اللحظة، كان مستغرقا في الحديث، لم يرني من الوجه، أكان الاستغراق في الحديث محاولة للانسحاب من الموقف دون مسئولية؟! تركني أبي وحدي أواجه حتفي، أدرك أنه ليس من الحكمة أن تلتقي عيناه بعيني لحسن حظي. العريس كان يرمقني بنظرة فاحصة، عيناه الضيقتان ترمقان صدري بنظرة جانبية محدبة، المصباح الكهربائي يعطي ضوءا قويا، لعب الضوء الكهربائي دوره في الكشف عن آثار الباذنجان الأسود، ثم انتبه أبي إلى وجودي، سمعته بقول للعريس: دي نوال! أكبر بناتي. - ما شاء الل ... (أطس) ... ما شاء الله ... (أطس).
العريس يعطس وهو يكرر كلمة: «ما شاء الله» ... أيخفي الصدمة في العطس؟! تقدمت نحوه أكثر، انحنيت أمامه بالصينية، دب الصمت بصوت مفزع، لم أسمع إلا صرير طاحونة الدقيق في شارع المحطة، صرير أشبه بصراخ إنسان حي، اهتزت يداي لسماع الصوت، كعب حذائي العالي الرفيع تعثر في ثقب السجادة، وأنا أنحني، انقلبت الصينية بكل ما عليها من فناجين قهوة ساخنة وأكواب ماء مثلجة فوق صدر العريس.
أشبه بالكوارث تحدث، تنقلب الأشياء بفعل الزلازل والبراكين، لا يستغرق الزلازل أو البركان أكثر من بضع ثوان أو دقائق، لكن هذه الكارثة استمرت عدة أسابيع، أصابني منها علقة ساخنة، لم تكن تهمني العلقة الساخنة، لقد تبخر العريس مع سحب الصيف الرقيقة.
في اليوم التالي بدأت أكتب مذكراتي، كراسة غلافها أزرق، أخفيتها في مكان سري، كتبت فيها أول حروفي:
ما الذي حدث وأنقذني؟! صوت طاحونة الدقيق مثل صرخة إنسان حي؟! الصمت المفاجئ؟! الضوء الكهربائي القوي؟! كل شيء توقف يشهد اللحظة الخارجية عن الزمان والمكان، اللحظة المفزعة حين انتفضت الصينية وانقلبت، أكان ذلك كل شيء؟!
منوف، 30 أغسطس 1941م
في صيف 1942م حصلت على الشهادة الابتدائية، درجاتي كانت ممتازة، الوجوه حولي لا تكشف عن الفرح، الشفاه ممطوطة، الهسيس بين النسوة يدور: «إيه فايدة الشهادة إذا كان مصيرها الجواز؟ إيه فايدة الشطارة في المدرسة إذا كانت خايبانة في المطبخ وكل عريس ييجي تطفشه؟!»
لم أعد أخرج من البيت، بلغت الحادية عشرة من عمري، أصبحت عانسا بلغة طنط نعمات. كنت طويلة القامة، أطول من أخي الأكبر طلعت، النهدان فوق صدري نافران، من يراني يظن أنني في الخامسة عشرة، لم أعد ألعب مع الأطفال في الحقل، تخصصت في طبخ الملوخية، دعك البلاط ليصبح كالمرآة، من وراء جدار المرحاض تترامى لي صيحات الأطفال وهم يلعبون، ضحكاتهم تخترق أذني مثل وخز الإبر، كنت أضحك مثلهم في الماضي البعيد في حياة أخرى، من بين قضبان النافذة الحديدية أراه. «أخي طلعت» يجري ويقفز في الحقول الخضراء الواسعة، يركب البسكلتة ويطير بها في المساحات الممدودة حتى الأفق ... يستنشق الهواء الطلق تحت أشعة الشمس، أنا داخل المطبخ المظلم أبتلع الدخان المتصاعد من وابور الجاز.
وابور الجاز بيني وبينه عداء فطري، كائن غريب الأطوار، له إرادته الخاصة المعاكسة لإرادتي، مندوب لبعض القوى المجهولة في الأرض والسماء، إذا أردت له أن يشتعل ينطفئ، إذا أردت له الانطفاء يهب في وجهي، لسان من النار، يعاكسني مثل القضاء والقدر.
له رأس مربع يسمونه «الطربوش»، أسود اللون يتراكم عليه الهباب، من تحته عنق أسود، يتوسطه ثقب مثل ثقب الإبرة، مسدود بالهباب، تسلكه أمي بعد أن تضع نظارة فوق عينيها، طنط نعمات كان لديها عدسة مكبرة مستديرة تمسكها بيدها اليسرى، تقربها من عينها اليمنى، فترى الثقب الصغير في حجم عين الجمل.
منذ السابعة من عمري بدأت أمي تدربني على إشعال وابور الجاز، وبدأ أبي يدربني على الصلاة، ما العلاقة بين وابور الجاز والصلاة؟ ... حركة الجسم متشابهة، أحني ظهري لأشعل الوابور بحركة تشبه الركوع، أسلك الثقب المسدود بإبرة تلتوي تنكسر داخل الثقب، أخرجها بإبرة أخرى، أنحني، يلامس أنفي طربوش الوابور، حركة تشبه السجود.
كان الثقب ينسد دائما، ذرة دخان أو هباب أو عكارة في الجاز، في قاع الصفيحة تترسب عكارة لزجة سوداء مثل القطران أو الزفت، جاز مغشوش، بائع الجاز كان يدور على البيوت، عربة كارو فوقها برميل كبير ينادي بصوت عال: جاز! جاز! - الجاز بتاعك مغشوش يا عم عثمان! - ده أحسن جاز في الدنيا، والله العظيم! - ليه تحلف بربنا كدب يا عم عثمان؟ - ده أحسن جاز في الدنيا، علي الطلاق بالثلاثة! - عيب عليك يا راجل تحلف بالطلاق عشان شوية جاز. - أمال أحلف بإيه يا ست هانم؟ - يعني ما عندكش إلا ربنا أو مراتك، شوف حد تاني تحلف بيه!
بائع الجاز كان وجهه ضامرا يعلوه نمش أسود، عيناه تبربشان، لا يقوى على النظر في وجه أمي، تختفي أمي من النافذة، فيحملق في الخادمة سعدية بعينين مفتوحتين، يغمز لها بعين، يقرصها في ذراعها ويقول: ده جاز زي الحليب، ينشرب ع الريق يا بت!
رائحة الجاز تصيبني بالغثيان، تعثر أمي في شعري على قملة أو سبانة (بيضة القملة)، تغسل رأسي بالجاز، أقف أمام الوابور لأشعله، يندفع في وجهي لسان من اللهب، أتراجع إلى الوراء بسرعة (كما تفعل أمي) قبل أن تحرق النار أطراف شعري، تملأ أنفي رائحة جاز محروق وشياط. «خلي بالك يا نوال من الوابور، ساعات يهب كدة ويعمل حريقة.»
كالشهقة تفلت الكلمة «حريقة» من بين شفتي، في الليل وأنا أحلم أرى الوابور يهب، بيتنا يحترق، أمي تحترق تصبح قطعة فحم، مثل ابنة عمتها الكبيرة ماتت محروقة، هب فيها وابور الجاز، أجري خارج البيت، أهب من النوم أتصبب بالعرق.
تدربت على إشعال الوابور دون أن أكسر الإبرة، أسلك الثقب المسدود دون أن أنحني أو أركع، أقف أمام الوابور مستقيمة الظهر مرفوعة الرأس، كان بصري حادا أرى النجوم في عز الظهر، مثل زرقاء اليمامة رأت جيوش الأعداء قبل أن يراهم أحد. «نوال بقت شاطرة.»
أصبحت أحمل لقب «شاطرة»، الشاطرة صفة حميدة تتحلى بها البنات الماهرات في المطبخ، الغسل، دعك البلاط، توليع وابور الجاز دون كسر الإبرة، أسمعهم يقولون: «نوال شاطرة»، أشعر بالفرح والحزن، الفرح كان أكثر من الحزن، يزيد حماسي للطبخ والغسل، أدعك البلاط لأرى فيه وجهي. «نوال بقت شاطرة.»
تركت لي أمي مهمة توليع الوابور، أنام كل ليلة فأسمع صوت الوابور ينفجر، أمي داخل النار، أجري إليها أنقذها، تحترق وتموت، يضعونها داخل كفن حريري أبيض فوق السرير النحاسي الأصفر، الكفن في الحلم هو ثوب الزفاف الحريري الأبيض.
كان الحلم يتكرر بأشكال مختلفة، يلازمني في طفولتي وشبابي، لم يفارقني حتى تخرجت في كلية الطب، أصبحت طبيبة «امتياز» بمستشفى قصر العيني الجامعي، في أبريل 1955م، استلمت أول راتب شهري، تسعة جنيهات، «كل جنيه ينطح أخوه» بلغة ستي الحاجة.
في أبريل زهور الربيع تتفتح، أمشي في الشارع مرفوعة الرأس، أخفي حقيبتي تحت إبطي، عيون اللصوص قادرة على اختراق أي شيء، أنوفهم تشم ورق البنكنوت من بعد كيلومتر، دخلت المحل الكبير «شاهر» بجوار سينما ريڤولي في شارع فؤاد، كان لي هدف واحد: البوتاجاز ذو الفرن والأربع عيون (من ماركة «ماستر فليم»
Master Flame ).
القسط الأول خمسة جنيهات، الأقساط كلها تنتهي بعد ستة وثلاثين شهرا.
أمي كانت مثل الزهرة، استعادت ضحكتها الطفولية، عاد البريق يكسو عينيها العسليتين، تقرأ شهادة نجاحي، صوتها يتألق بالفرح: مبروك يا نوال، يا دكتور نوال! - البركة فيكي يا ماما.
اندفعت كلمة «ماما» من بين شفتي مثل شحنة مكبوتة من الحب، التقاليد في عائلة أمي لا تسمح للحب أن يظهر، وإن كان حب الأم. تقبيل الأطفال يتوقف بعد سن الرضاع، تقاليد موروثة عن الأتراك، الطبقة العليا أو الوسطى، البرودة في المشاعر نوع من الرقي.
الأمومة كنت أراها في عيني أمي، جمرة نار مخبوءة داخل سلسلة حديدية، أفعل مثل أمي، أخفي مشاعري وراء لوح من الزجاج.
تسللت إلى البيت ذلك اليوم من أبريل 1955م، ورائي ثلاثة عمال من محل «شاهر» يحملون البوتاجاز، دخلوا على أطراف أصابعهم إلى المطبخ، وضعوه تحت النافذة إلى جوار «النملية» السلك، خرجوا على أطراف أصابعهم، شعاع شمس الأصيل يتسلل من بين جدران البيوت المتجاورة، ينفذ إلى المطبخ من بين قضبان النافذة الحديدية، يسقط فوق ظهر البوتاجاز بإرادة سماوية، سطحه أبيض لامع قادر على إشعاع الضوء.
دخلت أمي إلى المطبخ، اتسعت عيناها: من أين جاء هذا البوتاجاز؟ - هبط من السماء يا ماما.
في عينيها بريق الفرح الطفولي، كانت في طفولتها تحلم مثلي بيوم يختفي فيه وابور الجاز، رأت مثلي البوتاجاز في المحلات والدكاكين، يشتعل بلهب أزرق صاف، شكة واحدة من عود الكبريت، دون إبرة تسليك، لا دخان لا هباب، ترمق بعينيها الثمن المعلق فوق ظهره، تتنهد وتمضي في طريقها.
كنت أريد أن أحوطها بذراعي، أضع رأسي فوق صدرها وأبكي، أطلق سراح الدموع المكبوتة منذ ولدت، كانت هي الأخرى تريد أن تحوطني بذراعيها، تطلق سراح أمومتها الحبيسة. وقفت أمامي وأنا وقفت، عاجزتان عن العناق، عاجزتان عن تبادل قبلة واحدة، واقفتان ... بيننا مسافة من الهواء لا تزيد على طول الإصبع، كانت مثل البحر الواسع أو ألف سنة من الزمان لا يمكن اجتيازها.
عاشت أمي بعد ذلك اليوم أربعة وثلاثين شهرا، ماتت قبل أن أسدد ثمن الأقساط بشهرين اثنين. •••
عبد المقصود أفندي لم يكن العريس الأخير، جاء بعده آخرون، الواحد منهم لم يكن يعود بعد أن أقدم له القهوة، لم تنقلب الصينية بعد ذلك الانقلاب الأول، شيء آخر يحدث، صوت الطاحونة، نقيق الضفادع في الحقل أو صرير الصراصير، نعيق بومة فوق الشجرة.
يكفي أن تنعق بومة واحدة حتى يتشاءم الناس وأولهم العرسان، أصبحت لي سمعة بين عائلة أمي وأبي، قادرة على تطفيش أي عريس، كيف؟ يتباحثون في هذا السر، تعددت الآراء والنظريات، البشرة السمراء، علامة الفقر، القامة الطويلة، العضلات القوية غير المطلوبة في البنات، الفم الواسع، الأسنان الأمامية البارزة في الضب. «الضب»، ورثته عن أمي وخالاتي من عائلة شكري بيه، عمتي رقية أكدت أنه السبب الوحيد وراء هروب العرسان، اختلفت معها ستي الحاجة، «عين الحسود» أصابت ابنها السيد بيه، سوف تبور ابنته الكبرى، من ورائها تبور بناته الأخريات، سوف تفقأ عين الحسود بعمل يندرج تحت «السحر».
كانت لي سمعة أخرى في المدرسة، بنت شديدة الذكاء، «الذكاء» لم يكن من الصفات الحميدة للبنات، شهادة أخي طلعت تأتي من حولها دائرة حمراء علامة السقوط، يعيش بيتنا في صمت مثل المأتم، يخرج أبي صامتا ويدخل صامتا، إن تكلم فهو يؤنب أخي: أختك البنت تنجح وانت تسقط؟! ابن التاجر بياع الكراريس ينجح وابن مفتش التعليم يسقط؟! بقه ده معقول؟!
الحزن على رسوب أخي في المدرسة يغطي على الفرح بنجاحي، في الليل أبي يهمس لأمي: يا ريتها كانت الولد وهو البنت، لازم علينا غضب من ربنا يا زينب!
ذكائي ليس إلا غضب الله على أبي وأمي، نوع من الإثم يستوجب الإخفاء مثل حذائي القديم، مثل الثقب في السجادة العجمية.
لم يكن في منوف مدرسة ثانوية للبنات، اقترح أبي على أمي أن أبقى في البيت أساعدها، أخفف عنها عبء رعاية العدد المتزايد من الأطفال، أمي رفضت هذا الاقتراح، تفوقي في المدرسة شجعها على مواصلة تعلمي، أو إدراكها أنني لن أخضع كما تخضع البنات، أنني لن أنجح في الزواج.
كانت أمي مختلفة عن إخوتها لحسن حظي، في أعماقها بذرة تمرد، ذكاؤها حين كانت تلميذة متفوقة في المدرسة، الحلم منذ طفولتها أن تعيش حياة غير أمها، السلطة المطلقة لأبيها في البيت جعلتها تنفر من السلطة على أطفالها.
لم يكن أبي مثل جدي شكري؛ لم يشرب الخمر، لم يسهر خارج البيت، لم يعرف نساء غير أمي، القانون وشرع الله يعطي أبي الحق المطلق في الطلاق والزواج بأربع نساء، لم يستخدم أبي هذا الحق. كان زوجا مخلصا لأمي، ساعدها في أعباء البيت، يتحمل وحده مسئولية الإنفاق، كان أبا نموذجيا لا يضرب أطفاله مثل الآباء الآخرين، يلعب معهم، يعطيهم مساحة للنقاش والجدل في أمور الدين.
لم يحدث أن رأيت أبي وأمي يتشاجران، مرة واحدة رأت أمي في منامها أبي مع امرأة أخرى، استيقظت أمي في الصباح حمراء العينين، غاضبة على أبي، سمعت صوت أبي عاليا لأول مرة في حياتي: يعني أنا مسئول كمان عن أحلامك يا زينب!
صوت أبي لم يرتفع عن صوت أمي ... بينهما نوع من الاحترام، كلاهما يدرك قوة الآخر، أبي العائل الوحيد للأسرة، لم يكن لأمي قوة إلا شخصيتها، رفضها الإهانة، استعدادها لحزم حقيبتها والعودة إلى بيت أبيها شكري بيه.
كانت الطبقة تلعب دورها في إحداث توازن القوى في بيتنا، أمي تدرك أنها تنتمي إلى طبقة أعلى من طبقة أبي، لم تكن تصرح بذلك، سلوكها كان يوحي أنها انحدرت من سلالة الأميرات.
أبي مثل أمي يدرك قيمة التعليم، لولا التعليم ما انتقل أبي من طبقة الفلاحين الفقراء إلى الطبقة الوسطى من المثقفين، أدرك أبي أن مستقبلي في التعليم مضمون أكثر من مستقبلي في الزواج، سأدخل المدرسة الثانوية في القاهرة، لكن أبي كان مترددا.
في الليل أسمع أبي وأمي يتهامسان: نوال حتعيش وحدها في مصر يا زينب؟ - حتعيش في بيت خالتها هانم. - بيت خالتها مش زي بين أبوها وأمها. - نوال واعية لنفسها، ماتخافش عليها يا سيد. - مصر مش زي منوف يا زينب. - نوال شاطرة، أنا عارفاها، ترميها في النار ترجع سليمة.
كلمات أمي تنتشلني، كذراعيها في طفولتي فوق الموجة العالية، أرى نفسي أمشي داخل النار دون أن أحترق، أمشي في البحر فوق الأمواج دون أن أغرق، أمي الحقيقية، أجدها بجواري حين تتأزم الأمور، يتخلى عني الجميع فأجدها، قد أكون بعيدة عنها في مكان آخر، لا تسمع صوتي إذا ناديتها، تأتي في اللحظة الحاسمة، لا أدري كيف، وتنقذني.
من نبوية موسى إلى مدرسة السنية
حملت حقيبتي إلى محطة القطار، كان معي أبي، ظل واقفا على رصيف المحطة حتى تحرك القطار، أول مرة أركب القطار وحدي، عينا أبي مملوءتان بالقلق وشيء آخر غير القلق، طبقة شفافة مثل دمعة كبيرة محبوسة يبتلعها قبل أن أراها. أردت أن أعانقه، ذراعاي لم تتحركا، وقفت في نافذة القطار أطل عليه، أخفي الدموع تحت ابتسامة عريضة، دوت صفارة في أذني، امتلأ الجو بالدخان، أمسك أبي بالنافذة، يمشي مع القطار، يجري مع القطار. «خلي بالك من نفسك، اوعي التذكرة تقع منك، اركبي تاكسي من محطة مصر لبيت طنط هانم، ابعتي لنا جواب أول ما توصلي، خلي بالك من نفسك، مع السلامة يا نوال. أردت أن أمسك يد أبي، خشيت أن يسقط تحت عجلات القطار، يفقد ساقيه ويمشي على عكازين. لم يترك أبي النافذة حتى آخر الرصيف، لوح لي بيده، يتراجع إلى الوراء مع المحطة، لوحت له بيدي وأنا أبتسم، الدموع تنهمر فوق وجهي.»
كنت أحب السفر وركوب القطار، هذا اليوم جلست في مقعدي، أمسح الدموع، بدت الرحلة طويلة موحشة، العيون ترمقني، جالسة وحدي، بنت صغيرة في الحادية عشرة من عمرها تسافر وحدها إلى مصر، حقيبة ملابسي إلى جواري، أسندها بيدي حتى لا يسرقها أحد، حقيبة المدرسة فوق ركبتي، بها كيس النقود والتذكرة وكشكول غلافه أزرق أسجل فيه مذكراتي.
في القطار أخرجت الكشكول وكتبت:
اليوم، 9 سبتمبر 1942م، أنا حزينة لفراق أمي وأبي، أشعر بالندم وتأنيب الضمير، تمنيت يوما أن يموت الاثنان لأخرج إلى الشارع بدون إذن وألعب مثل أخي، أركب البسكليتة، قلبي ينوء بالحب لأمي وأبي، الحب يولد في قلبي منذ فراقهما، أيكون الفراق هو شرط الحب؟
انتبهت إلى صوت رجل يكلمني، كان جالسا في المقعد المقابل لي، يختلس النظر إلى حقيبتي، أيسرقني أنا أم كيس الفلوس؟ «رايحة مصر لوحدك يا بنتي؟!»
لم أرد عليه، لا أكلم الغرباء في الطريق. له وجه يشبه عبد المقصود أفندي، العينان الغائرتان تتجهان مباشرة إلى صدري. أدخلت الكشكول الأزرق إلى الحقيبة وحوطتها بذراعي، من النافذة أعمدة السواري تتراجع إلى الوراء، تراجعت الحقول الخضراء، بدأت الجدران السوداء والبيوت المتهدمة الملطخة بالدخان، امرأة نحيفة شاحبة تنشر الغسيل في إحدى البلكونات، يذوب وجهها داخل دخان القطار مع غسيلها الأبيض.
وصلت محطة مصر لحظة غروب الشمس، العمارات والأبنية الباهتة قابعة تحت سماء رمادية، الدخان مثل الشبورة، أسير وحدي وسط زحام المحطة، حاملة الحقيبتين. ثوبي من الصوف الرخيص من فوقه بلوفر باهت ينفذ منه هواء بارد. وأتلفت ورائي؛ أخشى أن يتبعني الرجل الذي كان في القطار. البوابة الضخمة، ميدان باب الحديد، سقطت في خضم متلاطم من البشر، دوامة تدور فيها السيارات والترامات والموتوسيكلات، أثبت قدمي في الأرض الأسفلت، أنظر في جميع الاتجاهات، ألقي نفسي في البحر دون أن أعرف السباحة، أجتاز الميدان، كادت تدهسني سيارة، امتدت بعض الأيادي وانتشلتني.
كان هناك عدد من سيارات الأجرة التاكسي، المسافرون استولوا عليها، لم يبق إلا تاكسي واحد قديم بدون رفرف، انقض عليه رجل طويل. بدأت الدنيا تظلم وأنوار المصابيح تضاء، قررت السير على قدمي حتى بيت طنط هانم، اخترت امرأة عجوز، ملامحها توحي بالطيبة، سألتها عن شارع الضاهر، وصفت لي الطريق وهي تشير بإصبعها: شايفة الشارع اللي هناك، ده شارع الفجالة، امشي فيه على طول مع شريط الترامواي تلاقي نفسك في شارع الضاهر.
المرة الأولى أمشي في شارع الفجالة، شارع المكتبات، من وراء نوافذ المحلات الزجاجية أرى الكتب معروضة، مئات الكتب والعناوين وأسماء المؤلفين، التقطت اسم طه حسين.
عند تقاطع شارع الفجالة مع شارع الضاهر مبنى كبير مكتوب عليه: «مدرسة الفنون الطرزية للبنات». رأيت بنتا من عمري تحمل حقيبة المدرسة تمشي وحدها، تدب فوق أسفلت الشارع بحذاء جلدي قوي، خطوتها واثقة شجاعة، خجلت من نفسي، أتكون هذه الفتاة أشجع مني؟! خجلت من حذائي القديم يغطيه تراب الشارع في منوف، لم تكن الشوارع في منوف مرصوفة بالأسفلت، خبطت قدمي في الأرض، نفضت التراب عن حذائي، شددت قامتي الطويلة، سرت بخطوة قوية أدب على الأسفلت.
شارع الضاهر يتألق نظيفا لامعا تحت الأضواء، العمارات على الجانبين جديدة تبرق كأنما بنيت بالأحجار الكريمة، أبوابها شفافة من الزجاج، لها أعمدة عالية رخامية. كنت أرى هذه الأبواب الشفافة في الحلم. لافتة كبيرة فوق الباب مكتوب عليها المدرسة الثانوية للبنات، أدخل من الباب أخرج حاملة الشهادة النهائية «التوجيهية»، أدخل بها إلى الجامعة، كلمة «الجامعة» تجعل قلبي يدق، لم أكن رأيت الجامعة بعد، سمعت الكلمة، كلية الآداب في الجامعة، أتخرج أستاذة كبيرة، يضعون كتبي في نوافذ المحلات في شارع الفجالة.
شارع الضاهر كان يرمقني بعيون مملوءة بالفرح، يمتد أمامي، تحت أقدامي، أمشي فوقه، يرحب بي فخور بهذه الفتاة أستاذة المستقبل.
وصلت عمارة زوج خالتي، رأيت وجهه، تبدد الفرح، قابلتني طنط هانم، البرود العاطفي الموروث عن عائلة شكري بيه، أخذتني إلى الحمام لأخلع حذائي، رمقت الثقب في جوربي بنظرة متعالية، أجلستني في البانيو، أمسكت الليفة الخشنة راحت تدعك جسمي. شعرت بالمهانة داخل البانيو الأبيض اللامع، صحن ضخم من الكريستال أو اللؤلؤ، لم يكن في منوف بانيو، الطشت الكبير من النحاس نستحم فيه، أغرقتني طنط هانم في البانيو، ابتلعت الماء بالصابون بالمهانة، تصورت نفسي سعدية الخادمة، كانت تغرقها أمي في الطشت، تغسل لها شعرها بالجاز أو تحلقه بالموس.
لم تكن طنط هانم تشبه أمي، كانت سمراء البشرة، شعرها أسود غزير ، تستعرض على الضيوف جواهرها أو قطع الأثاث في غرفة الصالون، الغرفة الأخرى تسميها «الأنتريه»، كلمة فرنسية تعني «المدخل»، خالتي هانم تتباهى أمام الناس بأنها تعرف الفرنسية.
أراها جالسة مع الضيوف في غرفة الصالون، المقاعد المذهبة المطلية بالحرير تسميها «الأبيسون»، فستانها الحريري يكشف عن ركبتها، تضع الساق فوق الساق، تشعل سيجارة (لا تدخن حين تكون وحدها) تنادي على السفرجي: يا عم عثمان، هات لي «آن فير دو سيل فوبليه.»
عم عثمان يفهم هذه العبارة، يحضر لها كوب ماء، يتباهى هو أيضا أمام الضيوف أنه يعرف الفرنسية، معلوماته في اللغة الفرنسية مثل طنط هانم، كلمات لا تزيد على أصابع اليد الواحدة. «هند» الابنة الكبرى لطنط هانم، تصغرني قليلا، تبدو طفلة أنا أمها، غرفتها مليئة بالعرائس، سريرها لونه وردي، سيارة المدرسة (على شكل أوتوبيس أحمر)، تحملها كل صباح مع حقيبتها إلى المدرسة.
هند تجلس معي إلى مائدة الطعام في الصباح الباكر، تناولها طنط هانم كوبا كبيرا من اللبن، تسألني بصوت بارد: عاوزة لبن؟ - لا.
أحب اللبن، أقول «لأ» كأنما أكره اللبن، أبي يدفع لها ثمن اللبن ونفقاتي كلها حتى الغسيل والمكوى والكهرباء وكل شيء، الطريقة التي تسألني بها لم يكن لها إلا رد واحد: «لأ.»
تملأ الصحن لابنتها بالطعام، لا تضع في صحني إلا القليل، أغضب، أنهض دون أن آكل، يشتد بي الجوع، أشتري من مصروفي رغيفا وقطعة من الجبن أو الحلاوة الطحينية.
أنام على سرير صغير من الصاج، اشتراه أبي، وضعته طنط هانم في أحد الأركان في غرفة مهملة، اشترى لي أبي منضدة صغيرة أذاكر عليها ولمبة كهربية.
لم تكن طنط هانم تشجعني على المذاكرة، كلما رأت اللمبة مضاءة في الليل تطفئها وهي تقول: ذاكري بالنهار علشان الكهربا غالية.
في أول كل شهر يرسل إلى أبي قائمة مصروفاتي، منها الكهرباء واللبن، لم أشرب اللبن لكنها تضيفه إلى القائمة، هل أقول لأبي أو لأمي؟ كنت أخاف أن أبقى في منوف بدون مدرسة.
دخلت مدرسة نبوية موسى الثانوية في العباسية، كانت أقرب المدارس لبيت طنط هانم في شارع الضاهر، أركب الترام من أمام البيت وأهبط من الترام أمام باب المدرسة. قضيت عاما دراسيا كاملا (1943م)، لم أعرف في مدينة القاهرة إلا الطريق الذي يسلكه الترام من باب طنط هانم إلى باب نبوية موسى.
كانت التلميذات يطلقن على الناظرة نبوية موسى «بعبع أفندي». في طابور الصباح أراها تمشي بخطوة تشبه مس هيمر، ترتدي تايير أسود، جوربا طويلا أسود، تيربون أسود، عيناها سوداوان مملوءتان سوادا.
كانت تفرض علينا نحن التلميذات ارتداء هذا السواد من قمة الرأس حتى أخمص القدمين، أعطى أبي لطنط هانم مبلغا من المال، أصبح لي تايير أسود، جورب أسود طويل سميك لا يشف الساقين، شريط أسود من التفتاه لربط ضفائر الشعر.
داخل المرآة، رأيت نفسي غرابا أسود، مطت خالتي هانم شفتيها: نبوية موسى لازم عانس زي طنط فهيمة، وعاوزة كل البنات يبقوا عوانس زيها.
لم أعرف شيئا عن نبوية موسى، واحدة من رائدات تعليم البنات، أي ريادة وأي تعليم؟ لم تكن رائدتي ولا مثلي الأعلى في حياتي، عضلات وجهها دائما متقلصة في تكشيرة أشد كآبة من تكشيرة جدي، لم أرها مرة واحدة تبتسم، لم أسمعها مرة واحدة تقول صباح الخير. تقلد الناظرات الإنجليزيات، الناظرات الألمانيات في عصر هتلر، الناظرات الفرنسيات في مدارس الراهبات.
تكره البنات، تكرهني حين تلتقي عيناها بعيني، تكره نفسها أيضا داخل السواد، أصبحت المدرسة مثل المأتم، كل شيء بلون الحداد.
طنط هانم لم تحب اللون الأسود، ترتدي الفساتين الحرارية الزاهية الألوان، بيتها الأنيق بالأشياء الزاهية، السواد في المدرسة كان أكثر بهجة لي من بيت طنط هانم.
طنط هانم أصغر من أمي بعامين اثنين، أدخلها جدي مدرسة الراهبات كما فعل مع أمي، أخرجها من المدرسة، زوجها من تاجر يملك دكانة في شارع الموسكي وبعض العمارات، منها العمارة في شارع الضاهر.
في زمن الحرب ازداد ثراء التجار، منهم زوج خالتي هانم. أبي يمقت التجار، يطلق عليهم اسم أصحاب الذمة الخربة، لا ضمير عندهم إلا الربح، يضعون المليم فوق المليم، يصنعون الملايين، لا يقرءون الكتب ولا الصحف، لا يشاركون في المظاهرات الوطنية، مهما أصبحوا من الأثرياء لا تذهب عنهم صفة البخل والتقتير، تقوم المعركة بينهم بسبب نصف مليم، التاجر منهم يخشى إفراغ أمعائه، بلغة ستي الحاجة: «يخاف يشخ يجوع .» يعاني أغلبهم من الإمساك.
البخل من الأمراض المعدية، ينتقل من الزوج إلى زوجته، تتفوق الزوجة على زوجها لتحظى برضاه، لتأمن بطشه.
كانت طنط هانم تخشى زوجها، أسمع من أمي أنه ليس زوجا مخلصا، يسهر في الحانات ودور اللهو، لا يعود إلا البيت إلا قرب الفجر، تعثر طنط هانم في ملابسه على آثار نساء أخريات، روج أحمر في المنديل، عطر حريمي في السروال، ترى وتسكت، تخشى أن تفتح فمها، يددها بالطلاق، يزداد ثراء وتزداد سلطته، يعطي نفسه مزيدا من الحريات، كنت أناديه باسم: عمي عبد الحليم.
طويل القامة، مبطط الوجه، يشبه التمساح، عيناه ضيقتان غائرتان، شفتاه مزمومتان، يدخل البيت عند الفجر وأنا نائمة، يخرج عند الظهر وأنا في المدرسة، لم أكن أراه إلا يوم الأحد. يوم الإجازات يغلق فيها الدكان في الموسكي، أعود من المدرسة بعد الظهر فأراه جالسا إلى المائدة يتناول وجبة الصباح، لا يرفع وجهه عن الصحن، عيناه مغمضتان أو نصف نائم، يرمقني بطرف عين صامت، تنفرج شفتاه عن كلمة واحدة: «كويسة.» أترك له المكان، أمشي إلى غرفتي، يرمقني كأنما أمشي فوق رأسه وليس على الأرض.
في إجازة العيد سافرت إلى منوف، ركبت القطار من محطة باب الحديد (ميدان رمسيس)، قلبي يخفق بالفرح، سوف أرى أمي وأبي وإخوتي وأخواتي، المرة الأولى في حياتي أفترق فيها عنهم، استقبلوني بالفرح والبريق في العيون، لا عناق ولا قبلات، المشاعر المطلة من العيون أقوى من أي عناق، سألتني أمي: مبسوطة في بيت طنط هانم يا نوال؟ - أيوة يا ماما.
خشيت أن أقول الحقيقة، ليس هناك حل سوى أن أبقى في منوف، أحرم من مواصلة المدرسة، في يوم أرسلت طنط هانم رسالة عاجلة إلى أمي: «خذوها إلى بيت عمها.»
كان يوم أحد، بدأت أرتدي طاقم نبوية موسى الأسود لأذهب إلى المدرسة، بحثت في الغرفة عن التايير، لم يكن عندي إلا تايير واحد، كيف أذهب إلى المدرسة بدون تايير؟!
طنط هانم أخطأت، علقت التايير في الدولاب في غرفة زوجها، لا يمكن لأحد أن يفتح عليه الباب حتى يصحو وحده قرب الظهر.
جاء الأتوبيس الأحمر يأخذ بنتها هند إلى المدرسة، بقيت وحدي أفكر ماذا أفعل، هل أغيب عن المدرسة لمثل هذا السبب التافه؟ أمي تفتح الباب وأبي نائم دون أن يحدث شيء، أتخاف طنط هانم من زوجها إلى هذا الحد؟
تركتني طنط هانم أقضم أظافري من شدة الغيظ. لم يكن يهمها أن أذهب إلى المدرسة أو لا أذهب، كان تضيق من حرصي على المذاكرة، كلما رأتني أقرأ الدرس تقول لابنتها هند: شوفي بنت خالتك، بتذاكر طول الوقت وانتي بتلعبي بالعرايس!
الغضب يتجمع في صدري كالبخار المضغوط. لا أغيب عن المدرسة وإن مرضت، نظرت إلى ساعتي فوق معصمي، كل لحظة تمر عطلة إجبارية تشبه الراحة المفروضة في المرض، غضبي يشتد، يتراكم منذ ولدت. من خلال النافذة السماء خاوية بلا معنى، السيارات تمرق في الشارع بلا هدف، اللحظة الحاضرة تمتد بلا نهاية، بلا ماض ولا مستقبل، المستقبل بدا مظلما، غيابي عن المدرسة غياب عن الحياة، يفكك الأشياء في الكون، يتلفها، يدمرها، ليس يوما واحدا، بل أيام عمري كلها تضيع، ليست عطلة مؤقتة، بل عطلة أبدية، عطلة تلميذة بلا عطلة، بلا راحة منذ ولدتها أمها.
الخروج إلى المدرسة لم يكن مجرد خروج، كان الانعتاق، الحرية، الابتعاد عن الأرض، الاقتراب من السماء.
النافذة مفتوحة إلى السماء، مفتوحة إلى الأرض، إلى الشارع، ترتفع عنه مسافة ستة أدوار، قفزة واحدة وأطير كما في الحلم؟ أو أسقط ويتهشم رأسي؟
قدماي تتحركان نحو النافذة، أتوقف لا أستطيع الاقتراب، أخاف من الموت، أخاف من الغياب عن المدرسة، الخوفان يجتمعان، يرجان الأرض تحت قدمي، أتحرك مع الارتجاجة، أتجه نحو النافذة، الموت أسهل من الغياب، أسهل منهما السير نحو الباب، مشيت إلى الباب، ذلك الباب، المغلق على التايير، الخوف يتصاعد مع الاقتراب من الباب، الخوف الجديد مع الخوف القديم منذ ولدت، اندفعت نحو الباب بقوة القطار المندفع بالبخار، اندفعت بكل جسمي، فتحته بكل قوتي بكل ثقلي، دخلت إلى الغرفة المعتمة المملوءة بهواء راكد يرقد فيها تمساح ميت ، مثل الصاروخ اتجهت إلى الدولاب، فتحته بيد واحدة، أمسكت التايير باليد الأخرى، اندفعت خارجة كما دخلت بالخوف نفسه.
أنتفض، أرتدي التايير، أشد الجاكيت لأغلقه حول صدري، انقطع أحد الأزرار، عناصر الخوف كلها تجمعت داخل جسدي، داخل الهواء يملأ البيت، ترتعش له الستائر المعلقة على النوافذ، أسمع صوت اصطكاك الحرير بالجدران كالأسنان تزمجر، ريح مثل الإعصار تزأر، صوت طنط هانم؟ صوت زوجها؟ لم أسمع إلا أصوات الريح، أمسكت حقيبتي، أسرعت خارج البيت، قفزت السلالم، قفزت داخل الترام المسرع، هبطت أمام المدرسة، كادت تدهسني سيارة وأنا أجتاز الشارع، اندفعت داخل الباب قبل أن يغلق.
كان الجرس دق، دخلت التلميذات إلى الامتحانات، كان يوما من أيام الامتحانات، جلست في الفناء مطرقة الرأس، الدموع تجري فوق وجهي، غيابي من الامتحان يعني السقوط، كان أبي يحذرني من السقوط، يشير بإصبعه إلى الجردل والفرشة: «إذا سقطتي مرة واحدة مافيش إلا مسح البلاط!»
نهضت من فوق الدكة الخشبية، لاحت لي فكرة، أدخل إلى مكتب الناظرة، أحكي لها ما حدث بشأن التايير، أطلب منها أن تأذن لي بدخول الامتحان.
كانت المرة الأولى والأخيرة ألتقي وجها لوجه بالأستاذة نبوية موسى، كان لها وجه يقطع الخميرة من البيت (بلغة ستي الحاجة)، أصبحت أكره جميع الوجوه الشبيهة بوجهها، جعلتني أكره المدرسة والتعليم وكل شيء في الدنيا، أبي (إذا أراد أن يعاقبني أو يفزعني) يقول لي: لازم أبعتك تاني عند نبوية موسى!
لا أذكر من نبوية موسى إلا وجها عابسا مشدود العضلات، عيناها سوداوان واسعتان، تتسعان لما في العالم من كآبة سوداء، وقفت أمامها أرتجف، جالسة داخل مكتبها كالأسد في عرينه، متحفزة تنتظر الانقضاض، قبل أن أفتح فمي انفجرت بصوت غاضب: أنا عارفة الحجج الفارغة بتاعة البنات المايعين، لازم وقفت ساعة قصاد المراية تساوي حواجبك.
لم تكن في غرفتي مرآة، لم أكن أرى نفسي، إلا حين أفتح الباب الخارجي، كان هناك مرآة طويلة في المدخل، ألمح داخلها شبحا أسود يحمل رأسا يشبه رأسي، فتاة طويلة نحيفة شاحبة ترتدي الحداد.
لم أكن أيضا من «البنات المايعين»، أمشي مشدودة الجسم كالعسكري الأسود، طنط هانم تطلق علي اسم غفير الدورية.
نبوية موسى لم تكن تنظر إلي، عيناها مقلوبتان إلى الداخل، جاحظتان مقلوبتان إلى الخارج، تشردان بعيدا في السماء، كانت هي الأخرى غاضبة على السماء، غاضبة على جنس الإناث، الغضب تجسد فوق جبينها تكشيرة قاتمة تشبه خالتي فهيمة: امشي روحي الامتحان بسرعة، وإذا تأخرتي مرة ثانية مافيش غير الطرد النهائي من المدرسة! مفهوم؟
صوت نبوية موسى اخترق أذني، تطردني من مكتبها، أسرعت أجري إلى الامتحان، نجحت، انتقلت إلى السنة الثانية الثانوية، نقل أبي أوراقي إلى مدرسة السنية، انتقلت إلى بيت عمي الشيخ محمد السعداوي في حي العنبري بالقلعة. •••
أصبحت تلميذة في مدرسة السنية الثانوية للبنات، قضيت فيها عامين اثنين (1944م، 1945م)، كلمة «السنية» كان لها رنين في الأذن، نوع من الرهبة والأبهة، مدرسة السنية لها تاريخ في مصر، تخرجت فيها رائدات التعليم من المعلمات، أسمع طنط فهيمة تنطق كلمة «السنية» بأنف شامخ: في السنية عرفت أبلة نظيرة.
ترن كلمة «أبلة نظيرة» في أذني أكثر رهبة وأبهة من كلمة السنية، من هي أبلة نظيرة؟ واحدة من الرائدات مثل نبوية موسى، أسمع صوتها يخرج من الجهاز السحري الذي يسمونه «الراديو»، صندوق من الخشب له ثقوب مفتوحة إلى الداخل، عيون سحرية مفتوحة على العالم الآخر، تنبعث منها الأصوات قادمة من السماء.
كانت طنط فهيمة (الأستاذة فهيمة شكري) ذات أهمية أكبر من النساء والرجال في عائلة أمي وأبي، طنط فهيمة تعرف واحدة من الكائنات السحرية المتكلمة في الراديو، عرفتها في مدرسة السنية.
كنت جالسة بين أبي وأخي طلعت داخل التاكسي المنطلق بنا إلى بيت عمي الشيخ محمد، قال أبي لأخي: إنه دخل مدرسة بنبا قادق الثانوية، سيسكن معي في بيت عمي، التفت أبي ناحيتي وقال إنني دخلت مدرسة السنية.
خفقة واحدة هائلة من قلب ارتج لها التاكسي، اصطكت عجلاته بأسفلت الشارع محدثة صوتا عاليا، وارتجاجات في جسدي، في جسد أبي أيضا، طربوشه كان يخبط في سقف السيارة، أمسكه بيديه الاثنتين، سقط عن رأسه، وضعه فوق ركبتيه.
قال أبي: هذا اسمه شارع محمد علي، على جانبيه رأيت الأعمدة الحجرية الضخمة «البواكي»، المحلات، الدكاكين، الزحام، الترام يصلصل وراءنا يكاد يدهس التاكسي، تبادل سائق الترام مع سائق التاكسي اللعنات، شتم كل منهما أم الآخر وأباه حتى سابع جد، انطلق كل منهما في طريقه لاعنا الدين والدنيا وشارع محمد علي بما فيه من المومسات وبيوت البغاء.
كان بيت عمي في زقاق ضيق غير مرصوف بالأسفلت، مملوء بالحفر والمطبات وأكوام القمامة، زمجر السائق وهو يدخل الزقاق، توقف قبل أن نصل إلى البيت، بركة صغيرة من الماء والطين تفوح منها رائحة المجاري، أي فارق بين هذا الزقاق وشارع الضاهر؟ أي فارق بين عمي الشيخ محمد وبيت طنط هانم؟
عمي الشيخ محمد السعداوي يحمل لقب أستاذ الشريعة في جامعة الأزهر الشريف، تصورت أن بيته أجمل من بيت تاجر الموسكي! شقة ضيقة مظلمة في الدور الرابع، بيت قديم آيل للسقوط، له مدخل ضيق شديد الظلمة، أحمل حقيبة كبيرة، أتعثر فوق السلالم وراء أبي وأخي، كل منهما يحمل حقيبة بيد، في يده الأخرى عود كبريت مشتعل.
في كل دور يتوقف أبي ليشعل عود كبريت جديد، يلتقط أنفاسه، يواصل الصعود، أنا وأخي من خلفه نلهث بصوت مسموع.
كلمة «السنية» والأبهة تبخرت في الجو، قلبي يغوص إلى أسفل مع كل درجة أصعدها نحو بيت عمي، أبي يقول شيئا ليخفف الصدمة، يخفف عن نفسه عبء تأنيب الضمير والندم لإحضارنا إلى هنا، أو لعله وجد الفرصة سانحة ليتحدث في السياسة: حكومة فاسدة، لا تحترم العلم ولا العلماء! نظام فاسد لا يكسب فيه إلا الجهلاء وتجار الخردة في الموسكي.
انحفرت كلمات أبي في ذهني، خففت عني الإهانة، الفقر يهين كرامة الإنسان، يمتلئ الصدر برائحة المجاري كل صباح، الفول ، العدس، الأصوات تنطلق من الأمعاء داخل المرحاض؟!
باب المرحاض إلى جوار باب الغرفة التي أصبحت غرفتي (وأخي طلعت)، غرفة رطبة باردة، في الشتاء ثلاجة، وفي الصيف حارة ملتهبة، زنزانة من الصفيح داخل قرص الشمس، نافذة واحدة صغيرة تفتح على جدار أسود مسدود، تتصعد منه رائحة طبيخ حامض يغلي على النار، باب آخر صغير يفتح على السلالم الخارجية.
نعمة من عند الله هذا الباب الصغير، يعفينا من المرور في الصالة عند الخروج. الصالة مثل السرداب، كنبة بلدي يجلس عليها عمي وزوجته وأقاربها من عائلة العقباوي.
كلمة «العقباوي» ترن في أذني مع كلمات أخرى مثل: العقاد، بنبا قادق، القلعة، العنبري، روماتزم العمود الفقري، كلمات مترابطة داخل سلسلة واحدة في ذاكرتي مع الزقاق المظلم في حي العنبري قرب القلعة، الغرفة الرطبة من البلاط، أصابتني الآلام في عمودي الفقري، بنبا قادق الثانوية يسقط أخي فيها آخر العام. العقاد يتحدث عنه العقباوي مع عمي الشيخ محمد، القرآن يرتله عمي قبل أن ينام، الأذان ينطلق قبل الفجر من الجامع مثل قذائف المدفع، مدرستي الثانوية السنية تحولت إلى قلعة، سجن كبير يحوطه سور حجري قرب جامع السيدة زينب، الشحاذون وأصحاب العاهات أمام باب الجامع يلهثون: «شلاه يا ست!»
أمشي كل صباح من بيت عمي إلى المدرسة، مسافة تستغرق الساعة، أحمل حقيبة مليئة بالكتب والكراريس، جسمي أصبح مائلا على جنب، أحس الألم في مؤخرة العمود الفقري وساقي اليسرى، أجلس في منتصف الطريق لأستريح، أصل المدرسة بعد أن يضرب الجرس، أجد الباب الخشبي مغلقا، أدق الباب بقبضة يدي، بابا ضخما أسود من أبواب السجون، يحرسه بواب عملاق من الصعيد فوق جبهته تكشيرة غائرة في اللحم تشبه تكشيرة الناظرة، أصابع يدي تتورم في أيام البرد، ثقل الحقيبة محفور في بطن اليد، الألم يمتد من ذراعي إلى كتفي، يهبط عبر العمود الفقري إلى ساقي اليسرى، أدق الباب، أصابعي المتورمة تنز الدم، أبتلع الدموع واقفة في الشارع، لعاب ممزوج بالملح، طنط هانم أصبحت الملاك الأبيض في جنة مفقودة.
لا ينفتح الباب، أعود أدراجي إلى غرفتي المعتمة، أذاكر دروسي تحت الغطاء في السرير البارد من الصاج، أجلس على الكرسي الخشبي مخلخل الأرجل، أنحني بظهري فوق المنضدة المنخفضة، لمبة كهربية (20 وات) تشع ضوءا أصفر يخفت في النهار عن الليل.
إذا اشتد الدق على الباب أو إذا أراد الله الفرج، أسمع الصرير أشبه بمفاصل عظام مصابة بالروماتيزم، يطل وجهه العملاق الأسود، يضغط على أسنانه الكبيرة البيضاء تصطك، الصرير أشبه بصرير الباب: ممنوع الدخول بأمر الست الناظرة، مفهوم! - لازم أقابل الناظرة يا عم عبد الله! - ممنوع المجابلات مع الست الناظرة، ممنوع، مفهوم!
يطرقع الباب بالصرير منغلقا. •••
في إجازة العيد سافرت مع أخي إلى منوف، أسعل حين أنهض في الصباح، أمشي محنية الظهر، جسمي مائل على جنب، أخذني أبي إلى الدكتور حنا (صديقه القديم)، فحصني في غمضة عين، قرص خدي: بنتك زي الحصان يا سيد بيه، عاوزة شوية حديد وزرنيخ يجمد عضامها، طولت بسرعة أوي، بقت أطول مني، ما شاء الله!
قامتي أصبحت أطول من قامة الدكتور حنا، أطول من أخي الأكبر طلعت، أطول من كل زميلاتي في المدرسة، متى حدث هذا الطول السريع؟!
صحوت من النوم فوجدت يدي تصل إلى مفاتيح الراديو فوق الرف العالي، بالأمس لم أصل إليها، أكانت عظامي تطول في الليل حين أفرد ذراعي وساقي؟! أصبحت أنام مكورة حول نفسي كالجنين في النهار، أقوس ظهري، أنحني للأمام، في كتاب المطالعة الرشيدة: «القامة الطويلة ميزة الرجال، القامة القصيرة ميزة النساء والأنوثة.» المرأة الجميلة عظامها دقيقة هشة، يمامة كتكوتة، تتهشم في العناق.
عظامي طويلة قوية مثل الحصان، لا شيء فيها قابل للكسر، أمشي كل يوم ساعتين حاملة حقيبتي الثقيلة، أدوس على الألم وأمشي، خطوتي ليست سريعة كما كانت، أمشي ولا أتوقف حتى باب المدرسة، هذا الباب هو نجاتي، الثغرة الوحيدة في جدار حياتي، أنفذ منه إلى حياة أخرى ليست للغرفة المظلمة الشبيهة بالقبر.
اشتد بي الألم، فأخذني أبي إلى الطبيب في ميدان كبير اسمه الإسماعيلية، طنط فهيمة قالت إنه أشهر طبيب في مصر في أمراض العظام.
منذ الدكتور «حنا» في منوف أصبحت أكره الأطباء، الأصابع الصلبة تنقر فوق صدري كأنما صندوق خشبي، الأنفاس السريعة اللاهثة تفوح منها رائحة السبيرتو وصبغة اليود ومحلول اليزول، الصوت المعدني والضحكة الميكانيكية الخالية من المرح، الأنف الشامخ الخالي من الكبرياء.
للمرة الأولى أركب العلبة المربعة ذات القضبان الحديدية التي تصعد الأدوار العليا، طنط فهيمة تسميها «الأسانسير»، كلمة فرنسية تعني «المصعد»، تلاشى الألم في عظامي مع الصعود حتى الدور التاسع كأنما أركب طائرة، أصبح جسدي خفيفا، تحررت من الجاذبية الأرضية، ضحكت بصوت مسموع، أغمض عيني، أطير.
الفرح تبدد حين دخلت العيادة، صالة الانتظار الواسعة، زحام من المرضى، عكاكيز خشبية، وجوه صفراء شاحبة، عيون منكسرة، واستسلام كامل، انتظار الموت مثل انتظار مقابلة الطبيب.
سوف أصبح مثلهم، سوف أتكئ على عكاز خشبي وأقضي عمري في غرفة الانتظار، الانتظار هو الموت، لا أطيق الانتظار، أتحرك من مقعدي، أمشي في الطرقة خارج العيادة، أدب بقدمي، أعلن أنني قادرة على المشي دون عكاز، لست مريضة، لست في حاجة إلى طبيب، لست في حاجة إلى الانتظار!
جاء التومرجي مرتديا مريلة بيضاء، نظارة زجاجية تشبه نظارات الأطباء، عيناه ضيقتان غائرتان، تلمعان مثل عيني الصقر، الشارب الأسود فوق الشفة، من أين جاء التومرجي؟ كان مختبئا في غرفة جانبية يسجل في الدفتر إيراد اليوم، انقض على أبي بصوت يشبه نقيق ضفدع أو نعيق البوم: كشف مستعجل يا بيه؟
فوق الجدار لافتة معلقة، قائمة الأسعار، تشبه القائمة في دكانة ألف صنف وصنف في منوف، شهادة الدكتور من كلية الطب القصر العيني داخل برواز ذهبي، صورة التخرج والأساتذة الأطباء، بعضهم واقف على شكل صف، البعض جالس على الكراسي داخل البدل الداكنة اللون، الوجوه المشدودة العضلات، الأنوف الشامخة، الساق فوق الساق أكثر شموخا بلا كبرياء.
قبض التومرجي ثمن الكشف المستعجل، دخلنا إلى الطبيب، يشبه الدكتور حنا، الصوت وطريقة الكلام، يخلط الكلمات العربية بكلمات إنجليزية، الضحكة الميكانيكية تنم عن اليأس أكثر من المرح، كلية الطب تصك الأطباء بمطرقة واحدة، يتخرجون من تحتها مثل القروش المتشابهة!
رقدت فوق منضدة الكشف، تركني عارية أنتفض من البرد، يرد على التليفون، طالت المكالمة، نسيني فوق منضدة الكشف، عاد واضعا في فمه سيجارا سميكا أسود اللون، تسميه طنط فهيمة «البايب»، ينفث الدخان في السقف، يفحص عظامي، لوى فقرات ظهري تطقطق بصوت عال، تكسرت، فانطلقت صرخة.
لم يشفني الطبيب، أصابني بالانزلاق الغضروفي في الجزء السفلي من عمودي الفقري، عانيت منه طوال حياتي، خرجت من عيادته أعرج عاجزة عن المشي، أدوس على قدمي فأشعر بألم مثل الصاروخ في ظهري، اضطر أبي أن يسندني، وصلنا المصعد.
ميدان الإسماعيلية أوسع مما كان، محطة الترام بعيدة، أبعد مما كانت، لم أستطع السير.
جلست على الرصيف، اضطر أبي إلى استئجار «تاكسي» بدل الترام.
تأخرت عن المدرسة أسبوعا، الطبيب أعطاني بعض الأقراص أصابتني بأوجاع أكثر.
أراد أبي يأخذني معه إلى منوف، سمعة كلمة «منوف» فنهضت من الفراش واقفة منتصبة فوق قدمي، أثبت لأبي أنني قادرة على المشي، قادرة على الذهاب إلى المدرسة.
لا أريد أن أغيب يوما واحدا ... أسافر إلى منوف؟ سأغيب شهرا على الأقل، سأغيب العمر كله، سيبدأ الحصار من جديد في منوف، سيظهر عريس جديد، مؤامرة جديدة نحو المصير المحتوم على البنات.
تشبثت بالبقاء في بيت عمي حتى آخر العام الدراسي، أراد أبي أن ينقلني إلى بيت جدي تحت رعاية طنط فهيمة: مش معقول يا سيد بيه الولد والبنت يعيشوا في أوضة بالشكل ده، أنا مستعدة آخدهم معايا يعيشوا في بيت جدتهم تحت رعايتي.
نجحت وانتقلت إلى الثالثة الثانوية، أخي لم ينجح، اضطر أن يعيد السنة، أصبحنا في بيت جدي الڤيللا الكبيرة المحاطة بالحديقة في شارع الزيتون، جدي مات منذ عامين، أصابه التهاب رئوي، قضى سهرة حمراء في إحدى ليالي الشتاء، عاد إلى البيت يرتجف بالحمى، لم يكن دواء البنسلين موجودا في مصر، قرأت طنط فهيمة في الصحف عن البنسلين أنه اكتشف من مادة العفن، أصبحت آكل الخبز المعفن. آلام الظهر بدأت تخف، مات جدي بعد أسبوع من السهرة، كان يعالج الحمى بالخمر، يهذي بعبارة: «داوني بالتي كانت هي الداء.» بعد موته تنفست جدتي آمنة الصعداء، فتحت فمها المغلق وملأت صدرها بالهواء، الهواء كان محملا بجرثومة مجهولة أصابتها في حلقها، سخرية القضاء والقدر، بدأت جدتي آمنة تنطق بعد صمت السنين، نطقت فانسد حلقها بالورم الخبيث.
لا يستطيع أحد نطق كلمة «السرطان»، كلمة الموت أسهل على اللسان، يسمونه «المرض إياه»، هذا الاسم لم تسمعه جدتي آمنة، قالوا لها: «الإنفلونزا» في الحلق، والتهاب اللوز، بقيت في فراشها عاما، تراكم الألم في جسدها مع الحزن. الطبيب «أخصائي الأورام الخبيثة» رشق في عنقها «إبرة الراديوم»، أصبح عنقها مخروما بالإبرة ملفوفا بالشاش، رأسها عاجز عن الحركة، عيناها الرماديتان تدوران حولها مملوءتين بالألم المشلول، إصبعها الشاحب بلون الضباب يشير إلى موضع الإبر في عنقها، إصبع ضبابي يشير إلى كتلة ضبابية من الشاش، ماذا في عنقها؟! لا تستطيع أن تسأل، عيناها تتعلقان بالسقف، تخرقان الجدار، تنفذان إلى السماء، تسألان الله: ليه يا رب؟
أنفاسها في الليل لم أسمعها بأذني، كنت في بيت عمي، طنط نعمات كانت تصحو على صوت هامس ينادي في الليل: يا رب! أهو صوتها أو صوت أمها في الغرفة المجاورة: ليه يا رب الظلم ده؟ أنا عملت إيه؟! تورمت عين طنط نعمات من البكاء والنداء للرب في الليل، في النهار تحبس الدموع، تتراكم الدموع في حلقها كالغصة، الورم الخبيث! أهو كيس مملوء بالدموع؟!
قضيت عام 1945م في بيت جدي، أصبح اسمه المرحوم، جدتي آمنة أصبح اسمها المرحومة، أصبحت في الثالثة ثانوي، أنام في السرير العريض بجوار طنط فهيمة، أخي طلعت له غرفة مستقلة بجوار غرفة خالي زكريا، طنط نعمات لها غرفة مستقلة، غرفات أخرى في البيت، طنط فهيمة أصبحت ناظرة لإحدى مدارس البنات. لم تشأ أن تكون غرفتي وحدي، تحكم رقابتها على نومي وأحلامي، الرعاية هي الرقابة! تحمل سلسلة من المفاتيح كالسجانة، مفتاح لغرفة مكتب المرحوم، مفتاح لغرفة المرحومة، مفتاح لغرفة «الكرار» تخزن المؤن، مفتاح لغرفة «الدادة» الخادمة الصغيرة الشبيهة بسعدية، مفتاح لغرفة المخزن في الحديقة جمعت فيها الصور ذات الإطارات الذهبية، مفتاح الدولاب الكبير؛ حيث التحف الثمينة والأوراق والوثائق الهامة، ورقة قديمة باهتة بخط الخديو إسماعيل، عثرت عليها طنط فهيمة في مكتب المرحوم، تخرجها أمام الضيوف، تحملق فيها بعينيها الجاحظتين من وراء العدسات السميكة شامخة بأنفها: الخديو إسماعيل أخذ العزبة بتاعة المرحوم جدي، كان لازم يدفع ثمنها، مات من غير ما يدفع حاجة، لازم أطالب بحقنا من الحكومة.
خالي زكريا طالب في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، عيناه تلمعان بالأمل، العزبة سوف تعود، أيام العز والرفاهية، مثل أخي طلعت يكره الدراسة والقراءة، يفضل الذهاب إلى السينما والمسرح وسباق الخيل.
أخرج في الصباح الباكر إلى المدرسة، تدق ساعة الحائط الكبيرة في الصالة الواسعة ست دقات، تفتح طنط فهيمة عينيها: الساعة ستة، اصحي يا نوال، أرتدي ملابسي بسرعة، أخرج دون فطور، أمشي شارع الزيتون حاملة حقيبة المدرسة، أجري لألحق بالقطار، من النافذة أقرأ أسماء المحطات، محطة «سراي القبة»، السور الأحمر الضخم، سراي الملك، الحدائق الخضراء الواسعة، الزهور، المحطة بعدها «منشية الصدر»، البيوت المتهدمة، جدرانها ملطخة بالدخان الأسود، حبال الغسيل في النوافذ والبلكونات تهتز مع اهتزازات القطار، «كوبري الليمون»، أهبط في محطة كوبري الليمون، أهبط إلى ميدان باب الحديد، أجتاز الميدان؛ حيث تمثال نهضة مصر الذي نحته محمود مختار (1891م-1934م)، انتقل إلى الجيزة أمام الجامعة، انتصب مكانه رمسيس الثاني.
أركب الترام من باب الحديد حتى محطة السيدة زينب، السور الحجري «السنية»، أدخل من الباب الأسود المشقق والجرس يدق، أجري إلى الطابور.
الرحلة من البيت إلى المدرسة بالقطار والترام تستغرق ساعتين، أخرج في السادسة والنصف لأصل إلى المدرسة في الثامنة والنصف، في الشتاء يتأخر النهار، شارع الزيتون في الصباح الباكر معتم مثل الليل، أجري لا أتوقف حتى محطة القطار.
ساقاي طويلتان تساعدان في الجري، استعدت صحتي في بيت الزيتون، الشمس تدخل من كل النوافذ، الهواء محمل برائحة الورد والزهور، الغرفة المعتمة في بيت عمي سقطت في العدم، سجلتها في الكشكول الأزرق، مفكرتي السرية.
أول يناير 1945م، الأمس كان الاحتفال برأس السنة الجديدة، خالي زكريا كان في الحفل الكبير في بيت عمه طاهر بيه في شارع الملك، أخي طلعت كان معه، طنط نعمات كانت في بيت عمتها بدور هانم في حدائق القبة، طنط فهيمة كانت في حفل مع زميلاتها في المدرسة، خالي يحيى خرج مع زملائه الموظفين في مصلحة السكة الحديد.
بقيت وحدي في البيت الكبير الموحش، لم أذهب مع أخي إلى بيت جدي طاهر، لا أحب الذهاب إلى هذا البيت، طنط يلدز وطنط دولت وخالي ممدوح، لا أحب الثلاثة، طنط يلدز ترمقني بعينيها الخضراوين، تشمخ بأنفها، تنطق الكلمات الفرنسية، لا أفهم ما تقول.
طنط دولت تضع ساقا فوق ساق، تسألني من طرف أنفها عن اسمي واسم مدرستي، خالي ممدوح يفتح حقيبتي دون إذن، ينظر فيها ويقول بصوت كالفحيح: «البنات دائما يخبوا حاجات حلوة في شنطهم.» أشد منه الحقيبة، أخشى أن يأخذ منها مفكرتي السرية.
يشدها مني ويجري إلى غرفته، أجري وراءه أشدها منه، في غرفته يحاول أن يقبلني، أدفعه بعيدا بذراعين قويتين، عظامي القوية تنقذني منه.
خالي ممدوح طالب في الجامعة مثل خالي زكريا، ضعيف العظام، نحيف الجسم، عيناه ضيقتان مستديرتان غائرتان، عينا صقر ضعيف أو فأر، ليس في عينيه نظرة حب أو إعجاب، يستعرض أمامي ما يملك. الولاعة الذهبية يشعلها بخبطة واحدة، علبة السيجارة في يده يدق بها سطح العلبة، سلسلة المفاتيح من الذهب، يحركها بين أصابعه كالسبحة، مفتاح السيارة الصفراء الصغيرة يركنها أمام الباب الخارجي، يسد بها الباب، الداخلون أو الخارجون يتأكدون أنها سيارته وليست للجيران، يعجز خالي ممدوح عن إقامة حوار معي، يظن أنني كالبنات من عائلة شكري بيه أو طاهر بيه، أن السيارة تبهرني أو المقتنيات الذهبية.
كنت محصنة ضد مظاهر الثراء، ورثت عن أبي احتقاره للأثرياء، صوته في أذني: حذاء مملوء بالفلوس!
خالي ممدوح يبدو لي مثل حذاء لامع بالذهب، طالب في الجامعة، لم يسمع عن طه حسين، لا يقرأ الكتب، لا يكتب ولا يرسم، لا يعزف على العود، ليس له هوايات إلا معاكسة البنات ، هو وخالي يحيى توءمان.
دقت ساعة الحائط الثانية عشرة، لم يعد أحد من سهرة رأس السنة الجديدة، توقفت عن الكتابة جالسة وحدي في الصالة الواسعة، مسامير الصور بارزة فوق الجدران، خلعت طنط فهيمة جميع الصور، أرادت أن تنسى صورة أبيها، تنفست الصعداء بعد موته مثل جدتي آمنة.
صوت ينادي من غرفة جدتي: يا رب؟ ليه يا رب الظلم ليه؟ روح جدتي عادت من القبر، شبح أسود يتحرك وراء الباب.
تجمدت في مكاني، البيت كبير موحش مملوء بأشباح الموتى، روح جدي تدق الأرض بالعصا، صوته عال: يا إلهي أنت جاهي، جرس الباب يصلصل، لا أحد يدخل أو يخرج، الأرواح تحرك الجرس المعلق أعلى الباب.
الغرفة الصغيرة في بيت عمي أصبحت واحة الأمن، لم تكن هناك أشباح موتى إلا شبح زوجة عمي تمشي من الصالة إلى المرحاض، كانت حية، ليست ميتة مثل جدي وجدتي، كانت تبدو في العتمة مثل الروح الخارجة من القبر، تتسند على الحوائط، ساقاها مقوستان تحت جسمها السمين، تلهث، تتوقف، تأخذ نفسا طويلا، تنهيدة عميقة، تواصل خطواتها الزاحفة داخل الشبشب، كعبه يطرقع على البلاط، تدخل المرحاض فيطرقع صوتها: مين اللي سد الكنيف؟!
كلمة «الكنيف» تعني المرحاض (بيت الأدب بلغة ستي الحاجة)، تدق باب غرفتي وأخي، تسألنا بصوت الضفادع: مين فيكو اللي سد الكنيف؟!
أخي طلعت يكتم الضحك، يفتح الباب يقول لها: لازم عمي الشيخ محمد، عشان بيحب الكرنب المحشي!
كانت زوجة عمي تطبخ جالسة في غرفة نومها، تقضي النهار في حشو الكرنب والباذنجان، وعمل فتة الكوارع بالثوم، وحشو المنبار بالبصل والفلفل.
في كفر طحلة كان لعمي الشيخ محمد زوجة أخرى هي «أم فوزية»، نحيفة خفيفة، لا تكف عن الحركة وعمل السحر ضد ضرتها، (الضرة هي الزوجة الثانية)، تهمس في أذني: «مرات عمك الشيخ محمد في مصر زي الفيل أبو زلومة الخالق الناطق، مالهاش شغلة إلا حشو بطن عمك الشيخ، راجل فلاتي بتاع نسوان زي المرحوم أبوه، نعمل إيه؟ ستك الحاجة هي اللي علمته وصرفت عليه في الأزهر، وبقه لابس قفطان وعمة، تحت القبة شيخ يا شيخ محمد!»
في بيت عمي (في حي العنبري) زوجته الثانية تقول: «عمك الشيخ محمد ساب «أم فوزية» عشان مجنونة، عقلها طاقق، مالهاش شغلة غير الشبشبة والسحر عشان عمك الشيخ يرجع لها.»
قبل أن تعود طنط فهيمة من سهرة رأس السنة الجديدة، قبل أن أغلق مفكرتي بعد منتصف الليل أول يناير 1945م، كتبت: أنتظر إجازة العيد بفارغ الصبر لأسافر إلى منوف، أشعر بالحنين إلى أمي وأبي وأخواتي، أشعر بالحنين إلى الحرف «ف»، يعزف العود في هدوء الليل تنثر، سأدخل مدرسة الفنون الجميلة وألقاه. هل تخرج من المدرسة وتزوج؟ أيعيش هنا في مصر؟ هل ألتقي به مصادفة في الطريق إلى المدرسة؟!
في إجازة العيد سافرت وأخي إلى منوف، اشترى أخي كاميرا صغيرة، كان عاشقا للصور، يدخل إلى الغرفة في الحديقة حيث تخزن طنط فهيمة الصور، يقضي الساعات يتفرج على الصور، عثر على صورة لأمي وهي تلميذة في المدرسة، صورة له وهو طفل تحمله أمي فوق صدرها، وجهها يشبه الملكة نازلي تحمل طفلها الملك فاروق، أو العذراء مريم تحمل المسيح، أراد أخي أن يأخذ هذه الصور إلى منوف، طنط فهيمة رفضت. كان يحرم نفسه من الطعام، يدخر القرش على القرش، اشترى الكاميرا الصغيرة ليلتقط صورة في منوف لأمي، كنت أحب الصور مثل أخي، القراءة كنت أحبها أكثر، أقرأ القصص والروايات، في أوقات الفسحة تلعب البنات في الحوش أجلس على الدكة الخشبية وأقرأ، في حصة الألعاب الرياضية كنت أقرأ أيضا، في حقيبتي شهادة طبية مكتوبة بخط يشبه نغبشة الفراخ: مطلوب إعفاء التلميذة نوال السيد السعداوي من حصة الألعاب الرياضية؛ لإصابتها بآلام روماتيزمية في عظام الظهر والساق اليسرى.
أصبحت هذه الشهادة تلازمني في حقيبتي بعد أن تلاشت الآلام، أقدمها للناظرة حين أتأخر في الصباح أو أغيب عن المدرسة يوما أو يومين، أعطت الناظرة أمرا للبواب أن يفتح لي الباب، أبي يقول: رب ضارة نافعة.
في منوف التقط أخي طلعت كثيرا من الصور، أمي تتمشى في الحقل من حولها أخواتي الصغيرات، صورتي أجري وراء فراشة بيضاء، وضع ذراعه في ذراعي «أنكاجيه» والتقطت لنا أمي الصورة، جاء أبي التقط له أخي صورة واقفا بين الزرع في يده المنشة فوق رأسه الطربوش.
لقيط في دورة المياه
في مدرسة السنية كانت معي زميلة اسمها سعاد، تسكن في منزل مجاور لبيت عمي الشيخ محمد، بيتها أحسن حالا، تدخله الشمس، المرحاض نظيف، أزورها لمجرد الدخول إلى المرحاض، تمشي معي إلى المدرسة، تعطيني كراريسها أنقل منها ما يفوتني أيام الغياب.
سعاد سمراء البشرة نحيفة قصيرة، ووجهها طويل شاحب، شفتاها رفيعتان تشوبهما زرقة، مطبقتان بشدة الجدية والاستقامة، في المرآة شفتاي منفرجتان غير منطبقتين، هل أفتقد الجدية والاستقامة؟ أشد عضلات وجهي، أزم شفتي، مهما حدث لن أبتسم، لا شيء في الكون يبعث على الابتسام.
فجأة تنفرج شفتاي، أبتسم لأقل سبب، جرو صغير يرفع ذيله يبول فوق جدار الجامع، الناظرة ترفع أنفها بكبرياء لتسقط من فوق المنصة، أنفجر بالضحك، سعاد إلى جواري شفتاها لا تنفرجان.
أخي طلعت يشاركني الضحك، يقلد طنط فهيمة، يدق بكعب حذائه الأرض، يقلد عمي الشيخ محمد، يتنحنح بصوته الغليظ، زوجة عمي تتأوه بصوتها الناعم الممطوط.
الجمعة يوم الإجازة، أذهب مع أخي إلى حديقة الأزبكية والأندلس وحديقة الحيوان في الجيزة، نتبارى في ركوب الترام دون دفع التذكرة، أخي أكثر جرأة في التزويغ من الكمساري، يقفز من الترام قبل أن يصل إليه، أقفز خلفه، الكمساري يقفز ورائي، لم يكن مألوفا أن تقفز البنات من الترام.
ركوب الترام دون دفع التذكرة من المباهج الكبيرة التي تملأ حياتنا الصغيرة، ثمن التذكرة ستة مليمات تبدو ستة جنيهات. أخي طلعت يكبرني بعام واحد، يعرف كل شيء في مصر، سينما مترو، مسرح الريحاني، كازينو بديعة، لم يحب المدرسة أو المذاكرة، يأخذني إلى دار الكتب في باب الخلق، نجلس نقرأ الروايات، الكتب القديمة، أخي يحب الشعر، الموسيقى، العزف على العود، الغناء، التمثيل، كان يمكن أن يكون فنانا موهوبا لولا ما حدث في منوف.
كان في العاشرة من عمره، الضربة جاءته في نصف وجهه الأيسر، نصف قرن وأكثر مضى منذ الحادث، أخي طلعت لا ينساه، يراه كل يوم في المرآة، الجرح الملتئم في خده الأيسر، الجرح غير الملتئم في أعماقه. - لولا منوف يا نوال ... - كان حصل إيه يا طلعت. - كنت بقيت موسيقار كبير.
صوت أخي في أذني قبل أن أغادر مصر في صيف 1992، جاء يزورني في بيتي بالجيزة، بريق طفولي يطل من عينيه، طبقة شفافة من الدموع الجافة، سحابة رقيقة من الحزن القديم، صفرة خفيفة تطفو فوق البريق، في يده روشتة من الطبيب: ارتفاع نسبة البولينا في الدم. - ماذا في الكلية اليسرى؟ - شوية تعب.
كلمة «تعب» ترن بصوته غريبة، لم يكن أخي يشعر بالتعب، لا ينام الليل، يتدرب على العزف، يغني، يرى نفسه في المرآة موسيقارا كبيرا، يركب البسكليتة يطير بها في الهواء، يحلق فوق الزرع مثل الفراشة، بشرته بيضاء (مثل أمي) مشربة بالحمرة، ملامحه متناسقة، ممشوق الجسم، ترمقه البنات بإعجاب، يرمقه الصبيان بكراهية، أمسك أحدهم قعر زجاجة، ضربه في وجهه، جاءت الضربة في خده الأيسر، كان طفلا في العاشرة، هل نفذت الضربة إلى القلب؟ إلى الكلية اليسرى؟
أخذه أبي إلى طبيب في منوف، في القاهرة أخذه الطبيب إلى طبيب أكثر كفاءة، التأم الجرح في الخد الأيسر، ترك علامة يراها أخي كل يوم في المرآة. - لولا الجرح كنت بقيت ... - الجرح مش باين يا طلعت ...
في المرآة لا يرى أخي إلا الجرح، منذ جاءته الضربة يكتم الدموع، الرجل يتلقى الضربة دون بكاء، البكاء للبنات، أصبح أخي رجلا في العاشرة من عمره.
يبتلع الدموع إذا ضربه أبي، يضربه حين يسقط في المدرسة، حين يترك المذاكرة، لم يدرك أبي موهبة أخي. - عاوز تبقى مصوراتي؟! - عاوز تبقى مازيكاتي؟!
لم تكن الفنون محترمة، الشهادات العليا من الجامعة هي أهم شيء، من لا يدخل الجامعة لا يكون مثقفا، من لا يتخرج في الجامعة لا يكون عريسا.
كلمة «الجامعة» لها رنين ساحر، أول مرة رأيت «القبة» كنت في الرابعة عشرة من عمري، ذهبت مع أخي طلعت وزميلتي «سعاد»، دخلنا حديقة الحيوان في شارع الجيزة، خرجنا من الباب الآخر في شارع الجامعة. «القبة» لها هيبة، تلمع تحت الضوء أكبر من قرص الشمس، الساعة العالية ترن بصوت أقوى من الأسد في حديقة الحيوان، شارع الجامعة تحوطه الأشجار الباسقة، أوراق الشجر أكثر خضرة من الأشجار الأخرى، رائحة الياسمين تملأ الجو، أسفلت الشارع يلمع تحت الشمس مغسولا بالماء والصابون، طلبة الجامعة يدبون فوق الأرض بأحذية جلدية قوية، يرتدون بدلا من الصوف المتين رصاصي اللون، تتدلى من أيديهم حقائب جلدية تلمع تحت الضوء، رءوسهم شامخة، عيونهم نحو السماء، يرمقوننا باستعلاء نحن الأطفال أو التلاميذ، أيأتي يوم أدخل فيه الجامعة؟ أجلس إلى جوار هؤلاء الرجال؟ أتخرج؟ أصبح كاتبة؟ طه حسين كان طفلا فقيرا فاقد البصر، أبي ليس فقيرا مثل أبيه، وأنا لست فاقدة البصر!
شارع الجامعة وحديقة الأورمان، فرع النيل فوق كوبري بديعة (كوبري الجلاء)، والنيل الرئيسي، كوبري قصر النيل، الأسد الحجري عند مدخل الكوبري أكبر من الأسد الحقيقي في حديقة الحيوان، مياه النيل تجري تحت الكوبري، تنعكس عليها الأضواء، مياه أخرى، نيل آخر غير النيل في كفر طحلة، السيارات تمرق فوق الكوبري، يهتز من تحتنا، تهتز معه أجسامنا، أيسقط الكوبري ونحن فوقه؟!
دخلت إلى الميدان الواسع «الإسماعيلية» نسبة إلى الخديو إسماعيل، الجامعة اسمها جامعة فؤاد الأول، ميدان واسع آخر اسمه ميدان فاروق الأول، شارع الملكة ناظلي، شارع الملكة فريدة، قصر الأمير محمد علي، مدرسة الأميرة فوزية، الأميرة فوقية؛ أسماء ترن في أذني مهيبة، أسماء الآلهة في السماء، لم أعرف أنها سوف تسقط ومعها ألقاب الباشوات في بضع سنوات.
زميلتي «سعاد» مثلي تحلم بدخول الجامعة، كلية الحقوق بالذات؛ تريد أن تكون محامية لتدافع عن حقوق الفقراء. أخي طلعت يريد أن يدخل معهد الموسيقى، أريد أن أدخل الفنون الجميلة، كلية الآداب. الأدباء، أيتخرجون في كلية الآداب؟!
في أحلامي أرى نفسي أديبة أو كاتبة أو عازفة على العود، على البيانو، رسامة، أمسك الفرشاة في يدي والحامل الخشب فوقه اللوحة، الصورة في ذهني، أول حب في حياتي، أسترجعها، نائمة في الليل بجوار طنط فهيمة، عيناها الجاحظتان ترمقني، تكشف أحلامي، في غمضة عين تنام، يرتفع شخيرها في السكون، أتسلل من الفراش إلى الفرندة الواسعة، أطل على النجوم، أستكشف المستقبل، أستعيد الماضي، أدون السطور في مفكرتي.
الماضي يبدو لي ساحرا، سقوط الأشياء في العدم يكسبها الرونق ، الروث في حقل عم صابر له رائحة العطر، بركة الطين بحيرة تلمع تحت القمر، قطرات المطر فوق زجاج النافذة، أصابع تعزف على العود، نهيق حمارة الحاج محمود أكثر رقة من شخير فهيمة.
شطبت العبارة الأخيرة من مفكرتي، كارثة لو عثرت عليها طنط فهيمة، أشطب الكثير من مفكرتي، أمزق الورقة وألقي بها من نافذة القطار، أشد عليها السيفون في المرحاض، أخشى أن ألقيها في صفيحة القمامة في المطبخ، أرى طنط فهيمة تفتش في الصفيحة.
بعد موت جدي استبدلت طنط فهيمة الكلب الوولف بالقط المتنمر، في ظلمة الليل يقفز الجسد الأسود فوقي، أهب من النوم مفزعة، تأخذه طنط فهيمة في حضنها، تحوطه بذراعيها.
علاقة حب تربط طنط فهيمة بالقط المتوحش، يستكين بين ذراعيها، في غيابها يصبح هائجا متحفزا، تطلق عيناه بريقا، لسانا مثل اللهب، في الليل يموء بين ذراعيها، عشيق يحن إلى الحب، تحنو عليه طنط فهيمة أكثر من كل سكان البيت، أتفضل معاشرة الحيوان على الإنسان؟ تعطيه حق الحب وتحرمني من الحق ذاته، لم تمد يدها مرة واحدة لتربت على كتفي، لم تحطني بذراعيها مرة واحدة، لم تضع أمامي صحنا باللبن، تملأ صحن الكلب باللبن.
في الليل أجلس في الفرندة كما كنت أفعل في منوف، أمامي الحديقة، أوراق الشجر تلمع تحت ضوء القمر، عيناي تتعلقان بالنجمة البعيدة الوحيدة؛ نجمتي، ولدت معي، تموت معي، إلى جوارها نجم يلمع، يرمقها، عيناه يكسوهما البريق، يطل عليها من الفرندة العلوية، يعزف العود، يغني لها وحدها دون ملايين البشر، يعرف اسمها من بين ملايين الأسماء، «يا نوال فين عيونك؟» أغمض عيني، أتسلق السور، أصل إلى الدور الثاني، أتوقف لحظة ممسكة بسور الفرندة، كان يقف متكئا بذراعه على سور الفرندة، أسند يدي فوق السور الحجري كما يسند يده، يهب الهواء، يمتلئ قميصه الواسع بالهواء، يحلق في الجو روحا بلا جسم، يختفي وراء السحب، عيناي تدوران تبحثان، السماء والأرض خاليتان منه، يبدو غيابه مفاجئا طارئا لم يحدث من قبل، أمد يدي نحو السور الحجري، ملمس الحجر تحت أصابعي دافئ مثل بشرة حية، له رائحة الجسم، أضع يدي فوق يده، السور الحجري يلين تحت ذراعي كذراعه.
أنتفض في السرير، أصحو، تفتح طنط فهيمة عينيها ... يسقط القط بين ذراعيها يفتح عينيه هو الآخر، يرمقني في غضب، أنا غريمته في هذا الفراش، يريد أن يكون وحده في السرير؛ كالزوج لا يطيق شريكا له.
في مفكرتي السرية كتبت:
طنط فهيمة لو عرفت كم من الوقت أقضيه في الليل بين ذراعي «ف»، ماذا تقول عني؟ فتاة فاسدة؟ طنط فهيمة تقوم بأسوأ الأعمال في وضح النهار بأنف شامخ، تحرمني من شرب اللبن في الصباح، تعطيه للقط المتنمر، هل أواجهها بحقيقتها؟ هل أواجه كل الناس بحقيقتهم؟ أنام وأحلم أنني واجهت العالم بحقيقتي، ولدتني أمي في هذا العالم، هذا العالم ليس بيتي، الأرض ليست أرضي، السماء ليست سمائي، الأهل ليسوا أهلي، أنا بلا أرض، بلا سماء، بلا أهل! أنام وأحلم بالعالم كله تغير، أحلم بلحظة أكسر قشرتي الخارجية، القوقعة الصلبة تحوطني، تعجزني عن النطق، لماذا لم أنطق اسمه؟ نلتقي وجها لوجه؟ لم تنفرج شفتاي عن كلمة «أحبك»، في الحلم أهمس له بالكلمة، ينظر إلي باندهاش، أيمكن أن تنطق بنت بمثل هذه الكلمة؟ تتسع عيناه بدهشة، يبتسم بسخرية، يمضي في طريقه إلى شارع المحطة في يده الحقيبة والعود في يده الأخرى، أصحو من النوم مبللة بالعرق، بالندم طول العمر لو أن ابتسامته الساخرة لم تكن حلما، لو أن مفكرتي وقعت في يد أحد! ماذا يقولون عن التلميذة الجادة المستقيمة؟! تسترجع حبها الأول؟! تشكله، تعيد تشكيله؟! تستحضره؟ نسمة هواء في جو خانق؟ صورة جميلة في عالم يخلو من الجمال؟
جاءني أخي طلعت وهمس في أذني: عندي فكرة جهنمية! كثيرا ما تراوده تلك الأفكار الجهنمية ، رحلة إلى حديقة الحيوان في الجيزة، إلى القناطر الخيرية، إلى دار الكتب في باب الخلق، المسرح، السينما، لم تكن أي شيء من ذلك، مغامرة بدت خطيرة شاركته فيها، لماذا؟ إنه صديقي الوحيد في البيت الكبير الموحش، هل أفقد صداقته وأنا مثله أحب الصور، أكره طنط فهيمة وأود الانتقام منها.
لم يكن في البيت إلا أنا وأخي، سافر الجميع في إجازة يومين، هبط أخي طلعت إلى الغرفة في الحديقة الخلفية: «أنا جبت عربية كارو عشان نشيل الصور دي كلها.»
ارتعدت، لم يعطني فرصة للاعتراض، بدأ يحمل الصور من الغرفة إلى العربة الكارو، وجدت نفسي أساعده كالتابع المطيع. بعض الصور كبيرة ثقيلة نشترك في حملها معا، أو يحملها أخي فوق ظهري مثل حماره، الإطارات عريضة ثقيلة مصنوعة من الذهب أو ماء الذهب، صورة جدي بالبدلة الرسمية والنياشين يشبه سعد زغلول باشا، صورة الخديو إسماعيل والخديو عباس والملك فؤاد الأول، الإمبراطور هيلا سلاسي ملك الحبشة، الأستاذة فهيمة شكري تتلقى شهادة المعلمات، صورة زفاف أمي وأبي، زفاف طنط نعمات إلى محمد أفندي الشامي، ثوب الزفاف قصير من الدانتيل الأبيض، طنط هانم ثوب زفافها طويل يجرجر ذيله على الأرض، صورة بدور هانم (شقيقة جدي) تحتضن طفلها تشبه صورة الملكة نازلي تحتضن الأمير فاروق، العذراء مريم تحتضن المسيح، صورة لجدي طاهر بيه زوجته إلى جواره ترتدي اليشمك، ثلاثة من الصبية يرتدون بدلا أنيقة، خالي يحي، خالي زكريا، خالي ممدوح، محمد علي باشا أحد أسلاف شكري بيه! أمي بالفستان السواريه في حفلة رأس السنة، أمي تحمل طفلها الأول «طلعت»، الإلهة إيزيس تحمل حورس.
أمسك أخي الصورة الأخيرة، تحفة! «خسارة الصور دي تترمي في التراب كدة!»
ساعتان ننقل الصور من الغرفة إلى العربة الكارو، صعد أخي مع السائق فوق العربة ليربط الحبال، الحمارة مربوطة في العربة هزيلة بيضاء تشبه حمارة الحاج محمود في منوف، زمجر السائق، الحمل أثقل مما تصور، طالبنا بزيادة في الأجر، لم يشأ أخي أن يضيع الوقت، وافق على الفور، تأهبت العربة الكارو للحركة، فوقها الحمل الثمين، نحن من خلفها، فجأة ظهرت طنط فهيمة، انشقت عنها الأرض، رأيتها أنا وأخي في وقت واحد تدفع الباب الحديدي الخارجي بيدها لتدخل، ظهرها ناحيتنا، سمعنا الجرس المعلق فوق الباب يصلصل، ابتدرت لتغلق الباب وراءها، التقطت أذناها الصوت، النهيق، شارع الزيتون لم يكن فيه حمير، توقفت حركة رأسها مع الاستدارة لتغلق الباب، عيناها الجاحظتان من وراء العربة الكارو، الحمارة لم تتحرك بعد، الحمل ثقيل، تثبت حوافرها في الأسفلت، يرتفع نهيقها في الجو. «شيه يا عزيزة شيه!»
طنط فهيمة عيناها لم تريا العربة الكارو، الحمارة فقط رأتها، تحركت عيناها إلى العربة، أكوام الصور فوق ظهر العربة، ترددت، استدارت لتدخل، ظهرها أصبح ناحيتنا، نجونا، نجونا، حمدنا الله.
لماذا استدارت مرة أخرى؟! لمحت المرحوم جدي يتربع فوق ظهر العربة الكارو، داخل الإطار المذهب، داخل بدلة التشريفات فوق صدره النياشين. «يا دي المصيبة!» طنط فهيمة ترفع الصوت، أبوها المرحوم عاد من القبر، المصيبة تحولت إلى فضيحة، امتدت من بيت المرحوم في الزيتون إلى بيت الشيخ الأكبر في القلعة، إلى العمارة العالية في الضاهر إلى منوف إلى كفر طحلة إلى كل مكان في الكون.
عاد المرحوم (ومعه جميع الصور) إلى الخلفية في الحديقة، انطلقت الحمارة مع سائق العربة الكارو، لم يرد لأخي الثمن الذي أخذه مقدما. استأجرت طنط فهيمة نجارا، أصبح لباب الغرفة قفل لا يفتحه الجان، أخي يحاول تفسير ظهور طنط فهيمة، لغز أصعب من نظرية فيثاغورس، لو طنط فهيمة تأخرت دقيقة واحدة بس! لو الحمارة اتحركت دقيقة واحدة قبل ما طنط فهيمة توصل!
كان عنيدا يكره الفشل في هذه المغامرات أكثر من الفشل في المدرسة، حصل على هذه الصور بعد ذلك، كيف؟ دخلت إلى غرفته في منوف فرأيت الوجوه معلقة فوق الجدران، التي حملتها فوق ظهري من الغرفة الخلفية، يتوسطها المرحوم جدي داخل الإطار المذهب داخل بدلة التشريفات، النياشين فوق صدره. •••
في مدرسة السنية، في ربيع عام 1945م، وقع حادث انقلبت له الدنيا، واحدة من الفراشات اسمها دادة «أم علي» أطلقت صرخة حادة من دورة المياه، خرجت تحمل بين ذراعيها مولودا يرفس بيديه وقدميه، أعلنت الناظرة الطوارئ، إغلاق الأبواب، حظر الخروج على جميع البنات.
لم أفهم الموضوع، «دادة أم علي» (الفراشة) ولدت طفلها في دورة المياه؟ زميلتي سعاد همست في أذني بكلمة جديدة: «لقيط»، الناظرة تشبه نبوية موسى وطنط فهيمة، ترمق طوابير البنات بعينين جاحظتين، النظارة الزجاجية تدب على الأرض بكعب حذائها، أنفها من الجانب يرتعش، حركة عصبية، شامخة إلى السماء، أرستقراطية من سلالة البشوات والأمراء من عائلة محمد علي باشا.
لم تعثر الناظرة على البنت الآثمة، أصبحت كل تلميذة متهمة بالحمل السفاح، رنت كلمة السفاح في أذني مثل السفاح، سمعت من طنط هانم عن السفاح في حي السكاكيني، بجوار شارع الظاهر. «السفاح» يحمل السكين يقتل الناس، يعيش في السكاكيني، لا يسكن فيه إلا أصحاب السكاكين، يا عبيطة يا نوال، السكاكيني باشا كان عايش في الحي، عشان كدة اسمه السكاكيني! باشا يسمونه السكاينس؟ هل جمع فلوسه من بيع السكاكين يا طنط هانم؟
شرحت زميلتي سعاد الفرقة بين السفاح والسفاح، السفاح (بالكسرة) هو الحمل أو المولود بدون أب.
مولود بدون أب، سيدنا عيسى عليه السلام، أهناك غيره؟ سعاد تشرح لي، عيون المفتشين تمر علينا في الطابور، كشافات تبحث عن علامة الجريمة، الحمل السفاح مرسوم فوق وجه التلميذة؟ في بصمة يدها؟!
لم يعثروا على البنت المذنبة، أصبحت البنات كلهن مذنبات، مدرسة السنية كلها أصبحت مذنبة، مدرسة سيئة السمعة. - انتي في مدرسة إيه يا نوال؟ - السنية يا طنط. - ياه! اللي لقوا فيها ما اعرفش إيه في التواليت!
النسوة من عائلة المرحوم جدي تنتفض أجسادهن، يشهقن في نفس واحد، ياه! لا تكف الواحدة منهن عن السؤال: انتي في مدرسة إيه؟ السنية يا طنط، يا مصيبتي! في عيونهم لا أرى أي مصيبة، اللذة تتأرجح في عيونهن، أيحلمن طول الليل بالحمل السفاح؟!
طلبة المدارس يمشون وراءنا يغنون ساخرين: يا بنات السنية، مشيكم على الأرض غية (على وزن: يا بنات إسكندرية، مشيكم على البحر فيه).
أحدهم يمسك طوبة يقذفنا بها، يلقي بحقيبة كتبه فوق صدر واحدة منا، يركب معها الترام، يتبعها حتى بيتها، لا يكف عن الهسهسة بصوت قبيح، كلمات أقبح من الفحيح.
خبطني واحد منهم بكوعه في صدري، واقفة أنتظر الترام، أمسكت حقيبة كتبي وهويت بها فوق رأسه، يسقط على أسفلت الشارع فوق قضبان الترام، كادت العجلات تدهسه، تجمع زملاؤه، شدوه إلى الرصيف، لم يقترب مني أحد منهم، يرمقونني من بعيد، إذا حاول أحد منهم الاقتراب صاحوا به: اوع يا ابني رأسك! دي من عيلة طرزان!
خالي يحيى يقف في الفرندة يعاكس البنات، خالي ممدوح ينضم إليه، لكن خالي زكريا كان مهذبا، طنط فهيمة أخذت دور أبيه، تحذره من أخيه يحيى وابن عمه ممدوح، تقول له: «دول صايعين وضايعين مش لازم تكون زيهم.»
الشجار يدب بين طنط فهيمة وطنط نعمات، نعمات هي الكبرى، أخذت دور الأم لأخويها، تدلل خالي يحيى باسم «توحة»، تدلل خالي زكريا باسم «زيكة»، رجل له شارب كثيف اسمه توحة أو زيكة؟!
بقايا التقاليد في تلك العائلات، اسم توحة يوحي بطفلة ذات خدين ناعمين، ليست هي خالي يحيى، قصير نحيف، أحدب الظهر، رأسه كبير، جبهته مقوسة، شعره مجعد، يدهنه بالبريانتين، يفرقه على جنب، طربوشه أحمر فاقع مائل على جنب، عيناه من وراء النظارة مائيتان غارقتان في الدموع، لا يبكي، يضحك على نكت لا تضحك أحدا، «النني» الأسود مطفأ خال من التعبير، تشوبه زرقة بلون طلاء النوافذ أيام الحرب، الحاجبان كثيفان مقوسان إلى أعلى، مندهش دون أن يندهش، أنفه ناعم، طرفه المدبب مرفوع مثل أنف طنط فهيمة، تجري فيه دماء أرستقراطية، فتحتا الأنف واسعتان تشوبهما رعشة، يملؤهما شعر غير بشري، شفتاه رفيعتان يبللهما بطرف لسانه، يبتلع لعابه بصوت مسموع، يمص لسانه، يلعق شفتيه، يضحك فيظهر فكاه الأعلى والأسفل، اللثة حمراء، الأسنان مشرشرة صفراء بلون الدخان، يرتدي بدلة ضيقة وصديري ضاغط على صدره، يشعل السيجارة وراء السيجارة، يمسكها بين إصبعين صفراوين، يدق بها فوق مسند الكرسي، دقات قوية، أصابعه رفيعة تشوبها رعشة، لم يكمل تعليمه، اشتغل موظفا في السكة الحديد، يصلح الساعات المعلقة في المحطات.
يبدو رجلا طفلا، مثقفا جاهلا، عاليا واطيا، تفوح منه رائحة الدخان، مع عطر فواح من عطور النساء.
أبي يعتبر خالي يحيى نموذج الشباب المخنث، نتاج طبقة عالية هابطة إلى أسفل، مصيرها نحو الزوال. •••
عدت من المدرسة فرأيت طنط فهيمة تلطم خديها بيديها: يا دي المصيبة السودة؟
الخادمة شلبية متكورة وراء باب المطبخ تبكي، هل مات أحد؟
دخلت إلى غرفة طنط نعمات، هل سأراها جثة ممددة في السرير، رأيتها واقفة أمام المرآة داخل فستانها الحريري الأسود، ساقاها السمينتان البيضاوان داخل جورب شفاف أسود، شعرها ملفوف بدبوس كبير فيه فصوص لامعة، قدماها داخل حذاء أسود لامع له كعب عال رفيع، تفتح «الشفونيرة»، ترتدي الإسورة (الشبكة التي شبكها بها محمد أفندي الشامي)، ساعة اليد الصغيرة ذات الفصوص اللامعة، جلست أمام التسريحة أو «التواليت»، وضعت البودرة على وجهها، كحلت عينها بالكحل الأسود الطويل في المكحلة، تضعها بين جفونها، صبغت شفتيها الرفيعتين بإصبع الروج، قلبت الشفة العليا فوق السفلى، مطت بوزها إلى الأمام.
رأتني في المرآة عند مدخل الغرفة، بطنها مرتفع قليلا تحت الفستان الحريري الضيق، أيكون في بطنها حمل سفاح؟! - بتبصيلي كدة ليه يا جارية ورور؟ - إيه المصيبة السودة يا طنط نعمات؟ - البنت مقصوفة الرقبة اللي اسمها شلبية، ماشية مع الولد المكوجي، أنا رايحة دلوقتي حالا أشده من رقبته أجيبه هنا هو والمأذون عشان يكتب كتابها.
شلبية الخادمة الصغيرة تبدو أصغر مني، تحمل في بطنها جنينا؟! طنط نعمات تقول عنها «مأرودة». لا يقل عمرها عن «خمستاشر سنة»، نحيفة كالبوصة، بلا أثداء ولا أرداف، جلدة على عضمة، تنام على كنبة بلدي في غرفة الدادة، تغلق عليها طنط فهيمة بالمفتاح في الليل، كيف حملت شلبية؟!
طنط نعمات تتهم الولد المكوجي، أو صبي البقالة المجاورة، بائع الروبابيكيا، جامع القمامة، الزبال، ولد من الخدم، تقول عنهم: «بلا دين ولا ضمير ولا أخلاق.» طنط فهيمة لا ترى أنه واحد من الخدم، الخدم لا يملكون الجرأة لاغتصاب خادمة الأستاذة فهيمة شكري على سن ورمح، شارع الزيتون كله يعمل حسابها، الاستهانة بالخادمة هي استهانة بالمخدومة، طنط فهيمة ترى أنه واحد من البهوات الصايعين الضايعين من أمثال يحيى بيه شكري.
شلبية ملامحها تشبه زينب ابنة عمتي بهية، ترتدي جلبابا واسعا يخفي ارتفاعة البطن، متكورة حول نفسها، تمسح دموعها، تشد طرف جلبابها تغطي ركبتيها، طنط نعمات تلسعها بالعصا الخيزران: انطقي يا بنت! الولد المكوجي ولا الزبال؟ - ماعرفش وحياة ربنا يا ستي. - بتحلفي بربنا كدب، إلهي يحرقك في نار جهنم! - أنا في عرضك يا ستي! أبوس رجليكي يا ستي!
خالتي نعمات لا تلين لهذه التوسلات، قسوتها تشتد، انهالت عليها بالعصا الخيزران، تضربها على أي مكان تصل إليه، شلبية تتكور كالقنفذ، تحمي رأسها بذراعيها، ذراعان رفيعتان بلا لحم، عودان من البوص، تسقط فوقهما العصا الخيزران، يرتطم الخيزران بالبوص، شيء ينكسر، الخيزران؟ البوص؟!
طنط نعمات سمينة قصيرة، قامتي فارعة بالنسبة لها، ذراعاي قويتان أقوى من ذراعيها، ضربت الطالب الشاب على محطة الترام، أثق في قوة عضلاتي، أقوم بالتمرينات الرياضية في الحديقة الخلفية، عمودان من الحديد في الأرض، «العقلة» و«المتوازيين»، يقفز خالي زكريا عليهما، يحمل فوق كتفيه عمودا من الحديد ينتهي من كل ناحية بكرة حديدية، أتبارى مع خالي زكريا في حمل الأثقال، جسمي يزداد قوة، أمشي رافعة رأسي، خطوتي فوق الأرض تخف، قوة جديدة تحملني، قدماي لا يلمسان الأرض، هل يخف الجسم مع ازدياد قوته والروح ترق؟!
صوت شيء يتكسر في أذني، الخيزران؟ البوص؟ أمسك العصا بيدي الاثنتين، أغمض عيني، أضرب بكل قوتي، أفتح عيني، بين يدي العصا، هل أضرب طنط نعمات؟
لم أضربها رغم قسوتها، أشفق عليها، تربطني بها علاقة دم، شقيقة أمي أخذت منها العصا الخيزران، ألقيت بها في الحديقة، لا شيء أكثر من ذلك.
بقيت مشكلة شلبية دون حل، لم يتزوجها أحد من الخدم، لكل منهم زوجة على الأقل، فشلت طنط نعمات في مهمتها، في حياتها كلها، لا أحد مسئول عن فشلها إلا شلبية، شلبية هي السبب وراء المصاب، من ورقة الطلاق إلى السرطان في حلق المرحومة.
أبكي وحدي في الليل، أتذكر شلبية، طفلة مثلي، عمرها أربعة عشر عاما، أصبحت الضحية وكبش الفداء، الخروف البريء يذبح بدلا من البيه، لا دليل على أنه يترك بصمته، من يبحث عن البصمة؟! البنت ليس لها أحد في مصر، أهلها في الصعيد، الحامل سفاحا تقتل مع الجنين دون تحقيق.
انطلقت المشاعر السوداء المخبوءة تحت البشرة الملساء المنزوعة الشعر، الناعمة نعومة الثعابين، العصا الخيزران كالكرباج، تمسكها الأصابع البضة المدببة الأظافر كالمخالب، الجسد القصير الممتلئ بالغضب، بالحزن، بالإحباط، ينتفض مع انتفاضة الخادمة المضروبة، الضاربة والمضروبة جسد واحد، تفصلهما العصا الخيزران، طنط نعمات، أتضرب نفسها بنفسها؟ تنهار بعد الضرب من الإعياء، تتهاوى فوق المقعد تلهث، تنفض الهواء من صدرها، تشهق، تتشنج، تنهمر الدموع من عينيها، العرق يتصبب من جسدها، تفرغ جسدها من المياه الراكدة السوداء بلون قاع البرك.
طنط فهيمة لم تضرب شلبية، تستنفذ طاقته المخزونة في الخروج إلى المدرسة، تضرب التلميذات بحافة المسطرة، تمر عليهن في طابور الصباح، تنهال المسطرة فوق الأصابع الممدودة مثل مس هيمر ونبوية موسى وناظرة السنية وكل الناظرات، تعود طنط فهيمة من المدرسة بعد الظهر منهوكة القوى.
أمي لم تضرب الخادمة سعدية بقسوة نعمات، تنفس أمي عن طاقتها في السجادة العجمية بالمضرب الخيزران، في تخريط الملوخية بالمخرطة، فرم اللحم في المفرمة، تسعة من الأطفال وأبوهم توكلهم طول النهار، يد زوجها تربت عليها في الليل، تدفئها في ليالي البرد.
طنط نعمات عاشت وماتت، لم تحمل ولم تلد ولم يكفلها أحد، لم تملك في الحياة إلا جهاز عرسها، كراسي الصالون المذهب، السرير النحاسي الأصفر، الدولاب الكبير، الشيفونيرة، ترابيزة السفرة، البوفيه، «الدينوسوار» الدولاب الزجاجي للصيني والفضيات واثنتين من الكومدينو، التسريحة أو التواليت، قطع الأثاث الشبيه بأثاث أمي.
لم تحصل طنط نعمات على شيء من معاش أبيها، القانون يحرم المطلقات من معاش الأب، بعد الطلاق نفقة عام واحد من زوجها، أصبحت طنط نعمات بلا مورد، تطوف على بيوت الأهل في موعد الأكل، عمتي رقية في كفر طحلة مثل طنط نعمات ، الفقر في القرية أقل قسوة من المدينة، القلوب في المدينة أشد قسوة من القرية، عاشت عمتي رقية وماتت أحسن حالا من طنط نعمات.
لطنط فهيمة جزء من معاش أبيها، مع راتبها من المدرسة، تنتمي إلى طبقة أعلى من أختها نعمات، ترمقها بطرف أنفها، طنط فهيمة رفضت الزواج بعقد رسمي، لم تشأ أن تفقد معاشها من أبيها؛ الابنة المتزوجة مثل المطلقة، تحرم في القانون من معاش الأب. تزوجت طنط فهيمة بعقد «عرفي»، العقد العرفي لا يعتبر عقد زواج رسمي، احتفظت طنط فهيمة بمعاش أبيها حتى ماتت، العقد العرفي غير محترم مع أنه شرعي، الناس لا تحترم إلا العقود الرسمية.
صورة شلبية محفورة في ذهني، تمشي وراء طنط فهيمة حاملة صرة من الدمور فيها ملابسها، إلى أين تأخذها؟ تنقذها من بين يدي طنط نعمات، تنقذ سمعة العائلة الكريمة؟ لم أعرف مصير شلبية، طردتها طنط فهيمة إلى أبيها ليقتلها؟ ربما تهيم على وجهها في الشوارع تتسول طعامها؟ تبيع جسدها في سوق البغاء إذا اكتسى جسدها باللحم؟ لم أعرف مصير الطفل في بطنها، القانون يحرم الطفل من الانتساب للأم، التبني محرم في الإسلام، آية في القرآن تقول:
ادعوهم لآبائهم ، إذا كان الأب مجهولا يصبح الطفل «غير شرعي»، يتحمل عن أبيه وزر الإثم، ضحية أخرى بريئة مثل خروف العيد، لماذا لا يكون الأب المذنب هو الأب غير الشرعي؟!
كيف استطاعت طنط فهيمة أن تطرد شلبية من البيت؟ طنط نعمات اعتبرت الطرد أشد قسوة من الضرب، في أعماقها الأمومة المكبوتة، الحنان الراقد في القاع، ترمق شلبية بعينين مملوءتين بالدموع، تبتلع الدموع قبل أن يراها أحد، تسقط دمعة واحدة تمسحها بمنديلها الحريري الأبيض.
طنط نعمات تخجل من دموعها، تلطم خديها بيديها، والدموع تظل حبيسة، سمات العائلات المنحدرة من السلالات الراقية، عماتي الفلاحات الفقيرات يبكين بالدموع دون خجل، يفرحن، يزغردن بصوت عال دون حرج، يغمروننا بالقبلات بالعناق عند الاستقبال، عند الوداع تنهمر دموعهن، في المأتم يطلقن صراخا يشبه الزغاريد، يتجمعن في الحقل في الدار في السوق، يواسين بعضهن بعضا في الأحزان والمصائب، البيت بجوار البيت، النافذة تطل على النافذة والجارة، تتجمع الجارات أمام الدار، يجلسن على عتبة الباب، كل من تمر في الزقاق تجلس معهن، الواحدة منهن لا تشعر بالوحدة، لا عزلة، لا جوع، تمد يدها إلى أي حقل وتأخذ كوز ذرة.
طنط نعمات تعيش في الوحدة، البيت الكبير تحوطه حديقة واسعة وسور حديد، نوافذ الجيران بعيدة، أتجلس على عتبة الباب كما تفعل ستي الحاجة أو عمتي رقية؟ أتمد يدها لتأخذ رغيفا من أي مخبز كأنما الحقل؟
طنط فهيمة مثل طنط نعمات، تلطم خديها وتظل دموعها محبوسة، في الليل أصحو على جسدها ينتفض يرج السرير، جفونها مغلقة، وصوتها يخرج متحشرجا من بين فكين يصطكان: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم!» ينقطع صوتها، تكف أنفاسها عن إصدار أي صوت، ماتت؟! تشهق شهقة واحدة متحشرجة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!» ينتفض جسدها انتفاضة واحدة، كالدجاجة المذبوحة، تهدأ، تعود أنفاسها عميقة منتظمة بالشخير الخافت.
كانت ترى في نومها الكوابيس، شبح شلبية يلوح لها في الليل! طفلة متكورة بجوار صرة ملابسها تبكي، صوت البكاء يخرق أذنيها مثل صفارة القطار، تقودها من يدها إلى القطار، ترغمها على الصعود، تدفعها في ظهرها بقبضة يدها، تتبعها داخل القطار، تجلسها على مقعد خشبي في الدرجة الثالثة مع صرة ملابسها المربوطة بالدوبارة. لم أكن مع طنط فهيمة في تلك اللحظة، تصورتها واقفة فوق رصيف المحطة، شلبية جالسة على المقعد بجوار النافذة، يدها النحيلة تمسك النافذة، يدها الثانية فوق صرة ملابسها، وجهها خال من الدم، عيناها مملوءتان بالدموع وتتسعان لدموع العالم، تتفادى طنط فهيمة النظر إليها.
تنظر إلى الناحية الأخرى، تتعلق عيناها بالسماء، عمود السواري، يتحرك القطار إلى الأمام معه شلبية، يتحرك الرصيف إلى الخلف معه طنط فهيمة، تمشي بظهرها إلى الوراء، وجهها أصبح في رأسها من الخلف، ترفع طنط فهيمة يدها لتتأكد من وجود عينيها في مكانها، تصطدم يدها بالنظارة الخارجية فتسقط على الأرض، تنكسر، يتناثر زجاجها في الجو مثل رذاذ المطر، طنط فهيمة عاجزة عن الرؤية، لا ترى شيئا بدون النظارة، كيف تعود إلى البيت؟!
عادت طنط فهيمة من محطة القطار بدون شلبية، لم تكلم أحدا في البيت، لم يكلمها أحد، تنفجر بدون سبب مثل قطها المتنمر، عادت الأمور إلى ما كانت عليه، لم يعد أحد يذكر اسم شلبية. جاء خادم عجوز في السبعين من العمر، عادت طنط فهيمة إلى طبيعتها، لكن كوابيس الليل تراودها، أصحو في الليل على انتفاضة جسدها، صوتها المتحشرج، تكلم نفسها في النوم، نشيج خافت كالبكاء المكتوم، تنفتح عيناها متسعتين جاحظتين في ذهول، تمتد يدها تحت وسادتها، تتحسس المصحف، سلسلة المفاتيح، تغمض عينيها وتغط في النوم.
تغلق الباب على الخادم العجوز، تخشى عليه من الحمل السفاح، طنط نعمات تتهكم عليها، طنط فهيمة لم تعد تأمن على شيء في البيت حتى نفسها، تغلق علينا الباب بالمفتاح في الليل، تقرأ من المصحف سورة يس، تطرد بها الجان والشياطين، «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، صوتها يشبه صوت ستي الحاجة وعمتي رقية، ملامحها أيضا تتغير، تصبح مثل طنط نعمات خائرة القوى، مستسلمة للمصير المحتوم، في الصباح تتبدل، ترتدي وجه الناظرة الشامخة، التايير الصوفي الأنيق، الحذاء الجلدي القوي، تضغط بإصبع الروج الأحمر على شفتيها، تضحك بصوت عال ملقية برأسها إلى الوراء.
هذه المرأة التي سمعت بكاء شلبية، دفعتها بقوة داخل القطار، هي نفسها المرأة التي تضحك وهي تصبغ شفتيها بالروج الأحمر؟!
في الرابعة عشرة من عمري، أنام في سرير واحد مع هذه المرأة، أخاف منها، أخاف لو امتدت يدها نحوي تغطيني فأنتفض، أتمتد يدها إلى عنقي؟ أتدفعني بقبضتها لأسقط من فوق السرير؟
سنة أولى سياسة
قضيت عاما دراسيا في هذا البيت الموحش، كان الليل طويلا، تسعى فيه الأرواح والشياطين، روح جدي الميت، روح جدتي الميتة، أرواح الموتى لا تخيفني مثل أرواح الأحياء، خالي يحي، هل ينكمش جسده ليدخل من تحت عقب الباب المغلق؟!
كانت طنط فهيمة تكره خالي يحيى؛ تقول: إنه شديد الغباء، فشل في الدراسة، أصبح «ساعاتي». في الحلم أراه أشد غباء من القط الأسود ، يتحول أيضا القط إلى روح شريرة، من تحت عقب الباب المغلق يدخل خالي يحيى على أطراف أصابعه، يقترب من الوسادة تحت رأس طنط فهيمة، يمد يده يأخذ المفتاح، في الحلم أقول لنفسي: يا سلام على الغباوة، ليه بيسرق المفتاح إذا كان دخل من غير مفتاح ؟
لا أحكي لطنط فهيمة هذه الأحلام، لا تطيق سماع هذا الكلام الفارغ، لا تنتظر مني إلا الحديث عن المدرسة والدروس، طنط نعمات مولعة بهذه الحكايات الفارغة، تأكل وقت فراغها، لا يقتل الفراغ إلا الفراغ.
حياتها كلها وقت فراغ، تملؤها بالحديث عن أي شيء، تتربع فوق الشلتة فوق السجادة في الشمس، إلى جوارها الصينية عليها وابور السبرتو الصغير من فوقه الكنكة، ترشف القهوة السادة من الفنجان المزركش رشفة رشفة، تمصمص شفتيها، تلعق بقايا القهوة، تحكي حكاياتها من أول ما ولدتها أمها. بعد أن يفرغ الماضي من الحكايات تنظر إلى المستقبل، تفرغ الفنجان فوق الصحن حتى يفرغ تماما من بقايا القهوة، ترفعه بالقرب من عينيها وتقرأ الغيب، ترى مستقبلها على شكل خطوط سوداء متعرجة مرسومة بنتوء البن. بعد أن تنتهي من المستقبل تعود وتتذكر الماضي، تحكي عن عريسها محمد الشامي ليلة العرس، تمص شفتيها وتتنهد: ماحصلش حاجة، ثم تتذكر المرحوم أباها، تدعو الله أن يغفر له ذنوب بما فيها الذنب الأكبر، إخراجها من المدرسة وهي صغيرة وتزويجها، وتتنهد تنهيدة عميقة: ربنا يسامحه ويبشبش الطوبة اللي تحت رأسه.
طنط نعمات أقرب إلي من طنط فهيمة، كانت تفلت منها لحظات من الحنان، أبكي في الليل حين أستعيد صوتها الحزين، كان هذا البيت الكبير مشبعا بالحزن.
ينتقل الحزن إلي كأنما بالعدوى، أتنفسه في الهواء الذي يتنفسه أهل البيت.
أرى خالي زكريا جالسا في الصالة يحملق في الفراغ ... أو غرفة أبيه الميت أو أمه الميتة، يشرب السيجارة وراء السيجارة حتى اصفرت أسنانه وأصابعه.
خالي يحيى رغم القهقهة العالية تجمع الحزن فوق ظهره، أصلع، له سنام الجمل، يمشي بظهره الأحدب فوق رصيف محطة القطار، يهرول بساقيه المقوستين داخل سروال متهدل، يصعد سلما طويلا رفيعا، يصل إلى الساعة الكبيرة المعلقة فوق المحطة، يحرك عقاربها المتوقفة ويغمز للبنات بطرف عين، أعاد للزمن حركته.
كان هذا الحزن منبعا من منابع الإلهام، أيقظ حاستي الأدبية وجعلني أكتب، الخادمة شلبية، أهي بطلة روايتي أغنية الأطفال الدائرية؟ خالي يحي، أهو ذلك الرجل العجوز في قصة ليست عذراء؟ عمتي رقية، أهي زكية في رواية الإله يموت في حضن النيل، أو موت الرجل الوحيد على الأرض؟ ربما طنط فهيمة هي تلك الضابطة أو الناظرة، وطنط نعمات هي تلك المقهورة المهجورة في إحدى رواياتي.
تركت هذا البيت الكبير الحزين لأدخل القسم الداخلي في مدرسة حلوان الثانوية للبنات. مرت السنون دون أن أعود إليه لألقي نظرة لأستعيد الذكرى، أحب استعادة الذكريات، الصور والأماكن القديمة، إلا هذا البيت، لم أعد إليه، الأحزان تحرق القلب، تحرق الذاكرة، أمي ترد بعبارة واحدة حين أسألها: ليه اتجوزتي يا ماما؟ تقول: علشان اهرب من بيت جدك شكري.
بيت الأحزان ... العيون تتحول إلى رماد، الموت يخطف الواحد وراء الآخر، يتراكم الحزن في كيس داخل العنق، داخل الصدر. مات خالي زكريا شابا بلا أبناء بلا بنات، لم يترك وراءه شيئا، مات خالي يحي، لم يذكره أحد، عاشت طنط فهيمة منقوعة في الحزن مع زوج يهددها بالطلاق حتى ماتت، طنط هانم ماتت لم تأخذ معها عمارة من العمارات، آخر ما رأيت منهم طنط نعمات، أهو جدي أتعس هذا البيت؟ نظامه العسكري؟ السلطة الأبوية تحطم أقرب الناس إليها؟ الطبقة البرجوازية تتهاوى مع نهاية الحرب العالمية الثانية؟ النظام الطبقي الأبوي يجري في التاريخ، السم يجري في الدم، في عروقي، في الشرايين، أتنفسه في الهواء داخل البيت الحزين.
شتاء عام 1959م، في عيادتي الطبية في ميدان الجيزة، دق جرس التليفون، جاءني صوتها عبر الأسلاك: إزيك يا دكتورة نوال. - مين؟ - مش فاكراني يا جارية ورور؟ - طنط نعمات؟! إزيك يا طنط؟ إزي صحتك؟ - نحمده، ولا يحمد على مكروه سواه. - ياه! لسة فاكرة يا طنط نعمات! - ما بقاش عندي غيره. - مين؟ - حيكون مين غير ربنا؟ - صوتك تعبان يا طنط. - تعبانة يا دكتورة.
صوتها ضعيف، رنة الحزن القديم، حشرجة صدر مملوء بالموت.
أعطتني عنوانها في حلمية الزيتون، تسكن في شقة أخيها يحيى مع زوجته وأطفاله، دخلت إلى غرفتها المعتمة بجوار المرحاض، تذكرت غرفتي في بيت عمي الشيخ، لمبة كهربية 20 وات، معلقة بين عوارض السقف الخشبية بلون الدخان، جهاز عرسها مكوم بعضه فوق بعض مثل النعش، سريرها الأصفر النحاسي في الوسط، راقدة بين الأعمدة الحديدية الأربعة كالمصلوبة، وجهها شاحب بلون ملاءة السرير، عيناها رماديتان مثل عيني جدتي آمنة، انفرجت شفتاها الجافتان: كتر خيرك اللي جيتي، فيكي الخير يا دكتورة نوال. «أنا جارية ورور يا طنط نعمات.»
سمعتها تضحك، عيناها تقاومان الظلمة، تشد جفونها، ويطل منها ببقايا بريق انطفأ في زمن قديم.
أشارت إلى ثديها الأيسر ... وضعت يدي على الورم، تجمدت في مكاني. «هو المرض إياه يا دكتورة نوال، أنا كنت عارفة إني لازم أموت بيه زي المرحومة أمك.»
خرجت من عندهم أتحسس صدري، أهناك ورم خبيث في الثدي الأيسر فوق القلب مباشرة، هل أموت خلال ثلاثة أشهر كما توقعت لطنط نعمات؟
ركبت القطار من محطة الزيتون، كنت أركب القطار كل يوم من هذه المحطة منذ أربعة عشر عاما، بدت محطة الزيتون معتمة متهدمة السلالم والجدران، رصيف القطار الذي كان طويلا لا نهائيا أصبح قصيرا، أجتازه من أوله لآخره في نصف دقيقة، كنت أجري فوق هذا الرصيف وألهث دون أن ألحق بالقطار، أنتفض في برد الشتاء وأتصبب عرقا في أيام الحر، كنت أقفز في القطار بعد أن يتحرك، كان التلاميذ من شدة الزحام يقفون على سلم القطار أو يرقدون فوق ظهره هربا من الزحام أو من دفع التذكرة، أحيانا يصعد إليهم الكمساري فوق ظهر القطار، يقفزون إلى الأرض قبل أن يمسك بهم، سقط أحد التلاميذ وبتر القطار ساقيه الاثنتين، رأيته ينزف على رصيف محطة سراي القبة، صورة الملك فاروق ترفرف فوق جسده المقسوم نصفين على عمود طولي من عواميد السواري، بركة حمراء من الدم تلوث الرصيف الأبيض اللامع كالرخام ، فردة حذاء طارت من إحدى الساقين المبتورين، بقيت الفردة الثانية في القدم الميتة، إلا أن التلميذ النازف فوق الأرض لم يكن يشعر أنه فقد ساقيه، يبتسم لمن حوله في براءة، يتساءل بصوت طفولي: فين الفردة الثانية؟! لم يكن شغله تلك اللحظة إلا البحث عن فردة حذائه المفقودة.
كان هذا التلميذ مثلي في السنة الثانية الثانوي، جاء من الريف مثلي ليدخل المدرسة، تركه أهله في المدينة الضخمة ليسكن مع بعض الأقارب، «الأقارب زرايب»؛ كما كانت زينب ابنة عمتي تقول: «المصايب من القرايب»، ربما كانت له عمة أو خالة تستولي على القروش التي يرسلها أبوه إليه، لم يكن يملك ثمن تذكرة القطار، كان يحلم بدخول الجامعة ليصبح أستاذا كبيرا مثل طه حسين.
في الليل وأنا نائمة كنت أرى نفسي تحت عجلات قطار الزيتون أو ترام السيدة، يضعون جسدي المبتور الساقين فوق الرصيف من الزحام، أبحث عن فردة حذائي دون جدوى، أمشي حافية بدون حذاء، أعرج فوق عكازين من الخشب، يلوح لي وجه حميدة الشقنقيري في مدينة منوف، أراها مقبلة نحوي تمشي على عكازيها، أهب من النوم مذعورة أتصبب بالعرق.
قطار الزيتون كان مشهورا بالحوادث الأليمة، لا أعرف لماذا؛ ربما كانت ضاحية المطرية من الضواحي الفقيرة، كان القطار يبدأ في محطة المطرية أو عين شمس وينتهي في محطة كوبري الليمون أو باب الحديد ... في المطرية كان يعيش التلاميذ الفقراء المهاجرون مع عائلاتهم من الريف ... أو المهاجرون وحدهم بحثا عن التعليم أو لقمة العيش. المدينة الضخمة تبتلعهم مثل بلاعة تشفط الصراصير، قد يأكل القطار أو الترام أطرافهم، قد يصبح الواحد منهم نشالا، يقفز بساق واحدة على سلم الترام يبيع الأمواس والأمشاط أو علب الكبريت، ثم يقفز من الناحية الأخرى بعد أن ينشل المحفظة أو كيس الفلوس، أو الساندوتش الذي تأكله واحدة من البنات في عربة «الحريم».
كان هناك عربة خاصة «للحريم» في الترامات والقطارات، أفضل الجلوس فيها عن الجلوس مع الرجال، عيونهم ترمق صدري بنظرات حادة أشبه بالسهام، تمتد يد أحدهم فوق المقعد وتقرصني في فخذي، في الزحام حين أقف بينهم قد يدس أحدهم إصبعه الصلب في ظهري، أو ذلك الشيء الآخر الذي يتصلب بين فخذيه يدسه في جنبي، أو في الإلية وأنا واقفة مصلوبة بين الأجساد، يداي مرفوعتان قابضتان على عمود علوي في سقف الترام أو القطار أو الأتوبيس .
كنت أستدير أحيانا وأصفع الواحد منهم فوق وجهه، من أين كانت تأتيني الشجاعة؟ كنت طفلة في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة، لكن غضب الطفولة هو أقوى غضب ... أصدق غضب ... أنقى غضب ... يتراكم في الجسد منذ الولادة ... يتوالد مع الزمن ولا يلد إلا نفسه.
كيف عاشت هذه الطفلة في أعماقي حتى اليوم؟! لا أعرف ... استطاعت أن تفلت من الموت، كيف؟ لا أدري! ربما تدربت على الموت منذ الولادة فلم تعد تخشاه، ربما أصابها ذلك الشيء الذي نسميه في الطب «بالحصانة»، يحتاج الجسد دائما إلى أن يحقن بالجراثيم ليكتسب مناعة ضدها، «داوني بالتي كانت هي الداء!» أيكون هذا المثل الذي سمعته من جدي صحيحا؟ هل نحتاج إلى جرعة من الموت لنكسب مناعة ضد الموت؟ «نفي النفي إثبات.»
في حصة الجبر في السنة الثانية الثانوية عرفت هذه القاعدة؛ إذا أضفنا الناقص إلى الناقص ينقلب إلى زايد «− + − = +».
دهشت في أول حصة للجبر والهندسة، كانت تسمى «الرياضة»، كنت أظن أن الرياضة تعني الألعاب الرياضية في الفناء، أدركت رياضة أخرى؛ هي علم الحساب والجبر والهندسة أو الرياضيات. أعجبتني هذه العمليات العقلية؛ أستشعر اللذة وأنا أحل المعادلات الجبرية الصعبة، تزداد اللذة مع ازدياد الصعوبة. تبدو لي المعادلات معقدة مستحيلة الحل، تتوالد العقدة وراء العقدة، تملأ الصفحة الأقواس والمكعبات والمربعات والمثلثات والمسدسات، المعادلة مثل البناء الضخم أو الهرم يعلو ويعلو دون حل، وفجأة وأنا أضرب أخماسا في أسداس أو أنفي النفي بالإثبات، إذا بالبناء الشامخ ينهار، تحل العقدة، تنتهي المعادلة الصعبة إلى صفر.
يقفز عقلي، كأنما أنا العلامة فيثاغورس، هذه اللوغاريتمات أصبحت لعبتي، أفتح كراسة الجبر في القطار أو الترام، أتسلى بحل المعادلات، أكاد أصرخ من اللذة.
في نهاية العام بعد الامتحان الأخير سافرت إلى منوف في إجازة الصيف، جاءت شهادتي ناجحة بامتياز، ورسالة من ناظرة السنية إلى ولي أمر التلميذة نوال السيد السعداوي، كالآتي: حصلت التلميذة على الدرجات النهائية في الجبر والهندسة، ويمكنها أن تدخل إلى قسم الرياضية مع حصولها على مجانية التفوق ومكافأة شهرية، على أن تدخل معهد المعلمات بعد حصولها على شهادة التوجيهية؛ لتصبح معلمة للرياضيات في مدارس البنات الثانوية بحسب الشروط في القانون.
لم يكن في مدرسة السنية قسما داخليا، لم يكن لي أن أعود إلى بيت جدي لأغترف الحزن، كنت أيضا أكره المعلمات أو الناظرات «الشروط في القانون»، لم أكن أعرفها أيضا، قال أبي: إن وزارة المعارف كانت في حاجة إلى معلمات في مادة الرياضة، إنها تشترط على خريجات المعهد أن يشتغلن كمعلمات لمدة أربع سنوات على الأقل، ألا يتزوجن، وفي حال الإخلال بهذه الشروط ترد إلى وزارة المعارف مصاريف الدراسة كلها مع المكافأة الشهرية.
سألني أبي ماذا أختار، كان متحيرا، إلا أنني حسمت الموقف، لا يمكن أن أقبل هذه الشروط، بدت لي الشروط نوعا من العبودية، كأنما وزارة المعارف تشتريني بدفع مصاريف دراستي، ثم تسمي ذلك مجانية التفوق، إذا كنت متفوقة فمن حقي المجانية دون شروط.
نهض أبي من مقعده وصافحني، المرة الأولى التي يصافحني فيها، برافو يا نوال! أثبت اليوم أنك ابنتي فعلا، كأنما لم أكن ابنته قبل ذلك، أو أنني لم أكن أستطيع أن أفعل ذلك إلا لأنني ابنته!
نهض من مقعده وصافحني، يده الكبيرة حانية في قوتها، يستند على يدي بقوة الحنان، كان أبي شديد الحنان، عيناه السوداوان يكسوهما بريق، دمعة كبيرة يبتلعها قبل أن تظهر، أيفرح أبي بنجاحي؟!
أخي طلعت لم ينجح ذلك العام، لم يعد أبي يحزن كثيرا لسقوط أخي، يغمض عينيه ويشرد طويلا، هل بدأ يراني في أحلامه؟ أيرى ابنته معلمة مرموقة؟ أستاذة أو طبيبة ماهرة؟ أيعوضه نجاحي عن فشل أخي؟! هل أخي؟! هل تنتقل أحلامه من الولد إلى البنت؟! •••
عام 1945م نقلني إلى مرحلة أخرى من حياتي، يسمونها المراهقة ... عمري أربعة عشر عاما، قامتي تطول وأحلامي تتضاعف، أحلام جامحة محلقة في السماء بلا حدود، الفرق الوحيد بينها وبين الجنون أنها عاقلة، تهدف إلى شيء بسيط هو تغيير العالم.
في النوم أراني فوق حصان أبيض مثل جان دارك، عيناي تكشفان الحجب كزرقاء اليمامة، أردد أبيات الشعر كأنما أنا الخنساء.
لم أعد أبدد طاقتي في المعارك القديمة داخل البيت، أصبح أبي وأمي ينوبان عني في هذه المهمة، تقدم عريس من طرف طنط فهيمة يحمل «الليسانس» من كلية الحقوق، هذه الكلية كان يتخرج فيها الوزراء وكبار رجالات الدولة، كلمة «الليسانس»، تنطقها طنط فهيمة بعنق يلتوي كالديك الرومي أو العنقاء، هذا العريس تتمناه أي بنت وإن كانت بنت الملك، أيمكن أن أفلت منه؟ كان له أنف يشبه المنقار، صوته أخنف.
وقف أبي وأمي معي ضد فهيمة والقبيلتين من آل شكري والسعداوي، ابنتهما النجيبة «نوال» سوف تحصل على الليسانس أو البكالوريوس، لم يعد مستقبلها في الزواج مثل البنات البليدات الخانعات في البيوت ينتظرن العريس.
صورتي داخل فستان الزفاف تلاشت من خيال أبي وامي، حلت مكانها قامتي الفارعة داخل روب المحاماة، أو معطف الأطباء الأبيض، أو ثوب الأساتذة في الجامعة أو الأدباء الكبار.
إنه الانقلاب في حياة أبي وأمي، أخي طلعت كان حلمهما الأكبر، إلا أن رسوبه في المدرسة العام وراء العام أصابهما بالإحباط، ثم تحول الإحباط إلى أمل جديد في ابنتهما الكبرى، كنت أنا بالمصادفة هذه الابنة، وكان لا بد لي من أخ فاشل حتى أحظى بالاهتمام.
أصبحت في السنة الثالثة بمدرسة حلوان الثانوية للبنات بالقسم الداخلي، أنام في عنبر ضخم يشاركني فيه ثلاثون تلميذة، نرقد على أسرة من الصاج الأبيض تشبه أسرة المستشفيات، صفان طويلان، لكل سرير فجوة صغيرة في الحائط يسمونها دولابا، تغلق بقفل مثل الدرج في الفصل، ويثبتن اسم التلميذة بدبوس مكتب، البطاطين رصاصية اللون تشبه بطاطين الجنود في الجيش، حول المدرسة سور حجري عال كأسوار السجون، ضابطة الداخلية تفتش على أحلامنا في الليل، عيناها حمراوان ينطلق منهما الشرر، في يدها كشاف كهربائي، تظهر فجأة مثل عزرائيل الموت ثم تختفي فجأة.
إلا أنني تحررت من بيوت الأقارب، تلاشى من خيالي التمساح في بيت الضاهر، والغرفة في حي العنبري، شعرت بالحنين إلى أمي وأبي وأخواتي، في الليل كنت أخفي رأسي تحت الغطاء وأبكي، في الفصل لا أعرف اسم واحدة من التلميذات، في العنبر أدخل في السرير صامتة، كلهن غريبات عني، وأغرب منهن المكان.
إلى جوار سريري من ناحية اليمين كان سرير تلميذة اسمها فكرية، عيناها سوداوان شاردتان، شفتها السفلية ممطوطة إلى الأمام، تمطها بحركة ازدراء لكل ما في الكون، تتربع فوق سريرها، تفرش أمامها اللوحة والألوان، بعد أن يدق جرس النوم وتنطفئ الأنوار تظل جالسة في سريرها محملقة في الظلام.
من الناحية الأخرى كان سرير تلميذة اسمها سامية، نحيفة قصيرة القامة، تشبه سعاد زميلتي في السنية، بشرتها سمراء شاحبة، شفتاها مطبقتان دائما، كنت أنجذب إلى هذه الانطباقة للشفتين، لم تكن تجذبني البنات اللاهيات ذوات الشفاه الحمراء المنفرجة دائما بالثرثرة أو الهأهأة أو الهسهسة.
بعد انتهاء الحصص كنت أقضي اليوم في المكتبة، كانت غرفة مهملة في الفناء بجوار دورات المياه، رفوفها يعلوها التراب وخيوط العنكبوت، أغلفة الكتب سوداء كالحة، تفوح منها رائحة الموميات مع براز الفئران.
كنت أبحث بين الكتب عن الروايات والقصص ... سامية كانت تبحث عن كتب التاريخ والسياسة، فكرية لم تكن تحب القراءة، تمط شفتها السفلية بازدراء لكل الكتب، سامية ترمق الرواية في يدي ثم تلوي في امتعاض: روايات إيه وكلام فارغ إيه، ده كلام رومانتيكي!
كانت المرأة الأولى التي أسمع فيها كلمة «رومانتيكي»، نطقتها سامية وهي تزم شفتيها كأنها هي سبة، في يدها كتاب عن الحروب الصليبية، لم أكن أحب هذه الكتب عن الحروب وفتوحات صلاح الدين الأيوبي وعمرو بن العاص.
حصة التاريخ تبعث في نفسي الملل، لم يكن التاريخ إلا مجموعة من الغزوات القديمة نحفظها عن ظهر قلب، من غزوة أحد وبدر في عهد الرسول إلى غزوة نابليون على مصر.
مقررات التاريخ لا تشمل تاريخ مصر المعاصر، لم ندرس شيئا عن الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م؛ لأنه كان مستمرا حتى ذلك الوقت، ولم نقرأ شيئا عن فساد الحكم الملكي أو الأحزاب السياسية.
كانت حصة التاريخ تطمس التاريخ، تصنع من أفسد الحكام أبطالا، تفصل بين العصر والعصر فلا ندرك الترابط بين العصور، نردد كالببغاء ما نحفظه في الكتب .
لم تكن فكرية تطيق الحديث عن التاريخ القديم أو المعاصر، تحكم على الحكومات كلها بالفساد، والمحكومين كلهم بالخنوع والجبن، ترسم صورة الملك فاروق على شكل خروف العيد المعد للذبح، والنحاس باشا على شكل الأراجوز الأعور في السيرك، أحمد ماهر باشا مثل زكيبة القطن المثقوبة بالرصاص.
سامية كانت غاضبة على الجميع مثل فكرية، إلا أنها تستخدم لسانها بدل فرشاة الرسم؛ أحمد ماهر يستحق ما أصابه من الرصاص، أصدر القرار بدخول مصر الحرب، النحاس باشا في رأيها مهرج يتأرجح بين الملك والإنجليز، حزب الوفد لا علاقة له بالشعب، سعد زغلول لم يكن بطل ثورة 19، إنه الشعب المصري الذي قام بالثورة، الفقراء من الشعب، العمال والفلاحون، بعد الثورة تفاوض سعد زغلول مع الإنجليز، لم يحصل العمال والفلاحون على شيء، دماء شهدائهم راحت هباء. - أبوكي من العمال يا سامية ولا من الفلاحين؟ - أبويا أستاذ محترم!
قالتها بغضب وهي تضغط بأسنانها على كلمة «محترم»، أدركت أنها لا تحترم العمال ولا الفلاحين، رغم أنها لا تكف عن الحديث عنهم. «وانتي أبوكي بيشتغل إيه يا نوال؟»
قلت لها بزهو الطاووس: إن أبي مثل أبيها أستاذ محترم، ثم حكيت لها قصة أبي في ثورة 19، كيف كان أحد أبطالها، تلقى الشظية في قدمه، نزف الدم فوق أسفلت الشارع، زمت سامية شفتيها المطبقتين، وسألتني: أبوكي اسمه إيه؟ سؤالها كان غريبا، أدركت أن اسم أبي مجهول في التاريخ، أبوكي في حزب الوفد يا نوال؟ مش عارفة! يا خبر! مش عارفة أبوكي في حزب إيه؟! «وانتي أبوكي في حزب إيه؟»
صمتت سامية طويلا ولم ترد على سؤالي، شحب وجهها أكثر مما هو، ثم همست في أذني: بابا في الحزب الشيوعي، ده حزب سري.
لأول مرة أسمع كلمة حزب سري، ولأول مرة أرى شفتي سامية المطبقتين تنفرجان عن ابتسامة أو شبح ابتسامة، بدأت تقترب مني أكثر، تحدثني عن أشياء لا أعرفها، تناولني جريدة ملفوفة على شكل أسطوانة، تتلفت حولها في حذر وتهمس: اقريها على طول ورجعيها تاني، اوعي حد يشوفها معاكي.
لم أكن أحب الهمس أو التخفي، يصيبني الشك أو النفور، كنت أظن أن اللصوص هم الذين يتخفون في الظلمة، ثم عرفت أن «الثوار» أيضا يتخفون عن أعين البوليس.
كان المرحاض هو المكان الوحيد في المدرسة الذي يمكن أن أغلق بابه علي وأقرأ الجريدة، كان اسمها «الجماهير»، تشبه الجرائد الأخرى إلا أنها أصغر حجما، أقل ورقا، لونها داكن، سطورها سوداء متلاصقة متآكلة الحروف، قد يسيح حبرها الأسود فيطمس بعض السطور أو الكلمات، أسلوبها أكثر تعقيدا من العقاد أو العقباوي أو ابن المقفع، لا أكاد أفك خطوطها أو أفهمها، من شدة الغيظ أو ربما الخوف كنت ألقيها في ثقب المرحاض وأشد عليها السيفون.
لم تكن سامية تكف عن إعطائي هذه الجريدة، تدسها لي في حقيبتي بحركة سريعة كأنما هي قنبلة زمنية، في الليل عندما تنام كل البنات في العنبر أنهض على طرف أصابعي، أخرج إلى دورة المياه تحت ضوء المصباح البعيد في الشارع أحاول أن أفك طلاسم هذه الكلمات المتلاصقة والسطور المتشابكة دون فواصل أو سواكن.
كانت هناك كلمات وعبارات تتكرر في كل صفحة: العمال، الفلاحون، الطبقات الكادحة، البروليتاريا، البرجوازية، المتآمرون، الخونة، الصراع الطبقي، الطبقات الحاكمة، الأغلبية الساحقة المسحوقة، الأقلية الانتهازية، اللصوص الذين يسرقون قوت الشعب.
في الإجازة الصيفية حين أسافر إلى منوف ترسل سامية إلي هذه الجريدة في البريد، تأتي على شكل أسطوانة ملفوفة بدوبارة، يفكها أبي بصعوبة، ينفض عنها التراب، يقرأ عناوين الصفحة الأولى مكتوبة بخط عريض أسود، ذاب الحبر مع التراب. - مين يبعت لك الجريدة دي يا نوال؟ - واحدة صاحبتي في المدرسة اسمها سامية. - دي جريدة الحزب الشيوعي. - إيه هو الحزب الشيوعي يا بابا؟
لم يكن أبي يعرف عن الحزب الشيوعي إلا ما يقرؤه في صحف الحكومة أو صحف الأحزاب السياسية؛ كالوفد أو الأحزاب الأخرى. كلمة الشيوعية، كلمة تعني عندهم الإلحاد والفساد الأخلاقي وغرس الحقد في نفوس الشعب، التآمر لقلب نظام الحكم عن طريق العنف، الخضوع لقوى خارجية في موسكو.
كان أبي يتعاطف مع حزب الوفد أو النحاس باشا حين يتصدى للإنجليز أو يصدر قرارات لصالح الموظفين والفقراء من الشعب، لم يتعاطف أبي مع الإخوان المسلمين أو زعيمهم حسن البنا، كان يراه مثل الشيخ المراغي متاجرا بالدين في حلبة السياسة. - السياسة يا نوال لعبة بدون مبادئ. - لكن انت يا بابا كنت دايما تشترك في المظاهرات. - المظاهرات الشعبية شيء آخر.
كلمات أبي تنحفر في ذهني، السياسة لعبة بدون مبادئ، الأخبار في الصحف كلها عن الحروب والمذابح والصراعات الحزبية، كنت أنجذب أكثر إلى الأدب والفن.
في المكتبة ألتهم أية رواية تقع تحت يدي، في الليل، بعد أن تنطفئ الأنوار، أخرج مفكرتي السرية، وأكتب تحت ضوء القمر، بدأت رواية طويلة الصيف الماضي تحت عنوان «مذكرات طفلة اسمها سعاد»، في النهار بعد انتهاء الحصص أجلس في الفناء فوق الدكة الخشبية، تحت شجرة الكافور بجوار ملعب التنس أحتضن القلم والكشكول.
شمس الشتاء في حلوان قوية، دافئة، تسري حرارتها في جسدي وعقلي، ملأت الكشكول بالرواية، ستون صفحة كتبتها، تنهمر دموعي مع «سعاد» بطلة القصة كأنما هي أنا.
في حصة اللغة العربية طلب المدرس أن نقدم له في الاختبار قطعة أدبية من خيالنا، قدمت له الرواية، أعادها إلي في الأسبوع التالي، راح يرمقني بعينين ضيقتين: السماء لا تكون غاشمة يا حمارة! أنت في حاجة إلى تقوية في الدين!
أعطاني صفرا في الاختبار، لم يترك صفحة من الرواية دون أن يشطب منها أو يعلم عليها بقلمه الأحمر: خيال مريض ناتج عن ضعف الإيمان! أفكار غريبة شاذة لا ترد لأية فتاة في هذا السن!
في النوم يلوح لي «الصفر» بقلمه الأحمر كأنما حكم بالإعدام، في النهار أحملق في «الصفر» حتى أحس الألم الخارق فوق بياض عيني، كانت الدموع تتجمع تحت الجفن ثم تجف تحت الشمس كالملح.
في إجازة الصيف أخذت الكشكول معي إلى منوف، خبأته بين كراريسي القديمة في الدرج، وقع في يد أمي الرواية وتأشيرات المدرس، والصفر الأحمر الضخم على شكل حبل المشنقة. «القصة حلوة يا نوال، والمدرس ده غبي.»
انتشلتني أمي من هاوية الشك في نفسي، كان الأستاذ في المدرسة مثل الإله، لا يمكن أن نشك فيه، والأسهل أن نشك في أنفسنا.
أبي أيضا قرأ الرواية، جلست إلى جواره وهو يقرأ، عيناي فوق ملامح وجهه، ألتقط ما قد يظهر عليها من أحاسيس قبل أن يدركها هو، أراقب اللمعة في عينيه حين تحوم حول شفتيه أو تنقلب إلى انقباضة في عضلات الفم.
لم يكن أبي مثلي سريعا في إبداء رأيه، إنه بطيء بالطبيعة أو عن عمد، ربما قرأ في وجهي لهفتي على سماع رأيه، فجلس صامتا فوق الكنبة مثل «أبو الهول»، أكان يستعذب تعذيبي؟ لم أنس ما كان يفعله في طفولتي أيام السيرك، إنه يهوى إضاعة الوقت في مثل هذه اللحظات الحاسمة في حياتي، ينتظر وينتظر حتى تفرغ طاقتي على الصبر وأنفجر من الغيظ، حينئذ يخرج أبو الهول عن صمته ويقول: برافو يا نوال! عندك موهبة فعلا!
كان يمكن أن أقفز في الهواء، أنقض عليه وأعانقه بذراعي الاثنتين، أغمره بالقبلات، رغم جنوني كنت عاقلة متزنة لا أستطيع تجاوز العادات أو التقاليد.
كلمة أبي «عندك موهبة» انحفرت في ذهني، مسحت الصفر الأحمر وتشطيبات المدرس، كنت أحب اللغة والحروف، لم أكره إلا مدرس اللغة والنحو والدين، هؤلاء يقتلون الموهبة في مهدها، أما الدين فلا شيء جعلني أكرهه مثل المدرسين، لم يكن يروقهم من كتاب الله إلا الآيات العسيرة على الفهم، الكلمات التي تتكور في الحلق، المعاني التي لا تناسب مرحلة العمر، والتفسيرات التي تزيد الأشياء غموضا، التهديدات بنار جهنم خالدين فيها، والتلويح بجنة أبرز ما فيها الجلوس على الأرائك. سألت المدرس مرة: أيكون في الجنة قلم لمن يريد أن يكتب وكشاكيل؟ انفجرت البنات في الضحك، وطردني المدرس من الحصة.
رغم كل شيء كنت أحب المدرسة، أكثر ما أحبه فيها هو العزلة، أدخل المكتبة لأقرأ وأكتب، كنت أحب أيضا اللعب والجري في الفناء مع البنات، نقفز الحبل ... نلعب الباسكت بول «كرة السلة» أو الفولي بول، إلا أن «التنس» كان لعبتي المفضلة، تشاركني في ذلك زميلة اسمها صفية، بيضاء مستديرة الوجه، عيناها خضراوان ، هي الوحيدة التي تلعب التنس من كل زميلاتي.
كنت أعشق حركة الجسم في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس، أغني لنفسي وأنا أحرك ساقي، أكاد أطير في الجو، في غرفة الموسيقى أغني وأرقص مع البنات على اللحن الذي تعزفه فاطمة، تلميذة معنا في العنبر تهوى الموسيقى والغناء، تغني لأم كلثوم «هو صحيح الهوى غلاب»، و«افرح يا قلبي»، كان لصوتها بحة جميلة تهز قلوبنا بالفرح ...
قبل أن يدق جرس النوم ندخل إلى الحمامات تحت مياه الدش، أغني لنفسي: «عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر، اسألوا الليل عن نجمي، متى نجمي يظهر؟!»
أسمع فاطمة من وراء الجدار تغنيها بصوتها الشجي ... تنهمر الدموع من عيني مع المياه الساقطة فوق رأسي، لم يكن ينغص علينا حياتنا إلا ضابطة الداخلية، اسمها كان «أبلة عزيزة»، مثل الشاويشة في السجون، تحمل في يدها مفاتيح غرفة التأديب، ترتدي حذاء أسود غليظا له كعب كاوتش سميك أو «كريب»، لا نسمع وقع قدميها حين تمشي مثل مس هيمر في مدرسة منوف.
كانت ليالي الجمعة في الداخلية أجمل الليالي ... تخلو المدرسة من كل ضابطة الداخلية ... تحمل حقيبة ملابسها الصفراء لقضاء نهاية الأسبوع ... نرقبها حتى تختفي وراء الباب الخارجي، فنطلق الصفافير وصيحات الفرح، نقلب عنبر النوم إلى صالة للرقص والغناء أو خشبة للمسرح.
عالم جديد كان ينفتح أمامي، الحياة المشتركة مع البنات من عمري، لم أعرف هذه السعادة من قبل، في المدرسة الخارجية لم تكن هناك فرصة لهذه الحياة الجماعية، الحصة تأتي وراء الحصة، ثم يدق جرس الانصراف فننطلق إلى بيوتنا، نخشى التأخير. في القسم الداخلي عندنا الوقت، لا نخشى التأخر عن العودة إلى البيت أو الأهل، أحببت حياتي الجديدة بلا أهل أعود إليهم ، أصبحت الزميلات من الأهل، والمدرسة عندي أفضل من أي بيت.
الفناء واسع، أجري فيه كما أشاء، وعنبر النوم تدخله الشمس من نوافذ كبيرة، ينساب ضوء القمر الفضي إلى سريري، عيون البنات يكسوها البريق، تطل من الأسرة الممتدة بطول العنبر.
في الصباح نقفز من الفراش، نجري في الطرقات الطويلة ، نتزحلق على البلاط بالشباشب والقباقيب، داخل الحمامات المفتوحة، إلا من نصف جدار، نتراشق المياه مثل الأطفال على شط البحر في الإسكندرية، أستعيد طفولتي قبل السابعة من العمر، في ذاكرتي البعيدة صورة لطفلة سعيدة تحملها أمواج البحر إلى السماء الزرقاء، إلى جوارها تسبح أمها كالسمكة، عيناها يكسوهما بريق عسلي، ذراعاها ممدودتان جاهزتان لانتشالها من الغرق.
في الليل أقف في النافذة أطل على القمر، البنات نائمات، واقفة وحدي أحملق في النجوم، أبحث عن نجمتي، يملؤني الحنين إلى حبي الأول، أستعيد ذكراه. تفتح «صفية» عينيها، تنهض من سريرها، تسير حتى النافذة وتقف إلى جواري، تحملق في ضوء القمر، حول عنقها سلسلة ذهبية يتدلى منها مصحف صغير، شيء آخر من الذهب على شكل القلب، تفتحه بأطراف أصابعها، بعض شعرات سوداء، تقربها من فمها تقبلها، تعيدها داخل القلب الذهبي، تغلقه بالقفل، حبها الأول والأخير، شعرات من رأسه هي الذكرى، تركت له خصلة من شعرها، لن تنساه مدى الحياة، لن تتزوج إلا هو، جعلتني أقسم على المصحف ألا أعلن اسمه، دموعها تجري فوق خديها تلمع في الضوء الأبيض. «هو الوحيد اللي باحبه في الدنيا يا نوال، باحبه أكثر من أبويا وأمي، حيبقى دكتور، زي القمر، أحلى واحد في الدنيا، مش ممكن أتجوز غيره.»
أقضي إجازة نهاية الأسبوع في المدرسة، مع البنات اللائي بدون أهل أو أقارب في القاهرة، لم أكن أخرج من باب المدرسة إلا لأركب القطار إلى منوف، في إجازة العيد أو إجازة الصيف في نهاية العام.
ليلة الجمعة لا يدق جرس النوم، ولا تنطفئ الأنوار، هذه هي ليلتنا الوحيدة في الأسبوع، يمكن أن نسهر حتى الصباح، يمكن أن نرقص ونغني دون أن تنقض علينا الضابطة، يمكن أن نقضي الليل في تمثيل إحدى القصص من تأليفي.
كان عنبر النوم يتحول إلى مسرح، نكوم الأسرة كلها في المؤخرة، نفسح مكانا للخشبة في المقدمة، الملاءات نصنع منها الستائر، ندعو البنات من العنابر الأخرى ليصبحن الجمهور.
في البداية كنت أقوم بالأدوار كلها، المؤلفة والمخرجة والممثلة وموزعة التذاكر، كانت التذاكر مجانية أول مرة، مربعات صغيرة من الورق مقطوعة من أحد كشاكيلي، فوق كل مربع يكتب اسم المسرحية وعنوان المسرح، عنبر ثالثة «أ»، هذا هو عنبرنا، الذي أطلقت عليه العنابر الأخرى اسم «مسرح الحرية».
إحدى المدرسات كان اسمها «مس سنية»، كانت تدرس لنا اللغة الإنجليزية، طويلة ممشوقة القامة، الوحيدة بين المدرسات التي تلعب التنس، الوحيدة بينهن التي تتحدث معنا بعد انتهاء الحصص، أو تجلس معنا في الفناء، تناقشنا في الروايات الإنجليزية المقررة علينا.
إحدى هذه الروايات كان اسمها «آدم بيد»، والبطلة تحمل سفاحا، ذكرتني بالخادمة شلبية في بيت جدي، أوحت إلي بكتابة مسرحية أعطيتها عنوان: «صرخة في الليل»، كانت إحدى العروض التي قدمها مسرح الحرية في ليلة من ليالي الجمعة.
كان العرض يبدأ بعد انتهاء العشاء وصعودنا من المطعم في الفناء، في اليوم السابق وزعنا التذاكر، لم تعد مشرشرة أو مجانية، ثمن التذكرة أصبح مليما واحدا، مررنا على العنابر بالتذاكر، زغردت البنات بالفرح، فرشنا البطاطين على الأرض ليجلس عليها الجمهور، تجمع لدينا القروش فاشترينا بها لوازم مسرحية، أقنعة من الورق الكارتون، مساحيق لدهن الوجوه والشخصيات، لب أسمر وفول سوداني محمص للقزقزة أثناء العرض.
قامت صفية بدور البطلة التي تحمل سفاحا، هربت في ظلمة الليل، ترتدي ثوبا واسعا تخفي تحته بطنها المرتفع (حشونا بطنها بالملابس)، تجلس على حافة النيل حزينة تفكر في الانتحار.
كان المسرح مظلما تماما، أطفأنا كل الأنوار، علقنا البطاطين فوق النوافذ لتحجب ضوء القمر، أو نور الكهرباء في الطرقات الخارجية، أنفاس الجمهور مكتومة، في انتظار ما يحدث، كان الجنين في بطن الأم، صرخت الأم صرخة واحدة مكتومة، ثم انطلقت من بعدها صرخات المولود الجديد.
كانت فكرة هي التي تؤدي دور المولود من وراء الستار، مزقت صرخاتها الحادة سكون الليل مثل صفارات الإنذار.
فجأة انفتح باب العنبر واندفعت أبلة عزيزة الضابطة في يدها كشاف الضوء، لسوء حظنا كانت تقضي نهاية الأسبوع في المدرسة ولم تخرج كعادتها، سمعت صراخ المولود وهي تمشي في الممر أمام غرفتها، تصورت أن واحدة من البنات قد حملت سفاحا.
مظاهرات البنات
انقلبت الدنيا في مدرسة حلوان الثانوية للبنات، كان المفروض أننا بنات عذراوات لا نعرف شيئا عن «الجنس» أو الحمل السفاح، هذه الكلمة يجب ألا ننطقها في السر أو العلن باللغة العربية، وإن كانت مقررة علينا في إحدى الروايات فيمكن النطق بها باللغة الإنجليزية فقط، وداخل الفصل فحسب، وليس في عنبر النوم.
لم يكن لنا أن نعرف كيف يمكن للحمل الطبيعي أن يحدث، فما بال الحمل السفاح! كانت هناك حصة اسمها «رعاية الطفل»، تدخل ضمن المقرر في مدارس البنات فقط، في الحصة نهبط إلى بدروم المدرسة حيث غرفة كبيرة بها حوض يشبه البانيو، يمتلئ بالماء، وطفل من البلاستيك الأصفر تمسكه أبلة حكمت من تحت إبطيه وتشرح لنا كيف نحميه دون أن يغرق في الماء، ودون أن يدخل الصابون في عينه، لم تكن تشرح لنا كيف يأتي هذا الطفل إلى العالم. أبلة «حكمت» كانت تعطينا حصة أخرى تحت عنوان «الصحة والأحياء»، تشرح لنا كيف يحدث التلقيح بين الزهور والنحل والديدان، أما التلقيح عند الإنسان فكان من المحرمات، ومحظور علينا أن نعرفه.
في مكتب الناظرة الشبيهة بنبوية موسى وقفت أرتعد، في يدها تذكرة مكتوب عليها: مسرح الحرية يقدم صرخة في الليل، تأليف نوال السعداوي، دليل الجريمة المادي تلوح به في وجهي، عيناها جاحظتان من وراء النظارة كعيني طنط فهيمة، رذاذ لعابها يتناثر فوق وجهي من شدة الغضب. - واحدة طويلة زيك طول الباب تعمل حاجة فظيعة بالشكل ده! - يا أبلة الناظرة، دي مجرد قصة خيالية. - عاوزاها تبقى حقيقة؟! أما بنت قليلة الأدب بصحيح! وأصدرت الناظرة قرارا بنقلي من القسم الداخلي إلى القسم الخارجي وخصم ثلاث درجات من السلوك والأخلاق، تدخلت مس سنية لتخفيف العقاب، قالت للناظرة إني موهوبة. «يعني إيه يا ست سنية؟ الأخلاق عندي أهم من أي حاجة، دي بنت جريئة وممكن تفسد كل بنات الداخلية!»
لم تغير الناظرة قرارها إلا بمجيء ولي الأمر؛ أي أبي. عدت إلى مكاني في القسم الداخلي، إلا أن مسرح الحرية مات ، أصبحنا نكتفي بالغناء في ليالي الجمعة، نحن واقفات في النوافذ مثل السجينات، نسهر على ضوء القمر، نسترجع الذكريات الماضية، أو نحلق في السماء مع أحلام المستقبل. نتجمع حول فاطمة وهي تغني: «هو صحيح الهوى غلاب! ماعرفش أنا»، نرد عليها في كورس جماعي، قد نهبط إلى غرفة الموسيقى، تدق فاطمة على البيانو، وتلف صفية الحزام حول وسطها وترقص، نشاركها الرقص حتى يتصبب منا العرق.
لم تكن سامية تشترك في هذه الألعاب، تمط شفتيها المطبقتين في امتعاض. «البلد في أزمة، وأنتم نازلين لعب؟!»
كانت سامية تشعرنا دائما بالإثم، كأنما نحن السبب في احتلال الإنجليز لمصر، أو فساد الملك، أو انتشار الثالوث المشهور حينئذ: «الفقر والجهل والمرض»، أطلق عليها العنبر اسم بعبع أفندي.
نمت الصداقة بيني وبين فكرية، الرسم عندها مثل الكتابة عندي، أقرأ لها ما أكتب وتريني لوحاتها، في الليل بعد أن تنطفئ الأنوار تقرب سريرها من سريري وتهمس في أذني: «حادخل كلية الفنون الجميلة وأبقى رسامة مشهورة.»
حققت فكرية النصف الأول من حلمها، بعد التوجيهية دخلت الفنون الجميلة، ثم انقطعت أخبارها عني خمسة عشر عاما، كنت أبحث عن اسمها بين الرسامات دون جدوى. في صيف عام 1961 كنت على شاطئ البحر في الإسكندرية ألعب مع طفلتي الصغيرة «منى» في المياه الزرقاء، أحملها فوق الأمواج وأسبح بها كما كانت أمي تفعل معي وأنا في الرابعة من العمر، لمحت فكرية فوق الرمال حافية القدمين تمسك حذاءها في يدها، عيناها السوداوان شاردتان، وشفتها السفلية ممطوطة إلى الأمام بازدراء لكل ما في الكون. ابتسمت حين لمحتني داخل المياه، أشرقت أسنانها البيضاء في الشمس، تعانقنها بحرارة الصداقة بعد غيبة خمسة عشر عاما، سألتها عن الرسم، انطفأت بسمتها وهربت عيناها بعيدا وهي تمط شفتها: «أصلي أنا اتجوزت.» ثم أفلتت منها ضحكة قصيرة ساخرة: «على العموم جوزي فنان كبير، وهو يرسم لنا احنا الاثنين.» ضحكت: «يعني زي غاندي؟» سألتني ما علاقة غاندي بالرسم؟ حكيت لها عن غاندي حين سافر إلى قصر ملك الإنجليز في لندن، وسأله الملك حين رآه يدخل عليه شبه عار: لماذا لم ترتد ملابسك؟ فرد عليه غاندي: أنت ترتدي لنا نحن الاثنين!
فاطمة ذات الصوت الجميل الذي كان يفرحنا ويبكينا كان لها حلم واحد، أن تصبح كوكب الشرق مثل أم كلثوم، دخلت كلية الآداب بعد الثانوية العامة، تزوجت أستاذها، يكبرها بعشرين عاما، سافرت معه إلى الكويت أو السعودية، انقطعت عني أخبارها أكثر من ربع قرن، ثم فجأة في خريف 1975 جاءني صوتها عبر أسلاك التليفون، قرأت عني شيئا في الصحف، فراحت تبحث عني حتى عرفت رقمي، صوتها كان ضعيفا حزينا؛ فهي طريحة الفراش وتطلب رؤيتي.
في مدينة الأساتذة بضاحية الدقي وجدت الفيلا الأنيقة تحوطها حديقة كبيرة، وكلب ضخم يشبه الوولف في بيت جدي شكري بيه، قادني السفرجي يرتدي قفطانا وصديريا أحمر إلى الأنتريه ثم الصالون الواسع، تبرق فيه الثريات والتحف ونباتات الظل، صعد بي عبر ممرات وسلالم رخامية إلى الدور الثاني حيث غرفة النوم.
فوق سرير يشبه سرير الملكة نازلي (رأيته في طفولتي في إحدى الصور)، رأيت فاطمة راقدة، بشرتها بيضاء بلون الملاءة، زوجها غائب في بلاد النفط يجمع المال، تزوج امرأة أخرى في الكويت أو السعودية، تراكم الحزن داخل الكيس في الثدي فوق القلب، أشارت بإصبعها الشاحب الناحل إلى الألم: «هنا يا نوال، هاتي إيدك، الدكتور قال إنه ورم ليفي حميد، لكن أنا حاسة إنه بيكدب علي، يا ريت تقولي الحقيقة.»
كان ورما سرطانيا خبيثا من الدرجة الثالثة، كذبت عليها كما كذبت على أمي وخالتي نعمات وكل المرضى بهذا الداء، لعنت اليوم الذي دخلت فيه كلية الطب وأصبحت طبيبة، لا أرى الناس إلا في لحظات المرض أو الموت، عيون منطفئة يطل منها الحزن، عيناها كانتا بلون العسل المصفى ، يتألق صوتها وهي تغني: «افرح يا قلبي»، كانت تحلم بأن تكون كوكب الشرق، لكنها تزوجت، وبنى لها زوجها مقبرة من الرخام، حفر عليها اسمه (وليس اسمها): «حرم الأستاذ الدكتور فلان.»
ماتت صديقتي فاطمة وهي في الخامسة والأربعين من عمرها كما ماتت أمي، وراح اسمها في العدم، لم تفعل بحياتها شيئا سوى الانتظار، داخل الصالون الفخم واجترار حلم ضائع، صديقتي الثالثة سامية كانت صامتة مطبقة الشفتين، ترمقنا بعين صفراء حين نتكلم على أحلامنا تحت ضوء القمر أو ذكريات الحب الأول، هي لا تؤمن بالحب أو الأحلام أو الخيال، تمط شفتها في امتعاض. «البلد في أزمة وانتم عايشين في الخيال! دي رومانتيكية طفولية!» تمط فكرية شفتها السفلية في وجهها، تخرج لها لسانها، تتغطى سامية بالبطانية من قمة رأسها إلى قدمها. «نام يا بعبع أفندي، نام واتغطى من الهوا!» تقول لها فكرية وتضحك حتى تدمع عيناها، تطل سامية من تحت الغطاء، تخرج لها لسانها ثم تتغطى من جديد، لا تترك ثغرة واحدة لدخول الهواء، لم نكن نعرف كيف تتنفس، كانت تنام بعمق طول الليل، لا تتقلب من جنب إلى جنب، تتكور كالجنين حول نفسها، في الصباح الباكر تتسلل من الفراش دون صوت، تمشي بحذر فوق الأرض، تتكلم بصوت خافت مملوء بالحذر.
في يوم ارتفع صوتها عن المعتاد وهي تقول: «بكرة فيه مظاهرة كبيرة أوي، وكل المدارس حتخرج، ولازم مدرستنا تشارك في المظاهرة الوطنية.» «المظاهرة الوطنية؟!»
هاتان الكلمتان لهما رنين في أذني بصوت أبي، الطفلة المبهورة الجالسة في الفرندة البحرية بالإسكندرية، الأب الشجاع العملاق يضرب الأعداء، رصاصة تطير في الجو وتدخل صدره، ينزف الدم الأحمر فوق أسفلت الشارع، أهب من نومي مذعورة، أمشي على أطراف أصابعي، أتوقف عند باب الغرفة حيث ينام أبي وأمي، وقد يكون الباب مواربا فأسمع شخير أبي، أدرك أنه حي، وأن الأمر لم يكن إلا حلما. أعود إلى سريري لأنام، فيعود إلي الحلم، إلا أنني أنتقم لموت أبي، أرتدي درعا لا يخترقه الرصاص، أمسك السيف وأضرب الأعداء مثل جان دارك ، السيف في يدي يشبه رشاشة «الفلت»، الأعداء يتساقطون على الأرض كالذباب، يخف جسدي ويطير في الجو كالفراشة، أحرك ذراعي بدل الجناحين، يتحول الهواء إلى مياه زرقاء، أسبح في البحر كالسمكة، ترتفع الأمواج إلى السماء ثم تهبط بي إلى القاع، تمتد ذراعا أمي نحوي وترفعني فوق السطح. «المظاهرة الوطنية بكرة يا بنات.»
هذا هو صوتي المشتعل حماسا وأنا أمر على العنابر، الدم يرتفع من صدري إلى رأسي ثم يهبط إلى قدمي، دم ساخن ملتهب، أحمل الشعلة في جسدي وأمشي حافية في الممرات البلاط، أفتح أبواب العنابر الواحد تلو الآخر، وأهتف بالبنات: «بكرة المظاهرة يا بنات.»
صوتي يشبه صوتي حين كنت أقول: «بكرة المسرحية يا بنات.» العالم يبدو في عيني كالمسرح الكبير، التذاكر أصبحت منشورات، قطع مستطيلة من ورق الكراريس كتبنا عليها بالحبر الأحمر: الجلاء بالدماء. كان في عنبرنا عشر نوافذ كبيرة على شكل صفين، صف يطل على الممر الداخلي، وصف يطل على السماء والصحراء.
تلك الليلة السابقة على المظاهرة وقفنا في النوافذ، نشتغل على ضوء القمر «البادج» قطعة مربعة من القماش الأبيض، طرزنا عليها بالخيط الحريري الأحمر حروف الكلمتين «الجلاء بالدماء»، اشتغلنا طول الليل، لم تتخلف واحدة منا إلا سامية.
إلى جواري في النافذة وقفت فكرية وفاطمة وصفية منهمكات في التطريز، نسمة الليل في حلوان دافئة حانية كأنامل الأم، يجتاحنا الحنين إلى الأهل، أضواء الشارع من بعيد تقود إلى محطة القطار، النجوم في السماء تبدو لنا أقرب من الشارع، السور الحجري العالي يحوط الفناء الواسع، الصحراء ممدودة حتى الأفق، رائحة العين الكبريتية تسري مع الهواء، ثكنات الإنجليز العسكرية وراء تلال الرمال رابضة كالوحوش تنتظر الانقضاض. الليل في حلوان صامت إلا من صوت مدفع يطلق، أو بضع رصاصات يعقبها نباح الكلاب، أو وقع أقدام الجنود الإنجليز بأحذيتهم الحديدية، في أيديهم كشافات، يسلطون الضوء على نوافذ المدرسة، يغازلون البنات بأصوات قبيحة، نهتف في نفس واحد: الجلاء بالدماء.
على مرمى البصر كانت الأشجار الباسقة، من ورائها الحديقة اليابانية، الهواء في حلوان جاف رقيق، يملأ صدورنا بالشجن العميق، تنوعه عيوننا في خضم الكون اللانهائي، نستشعر الوحشة والغربة، نسند رءوسنا فوق حافة النافذة، تتماسك أيدينا، نستأنس بوجودنا معا، بحرارة أجسامنا وتآزرنا ضد العالم المجهول، يختلط في خيالنا وجه الأم بوجه الأب بوجه الرب، يذوب الحب الأول في حب الوطن، ننشد معا: بلادي بلادي لك حبي وفؤادي. ليالي حلوان غير تلك الليلة عام 1946م، عقارب الساعة تقفز من الثانية إلى الرابعة، أوشك الفجر على الطلوع، واقفات في النوافذ نطرز تحت ضوء القمر البادج الذي سوف نعلقه في المظاهرة على صدورنا ناحية اليسار فوق القلب.
سامية هي الوحيدة في العنبر التي نامت طول الليل، لم تكن تؤمن بالسهر في ضوء القمر، عملية التطريز في نظرها عملية بطيئة، كتبت بالحبر الأحمر «الجلاء بالدماء» فوق البادج وعلقته فوق صدرها في نصف دقيقة، كانت تؤمن بالأشياء العملية والنتائج السريعة، تبدأ حديثها دائما بكلمة الواقع أو حتما، «الواقع يا بنات ان النوم أفيد من اللي انتو بتعملوه ده!» «حتما يا بنات أبلة عزيزة حتطب عليكم والليلة مش فايتة على خير.»
لم يكن لسامية صديقات في العنبر إلا أنا، كان لانطباقة شفتيها وصمتها نوع من الغموض يجذبني، ولأن سريرها كان مجاورا لسريري، أصبحنا نتبادل الحوار: «إيه فايدة الخيال يا نوال، إيه فايدة القصص الخيالية؟ البلد في أزمة وانتي نازلة قراية روايات.»
في صوتها نبرة لوم وتأنيب، كلماتها تملؤني بالإثم، كأنما أنا أخون الوطن لأني أحب الأدب والفن، وأقول لها: إن الخيال عندي ضروري كالهواء أتنفسه. تمط شفتيها دون اقتناع، لم يكن لي أن أقنعها بالكلمات، كانت اللغة كالحاجز تقف بيننا، لديها عبارات معقدة تقف في الحلق من الصعب فهمها: «لازم أشرح لك الديالكتيكية يا نوال»، كانت هذه الكلمة «الديالكتيكية» تصيبني بالاكتئاب، إن سامية عاجزة تماما عن أن تشرحها لي، حين تسمعها فكرية تنفجر بالضحك. قبل أن ننام كل ليلة تطل «صفية» علينا من سريرها وتهتف: «تصبحوا على خير يا بنات، وعلى الديالكتيكية!» نخفي رءوسنا تحت الأغطية ونشهق بالضحك، تزم سامية شفتيها بازدراء، تغطي نفسها من الرأس إلى القدمين، وهي تصيح: «الواقع يا بنات انكم جهلة، وحتما مستقبلكم ضايع!»
لم يغمض لنا جفن تلك الليلة، دق جرس الصباح، ومن بعده جرس الفطور، قفزنا فوق السلالم جريا نتسابق في الدخول إلى المطعم، نجلس على الدكة الخشبية الطويلة، نتشمم الخبز المحمص واللبن الحليب، نعود أطفالا نصرخ من الفرح.
ثم تجمعنا في الفناء الواسع، نرتدي التايير الرمادي يعلوه البادج بالحروف الحمراء البارزة: الجلاء بالدماء. انضمت إلينا تلميذات القسم الخارجي، ترامى إلينا أصوات الهتافات في الشارع من بعيد. حلوان الثانوية للبنين خرجوا، والمدارس الابتدائية أيضا، ارتفعت صيحات البنات: لازم نخرج في المظاهرة، احنا مش أقل من تلامذة الابتدائي! صعدت واحدة فوق أكتاف الأخريات، وراحت تهتف: الجلاء بالدماء! ورددت وراءها المئات من المتجمهرات في الفناء: الجلاء بالدماء! أضافت واحدة: يسقط الإنجليز! تسقط الحكومة!
أصدرت الناظرة أوامرها، انغلقت البوابة الخارجية الكبيرة بالسلسلة الحديدية والقفل، انتشرت في الفناء الضابطات في أيديهن العصا، مثل رعاة الغنم يضربن النعاج على أردافهن ليدخلن الحظيرة.
إلى أن الهتافات ألهبت الحمية الوطنية، لم تعد النعاج نعاجا، تحولت إلى بشر تفور دماؤهن، وأصواتهن تنشد:
مصر العزيزة لي وطن، وهي الحمى وهي السكن، وهي الفريدة في الزمن، وجميع ما فيها حسن. هذه الكلمات محفورة في ذاكرتهن منذ المرحلة الابتدائية.
اندفعت البنات نحو البوابة الخشبية، مئات الأجساد الفتية القوية في أول الشباب تحولت إلى جسد واحد يضرب الباب، السلسلة الحديدية ومعها مفاصل الباب تئن من تحت الثقل، مئات الأذرع تحولت إلى ذراع واحد تلوي الحديد، بالغضب المتراكم منذ الولادة تلويه، بالحلم المكبوت منذ الطفولة، والحب المحبوس بين طيات القلب، بكل الكراهية لهذه البوابة ذات السلسلة الحديدية، بكل الأمل في الحرية وبكل اليأس أيضا.
كنت واحدة من هؤلاء البنات، جسدي أصبح جزءا من جسدهن، لا شيء يفصلني عنهن وإن كان هو الموت. في هذه اللحظات ينطلق المارد الراقد تحت العقل الواعي، يسمونه «اللاوعي»، قد يكون أكثر وعيا وأقرب إلى الفطرة الطبيعية، وإلا فمن أين تأتيه هذه القوة؟ كنت أدرك تماما قوتي الجديدة، أصابعي الحديدية تلوي السلسلة الصدئة حتى انكسرت، سقط القفل الحديدي على الأرض، داسته الأقدام، مئات الأقدام، وانفتحت البوابة الضخمة على مصراعها بصوت يشبه الانفجار، وانهمرت أجساد البنات إلى الخارج مثل الشلال الهادر: الجلاء بالدماء!
في الشارع انضم إلينا التلاميذ والمارة وأصحاب الدكاكين، عند محطة القطار أو دخول السيرك أو شراء اللب والفول السوداني!
جلست بجوار النافذة والقطار ينطلق بنا دون أن يقف في المحطات، كل شيء تغير في العالم، حتى زرقة السماء وتلال الرمال في الصحراء، أصبحت الزرقة أشد زرقة من مياه البحر، والرمال بلون الذهب السائل تحت الشمس، صدري يعلو وينبض تحته قلب تضخم بفرحة الحرية، كأنما أنا أمسك حريتي بيدي كما أمسك حافة النافذة التي تطير معي، والهواء يطير شعري، أملأ به صدري، وأصوات الهتافات داخل القطار تدوي في أذني: تحيا مصر حرة، يعقبها الأناشيد: بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي، والعجلات تجري فوق القضبان بالإيقاع ذاته، والقطار أيضا يطلق صفارته كصوت المزمار الحاد أو الناي المنفرد يتمشى مع اللحن.
هبطنا من القطار في محطة باب اللوق، غرقنا في بحر من البشر، كأنما خرجت مصر كلها ذلك اليوم، حكومة وشعبا، موظفون بالبدل والطرابيش، وتلاميذ المدارس بالشورت القصير حتى الركبتين، بنات المدارس بالمرايل الدمور أو الكتان أو تيل المحلة، نساء بالملاءات اللف والجلابيب السوداء، عمال المصانع بالبدل الزرقاء، تمورجية، ممرضات بالملابس البيضاء، فلاحون بالفئوس، وأطفال تحملهم أمهاتهم فوق الصدور، مرضى فوق العكاكيز أرجلهم مربوطة بالشاش والجبس.
أنهر من البشر تصب من الحواري والشوارع الجانبية في الميادين، واكتظت النوافذ والشرفات وأسطح البيوت بالأجساد والأشجار أيضا، ثمانية وأربعون عاما مرت منذ ذلك اليوم، إلا أن الصورة محفورة في ذاكرتي، المظاهرة الوطنية الأولى في حياتي، لأول مرة أعرف معنى الوطن، يولد الحب شلالا هادرا يكتسح الحواجز بين الحلم والحقيقة، بين الجسد يتلاشى الفاصل بين الحياة والموت واللذة والألم، يحلق الإنسان في الجو، أو يسبح في جوف البحر كالأسماك، يفعل أي شيء وكل شيء.
لم أعرف من قبل هذه السعادة الجامحة المتدفقة بلا حدود، عرفتها من بعد في مظاهرات أخرى، وفي اللحظات التي التقت فيها عيني لأول مرة بعيني طفلتي أو طفلي، يتدفق الشلال المكبوت منذ العبودية، منذ أصبحت الولادة دنسا يستوجب التعميد، والوطن أرضا يملكها الأسياد دون العبيد.
كنت أتلفت حولي في ذهول، الميدان الواسع مفروش بأجساد البشر، أهو ميدان الإسماعيلية أو عابدين؟! أصوات الهتاف مثل دقات الطبل تدوي تحت ضلوعي: الجلاء بالدماء. يسقط صدقي يسقط بيفن، لم أكن أعرف من هو صدقي ومن هو بيفن؟
وقفنا صفوفا صفوفا، إلى جواري في الصف كانت فكرية وصفية وفاطمة وسامية، رأيت ثلاثة رجال يسيرون نحونا يرتدون بدلا رسمية داكنة اللون، عضلات وجوههم مشدودة، مشيتهم عسكرية، سمعنا أحدهم يقول: عاوزين مندوبة عن مدرستكم.
كانت المرة الأولى أسمع فيها كلمة مندوبة، التفت ناحية سامية؛ فهي التي تعرف معنى هذه الكلمات، لم أجدها، اختفت سامية في غمضة عين، فص ملح وذاب.
أين راحت سامية؟! كانت هنا منذ لحظة! عاوزين مندوبة عنكم، يلا اختاروا واحدة بسرعة. وحملقنا في وجوه بعضنا بعضا في صمت، لا نعرف ماذا نفعل، «نوال المندوبة بتاعتنا.» أكان صوت صفية أم فكرية أم واحدة أخرى من البنات؟ «اتفضلي معانا يا آنسة نوال.»
آنسة؟ لأول مرة يقترن اسمي بلقب آنسة، في الصحف كنت أقرأ عن الآنسة مي زيادة والآنسة سيزا نبراوي، في البريد كانت تأتي الرسائل إلى طنط فهيمة باسم: الآنسة فهيمة شكري.
كأنما كبرت في هذه اللحظة عدة سنوات، تحولت من تلميذة في ثالثة ثانوي إلى آنسة، شددت قامتي ومضيت معهم، قامتي طويلة تقارب قامتهم، يدبون بأحذيتهم فوق أسفلت الميدان، قدماي تدبان الأرض ورأسي مرفوع في زهو كأنما بلغت سن الرشد وأصبحت الآنسة المندوبة. الضربات تحت ضلوعي تؤكد أني مرعوبة، إلى أين يأخذني هؤلاء الرجال؟ فوق صدري تلمع الحروف الحمراء: الجلاء بالدماء. صوتي مبحوح من الهتاف، أفتح فمي لأسأل أين نذهب، صوتي لا يطلع كما يحدث في الأحلام، ذاب الواقع في الخيال وأنا أدخل معهم المبني الفخم، أوهو قصر الملك أم هو السجن؟ بدت اللحظة خارج الزمان والمكان، كأنما عشتها من قبل في النوم في السادسة من العمر، وجدت نفسي داخل بهو ضخم تغطيه السجاجيد الحمراء السميكة، النجف الكريستال تتدلى من السقف، الصور الذهبية فوق الجدران المنقوشة، تطل منها وجوه الملوك والسلاطين. توقفنا عند منضدة كبيرة مذهبة الحواف، من فوقها كتاب حروفه من ماء الذهب، يسمونه سجل التشريفات، طلبوا مني أن أكتب اسمي واسم أبي، تصورت أن الحكومة سوف تقبض عليه، تودعه السجن أو تضربه بالرصاص، وأنا ليس أمامي إلا الطرد من المدرسة والعودة إلى البيت في منوف، ربما كان السجن أفضل أو الرصاص، ألهذا السبب هربت سامية؟!
في قطار العودة إلى حلوان جلست مطرقة الرأس بين الزميلات نتبادل النظرات في صمت دون أن نفهم شيئا، أيتمخض الجبل فيلد فأرا؟! انتهت المظاهرة الضخمة إلى لا شيء؟! مجرد تسجيل أسمائنا في سجل التشريفات!
رأيت الدموع في عيني صفية تنشج بصوت مكتوم: «مالك يا صفية، حصل إيه؟!» أبدا يا نوال، مفيش حاجة، افتكرت أخويا الكبير، ماله أخوكي الكبير؟ أبدا ولا حاجة، هي فين سامية يا نوال؟ مش عارفة راحت فين؟ بصراحة يا نوال الفار بيلعب في عبي، يعني إيه يا صفية؟
لأول مرة أسمع عبارة: «الفار بيلعب في عبي.» تصورت أن فأرا دخل تحت ملابسها من تحت المقعد في القطار، ضحكت صفية حتى امتلأت عيناها بالدموع، ثم راحت تبكي من جديد: «انتي على نياتك أوي يا نوال، لكن سامية دي مية من تحت تبن.»
في المدرسة أصبحت أنا المتهمة الوحيدة بإحداث الشغب، كلمة الشغب بلغة الناظرة تعني المظاهرة الوطنية، سامية غابت عن المدرسة عدة أيام، لم تكتب اسمها واسم أبيها وجدها في اللوح المحفوظ، لم تمر معي في العنابر توزع المنشورات.
في مكتب الناظرة وقفت أمامها أنتفض بالخوف، وهي تنتفض بالغضب: «أنا عملت تحقيق مع البنات، وكلهم اعترفوا انك اللي حرضتيهم على الشغب!» أردت أن أفتح فمي وأقول أنها مظاهرة وطنية، لكن صوتي لم يخرج، ربما أصابني التهاب في الحنجرة من طول ما هتفت: تسقط الحكومة . ها أنا أسقط وليس الحكومة، وليست سامية المحرضة الأولى، هي التي جاءت وقالت: بكرة المظاهرة. أوقعتني سامية في الفخ ثم تركتني، وهؤلاء البنات كيف يعترفن باسمي للناظرة؟ ألم نشترك كلنا في المظاهرة؟ صوت الناظرة الغاضب يدوي: «تقدري تقوليلي من حرض البنات غيرك؟ فيه واحدة تانية حرضت البنات غيرك؟ قوليلي اسمها حالا عشان أعاقبها.»
أطبقت شفتي وأنا واقفة مطرقة الرأس، لم أنطق اسم سامية، لمحت الناظرة بطرف عين، عيناها حمراوان بلون وجوه الإنكليز، صوتها خشن كأصواتهم حين يصرخون من ثكناتهم في الليل، كنت أكره سامية في تلك اللحظة، لكن كراهيتي للناظرة كانت أشد، ربما لهذا السبب لم أعترف لها بشيء.
مدت الناظرة ذراعها الطويلة، وخلعت عن صدري البادج، داست عليه تحت قدمها، رأيت الحروف المطرزة بضوء القمر بلون الدم الأحمر تنهرس تحت حذائها، مدت ذراعها مرة أخرى وخلعت عني جاكت التايير، نفذ الهواء الصاقع من تحت القميص الأبيض، أصبحت أرتعد بالبرد والخوف معا، أمسكت المسطرة في يدها اليمنى، خدوش السلسلة الحديدية فوق أصابعي، سقطت فوقها الضربات بحافة المسطرة كالسكين.
كانت ترفع المسطرة عالية كأنما تضرب السماء ثم تهبط بها فوق أصابعي، تضغط فكيها بالغيظ وتصطك أسنانها بصوت يشبه اصطكاك المسطرة بمفاصل عظامي، أنفاسها تلهث مثل صفارة القطار أو بخار مضغوط يندفع من زجاجة مفلطحة عنقها ضيق.
كانت قصيرة القامة، مربعة الجسم، تشبه البطة المزقمة، عيناها جاحظتان من وراء النظارة البيضاء السميكة، تشبه طنط فهيمة ونبوية موسى وكل الناظرات، في كعب حذائها قطعة من الحديد على شكل حدوة الحصان تدق بها الأرض. لم تكن ترتدي السواد مثل نبوية موسى، إلا أن ملابسها كانت قاتمة اللون، وجهها قاتم، صوتها قاتم مثل كل الناظرات، ابتسامة واحدة لم أرها على وجه واحدة من هؤلاء النساء، الجبهة عريضة تتوسطها تكشيرة دائمة غائرة في اللحم.
أكان القانون يفرض عليهم هذا الشكل؟! هذا الجسم المتخشب مثل الصندوق المربع المغلق؟ رغم المكياچ أو المساحيق أو النظارة السميكة، هناك شيء يطل من فوهة الصندوق، أو الثقبين في الرأس، شيء يشبه البخار المضغوط، عاطفة ما شديدة العنف، مخزونة كالديناميت، تدمر الواحدة منهن من الداخل، وفي الخارج يظهر في عينيها بلون الدم الأحمر، يطل المكبوت من وراء النني الأسود الغارق في بياض رمادي.
صوت الناظرة يدوي في رأسي في اليقظة والنوم: «اعتبري نفسك مرفودة من المدرسة من النهاردة.» كانت المدرسة «رغم الناظرات» هي الطريق الوحيدة أمامي لتحرير نفسي، وكان تحرير نفسي أهم عندي من تحرير الوطن؛ فالوطن مجرد كلمة نهتف بها، لكن نفسي هي جسدي، هذا اللحم الحي الذي يضرب بحافة المسطرة، هذا الدم الأحمر الذي يسيل من أصابعي المتورمة، مفاصل عظامي التي تئن بالألم.
كانت الناظرة تركز الضربات فوق يدي اليمنى التي أكتب بها، ربما أرادت أن تفقدني القدرة على الكتابة، هل اعترف لها المدرس أني كتبت قصة وصفت فيها السماء بأنها غاشمة؟!
لم يكن للناظرة أن ترفدني بدون حضور ولي الأمر، جاء أبي إلى المدرسة، رأيته يدخل من الباب بقامته الفارعة ورأسه المرفوع، خطوته فوق الأرض ثابتة وقوية، وقدمه كبيرة، كانت له مشية خاصة، ينقل القدم بحركة هادئة، يعرف بالضبط أين يضع قدمه الثانية، تستقر بكل ثقلها على الأرض، كأنما لا يخشى أحدا، لا الملك ولا الحكومة ولا الناظرة، لا يخشى إلا الله.
جريت نحوه أحتمي فيه، ربت على كتفي بيده الكبيرة الحانية: «ما تخافيش يا نوال، تعالي معايا.» سرت خلفت أكاد أمسك ذيل بدلته كما كنت أمسك ذيل أمي في الطفولة، اختفيت وراء جسمه الكبير وهو يدخل إلى مكتب الناظرة.
نهضت واقفة فوق قدميها ترحب به في احترام: «أهلا سعداوي أبيه، اتفضل.» جلس أبي وملأ المقعد، أشعل سيجارة وراح يتحدث في السياسة: «معاهدة صدقي بيفن لا تحقق أي شيء، لا الجلاء ولا الاستقلال، إنها تكرس الاحتلال البريطاني يا أستاذة عزيزة.» «أيوة يا سعداوي بيه، لكن سعادتك في الوزارة وعارف إن الحكومة مانعة المظاهرات منعا باتا.» «الحكومة على وشك السقوط يا أستاذة عزيزة، بعد المظاهرة الكبيرة دي لازم حكومة صدقي تسقط، البلد كلها شاركت في المظاهرة، حتى تلاميذ الابتدائي والنساء وربات البيوت.» «لكن لازم يكون فيه نظام واحترام للقوانين، تصور يا سعداوي بيه إن بنتك دي اللي قاعدة عاملة زي القطة المغمضة حرضت البنات على كسر باب المدرسة والخروج إلى الشارع، يبقى ناقص عليهم إيه!» «دي كانت مظاهرة وطنية، ونوال بنتي أنا عارفها كويس، لا يمكن تحرض البنات على شيء سيئ، ثم إنها من التلميذات المتفوقات في المدرسة.» «لكن التفوق شيء والتحريض على الشغب شيء تاني، وأنا عندي أمر من الوزارة وعارف كل حاجة يا أستاذة عزيزة، الموظفون الكبار في الوزارة كانوا كلهم مع المظاهرة، وأنا جاي دلوقتي من عند فهمي بيه وكيل الوزارة.»
شيء كالسحر في كلمة فهمي بيه جعل وجه الناظرة يتغير، صوتها أيضا تغير وأصبح ناعما: «سعادتك تعرف فهمي بيه؟» «أيوة، كان زميلي في كلية دار العلوم، قريب السنهوري، علشان كدة رقوه قبل غيره.»
دقت الناظرة الجرس، طلبت فنجان قهوة لأبي، سألتني بصوت ناعم: تشربي إيه يا بنتي؟ حلقي جاف مشروخ، حاولت أن أطلب كوب شاي دافئ باللبن، إلا أن صوتي لم يخرج. •••
أصبحت في الخامسة الثانوية عام 1947م، إنه عام الكوليرا، في إجازة الصيف أصبح بيتنا في منوف قلعة محصنة ضد الوباء، النوافذ كلها يسدها نوع من السلك ذي الثقوب الدقيقة، لا ينفذ منها الذباب أو الناموس، صفائح قتل الحشرات تراكمت في ركن المطبخ من التوكس إلى الفلت وال (د. د. ت). زجاجات السوائل المطهرة من السبرتو الأبيض، إلى الليزول والبرمنجات.
سافر أبي إلى القرية وعاد ومعه ستي الحاجة، كانت الكوليرا تحصد الفلاحين والفلاحات كما يحصد وباء «الشوطة» الفراخ، أراد أبي أن يحمي أمه على الأقل من هذا الوباء، لم تكن ستي الحاجة تستطيع أن تنطق كلمة الكوليرا، تقول عنها «الكوريره»، نضحك عليها وتضحك معنا حتى تطفر الدموع من عينيها، تمسحها بطرف طرحتها السوداء ثم تقول بصوت مكتوم: عاوزة أرجع الكفر لبنتي زينب، خايفة عليها من الشوطة، وتسألها أمي: «اشمعنى زينب يا حجة مبروكة؟!» «علشان هي أحسن بناتي، وقلبها أطيب قلب في الدنيا، والكوريره مش بتاخد إلا الناس الطيبين.» وتعود ستي الحاجة إلى البكاء المكتوم، كأنما ابنتها زينب ماتت بالكوليرا.
قبل أن تشرق الشمس في أحد الأيام رأينا ستي الحاجة واقفة على قدميها داخل جلبابها الأسود، ما إن استيقظ أبي من النوم حتى قالت: «خدني يا ابني على الكفر، قلبي بياكلني طول الليل على زينب، خايفة يكون جرى لها حاجة!» ارتدى أبي بدلته وسافر معها إلى القرية، عاد بعد يومين شاحب الوجه أحمر العينين، أخته زينب ماتت بالكوليرا، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة كانت تهذي بعبارة واحدة: هاتوا أمي أشوفها! وصلت ستي الحاجة بالضبط في اللحظة السابقة للنهاية، فتحت زينب جفونها ورأت وجه أمها، انفرجت شفتاها عن ابتسامة، وامتلأت عيناها بالضوء، ثم ماتت.
بكت عليها القرية الموبوءة بالكوليرا، حصد الوباء عددا من النساء والرجال في عائلة أبي، إلا أن الحزن على عمتي زينب كان أكبر حزنا؛ فهي أقرب الشقيقات إلى أبي، وأحب البنات إلى ستي الحاجة، فارعة القامة مثلها، بشرتها خمرية اللون، عيناها خضراوان بلون البرسيم، أنجبت ولدا اسمه «نجاح»، وبنتا رضيعة ماتت في حضنها وهي تموت.
تحولت ستي الحاجة فجأة إلى امرأة عجوز، لم تعد تضحك كما كانت، وامتلأ وجهها بالتجاعيد، تجلس على عتبة الدار، في حضنها «نجاح» ابن ابنتها زينب، تنظر في عينيه الخضراوين بلون عيني أمه الميتة: «يتيم يا عين أمه، ربنا ياخد الكوريره واللي جاب الكوريره.»
في منوف حصدت الكوليرا بعض الناس، أصبحت أمي مثل ضابط الجيش في البيت، تمسك الرشاشة كأنما هي مدفع تقتل الذباب، إنها الحرب أعلنتها أمي على الوباء، تغلي الماء قبل أن نشربه، تغسل الخضروات وتنقعها في محلول البرمنجات، تسخن الخبز فوق النار لتقتل الجراثيم، لا يشتري أبي شيئا دون أن تطهره أمي، لا يعود أبي من الخارج دون أن يخلعه ملابسه وتنقعها أمي في المحلول المطهر، ما إن يدخل أحد منا إلى المرحاض أكثر من مرة في اليوم حتى ينتابها الذعر.
كان الراديو يذيع التعليمات للناس، تنصت أمي إليها بانتباه أو تدونها في النوتة، أعراض الكوليرا هي: الإسهال مع القيء، إفرازات المريض شديدة العدوى. الإبلاغ فورا عن أي مريض لعزله في المستشفى.
عشنا شهورا لا نسمع إلا أنباء الموتى، بعد انتهاء الوباء لم تكف أمي عن عمليات التطهير والوقاية. حتى اليوم، ما زلت أسخن الخبز على النار كما كانت أمي تفعل في منوف منذ سبعة وأربعين عاما، وما زلت أذكر وجه أبي الشاحب وعيناه الحمراوين حين عاد من الكفر، وصوت ستي الحاجة وهي واقفة عند الباب داخل جلبابها الأسود: «قلبي بياكلني طول الليل على زينب.» كيف أحست الأم أن ابنتها تموت رغم المسافة البعيدة، ولماذا لم تذكر من بناتها الخمس إلا زينب، وهي الوحيدة فيهن التي ماتت بالكوليرا، وكأنما سمعت نداءها في الليل عبر الأثير فسافرت إليها وأدركتها قبل النفس الأخير.
كان أبي يسمي ذلك «تلبياتي»، وهي القدرة الإنسانية على الإحساس بالآخرين رغم المسافة البعيدة، كان لجدته الغزاوية هذه القدرة، وقد ورثتها ستي الحاجة عن أمها.
أصبح حفيدها «نجاح» قلبها، عينها الذابلتين من البكاء، لا تفارقها، تلحظه يلعب أمامها وهي جالسة على عتبة الدار، تحرم نفسها من الطعام لتدفع له مصاريف المدرسة كما فعلت مع أبي وعمي الشيخ محمد، ثم أرسلته ليتعلم في مصر «القاهرة» كما أرسلتهما من قبل.
دخل نجاح المدرسة الثانوية، عاش مع بعض أقاربه في عين شمس أو المطرية، كان يركب القطار كل يوم من البيت إلى المدرسة، القطار نفسه الذي كنت أستقله من محطة الزيتون حين كنت أعيش في بيت جدي، القطار نفسه الذي كان يدهس التلاميذ الفقراء تحت القضبان.
سقط نجاح وهو يجري ليلحق بالقطار كما كنت أجري وأنا تلميذة في مثل عمره، كان يرتدي حذاء جلديا اشترته له ستي الحاجة، انزلقت قدمه تحت القطار، بترت العجلات ساقيه الاثنتين، زرته في مستشفى الدمرداش، رأيته راقدا تحت الأغطية بلا ساقين، يتطلع حوله بعينيه الخضراوين الواسعتين ويتساءل في دهشة: راحت فين الجزمة الجديدة؟!
انشطر قلب ستي الحاجة من شدة الحزن ثم ماتت، قبل أن تموت قالت لابنتها الكبرى «عمتي فاطمة»: «إبعتي يا فطنة لاخوكي السيد علشان ييجي.» «ليه يا امه.» «أنا هاموت يا فطنة وعايزة أشوفه.» «تموتي إيه يا امه انتي زي الحصان، ما شاء الله.» «ابعتي يا بت لاخوكي، عاوزة اشوفه قبل ما اموت.»
هواجس الشك ويقين الإيمان
ماتت ستي الحاجة في دارها في قريتها كفر طحلة، ظل أهل الكفر يتحدثون عن موتها كما تحدثوا عن موت أمها.
لم أشهد موتها، لكنني زرت القرية بعد عامين، كانت عمتي فاطمة لا تزال تحكي الحكاية، ما إن جلست إلى جوارها حتى قربت فمها من أذني وراحت تعيد القصة من أولها لآخرها، ترددها كل يوم بلا كلل أو ملل حتى ماتت هي الأخرى، صوتها يسري في الليل كأنما سمعتها بالأمس وليس منذ أربعين عاما تقريبا. «ستك الحاجة ماتت موتة الكل يتمناها، صحيت الفجر زي عادتها، اتوضت وصلت ونادت علي، صحيت على صوتها يقول: يا فطنة، قلت عاوزة إيه يا أمه، قالت باين يا بنتي العمر خلاص، نادي على اخواتك كلهم، وابعتي حد يسافر مصر يقول لاخوكي السيد تعالى حالا، أمك عاوزة تشوفك قبل ما تموت. قلت: يا امه الشر برة وبعيد، وانتي كويسة خالص.
كانت ما شاء الله زي عادتها، قامت كنست الدار ورشت القاعة بمية الزير، ولبست الجلابية السودا، وبخرت القلة، وحطت فيها مية الزهر. وقالت: لأجل أخوكي السيد يشرب منها، أصله يا ضنايا ماكانش يشرب الميه إلا وعليها الزهر. ورقدت على الحصيرة وراسها ناحية القبلة، وقالت: عشان اموت وراسي ناحية مكة المكرمة وقبر الرسول صلاة النبي عليه ألف صلاة. يا ضنايا يا ابني لما تيجي وتشوف امك وهي بتموت، دا انت يا ابني طول عمرك قلبك حنين، لكن خلي قلبك شديد يا عين امك، ده انا رايحة الجنة حدف؛ لأجل زرت قبر النبي، وعملت الخير، وربيت خمس بنات يتامى، وأخوهم الشقيق وأخوه الشيخ محمد من الأب. قومي يا فطنة ادبحي فرخة واعملي شوية ملوخية لاخوكي السيد، ونادي على نفيسة تحمي الفرن وتعمل فطيرتين، وخلي زينب بنت بهية تروح الغيط تجيب شوية تين.
وفضلت ستك الحاجة على كدة من الصبح لغاية المغرب، وكانت تسكت شوية ونقول خلاص ماتت، وبعد شوية تصحى وتقرأ سورة يس وتكلم عزرائيل كأنه واقف قصادها، تقوله: ابعد عني يا عزرائيل لغاية ابني ما ييجي، نفسي أشوفه قبل ما اموت، لا يمكن تاخدني يا عزرائيل قبل ما اشوف ابني السيد. قومي يا فطنة شوفي اخوكي اتأخر ليه، وانت يا واد يا حسني خد البريزة دي هات باكو شاي وسكر من دكانة عمك الحاج عفيفي علشان خالك السيد بيه لما ييجي والرجالة تملا الدار. وانتي يا بت يا نعيمة هشي الدبان من على وشك عشان خالك البيه يقول عليكي نضيفة وحلوة، وانتي يا نجية خدي الزلعة امليها من البحر عشان مية الزير قربت تخلص.
وفضلت ستك الحاجة على كدة طول النهار، تموت ونتشاهد عليها وبعدين تصحى وتقول: ابعد عني يا عزرائين ربنا يخدك، هو السيد ابني لسه ماجاش؟ أنا شيفاه أهه جاي على المزلقان! قومي يا بت يا فطنة قابلي اخوكي على المزلقان! وقمت زي ما ستك الحاجة قالت لي، ولقيت ابوكي جاي ع المزلقان، كان يا عين امه وشه اصفر زي اللمونة. ركب أول قطر لغاية بنها، وبعدين ركب التاكسي وقف بيه في السكة فوق الجسر بعد طحلة بشوية، وجه ماشي لغاية المزلقان. وستك الحاجة راسها وألف سيف لا يمكن تموت ولا تخلي عزرائيل يقرب لها إلا بعد ما تشوفه. وأخذته بالحضن ع المزلقان، وقلت له امك مستنياك يا اخويا. وكانت ستك الحاجة خلاص اتشاهدوا عليها وغطوها، لكن أول لما سمعت صوت ابوكي شالت الغطا، فتحت عينيها وأخذته في حضنها زي عوايدها، وهي تقول له: اتأخرت كدة ليه يا ابني؟ قال لها التاكسي وقف في السكة يا امه، قالت له بركة اللي جيت يا ابني، وكانت دي آخر كلمة قالتها ستك الحاجة، وماتت ورأسها ناحية القبلة، ونور النبي من حواليها صلاة النبي أحسن.»
كنت أسمع إلى صوت عمتي فاطمة وأتلفت حولي في بيت ستي الحاجة، كأنما روحها لا تزال تعيش، أراها واقفة عند الباب تحوم حول الفرن، أو جالسة منتصبة فوق عتبة الباب، أو فوق الحصيرة في الليل تطرد بذراعيها عزرائيل ثم تخفي فمها بطرف الطرحة السوداء، وتضحك حتى تدمع عيناها بالضحك وتهمس: «اللهم اجعله خير يا رب.»
لم تختف روح ستي الحاجة إلا بعد أن مات أبي، ربما كانت تنتظره حيث يلحق بها في العالم الآخر، أو ربما لأني كبرت أكثر وعرفت أن الروح لا تنفصل عن الجسم ولا تعود بعد الموت. كنت قد درست الطب وقرأت الكثير خارج الطب، وتخلص عقلي من الخرافات، إلا أن روح ستي الحاجة كانت تبدو لي كأنما هي مصنوعة من مادة روحية أو ربما هي أمها أو جدتها الغزاوية وأورثتها هذه الروح عن «عشتار» أم الطبيعة والخصوبة، أو «نون» إلهة تكون الأنثى قبل ظهور الإله الذكر.
عام 1947م حصلت على شهادة «الثقافة»، ثم انتقلت إلى السنة النهائية في المرحلة الثانوية، كانوا يسمونها «التوجيهية». دخلت القسم العلمي وليس القسم الأدبي أو قسم الرياضيات، كنت أفضل دراسة الكيمياء والطبيعة والأحياء أكثر من التاريخ والجغرافيا وغيرهما من علوم الرياضة.
كانت مرحلة الثانوية في مدرسة البنين خمس سنوات وليست ست سنوات كما في مدارس البنات، سألت أبي عن سبب هذه التفرقة، قال: إن وزارة المقارف «المعارف» تتصور أن البنات ناقصات عقل ودين، يحصلن في ست سنوات ما يحصله البنون في خمس سنوات. وكانت هناك موادة إضافية تدرس للبنات فقط؛ مثل مادة رعاية الطفل، والخياطة، والتطريز، والطهي، وعمل الكحك، ودعك الزجاج والبلاط والمراحيض.
كنت أهرب من هذه الحصص بادعاء المرض، أربط رأسي بمنديل أسود مثل النساء الثكالى وألزم السرير في العنبر حتى تأتي إلي الحكيمة، كانت امرأة سمينة قصيرة تتهادى فوق الأرض بخطوة بطيئة مثل البطة، تجلس على طرف سريري، وتضع يدها البضة فوق جبهتي، أغمض عيني حتى لا ترى «النني» الأسود القابع تحت جفوني، المتأرجح بالحياة والصحة، والمشتعل بالرغبة في مواصلة الرواية التي أخفيها تحت الوسادة: «انتي سخنة شوية يا بنتي، ويلزمك راحة وإسبرين، وبكرة تبقي كويسة إن شاء الله .» تضع في كفي ثلاث حبوب بيضاء صغيرة، ألقيها في المرحاض في دورة المياه، وأعود إلى الفراش، وأواصل قراءة الرواية.
إنها رواية «جين إير» باللغة الإنجليزية، تدرسها لنا «مس سنية»، الوحيدة بين المدرسات التي تبتسم حين نلتقي، الوحيدة التي سمعتها تقول: نوال موهوبة، الوحيدة التي تشرق الشمس بظهورها وتختفي بغيابها.
بدأت الضربات تتصاعد تحت ضلوعي في حصة الأدب الإنجليزي، لم أعرف، أهو حبي للأدب أم هو مس سنية؟ كانت تشبه مس إيفون في مدرسة منوف، الخطوة الرشيقة الممشوقة ذاتها، إلا أن قامتها أطول من مس إيفون وبشرتها أقل سمرة، والخفقات تحت ضلوعي أشد قوة، تذكرني بالحب الأول وحرف «الفاء»، الروح المحلقة في السماء بلا جسم، عيناي في الحب لا يريان من الجسم إلا العينين، ولا يريان من العينين إلا البريق الخاطف بلون العسل النقي الصافي كعيني أمي. كانت تتمشى في الفصل وهي تقرأ لنا من رواية شارلوت برونتي، أو جين أوستن زو إميلي برونتي، ثلاث نساء روائيات ندرسهم في حصة الأدب الإنجليزي، لم ندرس روائية واحدة في الأدب العربي، ألم تكن هناك أديبات يكتبن باللغة العربية؟! في مكتبة المدرسة لم أعثر على امرأة أحلامي دون جدوى، لم يكن أمامي إلا طه حسين.
بدأت مس سنية تلوح في خيالي، قلبي يخفق لمرآها، عيناها العسليتان تذكرني بأمي، هل كنت أبحث عن الأم الغائبة في منوف أم الحب الأول المكبوت؟ لم أتصور أن لها جسد امرأة أو رجل، لم يكن الحب يرتبط بنوع الجنس، كان نوعا آخر من الاحتياج يرتبط بنوع الإنسان، أو الإله، الذي كنت أبحث عنه في طفولتي دون جدوى.
كانت تنطق اللغة الإنجليزية بلهجة أخرى غير الإنجليزي، كأنما هي تصنع لغتها الخاصة، وصوتها الخاص، ومشيتها الخاصة، والبريق في عينيها حين تراني ينتشلني من غربتي في الدنيا، تتبدد الوحشة وينقشع الحزن المجهول الدفين في أعماقي، أتحول فجأة إلى إنسانة مرحة، أضحك وأرقص وأغني، يجلجل صوتي في الكون، أكاد أعانق الشمس بذراعي وأنا أجري وأجري في الفناء الواسع، لا شيء يوقفني إلا السور الحجري العالي.
ولأنني لا أعرف التخفي أو السرية فقد عرفت المدرسة كلها قصة الحب، ما إن تفتح «مس سنية» باب غرفتها في قسم المدرسة الداخلي حتى تتبارى البنات في البحث عني لأترك كل شيء وأجري أطل عليها وهي تمشي في الممر لتدخل دورة المياه الخاصة بالمدرسات، أو تهبط السلم لتذهب إلى أحد الفصول أو لتذهب إلى الفناء أو أي مكان آخر في الكون.
كانت قصص الحب بين التلميذات والمدرسات أمرا عاديا أحيانا، نشترك ثلاث أو أربع بنات في حب مدرسة واحدة، تشتعل القلوب بالغيرة والتنافس، وتزداد المدرسة زهوا وفخرا بازدياد عدد الواقعات في حبها.
أكثر البنات وقعن في حب أبلة نفيسة مدرسة الرسم، لا أعرف لماذا، كانت في نظرهن أكمل المدرسات وأرشقهن وأكثرهن رونقا، إلا أنني لم أكن أنجذب إليها، كانت أشبه بالدمية أو اللوحة المرسومة بإتقان، ملامحها شديدة التناسق إلى حد فقدان الشيء المميز للجاذبية، شخصيتها أيضا كملامحها تفتقد الشيء غير العادي أو غير المألوف.
أبلة نفيسة كانت أليفة مألوفة، لا يمكن لها أن تحرك خيالي، إنها تشبه الأميرات أو زوجات الملوك والرؤساء، هذا النوع من النساء لا يظهرن إلا في كامل الزينة وفي ظل الرجل، ثم يختفين فجأة باختفائه، يطلق عليهن «حرم صاحب الجلالة أو صاحب المعالي أو السيادة»، لكن مس سنية كانت مختلفة، لا أعرف كيف؛ فهي لا تشبه واحدة من النساء، خاصة هؤلاء اللائي يمكن أن نسميهن «نساء الظل»، وهي تظهر بلا زينة ولا مكياچ، وليست جزءا من موكب الناظرة أو الوزير حين يزور المدرسة.
أحببت الأدب الإنجليزي لأنها هي التي كانت تدرسه لنا، كنت أنتظر حصتها كمن ينتظر قطرة غيث في صحراء، ألتقط كل كلمة تخرج من بين شفتيها كأنما هي درة، يستقر درسها في ذاكرتي دون مذاكرة، أحفظه عن ظهر قلب دون قراءة، مجرد السماع فحسب وأنا جالسة في حصتها عيناي شاخصتان إليها كالمغناطيس، وأذناي مفتوحتان، لا يفوتني حرف واحد، تلكزني صفية الجالسة إلى جواري فلا أحس، يشتعل حريق في الفصل فلا أنتبه إليه ؛ إن حواسي كلها مع عقلي وخيالي قد تجمعت وتركزت في هذه النقطة المحدودة من الكون حيث هي تكون.
ثم جاءت الصدمة التي ضيعت السحر ومعه الحب، كان ذلك في بداية الصيف عام 1948م، كان الامتحان النهائي على الأبواب، وتعودت مثل بنات الداخلية أن أمشي في الممرات الطويلة أمام العنابر في يدي الكتاب أراجع الدروس، كان هناك ممر يدور حول غرف النوم الخاصة بالمدرسات، وهو الممر المفضل لدى البنات لأسباب يعلمها الجميع، لم أكن أقترب من هذا الممر، أخشى أن تفتح مس سنية بابها فتراني وتدرك أني أنتظرها، ألا تعرف أني أنتظرها؟! كنت أتظاهر بالرزانة والثقل، ولست خفيفة أو شعنونة مثل البنات الأخريات.
كان اليوم الجمعة، ولم تكن مس سنية كغيرها من المدرسات تقضي يوم الجمعة في المدرسة، تحمل حقيبتها الصغيرة بعد نهاية الحصص يوم الخميس ولا تعود إلا يوم السبت صباحا. هكذا كنت أتمشى أيام الجمع في ذلك الممر دون حرج، أرفع وجهي من فوق الكتاب لأرمق باب غرفتها المغلق ثم تعود عيناي إلى الكتاب، كنت أعرف أن غرفتها خالية منها، أن المدرسة كلها خالية منها، بل إن الكون كله قد أصبح خاليا خاويا فارغ المعنى؛ لهذا كنت أتمشى في الممر وأرمق بابها، كأنما الباب قد أصبح جزءا منها، ومع شيء من الخيال يمكن أن يكون الكل ويعود للكون معناه.
فجأة انفتح الباب في اللحظة التي مررت بها أمامه، ورأيتها أمامي، تسمرت في مكاني فاقدة النطق، لكني رأيتها، كانت ترتدي قميص نوم وفوطة على كتفها وفي يدها صابونة، منظر عادي تماما، إلا أنه كان مفتوحا عند الصدر، ولمحت ذلك الشيء البارز في صدور النساء والذي يسمونه «الثدي»، بعقلي الواعي كنت أقول لنفسي: إنها امرأة، ولا بد أن يكون لها ثدي ورحم وكل شيء، إلا أنها فكرة مجردة، أما أن يصبح للفكرة لحم ودم فهذه هي الطامة الكبرى.
أصابتني الصدمة بما يشبه الغثيان، كنت أظنها من فصيلة الأرواح، وكم رأيت ثدي أمي وهي ترضع الطفل وراء الآخر، وكم رأيت من أثداء الزميلات في الداخلية، إلا أنني لم أشعر بالنفور كما حدث لي هذه المرة، لماذا؟ لم أعرف، كانت صدمتي فيها كبيرة حين اكتشفت أنها أنثى، أصابتني الفجيعة فيها كأنما هي المسئولة، أو كأنما خدعتني في الظاهر وهي في الباطن شيء آخر.
تبددت نشوة الحب مثل سحابة الصيف الرقيقة، لم يعد لوجودها في الكون السحر القديم، إلا أن علاقة خاصة ظلت تربطني بها، صورتها الأولى ظلت في خيالي بعد أن تركت المدرسة، احتفظت في درج مكتبي بصورتها وهي تلعب التنس، طويلة ممشوقة تبتسم بإشراقة الشمس. مضت أربعة أعوام أخرى ثم التقيت بها مصادفة في شارع قصر العيني، لم أتعرف عليها، تحولت في أعوام أربعة إلى امرأة عرجاء عجوز. رفعت وجهها وابتسمت، تعرفت على الابتسامة والبريق العسلي. مش معقول! مس سنية؟!
نطقت اسمها بسهولة، وكان هذا الاسم يصيبني بالخرس وقلبي تحت الضلوع يتوقف، انتي فين يا نوال؟! في كلية الطب هنا في شارع قصر العيني، يعني حتبقي دكتورة مش أديبة! وتلعثمت لم أعرف بماذا أرد، كأنما دخولي كلية الطب كان خيانة لها، «نوال، انتي موهوبة، خسارة تدخلي الطب.» «وانتي فين يا مس سنية؟» «أنا انتقلت لمعهد الموسيقى هنا في شارع قصر العيني.»
في الشارع نفسه على بعد دقيقتين بالخطوة السريعة، كنت أزورها في معهد الموسيقى، في كل مرة يتدهور بها الحال، كانت مصابة بمرض لا علاج له في الطب، يسمونه التهاب المفاصل المزمن، بالإنجليزية «روماتويد أرثرايتس».
آخر مرة رأيتها كان في عام 1955م، بعد أن تخرجت وأصبحت طبيبة امتياز في قصر العيني، أصبحت عاجزة عن تحريك مفاصل يديها أو قدميها، كان وجهها رغم ذلك يضيء حين تراني، يعود البريق إلى عينيها العسليتين، وقلبي كان يئن لماذا هي بالذات تصاب بهذا الداء، لم يكن هذا المرض يصيب إلا واحدا في المليون من البشر.
ثم ماتت قبل أن تموت أمي بعام واحد. •••
اشتهرت في مدرسة حلوان أنني عاشقة للأدب والشعر والنثر، في الحفلات المدرسية كنت أقف على المنصة وألقي كلمة من تأليفي أو قصيدة شعر ، أكبر الاحتفالات كانت بعيد ميلاد الملك أو عيد مولد النبي، كانت هجرة النبي من مكة إلى المدينة المنورة من الاحتفالات الكبيرة أيضا، يسمونها «عيد الهجرة».
عام 1948م أقامت المدرسة احتفالا كبيرا بعيد الهجرة، قبل الاحتفال بيومين جاءني المدرس وطلب مني إعداد كلمة ألقيها في الاحتفال. حبست نفسي داخل المكتبة، قرأت عن حياة النبي محمد ، ولدته أمه آمنة بنت وهب، ماتت وهو رضيع، كفله عمه عبد المطلب، أصبح راعيا للإبل في الصحراء، اشتهر بالأمانة فسماه الناس الأمين، كان محبوبا في قبيلته قريش، تزوجته السيدة خديجة من أشراف القبيلة، عهدت إليه بأموالها ليتاجر فيها، كان يعتزل في غار حراء يفكر ويتعبد، نزل إليه سيدنا جبريل بالقرآن، قال له:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم . لم يفهم النبي محمد ماذا يعني جبريل، أصابه الذعر، وعاد إلى زوجته خديجة يرتعد، أسنانه تصطك، قال لها: دثروني دثروني، هدأت السيدة خديجة من روعه وشرحت له الأمر، أرسل الله إليك جبريل يبلغك بالرسالة، أنت نبي الإسلام، انهض وبلغ الرسالة للناس.
كانت السيدة خديجة هي أول المسلمين الذين آمنوا بسيدنا محمد، من بعد ذلك دخل الناس في دين الله أفواجا، إلا أنها كانت الأولى، لولاها ما بدأ زوجها رسالته وما بدأ الإسلام. هكذا قال لي أبي، شعرت بالفخر لأنها امرأة مثلي، أتحدى بها عمي الشيخ محمد حين يقول: إن الله لم يخاطب النساء في القرآن، وأنه لم يذكر اسم امرأة واحدة في كتابه الكريم إلا مريم أم المسيح سيدنا عيسى عليه السلام.
بدأت أقرأ القرآن من الغلاف، أدركت أن كلام عمي الشيخ محمد صحيح، لم يذكر الله اسم حواء ولم يخاطبها إلا من خلال زوجها آدم، لم يرد ذكر السيدة خديجة بحرف واحد مع أنها أول من وضع الحجر الأساسي في صرح الإسلام، وهي التي وجهت زوجها نحو الطريق الذي جعله نبي المسلمين.
أسئلة كثيرة كانت تدور في رأسي، لم يكن أبي يعرف الإجابة عنها، يكتفي بقوله: هذه حكمة الله، وهناك أشياء في الدين تؤمن بها قلوبنا؛ لأن العقل البشري عاجز عن الإلمام بحكمة الله.
لم تكف الأسئلة عن الدوران داخل رأسي، أصابني صداع مزمن مجهول السبب، قالت لي حكيمة المدرسة: إنه بسبب فوران الدم في سن المراهقة، أعطتني حبوب الإسبرين وأقراصا أخرى.
كانت حرارتي تهبط لكن الألم ينتقل إلى أجزاء أخرى من جسمي، تشتد الآلام في أيام الحيض؛
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، ألزم الفراش في هذه الأيام وأعتزل العالم، أقول لنفسي: «بيدي لا بيد عمرو.» سأعتزل أنا العالم ولن أعطيه الفرصة كي يعتزلني، يتمرد جسدي على جسدي وتتقلص العضلات في أحشائي فيصيبني المغص الحاد، ما إن أرى الدم في ملابسي حتى أشعر بالغثيان، أكف عن الأكل وإن قرصني الجوع، وإذا أكلت تقيأت.
لا أكف عن تطهير نفسي، أغسل جسمي بالمياه الساخنة والصابون عدة مرات، أكاد أنقع نفسي في الماء المغلي والصودا الكاوية، أفتح الدش فوق رأسي وأتشهد، كما أنا في معركة أموت فيها من أجل الطهارة وابتغاء مرضاة الله، اقرأ الفاتحة والشهادة وبعض أجزاء من سورة مريم أو سورة النساء، تصورت أن هذه السور تناسب هذه الحالة النسائية أكثر من السور الأخرى.
لحسن الحظ جاء عيد الهجرة في يوم لا أعاني فيه من الأذى، كنت أخشى أن تأتي المناسبة الطاهرة في يوم لا أكون فيه طاهرة، كان المدرسون يقولون لنا: إن النساء في أيام المحيض يجب ألا يقفن بين يدي الله للصلاة، وألا يقرأن بصوت مسموع أو غير مسموع حرفا واحدا من القرآن الكريم أو أحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم . كنت أرتعد في الحصة حين يطلب مني قراءة شيء من هذه الكلمات المقدسة، كان الموت أهون من الإعلان في الفصل عن حالتي من حيث المحيض، منذ أدركني هذا الأذى وأنا أخفيه عن الناس جميعا بمن فيهم أمي وأفراد أسرتي في البيت، كأنما هو جريمة أو إثم عظيم أنا المسئولة عنه.
منذ أن طلب مني المدرس أن ألقي كلمة في عيد الهجرة وأنا أدعو الله أن يمنع عني الأذى ذلك اليوم، لم يكن لي أن أقف فوق المنصة أتحدث بصوت عال تسمعه الآذان عن الهجرة النبوية الكريمة، وأستشهد بآيات من القرآن والأحاديث الشريفة وأنا ملتبسة بما يستوجب اعتزال النساء حتى يتطهرن. وكنت أقترف الإثم في السر وأنا أعد كلمتي داخل المكتبة، كنت أعرف أن الله يراني ويعرف متى يأتيني المحيض، وكم عذبتني هذه الفكرة التي لم تفارقني منذ الطفولة.
حفظت كلمتي عن ظهر قلب لألقيها في الاحتفال بعيد الهجرة، كانت قبيلة قريش تؤمن بالأصنام، وهي تماثيل من الحجر لا تنفع ولا تضر، كان سيدنا محمد يدعو الناس للإيمان بالله الواحد الأحد والقرآن الكريم. استعدت قريش لقتل النبي فهرب منها في ظلام الليل، رقد في فراشه ابن عمه «علي بن أبي طالب»، في الطريق إلى المدينة المنورة اختبأ النبي وصاحبه في كهف مهجور، أرسل الله عنكبوتا فنسج خيوطا فوق الباب، هذه معجزة من معجزات الله، رأى كفار قريش خيوط العنكبوت فلم يدخلوا الكهف، قال لهم عقلهم أن لا أحد دخل الكهف وإلا تمزقت خيوط العنكبوت على الباب، مضوا في طريقهم، خرج النبي محمد وصاحبه من الكهف، وصلوا إلى المدينة المنورة سالمين، استقبلهم جموع الأنصار بالفرح والتهليل.
وقفت على المنصة في مدرسة حلوان، القاعة مليئة بالتلميذات والمدرسات والمدرسون جالسون في الصفوف الأمامية، تتوسطهم الناظرة والضيوف من وزارة المعارف، أنا واقفة مشدودة القامة مرفوعة الوجه نحو السماء، ألقي كلمتي بصوت أبي، يتهدج صوتي وأنا أنطق اسم الله تعالى، أحرك ذراعي في السماء وأنا أقول: معجزة من معجزات الله، أن يأتي العنكبوت في هذه اللحظة وينسج خيوطه فوق الباب! أضغط على مخارج الألفاظ والحروف، أمد كلمة العنكبوت من علامة التأكيد والإيمان المطلق بمعجزة الله، أحس الخفقان تحت ضلوعي والدموع تكاد تقطر من عيني. أسمع التصفيق يدوي في القاعة فأعيد المقطع عن العنكبوووووت بصوت أم كلثوم أو عبد الوهاب يغني أحد المواويل أو الشيخ محمد رفعت في الراديو يتلو القرآن باللحن البطيء الممطوط.
أصبحت لي سمعة طيبة في المدرسة، يشيرون إلي بالبنان، هذه هي التلميذة المثالية، تجمع بين العلم والإيمان، تتفوق في الكيمياء والفيزياء والبلاغة وفصاحة اللسان، تكتب النثر والشعر وتحفظ الأحاديث والقرآن.
هكذا ارتبط الأدب العربي في خيالي بالإسلام، بدأ الدين يدخل وجداني مع حبي للأدب، نسيت طفولتي، لا أعرف كيف تحولت من طفلة تشك في عدالة الله إلى فتاة رشيدة شديدة الإيمان، فقدت قدرتي الفطرية على اكتشاف التناقضات، وفي النوم لم يعد الله يتجسد أمامي بشكل آدمي أو غير آدمي، الشيطان أيضا غاب عن أحلامي، من تحت الوسادة يسري إلي صوت التصفيق الحاد يدوي في القاعة، فكاي ينفتحان عن آخرهما، أتثاءب، أشد قصة العنكبوت وأتشدق بمعجزات الله.
أفتح عيني في منتصف الليل أشعر بالإثم، أنهض إلى دورة المياه أتوضأ ثم أعود إلى العنبر على أطراف أصابعي، أفرش قطعة من ملابسي فوق البلاط كأنما هي سجادة صلاة، أتهجد لله ركعتين أو ثلاثا، أقرأ بصوت غير مسموع بعض الآيات من القرآن الكريم، كانت هي الآيات ذات الجرس الموسيقي كأنما قصيدة شعرية ذات وزن وقافية:
والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا * يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة .
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها .
إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت * وإذا العشار عطلت * وإذا الوحوش حشرت * وإذا البحار سجرت * وإذا النفوس زوجت * وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت .
كنت أتغنى بهذا المقطع الأخير كأنما أنشودة:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت . عيناي تدمعان وأنا أنطق كلمة الموءودة، كأنما أنا التي وئدت منذ ولدت.
كانت طفولتي في طريقها إلى الزوال الكامل، الفتاة المثالية الناضجة بدأت تسيطر على عقلي وجسدي، ذكريات الطفولة أصبحت كالإثم تستوجب الاستئصال من الذاكرة، شبح الحب الأول كأنما شبح شيطان أو الخطيئة الأولى، ثم طغى الإيمان الكامل على بقايا الشك، وبدأت أنحدر إلى اليقين بخطوة ثابتة تشبه خطوة أبي.
أصبحت المثل الأعلى للبنات في التقوى والصلاح، أواظب على الصلاة وصيام شهر رمضان العظيم، أنطق الكلمات بلغة عربية فصيحة، أدعم كلامي بآيات من كتاب الله الكريم أو أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام. •••
جاءت شهادتي «التوجيهية» ناجحة بامتياز، أردت أن أدخل كلية الآداب لأصبح أديبة، قال أبي أن كلية الآداب لا تخرج إلا الموظفين أو الكتبة وليس الأدباء، ثم ما مستقبل الأدباء يا نوال؟ يعيشون ويموتون فقراء مثل الشاعر الديب، يردد أبي بعض أبيات يسخر فيها الشاعر من فقره، ومنها ذلك البيت يقول فيه: وكأنني حائط كتبوا عليه: هنا يا أيها المزنوق طرطر! تضحك أمي وتقول: «آداب إيه يا نوال، دي الكلية اللي بيدخلها الطلبة الساقطين أو الواخدين درجات واطية، وانتي واخدة أعلى الدرجات، ادخلي كلية الطب، يمكن تبقى دكتورة مشهورة زي الدكتور علي إبراهيم، وكمان تعالجينا ببلاش!»
في أحلامي كنت أرى نفسي أديبة مثل طه حسين، فأنا أحب اللغة العربية، حروفها وكلماتها وجرسها الموسيقي في الأذن، كنت أؤمن أن الله وحده هو الذي خلق اللغة العربية، فضلها على غيرها من اللغات وأنزل بها القرآن. تصورت الإنجليزية صنعها البشر، لكن العربية لغة إلهية من صنع الله سبحانه وتعالى، والأمة العربية هي خير أمة خلقها الله. وأمشي في الشارع مرفوعة الرأس في زهو، أرمق الإنجليز من علياء، إنهم يتكلمون لغة بشرية وينتمون إلى أمة أدنى، لم يرد ذكرها في كتاب الله الكريم، في النوم تصحو الطفلة الخرساء تسألني بلا صوت: «يعني إذا كان ربنا بيحبنا أكثر من الإنجليز، ليه خلاهم بينتصروا علينا ويحتلونا، وهم اللي يكتشفوا قوة البخار والكهرباء والراديو واللاسلكي والطيارة والغواصة؟!»
ألفة الموت
دخلت كلية الطب خريف 1948م، السنة الأولى التي يسمونها الإعدادية، نتلقى المحاضرات في مبنى كلية العلوم في المبنى الرئيسي للجامعة.
كلمة «الجامعة» كان لها رنين ساحر في الآذان ... جامعة فؤاد الأول في الجيزة، القبة الضخمة والساعة المنتصبة في السماء تدوي بشكل مهيب تقشعر له الأبدان، لم يكن يدخلها إلا الرجال، ثم فتحت أبوابها أخيرا للنساء. في القاعات يجلس الطلبة إلى جوار الطالبات ... الدقات تتصاعد تحت ضلوعي لمجرد الفكرة ... أيمكن أن يكون هناك اختلاط بين البنات والجنس الآخر من الرجال؟! ثلاث كلمات تجعل الدم العذري يصعد إلى وجهي: الاختلاط، الجنس، الرجال.
لم يكن الاختلاط بين الجنسين مباحا إلا في مدارس رياض الأطفال وفي الجامعة، بينهما كان الاختلاط ممنوعا؛ أي في المدارس الابتدائية والثانوية، قضيت عشر سنوات في هذه المدارس (أربع سنوات في الابتدائية وست سنوات في الثانوية).
عضلة القلب تنتقض وأنا أمشي في الشارع قبل أن أدخل من الباب، كأنما سأقع في حب أول رجل ألتقي به في الجامعة، أشد عضلات وجهي وجسمي، أرسم فوق جبهتي تكشيرة وأمط شفتي. السابعة عشرة من عمري، ياه! سبعتاشر سنة؟! يرن الرقم في أذني ضخما، كأنما سبعون أو سبعمائة، منذ بلغت السابعة من عمري يقولون عني كبيرة، أكبر البنات ... جميع البنات في آل سعداوي وشكري بيه تزوجن وأصبحن أمهات قبل أن يبلغن السابعة عشرة من عمرهن.
كان لعمي الشيخ محمد ابنة من زوجته الأولى في كفر طحلة اسمها فوزية، كان يمكن أن تدخل الجامعة مثلي، لكنه زوجها من مدرس في قرية اسمها «بلتان» بجوار كفر طحلة، «الاختلاط في الجامعة فيه خطورة على البنت يا سيد أفندي.» يهمس عمي في أذن أبي بصوت كفحيح الشيطان ... تتصدى له أمي بصوتها العالي: «بنتنا نوال نرميها في النار ترجع سليمة، نوال غير كل البنات يا شيخ محمد.»
كلمات أمي تنتشلني عاليا فوق رءوس البنات كما كانت ذراعاها ترفعانني فوق أمواج البحر وأنا طفلة. منذ دخلت كلية الطب تناديني أمي بلقب الدكتورة، أبي يمنحني هذا اللقب أمام الضيوف فحسب، يمط عمي الشيخ بوزه في ضيق كأنما بيني وبينه ثأر قديم أو عداء موروث مجهول الأصل، لم يكن ينطق باسمي، يناديني بكلمة واحدة، هي: «يا بت!» ترن في أذني نابية، فلا أرد عليه، «أنا باكلمك يا بت ردي علي.» أعطيه ظهري كأنما هو غير موجود، «رايحة فين يا بت، تعالي هنا سمعي سورة البقرة، انتي حافظة القرآن ولا لأ ، كتاب ربنا أحسن لك يا بت من كتب الطب! القرآن جامع شامل لكل العلوم ... وانت يا واد يا طلعت، تعالى هنا جنبي سمع سورة البقرة!»
كان أخي طلعت أكثر جرأة مني، يرد على عمي الشيخ ساخرا: «أنا اسمي الأستاذ طلعت، الموسيقار الكبير.» ينتفض عمي الشيخ من فوق الكنبة كمن لسعته أفعى، تقفز العمامة البيضاء الكبيرة من فوق رأسه، يمسكها بيديه الاثنتين وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، يهرول داخل قفطانه الواسع.
كانت له مشية تشبه زوجته في حي العنبري كالبطة المزقمة، جسمه قصير ممتلئ باللحم، له كرش مرتفع مثل امرأة حامل، ساقاه رفيعتان تتأرجحان ويجري وراء أخي: «تعالى هنا يا واد يا قليل الأدب!»
لم يكن يكسب في هذه المباراة إلا اللهاث، نسمع صوت الهواء يخرج من فمه وأنفه وربما أيضا أمعائه، كانت زوجته الثانية لا تكف عن إطعامه بالفتة والكوارع بالثوم ومحشي الكرنب، وكان أخي طلعت لا يكف عن الضحك ويسد أذنيه بأصابعه إذا رآه يدخل المرحاض.
لم يكن أخي طلعت يفعل هذه الأشياء إلا في غياب أبي، أمي تكون بعيدة عنا في المطبخ، تأتي إلينا حين يرتفع صوت عمي الشيخ وهو يؤنبنا نحن الاثنين، كنت أشارك أخي هذه الشقاوة الصغيرة، والتي كانت مصدر بعض المباهج الكبيرة في حياتنا.
كان عمي الشيخ محمد مختلفا كل الاختلاف عن أبي؛ ربما لأنه لم يكن ابن ستي الحاجة، ورث أبي عنها القامة الفارعة الممشوقة والذكاء الفطري، درس أبي وعمي معا في الأزهر، تخرجا معا، بقي عمي في الأزهر أستاذا أزهريا، لا يدرك من الإسلام إلا الحدود والقيود، اقتحم أبي دار العلوم ومدارس أخرى، بل علم نفسه اللغة الفرنسية، كان يمكن أن يكون وزيرا للمعارف لو دخل لعبة السياسة والأحزاب، إلا أنه ترفع عن النفاق أو الصعود إلى السلطات على حساب الكرامة وحرية الرأي.
لم يكن في بيت عمي الشيخ محمد مكتبة تضم كتبا أخرى غير القرآن والشريعة أو الكتب الدينية، في مكتبة أبي كانت هناك الروايات وقصائد الشعر والتراجم، وكتب متعددة في الأدب والنقد والفلسفة والتاريخ. كانت فوزية ابنة عمي الكبرى تحب المدرسة، تهمس لي حين نلتقي بأحلامها، كانت مثل زينب (ابن عمتي بهية) تحلم بأن تكون أستاذة كبيرة، أصبحت زوجة لأحد المدرسين في بلدة بلتان، وأنجبت عددا من الأولاد والبنات. أحيانا كنت أمر على بيتها في طريقي إلى كفر طحلة، وجهها الشاحب الحزين يذكرني بوجه أمها ، يبدو عليها الإعياء، أمامها وابور الجاز فوق الأرض، تقلب بالمغرفة داخل حلة كبيرة يتصاعد منها الدخان، ابنتها الكبرى إلى جوارها، ترمقني بعينين يكسوهما البريق: «أنا عاوزة يا ماما أطلع دكتورة زي خالتي نوال.» ترمقها أمها بنظرة صامتة، تمصمص شفتيها كأنها تتذكر حلمها القديم، ثم تخفي وجهها داخل الحلة فوق النار.
أخذتني ابنتها إلى الغرفة الصغيرة، رفعت مرتبة السرير وأخرجت كشكولا يشبه مفكرتي السرية وأنا في مثل عمرها، فتحة أصابعها الرفيعة الطويلة تشبه أصابعي، رأيت بين الأوراق فراشة بيضاء محنطة، وورقة صغيرة مطوية، فتحتها فرأيت قصاصة إحدى الصحف عليها صورتي، من تحتها مقال لي تحت عنوان: «المرأة إنسان له عقل.»
لمعت عيناها بالدموع وهمست في أذني: «نفسي أكتب زيك يا خالتي نوال.» إلا أن حلمها مثل أمها، اندثر وراح في العدم.
في العام 1948، العام الذي دخلت الجامعة، انتقل أبي من منوف إلى الجيزة، قدم شكوى إلى وزير المعارف، قال فيها: إن الترقية في الوزارة تعتمد على الوساطة أو القرابة لأصحاب النفوذ، إنه سوف ينشر الشكوى في صحف المعارضة.
كان للمعارضة ضد الحكومة بعض القوة، انتشرت بين الناس الشائعات عن فساد الملك والحكم، اشتدت وطأة الغلاء ومعه التذمر الشعبي، الحركة الوطنية أصبحت تجتذب أعدادا أكبر من الشباب وطلاب الجامعة، المظاهرات الوطنية تنفجر من حين إلى حين.
أصبح أبي مراقبا عاما للتعليم في محافظة الجيزة، استأجر بيتا من دور واحد تحوطه حديقة صغيرة، كان الحي جديدا هادئا في أول شارع الهرم يسمونه «العمرانية»، يطل على ترعة طويلة يسمونها «ترعة الزمر»، نمت على جانبيها الأشجار الباسقة، تخترق شارع الهرم من تحت كوبري صغير، لم يكن هناك عمارات عالية أو محلات تجارية ... لا نسمع ضجيج السيارات في شارع الهرم الصاعدة إلى الأوبرج وهضبة الأهرامات الثلاثة، أو الهابطة تحت نفق قطار الصعيد إلى ميدان الجيزة وكوبري عباس أو شارع الجامعة وحديقة الحيوان.
لم يكن لأمي أن تسكن في عمارة عالية أو شقة بدون حديقة، كانت تحب أن تفتح النافذة في الصباح فتدخل الشمس وترى الأشجار والخضرة ، أصبحت الخضرة ضرورية لها كالهواء والشمس، أبي تربى بين الزرع والحقول، يستشعر الحنين دائما إلى القرية ودار أمه المفتوحة على المساحات الخضراء.
كل يوم أمشي على قدمي من البيت إلى الجامعة، مسافة ساعة في الصباح الباكر ومثلها في العودة آخر النهار، تعودت المشي بخطوة واسعة سريعة، في قدمي حذاء جلدي أسود كعبه مربع متين مثل كعوب الرجال، في يدي حقيبة جلدية سوداء تشبه حقائب الأطباء، أرتدي تاييرا لونه رصاصي من الصوف الذي تصنع منه بدلة أبي، قامتي مشدودة طويلة أطول من زملائي في الكلية، رياضة المشي كل يوم أصبحت ضرورية، ينعشني الهواء البارد في الصباح الباكر.
أخرج من شارعنا الصغير إلى شارع ترعة الزمر، أسير حتى شارع الهرم، وأتجه يمينا نحو نفق القطار لأصعد منه إلى ميدان الجيزة، ثم أنحرف إلى اليسار لأدخل شارع الجامعة. كان شارعا مهيبا تظلله الأشجار الباسقة على الجانبين، وأشجار حديقة الحيوان الضخمة تطل من وراء السور الحجري العالي، يترامى إلى أذني صوت زئير الأسد أو زقزقة العصافير، في الناحية الأخرى كانت مدرسة السعيدية الثانوية التي دخلها أخي طلعت بعد مدرسة منوف.
كالبحر الضخم من الأجسام يغطون أرض الشارع والرصيفين، لا يمكن لسيارة أن تمر، كلهم ذكور، لم أكن ألمح طالبة مثلي إلا نادرا، أشعر بالغربة وسط هذا البحر من الرجال، يمضون في طريقهم بخطوة جادة، قد يهمس أحدهم في أذني: «صباح الخير يا جميل.» أمام باب كلية الزراعة كان ثلاثة من الطلاب ينتظرونني كل صباح.
يهتف واحد منهم حين يراني مقبلة في الشارع: «سامية جمال أهه!» مجموعة أخرى من الطلاب أمام باب كلية الهندسة، يطلقون علي اسم «إستر ويليامز»، سألت بعض زميلاتي في الكلية من هي «إستر ويليامز»، عرفت أنها بطلة فيلم اسمه «السابحات الفاتنات»، دخلت السينما، ورأيتها فوق السينما، ورأيتها فوق الشاشة، كانت طويلة رشيقة فامتلأت بالزهو. سامية جمال كانت راقصة ممشوقة القامة، لم أرها إلا على الشاشة، تذكرت أحلامي الطفولية حين رأيت نفسي راقصة رشيقة تطير في الجو وتمشي فوق الأثير.
كانت هناك أيضا تعليقات ساخرة، يتهكم بعض الطلبة من خطوتي الواسعة الطويلة أو قامتي الطويلة، اقترب مني طالب قصير وتطلع إلى رأسي العالي وقال ساخرا: «يا ترى الهوا عندك فوق حلو؟»
حين أعود إلى البيت أحكي لأمي وأبي ... كانا يضحكان كثيرا على النكتة ... أحيانا تتطلع أمي إلى رأسي وتسألني: «يا ترى الهوا عندك فوق حلو؟» لم تكن أمي طويلة القامة، ترتدي الحذاء ذا الكعب العالي وتظل قامتها أقصر مني، تشب على أطراف أصابعها وتقول: لو كنت طويلة زي نوال!
في الكلية ألمح العيون ترمقني، في أعماقي أدرك أن هناك شيئا يجذب العيون إلي، نوع مجهول من الجاذبية، ليس هو الجمال الأنثوي المألوف ... شيء آخر لا أعرفه، لكني أحسه وأدركه في الأعماق.
أصبحت لي صديقات بين الزميلات الجديدات، ومن زميلاتي القديمات في حلوان دخلت صفية معي كلية الطب، سامية دخلت الصيدلة، فاطمة دخلت الآداب، أصبحنا نجتمع في بوفيه كلية الآداب، الوحيد في الجامعة نرى فيه الطالبات جالسات، ربما لأن عددهن في كلية الآداب كان أكثر من الكليات الأخرى.
لم تكن التقاليد حينئذ تشجع البنات على دخول الكليات العلمية، مثل: الطب والهندسة أو العلوم البحتة. كلمة «العلم» في اللغة العربية مذكرة، لها رنين رجولي في الآذان، كلمة «الآداب» مؤنثة، تتشابه حروفها مع كلمة أخرى، هي «الأدب»، وهناك مثل شائع يقول: «الأدب فضلوه عن العلم.» وكأن «الأدب» بالمعنى الأخلاقي مطلوب من الإناث فحسب، أما الذكور فهناك مثل شائع يقول: «لا يعيب الرجل إلا جيبه.»
إحدى الصديقات الجدد اسمها «كاميليا»، اشتهرت باسم «بطة»، كانت تسكن في أول شارع الهرم بالقرب مني.
جسمها قصير ممتلئ على شكل مربع، وجهها كبير مربع تتوسطه عينان مربعتان واسعتان، تكحلهما بالقلم السميك الأسود، أو مسحوق الكحل الأكثر سوادا، بشرتها سمراء تغطيها بطبقة من مسحوق البودرة الأبيض، شفتاها ممتلئتان مربعتان أيضا، تصبغهما بقلم «الروج» الأحمر، ترتدي «جيب»، «جونلة» ضيقة قصير، تزداد ضيقا عند ركبتيها السمينتين، فلا يمكنها السير إلا بخطوة ضيقة بطيئة، تتعثر فوق الكعب العالي الرفيع.
كانت بطة نموذج الجمال الأنثوي ، صوتها رقيق، تقلب الحروف العربية الخشنة مثل الضاد والطاء إلى حروف أكثر رقة، الدال «بدل الضاد»، والتاء «بدل الطاء»، والسين «بدل الصاد»، وحرف الراء ينقلب إلى «غين» كما يفعل الفرنسيون، تقول عن صفية «سفية»، وكلمة الضلمة تصبح «دلمة»، والطب يصبح «التب»، وبكرة تصبح «بكغة».
أصبح لبطة الكثير من المعجبين، تقلدها الزميلات في تكحيل العين والتايير الضيق الأنيق، حتى «سامية» التي كانت في مدرسة حلوان شاحبة الوجه والشفتين أصبحت تلون وجهها وتكحل عينيها، قد تلوي قدميها فوق الكعب العالي أو يلتوي لسانها فتقول «بكغة» بدل «بكرة».
كان لبطة أيضا عم أو خال يحمل لقب «الباشا»، ومنصب في السراي، قد تظهر صورته في الصحف فتشمخ بأنفها المربع في السماء كأنما هي بنت الملك.
كانت الجامعة في تلك الفترة تموج بالمظاهرات الوطنية، داس الطلاب على صورة الملك، يخفق قلبي بالفرح حين أدخل من باب الجامعة فأرى الطلبة مجتمعين في الفناء، والهتاف يدوي: يسقط الإنجليز، يسقط الملك، أستعيد أحلام طفولتي عن سقوط النظام أو تغيير العالم.
لم تكن الطالبات يخرجن في المظاهرات إلا القليلات من كلية الآداب أو غيرها من الكليات النظرية، طالبات الطب والعلوم وطلبة الكليات العلمية كانوا أكثر اهتماما بالدراسة عن السياسة. «السياسة دي تهريج وكلام فارغ للطلبة الفاضيين في الآداب والحقوق.» كنت أسمع هذه العبارة تتردد على ألسنة أساتذة الطب والعلوم، لكن أبي كان يهتم بالسياسة، يقرأ صحف الحكومة والأحزاب المعارضة، لا يكف عن الحديث عن فساد الملك والحكم، عن الاحتلال الإنجليزي والاستعمار، «خير بلدنا رايح للأجانب وشوية الحرامية اللي ماسكين الحكم.» كان يسمي مصر مجتمع ال 2٪ يملكون كل شيء، وبقية الشعب يعاني الفقر والمرض والجهل ، والثالوث المزمن إياه يا نوال ليس له حل إلا تغيير النظام، وكيف يتغير النظام؟ الشعب اللي نايم ده لازم يصحى ويقوم ويثور يا نوال، كلمات أبي تجعل الضربات تحت ضلوعي تتصاعد، أحس بالدم يغلي في عروقي، فوران من الغضب المتراكم في صدري منذ الطفولة، ألست واحدة من هذا الشعب الذي يجب أن ينهض ويثور؟! في المظاهرات أجدني وسط الطلبة أهتف معهم بسقوط النظام، أدوس بقدمي على صورة الملك والباشوات والإنجليز، في عام 1948م عرفت عدوا اسمه دولة إسرائيل، وقضية وطنية جديدة اسمها تحرير فلسطين.
كانت السياسة عالما غامضا، لا أعرف عنه إلا القليل، أشارك في المظاهرات الطلابية باندفاعة حب الوطن، أعود إلى البيت منكوشة الشعر مبحوحة الصوت، أصابتني طوبة في الرأس كادت تقلع عيني اليسرى في إحدى المظاهرات.
بدأت أمي تحذرني: «بلاش تمشي في المظاهرات يا نوال، خطر عليكي.» أبي أيضا بدأ يحذرني ويتراجع عن أقواله السابقة: «مظاهرات إيه وكلام فارغ إيه، خليكي في الطب يا نوال، الدراسة عاوزة تفرغ كامل.»
إلا أن أبي لم يكف عن قراءة الصحف، في الصباح أو المساء، أراه جالسا في الصالة أو الفرندة يرشف القهوة مع دخان السيجارة مع الأخبار المنشورة في الصفحة الأولى من جريدة الأهرام، أمي إلى جواره ترشف قهوتها، تميل بنصفها الأعلى ناحيته، تلتقط بعينيها العناوين: حل جماعة الإخوان المسلمين ... مصرع النقراشي باشا، مصرع حسن البنا، صورة الملك فاروق داخل برواز كبير، فوق شغاف قلوب المصريين نقشت صورة صاحب الجلالة المفدى.
هذا الشعب المصري الوفي الأمين يشمله الفرح الكبير في العيد الملكي العظيم، ولا يملأ قلبه لصاحب الجلالة إلا الولاء والطاعة.
من غرفتي وأنا أراجع دروسي أسمع صوت أبي الغاضب: جرايد عاوزة الحرق! ولاء وطاعة إيه، يا صحفيين يا منافقين! الملك خلاص نهايته قربت، كفاية عليه صفقة الأسلحة الفاسدة وانهزام الجيش المصري في فلسطين!
فوق مكتبي كانت الكتب الجديدة وكشاكيل المحاضرات، في درج مكتبي كيس جلدي أسود به أدوات التشريح: مشرط صغير نشرح به الصراصير والضفادع.
كانت جريدة الأهرام قد استقرت في سلة المهملات تحت مكتبي، أمسك المشرط في يدي، مزقت به صورة الملك والحروف تحتها: «الطاعة والولاء!»
في قاموس اللغة في مكتبة أبي بحثت عن أصل هاتين الكلمتين، يرجع أصلهما إلى عهد العبودية، العبودية تعني الوطنية والولاء والطاعة. وفي أول 1890م نشرت جريدة الأهرام بمناسبة عيد ميلاد الخديو هذه الكلمات: «فوق شغاف قلوب المصريين نقشت حروف الحب والطاعة والولاء، هذا الشعب المصري الوفي الأمين يشمله الفرح الكبير في عيد ميلاد الخديو العظيم، إن مداد العبودية والطاعة والولاء تخطه يد الإخلاص، وتنقشه على قلب كل مصري وطني.»
كلمة الحب تعني العبودية، وكلمة العبودية تعني الإخلاص والطاعة والولاء، ومنذ عام 1890م حتى عام 1948م سقطت كلمة العبودية من قاموس الصحافة المصرية، كانت قوة العبيد تتصاعد وتهدد الحكم من خلال الحركة الوطنية، إلا أن جريدة الأهرام ظلت تحافظ على ما تسميه الموروث وإن كان الروث. إنها أحد أعمدة الحكم في مصر، أداة من أدوات قهر الشعب والعبيد، لم يكن لكلمة الطاعة أو الولاء أن تزول من قاموسها وإلا زالت الجريدة ذاتها، وهي تتخذ من صورة الأهرامات شعارها المطبوع في الصفحة الأولى، الهرم الأكبر في الجيزة، والأحجار التي حملها العبيد فوق ظهورهم لبناء مقبرة فرعون تكاد تشبه كتل الأوراق يحملها الصبية فوق ظهورهم كل صباح وهم يصيحون: الأهرام! الأهرام! ... خطبة الرئيس! ... خطبة الرئيس!
عام 1949م دخلت مبنى كلية الطب في شارع قصر العيني، أصبحت في سنة أولى مشرحة، كلمة «مشرحة» ترن في أذني ساحرة، أكثر سحرا من رنين الساعة أو قبة الجامعة الضخمة، خيالي يسرح قبل أن أدخل من الباب.
أيمكن أن أشرح جسد إنسان، أن أفتح بالمشرط تلك العضلة تحت الضلوع لا تكف عن الخفقان؟! أو الخلايا داخل الرأس لا تكف عن التساؤل واستعادة الصور في طفولتي؟!
في السنة الإعدادية لم أشرح إلا الضفادع أو الصراصير أو الخنافس، في حياتي منذ ولدت لم تقع عيناي على إنسان ميت، قشعريرة تزحف إلى جسدي بمجرد سماع الكلمة، أرمق من بعيد باب المشرحة، الضربات تحت ضلوعي تتصاعد، أنفاسي تضطرب، أيمكن أن ألتقي بالعفاريت أو الأرواح وجها لوجه؟ رائحة نفاذة تنفذ إلى أنفي، أهذه هي رائحة الموت؟!
كانت رغبة الاستطلاع أشد من الخوف، دخلت بقدمي إلى المشرحة، دخلت معي صفية وبطة، المناضد الرخامية مرصوصة في القاعة الواسعة، فوق كل منضدة جثة حولها ثمانية من الطلبة، طلبة السنة الأولى يطلق عليهم اسم «الجونيور»، طلبة السنة الثانية اسمهم «السينيور ».
أصبحنا ثماني طالبات نجلس حول منضدة واحدة، واحد من الطلبة «السينيور» جاء ليشرح لنا، كان هو التقليد المتبع داخل المشرحة، الطلبة القدامى يساعدون الطلبة الجدد، يتنافس الطلبة الجدد فيما بينهم على مساعدة الطالبات.
كنا نرتدي المعاطف البيضاء داخل المشرحة، نجلس على كراسي بدون ظهر، أربعة منا حول الجزء الأعلى للجثة أو الرأس والعنق ... الأربعة الأخريات حول النصف الأسفل أو الساقين.
في ركن المشرحة بالقرب من الباب كانت صناديق خشبية كبرة مملوءة بالفورمالين، يحفظ الجثث من العفونة، قبور من الخشب قابعة في الركن بجوار الحائط، يسبح فيها الموتى، داخل السائل ذي الرائحة النفاذة، يحرسهم فراش المشرحة «عم عثمان»، عيناه ضيقتان تلعمان كعيني الصقر، أصابع يديه مشققة من طول ما غمسها في الفورمالين، بشرته محروقة، وجهه أسمر شاحب ممصوص يشبه وجوه الفلاحين في قريتي.
كان عم عثمان يغلق الصناديق بالمفاتيح كأنما تحتوي كنوز الأرض، يقف أمامها منتفخ الأوداج كأنما هو سيدنا رضوان يحرس باب الجنة! لم يكن يبتسم إلا في وجوه الطلبة الأثرياء، ينفحه الواحد منهم ثلاثة جنيهات ثمن الجثة الواحدة، كان يسرق الجثث بالاتفاق مع الحانوتي، يشتري الثلاثة بخمسين قرشا، وفي الليل يتسلل إلى القبور يجمع عظام الموتى ثم يبيعها قطعة قطعة.
في الفناء أراه واقفا في الصباح الباكر داخل معطفه الأبيض المبقع بالفورمالين، أذناه منتصبتان تلتقطان أصوات النسوة يولولن وراء النعش الخارج من المستشفى، الجسد الميت لم يبرد بعد داخل التابوت الخشبي، يمشي عم عثمان في الجنازة حتى القبر، وأصبح يمتلك من الأموال والعمارات أكثر من الدكتور مورو باشا عميد الكلية، هكذا كان الطلبة يقولون.
حين أعود من المشرحة إلى البيت تصرخ أمي من الفزع كأنما أجلب في حقيبتي عفاريت الموت، تجعلني أخلع حقيبتي وحذائي خارج الباب، ملابسي كلها مع المعطف الأبيض مع أدوات التشريح تضعهما في الماء يغلي فوق النار.
في الأيام الأولى للمشرحة أصابتني الرجفة وأنا أقطع بالمشرط في اللحم الآدمي، توقفت عن أكل اللحوم بكل أنواعها، ما تقع عيني على قطعة لحم في سلطانية الشوربة حتى يصيبني الغثيان، كأنما هي ساق الميت تسبح داخل سائل الفورمالين.
كانت أمي تجهز لي وجبة غداء في علبة صغيرة أضعها في حقيبتي، ساندويتش من اللحم أو البيض لإمدادي بالبروتينات ... بعض الخضروات والفاكهة الغنية بالفيتامينات، كنت ألقي هذه العلبة بكل ما فيها إلى صفيحة القمامة، أقضي النهار كله في الكلية دون أن آكل شيئا، أشرب كوب الشاي بالنعناع أو الليمون، يعده لي «عم محمد» في غرفة الطالبات.
كنت أندهش حين أرى الطلبة «السينيور» يمسكون المشرط بيد، وفي اليد الأخرى ساندويتش يأكلون ويشرحون في الوقت ذاته، ثم راحت الدهشة وأصبح «الجينيور» يقلدون «السينيور». رأيت الزميلات يأكلن وهن يجلسن حول المنضدة من فوقها الجثة، وفي غرفة الطالبات أصبحت ألتهم ساندويتش اللحم الذي أعدته أمي، عادت لذة الأكل إلى ما كانت عليه، عادت أشد مما كانت، الشهية للحياة تشتد بجوار الموت كالضوء يتألق أكثر بجوار الظلمة.
أحد أساتذة الكلية كان قريبا لزميلتي بطة، من عائلة أمها أو أبيها، لم يكن «عم عثمان» يمنع عنها شيئا من الكنوز داخل الصناديق، أعطاها هيكلا عظميا كاملا بنصف الثمن، كانت تسكن في منزل دورين في أول شارع الهرم، في الدور السفلي نصبت أمها الهيكل العظمي فوق قوائم خشبية، كانت بطة تدعوني إلى بيتها لتراجع الدروس؛ فهي تشتري كل ما هو مطلوب من كتب أو جثث.
لم يكن في مقدوري أن أشتري من عم عثمان إلا بعض عظام اليدين والقدمين، مرتب أبي في الحكومة لم يكن صغيرا، لكنه ينفق على تسعة من الأولاد والبنات في المدارس، كان يمتلك قطعة أرض صغيرة في كفر طحلة، يبيعها جزءا جزءا لتسديد الديون، مصاريف كلية الطب كانت أغلى من غيرها، وثمن الكتب كان مرتفعا، الأسعار كلها تتضاعف مع ازدياد الغلاء. تأخرت في دفع المصاريف في السنة الإعدادي، في سنة أولى مشرحة تأخرت أيضا في الدفع، وصل إلى أبي خطاب من الكلية تطالبه بالدفع وإلا فسوف تضطر الكلية لفصل الطالبة كريمتكم.
ثم جاء اليوم الذي ناولني فيه أبي المظروف داخله القسط الأول من المصاريف، لمحت رعشة صغيرة في يده وهو يناولني المظروف، يقتطع من طعام إخوتي الصغار ليدفع ثمن تعليمي، يخرج في الصباح الباكر كل يوم، يشقى في العمل طوال النهار، يعود إلى البيت مرهقا منهوك القوى، أول كل شهر يناول أمي المرتب كله، تسدد ديون البقال والجزار والفكهاني والخضري والمخبز والصيدلية ولا يبقى إلا القليل، نعيش نصف أيام الشهر على ما تسميه أمي الشكك، نوتة صغيرة تدون فيها الديون يوما بيوم.
أول كل يوم تناولني أمي مصروفي لركوب الأتوبيس أو الترام إلى الكلية، كنت أمشي على قدمي وأعيد إليها المصروف، أو أدخره لأشتري بعض الكتب، أو بعض المفاصل أو العظام من عم عثمان.
كنت أشفق على أبي وأمي من العبء، أحاول التخفيف عنهما.
كانت أمي تشقى في العمل داخل البيت طوال النهار، تساعدها خادمة صغيرة تشبه سعدية، أقف إلى جوارها أمام الحوض لأساعدها في غسل الصحون، قد أمسح البيت كله في يوم إجازتي الجمعة، أو أعفي أمي من الطبخ أو إعداد المائدة أو أي عمل آخر في البيت.
كم كرهتها في طفولتي تلك الأعمال المتكررة الكئيبة، لا أنتهي من إعداد وجبة الفطور حتى تأتي وجبة الغداء، لا ينتهي الغداء حتى نبدأ في الإعداد لطعام العشاء، لا أكاد أنتهي من تنظيف الأرض حتى تغطى بالتراب، لا يفرغ الحوض من الصحون بعد الأكل حتى يمتلئ من جديد، كأنما هو صراع لا نهائي ضد دوران الأرض حول نفسها، أو حركة التراب في الكون، أو انقباضة عضلات المعدة أو الأمعاء داخل البطون.
ذلك اليوم ناولني أبي المظروف داخله القسط الأول من مصاريف الكلية، لمحت رعشت يده، وبصمات أصابعه فوق أوراق البنكنوت من رائحة عرقه، كان قلبي يئن وأنا أحمل المظروف في الشارع كأنما أحمل أبي بجسده الضخم داخل حقيبتي، أحمل الكرة الأرضية فوق رأسي وأمشي ... ربما نوع ما من تأنيب الضمير أو الإحساس بالذنب، أيجوع أخوتي الصغار ويصابون بالأنيميا أو فقر الدم لأصبح أنا طبيبة!
لم أحمل في حقيبتي هذا المبلغ الكبير من قبل ... خبأت المظروف داخل كشكول سميك داخل الحقيبة، أغلقت الحقيبة بالقفل، وضعتها تحت إبطي، أتلفت حولي في الشارع، العيون ترمقني بنظرة غريبة، كأنما هي كلها عيون لصوص، قادرة على اختراق الجلد واللحم، وأنوفهم أيضا قادرة على التقاط رائحة الفلوس.
لم أركب الترام أو الأتوبيس حيث يكون النشالون، أصابعهم خفيفة تنشل النقود في غمضة عين مثل أصابع الجان أو الأرواح الخفية، سرت على قدمي من الجيزة إلى شارع القصر العيني، دخلت إلى مبنى الإدارة في الكلية، وقفت أمام الموظف المختص باستلام المصاريف أو شئون الطلبة.
كان هناك طابور يتحرك ببطء شديد؛ فالموظف يترك مقعده ويغيب طويلا داخل مكتب آخر، لم يكن أيضا يحترم النظام، ما إن يقدم له الطالب كارت توصية حتى يأخذه قبل الآخرين الواقفين قبله، ما إن يدخل أستاذ في الكلية أو موظف كبير حتى ينتفض واقفا ويخرق نظام الطابور، لا أحد يعترض من الطلبة الواقفين، الكل يكتم الغضب. من خلفي سمعت طالبا يهمس في أذن زميله: «البوظان في الكلية زي البوظان في البلد كلها، نظام فاسد، والفلوس اللي بندفعها دي خسارة فيهم، لو كان عندي قريبة أو واسطة للباشا العميد كنت أخذت المجانية.»
رنت في أذني كلمة «المجانية»، سمعت عن شيء اسمه مجانية التفوق، كنت متفوقة والأولى في مدرستي، فلماذا لم أحصل على المجانية؟! البوظان أو الفساد لا يمكن أن يقف في طريقي لأحصل على حقي، الدم في عروقي يغلي وجسدي اندفع وحده خارج الطابور، سألت عن مكتب العميد، إنه رئيس الكلية، أكبر رأس بين الأساتذة لا يمكن الدخول إليه، بابه مغلق تعلوه لمبة حمراء، لا ينفتح إلا لكبار الأساتذة أو الوزراء والباشوات ، العميد في اجتماع مهم، قال لي مدير مكتبه، ثم سألني: معاكي كارت توصية؟! انفجرت بغضب: يعني لازم أجيب واسطة للعميد علشان أقابله؟
رمقني المدير بنظرة حانقة، كأنما أنا التي أخرق النظام أو القانون وليس هو ... سمعنا صوت الجرس يرن فوق رأسه، انتفض واقفا، أحكم إغلاق بدلته بالأزرار ثم أنطلق بخطوة سريعة وظهر منحن داخل غرفة العميد.
انغلق الباب وراءه، وقفت أحملق في الباب المسدود في وجهي تعلوه اللمبة الحمراء، حقيبتي تحت إبطي داخلها المظروف، رعشة يد أبي وبصمات أصابعه مرسومة بالعرق، بشرة إخوتي الصغار تعلوها بقع الأنيميا وفقر الدم، أصابع أمي حمراء ملتهبة بالصودا الكاوية والصابون، ليس معي كارت توصية، وليس لي قريب يحمل لقب الباشا.
وجدت جسدي يندفع نحو الباب بقوة الغضب والخوف والأمل واليأس ومشاعر أخرى متناقضة، تفاعلت معا داخل العضلة المنقبضة في صدري، وراء هذا الباب يقبع الموت أو الحياة سيان، لم يعد يهمني ما الذي يمكن أن يحدث ... مجانية التفوق أو الفصل النهائي من الكلية، كلاهما واحد، أصبح هدفي الوحيد هو فتح هذا الباب المسدود في وجهي بصرف النظر عن العواقب، تبدد الخوف والأمل واليأس والغضب وغيرها من المشاعر، لم أكن أشعر بشيء، نوع من التخدير الكامل لحواسي الخمس يسبق أي عمل شجاع وإن كان الارتماء تحت عجلات القطار أو الانتحار.
رأيت نفسي داخل غرفة كبيرة مهيبة كأنما دخلت قصر عابدين يوم المظاهرة الكبيرة عام 1946م؛ النجفة الضخمة والسجاجيد السميكة، الصور المذهبة فوق الجدران، المكتب الضخم من خشب الأبنوس الأسود تعلوه النقوش، من وراء المكتب يطل طربوش أحمر فاقع اللون، النصف الأعلى لبدلة سوداء وربطة عنق، عينان واسعتان سوداوان تحملقان في وجهي وتتسعان، فوق رأسه كانت صورة الملك فاروق داخل إطار ذهبي يرتدي ملابس الجيش والنياشين.
كان وحده في الغرفة، لا اجتماع مهما ولا أرى شيئا آخر، رمقت مدير مكتبه المرتجف أمامه، منعني من الدخول، لكن الموضوع مهم جدا. «دكتور»، كنت أظن أن لقب «دكتور» يناسب عميد كلية الطب، إلا أن مدير مكتبه همس في أذني قائلا: اسمه سعادة الباشا العميد، لم يكن في مقدوري أن أنطق هذه العبارة «سعادة الباشا»، كأنما في حروفها تكمن الإهانة أو العبودية، وما إن ينطقها لساني حتى يصاب بالشلل وأتحول من إنسان ناطق إلى حيوان أعجم.
وقفت أحملق في وجه العميد لا أعرف كيف أبدأ، جاءني صوته من وراء المكتب منخفضا مبحوحا، يشبه صوتي بعد الهتاف الطويل في المظاهرات: إيه الحكاية يا بنتي؟! كلمة «بنتي» مع لهجته الهادئة أضاف عليه لمسة من الأبوية.
تشجعت وقلت دفعة واحدة: «أنا أستحق مجانية التفوق يا دكتور، فيه طلبة أقل مني أخذوا المجانية علشان لهم واسطة»، رنت كلمة «واسطة» في الجو، فانتفض مدير المكتب وقال: سعادة الباشا العميد معاندوش حاجة اسمها واسطة، أرجوكي انتي دخلتي بدون إذن وسعادة الباشا العميد مشغول!
لم أتحرك من مكاني، لقد دخلت بقدمي وانتهى الأمر، علي أن أدافع عن نفسي حتى آخر رمق، اسمك إيه يا بنتي؟ صوته مليء بالطيبة، فلماذا يضع أمامه بابه ذلك المدير الشبيه بالضبع؟ تشجعت أكثر وقلت له اسمي واسم أبي.
أضفت بلهجة لا تخلو من الزهو أن أبي شارك في ثورة 19 وأنه من رجال التعليم في مصر، له تسعة من الأولاد والبنات كلهم في المدارس والجامعات، لا يفرق بين تعليم الولد والبنت، كأنما كنت أقف فوق منصة وألقي خطبة، رأيت العميد يبتسم: «وانتي نمرة كام في التسعة يا بنتي؟» «أنا نمرة اثنين، فيه أخ أكبر مني بسنة واحدة وأنا الثانية، لكن كنت دايما الأولى في المدرسة.»
لم يستغرق لقائي بالعميد أكثر من خمس دقائق، جعلني أكتب طلبا بالمجانية، أو أملأ إحدى استماراته، ثم أمسك قلمه الأحمر وكتب التأشيرة أسفل الورقة: «تمنح الطالبة المجانية الكاملة طوال سنين الدراسة بالكلية»، التوقيع: العميد د. مصطفى عمر.
لا أعرف كيف خرجت من مكتبه، أو كيف عدت إلى البيت، ربما خف جسمي فلم تعد قدماي تلامسان الأرض، كأنما أطير وأحلق في الجو، رغم التحليق ظلت حقيبتي تحت إبطي داخل المظروف، أحرك ذراعي وساقي في الهواء، أتعجل اللحظة وأنا أصل إلى البيت، أرسم وجه أبي أمامي، عيناه السوداوان تتسعان وتتسعان ويملؤها البريق، ويشتد ليغرق الكون كضوء الشمس.
كان أبي جالسا فوق الكنبة في الفرندا مرتديا البيجاما، عاد لتوه من الخارج، أمي في المطبخ تعد له فنجان شاي مع قطعة من فطيرة الذرة التي خبزتها في الفرن، رائحة فطيرة الذرة في أنفي حتى اليوم رغم مرور خمسة وأربعين عاما، صورة أبي محفورة في خيالي، عضلات وجهه متهدلة قليلا من الإرهاق، شحوب قليل ينم عن التعب أو القلق.
انحناءة خفيفة لكتفيه كأنما يحمل فوقهما العبء، لون البيجاما أبيض يميل إلى الزرقة قليلا بسبب الزهرة التي تضاف إلى ماء الغسيل، أزرارها من الصدف الأصفر حجم القرش، أحد الأزرار مفقود، والزر الأخير مكسور، سروال البيجاما متهدل قليلا.
لحظة محفورة في ذاكرتي بالتفاصيل ... حكيت لأبي ما حدث، بدت الحكاية خيالية من تأليفي، لم يصدقها حتى أخرجت المظروف من حقيبتي، فتحه بأصابع مرتعشة كأنما سيجده خاليا، حين وقعت عيناه على أوراق البنكنوت نهض واقفا، مد يده لي مصافحا: برافو يا نوال، برافو! جدعة والله! تعالي يا زينب شوفي بنتك عملت إيه!
يوم من أيام الفرح في بيتنا، ارتفعت مكانتي في عين أبي، أصبح يناديني بلقب دكتورة، حين تكون أمي متعبة ينهض في الصباح الباكر ليعد لي الشاي والفطور، أو يجهز لي علبة الغداء لآخذها معي إلى الكلية.
وأصبح في إمكاني أن أشتري بعض الكتب، وجمجمة كاملة باعها لي عم عثمان، وضعتها داخل حقيبتي الجلدية مع الكتب والكشاكيل، ما إن رأتها أمي حتى صرخت: «جايبة معاكي ميت ... يا نهار أسود.» وأغلقت علي غرفتي مع حقيبتي مع الميت، لم يكن لي أن أفتح الباب دون أن تخفي عينيها بيديها الاثنتين، كأنما عفريت الميت خرج إليها لحظة انفتاح الباب.
الحب والموت فوق منضدة واحدة
كانت أختي الصغرى ليلى تشاركني الغرفة، ما إن دخلت الجمجمة من فراش المشرحة حتى خرجت هي بسريرها ومكتبها الصغير.
لم يعد أحد من البيت يدخل غرفتي، أبيت طول الليل وحدي مع ذلك «الميت» المجهول، يطل رأسه من فوق المكتب بجوار سريري، عيناه حفرتان كبيرتان داخل عظام الجمجمة.
قبل أن تنام أمي تقرأ سورة يس، تطرد بها الروح الشريرة من البيت، لكن الحياة سرعان ما تغلبت، واكتسحت العادة الشيء غير العادي، أصبحت أمي تدخل غرفتي تنفض التراب عن كتبي وأوراقي، تمسح رأس الميت بالفوطة الصفراء، تدس طرف الفوطة داخل العين والأذنين والأنف والفم، تزيل عنها التراب، تنظر داخل البئرين العميقتين حيث كانت العينان، ثم تتنهد بصوت مسموع: «الدنيا فانية، والبني آدم آخرته التراب» ... سحابة شفافة من الحزن تكسو عينها، سرعان ما تنقشع وهي تنظر إلى عينيها السلبيتين يملؤهما ضوء الشمس تبدد سحب الصيف الرقيقة، أسمعها تضحك: «الدنيا ما تستاهلش إننا نزعل عليها أو نأخذها جد.» ضحكتها ترن في البيت، الضحكة الطفولية القديمة، كرنين الماء الرقراق داخل إناء من الفضة، تخلع جلباب البيت والشبشب، ترتدي فستانها الحريري الأصفر ذا الحمالات الرفيعة، يكشف عن كتفيها البيضاوين كالرخام، تجلس أمام المرآة «التواليت» تكحل عينيها، تمر بالفرشاة على خديها البارزتين، يصبح لهما لون الورد الأحمر، تضغط بإصبع الروج على شفتيها فتصبحان مثل ثمرتي الكريز وسط وجهها المستدير الأبيض بلون القمر، ترتدي في أذنيها الحلق الألماظ، طويل رفيع، فصوصه تلمع وتهتز مع اهتزازة رأسها، تطلق سراح شعرها الذهبي الناعم فوق كتفيها العاريتين، تحوط عنقها الرخامي الأبيض بالعقد لألماظ، تسميه «البانتانتيف»، ترتدي حول معصمها الأيمن الأسورة الذهبية ذات الفصوص الألماظ وتسميها «الشبكة» التي شبكها بها أبي في السنارة أو مصيدة الزواج، حول المعصم الأيسر ترتدي الساعة الرقيقة الحريمي ذات الفصوص الألماظ الصغيرة والأرقام الدقيقة غير المرئية بالعين المجردة، حول إصبعها الخاتم «السوليتير» له فص كبير من الماس، والخاتم الذهبي الرفيع منقوش عليه من الداخل اسم أبي.
قدماها الصغيرتان البضتان تتقوسان داخل الحذاء ذي الكعب العالي الرفيع، تتمشى فوقه من غرفة إلى غرفة، ثم تستقر في النهاية داخل المقعد في الفرندة وتطل على السماء وأطراف الأشجار من بعيد، تصنع لنفسها كوبا من عصير البرتقال أو الليمون، تعود إلى مقعدها في الفرندة، ترشف العصير على مهل، تتأجج عيناها بالنشوة كأنما هي ترشف الخمر، أذناها مرهفتان تنتظران صوت جرس الباب، تحفظ الطريقة التي يدق بها أبي الباب، تعرف موعد عودته إلى البيت بالدقة، كان مثل الساعة شديد الانضباط، لم يكن في حياته إلا وظيفة الحكومة، وزوجة واحدة هي أمي، وتسعة من العيال.
في الفرندة كنت أراهما «أبي وأمي» جالسين معا يرشفان عصير البرتقال أو الليمون ويسكران ... تنطلق ضحكاتهما في أنحاء البيت إلى حد القهقهة العالية. قد يلعبان معا الكوتشينة أو الطاولة، تنهزم أمي دائما وتنتفخ أوداج أبي مثل الديك الرومي أو الطاووس، يمد ساقيه ويسترجع ذكريات البطولة، ثورة 19 أول هذه الذكريات، ثم نجاحه بامتياز في كلية دار العلوم، وأخيرا انتصاره في الزواج من أمي رغم عراقيل أبيها شكري بيه. تضحك أمي وتلقي بشعرها الذهبي الناعم خلف عنقها الرخامي: «فاكر يا سيد لما المرحوم بابا قالك نجوزك فهيمة بدل زينب، وقلت له يا زينب يا بلاش.» تضحك أمي وتكركر، ضحكتها المتقطعة كالماء المقطر داخل قلة من الفخار الرقيق: «لكن اشمعنى يعني زينب، هو انت كنت شفت شكلي إيه؟!» تتأجج عينا أبي، تشتعلان بالبريق وهو يرمق استدارات الجسد الأنثوي الناعم إلى جواره: «يعني كنت حاشوفك فين يا زينب، لكن أمي الحاجة مبروكة وصفتك لي حتة حتة، والأذن تعشق قبل العين أحيانا.»
هنا يبلغ العشق ذروته، فينهض أبي ومعه أمي يختفيان داخل غرفة نومهما، من وراء الباب المغلق أسمع الهمسات مع طقطقات السرير النحاسي مع القهقهات والشهقات والزفرات كالنشيج والضحك في آن واحد. •••
أمام غرفة الطالبات كانت حديقة صغيرة جرداء إلا من شجرة كافور كبيرة، أجلس تحتها أشرب الشاي بالنعناع ... مبنى كلية الصيدلة ملاصق لنا، تأتي سامية وصفية، ونستعيد الذكريات القديمة، قد تشاركنا «بطة» وغيرها من زميلات الطب أو الصيدلة، نرشف الشاي بالنعناع أو القهوة باللبن ونحكي الحكايات. قصص الحب في المشرحة كانت أكثر منها في الصيدلة، الزملاء السينيور يقعون في غرام الطالبات الجونيور، من فوق الجثث تتلاقى العيون وتقفز القلوب ... تشتد الخفقات تحت الضلوع، يجتمع الحب والموت فوق منضدة واحدة كأنما هما توءمان، أمهما واحدة وأبوهما على طرفي نقيض، غريمان مجهولان متنافسان، لا شيء يجمعهما إلا تلك الأم الواحدة.
فوق منضدة التشريح تتقارب رءوس الزميلات، لا يكف الهمس والهسيس، الشهقات المتقطعة المكتومة والقفشات، بطة تحكي آخر نكتة، نموت من الضحك، الزملاء يموتون من الغيظ أو ربما الإعجاب، تأتي الرسائل داخل الكشاكيل أو بين طيات كتاب «كانينجهام»، رسائل معطرة بالحب والفورمالين، كان الزملاء يستعيرون كشاكيل المحاضرات من الزميلات، يقترب الزميل من الزميلة بخطوات متعثرة، خجول، والدم يتصاعد إلى وجهه كالعذراوات: «محاضرة الدكتور البطراوي فاتتني يا زميلة، يا ترى أقدر استلف الكشكول بتاعك؟!» «أيوة يا زميل.» «متشكر أوي يا زميلة.» ثم يأتي طالب آخر تقع عينه على واحدة أخرى من الزميلات: «أنا نسيت (كانينجهام) في البيت، يا ترى أقدر استلف كتابك يا دكتورة؟» «أيوة يا دكتور»، «متشكر خالص يا دكتورة.»
منذ دخلنا المشرحة ونحن نتبادل لقب دكتور ودكتورة والكشاكيل والكتب، ما إن يعود إلى الواحدة منا كتابها أو كشكولها حتى تخفيه تحت الجثة أو فوق ركبتها تحت المنضدة، تفتحه خلسة بعيدا عن العيون، تخفي الرسالة في جيبها أو حقيبتها، تخرجها من حين إلى حين تتشممها: «الله على ريحة الفورمالين يا زميلات!» تنطلق الشهقات المكتومة والقفشات، وتتأجج العيون بغريزة الاستطلاع.
أحد الزملاء السينيور كان يتردد على منضدتنا كثيرا، يمسك المشرط بين أطراف أصابعه مقلدا أستاذ التشريح، ويشرح لنا: «لا يا زميلة، انتي ماسكة المشرط غلط، مش كدة التشريح، هاتي أوريكي!» ... «لا يا دكتورة! مش كدة تمسكي الملقاط، ده ملقاط مشرحة مش حواجب لا مؤاخذة!»
تكتم البنات الضحك، يرمق الزميل السنيور بطرف عين تلك التي جاء من أجلها، يتفادى النظر إليها مباشرة كأنما هي غير موجودة ... إلا أننا كنا نعرف، فالحب وإن اختفى لا يختفي، وهو لا يكف عن الشرح لنا، لا يفارق منضدتنا، «خلاص فهمنا يا دكتور.» يحمل مشرطه ويعود إلى منضدته، تحوم عيناه من بعيد ... تدوران في المشرحة حول الوجوه، تستقر في النهاية عند منضدة الزميلات.
تلكزني بطة في كتفي: «شايفة الواد السينيور اللي هناك ده؟» «أيوة ماله؟» «عينه على البت صفية.» «حرام عليكي يا بطة، ده ولد طيب.» «قصدك أهبل.» «مش قصدي.» «على العموم الهبل هم اللي بيقعوا في الحب يا نوال، والطلبة الواعيين زي القرود، عينهم على خمسة عين!» «خمسة عين يعني إيه يا بطة؟» «يعني عيادة وعربية وعزبة وعمارة وعروسة.»
تشهق بطة بالضحك: «طبعا يا نوال، العروسة دي آخر حاجة، بعد ما يحوش الفلوس من العمارة والعيادة، يروح يخطبها من أبوها الباشا ويجوزها على طول، لا حب ولا يحزنون!» •••
عام 1951م انتقلت إلى سنة ثانية مشرحة بدون امتحانات، سيكون الامتحان الصعب آخر هذا العام، يشمل العلوم كلها التي درسناها في عامين اثنين ومنها التشريح، أكبر مدرج «علي باشا إبراهيم» يتسع لمئات الطلبة، نتلقى فيه المحاضرات وتعقد فيه الندوات والاجتماعات الكبيرة أو الاحتفالات. كنت أشارك الطلبة في هذه الأنشطة خارج نطاق الطب، أخرج معهم في المظاهرات، نهتف ضد الملك والإنجليز، في عيد الهجرة النبوية يدعوني زعيم الطلبة من الإخوان المسلمين لإلقاء كلمة، وفي الاحتفال بإلغاء معاهدة 36 يدعوني زعيم الطلبة الوفديين للمشاركة بإحدى الخطب ... في عيد العمال يأتي إلي زعيم الطلبة الشيوعيين ويطلب مني مقالا لمجلة اسمها «الجميع»، في الندوات الثقافية أو الفنية أتلقى الدعوة للمشاركة بقصة قصيرة أو قطعة أدبية.
كنت الطالبة الوحيدة في الكلية التي تلقي الخطب في المناسبات، وتكتب القصص والمقالات، كان طلبة الطب كغيرهم من طلاب الجامعة يصدرون المجلات، وكنت أحب الأدب والفن أكثر من الطب، لم أتوقف منذ المدرسة الثانوية عن كتابة القصص وتسجيل خواطري في مفكرتي السرية، في أحلامي لا أرى نفسي طبيبة، وإنما كاتبة أديبة، ترمقني الزميلات بنظرات ساخرة: «أديبة إيه وكلام فارغ إيه، هو الأدب في بلدنا يوكل عيش يا نوال؟!»
أغلب زعماء الطلبة كانوا في السنة النهائية أو الخامسة ... ننظر إليهم ونحن في المشرحة كأنما هم عمالقة، كانت السنة النهائية في الطب تبدو لنا بعيدة أبعد من نجوم السماء، من هؤلاء الطلبة كان هناك اثنان يصدران مجلة اسمها «طلبة القصر العيني»، أحدهما طويل القامة نحيل الجسم اسمه «كمال كشميري»، والثاني قصير مربع اسمه «أحمد يونس» ... يسيران في الفناء معا لا يفترقان، كالتوءمين، يدخلان إلى المشرحة معا، يتجهان إلى منضدة الطالبات حيث أكون: «يا زميلة نوال، عاوزين منك مقال للعدد الجاي أو قصة قصيرة.»
أول مرة أرى حروف اسمي مطبوعة كان في هذه المجلة، حملقت في الحروف السوداء المنقوشة فوق الورق الأبيض ، كأنما هي منقوشة فوق وجه القمر أو قرص الشمس، محفورة بالرصاص في السماء، راسخة في الكون مثل الكواكب والأفلاك.
كلما أرى واحدا من الطلبة ممسكا بالمجلة أتصور أنه لا يقرأ فيها إلا مقالي، كان بعنوان «طلبة الطب كما أراهم»، ضحك أبي كثيرا حين قرأ المقال: «عندك ملاحظة دقيقة يا نوال، ووصفك للتفاصيل مدهش!» كيف وصفت الطلبة؟! لا أذكر، لكن المناخ العام في كلية الطب لم يكن يروقني، أكثر الطلبة من النوع الصمام، يحفظون المحاضرات عن ظهر قلب، يتنافسون في الدخول من باب المدرج، يدوسون على أقدام الزميلات، يحجزون مقاعد الصفوف الأمامية أمام السبورة، ينكفئون فوق الكشاكيل يكتبون كل كلمة تسقط من فم الأستاذ.
في نهاية العام تصبح عيونهم حمراء، تتورم جفونهم، تشحب وجوههم، تتقوس ظهورهم وهم يسرعون من مدرج إلى مدرج، أنفاسهم تلهث، أفواههم مفتوحة، ولا شيء يلوح لهم إلا شبح الامتحان، وصفت أيضا بعض زعماء الطلبة من الأحزاب المختلفة.
كان زعيم الإخوان قصيرا ممتلئ الجسم أبيض البشرة، له رأس مربع يشبه رأس أبي الهول، وصوت جهوري، يقف على المنصة ويلقي خطبة طويلة في عيد الهجرة النبوية، يحكي قصة العنكبوت التي كنت أحكيها وأنا تلميذة في حلوان الثانوية، يضرب بقبضة يده على منضدة المنصة، يحرك ذراعيه في الهواء، يسبل جفونه، يبربش، يبلل شفته السفلى بطرف لسانه، يرفع عينيه نحو السقف، يتسرب الطلبة من المدرج دون أن يشعر بهم، يواصل الخطبة دون أن يسمعه أحد كأنما يكلم نفسه أو يخاطب السماء.
زعيم الوفديين كان طويلا نحيفا مقوس الظهر أسمر الوجه ... يقفز فوق المنصة، يخطف الميكرفون من الزعماء الآخرين ويهتف بصوت عال: «يحيا النحاس باشا.» لا أحد يرد عليه ... ينسحب أحد الطلبة من لسانه: «مش عاوزين هتاف وخطب، عاوزين كلام يدخل العقل.»
يتقدم نحو المنصة زعيم الطلبة في الحزب الوطني، طبيب امتياز يرتدي بدلة أنيقة، طويل ممشوق مرفوع الظهر، يمشي فوق المنصة كالطاووس ... يمسك الميكرفون بيد واحدة ... وفجأة يدوي صوته الجهوري في المدرج ... كان اسمه فؤاد محي الدين، أصبح رئيسا للوزارة في عهد السادات، ثم مات فجأة منكفئا فوق وجهه في مكتبه. يتبعه في إلقاء الخطب زميل له اسمه إبراهيم الشبيني، قامته أقل طولا، بدلته أقل أناقة، لكن صوته ليس أقل ارتفاعا، تعرفت عليه أكثر حين جمعنا مكتب واحد في وزارة الصحة.
إحدى المجلات في الكلية كان اسمها «الجميع»، كان يصدرها طالب في نهائي طب معروف بأنه شيوعي، يمشي في الفناء بخطوة واسعة سريعة، رأسه منكفئ قليلا إلى الأمام كأنما ينطح أحدا، يحرك ذراعيه بقوة في الهواء، يدخل إلى المشرحة ويتجه مباشرة إلى منضدة الطالبات، يتكلم بلغة عربية فصحى ويضغط على مخارج الألفاظ: «يا زميلة يا نوال، أنا أجمع كفاءات الكلية في مجلة «الجميع»، وأريد منك قصة أو مقالا عن المظاهرة الأخيرة، أنا اسمي يوسف.»
رن اسمه في أذن الزميلات يسري، ربما ضاع حرف الفاء الأخير من كلمة يوسف في الضجة خارج المشرحة، كانت هناك مظاهرة تتجمع في الفناء، لم تكن المظاهرات تكف منذ إلغاء المعاهدة في أكتوبر 1951م حتى حريق القاهرة في يناير 1952م.
لم تكن زميلاتي يشتركن معي في المظاهرات، يشعرون بالنفور من كلمة السياسة والأحزاب، أكثر ما يفزعهن هو دخول ذلك الشيوعي إلى المشرحة واقترابه من منضدتنا، ما إن يرونه حتى يهتفن في نفس واحد: يسري الشيوعي جاي أهوه يا نوال! يا دي المصيبة! وتنتفض صفية فوق مقعدها، تذكر أخاها الأكبر: «اسمعي يا نوال، مش عاوزين شبهة هنا كمان، أنا مش ناقصة مشاكل.» وتقول «بطة» وهي تمط شفتيها باشمئزاز: «وكمان له تبريئة كأنه قاتل واحدة.» وتنفجر الزميلات في الضحك: «صحيح والله، عليه بصة مخيفة زي أتال الأتلا .»
في إحدى المرات سألته بطة قائلة: «انت شيوعي بسحيح (بصحيح) يا يسري؟!» تركزت عيناه اللامعتان في عينيها وقال: «أنا بسحيح اسمي يوسف مش يسري»، وضحكت الزميلات، وعرفنا أنه رئيس تحرير مجلة «الجميع»، واسمه يوسف إدريس، وقد أصبح هذا الاسم فيما بعد من الأسماء اللامعة بين الأدباء في مصر.
لم أكن أفهم ماذا تعني كلمة الشيوعية، هي والإلحاد والكفر والفساد والانحلال كانت مضمومة في أذهان الزميلات داخل سلسلة واحدة ... سامية كانت صديقتي الأولى الشيوعية، تجلس معنا في غرفة الطالبات صامتة، شفتاها لا تنفرجان عن ابتسامة، تنفجر البنات بالضحك وهي جادة رصينة لا تضحك، تحكي الزميلات عن قصص الحب، عن رسائل الغرام داخل الكشاكيل، تمط سامية شفتيها كما كانت تفعل في مدرسة حلوان وتقول: «الواقع يا بنات إن البلد في أزمة وانتم مشغولين بالكلام الفارغ!» لم تكن سامية تعترف بوجود شيء اسمه «الحب»، ده شغل عيال يا نوال ... دي رومانتيكية فاضية ... دي مراهقة طفولية برجوازية، اسمعي يا نوال، لازم أحكي لك عن «ماركس» شوية.
أول مرة أسمع فيها عن اسم «ماركس»، رن في أذني يشبه اسم «مركس» أو «مرقس» (حين تنطقه بطة)، الحبيب الأول لصفية وهي في حلوان الثانوية ... تصورت أن سامية قد وقعت (مثل صفية) في حب رجل قبطي، إلا أن سامية ضحكت، لأول مرة في حياتي أراها تضحك، وقالت: «ده شيوعي مش قبطي يا نوال»، «يا نهار أسود يا سامية، ده القبطي أحسن، على الأقل من أهل الكتاب، لكن الشيوعي ملحد وكافر.»
كانت هناك مجلة أخرى في الكلية اسمها «شعلة التحرير»، يصدرها طالب في سنة رابعة أو خامسة اسمه أحمد حلمي، لم يكن يدخل المشرحة أو يقترب من الطالبات، كان أحد زعماء الكلية، يتكلم في المناسبات الوطنية بصوت هادئ، ينصت إليه الطلبة باهتمام أكثر، يخفي عينيه وراء نظارة شمس، سمعنا أنه أحد الفدائيين في قناة السويس، يختلف عن الطلبة الآخرين في كل شيء، لا نراه في الكلية إلا نادرا، تحوطه هالة من الغموض.
كان لبعض الأساتذة في الكلية اهتمامات وأنشطة أخرى خارج الطب؛ منهم الدكتور «سعيد عبده» أستاذ الصحة العامة، كان يكتب في الصحف عمودا تحت عنوان «خدعوك فقالوا»، وكان يحب الأدب والشعر مثل الدكتور إبراهيم ناجي الذي مات قبل أن أتعرف عليه. أستاذ الكيمياء الحيوية «البيوكميستري» كان اسمه الدكتور «شفيق الريدي»، يحضر أحيانا الحفلات الثقافية والغنائية، يجلس في الصف الأول مع الأساتذة. أحد الطلبة كان يهوى الموسيقى والغناء اسمه «حسونة»، سمين مربع الجسم ، يعزف العود فوق المنصة، ويغني: «يا ريدي البس نضارة! خبي عينك السحارة! يا ريدي آه يا ريدي!»
كان للدكتور الريدي عينان مشهورتان في الكلية، لونهما أخضر أو أزرق، يكسوهما البريق ... تنجذب إليهما عيون الطلبة والطالبات، يتمشى كالطاووس في الفناء، يركب سيارته الطويلة الفاخرة، ترمقه عيون البنات من نوافذ المشرحة، تشهق بطة: «يختي عليه وعلى حلاوته» ... تردد الأخريات في نفس واحد: «قمر والله.» «يا أرض اتهدي ما عليكي أدي.»
لم أكن أنجذب إلى هذا النوع من الوسامة في الرجال، أواصل التشريح دون أن أرفع عيني نحو الفناء، تشد «بطة» المشرط من يدي وتقول: «بصي يا نوال متعي عينك قبل ما نموت ونبقى زي الجثة دي!» «هاتي المشرط يا بطة بلاش مسخرة والامتحان قرب.» «امتحان إيه وزفت إيه، أنا عاوزة عريس زي الريدي يا بلاش، بصي على العربية بتاعته! تجنن! دي كاديلاك دي ولا إيه يا نوال؟!» «أنا ماعرفش في العربيات، هاتي المشرط!» «أمال تعرفي في إيه يا فالحة؟! في المظاهرات وتحرير الوطن! أنا عاوزة أتجوز! يا ريدي آه يا ريدي.» وتنفجر البنات بالضحك المكتوم.
اسمها الحقيقي كاميليا، ينادونها بطة، وهي تشبه البطة، قصيرة سمينة مربعة الجسم، تتأرجح في مشيتها فوق الكعب العالي الرفيع، تكركر بالضحك بصوت الدواجن، صوتها يسرسع إذا ارتفع مثل الجرس، شفتاها ممتلئتان باللحم، تصبغهما بالروج الأحمر، يداها صغيرتان بضتان ناعمتان، أظافرها طويلة مدببة كالمخالب، مطلية باللون الأحمر.
لم تمسك بطة المشرط في يدها طوال العامين في المشرحة ... تخاف على أناملها الرقيقة من الفورمالين، كان من السوائل الحارقة، يشقق الجلد ويطفئ لمعة الأظافر، لم تقبل واحدة من الزميلات على الإمساك بالمشرط، يكتفين بالجلوس والفرجة على التشريح أو القراءة من كانينجهام مع النظر إلى صور الكتاب.
كان الدكتور البطراوي يمر علينا في المشرحة، له قامة طويلة فارعة تشبه قامة أبي، شعره أشيب، جبهته عريضة، لصوته بحة تنجذب إليها الأذن، يميل إلى الفكاهة والسخرية، يراني واقفة في يدي المشرط والزميلات جالسات حول المنضدة: «مافيش واحدة منكم عاوزة تمسك المشرط؟ طبعا خايفين على صوابعكم الناعمة! حتبقوا دكاترة إزاي يا هوانم؟!»
يضحك الدكتور البطراوي بصوته العالي يملأ المشرحة بجو من المرح، يرمقني بنظرة تشبه نظرة أبي: «براڤو يا بنتي، انتي اللي فيهم، وريني عاملة إيه؟ عال عال! براڤو، لكن واحدة من القوارير دي لازم تساعدك!»
تنكمش الزميلات كالدجاجات فوق مقاعدهن، يغطين أفواههن بأيديهن، ويكركرن بالضحك المكتوم، يضحك الدكتور البطراوي رافعا قدمه فوق المقاعد الخالية: «مش كدة ولا إيه يا ست بطة؟» تتشجع «بطة» وتفتح فمها قائلة: «رفكا بالكوارير يا دكتور!» تتحول ضحكة الدكتور الأستاذ إلى قهقهة عالية، وتتجه عيون الطلبة إلى منضدة الطالبات: «رفكا بالكوارير دي إيه يا بطة هانم، مش عارفة تنطقي حرف «القاف» وتقولي «القوارير»، أمال حتطلعي دكتورة إزاي وتكلمي العيانين الفلاحين، واللا الصعايدة اللي يجولوا الجوارير، ولا إيه رأيك يا دكتور عمرو؟!»
إلى جواره كان الدكتور عمرو «المدرس أو التيوتر»، يقف مشدودا مثل الجندي في حضرة الضابط، ذراعاه معقودتان حول صدره، يهز رأسه موافقا على أي كلمة تخرج من فم الأستاذ ... لكن ما إن يختفي الدكتور البطراوي حتى يفرد الدكتور عمرو ذراعيه وساقيه، يتمشى في المشرحة مثل الطاووس، يقلد الأستاذ في طريقة المشي والكلام، يضحك بصوته العالي ويطلق على الطالبات اسم القوارير، يمتلك سيارة طويلة تشبه سيارة الدكتور الريدي، ليس في رأسه شعرات بيض وليس في إصبعه خاتم زواج أو خطوبة، ترمقه بطة بعينيها السوداوين المكحلتين: «آهه، ده العريس المناسب مش التلبة (الطلبة)، دول شوية العيال، مفيش فيهم إلا «هشام موغو» (مورو)!»
كان زميلنا في المشرحة يجلس إلى المنضدة المجاورة لنا، أبوه مورو باشا، أصبح عميد الكلية، أبيض البشرة، متورد الوجه، طويل، ممشوق، بدلته أنيقة، لا يرتدي معطف المشرحة الأبيض، لا يظهر إلا نادرا، لا يحضر المحاضرات، لا يشترك في المظاهرات، لا يمسك بين أصابعه القلم أو المشرط ... يداه ناعمتان، يحرك بينهما سلسلة ذهبية تتدلى منها مفاتيح السيارة، ما إن تلمحه بطة حتى تشد المشرط من يدي: «كفاية تشريح يا فالحة! فاكرة نفسك حتطلعي الأولى علينا! لا يا عزيزتي! إحنا هنا في كلية الطب، وإذا كان أبوكي العميد أو واحد من الأساتذة الكبار تطلعي الأولى علطول من غير ما تتعبي عينيكي في قراية كانينجهام، ولا توسخي إيدك في الزفت الفورمالين!»
كانت بطة تعرف أشياء لا نعرفها، أحد أقرباء أمها أو أبيها كان أستاذا في الكلية، تطلق عليه اسم «أونكل محمود»، ربما كان ابن عم خالة أمها، لكنها تتحدث عنه كأنه أبوها.
حول منضدة التشريح يدور الحديث بين الزميلات حول شجرة العائلة وفروعها في أقسام الكلية، ثم ينتقل الحديث إلى الخطوبة والزواج، واحدة منهن خطبها أحد المدرسين في الكلية، تفتح حقيبتها وتخرج الشبكة لتفرج عليها البنات، تقرصها بطة في ذراعها أو فخذها: «عشان يبقى الدور الجاي علي أنا، وطبعا جهاز العروسة من بونترمولي (تنطقه بونتغمولي) في شارع سليمان باشا.» وينتقل الحديث من الشبكة إلى جهاز العروس، ثم إلى الأزياء والمودات الحديثة، وماركات السيارات الأخيرة، وأنواع الأحذية والكعوب، ابتداء من الدبابة الخشبية العالية إلى الكعب الرفيع المدبب من الفضة أو الألومونيوم، وأقلام الروج من الأحمر الفاتح (ناتوريل) إلى الأحمر الداكن بلون الدم الأزرق.
كانت صفية أقرب الزميلات إلي، لا تصبغ شفتيها ولا ترتدي الكعب العالي، تشاركني رياضة التنس أو البنج بونج يوم الخميس من كل أسبوع، تجتاز الكوبري الصغير فوق فرع النيل بين القصر العيني القديم والقصر العيني الجديد (مستشفى المنيل الجامعي)، ندخل إلى الفناء الواسع، به أشجار وأحواض زهور، ترتفع الساعة (تشبه ساعة الجامعة في الجيزة) فوق السلالم الرخامية عند مدخل الإدارة، ملاعب الكلية على اليسار تحتل مساحة خضراء كبيرة، يحوطها سور حجري عال، نرتدي الأحذية الكاوتش في غرفة صغيرة، لم تكن التقاليد تسمح للبنات بارتداء الشورت القصير الذي يكشف عن الفخذين، الجونلة البيضاء ذات الكشاكيش أو الشورت الطويل يغطي الركبتين.
كان يشاركنا اللعب الطلبة، منهم زميل لنا في المشرحة اسمه حسين كامل بهاء الدين، شعره أسود ناعم يفرق على جنب، يمشي مطرق الرأس، ينظر إلى الأرض، أطلقت عليه صفية اسم التلميذ المؤدب، لا يتكلم ولا يشارك في المظاهرات أو الاجتماعات السياسية، لكنه أصبح فيما بعد من رجال السياسة مع علي صبري في عهد جمال عبد الناصر، ثم وزيرا للتعليم في عهد مبارك.
زميل آخر لنا اسمه أحمد المنيسي، كان يشاركني الطاولة الخشبية في معمل الكيمياء الحيوية «البيوكميستري»، نتبادل زجاجات الأحماض وأنابيب الاختبار، أصابعه وهو يمسك أنبوبة الاختبار ترتعش قليلا، لا ترتفع عيناه إلى وجهي، ويصعد الدم إلى وجنتيه إذا بادلني الحديث، في يوم سمعته يقول دون أن يحرك رأسه ناحيتي: «يا ترى أقدر أستلف منك كشكول البيوكميستري، عاوز أنقل المحاضرة اللي فاتتني امبارح.»
ناولته الكشكول، في اليوم التالي أعاده إلي، بين أوراقه وجدت الرسالة الصغيرة مطوية، فتحتها وقرأت هذه العبارة الوحيدة: «ستكون صورتك أمامي وأنا أقاتل في سبيل الله والوطن.»
كلمة «أقاتل» خمسة حروف، أصبحت تلوح لي في النوم، ماذا يعني؟ هل يشترك في حرب العصابات في القنال؟ أيمسك السلاح في يده ويقتل الإنجليز؟ هذه اليد التي ترتعش وهي تمسك أنبوبة الاختبار؟ لكن أنفه من الجانب مرفوع، يرسم في الجو قوسا حادا، أيكون هذا هو أنف الفدائيين؟!
كلمة الفدائيين كان لها رنين ساحر، الدقات تحت ضلوعي تتصاعد، في النوم أراه يضرب الأعداء واحدا وراء الآخر، يتساقطون إلى الأرض وهو واقف شاهرا سيفه، قامته فارعة مثل قامة أبي، يحملونه عاليا فوق الأعناق، تتطاير رصاصة في الجو وتستقر في صدره، يسقط إلى الأرض ينزف الدم، يحملونه فوق عربة كارو، يضع يديه فوق قلبه تحت الضلوع، يستخرج شيئا يمسكه بين أصابعه المرتعشة، ثم يفتح أصابعه لأرى صورتي! لم يكن عندي إلا صور قليلة منها صورة الشهادة التوجيهية، التقطها لي مصور في منوف ضخم الجثة يعرج على قدمين متورمين، يلتوي إلى الوراء حين يمشي، ربما أصيب بمرض الفيل أو شلل الأطفال وهو صغير، جسدي كان يرتعد حين ألتقي به في طريقي إلى المدرسة، جاء إلى بيتنا حاملا صندوقه فوق ظهره كمن يحمل صليبه ويمشي، أوقفني في الحقل أمام البيت والشمس في عيني، وضع رأسه داخل الصندوق الخشبي ثم اختفى نصفه الأعلى تحت خيمة سوداء، رفع ذراعه اليمنى في الهواء وصاح بصوت يشفه صفارة الإنذار في الحرب: «انتباه! واحد اثنين ثلاثة! كان المفروض في هذه اللحظة (حسب أوامره) أن أتوقف تماما عن الحركة أو التنفس، وأفتح عيني وأغلق فمي، إلا أن العكس هو الذي حدث، إذ اهتزت الأرض تحت قدمي، وتركزت الشمس القوية الحارقة في العين السحرية الجاحظة من رأس الصندوق الأسود.
كنت أحفظ هذه الصورة مع أوراقي الخاصة ومفكرتي السرية في درج صغير أسفل مكتبي أغلقه بالمفتاح. كانت هناك صور أخرى لي التقطها أخي طلعت، منها صورة تشبه إستر ويليامز أو سامية جمال، فوق وجهي ابتسامة عريضة، عيناي يكسوهما بريق كضوء الشمس.
كنت أهدي هذه الصورة إلى صديقاتي البنات، نتبادل الصور، نكتب عليها من الخلف للذكرى والتاريخ.
لم تكن الصداقة تحدث إلا داخل الجنس الواحد، لا شيء اسمه الصداقة بين الجنسين، لا يمكن لبنت أن تعطي صورتها لرجل ليس زوجها أو خطيبها على الأقل، قد يحدث في الحب أشياء خارقة للعادة والتقاليد، كأن تهدي البنت صورتها دون أن تكتب عليها حرفا واحدا، كان يكفي أن تسقط هذه الصورة في يد شخص حتى تسقط البنت في نظر الناس.
منذ الرسالة داخل الكشكول لم أر «المنيسي» إلا مرة واحدة أخيرة، في معمل البيوكميستري، حرك رأسه ناحيتي وابتسم على غير العادة، عيناه ملأهما بريق، رموشه سوداء غزيرة تهتز، أصابعه حول أنبوبة الاختبار قوية صلبة رغم الرعشة الخفيفة، انفرجت شفتاه كأنما يقول شيئا، صوته خافت لا أكاد أسمعه: «عاوز صورتك معايا.»
كنت فتاة مثالية، لا تهدي صورها وإن خفق قلبها بالحب، لم يكن قلبي يخفق له كما خفق في الحب الأول، في عينيه رغم البريق القوي نظرة منكسرة خجولة تشبه نظرة البنات، كنت أنفر من هذه النظرة في عيون الزميلات، فما بال الزملاء.
كان المعمل في الدور الثالث، لا يوجد كراسي نجلس عليها، نقف على أقدامنا الساعة وراء الساعة أمام التخت أو الطاولة الخشبية الطويلة، نخلط الأحماض والمواد الكيميائية داخل أنبوبة الاختبار، نضعها على النار وتتصاعد الغازات السامة أو غير السامة.
فجأة سمعنا صوت فرقعة، انفجرت الأنبوبة في يد أحد الزملاء، امتلأ المعمل بالدخان، أسرعنا إلى الخارج نعطس ونسعل، هبطنا السلالم جريا إلى الفناء: «يا خبر، أنا نسيت شنطتي فوق في المعمل!» لم يكن لي أن أعود إلى البيت دون حقيبتي، «أنا حاطلع حالا أجيبها»، هذا هو صوت المنيسي الذي ناولني حقيبته لأحملها له حتى يعود، انطلق صاعدا السلالم بشجاعة الفدائي يقتحم النار لا يخشى الموت، عاد حاملا حقيبتي، تبادلنا الحقائب بلا كلمات، أطراف أصابعه لامست يدي عن غير قصد في حركة التبادل السريع: «متأسف!»
كان واقفا أمامي ينطق كلمة متأسف وأنا لساني معقود، كان المفروض أن أحوطه بذراعي، أو على الأقل أمد يدي أصافحه وأشكره، إلا أني وقفت مثل التمثال عاجزة عن فعل أي شيء، قيود تحيطني وحواجز تقف بيني وبينه لا أعرف ما هي، كان واقفا يلهث قليلا (صعد ثلاثة أدوار وهبط في لمح البصر)، وجهه محتقن بالدم، يضغط بأسنانه على شفته السفلى، لا أسمع منه إلا كلمة متأسف، لم أعرف لماذا يعتذر، عن الرسالة التي وضعها في الكشكول أم عن التلامس الخاطف غير المقصود؟ ثم سمعت صوته بصعوبة، كانت في الفناء ضجة وصخب وريح محملة بالتراب والرمل دوت في أذني كالصفير الحاد الطويل، رأيته يمد يده لي يصافحني بأصابع باردة، لم أسمع مما يقول إلا كلمتين: «أستودعك الله.»
في الطريق إلى البيت عاد إلي صوته: «أستودعك الله»، لم أفهم ماذا تعني هاتين الكلمتين، لكن قلبي ينوء بثقل كبير، ربما كان تأنيب الضمير، هل أسأت إليه دون أن أدري لماذا لم أفتح فمي وأشكره على الأقل؟ •••
في المظاهرات لم يكن «المنيسي» بين الطلبة، هل سافر مع كتائب الفدائيين إلى القنال؟ منذ إلغاء معاهدة 36 في أكتوبر 1951م فقد الاحتلال البريطاني سنده القانوني، بدأ الكفاح المسلح بين الطلبة والشباب، حكومة الوفد كانت تشجع المقاومة الشعبية من وراء الستار.
لم تكن زميلاتي البنات يشاركن في المظاهرات، أحيانا أكون الطالبة الوحيدة بين مئات الطلبة أو الآلاف، في خيالي حلم الطفولة، أحمل السيف وأضرب الأعداء، يحملوني مثل أبي فوق الأعناق: تحيا مصر حرة! تسري القشعريرة في جسدي كالكهرباء، أنتفض من مكاني حيث أكون في المشرحة أو المدرج أو المعمل، يندفع جسمي بقوة مجهولة كأنما تأتي من السماء، أسير بينهم والخفقات تتصاعد تحت ضلوعي قوية متلاحقة متدفقة تذكرني بالحب الأول.
صوتي يختنق بالدموع وأنا أهتف: «تحيا مصر حرة»، فيض من الدموع ينهمر من عيني يكتسح أمامه أحزاني منذ ولدت، يتخفف جسمي من الثقل، كأنما يسقط عني جسمي، أسير بينهم بلا جسم، بلا اسم، بلا أب ولا أم ولا أسرة، هؤلاء هم أسرتي وأهلي وبيتي.
أكان ذلك يسمونه حب الوطن؟ أم أنه الحنين إلى الحب الأول؟ لم أكن أعرف، كان الاثنان يذوبان معا داخل شلال واحد، فيضان من المشاعر كالطوفان يكسر الجسور والحواجز، أنسى أنهم رجال من جنس آخر، نصبح جنسا واحدا، نذوب داخل جسد واحد أو روح واحدة بلا جسم.
أكبر مظاهرة كانت في نوفمبر 1951م، يسمونها «المظاهرة الصامتة»، أحيانا يكون الصمت أقوى من الهتاف، في فناء الكلية تجمع مئات الطلبة، يحملون اللافتات الطويلة من الدمور، كتب عليها بخط النسخ الأسود: يحيا العمل الفدائي. لا مفاوضات مع الاحتلال البريطاني. طلبة الطب مع الشعب يد واحدة. يحيا كفاح الشعب المسلح. تحيا مصر حرة. مجموعة من الطلبة الفدائيين يرتدون ملابس حرب العصابات، مجموعة أخرى يعلقون الشارات فوق صدورهم ينظمون الصفوف، زعماء الطلبة يروحون ويجيئون، أصواتهم ترتفع من حين إلى حين: «عاوزين نظام يا زملاء، الهتاف ممنوع، المظاهرة دي إحياء لذكرى أول وفد شعبي راح للحاكم البريطاني سنة 19، وطلب منه رسميا جلاء الجنود الإنجليز عن مصر، دي أهم مظاهرة في تاريخ الحركة الوطنية، لأول مرة في تاريخ مصر الحكومة والشعب في يد واحدة، بيجهزوا لضربة كبيرة في القنال، لازم نوريهم النهاردة إن الشعب كله إيد واحدة قوية، عاوزين نمشي خطوة واحدة، ماحدش يطلع برة الصف، جايز عناصر من أعوان الملك والإنجليز يندسوا بينا عشان يعملوا شغب، يفسدوا المظاهرة، لازم نكون منتبهين لهم، لازم يكون فيه هدوء ونظام طول المظاهرة .»
كان معي طالبتان من سنة أولى مشرحة، تقدم نحوي أحد المنظمين: «يا زميلة نوال، الطالبات يقفوا في الصف الأول ودي اليافطة، تقدروا تشيلوها؟» كانت قطعة طويلة من القماش الدمور، كتب عليها بالخط الأسود الكبير: «طالبات الطب مع الكفاح المسلح لتحرير الوطن.» لها عمودان طويلان من الخشب، أمسكت بعمود، أمسكت الطالبة الثانية بالعمود الآخر، يساعدها أخوها طالب كلية الطب أيضا، رفعنا اليافطة فوق رءوسنا وسرنا في الصف الأول.
خرجت المظاهرة من باب الكلية مثل تمساح ضخم يزحف بلا صوت، التحمت مع المظاهرات الأخرى في شارع القصر العيني، أنهر من البشر تتدفق من الشوارع الجانبية، تلتقي معا كالشلال، تصب في ميدان الإسماعيلية، أقدام بلا عدد تخرج من جسد واحد له رءوس بلا عدد، أمواج تعلو وتهبط كالبحر، ملايين الأنفاس ذابت في نفس واحد، بلا صوت، الصمت يدوي أقوى من الرعد يرج الأرض.
خرجت مصر كلها ذلك اليوم، تحول كل شبر من الأرض إلى بشر، حتى الشجر صعد إليه الناس حين ضاقت الشوارع والميادين، أسطح البيوت والنوافذ تحولت إلى أجساد لها رءوس وعيون تطل على ما يشبه يوم القيامة، حين يقوم الناس أفواجا أفواجا، وينهض الأموات يسيرون فوق أقدامهم.
لم يتخلف أحد، حتى التلاميذ الصغار والأطفال، وربات البيوت والنساء بالملايات اللف، أطفالهن فوق صدورهن، فلاحون بالجلاليب والطاقيات فوق رءوسهم، عمال المصانع بالبدل الزرقاء تعلوها بقع الزيت والشحم، عجائز يسيرون بالعكاكيز، موظفون بالطرابيش والبدل، شحاذون بالجلاليب الممزقة، باعة متجولون فوق رءوسهم القفف، عربات كارو تجرها الحمير.
مرضى خرجوا من المستشفى بالجلاليب البيضاء، تمورجية، ممرضات، أطباء بالمعاطف والسماعات حول العنق، مشايخ بالقفاطين والعمائم البيضاء، قساوسة بالعمائم السوداء وقفطان الكنيسة، المحامون داخل روب المحاماة، القضاة بوشاح القضاء، باعة الأمشاط في الترام، صبيان بذراع واحدة أو بساق واحدة، صبي بلا ساق يسير فوق قطعة خشب لها أربع عجلات، يدفعها من تحته بذراعيه ويمشي في المظاهرة، أصحاب الدكاكين أغلقوها بالأقفال الحديدية وساروا بين الصفوف.
كنت أمشي رافعة ذراعي اليمنى حاملة اللافتة فوق رأسي، الساعة وراء الساعة، أمشي في الحلم رافعة شعلة التحرير، كما أن جان دارك أو زرقاء اليمامة تقود وطنها إلى الحرية، صوت عذب يسري في أذني يشبه الغناء مع الدقات على العود، في بحر المياه الزرقاء الدافئة تحملني الأمواج عاليا ثم تهبط بي في رفق شديد، كذراعي أمي تؤرجحني فوق ركبتيها وتغني: هوه، نامي نينه هوه!
أغمض عيني وأمشي كالنائمة، فجأة سمعت الصوت، فتحت عيني كأنما أصحو من النوم، أهي طلقة رصاص؟! الشمس في عيني أصبحت شعاعا أحمر، احتميت وراء جدار بعيدا عن الضوء، سمعت صوتا يناديني: «يا نوال»، الحلم يختلط بالحقيقة، الضوء يتحول إلى سائل يجري فوق الأسفلت، تحت قدمي رأيت الشريط الأحمر، أتحسس ذراعي وساقي، كل شيء في مكانه، أستطيع أن أمشي وأنقل القدم وراء القدم، الشمس غابت وراء ساحبة من الغبار، ثم انقشع الغبار عن وجه رأيته من قبل كان يقترب مني، يتقدم نحوي بخطوة هادئة واثقة، يرتدي فوق عينيه نظارة شمس، يومض من تحتها ضوء كالابتسامة: يا نوال؟ أهو اسمي؟ كف عرفه من ملايين الأسماء في الكون؟
لم أعرف أين انطلقت الرصاصة، كنت في شارع كبير لا أعرف اسمه، لم أكن أعرف من شوارع القاهرة إلا القليل، كانت المواصلات متوقفة، لا أوتوبيس، لا ترام، لا تاكسي، لا عربة كارو، لا شيء له عجلات يسير على الأرض، فقط الأقدام البشرية التي بدأت تتفرق كما تجمعت بلا صوت بلا هتاف، تفككت الكتل من الناس وابتلعتها الشوارع الجانبية والأزقة: «يا نوال، مفيش غير إننا نرجع ماشيين.»
ينطق اسمي بسهولة غريبة، يقول: «يا نوال»، كأنما يعرفني أو ناداني من قبل، سرت إلى جواره صامتة لا أسمع إلا وقع أقدامنا فوق الأسفلت، حذائي من الجلد الأسود يشبه حذائه، قدمه كبيرة بحجم قدمي، قامته بطول قامتي، يرتدي قميصا أبيض صدره مفتوح، لا ربطة عنق، لا جاكيت، لا بلوفر، خطوته فوق الأرض قوية متحدية، أيكون أحد الفدائيين؟!
رحلة العودة بدت كأنما رحلة داخل الحلم، لم أنتبه إلا حين وجدت نفسي في شارع القصر العيني، توقفت وأنا أقول: «أنا عارفة السكة للكلية من هنا.» كأنما أدركت فجأة أنني أمشي، مد يده وصافحني، يد قوية كبيرة مملوءة بالثقة: «طيب، مع السلامة يا نوال!» مرة أخرى ينطق الاسم «نوال»، الذي أصبح له وقع في أذني كأنما هو اسم غير كل الأسماء، وليس له مثيل بين البشر، أهو حقيقة اسمي أنا؟ وكيف اكتسب هذا الرنين الجديد في الكون؟
أوراقي ... حياتي
سماء زرقاء، شديدة الزرقة، يسمونها هنا في «ديرهام» «كارولينا بلو»، في هذه الولاية الجنوبية على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلنطي في أمريكا الشمالية، تذكرني بسماء مصر ... في قريتي، في طفولتي، وخطواتي الأولى نحو الصبا والشباب في المدينة، طالبة حالمة بكلية الطب، أمشي في المظاهرات، المظاهرة الصامتة بالذات في نوفمبر 1951، حين بدأ قلبي يخفق للحب وأنا في العشرين من العمر، الخفقة القوية تحت الضلوع تذكرني بخفقة الحب الأول وأنا في العاشرة من العمر.
السماء الزرقاء فوق رأسي الأشيب بشعري الأبيض المتناثر تشبه السماء الزرقاء في القاهرة، وأنا أمشي في المظاهرة بشعري الأسود الغزير، وقامتي الفارعة المشدودة، والدماء الفائرة في جسدي، فتاة شابة تتأجج عيناها بالبريق النابع من حلم الطفولة، لم يتغير الحلم منذ كنت في السابعة من العمر، لم ينطفئ، غير قابل للانطفاء حتى نهاية العمر.
الشمس ساطعة كأنما بداية الربيع مع أننا في نهاية الخريف، سماء القاهرة عارية من السحب، لؤلؤ أزرق فوق رأسي وأنا أمشي، مياه النيل تترقرق، فيروز يسيل بين ضفتي النهر، الخضرة تذوب في الزرقة، والعصافير تحتمي بفروع الشجر؛ فهناك ريح شمالية قادمة، شتوية رغم الدفء الناعم بحرارة الجسم.
لقد جئت إلى هذا المكان البعيد ومعي أوراقي وذكرياتي، كلمة «جئت» لا تعبر عن الحقيقة، لأنني لم آت إلى هنا بإرادتي، لم أغادر الوطن باختياري، قوى عاتية مثل الأعاصير تقتلع الناس كما تقتلع الشجر، تنتزعهم من أرضهم وبيوتهم، تلقي بهم بعيدا في ما يسمونه «المنفى».
بيني وبين كلمة «المنفى» عداء، لا توجد قوة يمكن أن تنفيني عن الوطن؛ فالوطن يسافر معي حيثما أكون، والسماء تسافر معي، والشمس أيضا تسافر معي، والقمر والنجوم ، وأحلام طفولتي تسافر معي داخل جسدي كما كنت طفلة، وقلبي يخفق بالقوة نفسها كما خفق وأنا في العاشرة من العمر.
في الليل حين تهدأ رياح المحيط الأطلنطي وتنام العصافير، أشعل المصباح إلى جوار المدفأة وأعود إلى الوراء ثلاثة وأربعين عاما، أراني أمشي في مظاهرة 1951، إلى جواري «أحمد» الحب الثاني في حياتي وزوجي الأول، الذي منحني أغلى ما يمكن أن يمنح، وهي ابنتي. ومدينة القاهرة التي عشنا فيها الفرح والحزن، الحرية والاستعباد، غرست في نفوسنا تناقضها، تطاحنها، عذابها تحت سعير الاستعمار والإقطاع، سعير الحر والحرب والحب والحنق، أي حنق، يشتعل فجأة، فيندفع الناس من بيوتهم إلى الشوارع يصرخون، يهتفون ضد حكوماتهم، يلعنون الدين والدنيا معا.
القاهرة، مدينتي أحملها فوق صدري مثل أمي في أيامها الأخيرة، لم يكن لي أن أعرف مدينتي إلا بعد أن أذهب بعيدا عنها، هنا في آخر الدنيا، وراء البحار والمحيط، في هذه «الديرهام» الصغيرة المعزولة، تنتزعني من الوحدة نجمتي في السماء «الزهرة»، ولدت معي، وتموت معي، تنتزعني كل ليلة من الظلام، بعيدا عن غبار الليالي المحملة برمال الصحراء ورياح الخماسين، وأدرك الآن على البعد أن مدينتي بريئة، لا يمكن إدانتها بما فعلت بنا؛ فهي كالأم تقتل أطفالها حماية لهم من موت آخر أشد وأقسى، وقد أنقلب ضد مدينتي كما كنت أنقلب ضد أمي، أصب عليها غضبي، إنها التي يجب أن تدان وإن كان علينا نحن أطفالها أن ندفع ثمن خنوعها أو اللامبالاة.
ما هذه المدينة القاهرة؟ المقهورة؟ ما كنه مدينتنا هذه وما سرها؟ وما الذي يمكن أن يحدث لنا حين نسمع كلمة «القاهرة»؟ ... في غمضة عين أجتاز المحيط الأطلنطي والبحر الأبيض المتوسط وثلاثة وأربعين عاما من العمر، وأجدني أمشي في شارع قصر العيني حيث كلية الطب والمستشفى الفخم الراقد بين فرعي النيل مثل تمساح مريض مشقق البشرة، محروق بالشمس، مملوك للذباب والشحاذين وأصحاب العاهات، يدقون بعكاكيزهم فوق الكوبري بين قصر العيني القديم والجديد، وهؤلاء الذين يسكنون على الضفة الأخرى من النهر، في الحي الراقي الذي يسمونه «جاردن سيتي»، القصور والفيلات الأنيقة تحوطها الحدائق، يسكنها الباشوات من الطبقة العالية الحاكمة، وإلى جوارهم السفارات الأجنبية، السفارة البريطانية التي حكمت مصر أكثر من سبعين عاما، والسفارة الأميركية التي تتربع على العرش اليوم، دولة أخرى داخل الدولة.
وهؤلاء الذين ينتمون إلى ما يسمى «الشعب»، نحن الطلبة والطالبات، أبناء وبنات الطبقة الوسطى، أو الفلاحين أو العمال من الطبقات الكادحة، يسمونها الطبقات «الدنيا» أو «السفلى»، وأحيانا يقولون «الطبقات المحرومة».
كلمة «الحرمان» كانت تعبر بالضبط عن حالتنا نحن الأطفال وقد أصبحنا شبابا في غمضة عين، وتفتحت عيوننا على مدينة ليس لنا فيها شيء إلا أن نمشي في شوارعها ونهتف ضد الملك والحكومة والإنجليز، ضد الثالوث المقدس المترابط منذ 1882 بوثيقة كاثوليكية لا تنفصم إلا بالموت، وقد خلف لنا ثالوثا آخر غير مقدس، ثالوثا شيطانيا، هو: «الفقر والجهل والمرض.»
كلمة الحرمان لها وقع عذب في أذني، وكم شعرت بلذة الحرمان من الأكل أو الجنس في قمة لحظات الحب، كالشمعة تحترق، يذوب شمعها، يسيل فوق جسدها من شدة العذوبة والرقة إلى حد الفناء من أجل الآخرين، الإضاءة، أي إنكار لذواتنا، أن نحترق ونموت لينعم الآخرون بالضوء، هكذا تربينا منذ ولدنا في بيتنا ومدارسنا، ونشأت الهوة بيننا وبين ذواتنا، وأصبحت كلمات مثل: القناعة، والصبر، والزهد، والفداء، والتضحية، والحرمان، كلمات مقدسة، نلوكها كل يوم في صلواتنا مثل حبات السبحة، وأحلامنا تنسحب من الأرض إلى السماء، إلى الهواء؛ حيث نبحلق في الفراغ، نحلم بقصر بعد الموت في جنة عدن.
إلا أن عيوننا كانت ترتطم دائما بالقصور القائمة فوق الأرض، فوق الضفة الأخرى من فرع النيل، في «جاردن سيتي»، وقد نتمشى بالقرب من تلك الأسوار العالية من الطوب الأحمر، والشرفات الكبيرة ذات الأعمدة الحجرية العالية المطلة على النيل، يترامى إلى سمعنا ضحكات أنثوية ناعمة، وقهقهات ذكورية غليظة، مع رائحة السيجار والكافيار والويسكي واللحم المشوي، ودقات الموسيقى مع إيقاع الرقص والتانجو، وهنا ندرك أن كل شيء وفير موفور متنوع وغزير، والأكل والجنس وكل شهوات الدنيا.
خيالي كان يسرح وأنا أمشي في جاردن سيتي، لا شيء يفصلها عن مستشفى القصر العيني إلا بضعة أمتار، في بعض خطوات أنتقل من ثالوث الفقر والمرض والجهل إلى الثالوث المقدس؛ حيث تختفي الكلمات المقدسة التي حفظناها عن ظهر قلب: الحرمان، الزهد، الصبر، القناعة، الفداء، التضحية، وأكاد أفعل ما كان يفعله «منعم» الطفل الفلاح في منوف، حين كان يتشعبط على قضبان النافذة في بيتنا ويشهق: ياه! ربنا بيحبكم، أعطاكم خير كتير، لكن احنا الفلاحين الغلابة ربنا غضبان علينا.
كان «منعم» يتصور أنني سعيدة داخل هذا البيت، لم يكن يرى تعاستي، أنا أيضا كنت أتصور أن سكان «جاردن سيتي» سعداء، يأكلون أنواعا من الفاكهة لا نأكلها مثل التفاح والكريز، لم أكن أعرف ما هو الكريز وتلك الأسماء الأخرى التي لم ترد في القرآن الكريم، لم يكن لسكان الجنة في كتاب الله إلا عناقيد العنب والنخيل (البلح). كان أبي يشتري لنا البلح والعنب، إلا أن التفاح كان غالبا لا يأكله إلا الأغنياء، أما الكريز فلم أسمع عنه إلا في جاردن سيتي. كنت أمر بالفكهاني الأنيق يعرض الثمار اليانعة بألوانها الزاهية، يهبط الخدم من القصور ويشترون، يترامى إلى سمعي «الكريز» وكلمات أخرى لا أعرفها، أنواع مأكولات أو فواكه ربما تزرع في أرض أخرى، يسمونها «بلاد برة»، وكل شيء يأتي من «بلاد برة» كانوا يقولون عنه أفضل وأرقى، سواء كان مأكولات أم شهادات. «بلاد برة»، يسمونها «الغرب»، وبلادنا يسمونها «الشرق»، يقولون إن الشرق روحاني، يحرم لذائذ الدنيا وأولها لذة الجسد أو الجنس، سوف تتوافر هذه اللذة بإذن الله في جنة عدن، وكم شعرنا بالفخر في أول الشباب لانتمائنا إلى الأرض المقدسة الطاهرة، مهبط الأنبياء والأديان، الناس فيها يعيشون على الغذاء الروحي لأنهم تجاوزوا مشكلة الجسد.
ذات يوم في خريف 1957، بعد أن وقعنا قسيمة الطلاق وأنهينا قصة الحب التي دامت ست سنوات، كنا نتمشى على شاطئ النيل بجوار القصر العيني، حين سألني أحمد فجأة: أتعرفين يا نوال ماذا تفعل القاهرة بالحب؟ قلت: ماذا تفعل؟ قال: القاهرة تفعل بالحب ما يفعله وابور الطحين؛ الخارج من تحته إما أن يكون رجلا مسحوقا مجروحا بعمق في رجولته، أو روحا طاهرة تعاني الوحدة، يعني نبيا.
كانت ورقة الطلاق تعني الفراق بين الزوج وزوجته، إلا أننا كنا نلتقي، يدور بيننا حوار أجمل من العلاقات الزوجية، أدركنا أن «الزواج» يفسد الحوار بين الرجل والمرأة، يفسد الصداقة والحب، يدمر الأشياء، يسحقها، يطحنها مثل وابور الطحين، يعيدها إلى ما كانت عليه في العصور القديمة، زمن العبودية.
كان «أحمد» طالبا في كلية الطب في السنة الرابعة وأنا في السنة الأولى، عرفته لأول مرة في المظاهرة الصامتة الكبرى، ست سنوات عاشت قصة الحب، تبدو لي من بعد المكان والزمان كأنما لم تكن إلا رواية قرأتها أو قصة في حياة امرأة أخرى، لم يبق منها إلا الخيال وصور في الذاكرة أستعيدها.
الشمس كانت ساطعة ذلك اليوم من نوفمبر 1951م، الأشعة تنساب فوق رأسي من خلال عطر الياسمين، الهواء مشحون بتراب الأرض، التراب ممزوج بمياه النيل له رائحة منعشة، تراب الأرصفة وشوارع القاهرة وقد أطفئت برذاذ الماء، سحابات الخريف الخفيفة الندية تقترب من الأرض، لا تحمل الأمطار وإنما الرذاذ القليل النادر ندرة التفاح والكريز، ينتشر اللون الرمادي أو الأزرق المغبر، والأرجواني الصحراوي الجيري أو الترابي والقرمزي، فوق كل هذا تسطع الشمس بقرصها المتوهج القادر على تمزيق السحب، تصبغ مياه النيل بالوهج البرتقالي الأخضر، ورطوبة المطر المختنق تكسب الهواء لمعانا، ونكهة الأرض العطشى تتلقى الرذاذ مهدية سماوية من عند الإله.
تحت كل ذلك تقبع مدينة القاهرة تحت غطاء شفاف من الحزن يشبه الشبورة، هواء الخريف دافئ يحمل بقايا سخونة الصيف، يلهب الجسد خلال الرداء القطني الخفيف، يعالج الجسد وقد عادت إليه الروح أو ربما هي الروح عاد إليها الجسد، قضبان سجني أحسها تتخلل وأنا أمشي في المظاهرة الصامتة، بلا هتاف، تتساقط بين قدمي الأغلال رغم الصمت، مدينة القاهرة ممدودة أمامي عارية عن الزيف، حبلى بالأمل، كالمرأة تسير نحو الحب، نحو الحرية، نحو المستقبل المجهول، رغم ضوء النهار الساطع.
كانت الهتافات ممنوعة، لكن الآلاف كانت تتنفس في نفس واحد، يشق عنان السماء، تمشي بخطوة واحدة ترتج لها الأرض، في مدينة واحدة هي القاهرة، تنشر شذراتها صامتة كأوراق الزهر، وفي هذه اللحظة التقت عيوننا أنا وأحمد، ألحان خفيفة غير منطوقة تهز القلب، أجسادنا وسط آلاف الشباب تدوس شوارع المدينة باحثين عن الاستقلال، عن الانعتاق، عن التحرر من العبودية.
كان زعماء الطلبة يسيرون بين الصفوف، أحدهم كان «أحمد»، كان مملوءا بالحلم الطفولي مثلي، وكنت مثله أمشي في شوارع المدينة، يخيم عليها كآبة الحكم الأجنبي، وكآبة الحكم المحلي، يسمونه «الملكية السامية»، طنين عربات الترام وهي تنتفض فوق قضبانها الحديدية في شارع قصر العيني، تفوح منه رائحة المشرحة والفورمالين، وجروح المرضى الغارقة في الدم والصديد، ولون صبغة اليود في الجو، والسرادقات الطويلة داخل المستشفى، هنا كثيرا ما التقينا. في المستشفى كان هناك مساحة من الأرض لملاعب الطلبة، كانت توجد دكة خشبية عند ملعب التنس، رصت عليها أكواب الشاي بالنعناع الذي كنا نشربه، أو زجاجات الكازوزة المثلجة في أيام الحر، يحملها إلينا «عم محمود» صاحب البوفيه، غرفة معتمة بجوار غرفة تغيير الملابس، يغلي فيها الشاي على وابور جاز، يرص ألواح الثلج الطويلة داخل صندوق خشبي يسميه الثلاجة، فوق طاولة خشبية مشققة يقطع الرغيف الفينو نصفين، يدس في كل نصف شريحة من الجبن الرومي وقطعة من مخلل الخيار ويسميه «ساندوتش».
لكن كل شيء كان يسبح في ضوء غريب، من أين كان يأتي الضوء؟ عيناه بلون العسل المصفى كانت تشع هذا الضوء، لم أكن أرى منه إلا هذا الضوء في العينين، كطفلة العاشرة في حبها الأول ، لا يمكن أن تهبط عيناها إلى ما تحت العينين.
فقط نتبادل النظرات في صفاء الأرواح السامية، هؤلاء الذين ينكرون رغبات الجسد، كان ممتعا أن نجلس فوق الدكة مرتبكين خجلين متلعثمين، تتلاحق أنفاسنا في اضطراب، ماذا كان يفزعنا؟ هل كنا ندرك ما ننكره؟ هل كنا نطرق إلى الأرض خجلا مما يراودنا في خيالنا؟ لكن الرسائل كانت تمضي بيننا، من وراء وعينا، خلال عيوننا المتسعة المندهشة، والكازوزة المثلجة أو الشاي المنعنع ، والدكة الخشبية المنزوعة القشرة، نجلس عليها لا نحس العالم من حولنا. نرشف على مهل من الكوب الزجاجي، نرشف المدينة بكل ما فيها، حتى المستشفى القديم المفعم برائحة الفورمالين، وصبغة اليود تسري إلى صدورنا منعشة كزهر الياسمين.
كنت الليلة أقلب في ذكرياتي وأوراقي القديمة، تحول بعضها إلى ورق أصفر رقيق تآكلت سطوره وبهتت الكلمات، البعض الآخر أتلفه المطر والرطوبة المرتفعة في ديرهام بولاية نورث كارولينا، هذه الرطوبة لا نعرفها في مصر، الهواء هنا يتشبع بالماء، والأفق ينفتح عن سيول كالأنهر تنهمر من جبال سماوية، تذرو الناس ومعهم أوراقهم وذكرياتها، إلا أنني أقاوم، منذ ولدت أقاوم اللامبالاة بأوراقي وكتاباتي.
اللامبالاة تنتقل إلي كأنما بالعدوى، فما جدوى أن أكتب عن قصة حب ماتت منذ أربعين عاما؟ مدفونة كالمومياء في بطن الصحراء على بعد آلاف الأميال في شمال أفريقيا؟!
ومع ذلك، فأنا أبالي، هذه الأوراق هي حياتي، هي حلم طفولتي وشبابي، هذه الذكريات أحبها رغم الألم، أستحضرها، أثبتها في خيالي، فهي قصتي مع الحب حين كنت في العشرين من العمر، أي حب يمكن أن يكون أكثر عمقا من هذا الحب؟ تعاسته كانت نوعا من النشوة، استعذاب الألم يكشف عن آلام جديدة لا يعرفها إلا القديسون والعشاق، لكن لمسة واحدة باليد في المصافحة العابرة، أو نظرة خاصة على البعد كانت قادرة على تحول الألم الهائل العميق إلى سعادة أعمق.
كم أدرك الآن أنه من السهل أن يقع الإنسان في الحب، وأن الصمت في الحب أبلغ من الكلام؛ فاللغة بشرية صنعها البشر، محدودة بحدود عقولهم وأجسامهم وتاريخهم ، لكن الحب يتجاوز التاريخ، يتجاوز العقل والجسد والروح، ويحلق وحده في ملكوت آخر.
من السهل أيضا أن يموت الحب، كما تنطفئ الحياة في غمضة عين، مثل جناح الفراشة يتمزق لأقل لمسة؛ كالدقيق المسحوق الناعم يطير في الهواء بنفخة واحدة، شفاف يكشف ما تحته دون عناء كالهواء. «اللي متغطي بالأيام عريان، واللي متغطي بالحب عريان.» هكذا كنت أسمع من الناس.
أنا وحيدة اليوم تماما، جالسة في غرفة مكتبي، أطل على الحديقة من ورائها غابة ديوك، فتاة أميركية رشيقة جاءت تسقي الزهور، ترتدي بنطلونا من الجينز الضيق، شعرها ذهبي مرفوع إلى أعلى، طالبة عندي في فصل الإبداع، في جامعة ديوك، تقبض من الإدارة مرتبا شهريا نظير رعايتها الحدائق والزهور، تسدد من راتبها نفقات تعليمها وسكنها وطعامها وبنزين سيارتها الحمراء الصغيرة.
يأتي إليها صديقها على باب الحديقة، يدق الكلاكس، تطير إليه كالفراشة كما كنت أطير وأنا في العشري من العمر حين يدق أحمد جرس الباب.
اليوم لم أعد شابة، أصبحت كهلة تجاوزت الستين من العمر، لست سعيدة ولست تعيسة أيضا، أجلس معلقة كالشعرة أو الريشة في منطقة انعدام الوزن، خليط من الذكريات البعيدة الغارقة في الضباب، لا شيء يعيد إلي بهجة الشباب، العزاء الوحيد عندي في هذا القلم أحركه فوق الصفحة الخالية فتمتلئ هذه الكتابة الصامتة من احتكاك سن القلم بالورق، إلا أنها تجلب الماضي أمامي حاضرا، تبعث الحياة في الموتى، تعيد تشكيل الحقيقة لتكشف عن حقيقتها الخفية.
إن ما نسميه حقيقة ليس إلا الغطاء المعتم، مثل: قشرة الأرض، تخفي في بطنها الأحجار الكريمة، المعادن الثمينة، وإنها الكتابة، هذه الكتابة هي التي تبحث وتبحث حتى تعثر على سبيكة الذهب أو الفضة، على الجوهرة المكنونة.
كانت الكتابة منذ طفولتي هي ملاذي الوحيد، أهرب إليها من الأم والأب والعريس، وبقيت الكتابة في كهولتي أيضا الملاذ الوحيد أو الأخير، التصالح الممتع من خلال الكتابة مع الماضي والحاضر، مع كل ما أصابني في الوطن من جراح.
لم أكن مثل أخواتي البنات، أستسلم للقضاء والقدر، كنت أسعى إلى تحقيق كل شيء آخر عن طريق الخيال، وإلا فلماذا يقع الإنسان في الحب؟ لماذا كل هذه الآلام عند اللقاء بالآخر؟ إن العزاء الذي أنشده في الكتابة (والذي قد لا أناله) ليس عزاء يمكن أن أراه في عيني «أحمد» إذا التقيت به في القاهرة، لقد افترقنا وسلك كل منا طريقا مختلفا في الحياة، وتحول الألم القديم إلى راحة أشعر بها اليوم، كأنما الزمن نسيج من الذهب، يخفي كل ما هو مؤلم أو غير جميل، والكلمات فوق الورق تتخذ لنفسها حياة مستقلة.
ثمن الكتابة
1 - التهديد
2 - الانطلاق الأول
3 - طبيبة القرية
4 - الاعتداء الثلاثي
5 - عودة المكبوت
6 - الحب واليأس
7 - ليس لأمي مكان في الجنة
8 - موت أبي
ثمن الكتابة
1 - التهديد
2 - الانطلاق الأول
3 - طبيبة القرية
4 - الاعتداء الثلاثي
5 - عودة المكبوت
6 - الحب واليأس
7 - ليس لأمي مكان في الجنة
8 - موت أبي
أوراقي ... حياتي (الجزء الثاني)
أوراقي ... حياتي (الجزء الثاني)
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع ، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج ، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة ، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الفصل الأول
التهديد
فيضان من الخضرة يزحف مع الربيع على غابة ديوك، الزرقة الفيروزية تذكرني بسماء قريتي في طفولتي، هنا «كارولينا بلو»، الولاية اسمها نورث كارولينا، إحدى ولايات الجنوب على الشاطئ الشرقي لأمريكا الشمالية، المدينة صغيرة تشبه القرية، اسمها ديرهام.
نحن في بداية الربيع عام 1993م، النوافذ تطل على الحديقة «الروز جاردن»، بدأت ورودها تتفتح بجميع الألوان، القاني الأحمر بلون الدم، الأبيض الفضي، الأصفر الكهرماني، الأرجواني والزنبقي، عبيرها يسري داخل مسام جسدي، نسمة الدفء الأول بعد برد الشتاء، أفرد أصابعي، أنشد اليقين، جسدي هو اليقين الوحيد، يبدو جسد امرأة، يسمونها هنا «بروفيسير دكتر ساداوي»، ثلاث كلمات غريبة أسمعها كل يوم، تتردد على ألسنة الطلبة والطالبات، يجلسون في الفصل منتبهين كما كنت أفعل وأنا في العشرين من العمر، حين كنت طالبة بكلية الطب بجامعة القاهرة منذ أربعين عاما .
أنهض من السرير بحركة حذرة، أخشى من أن أصحو من النوم ويتبدد الحلم، في المرآة رأيتها واقفة، قامتها الطويلة كما كانت، انحناءة خفيفة تحوم حول الكتفين، بشرتها سمراء بلون طمي النيل، شعرها الأبيض غزير منكوش، جلبابها مكرمش من القطن المصري، فيه زهور صغيرة وردية، قدماها كبيرتان مثل قدمي جدتها الفلاحة، الشبشب من نوع «زنوبة»، اشترته من دكانة صغيرة في قريتها كفر طحلة.
هذه اللحظة دخل زوجها غرفة النوم، رآها واقفة أمام المرأة: «صباح الخير يا نوال.» انتبهت إليه، عادت ذاكرتها فجأة: «صباح الخير يا شريف.» جاءا معا إلى جامعة ديوك منذ يناير الماضي، في وطنها كانت حياتها مهددة، اسمها وضعوه في قائمة الموت، حراسة مسلحة حول بيتها ليل نهار، البودي جارد يلازمها حيثما ذهبت، كان السفر هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ حياتها.
تتلفت حولها في دهشة، البيت جميل، الحديقة جميلة، الشمس ساطعة، تحمل لقب بروفيسير دكتر، لكن المنفى يظل هو المنفى.
أمامي النافذة مفتوحة على الشمس والخضرة الغزيرة، أشجار البلوط اكتست بالأوراق بعد عري الشتاء، أشجار الصنوبر بسيقانها الطويلة الرشيقة تهتز مع الهواء كراقصات الباليه، أشجار الأرز المثلثة الشكل تومض بدوائر الضوء كأشجار الكريسماس، وأشجار أخرى لا أعرفها تنبت في الغابات الأمريكية كالنباتات الشيطانية، تتوارى وراء السحب برءوسها السوداء وشعورها الطويلة، تذكرني بالغولة في حكايات جدتي والعفاريت، كنت أبحث عن العفاريت في قريتي وفي مدينتي القاهرة، كانت العفاريت تبحث عني، تحمل اسما آخر هو «زوار الفجر»، لا يظهرون إلا بعد منتصف الليل قبل طلوع الشفق الأحمر، يكون الناس غارقين في النوم العميق، أعمق مرحلة في النوم يسمونها «الموتة الصغرى»، تخلو تماما من الأحلام، إن كان هناك حلم فلا يمكن تذكره، في هذه الساعة يتحرك زوار الفجر، يدخلون البيوت على نحو عجيب، يدقون جرس الباب، إن لم يفتح أحد يفتحون القفل، يكسرونه بأداة مكتومة الصوت.
فوق مكتبي تتراكم أوراقي حياتي، بدأت أكتب سيرتي الذاتية منذ غادرت الوطن، التهديد بالموت جعل حياتي هامة تستحق الكتابة، حياتي تزداد قيمة بالاقتراب من الموت، لا شيء يقهر الموت مثل الكتابة، لولا كتاب التوراة ما عاش النبي موسى أو اليهودية، لولا كتاب الإنجيل ما عاش المسيح أو المسيحية، لولا كتاب القرآن ما عاش النبي محمد أو الإسلام.
ألهذا السبب كانت الكتابة محرمة على النساء والعبيد؟!
أمضيت السنين الخمس الأخيرة بعيدا عن مصر، أربع سنوات منها عشتها في مدينة ديرهام، أستاذة زائرة في جامعة ديوك، أسير على القدمين من بيتي في سيلفان رود إلى الكامباس، أخترق الغابة الصغيرة بين سيقان الأشجار الباسقة، لا أسمع إلا صوت حذائي الكاوتش يلامس الأرض، تطقطق أوراق الشجر تحت قدمي، طائر أخضر يشبه عصفور الجنة يغرد فوق شجرة، حنين إلى صوت ابنتي تناديني في الصباح، الشمس ساطعة تذكرني بشمس القاهرة في الشتاء، زرقة السماء لم أر مثلها في العالم، الصفاء السماوي بلا دخان، لا ذرة تراب، زرقة مقطرة بلا شوائب لسماء ممدودة حتى شاطئ الأطلنطي، بلا جبال، بلا ثلوج ولا صقيع، فقط الشمس والسماء، وأشجار الأرز والصنوبر والبلوط، تتغير ألوانها في الخريف، تتفجر ألوان الطيف، مهرجانا من الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر والرمادي، يحلق طائر غريب لم أره في أي بلد، ريشه أخضر وأزرق، قدماه حمراوان، الغابة ساكنة كالسماء، رهبة السكون المطلق، لا تتبدى أمامي إلا الطبيعة الأم، أكاد أرى وجه الإله رع، وأنا أحملق في قرص الشمس، كأنما رأسه سيطل من وراء هذه السحابة الشفافة، شعره طويل يشبه «نوت» إلهة السماء.
الصور تتزاحم في خيالي، لعبت دور الإلهة إيزيس ابنة نوت على خشبة المسرح، في المدرسة الابتدائية منذ خمسين عاما، بلمسة واحدة من يدي أعدت الحياة إلى زوجي الميت أوزوريس.
في ذاكرتي الطفولية صورتي وأنا أمشي على جسر النيل، أحملق في المياه تتحرك في موجات صغيرة، تلمع في ظلمة الليل كالأسماك الفضية، تنشق عن امرأة شعرها طويل، تخرج من الماء نصف عارية، تجلس فوق الجسر تمشط شعرها، تبتسم لي في حنان الأم، أجري مبتعدة عنها، أخاف أن تخطفني وتأكلني في قاع البحر.
كيف تحولت الإلهة الأنثى القادرة على منح الحياة بعد الموت إلى غولة تأكل الأطفال؟! سؤال لم يخطر لي على بال حتى بلغت الخامسة والعشرين من عمري، كنت طبيبة ناشئة في قريتي وسط دلتا النيل، أمسك كشافا صغيرا وأمشي في الليل، أبحث عن الغولة أو العفاريت بلغة جدتي. •••
رياح المحيط الأطلنطي تضرب هذه المدينة الصغيرة في جنوب أمريكا الشمالية، أمواج كالجبال تمسح الشواطئ المهجورة، صرخات الطيور البحرية، أكبر من النورس ترفرف، تحفظ توازنها فوق حافة الجرف الصخري، عواء الهيروكين القادمة من قلب الأطلنطي كعواء الذئاب أو نداء جنيات البحر.
ذكريات تروح وتجيء مع خطواتي داخل الغابة، تعود بي إلى الوطن ومدينة القاهرة، أرى أصدقائي وصديقاتي أحياء أمامي، يتحركون، لم يعودوا صورا في ذاكرتي أو أسماء في مفكرتي، أعدت إليهم الحياة كما فعلت إيزيس بزوجها، صديقي رجاء أسير معه على شاطئ النيل، أدرك وأنا أمشي أنه مات، مع ذلك أتأبط ذراعه قليلا في مشيته، كأنما له ساق أقصر من ساق، يضغط بقدمه اليمنى على الأرض في كل خطوة، هذه المشية كنت أراها عيبا، أصبحت الآن هي الشيء المميز له، حركة جذابة تميزه عن الرجال الآخرين، أتعرف عليه من بعيد بهذه المشية الخاصة والبدلة الرمادية المكوية، حذاؤه اللامع رغم الشوارع المتربة، في أيام العطلات يكون في كامل هندامه، لا يجلس على الدكك الحجرية بشط النيل، لا يقزقز الترمس ولا الفول الحراتي، هذه العيوب الصغيرة كانت تفسد صداقتنا؛ فأنا أحب الجلوس على النتوءات الصخرية داخل البحر، المطر فوق وجهي وشعري، وهو يفضل الجلوس على مقعد نظيف في الكازينو الأنيق الذي يطل من بعيد على البحر.
انتبهت إلى أنني أمشي في الغابة وحدي، صديقي رجاء لم يعد موجودا، مات منذ اثني عشر عاما في نهاية أكتوبر عام 1981م. قبل أن يموت بأربعة أيام أرسل إلي رسالة من باريس، تراكمت مع البريد فوق مكتبي في بيتي بشارع مراد بالجيزة، كنت غائبة عن البيت، أعيش داخل زنزانة في سجن النساء بالقناطر شمال مدينة القاهرة.
خرجت من الغابة إلى طريق الجامعة، سأدخل بعد دقائق إلى الفصل لألقي على الطلبة والطالبات محاضرة جديدة عن الإبداع والتمرد، أطرد بيدي ذكريات السنين الماضية، أشد ذراعي من ذراع رجاء، لا أودعه، أدخره في ذاكرتي لأعود إليه، مهرجان الألوان يشتعل فوق رءوس الأشجار داخل الكامباس، شريف يسبقني إلى الفصل، أراه من الخلف وهو يمشي، يرتدي بلوفر بنيا فيه مثلثات رمادية، حذاء كاوتش لونه بني، في يده حقيبة جلدية مطوية، انحناءة قليلة مع الخطوة النشيطة السريعة، شعره تساقط قليلا في منتصف الرأس، جسمه نحيف مشدود يندفع إلى الأمام، نوع من الاقتحام العنيد، إرادته حديدية لا تلين، قضى أربعة عشر عاما داخل سجون مصر، لم تتغير إرادته، كأنما الزمن داخل السجن معدوم، لم تتغير ملامحه، شمس المحاريق في الصحراء جعلت بشرته سمراء تشوبها حمرة، الصمت في السجن زاده صمتا، الأكل القليل زاده نحافة، القضبان الحديدية أضافت إليه العود المستقيم، التقينا في ربيع عام 1964م، ربيع معلق فوق سحب الشتاء والنفحات الأولى لزهر البرتقال، لم نكن نؤمن بالمؤسسة الزوجية، نسخر معا من قانون الزواج، العقد المكتوب يشبه عقود تأجير الدكاكين، كنا نعيش في مدينة القاهرة، بدون ختم الدولة «النسر» لا يلتقي الرجل والمرأة إلا وثالثهما الشيطان.
القاهرة مدينتي المقهورة، أصبحت داخل قلبي منذ الطفولة، أحببتها وكرهتها، ما إن أعود إليها حتى أفكر في الرحيل، ما إن أرحل عنها حتى أفكر في العودة، تلازمني في الليل والنهار كأضغاث الأحلام، كواليس الحصار والمطاردة والسجن، خفقات النشوة والحب، آلام الهزيمة ولذة المقاومة، والسقوط والنهوض، والنهوض والسقوط، مدينة القاهرة تقدم لي الحياة والموت في كأس واحدة، أعود إليها كل مرة لأغادرها إلى الأبد.
إن كان هناك زمن فهو ما أخلقه بالكتابة، أسترجع تجارب الحياة في تلك القاهرة، المدينة الغارقة في اللامكان واللازمان، مدينة تبدو من البعد غير موجودة إلا في خيالي، إن الحياة تبدأ هنا والآن، مع حركة الهواء داخل صدري، حركة القلم بين أصابعي، عقارب الساعة تتحرك أمام عيني، اللحظة الحاضرة هي التاريخ الحقيقي لحياتي، لحظة طويلة ممتدة ما بين الولادة والموت، هي الماضي بعد أن مات، وهي المستقبل غير الموجود.
توقفت لحظة عن الكتابة، من خلال النافذة فوق غصن الشجرة رأيت السنجاب الصغير، يسمونه «إسكويريل»، يتمرغ تحت الشمس بعد أن ولدته أمه، انقض عليه طائر ضخم يشبه النسر يسمونه «الهوك»، أكله أمامي من الرأس إلى القدم، عيناي منجذبتان إلى عملية القتل، لا أستطيع تحريك رأسي بعيدا عن المشهد، السنجاب الوليد يقاوم دون جدوى، القوة الهائلة المفترسة لا تترك له مساحة التنفس، يداي إلى جواري مشلولتان، لا أستطيع إنقاذ الطفل المأكول، الشجرة بعيدة عني وعالية وأنا جالسة في مقعدي، جسمي محبوس بين المكتب والجدار، قشعريرة تسري من رأسي إلى قدمي عبر العمود الفقري، أسمع قرقشة العظام الصغيرة بين الفكين الكبيرين كأنهما عظامي، كأنما أنا هذا السنجاب الصغير المأكول، كأنما النسر اختطف حياتي كلها وهي ساخنة متأججة بالحياة، اختطفتها مني مدينة القاهرة كالوجبة الشهية قبل أن ألمسها، قبل أن أتذوق طعمها.
أنشد الحياة بعد الموت عن طريق الكتابة، مثل الأنبياء والآلهة، لست في شجاعة صديقي رجاء، مات دون أن يكتب شيئا: «ما جدوى الكتابة يا نوال إذا كانت الرقابة تحذف أهم ما نكتب؟» كان رجاء شاعرا، التقيت به لأول مرة في عيادتي بميدان الجيزة عام 1959م، كتب قصيدة شعرية عن فشل الوحدة بين مصر وسوريا، حذفت الرقابة أهم أجزائها، لم يبق منها إلا أبيات مفككة بلا معنى، قبل أن يموت بأربعة أيام بعث إلي برسالة قصيرة لا تزيد على سطرين: «أكتب إليك بعد أن استقر بي الحال أخيرا، أنت الوحيدة التي أذكرها في غربتي الطويلة ولا أكاد أعرف إن كان حبي لك هو الحقيقة.» •••
الذكريات تمر بخاطري وأنا واقفة في الفصل، بدأ شريف يتحدث عن الإبداع والتمرد مع الطلبة والطالبات، تجربة جديدة نعيشها في جامعة ديوك، زوجان يتقاسمان الفصل كما يتقاسمان الفراش، أحيانا يحدث الصراع، لم يكن شريف من الرجال الذين تؤرقهم ذكورتهم، معركته في الحياة لم تكن لإثبات تفوقه الجنسي، كان يعيش حلما كبيرا منذ الطفولة، تغيير العالم، إسقاط الرأسمالية الكونية، إحلال الاشتراكية، العدل المثالي والحب، التقينا حول هذه المبادئ الثلاثة منذ ثلاثين عاما، الحلم المثالي اللازوردي، مدينة القاهرة تتمطى تحت الشمس كالراقصة، تسهر تحت الفجر عارية، في ضوء الشمس المشرقة تصحو طاهرة مثل زوجة الإله آمون، تتخفى وراء الحجاب كالعذراء مريم، تطل على نهر النيل بلونه البرونزي، وأهرامات الفراعنة فوق هضبة الجيزة، الآلهة الذين حكموا مصر منذ نشوء العبودية، لم يتنازلوا عن العرش حتى بعد الموت، اكتشفوا العالم الآخر لمجرد الاستمرار في الحكم، أخذوا معهم إلى قبورهم أملاكهم: الذهب والفضة والتاج والصولجان ، حتى الوجبات الشهية الساخنة وضعوها إلى جوار رءوسهم الميتة، ومعها الفاكهة والحلوى، وقطع الحشيش والأفيون لزوم الوهم، لا تخلو رءوسهم من الوهم بعد الموت، لا يخلو موتهم من القبلات الحارة، الأكلات اللذيذة والشهوة المتأججة لحين البعث في دار النعيم.
الفراعنة المصريون هم أول من اكتشف الدين، هم سادة التوحيد والروحانية، سادة الشهوة والمادية الحسية، باعوا الوهم للمعدمين داخل أناشيد الإله إخناتون ومزامير النبي موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف حتى آخر القائمة، هم سادة الحب والحرب والطب والتحنيط والفلك والفلسفة والفن والمعمار، من هرم خوفو إلى جسد أبي الهول، رأس نفرتيتي، لوحات كليوباترا، والآلهة من النساء والفيلسوفات، من نوت وإيزيس ومعابد إلهة العدل وسخمت إلهة الطب إلى هيباثيا في الإسكندرية، قتلها الغزاة الرومان وحرقوا كتبها، مصر مقبرة الغزاة، يدخلونها ويخرجون، لا بد من طردهم وإن مرت القرون، لكنهم يعودون، لا بد من عودتهم، تحت أي حجة، تتغير الحجة من زمن إلى زمن، والسلاح في أيديهم يتغير، أيام نابليون تمنطقوا بالبنادق، وقت الاحتلال البريطاني أمسكوا المدافع الرشاشة، في الاعتداء الثلاثي (الإسرائيلي الفرنسي الإنجليزي) ركبوا الدبابات والطائرات المقاتلة تسقط القنابل، في أوقات اللاحرب يتمنطقون بحزام السلام والعملات الصعبة، يدخلون إلى مصر، هؤلاء الرجال الطوال القامة البيض البشرة المشربة بالحمرة، القادمون من وراء البحر والمحيط، مفسرو النظريات الكونية، يحملون لقب «الخبراء»، يشبهون سربا من الطيور الجارحة منفوشة الريش، يطوفون شوارع القاهرة بأحاسيس الغزاة يقتلون المعارضين، يشفقون على الشحاذين، يناولونهم البقشيش، يزورون بيوتهم داخل المقابر، في مدينة الموتى أسفل جبل المقطم ، وراء الشارع الأسفلت الممدود بين مصر القديمة ومطار القاهرة الدولي، يحمل اسم أحد رجال الثورة «صلاح سالم»، كان يرتدي نظارة سوداء تشبه طاقية الإخفاء، لا تظهر صورته إلا في صحيفة المساء مثل خفافيش الليل.
في المنفى رأيت مدينتي القاهرة، تمتد في خيالي بين أحاسيس الكره والحب، الرغبة والنفور، تمتد أمامي في الغربة الطويلة، تسكنها وجوه صديقاتي وأصدقائي، يشتعل قلبي بالحنين لأسكن معهم هذه المدينة، أجوب معهم شوارعها، أتمشى على شاطئ النيل تحت ضوء القمر مع رجاء وصفية وسامية ورفاعة وبطة.
منذ خمس سنوات كان الرحيل عن القاهرة إجباريا، الرغبة في الإفلات من الموت، الدفاع المشروع عن الحياة، جاءوا إلي قبل الفجر بقليل، ليلة التاسع من يونيو عام 1992م. •••
لم تكن عندي معرفة بزوار الفجر، سمعت عنهم من شريف حين تزوجنا في ديسمبر 1964م، كان يحكي لي عنهم، كيف يدخلون من الأبواب، كيف يسيرون على الأرض، عيونهم الضبابية وراء النظارات، في أيديهم المختفية تحت القفازات، وجوههم المحلوقة تفوح برائحة الكولونيا، بدلهم المكوية والحذاء اللامع بالبوز المدبب، خطوتهم فوق الأرض مكتومة، في ظلمة الليل جاءوا وأخذوا شريف معهم، أول مرة عاملوه برقة، كان شابا في الخامسة والعشرين عام 1948م، طبيب تخرج بدرجة الامتياز مع مرتبة الشرف، ينتمي لطبقة تشارك الملك في سرقة الشعب، أخرجوه من السجن للتحقيق وقالوا له: «إنت ابن عيلة يا شريف، ابن ناس، سيبك من زمايلك دول شوية شحاتين عملاء موسكو.» أعادوه إلى السجن ثم أخرجوه للتحقيق: «اسمع يا ولد، إنت باين عليك راسك ناشفة نقدر نكسرها بسهولة، وأمامك فرصة واحدة.» قبل أن يكسروا رأسه هرب من السجن، لم يكن يهرب إلا القتلة الخطرون، تحدثت عنه الصحف كأسطورة خرافية، رسموه على شكل شيطان أحمر ينزلق هابطا من النافذة العلوية على جبل طويل ممدود في الفضاء، نشروا له صورة تشبه السفاحين، أصبح الأطفال يرونه في الكوابيس، يهب الطفل منهم في الليل، يصرخ: حوشوا عني العفريت!
خيالي كان يسرح مع حكايات شريف، كالطفلة تستمع إلى قصص العفاريت، أتصورهم كائنات من صنع الخيال، أرواح بلا أجساد كالآلهة، حتى رأيتهم وجها لوجه، كنت وحدي بالبيت يوم 6 سبتمبر 1981م، جالسة إلى مكتبي مستغرقة في الكتابة، رواية جديدة عنوانها: «سقوط الإمام»، دق جرس الباب، لم أسمع الدقة الأولى ولا الثانية، توالت الدقات وأنا غائبة في عالم الإمام يسقط عن العرش ويصحو بعد الموت ليطلب من حارس الجنة مقابلة الله، أفقت على الدقة السادسة أو السابعة، رأيتهم من وراء الشراعة كالأشباح في كوابيس الطفولة، لم أفتح الباب، كسروا ودخلوا، ملئوا حقائبهم بكتبي وأوراقي ، أخذوني إلى السجن وهم يقولون بأدب شديد: «مجرد سؤالين يا دكتورة نوال وترجعي البيت.» •••
كنت غارقة في النوم حين دقوا الجرس، الدقة الأولى سمعها شريف وهو نائم، كان يعرف طريقتهم في دق الأبواب، والساعة التي يأتون فيها بعد منتصف الليل، قبل طلوع الفجر بساعة، ينقضون على البيوت يسوقون الرجال والنساء إلى أماكن مجهولة لا يعلمها إلا الله ووزير الداخلية.
كانت ليلة حالكة الظلمة بلا قمر ولا نجوم، الضباب عباءة سواء تغلف الأرض والسماء، لا هواء إلا صهد الحرارة، صيف القاهرة في شهر يونيو، كنت أحلم أنني أسبح في بحر الإسكندرية، تسبح أمي أمامي، مياه البحر سوداء كالسماء، أعلم في الحلم أنه الليل، وأن أمي ميتة، أراها تسبح رغم الموت، تصعد فوق الأمواج العالية، تضربها بذراعيها وساقيها، أسبح خلفها بقوة، رأسي يشق الماء كأنه الهواء، وأطير فجأة في الجو، أحلق فوق مدينة تشبه القاهرة، البيوت والعمارات شكلها غريب مدببة الأسطح تشبه الأبراج، الأهرامات الثلاثة وأبو الهول فوق الهضبة، نهر النيل تتسع مساحته يشبه بحر الإسكندرية، المياه الزرقاء أراها من الارتفاع الشاهق، أقول لنفسي في الحلم: كيف أسير بلا جناحين، أيمكن أن يسقط جسمي بسبب الجاذبية الأرضية؟ السؤال يدور في رأسي وأنا أرفرف بذراعي، يذكرني أن البشر لا يطيرون، فجأة أفقد القدرة على الطيران، يتهاوى جسدي بطيئا حتى يلامس السطح، أحرك ذراعي في البحر وأسبح، المسافة بيني وبين الشاطئ بعيدة، أمي لا أراها أمامي، والأمواج تعلو كالجبال السوداء، جسدي مربوط بحجر، مشدود إلى قاع البحر ، أصارع لأطلق سراح جسدي، أفتح فمي لأصرخ، صوتي لا يخرج، الشاطئ طويل يتدلى ويهتز، يصلصل الجرس بصوت هدير الأمواج، علم أسود علامة الخطر يرفرف في الهواء، ممنوع النزول إلى البحر، أمي جالسة فوق الرمال داخل فستان أسود، علامة الحداد، أراها في الحلم وأعلم أنها ميتة، أسمعها تقول: إن أبي مات، وأعلم أنه ميت منذ ثلاثة وثلاثين عاما.
الدقة الثانية لجرس الباب، سمعتها وأنا غارفة في النوم، جرس المدرسة يصلصل، وأنا جالسة في الامتحان أمامي ورقة الأسئلة، لا أعرف الإجابة عن أي سؤال، أنفاسي تختنق تحت الماء، باق من الزمن خمس دقائق، العرق يتصبب من جسدي، أعيد قراءة الأسئلة، اللغة تبدو غير مفهومة كالهيروغليفية، سوف أسقط في الامتحان، الموت أهون من السقوط، ألهث وأنا أكتب، ليست هي الإجابة المطلوبة، مجرد خطوط وخربشات لا معنى لها، باق من الزمن دقيقة واحدة، القلم يرتعش في يدي، يضع فوق الورقة ذبذبات، قطرات العرق تبلل الأسئلة، لا أرى الكلمات الجرس يدق. انتهى الزمن المحدد، الأصابع الحديدية تشد الورقة من يدي، أهب من النوم مبللة بالعرق، أتحسس الفراش من تحتي ليس مبللا، لست طفلة تبول في النوم، ليس هناك مدرسة ولا امتحانات، أنا في سريري نائمة وجرس الباب يدق.
رأيت شريف ينهض من سريره، تذكرت فجأة أنه زوجي، تزوجنا منذ ثمانية وعشرين عاما، منذ الزواج في غرفة واحدة فوق سريرين منفصلين، نؤمن بحرية الحركة من النوم كاليقظة، الظلمة حالكة، يبحث عن نظارته فوق المنضدة بجوار السرير، حركته هادئة، لا يتعجل شيئا، يسيطر على الزمن، يوقفه حتى يعثر على النظارة، حتى يخرج من السجن بعد أربعة عشر عاما، أراه من الخلف وهو يمشي، انحناءة خفيفة يحملها فوق ظهره ويمشي، رأس مرفوع فوق عنق قوي لم ينثن أمام حبل المشنقة، خرج من غرفة النوم إلى الصالة، فاردا ذراعيه أمامه كمن يمشي في النوم، خطوته فوق الأرض شبه حالمة، لا يسرع الخطو ولا يبطئ، حركته لا تتغير، وإن دقت أجراس الكون فهو يعرفها، لا شيء جديدا تحت الشمس، سمعته يفتح الباب الخارجي، يتحدث إلى رجال غرباء، الأصوات تسري من تحت جفوني المغلقة كالحلم داخل الحلم.
دخلوا إلى الصالة الصغيرة في شقتنا بالجيزة، جلسوا حول المائدة المستديرة تعلوها صينية نحاسية، أحدهم أحدب يرتدي بدلة غير رسمية، يضع منديلا حريريا في الجيب العلوي فوق صدره ناحية اليسار، تفوح منها رائحة الكولونيا «لافندر»، وجهه محلوق، شعره محلوق، ملامحه محلوقة، لا يكشف عن شيء من نفسه، لا تفلت منه كلمة واحدة تضيء الموقف، صوته مثل آلة تسجيل.
سمعت شريف يسألهم عن هويتهم، هو يعرفهم عن يقين، في كل يقيم ذرة شك، لا شيء مطلق أو كامل، كل شيء نسبي أو ناقص، الحذر أيضا مطلوب، شريف كان أكثر حذرا مني، يعرف بحور السياسة الغويطة، ينقلب الأصدقاء أعداء بين يوم وليلة، وينقلب الأعداء أصدقاء، تتخفى المصالح تحت طبقة سميكة من الشعارات. - حضراتكم مين؟ - البوليس.
كلمة البوليس رنت في أذني وأنا غارقة في النوم، لا أريد أن أصحو، أمسك بذيل أمي وهي واقفة إلى جواري، أول مرة سمعت كلمة البوليس كنت في السادسة من العمر، في مدينة الإسكندرية، سمعت أبي يقول البوليس أمسك سعدية، تصورت أن عمل البوليس هو القبض على الخادمات الهاربات أو اللصوص الحرامية، لم أعرف أن البوليس يقبض أيضا على الثوار وذوي الأفكار الجديدة. - خير إن شاء الله! - الدكتورة نوال السعداوي موجودة؟ - أيوة، هي نايمة. - أهلا يا دكتور شريف. - أهلا بكم. - عندنا أمر بوضع الحراسة على الدكتورة.
كلمة الحراسة تخترق الوسادة فوق أذني، سمعتها لأول مرة منذ ثلاثة وثلاثين عاما، في عهد عبد الناصر كانت الحراسة توضع على أملاك الأثرياء الإقطاعيين والرأسماليين، وأنا لا أملك شيئا، حتى الشقة التي نسكن فيها ليست ملكنا، ندفع إيجارها كل شهر لصاحب العمارة، وهي شقة صغيرة من ثلاث غرف وصالة، ابنتنا منى لها غرفة واحدة، الصالة الصغيرة تشمل الاستقبال ومائدة الأكل. - الحراسة على حياتك يا دكتورة. - حياتي؟! - نعم حياتك. - وماذا يهدد حياتي؟! - ليس عندنا معلومات.
المعرفة سلاح، كيف أحمي حياتي دون أن أعرف ماذا يهددها؟ إذا كانت الحكومات تريد حقا حمايتي، فلماذا تخفي عني أهم المعلومات؟ هذه الحكومة لم تكف عن البطش بي، لم تكف عن توجيه الضربات إلي حتى الضربة الأخيرة منذ عشر سنوات والمجلة التي كنت أصدرها، كيف تحاربني الحكومة كل هذه الحرب وفي الوقت نفسه تحرسني؟! - أشكركم كثيرا لست في حاجة إلى هذه الحراسة. - لا يا دكتورة، عندنا أمر ولا بد من تنفيذه. - أتحرسون حياتي ضد إرادتي؟ - أيوه. - إزاي ده؟ - لأن حياتك يا دكتورة ليس ملكك، إنها ملك الدولة!
أصبحت أعيش تحت الحراسة المسلحة وحياتي ليست ملكي، رجال مسلحون أمام باب البيت ليل نهار، حارس يرافقني في كل خطوة، اسمه «البودي جارد»، شاب طويل عريض يحمل مسدسا، يرتدي قميصا بلون الصاعقة، أتوقع الضربة على ظهري وأنا أمشي أمامه، لو انطلقت الرصاصة فهي منه أو أحد الحراس، ما دامت هذه الحراسة موجودة أشعر بالخطر.
في الليل أسمع الدبات الخانقة تقترب من السرير، أهب من النوم مبللة بالعرق، أتوقع رؤية الشيطان سافرا أو الإله ملثما، يصوب إلى رأسي المسدس، أرى الظلال تتحرك فوق الجدار، أعود طفلة تخاف في الليل من العفاريت، في الصباح أستعيد شجاعتي أرتدي الحذاء الكاوتش، أخرج مع شريف إلى شاطئ النيل، نمشي بخطوة سريعة في الرياضة اليومية، لم نكف عن هذه الرياضة يوما واحدا، أدوس على الخوف وأخرج من باب البيت، قد تنطلق الرصاصة أو لا تنطلق، لم أعد أشعر بالخطر، أصبحت جزءا منه، لم أعد أشعر بالموت، أصبحت أنا الموت.
أكان هو الوهم الذي وصفه صديقي رجاء في قصائده، أو ربما هو الحقيقة، فأنا أمشي على شاطئ النيل، أدوس بقدمي على الأرض، جسدي يندفع إلى الأمام بحركة قوية، هذه اللحظة الحاضرة متصلة تمتد إلى الأبد، هي الحقيقة الوحيدة أمام عقلي، اللحظة الماضية بكل مخاوفها ماتت، اللحظة القادمة غير موجودة، سواء انطلقت فيها الرصاصة أو لم تنطلق، المستقبل ميت والماضي معدوم، والموت غير موجود، الحاضر فقط هو الذي يعيش. •••
قدمت طلبا لوزارة الداخلية أطلب الترخيص لي بحمل مسدس، إذا كانت حياتي مهددة فمن حقي الدفاع عنها، رفضت الحكومة طلبي، أصبحت على يقين أن هذه الحكومة لا تريد حمايتي، ماذا تريد إذن؟
كانت الحراسة شكلية بلا فائدة، الحارس يجلس في مدخل العمارة على مقعد أخذه من بيتنا، رجل متوسط العمر يشبه الفراشين في الحكومة، يرتدي بدلة صفراء باهتة أكمامها مهترئة، يمد يده ويأخذ البقشيش من سكان العمارة، يحمل عنهم الحقائب أو أكياس الفاكهة والخضار، إن نفحه أحدهم مبلغا كبيرا يصعد معه في الأسانسير حتى باب شقته، في الليل حين أدخل إلى العمارة أراه نائما فوق المقعد، أوقظه وأنا أقول: اصحى يا عم محمد عشان تحرسني، يضحك الرجل، يكشف عن أسنانه البيضاء تحت الشارب الأسود الكثيف: «معليش يا دكتورة أصل النوم سلطان.» - يا ريت تنام في بيتك بدل نومة الكرسي دي؟ - ما أقدرش يا دكتورة. - ليه؟ - إذا جه المفتش أعمل إيه. - المفتش مش جاي روح نام في بيتك.
منذ جاءت الحراسة في 9 يونيو 1992م حتى غادرت الوطن في يناير 1993م، لم يأت المفتش مرة واحدة، كانت الحراسة تتغير، يأتي شباب أكثر قدرة على اليقظة، أراهم واقفين في الليل، أرسل إليهم المقاعد والبطاطين ووجبات الطعام، أعطيتهم بعض كتبي، لا يعرفون شيئا عن المرأة التي يحرسونها، كنت أسألهم: أتعرفون من أنا؟ أتعرفون لماذا تحرسون حياتي؟! لا يعرفون شيئا، عندهم أوامر واجبة التنفيذ، جنود في الحكومة واجبهم الطاعة دون مناقشة كالنساء في بيوت الزوجية. •••
في الصباح الباكر كان البودي جارد يدق الجرس، يفتح شريف الباب: «صباح الخير يا رفيق، النهاردة ده عندك إجازة، ما فيش مواعيد عند الدكتورة، مش هتخرج من البيت، تعالى بكرة.»
في اليوم التالي يأتي، يكرر شريف له العبارة، أصبح مهمتنا كيف نهرب من البودي جارد، في غيابه يزول الخطر، أشعر بالحرية، أخرج وأمشي في الشوارع دون خوف، لا أستدير لأرقب يده قبل أن تطلق الرصاصة في ظهري. •••
الكتابة في حياتي هي الملاذ، لا شيء يعوضني عن حروفي فوق الورق، الكتابة أنقذتني من الموت، عن طريقها أتنفس، أعبر عن نفسي، أكسر العزلة بين جسدي والعالم ، أخلق كلماتي وكلماتي تخلقني، لا أملك في حياتي إلا حروفي وحروفي تملكني، علاقة حب متساوية متكافئة لا يسيطر فيها طرف على الآخر، لولا الكتاب لأصبحت من الموتى، وبسبب الكتابة دخل اسمي قائمة الموت. «قائمة الموت»: عبارة جديدة دخلت حياتنا الأدبية في السنين الأخيرة، بدأنا نسمع عن أسماء أدباء في قائمة الموت، ألتقي صدفة في الطريق بصديق فيسألني في قلق: «تعرفي مين في الآيمة يا نوال؟» الإشاعات تنتشر في القاهرة كالدخان، لا أحد يعرف الحقيقة، نمشي في الضباب، إنه سمة العصر، في الماضي كان العدو مرئيا، نراه أمامنا حاملا سلاحه العسكري، له اسم معروف، هذه القوى المجهولة بلا اسم، كيف نحاربها؟
في الليل أسمع صوتا ينطلق من الميكروفون، لا أعرف من أين تأتي؟ من مئذنة الجامع؟ قبة الكنيسة؟ الديسكو كلوب، ماكدونالد؟! صوت غريب يسري في ظلمة الليل، اقتلوهم حيث وجدتموهم، الكفرة أعداء الله فلان وفلان، أسماء أدباء وشعراء، ثلاثين أو أربعين اسما، ويرن اسمي و«نوال السعداوي»، يخترق رأسي مثل طلقة الرصاص، تدوي حروف اسمي في الليل: اقتلوها الكافرة عدوة الله. للصوت فحيح كأنفاس ثعبان، تفوح منه رائحة غريبة تشبه النفط.
كنت مستغرقة في كتابة روايتي الأخيرة: «الحب في زمن النفط»، في أعماقي أدرك أن النفط هو القوة الخفية تحرك الأشياء من وراء الستار، أضع خطا تحت كلمة النفط، أشعر بشيء من الراحة، خطوة أولى لإعطاء اسم للقوة المجهولة بلا اسم، هناك علاقة بين النفط وقائمة الموت، أمسك بأصابعي طرف الخيط، لولا النفط ما قامت حرب الخليج في يناير 1991م، ما تحركت جيوش ثلاثين دولة على رأسها الجيش الأمريكي، لولا النفط ما تحرك الجيش البريطاني وأقام في فلسطين دولة إسرائيل، لولا النفط ما انقلب العالم ضد إيران في عهد مصدق، لولا النفط ما احتكم علينا ملوك لا يعرفون القراءة ولا الكتابة.
في الرواية كان النفط هو البطل، الجزيرة غارقة في بركة من النفط، يحكمها صاحب الشركة «الخواجة»، ولا يتحدث اللغة العربية، وصاحب الجلالة الملك مندوب الله على الأرض رأس العائلة المقدسة ، تبدأ الرواية بامرأة عادية من الشعب تخرج من بيتها في إجازة يومين، كان هناك أمر من صاحب الجلالة: «ممنوع على النساء القيام بإجازة، إن خرجت المرأة يتم القبض عليها وإعادتها حية أو ميتة.»
أغرقت نفسي في الكتابة، أسابق الزمن أخشى أن يسبقني، فكرة الموت تراودني دائما مع عملية الخلق، ينتابني القلق كلما بدأت عملا إبداعيا، أحوطه بذراعي كالطفل أخشى عليه الضياع، أمشي فوق الرصيف أخشى أن تصدمني سيارة، لا أبغي من الدنيا سوى أن أعيش لأكمل العمل، لينمو المخلوق الصغير ويستقل.
فكرة الموت لا تفارقني منذ جاءت الحراسة، لا يمر يوم دون أن أسمع هذه الكلمة «القايمة»، القايمة مين فيها النهاردة، مين انضرب بالرصاص، في مصر وفي الجزائر، يستخدمون في القتل مدافع رشاشة ودراجات بخارية، يهربون وتفشل الحكومة في القبض على القاتل، البودي جارد يدق الجرس كل يوم، الحراس أمام البيت أمسكوا شخصا مجهولا حاول الصعود إلى شقتي، كلما دق جرس الباب أتوقع القاتل، لم أعد قادرة على الكتابة، فكرة موتي بالرصاص تحلق فوق رأسي، أطردها فتعود مثل ذبابة عنيدة، يكبر حجمها أحيانا فتصبح كالطائر الأسود الضخم، لا يشبه النسر ولا يشبه الصقر ولا الحدأة ولا أي كائن آخر، يفرد جناحيه فوق رأسي وأنا أكتب، أتوقف في منتصف السطر، قبل أن أكمل حروف الكلمة يتجمد القلم في يدي. - مالك يا نوال؟ فيه حاجة؟ - مش قادرة أكتب يا شريف، عقلي واقف مشلول.
يناولني شريف كوبا من عصير البرتقال، أو فنجان شاي، ينظر في ساعته، يرى أنني لم أنهض من مقعدي وراء المكتب سبع ساعات أو ثماني أو أكثر، أحيانا كنت أجلس إحدى عشرة ساعة دون أن أنهض. - «ريحي نفسك شوية، إدي نفسك أجازة يا نوال.» - الإجازات ممنوعة يا شريف بأمر من صاحب الجلالة الملك. - الملك مين يا نوال؟
كنت أعيش داخل الرواية، يشدني شريف إلى الواقع، أعيش على الحافة أتأرجح بين الخيال والحقيقة، أشد عضلات ظهري وأنهض بصعوبة، قدماي وارمتان، فقرات العمود الفقري أسمعها تئن، كصرير الساقية في طفولتي، أصابتني الكتابة بمرض مجهول يشبه الانزلاق الغضروفي.
كل صباح كانت الصحف تدخل إلى شقتنا، قوة مجهولة تدفع بها تحت عقب الباب، الرجل صاحب الكشك على ناصية شارع مراد مع شارع الجيزة، اسمه «محمد» يركب دراجة يوزع الصحف على البيوت، يفرشها فوق الرصيف، يعلقها على جدران الكشك، أمر بها في طريقي إلى كورنيش النيل، أحرك عيني بعيدا عنها، في البيت أتركها فوق الأرض، أركلها بقدمي لأفتح الباب، لا أقربها في الصباح، إن قرأتها أفسدت علي اليوم، كالسم تقتل بوادر التفكير في خلايا المخ .
أصحو من النوم أشكو من الصداع، أجلس إلى مكتبي مربوطة الرأس، عقلي مثل الأرض البور، الصحراء القحط، لا تنبت فيها زهرة، لا أضع كلمة واحدة فوق السطر، أعيد ما كتبته بالأمس، يبدو فارغا من المعنى، كلمات ميتة كالزهور فوق القبور، أمزق أوراقي أقذفها بطول ذراعي، أضع رأسي تحت ماء الدش، أبلع أقراص الأسبرين، أضرب الجدار بقبضة يدي، لا شيء يعالج الألم، كالسكين يشق رأسي نصفين، يدخل شريف إلى غرفتي يراني منكفئة فوق مكتبي، القلم في يدي مكسور، أوراقي من حولي ممزقة: «نوال فيه إيه؟» - «مش قادرة أكتب يا شريف!»
كنت أتلقى تهديدات بالقتل، أصوات مجهولة تأتيني عبر أسلاك التلفون، شتائم باللغة العربية الفصحى، والعامية المصرية، تشوبها أحيانا لكنه ... خليجية، سعودية وكويتية وجزائرية، عبر البريد تأتي الشتائم على شكل رسائل بدون توقيع: «يا كافرة يا عدوة الإسلام، يا حليفة الشيطان التي أخرجت آدم من الجنة وسبب الموت والخراب، كنت تنشرين سمومك عبر جمعيتك المشبوهة التي أغلقتها الحكومة وحولت أموالها إلى جمعية نساء الإسلام، نعم إن النساء المسلمات المؤمنات أحق منك بهذه الأموال، فهي أموال حرام ما لم توجه لخدمة الدين الحنيف، وما هذا الشعار الكافر الذي رفعته في جمعيتكم المنحلة، (رفع الحجاب عن العقل)، ألا تعرفين أن الله أمر النساء المسلمات بارتداء الحجاب، كلمة الحجاب مقدسة، كيف تحرضين النساء ضد طاعة الله، مثلك لا يستحق إلا الموت!»
في إحدى الليالي كنت وحدي بالبيت، سافر شريف إلى قرية القضابة بجوار طنطا في مهمة ضرورية، جلست إلى المكتب أحاول كتابة الفصل الأخير من الرواية، الليل ساكن، لا أسمع إلا صوت أنفاسي، دقات الساعة الخافتة، الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، ابنتنا منى انتقلت إلى بيتها، ابننا عاطف استقل بحياته، أصبحت لي غرفة مستقلة، أكتب فيها وأنام فيها بجوار أوراقي، أحب هذا الانعزال الكامل وحدي مع أفكاري.
فجأة دق جرس الباب، تجمدت في مقعدي، من يأتي في هذه الساعة من الليل؟ الضربات تحت ضلوعي تتصاعد، العرق يتصبب وأنا جالسة لا أريد النهوض، ربما أخطأ أحد الجيران وضغط بيده على الجرس، جاءت الدقة الثانية فانتفضت واقفة، أنوار الشقة كلها مطفأة، سرت على أطراف أصابعي، تحركت في الظلمة بلا صوت، من وراء شراعة الباب، لمحت خيالا أسود: استجمعت شجاعتي. - مين بره الباب؟!
لم يرد أحد، الصمت يدوي في أذني كصفير الطاحونة في منوف، عقلي يفكر وحده، هل أجري إلى المطبخ وأمسك السكين؟ لكن ماذا يفعل السكين في مواجهة مدفع رشاش؟ لو كان معي مسدس؟ ألهذا رفضوا التصريح لي بمسدس؟ لماذا لا يرد ويقف صامتا هكذا؟ إذا كان هو القاتل فكيف تركه الحارس يصعد؟ هل القتلة يدقون الأجراس؟ واقفة وسط الصالة داخل الظلمة مكتومة الأنفاس، مرت لحظة ممدودة بلا نهاية، رأيت الخيال يتحرك وراء الشراعة ويختفي، شيء غريب أغرب من الخيال، لماذا جاء ولماذا راح؟
عدت إلى غرفة النوم كي لا أنام، أطرافي باردة، الدقات تحت ضلوعي بطيئة شبه متوقفة، فتحت النافذة لأطل على الشارع، سأراه يخرج من باب العمارة، إن لم يخرج فلا بد أنه الحارس، مضت الدقائق، لم يخرج أحد، عشر دقائق، عشرون دقيقة، واقفة في النافذة كالتمثال، شارع مراد مظلم منطفئ الأنوار، لا أحد يتحرك، سيارات قليلة تمرق بسرعة الضوء، زئير الأسد يصلني من حديقة الحيوان مع رائحة المجاري، سيارة بوليس تنطلق بصفارة حادة، ساعة الجامعة تدق مرتين ثم تسكت، من بعيد يأتيني الصوت كالنشيج، امرأة تئن وحدها في الليل، لا أعرف من أين يأتي الأنين، أهي الجارة التي تسكن فوقي، أم في الشقة تحت شقتي أم في الشقة المجاورة التي تسكن فوقي، أم في الشقة تحت شقتي ناحية اليمين، أو المرأة الوحيدة في الشقة ناحية اليسار، الأنين يحمله هواء الصيف في المدينة الكبيرة، يسري في أذني كالطنين، يذكرني بأنين أمي في الليل ممدود يشبه النداء، يا ... نو ... ا ... ا ... ل ... ل، تناديني في الليل يا نوال، أدفن وجهي في وسادتي، يتحول بكائي إلى أنين يعلو على أنينها أو أنين المرأة الأخرى. - نوال، لازم تسافري! - أسافر فين يا شريف؟ - عندك صديقات في كل بلاد العالم ، إنت معروفة يا نوال؟ وأنا مستعد أسافر معاك.
بدأت أفكر في السفر، كيف أسافر؟ رحلاتي السابقة كان لها هدف، حضور مؤتمر، إلقاء محاضرة، لم أجرب من قبل السفر بلا هدف، أو للهروب من الموت، أيمكن أن يكون مصيري هو النفي خارج البلاد؟
ألا تحتمل أرض الوطن أن تمشي فوقها كاتبة مثلي؟! عشت تجربة السجن والطرد من العمل والمصادرة والمطاردة وتشويه السمعة، كل ذلك داخل الوطن، لم أعرف ماذا يكون المنفى.
ذات يوم دق الجرس، فتح شريف الباب، دخلت فتاة اسمها إليزابيث، جاءت إلى مصر في زيارة قصيرة، طالبة بجامعة ديوك في ولاية نورث كارولينا، درست بعض رواياتي المترجمة إلى الإنجليزية، أرادت أن تزورني قبل أن تغادر مصر، على باب العمارة رأت الحراسة المسلحة، صعد معها الحارس حتى باب الشقة، سألتني: ما الذي حدث؟ قلت بهدوء وأنا أبتسم: لا شيء حدث، فقط يحرسون حياتي. اندهشت الفتاة كيف أبتسم بهذا الهدوء. - لماذا لا تسافرين يا دكتور ساداوي؟ - وإلى أين أذهب؟ - إلى جامعة ديوك، هناك أستاذتي الدكتور ميريام كوك وهي تدرس رواياتك في حصة الأدب العربي، يمكن أن أطلبها بالتلفون غدا وأعطيها تليفونك، ما رأيك؟ •••
يوم 8 يناير 1993م، أودع بيتي في الجيزة، الشقة الصغيرة في شارع مراد، استأجرتها من صاحب العمارة في يناير 1960م، عشت فيها ثلاثة وثلاثين عاما، شريف يحزم الحقائب في الصالة، منذ تزوجنا لم تكف الحكومة عن مطاردتنا ثلاثين عاما، لم نبدأ عملا إلا هدموه، لم نضئ مصباحا إلا أطفئوه ، لم ننشئ جمعية إلا أغلقوها، لم نصدر مجلة إلا صادروها، ها هي المطاردة تصل إلى النفي خارج البلاد.
أدور على غرف الشقة أودعها، ابنتي منى واقفة في الصالة تحوطني بذراعيها: «مع السلامة يا ماما ... كلميني في التليفون أول ما توصلوا ديرهام.» ابني عاطف واقف إلى جوارها، يحوطني بذراعيه: «مع السلامة يا ماما، خلي بالك من نفسك.» منى وعاطف يعانقان شريف، العيون تلمع بالابتسام لتخفي الدموع الحبيسة.
شريف يحمل الحقائب خارج الباب، حركته هادئة تشبه حركة أبي، كنت في السابعة من العمر حين رأيته يحزم الحقائب بهذه الحركة الهادئة، أصدرت الحكومة قرارا بنفيه بعيدا عن المدينة، اشترك في مظاهرة وطنية ضد الملك والإنجليز، عاش المنفى عشر سنوات، من 1938م حتى عام 1948م.
خرجنا من بيتنا نحمل حقائبنا، نودع الأهل والوطن، شريف يحوطني بذراعيه داخل الطائرة: «أمامنا يا نوال رحلة بديعة، تجربة جديدة تضاف إلى تجاربنا السابقة.» تعانقنا في الجو بين السماء والأرض، والبوينج تشق السحب نحو الشمال.
الفصل الثاني
الانطلاق الأول
سماء ولاية نورث كارولينا تمتد فوق رأسي حتى الساحل الشرقي الجنوبي لأمريكا الشمالية، الليل كثيف الظلمة بلا قمر، النجوم ترتعش من بعيد توشك على الانطفاء، في طفولتي كنت أسأل أبي وأمي: مين خلق النجوم دي كلها؟ ربنا يا بنتي، وأعود أسأل: ومين خلق ربنا؟ يكف أبي وأمي عن الرد، يدب الصمت لحظة، يبتلع أبي لعابه، أرى تفاحة آدم تعلو وتهبط في عنقه، يخرج صوته متحشرجا: ما فيش حد خلق ربنا، هو خلق نفسه، لم يكن لعقلي الطفولي أن يتصور شيئا خلق نفسه.
أصبع أبي الكبير هو أصبع الله يشير إلى السماء، يعطي كل نجم اسمه، ده المريخ، وعطارد، وزحل، والزهرة، أتوقف عند الزهرة، النجمة الوحيدة الأنثى بين النجوم الذكور، إنها نجمتي، ولدت معي وتموت معي، كانت ستي الحاجة - جدتي لأبي - تقول لكل واحد من الناس نجم في السماء، يولد معه ويموت معه.
عيناي مشدودتان إلى «زهرة»، أهي النجمة نفسها التي كنت أراها في سماء قريتي في دلتا النيل، تبعد عني في الزمان والمكان أكثر من نصف قرن وعشرة آلاف ميل، حنين جارف إلى طفولتي وأيام صباي، في العاشرة من عمري عرفت الحب الأول، في العشرين من عمري عرفت الحب الثاني، مضت عشر سنوات بين الأول والثاني، ثم مضت ثلاثة عشر عاما حتى عرفت الحب الثالث، في كل قصة عشتها أسأل نفسي: لماذا هو بالذات من دون البشر؟ لم يكن للسؤال جواب، كأنما انعدام الأسباب هو شرط الحب.
لحظات في عمري أتوقف عندها، تبدو عصية على الفهم، يدركها القلب دون كلام أو لغة، الحب يسبق اللغة في التاريخ، الإدراك الجسدي يرتفع فوق العقل.
تفسد الكتابة لحظات الحب، القلم مثل المشرط يقتل اللحظة، يمزق الجسد، يفصل الرأس عن العنق، عن القلب، عن الصدر، عن البطن.
في مفكرتي السرية وأنا في العشرين من العمر كان سهلا أن أكتب كلمة الرأس أو القلب أو الصدر، كلمات بريئة تشير إلى أجزاء بريئة من الجسم، كلمة بطن لم ترد على لساني حتى بعد دخولي كلية الطب وتشريح بطون الجثث، كلمة «جنس» لم أنطقها حتى بعد زواجي الأول أرقد مع زوجي في سرير واحد، يصنع منا الزواج حيوانا بجسد واحد ورأسين، لم أنطق كلمة «جنس»، وإن نطقت كلمة «زوجي» باللغة العامية «جوزي» ترن في أذني نابية.
وفي كلية الطب لم ندرس شيئا عن الجنس، درسنا الجهاز التناسلي والبولي والحمل والولادة وأمراض النساء وسرطان الرحم وسرطان الخصية، لم نعرف شيئا عما كان يشغلنا معظم الوقت، كان علم الطب مفصولا عن حياتنا اليومية.
أصبحت لي مكتبي الصغيرة في غرفة نومي، إنها غرفتي وحدي لم تعد تشاركني فيها أختي الأصغر ليلى، منذ أدخلت جمجمة الميت إلى غرفتي، أخرجت أختي سريرها.
أول ما أسعدني حين بلغت العشرين من عمري من غرفتي الخاصة، حريتي، أحلم بها في طفولتي وأنا ألعب بالعرائس مع أختي، وفي سنين المدرسة الابتدائية والثانوية وفي مدرسة حلوان الداخلية، حنين إلى الحرية أشد من حنين إلى الحب، الحب عندي هو الحرية وإلا ماذا يكون الحب؟!
في خريف 1951م أدركت أنني أملك حريتي، في الصباح أفتح عيني فتغمرني سعادة مجهولة، أقفز من السرير بخفة العصافير، أندهش من خفة جسمي، أندهش لصوت رذاذ الماء ينهمر من الدش، أغتسل بفرحة طفولية، أحس الخفقات تحت ضلوعي، أغني لنفسي في الحمام: «عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر، اسألوا الليل عن نجمي، متى نجمي يظهر.» علاقة خفية بين النجوم وخلجات القلب، لم تعد خفية بعد أن تجاوزت الستين من العمر، قرأت في علم الكون الجديد، التشابه في تكوين جسد النجم وجسد الإنسان.
أصبح لي لأول مرة في حياتي مكان خاص أغلق بابه علي، غرفة صغيرة تتسع لسريري «السفري» من الصاج، ومكتبة لها رفوف عليها كتبي، ومكتب صغير أجلس إليه والباب مغلق، أسجل في مفكرتي السرية ما أشاء، أشرب الشاي بالنعناع دون رقيب أتمدد فوق السرير وأشرد كما يحلو لي الشرود، أبحلق في الفراغ بالساعات دون أن يتهمني أحد بالجنون.
كانت غرفتي تطل على حديقة خلفية صغيرة، نخلة طويلة ممدودة نحو السماء، رأسها المنكوش بالزعف أو سباطات البلح يشبه رأسي، شعري الأسود الغزير يطيره الهواء، اشترى لي أبي مكتبا صغيرا من الخشب له ثلاثة أدراج ناحية اليمين، درجان ناحية اليسار، الدرج الأعلى له مفتاح واحد يغلق الأدراج كلها، فوق الحائط ثلاثة رفوف هي المكتبة، عليها كتب الطب، كشاكيل المحاضرات، ولوحة خشبية أرشق فيها الجدول والمواعيد، فوق الرف العلوي الكتب غير الطبية، روايات وقصص، فلسفة وتاريخ، وكتب أخرى أحصل عليها من المكتبات العامة.
من نافذتي الأمامية أطل على جزء من الشارع الصغير المتفرع من شارع ترعة الزمر بالعمرانية، الحي الهادئ في أول شارع الهرم بالجيزة، من نافذتي الخلفية أطل على منزل الجيران، يقف في الشرفة شاب ممتلئ الوجه أبيض البشرة يشبه الملك فاروق، يمسك في يده مرآة تعكس الضوء، يسلط علي دائرة الضوء المتحركة فأغلق الشيش من وراء شقوق الشيش أراه، يضع فوق عينيه منظارا مكبرا أو تلسكوب، أسد شقوق النافذة بورق الصحف القديمة.
فوق مكتبي الجمجمة، أجلس إلى المكتب لأذاكر دروسي، أقرأ، أكتب، أفتح النافذة الأمامية ، وجهي ناحية السماء، لا بد أن أرى الأفق حين أكتب، تشرد عيناي في المساحات الواسعة اللانهائية، لا حواجز أمامي في مجال الرؤية.
كانت الجمجمة تؤنسني، تذكرني بالموت فيشتد إحساسي بالحياة، تملؤني بالفرح لأنني أعيش رغم وجود الموت، إلى جوار الجمجمة مروحة كهربية صغيرة، تحدث صوتا خافتا حين تدور، كحفيف الهمس، تؤنسني تحمي وحدتي.
يكفي أن أغلق بابي لتغمرني السعادة، لم يكن أحد في البيت يقلقني في نومي أو يقظتي، أقرأ في سريري حتى الفجر، أحبس نفسي في غرفتي لأكتب يومين أو ثلاثة، أرتدي ملابسي وأخرج ، لم يعد أحد يسألني إلى أين أذهب أو متى أعود، الدراسة في كلية الطب تمتد طول النهار، والمظاهرات الوطنية قد تنفجر في أي وقت.
كنت أمشي في المظاهرات مع الطلبة، وأمشي كل يوم من بيتي في أول شارع الهرم إلى كلية الطب في شارع قصر العيني، وأعود مشيا أو أركب الترام إذا تأخر الوقت، أختار الأحذية بدون كعب عال، الأحذية الجلدية المتينة غير اللامعة، كل شيء لامع يبدو لي قبيحا، الشعر المدهون بالبريانتين، القماش الشاركسكن، الأحذية الجلاسيه، البشرة المدهونة بالكريم، الشوارب المنمقة المقصوصة بعناية، ربطة العنق المربوطة بدقة وإحكام، تجذبني الطبيعة التلقائية، وشيء من الفوضى الضرورية لإكمال أي نظام، شيء من القبح اللازم لأي جمال، لم أحب أدوات الزينة، لم ألون وجهي بالمساحيق، لم أصبع شفتي بالأحمر الصناعي، أرتدي الأقمشة الخشنة الرخيصة، تزيد خشونتها من نعومة بشرتي، لا أرتدي الفساتين المكشوفة الصدر، أصبحت أمتلك جسدي ولست في حاجة إلى عرضه للعيون، أرتدي أحيانا القمصان الرجالي، تزيد رجولتها من أنوثتي.
في أعماقي أدرك أنوثتي العارية الكامنة الزاهدة في الظهور، يشتد زهدها باشتداد تأججها، تتخفى عن الأعين تحت غلاف الجسد، لا يطل منها شيء إلا البريق الخاطف في العينين، وأصحو مبكرة قبل أن يصحو البيت، أتناول فطوري، فنجان الشاي الساخن جدا باللبن الحليب، قطعة من الجبن الأبيض وعسل النحل، نصف رغيف، أشرب الشاي بالنعناع في منتصف النهار أو بعد الظهر، بدأت أحب القهوة مع السهر أيام الامتحانات ، كنت أحب النوم، أستغرق فيه حتى الموت، ثم أصحو أبعث إلى الحياة من جديد.
أهوائي الصغيرة أعشقها، مثل الحملقة في السماء دون عمل أي شيء، الكون يبهرني، الكواكب، النجوم، يراودني السؤال دائما من أين جاء هذا الكون؟ متى بدأ وهل يمكن أن ينتهي؟!
خفق قلبي بالحب للمرة الثانية في حياتي داخل مدرج صغير بجوار المشرحة في كلية الطب، نهبط إليه تحت الأرض بضع درجات، يجتمع فيه أغماء الطلبة، يرتبون الإضرابات والمظاهرات الوطنية.
خريف عام 1951م كان مشحونا بالأحداث السياسية، منذ إلغاء معاهدة 1936م، في أكتوبر 1951م، لم تكف المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، حكومة الوفد برئاسة النحاس باشا تشجع المقاومة الشعبية، تسلح الفدائيين في القنال من وراء الستار.
سافر زميلي أحمد المنيسي مع كتائب الفدائيين ولم يعد، كنا نتبادل الحديث في معمل الكيمياء الحيوية (البيوكمستري)، رسالته الصغيرة بخط يده داخل كشكولي، كلماته المترددة الخجول: «ستكون صورتك أمامي وأنا أقاتل في سبيل الله.» أنفه من الجانب مرفوع يرسم في الجو قوسا حادا، في عينيه بريق قوي يتحدى الإنجليز، ونظرة خجولة لا ترتفع إلى عيني، كانت التقاليد صارمة تفصل بين الجنسين بسكين حاد، تحرم تبادل الكلمات أو النظرات رغم الاختلاط في الجامعة.
منذ الرسالة في الكشكول لم أر المنيسي إلا مرة واحدة قبل أن يموت، كان يحارب الإنجليز في القنال وسقط شهيدا، أقاموا له حفل تأبين، حفروا اسمه فوق حجر في مدخل كلية الطب، ثم سقط الحجر وسقط معه اسمه في التاريخ، وأسماء فدائيين آخرين ماتوا أو لم يموتوا، عادوا من الحرب يطاردهم البوليس المصري قبل الإنجليز، تحولوا بقدرة قادر من أبطال مدافعين عن الوطن إلى مجرمين في نظر الحكومة وإرهابيين في نظر الإنجليز.
أحمد حلمي كان من الفدائيين، التقيت به لأول مرة في المدرج الصغير بجوار المشرحة، كنت الطالبة الوحيدة التي تدعى إلى هذه الاجتماعات، ربما لأنني كنت أشارك في المظاهرات الوطنية وأكتب في مجلات الكلية، ورثت عن أبي أحلامه الطفولية، أكتب الشعر والأدب، أحمل السلاح، أضرب الأعداء وأحرر الوطن، لم أر نفسي في أحلامي مرتدية ثوب الزفاف أو طرحة الدخلة، لم يكن للزوج مكان في أحلامي، لا يمكن لاسم رجل أن يحذف اسمي أو يحتل جسدي.
هذه الحقيقة الهائلة تحت ضلوعي! أهي حقيقة أم وهم؟ كنت جالسة في المدرج الصغير في اجتماع تنظيم المظاهرة الكبيرة، تسربت الخفقة تحت الضلوع خافتة أول الأمر ثم تصاعدت، كتمتها بحقيبة كتبي، هذا القلب داخل صدري لم يخفق هذه الخفقة منذ الحب الأول وأنا في العاشرة من العمر، عشر سنوات مضت تحولت الطفلة إلى فتاة في العشرين، طالبة مجدة بكلية الطب تدرس التشريح والكيمياء الحيوية والفيزياء والفسيولوجيا والباثولوجي (علم الأمراض)، حفظت القرآن عن ظهر قلب وأجزاء من التوراة والإنجيل، قرأت كتبا كثيرة خارج مقررات الطب، في الفلسفة والدين والتاريخ منذ الفراعنة وقدماء المصريين حتى الاحتلال البريطاني والخديوي إسماعيل والملك فؤاد وفاروق والأحزاب السياسية، كنت أدخر أجر الترام أو الأتوبيس لأشتري كتابا جديدا أو رواية أدبية، زميلتي «سامية» أمدتني ببعض الكتب عن الماركسية، في مكتبة أبي كان هناك الجاحظ وابن رشد وابن خلدون وابن سينا والطبيب الرازي وأبو العلاء المعري، رسالة الغفران قرأتها قبل أن أقرأ الكوميديا الإلهية، ولد «دانتي» في إيطاليا عام 1265م، قرأ مثلي عن التراث المصري والمسيحي والإسلامي، لا بد أنه قرأ ابن عربي الصوفي كما قرأه أبي، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ألهذا جاءت صورة العالم الآخر في الكوميديا الإلهية كما جاءت في رسالة الغفران؟ كنت أسمع أبي يقول إن «دانتي» نقل عن أبي العلاء المعري، تمط سامية شفتيها بامتعاض: معري إيه يا نوال ... ده عره خالص ... عشان كده سموه معري ... إيش جابه لواحد عظيم زي ضانطي (دانتي)، تفخم حرف الدال وتقلب التاء إلى طاء، زميلتي «بطة» تقلب الراء إلى غين، وتلعن الجميع: المعغني (المعري) ودانتي وماغكس (ماركس) تسخر منه، تقول عنه مغكس (مرقس) حبيب زميلتنا صفية منذ المدرسة الثانوية.
لم تكن واحدة من الزميلات تمشي في المظاهرات، أو تحضر الاجتماعات السياسية في المدرج الصغير، تلوي بطة شفتها السفلية الحمراء: «سياسة» إيه يا نوال دي كلام فاغغ (فارغ)، تشيح صفية بوجهها بعيدا: «كفاية أخويا أسعد في السجن والسياسة خربت بيتنا.» تزم سامية شفتيها بازدراء: الطلبة دول كلهم عملاء للأحزاب السياسية المتنافسة على الحكم، ما فيش إخلاص في البلد إلا في الحزب الشيوعي.
كلمة الشيوعية ملبدة بالغموض والإشاعات، الحزب الشيوعي غير شرعي، يعمل تحت الأرض، زعيم الشيوعيين كان طالبا في السنة النهائية، اسمه إسماعيل شلبي، نحيف الجسم يرتدي بدلة سوداء، فوق عينيه نظارة سوداء تتدلى منها سلسلة ذهبية، قصير القامة يلقي خطبة طويلة عن الفقراء من العمال والفلاحين، يتململ الزملاء في مقاعدهم، ينظرون في ساعاتهم، ينهض زعيم الإخوان المسلمين «عمران عبد الموجود» بجسمه المربع داخل البدلة الضيقة، الصديري تتدلى منه سلسلة ساعة فضية من قبر الرسول بأرض الحجاز، يقف على المنصة مائلا بجذعه ناحية اليمين، واضعا يده اليسرى في جنبه، رافعا يده اليمنى، شفتاه الممتلئتان منفرجتان، يبتسم لقوة ما في السماء، يقف صامتا في هذا الوضع بضع ثوان، كأنما عدسة سحرية في الفضاء تلتقط له صورة، ثم يستدير ببطء ليواجه الحاضرين بصوت أشبه بالرعد، يبدأ خطبته بسم الله العلي العليم ويختمها بالصلاة على خاتم الأنبياء أجمعين، يتململ الزملاء في مقاعدهم، يتسلل بعضهم من الباب الخلفي، ينهض أحدهم معترضا: «يا أخ عمران كفاية إنشا عاوزين كلام مفيد»، ينهض فؤاد محيي الدين، كان من أطباء الامتياز أو النواب في قصر العيني، أطولهم قامة شديد النحافة كالعصا الخيزران، شديد الأناقة بدلته خطوطها مستقيمة مكوية، ياقة قميصه منشاة ناصعة البياض بلا ذرة تراب ولا عرق، ربطة عنقه زهية الألوان معقودة بإتقان في نقطة الوسط بالضبط تحت ذقنه يشدها بأطراف أصابعه الطويلة الرفيعة، يشد عنقه الطويلة بحركة الديك الرومي أو الطاووس، كبرياء ربما أو اختناق، فالمدرج تحت الأرض، النوافذ كلها مغلقة، الهواء شبه معدوم، دخان السجائر يتصاعد إلى السقف، جميعهم ينفخون الدخان من أنوفهم، كأنما هذا النفخ جزء من طقوس السياسة أو الرجولة، يخبط فؤاد محيي الدين المنصة بقبضة يده القوية، لا تقل قوة عن قبضة زعيم الإخوان، صوته لا يقل جهورية عن صوته، يردد كلمات مصطفى كامل باشا: «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا، نحن يا زملاء مصريون انتماؤنا إلى مصر مسلمين وأقباطا لا فرق، دستورنا هو القانون يصدر عن البرلمان وليس القرآن الدين لله والوطن للجميع يا إخوان!»
وينهض يوسف إدريس من مقعده، كان طالبا في السنة النهائية، يتجه نحو المنصة بخطوة واسعة سريعة، رأسه مائل إلى الأمام بقوة كأنما ينطح الهواء، متوسط الطول والنحافة، ليس أنيقا مثل فؤاد محيي الدين، بدلته واسعة قليلا، ربطة عنقه واسعة متهدلة حول عنقه، معوجة على جنب، ربما عقدها بسرعة دون أن ينظر في المرآة، لم يحرص أن تأتي العقدة بالضبط في نقطة الوسط مثل فؤاد محيي الدين، يقف على المنصة واضعا يده اليمنى في جيبه، يحرك يده اليسرى في الهواء، يحملق في الحاضرين بعينين لامعتين غائرتين تحت عظام الجبهة، يثبتهما بحدة في عيون الجالسين كأنما يبغي تنويمهم مغناطيسيا، صوته لا يقل ارتفاعا عن صوت فؤاد محيي الدين، يخلط الفصحى بالعامية: «يا أيها الزملاء، بلادنا تمر بمرحلة خطيرة علينا أن نكون جميعا فدائيين نحمل السلاح في القنال ونطرد الاستعمار، ويا زملاء، مش كفاية القضاء على الاستعمار، لا بد من ثورة شعبية تحقق العدالة بين الطبقات الكادحة والطبقات العليا.»
تسري الهمهمة بين الطلبة، يرفع أحدهم صوته: «ده كلام شيوعي.» يتصدى له طالب آخر: «اسكت يا أخ خلينا نسمع.» أسكت يعني إيه؟ لا يمكن أسكت! تنشب مشاجرة في ركن من أركان المدرج، ينهض زعيم الوفد «سليمان محمد» يسرع إلى المنصة، لا يتخلى يوسف إدريس عن مكانه، يقف الاثنان معا فوق المنصة، زعيم الوفد أقصر قامة من يوسف إدريس، أكثر نحافة، بدلته أكثر تهدلا واتساعا، كأنما أخذها من أبيه أو أخيه الأكبر، ربطة عنقه باهتة مفكوكة، ياقة قميصه مسودة قليلا، قبضة يده تضرب المنصة أقوى من الجميع، صوته أعلاهم فهو ينتمي إلى حزب الأغلبية وهو الحزب الحاكم أيضا بزعامة النحاس باشا، يهتف بعض الطلبة النحاس! النحاس! يشتد الهرج والمرج، يقفز زعيم الوفد فوق المنصة يضرب المنصة بقدمه القوية، حذاؤه له كعب سميك تبطنه قطعة حديد على شكل حدوة الحصان، صوته أعلى من صليل الخيل: يحيا النحاس زعيم الأمة.
في الصف الآخر بجوار الباب الخلفي كنت أجلس، لأخرج حينما أشاء دون أن يراني أحد، كانت عيونهم تتجه نحوي دائما، ربما لأنني الطالبة الوحيدة التي تحضر هذه الاجتماعات السياسية، الآلام الحادة في مؤخرة رأسي أو الصداع، ربما بسبب الاختناق «الإسفكسيا» بلغة الطب، الهواء تشبع بالدخان أو النيكوتين وثاني أكسيد الكربون وانعدام الأوكسجين، ارتفعت الحرارة ونسبة السموم في الدم، جالسة في مقعدي عاجزة عن النهوض لأخرج من الباب الخلفي، عقلي مشلول، توقف الدم النقي عن تغذية خلايا المخ يؤدي إلى ضمور العقل أو البلادة، هل غفوت أو سقطت في غيبوبة تشبه النعاس؟ ثم أفقت فجأة على صوت يقول: فين أحمد حلمي؟
انتفخت عيناي لسماع الاسم، تحركت الأعناق نحوه، كان جالسا في الصف الأخير مثلي، لكن في الناحية الأخرى قرب النافذة، تفصلني عنه مساحة طويلة من المقاعد الخالية، يرتدي القميص الأبيض المفتوح، لم يكن يتعجل الكلام، لا يلقي خطبة، لا يضرب المنصة بقبضة يده، لا يضغط على مخارج الألفاظ، مع ذلك صوته مملوء بالحماس، يدخل في الموضوع مباشرة دون مقدمات: «يا زملاء كتائب الفدائيين في القنال تلزمهم ذخيرة ومؤن وخطوط خلفية، لا وقت للصراعات الحزبية، نحن في حاجة إلى الوحدة الشعبية!»
وعاد إلى مقعده بالخطوة الهادئة نفسها التي سار بها إلى المنصة، التقت عيوننا لأول مرة عبر الصف الطويل الخالي، لم يكن يرتدي نظارة الشمس، عيناه رأيتهما في لحظة خاطفة، وميض من الضوء يشف من تحته ضوء أشد، نافذتان مفتوحتان إلى عمق البحر، داخل المحارة العميقة في جوف المحيط.
عدت إلى البيت سيرا على القدمين، كان يوما خريفيا من أيام نوفمبر عام 1951م، الشمس على وشك الغروب أو غربت منذ لحظات، وصلت كوبري عباس وألوان الغسق تنتشر في السماء، مهرجان من الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر والبرتقالي والذهبي والفضي كلها تتعانق وراء السحب، تتخذ أشكالا لها رءوس وأذرع مثل آلهة الهند ومصر القديمة، تتغير أشكالها مع توهج السماء بلون الدماء ثم تذوب الحمرة في لون برتقالي فاتح، لا يلبث أن يتلاشى في اللون الرمادي، وهذا أيضا يتلاشى بدوره، يسري الليل في الكون لا صوت، لا حركة، إلا نسمة باردة خفيفة تهز أوراق الشجر، مياه النيل تمشي فوق الأرض، إيقاع صوته يرن في أذني داخل الصمت، أصل إلى شارع الهرم وأمشي وأمشي بالخطوة نفسها غير السريعة، أمشي وأمشي كأنما إلى آخر الدنيا.
تأخرت في العودة إلى البيت، سخنت أمي لي العشاء، شوربة الدجاج والأرز المفلفل، التهمت الطعام بشهية الطفلة، أمي جلست أمامي ترمقني، تحوطني بعينيها كما كانت تفعل حين أعود من المدرسة، البريق في عينيها يشف ضوءا قويا كالنافذة المفتوحة إلى أعماقي، صوتها يخترق المتاريس التي أقمتها حول القلب تحت القفص الصدري: «فيه حاجة يا نوال حصلت النهاردة في الكلية؟»
السؤال عادي تسأله أمي كل يوم، أدفن وجهي في الصحن أتفادى النظر إليها، سحابة من الشك تطفو على ملامحها، تعاود السؤال: «فيه حاجة حصلت يا نوال؟» أمضغ الكلمات مع الأكل وأغمغم: «أبدا ما فيش حاجة حصلت.»
في غرفتي وحدي أغلق الباب، أفتح النافذة أحملق في السماء، هل لأمي قرون استشعار؟ أو هما عيناي مكشوفتان كالكتاب المفتوح؟ في المرآة أحملق في وجهي، عيناي لم يتغير فيهما شيء، المقلتان السوداوان يكسوهما البريق، أشد بريقا من المعتاد، هذه الفتاة داخل المرآة أهي التي كنت أراها كل يوم؟ يأتيني الصوت الهامس في أعماقي كالصمت: ماذا حدث يا نوال؟ لا شيء! لا شيء! مجرد لقاء صامت عبر الصف الطويل من المقاعد الخالية.
منذ هذا اللقاء الصامت في نوفمبر 1951م حتى الطلاق في يناير 1957م التقينا كثيرا، تكلمنا وعشنا تجربة الحب والزواج والإنجاب، إلا أن هذا اللقاء الصامت لأقل من نصف الثانية هو الباقي في ذاكرتي، هي اللحظة غير القابلة للضياع، أتذكرها من بين ملايين اللحظات الأخرى، أهم حدث وقع في حياتنا على مدى السنوات الست من اللقاء حتى الفراق، كم من عقبات مرت بنا، وكم افترقنا ثم التقينا، ولا شيء يدفعنا إلى اللقاء إلا هذه اللحظة الواحدة الصامتة عبر الصف الأخير من المقاعد الخالية في المدرج الصغير.
أهي رسالة أو شفرة سحرية تنتمي إلى عالم غير عالمنا تحدث في اللازمان واللامكان واللاكلام، لحظة خارج الكون فوق قوانين الطبيعة ومنطق العقل، مع ذلك تبدو أكثر اللحظات اتساقا مع الطبيعة والمنطق تفرض نفسها على العقل والذاكرة، على الزمان والمكان وحركة التاريخ، إلا فلماذا أذكرها هي بالذات دون السنوات الست، مع أنها لن تستغرق إلا نصف الثانية أو أقل؟
ما بين هذه اللحظة من نوفمبر 1951م حتى يناير 1957م تغيرت حياتي كما لم يحدث في أي فترة من العمر، في هذه السنين أيضا تغيرت الحياة في مصر وانقلب نظام الحكم.
كان أحمد حلمي أحد الفدائيين الذين شاركوا في حرب القنال ومهدوا الطريق لقلب نظام الحكم، الفدائيون كانوا وقود الثورة، جنودها المجهولون يقفون في الصفوف الأولى، صدورهم عارية يتلقون أول الضربات، يدفعون ثمن الثورة أو النصر لا يذكرهم أحد، الجنود المجهولون ليست لهم أسماء ولا وجوه إلا قطعة حجر تسقط مع الزمن.
في المدرج الصغير يدوي صوت الزعماء، يحثون الطلبة على الانضمام إلى كتائب الفدائيين، لكن أحدا من هؤلاء الزعماء لم ينضم، لم يسافر واحد منهم إلى الحرب في القنال، لم يصب أحد منهم بخدش، تخرجوا جميعا وصعدوا إلى مراكز الحكم، قد ألتقي بأحدهم صدفة في اجتماع أو مؤتمر، لا أحد منهم يذكر ما حدث قبل الثورة، لا يذكرون اسم واحد من الفدائيين.
قبل أن يسافر أحمد مع كتائب الفدائيين تقدم إلى أبي، كان أبي مع العمل الفدائي ضد الإنجليز بشرط ألا يكون أحد الفدائيين زوجا لابنته: «يعني إيه تسيب الكلية وتروح تحارب؟! الزواج مسئولية يا ابني.» يرمقني أبي بعينيه السوداوين، يرى خيبة أملي فيه، ألم يملأ طفولتي ببطولته في ثورة 19؟ يتراجع أبي، يستعيد ثقتي فيه: «طيب يا ابني، أنا موافق على الخطوبة، لكن عقد القران والزواج لن يكون إلا بعد أن تتخرج وتصبح طبيبا.»
التف الخاتم الذهبي حول إصبعي محفورا عليه اسم أحمد حلمي، أرادت أمي أن يلتف شيء آخر حول عنقي أو معصمي يسمونها الشبكة، رنت كلمة «الشبكة» في أذني مفزعة، أيمكن أن أكون مشبوكة للعريس؟ كلمة «عريس» سيئة السمعة منذ طفولتي تدربت منذ العاشرة من عمري على تطفيش العرسان، لم أحلم مرة واحدة بفستان الزفاف، لكن الحب شيء آخر، يحملني فوق جناح الريح، أطير في السماء، أحلق مثل نجمة الزهرة، إلى جواري نجم آخر يحلق معي، مصنوع من الضوء، بلا جسد إلا العينين، ولا شيء ماديا يلامسني إلا خاتم رفيع من الذهب محفور عليه اسمه.
صوت أمي يدوي في الصالة: «العريس لازم يقدم الشبكة ... الناس تقول علينا إيه يا نوال؟» - «الناس مين يا ماما؟» - «طنط هانم وطنط فهيمة وكل القرايب لازم حيقولوا فين الشبكة ... أقول لهم إيه يا نوال؟» - «قولي لهم ما فيش شبكة، قولي لهم نوال بنتي غير مؤمنة بالشبكة.»
يشحب وجه أمي كأنما أعلن عدم إيماني بربنا.
كانت قيمة العروس تتحدد بقيمة الشبكة، وقيمة العريس لا يحددها شيء إلا الشبكة، في عائلة أمي وأبي وكل العائلات، في الكلية أيضا شهقت الزميلات: خطوبة من غير شبكة وكمان لواحد من بتوع حرب العصابات ... إنت مجنونة يا نوال!
في غرفة الطالبات كنت أعطيهن دروسا في الحب، يشتعل البريق في عيني، أحلق بخيالي في السماء السابعة: «يا جماعة إنتو مش فاهمين الحب، لحظة الحب أهم من مليون شبكة، أهم من مال قارون.» تكركر بطة بضحكتها المرحة مثل كركرة الماء داخل قلة من الفخار عنقها ضيق: «أنا باموت في الحب بشرط إنه يكون أستاذ دكتور وعنده خمسة عين مش فدائي ما حيلتوش حاجة!» تعود صفية إلى قصة حبها القديمة مع الدكتور مرقس، كان طبيبا ناجحا عنده ثلاثة عيون فقط (عيادة وعربية وعزبة) إلا أنه قبطي وهي مسلمة، وهو مستعد للتخلي عن المسيح من أجل الحب، لكن أمه ترفض، وهو لا يمكن أن يتخلى عن أمه من أجل صفية.
سامية أيضا أصابتها عدوى الحب، كان لها زميل في كلية الصيدلة اسمه رفاعة، شيوعي مثلها «طبعا لازم يكون شيوعي يا أخواتي لا يمكن إني أحب راجل برجوازي!» تكركر بطة بضحكتها الممطوطة: «أنا باموت في الغجل (الرجل) البغجوزاي (البرجوازي).» وتنفجر البنات بالضحك إلا سامية تزم شفتيها الرفيعتين بامتعاض: «الرجل البرجوازي لا يمكن يحب المرأة حب حقيقي، الرجل البرجوازي (وتنفجر) لا يعرف حاجة غير مصلحته الخاصة زي الاستعمار بالضبط!» يتصاعد الغضب إلى وجه صفية بلون الدم الأحمر: «يعني الراجل الشيوعي بس هو اللي بيعرف الحب يا سامية؟! قطيعة تقطع الشيوعية واللي جابوها!» وينشب الشجار بين سامية وصفية لا ينتهي إلا بصوت بطة الحانق: «يلعن دين البغجوازية على دين الشيوعية ربنا ياخد الاتنين.»
مصر في نهاية عام 1951م تنوء تحت نظام ملكي فاسد، وأحزاب تتنازع السلطة، واستعمار بريطاني حول مصر إلى مزرعة قطن أهلها عبيد، حزب الأغلبية (الوفد) يتأرجح بين مطالب الشعب ومطالب الملك والإنجليز، أحزاب الأقلية تتآمر للقفز إلى الحكم، تارة مع الملك، تارة مع الإنجليز، مصر حبلى بالثورة، الشباب طلاب الجامعات هم وقودها ومخاضها.
فوق الدكة الخشبية بجوار ملعب التنس في الكلية كنا نجلس أنا وأحمد، ينتظرني حتى أنتهي من مباراة التنس، أو أنتظره حتى يراجع العدد الجديد من مجلة شعلة التحرير، حديثنا يتجاوز المجال المألوف بين الجنسين، يخاطبني كما لو كنت زميلا له.
تمر الساعة وراء الساعة، نرشف الشاي بالنعناع أو الكازوزة المثلجة، محور الأرض يميل بسرعة نحو المغرب ومعه قرص الشمس، الليل يهبط فجأة وكان أذان الظهر ينطلق من الجامع منذ لحظة.
بدايات الشتاء كانت باردة نوعا، تغلف القاهرة شبورة بلون الضباب، رذاذ المطر خفيف، أنا وأحمد جالسان فوق الدكة الخشبية، وهو متكئ بكوعه على المسند، يدخن سيجارة «البلمونت»، عيناه من وراء النظارة شاردتان في الأفق، صوت المؤذن من بعيد ينادي، حي على الصلاة ... حي على الفلاح، يرتفع الصوت من المئذنة إلى السماء، يتعلق كذرات البخار في جسد الشبورة، يرتل المؤذن آيات الله، الدعاء لله الواحد الأحد لا شريك له، يشق الدعاء عقلي الشارد، صوته يعلو من نغمة إلى نغمة حتى تبدو السماء ملبدة بضباب الشك.
أستمع إليه يتحدث عن الكفاح المسلح في القنال، سوف يسافر إلى التل الكبير مع الفدائيين، يتكلم بصوته الهادئ، ينفخ الدخان مع أنفاسه البطيئة كالأسد النائم، يده كبيرة مثل يد أبي، يمدها فوق الدكة الخشبية ويمسك يدي، أغمض يدي كالنائمة في حلم، أراه حاملا السلاح يضرب الإنجليز ويحرر الوطن، النساء في القرية يطلقن الزغاريد، الرجال يحملونه فوق الأعناق ثم أسمع صوت الانفجار، طلقات رصاص، يسقط إلى الأرض ينزف، شريط الدم أراه يلمع فوق الأسفلت، أهب من النوم فأراه جالسا إلى جواري، سلسلة المفاتيح في يده يمدها حتى جذع الشجرة يحفر بسن المفتاح رسما له شكل القلب، ينقش اسمي واسمه داخل القلب، يحفره في جذع شجرة الكافور كأنما يحفره في التاريخ.
عاشت الشجرة ثلاثة وعشرين عاما بالحروف المحفورة عليها، كنت أمر بها أحيانا بعد الزواج وبعد الطلاق، كانت الحروف باقية تتعانق داخل الشجرة رغم الانفصال، ثم جاء شباب آخرون حفروا أسماءهم وطمست السنون أسماءنا، الشجرة كلها راحت في العدم، في عام 1974م جاء بلدوزر واقتلعها، أقاموا مكانها مبنى من الأسمنت.
قبل أن يسافر أحمد مع الفدائيين فكرت: هل أسافر معه؟ في طفولتي كنت أحمل السلاح في الحلم وأحرر الوطن، لكن الكفاح المسلح كان للرجال فحسب، لم يكن للمرأة أن تنال شرف تحرير الوطن، إن تطوعت في جبهة القتال لا تعمل إلا ممرضة أو مرفهة عن المقاتلين إن ماتت فداء الوطن لا تحمل لقب فدائية، مجدها الوحيد في التمريض أو في الترفيه، بدت المهنتان مهينتين لفتاة تريد أن تحمل السلاح لا جردل البول أو بدلة الرقص.
كنت أحب الوطن، يمكن أن أضحي بحياتي من أجل الوطن، لكن كرامتي أغلى من حياتي، لا أضحي بها من أجل شيء وإن كان الوطن، هل أهبط بنفسي من أجل الوطن لأرقص للمقاتلين أو أحمل بولهم وبرازهم؟
إلا أن جبهة القتال كانت تجذبني، كلمات مثل: التضحية، الوطن، الفداء، الخطر، الموت، ترن هذه الكلمات في أذني ساحرة، اللذة العارمة في كشف المجهول، الزهو بنفسي وارتداء زي البطولة، الثقة بالنفس إلى حد عدم تصور الموت، كنت أتصور موت الآخرين لكن موتي أنا مستحيل، أهي حماقة طبيعية في تلك المرحلة؟ لكني حتى اليوم وبعد أن تجاوزت الستين لا أتصور نفسي ميتة، كم حاولت وتخيلت دون جدوى، كم تمددت فوق الفراش لأموت دون أن أموت.
رياح الشتاء جاءت من ناحية الشمال تحمل البرد والصقيع، جو من الكآبة يخيم على مدينة القاهرة، كلية الطب صامتة كأنما مات كل من فيها، منذ سافر أحمد إلى القتال أصبح الكون مهجورا، شبورة سوداء تحجب الشمس، والهواء ثقيل تشبع بالحزن والهزيمة، كنت أصحو من النوم على صوتي يهتف في الحلم: يسقط الإنجليز! يسقط الدكتور دري! كان الدكتور «دري» هو الأستاذ الإنجليزي الوحيد الباقي في كلية الطب، رحل الآخرون مع تصاعد الحركة الوطنية، يشبه النمر المتوثب داخل معطفه الأبيض القصير حتى الركبتين، يحمل قلما أسود ضخما يطل من جيبه كالمسدس، يصوبه نحوي حين يكلمني، وفي الحلم يطلق علي الرصاص، أهب من النوم صارخة: يسقط الإنجليز، يسقط الدكتور دري! منذ تخرجت في ديسمبر 1954م لم أره، مضت أربعون سنة منذ رأيته آخر مرة، لكن وجهه باق في ذاكرتي، بشرته بيضاء حمراء مشربة بدمائنا، مجدولة بعناقيد الاستعمار، قصير نحيف الجسم، فكاه عريضان، عيناه تخرقان زجاج نظارته الطبية، يتمشى فوق المنصة منتفخا بالكبرياء، ذراعاه معقودتان خلف ظهره، يتلو المحاضرات بصوت حاد مثل طلقات المسدس، لا يكف عن ترديد كلمة: هواي؟ بعد كل جملة يرشقنا بالسؤال: هواي؟
ذلك اليوم استدار الدكتور دري ليكتب كلمة «هواي» على السبورة
Why
أصبح ظهره ناحية الطلبة، رءوسهم منكفئة فوق الكشاكيل يكتبون، الصمت مطبق في المدرج الكبير والأنفاس مكتومة، فجأة انطلق صوت من وسط الطلبة يهتف بلغة إنجليزية ركيكة:
Why you English here in country? «لماذا أنتم في بلادنا يا إنجليز؟» ثم اختفى الصوت في الصمت كفص الملح يذوب في مياه المحيط.
تجمد الدكتور «دري» في مكانه قبل أن يستدير ثم استدار ليواجه الطلبة، عيناه زرقاوان تحملقان، مئات الوجوه مصفوفة على شكل أنصاف دوائر تصعد حتى السقف، عيناه ككشافين يدوران فوق الوجوه، كما كان يدور فوق وجوهنا كشاف ضابطة الداخلية ونحن نائمات في العنبر، ثم انطلق صوته:
if you are a man stand up «إذا كنت رجلا انهض واقفا!»
لا أحد يقف، لا صوت يسمع، مات المدرج بكل من فيه حتى الدكتور دري، لم أسمع إلا صلصلة جرس الترام في شارع قصر العيني، دوت في الصمت كصفارة وابور الطحين في منوف، أو صرخات متقطعة لطفلة تشهق، ثم بدأت الحياة تعود إلى المدرج، أول من تحرك كان الدكتور دري، أخرج من جيب معطفه الأبيض منديلا حريرا كبيرا مسح جبهته وأنفه الأحمر، مسح يديه من الطباشير والعرق، طوى المنديل بحركة مسرحية بطيئة ، أربع طيات، طوى المنديل ... أعاده إلى جيبه، انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة، مد يده وأغلق كتابه المفتوح أمامه، وضعه تحت إبطه، سار نحو الباب الأمامي بخطوة بطيئة، فتحه بهدوء ثم استدار، قبل أن يخرج حملق في الوجوه ثم صاح:
We are here because you are cowards «نحن هنا لأنكم جبناء» كلمة «كواردز» بالإنجليزي يتضاعف مذاقها المر حين تنقل إلى اللغة العربية.
انطلقت الكلمة من فمه مثل القذيفة بيضاء بلون البصاق، رأيتها تطير من فمه بحجم حبة الفول، حلقت في الجو وانقسمت إلى مئات الذرات الصغيرة، بعدد الطلبة في المدرج، فوق وجه كل واحد منهم التصقت البصقة، لم يرفع أحدهم يده ليعترض أو يمسحها عن وجهه، في الليل وأنا نائمة أنتفض بالغضب، أكثر ما يغضبني أن البصقة فوق وجهي أيضا، يدي لم ترتفع لتمسحها، ملتصقة بوجهي لا تزول وإن اغتسلت بالماء والصابون. •••
جاءني خبر استشهاد أحمد المنيسي، صفرت أذناي وأنا أسمع الخبر، الصغير الحاد الممطوط كصفارة وابور الطحين في منوف، سمعت الجزء الأول من الاسم «أحمد» ثم كفت أذناي عن السماع.
في فناء كلية الطب أقاموا له الصوان فوق الأعمدة الخشبية يشبه خيمة السيرك في منوف، القماش السميك الأحمر يرفعونه في الأعياد والمآتم، يرصون الكراسي الصفراء من الخيزران، يمتلئ الصوان بالرجال، يشربون القهوة السوداء في فناجين صغيرة بيضاء، أو الشربات الأحمر اللون في أكواب طويلة من الزجاج، تهتز رءوسهم مع الترتيل الممطوط للقرآن، أو طرقعات الصاجات في الرقص والغناء.
كان هو حفل تأبين أحمد المنيسي، امتلأ الصوان بطلبة الطب والكليات الأخرى، جلس الأساتذة في الصفوف الأولى يتوسطهم العميد، زعماء الطلبة يروحون ويجيئون داخل بدل رصاصية اللون وربطة العنق سوداء، فؤاد محيي الدين يغطي عينيه بنظارة سوداء، يزم شفتيه علامة الحزن بشدة أكثر من اللازم، إبراهيم الشربيني من خلفه يمشي أقل قامة، أقل أناقة وأكثر حزنا، يوسف إدريس من حول عنقه ربطة سوداء غير معقودة بإحكام، يصيح بصوت غاضب في عمران عبد الموجود زعيم الإخوان: «يعني المنيسي شهيدكم إنتم بس يا إخوان يا مسلمين ولا شهيد مصر كلها؟!» - «المنيسي شهيدنا كلنا يا أخ يوسف لكن البرنامج مليان وفيه حفلات تأبين كثيرة جاية في السكة تقدر تتكلم فيها.»
تحول المنيسي إلى كلمة من أربعة حروف «شهيد»، ترن في أذني ثم تتوقف في حلقي، يداي باردتان كالثلج، ترتعدان فوق حجري وأنا جالسة في الصوان، أمسك يدي اليسرى باليمنى، أدفئ الواحدة في الأخرى، هواء بارد يتسرب من بين الفتحات في القماش.
يهتز الصوان مع حركة الهواء، زعيم الإخوان فوق المنصة يلقي خطبة طويلة، لم أسمع منها شيئا، صورة المنيسي تعود، واقف إلى جواري في معمل البيوكمستري، أصابعه الطويلة القوية حول أنبوبة الاختبار، تعلوها رعشة خفيفة، صوته يهمس مترددا: «أستودعك الله.» عيناه رموشها غزيرة مملوءتان بالبريق، طويل القامة، أطول قامة من أحمد حلمي وأكثر وسامة؛ فلماذا لم يخفق له القلب كما خفق للآخر؟!
كانت لقلبي مقاييس خاصة، لا يعترف بالقيم الموروثة ولا الرجولة المألوفة، ولا الوسامة ولا شيء، إلا ذلك المجهول المتخفي داخل عناصر الدم أو الكيمياء، داخل اللاوعي أو الوعي الطفولي، حلم الطفلة في السابعة من العمر، فتى الأحلام تنسجه الأيام من حكايات الأم والأب والجدة، ذلك البطل يحمل السلاح يحرر الوطن يشبه أبي في طفولتي، له ملامح سعد زغلول باشا إلا أن البريق في عينيه أشد، أنفه أكثر شموخا، إرادته لا تلين والنظرة في عينيه لا تنكسر.
أحمد المنيسي كانت له نظرة رغم البريق منكسرة، لا ترتفع عيناه إلى عيني، مثل زعيم الإخوان المسلمين «عمران عبد الموجود» وكل الطلبة في هذه الجماعة، لم تكن عيونهم تنظر مباشرة في العيون الأخرى، فهي دائما مطرقة إلى السماء، لا ترى إلا الله أو الفراغ.
الصوان من حولي يغرق في الضباب، كل شيء يبدو غير حقيقي حتى الموت، الوجوه تتراءى لي كما في النوم، الأصوات تختلط بعضها ببعض، الخطب المدوية في الميكروفون مثل الانفجارات في معسكر التدريب بجوار الكلية، صراخ النسوة وراء الميت الخارج من قصر العيني مثل الزغاريد في حفلات الزفاف، وأقف على صوت ينادي اسمي: «الأخت نوال السعداوي» كلمة الأخت ترن في أذني غريبة، لم أكن واحدة من الأخوات المسلمات، لم أنضم في حياتي إلى حزب من الأحزاب، تكرر النداء «الزميلة نوال» رن في أذني «الشهيدة نوال»، نهضت من مقعدي كما ينهضون من الموت، سرت فوق ممر طويل مفروش بالسجاد الأحمر، الحمرة قانية بلون الدم فوق الأسفلت، أمشي بحذر كأنما أمشي فوق الدم، أحسه تحت قدمي ينبض وينزلق، أمسك بعمود السلم الصاعد إلى المنصة، بضع درجات خشبية تهتز تحت جسدي، أقف وراء الميكروفون، أثبت قدمي في الأرض، أثبت عيني في آلاف العيون الشاخصة نحوي، يدوي الصوت الجهوري: «والآن أيها الإخوة كلمة الزميلة نوال السعداوي.»
أحملق في الوجوه لا أعرف ماذا أقول، لم أحضر في حياتي حفل تأبين، كلمة «حفل» تبدو لي مناقضة للموت، والمنيسي لم يمت في خيالي، حروفه لم يجف حبرها داخل كشكولي، صورته محفورة لا تختفي عن عيني، ماذا أقول لهؤلاء الرجال الجالسين يرمقونني بعيون محدبة ومقعرة، أجل! مات المنيسي أيها السادة، استشهد في سبيل الله والوطن، وفي سبيل ماذا نعيش نحن أيها السادة؟! لنلقي الخطب من فوق المنابر؟! لنقيم حفلات التأبين؟! لكن التأبين يعني الموت والمنيسي لم يمت، إنه حاضر أمامي في هذه اللحظة، أكثر حضورا من كل الحاضرين في الصوان، الذين يمجدون الشهداء دون أن يموتوا مثلهم، أليس الصمت أبلغ من الكلام وما جدوى أن نكون هنا؟! لماذا لا نكون هناك في جبهة القتال لتشرب الأرض دماءنا كما شربت دماء الشهداء؟!
كان أحمد حلمي هناك في الجبهة، والآخرون من الفدائيين، انقطعت أخبارهم عنا، لم نعرف هل ماتوا؟ هل أخذهم الإنجليز أسرى؟ هل قبضت عليهم الحكومة وأخفتهم في سراديب السجون؟! الأجانب أو الحكومة المصرية كلاهما تاريخ أسود، يتعاونان في الباطن، وفي الظاهر يتبادلان العداء، مصالحهما تتلاقى أو تتعارض إلا أن عداءهما للشعب المصري واحد، أيمكن أن يذهب دم المنيسي وغيره من الشهداء هدرا؟!
أنهيت كلمتي وهبطت إلى مقعدي، صعد إلى المنصة بعدي واحد من زعماء الجامعة في كلية الحقوق، اسمه «حسن دوح»، كان يحمل لقب خطيب الجامعة، وقف وراء الميكروفون مطرقا صامتا، آلاف العيون مرفوعة نحوه، الأنفاس مكتومة، الصمت يدوي في الصوان كالصفير، انتظرنا ماذا يقول، كان مشهورا بالخطب السياسية النارية، لم يقل حسن دوح شيئا، عبارة واحدة قالها ثم ترك المنصة: «أيها الإخوان ليس عندي ما أقول بعد سماعي كلمة الزميلة نوال.»
في نهاية الحفل تجمع من حولي بعض الزملاء: «كلمتك كانت رائعة! الكلمة اللي خرجت من القلب ودخلت القلوب، أقصر كلمة وأحسن كلمة، خطيب الجامعة ما عرفش يقول حاجة بعدها!»
عيونهم ترمقني بإعجاب، تحملني عيونهم فوق الأعناق، كأنما أصبحت سعد زغلول باشا، والشهيد المنيسي هل نسوه؟! أينتهي الموتى بانتهاء حفلات التأبين؟ سرت من الصوان إلى محطة الأتوبيس أحمل حقيبة كتبي.
هذه الحقيبة حملها إلي المنيسي منذ أسابيع، رغم الحريق في المعمل صعد إليه وعاد يحملها إلي، فوق جلدها أرى بصمات أصابعه، غائرة في الجلد مثل الجرح، سوادها داكن بلون الموت، بلون تأنيب الضمير، لماذا لم يخفق له قلبي؟ هل ذهب إلى الحرب يأسا من الحب؟ الكون من حولي يبدو كالحلم، الناس تمشي في الشارع كالخيالات، الأتوبيس يأتي ويذهب إلى العدم، الطلبة يهرولون إلى الكلية كالأشباح، ينظرون في ساعاتهم بعيون جاحظة، يقبضون على حقائبهم تحت إبطهم، يقبضون على أرواحهم داخل أجسادهم، يقبضون على عقولهم داخل جماجمهم، يتدافعون من الأبواب، يدوسون على أقدام بعضهم بعضا، يتنافسون على جثث المشرحة، على المقاعد الأمامية في المدرج، الدرجات العليا في الامتحانات، يسرعون من الكلية إلى البيت ومن البيت إلى الكلية، يتخرجون أطباء، يفتحون العيادات، يشترون السيارات، العمارات، يتزوجون وينجبون ويموتون كما مات المنيسي، إلا أن المنيسي مثل الشهداء لا يموت، يعيش هناك في الدار الآخرة مع الأنبياء.
كنت واقفة عند محطة الأتوبيس أحمل حقيبتي، جاء الأتوبيس مزدحما لا محل لقدم، وقفت أكثر من ساعة أنتظر، العربات كلها محشورة بالبشر، أهو يوم القيامة حين يقوم الموتى أفواجا؟ في طفولتي لم أتصور الموتى ينهضون من القبر، أيمكن أن يكون هناك حياة أخرى غير هذه الدنيا؟! مات المنيسي وهو في العشرين من العمر، مر سريعا عبر العالم مثل طيف أو خيال، أتكون الحياة حلما قصيرا نصحو منه بعد الموت؟ بدت الحياة الدنيا خيالا والحياة الأخرى هي الحقيقة، كان عقلي يتلاشى مع المنيسي مرتين، مرة في الدنيا ومرة أخرى بعد الموت.
كان يوما طويلا حزينا، خرجت في الصباح دون فطور، أقبل الليل وأنا واقفة عند المحطة، أسند ظهري إلى العمود المرشوق في الأرض، أفقت على صوت ينادي اسمي: زميلة نوال. تعرفت على وجهه، عمران عبد الموجود زعيم الإخوان واقف أمامي بلحمه ودمه، بجسمه المربع داخل البدلة الضيقة، الصديري تتدلى منه سلسلة الساعة الفضية، يقف على الرصيف مائلا بجذعه ناحية اليمين، واضعا يده اليسرى في جنبه، يده اليمنى ممدودة نحوي تقبض على ورقة صغيرة مطوية، شفتاه الممتلئتان منفرجتان، يبتسم لقوة ما في السماء، وقف صامتا في هذا الوضع بضع ثوان دون أن ينظر إلي، عدسة سحرية في الفضاء تلتقط له صورة، ثم ناولني الورقة وهو يقول بصوت مرتبك قليلا: «الرسالة دي لك يا زميلة نوال.»
صعدت إلى الأتوبيس وسط الزحام، شققت طريقي بين الأجساد المنهوكة في العمل طول اليوم، العرق يفوح من الملابس القديمة المبقعة بالزيت، يقفون الجسد ملاصق للجسد، معلقون مثل شرائح السردين في العمود الحديدي في السقف، احتل جسدي بين أجسادهم مكانه، رغم الزحام لا أحد منهم يلتصق بي، وإن مال الأتوبيس فجأة يحرصون على عدم ملامستي، عيونهم مطرقة إلى الأرض، وجوههم شاحبة ممصوصة مثل أقاربي الفلاحين في كفر طحلة، إلا أنهم يحترمون المرأة أكثر من الأفندية أو البهوات ذوي البدل الإفرنجية، أهو احترام حقيقي أم مجرد خوف دفين نابع من الفقر؟!
هبطت في المحطة أول شارع الهرم، اجتزت الكوبري الصغير فوق ترعة الزمر، شارع الترعة مظلم بلا مصابيح، حي العمرانية يرقد في أول الليل كأنما منتصف الليل، لا أسمع إلا وقع قدمي على الأرض، سؤال يدور في عقلي، هل أفتح الحقيبة وأقرأ الرسالة المطوية؟ في أعماقي شيء يزهو، الأنوثة الكامنة منذ الطفولة كالعملاق النائم، كالمارد الراقد في سبات عميق، يصحو فجأة ويطل برأسه يفحص وجوه الرجال، يبحث عن وجه معين مصنوع من مادة الخيال، لا يشبه أحدا من الطلبة وخاصة ذلك الزعيم الإخواني، يده صغيرة، قبضة مملوءة باللحم، جسمه سمين بلا عظام مكبوس داخل البدلة، عيناه تنظران في الفراغ مملوءتين بالفراغ، ماذا كتب لي في الرسالة؟
كان أبي جالسا في الصالة وأمي تحضر لي العشاء، حكيت له عن حفل التأبين، سمعت صوت أمي من المطبخ تقول: مسكين المنيسي ضيع حياته على الفاضي، صمت أبي طويلا ثم قال: أبدا يا زينب مش على الفاضي، الإنجليز مش خايفين إلا من الفدائيين والنحاس باشا شرابة خرج!
أردت أن أسأل أبي: هل يبقى المنيسي خالدا في التاريخ؟ كلمة الخلود في عقلي مقدسة مثل كلمة الله، الوطن، التضحية، الفداء، التاريخ. الكلمات المقدسة أحفظها عن ظهر قلب، تروح وتجيء في رأسي وأنا جالسة إلى المائدة.
ثم وضعت أمي أمامي صحن مرق الدجاج ساخنا يتصاعد منه البخار، والنكهة تسربت من البخار إلى الصدر والرئتين، والقلب والمعدة ثم صعدت إلى خلايا المخ، حيث كانت الكلمات المقدسة لا تزال تروح وتجيء محدثة رنينها البراق، الذي بدأ يجف ويشحب إلى جوار نكهة مرق الدجاج.
بعد تناول الطعام ثقلت جفوني بالنوم، ثم تذكرت الرسالة المطوية في اللحظة الساقطة بين اليقظة والغيبوبة، في هذه اللحظة تصحو الذاكرة لا أعرف كيف، عادت إلي أحداث اليوم كشريط سينما يعود إلى الوراء، رأيت عمران عبد الموجود زعيم الإخوان واقفا أمامي، يده اليمنى ممدودة نحوي تقبض على ورقة صغيرة مطوية، بأصابع نصف نائمة وأنا في السرير، نصف صفحة من ورق الكشاكيل المسطر: «قبل أن أسمعك في حفل تأبين الشهيد المنيسي كنت أؤمن بالله والوطن ونفسي، لكن الآن أصبحت أومن بك قبل نفسي.»
بدت الرسالة بريئة لوجه الله والوطن، أعطيتها لأبي ولأمي، كنت أزهو بها، ها هو مخلوق يؤمن بي بعد الله والوطن مباشرة، كأنما صعدت إلى درجة واحدة عالية، في مستوى الله والوطن أو بعدهما بدرجة واحدة أو نصف درجة، مع ذلك لم يخفق قلبي له خفقة واحدة، كنت ألتقي به أحيانا في فناء الكلية، يصافحني بتلك اليد الصغيرة القبضة الطرية، يكلمني وعيناه شاخصتان إلى الفراغ، تخرج قبلي بعامين أو ثلاثة، أصبح طبيبا لأمراض النساء، بعد انفصالي عن أحمد تقدم لي، لم أتصوره زوجا، لم أتصور يده الصغيرة القبضة الطرية تلامسني، وإن تصورتها تسري في جسدي قشعريرة، كأنما هي يد حيوان مائي ذو ذنب قرموط من السمك، ثم مضت عشرون سنة قبل أن أراه على شاشة التليفزيون، أصبح في عهد السادات داعية إسلاميا كبيرا، سافر إلى أرض الحجاز أو السعودية وعاد محملا بالذهب والفضة، اشترى قصرا كبيرا في مصر الجديدة، وجامعا في مصر القديمة، ثم مضت عشرون سنة أخرى قبل أن ألتقي به في زيورخ في المؤتمر الدولي للأديان، قدم بحثا طويلا عن الإسلام والديمقراطية، بعد أن ألقيت كلمتي جاء إلي وصافحني، يده لم تتغير منذ أربعين عاما، قبضة صغيرة طرية ندية بالعرق، وجهه تغير كثيرا، أصبح شاحبا متهدل العضلات، شعر رأسه سقط، نما الشعر فوق وجهه وذقنه، طالت لحيته حتى لامست صدره، يقف على المنصة بالطريقة نفسها منذ كان طالبا بالكلية، يميل بجذعه ناحية اليمين، يده اليسرى في جيبه، يده اليمنى تتحرك في الهواء، يتوقف صامتا عن الكلام لحظة أو بضع لحظات، شاخصا في الفراغ كأنما عدسة سحرية في السماء تلتقط له صورة.
عاد أحمد من القنال إلى الكلية، عاد شخصا آخر يخفي عينيه وراء نظارة سوداء داكنة، وجهه أصبح طويلا شاحبا، متهدل الملامح منكسرا كالأسد الجريح، كانت هزيمة مفجعة له ولكل الفدائيين، الشتاء كان باردا مليئا بالغيوم، ريح باردة قادمة من الشمال تضرب رءوس الأشجار، النسوة بالجلاليب السود يولولن وراء الميت، ملاعب الكلية مهجورة والبوفيه مغلق، عم محمود مريض في بيته، على الدكة الخشبية في ملعب التنس نجلس، الحزن يغلف الكون، سحابة سوداء تحجب الشمس، يصمت أحمد طويلا شاردا، يدوي الصمت في أذني مثل صفارة وابور الطحين في منوف، جرس الترام يصلصل في شارع قصر العيني مثل صراخ النسوة، صوت الأذان من فوق مئذنة الجامع يتصاعد داخل السحب، قطرات المطر تبلل الدكة الخشبية، أتحسسها بيدي أمسحها بمنديلي الأبيض، حول إصبعي يلتف خاتم الخطوبة من الذهب، محفورا عليه اسم أحمد حلمي، يشع ضوءا رفيعا نحيلا في كون مظلم، ناعم حول إصبعي كالخيط الحريري، له كثافة مادية في عالم من الخيال، رفيع كالشعرة له متانة الذهب يربطنا معا حتى الموت.
الهزيمة كالموت، لم يكن ينسى الهزيمة، الدم المراق على أرض القنال، صوته يسري في أذني رغم مرور أكثر من أربعين عاما: «تصوري يا نوال إحنا الفدائيين اللي كنا بنحارب الإنجليز في القنال أصبحنا مطاردين من البوليس مثل المجرمين!»
هذه العبارة محفورة في ذاكرتي، سمعتها لأول مرة في حياتي من أحمد حلمي في أول الشتاء بعد حريق القاهرة في 26 يناير 1952م، وسمعتها للمرة الثانية في نهاية عام 1956م بعد الاعتداء الثلاثي على مصر وتطوع الأطباء في جبهة القتال من بورسعيد إلى الإسماعيلية والسويس، وسمعتها للمرة الثالثة بعد حرب 6 أكتوبر 1973م، في كل أزمة يمر بها الوطن ويهب الشباب للتطوع والفداء تحدث المأساة؛ يتحول الفدائيون من أبطال وطنيين إلى مطاردين من البوليس، يدخلون السجون أو يهربون أو يهاجرون، إلا من يستسلم منهم ويدخل حظيرة الحكومة أو السلطة الحاكمة كما تدخل الزوجة إلى بيت الطاعة. •••
في هذا المنفى البعيد وراء البحر والمحيط، وعلى بعد أكثر من أربعين عاما، يعود إلي الصوت يحكي قصة الشاب الفدائي في نهاية 1951م وبداية 1952م قبل حريق القاهرة، صوت أحمد المنيسي وغيره من الشهداء، الجنود المجهولون في التاريخ، وهم أجدر بأن يعرفهم الناس، أن يحفظوا أسماءهم ويعرفوا قصصهم أكثر من قصص الملوك والحكام أو رؤساء الدول والحكومات، الذين يتربعون على العرش في الدنيا والتاريخ، في القصور فوق الأرض وفي جنة الخلد، الفدائيون يموتون وتضيع أسماؤهم وحكاياتهم، ألهذا السبب كرهت حصص التاريخ في المدرسة؟! فضلت تشريح الصراصير والضفادع على قراءة حياة الملوك وغزواتهم.
من هذه المسافة البعيدة عن الوطن، يعود إلي صوته رغم انقضاء أربعة وأربعين عاما، يحكي الحكاية كما حدثت على أرض القنال، حيث ترك كلية الطب ولقب «دكتور» ليحمل لقب «فدائي»:
بعد إلغاء المعاهدة في أكتوبر 1951م أصبح الكفاح المسلح واجبا وطنيا، قرأت في مجلة روز اليوسف مقالات لإحسان عبد القدوس يدعو الشباب للتطوع للعمل الفدائي لطرد الإنجليز من قناة السويس، ذهبت إلى إحسان عبد القدوس في مكتبه بالمجلة ومعي مجموعة من اثني عشر طالبا جامعيا يريدون التطوع، أرسلنا إحسان عبد القدوس لعزيز المصري، كانت له ميول ألمانية من أيام الحرب العالمية ويكره الإنجليز، كان عزيز المصري حذرا لم يمنحنا الثقة في أول لقاء، كانت الحكومة المصرية ترسل إليه جواسيس الحكومة أو الملك، قابلنا عزيز المصري عدة مرات حتى تأكد أننا لا نعرف شيئا عن البوليس السياسي وليس لنا صلة بجواسيس الحكومة أو الملك، أرسلنا عزيز المصري إلى وجيه أباظة، تدربنا على السلاح في قشلاقات العباسية، وصل عددنا حوالي ثلاثين فدائيا، قابلنا أشخاصا آخرين مع وجيه أباظة، منهم أنور السادات ومجدي حسنين، تدربنا على الدبابات، إحكام التصويب، الضرب بالدشم، أصبحنا كتيبة فدائية مستعدة للسفر للقنال، المسئول العسكري عنا كان اسمه بهاء، المسئول الإداري كان اسمه سعد زغلول فؤاد، من أفراد كتيبتنا عزت المصري من الفيوم، عباس الأعسر من الشرقية، وسمير رضا كان عمره ثمانية عشر عاما، وزميل آخر اسمه رزق، وآخرون نسيت أسماءهم، استلم كل منا سلاحه، حملت مدفعا رشاشا من نوع «تومي جان» يضرب رصاص 9 ميللي، زملائي الآخرون حملوا رشاشات «ستين» وقنابل ضد الدبابات «بريجا» وقنابل يدوية وبنادق، أول عملية خرجت فيها كانت في منطقة بالقرب من التل الكبير اسمها المحجر، منطقة غنية بالفحم تحوطها حراسة إنجليزية مشددة، كانت الخطة تهدف لتفجير معسكر الإنجليز في المحجر والعودة بأسرى أحياء منهم، تلقينا أوامر كالآتي: الزحف على بطوننا مسافة نصف كيلو متر بين التل الكبير والمحجر، فوهة السلاح تكون إلى أعلى بعيدة عن التراب، نتخذ الكمين في بطن الترعة عند الكوبري الصغير، ننتظر حتى يبدأ بهاء رئيس الفرقة الإشارة، وهي إلقاء قنبلة على فرقة الحراسة الإنجليزية، بعدها نبدأ إطلاق النار وتنفيذ الخطة، إلا أن كل هذا لم يحدث، فوجئنا بسماع صوت فرقعة غير متوقعة، وبدأ كشاف ضخم يدور مثل قرص الشمس وفوقه شيء أشبه بالبرج، تحول الليل فجأة إلى نهار من شدة الضوء، يدور مع الكشاف رشاش يضرب علينا رصاصا قبل أن نطلق نحن النار، كان شيئا مفاجئا لنا، لس عندنا علم بوجود هذا الكشاف، وليس عندنا أوامر كيف نتصرف معه، لكن الفدائي المتعلم في الجامعة غير الجندي العادي؛ ولهذا تصرفنا على مسئوليتنا، كان إلى جواري في الكمين سمير رضا، ضربنا النار فورا في عين الكشاف ذاته، لم يكن أمامنا شيء آخر نفعله لإنقاذ حياتنا، شعار الفدائي (اضرب واجر)، لا تسمح لهم أن يقتلوك أو يأخذوك أسيرا ... اكتفينا بتحطيم الكشاف وانسحبنا دون تحقيق الهدف الأول من العملية، رجعنا زاحفين على بطوننا نشعر بفشل العملية، بعد يومين قمنا بعملية ناجحة عوضنا بها الفشل، كانت العملية على طريق المعاهدة الذي يصل إلى الإسماعيلية، عرفنا أن سيارة محملة بالذخيرة في طريقها للقوات الإنجليزية في الإسماعيلية، رابطنا على الضفة الأخرى من ترعة الإسماعيلية، كنا خمسة من الفدائيين، لمحنا سيارة الذخيرة قادمة على الطريق، أمامها عربة عسكرية واثنان من الموتوسيكلات، انتظرنا حتى أصبحت أمامنا فضربنا النار، انفجرت السيارة وانسحبنا دون خسائر في الأرواح أو السلاح، تشجعنا وفجرنا سيارة أخرى كانت تقل القائد الإنجليزي لمنطقة الشرق الأوسط، ضربنا السيارة ونجحت العملية، لكن قائدها بهاء أصيب في قدمه برصاصة ورجع بدون سلاحه، لم نفرح للأسف بهذه العملية، فقد مات زميل لنا دون داع، اسمه عباس الأعسر كان معي في مجموعتي، وكنا نسكن في بيت ريفي من الطوب النيء مثل معظم البيوت في القرى الفقيرة، بدأ أحدنا اسمه رزق ينظف سلاحه، تومي جاك 9 ميللي، فجأة انطلقت رصاصة من مدفعه وهو ينظفه واخترقت جدار الصالة حيث كنا نجلس، ثم انطلقت إلى الجدار الثاني للغرفة الداخلية اخترقته ونفذت إلى الحائط الثالث للغرفة الأخرى حيث كان يجلس عباس الأعسر مسندا رأسه إلى الحائط، دخلت الرصاصة إلى رأسه وخرجت من الناحية الأخرى، شيء أغرب من الخيال، كان قائدنا بهاء غير موجود، وكنت أتولى القيادة في غيابه، سمعت الطلقة وجريت لأتبين ماذا حدث في الغرفة، داخل الغرفة الداخلية رأيت عباس الأعسر في غيبوبة كاملة، طلبنا الإسعاف لكنه مات داخل سيارة الإسعاف، في الليلة السابقة كان معنا عباس الأعسر حين نجحنا في تفجير سيارة القائد العام الإنجليزي وعدنا جميعا سالمين، فكيف نفقد زميلنا عباس الأعسر في البيت بهذا الشكل العبثي لمجرد أن رزق كان ينظف سلاحه؟ أصاب الغضب الشديد أفراد الكتيبة وصمموا على عقاب رزق بالطرد، كان علي أن أنفذ هذا القرار بصفتي القائد، كنت أعرف أن رزق تسبب في موت عباس دون قصد، إن الرصاصة اخترقت ثلاثة جدران لتدخل في رأس عباس، مهزلة أو سخرية القضاء والقدر، إلا أن الخبر وصل إلى القاهرة، في اليوم التالي جاء وجيه أباظة ومعه والد سمير رضا، هكذا فقدنا سمير أيضا، أخذه أبوه معه إلى القاهرة، قال له إن أمه أصابها مرض القلب من شدة القلق عليه، انخفضت الروح المعنوية بعد فقدان عباس الأعسر وسمير، لكننا واصلنا العمليات الفدائية، أحد أغنياء الصعيد اسمه لملوم عبد الرحمن لملوم كان يمدنا بالذخيرة والسلاح، له أرض في الفيوم استطاع فيما بعد أن يحمينا من البوليس والحكومة، ثم تلقينا الأوامر بتغيير محل إقامتنا فورا، لقد كشف الإنجليز مواقع الفدائيين ويستعدون لحركة تمشيط واسعة، حملنا سلاحنا وسرنا في الصحراء لا نعرف إلى أين، لم تأت إلي أي أوامر عن المكان الأمين الذي نتجه إليه، سرنا في الصحراء ثلاثة أيام ولياليها هي أيام التيه الأعظم كما سميناها، فقدنا الطريق وأشرفنا على الموت من شدة العطش، قابلنا قافلة من البدو الرحل أنقذونا، بحثنا عن موقع جديد نمارس منه العمل الفدائي، كان هناك رجل وطني اسمه عبد الحميد صادق، كان يورد العمال المصريين للجيش الإنجليزي، لكنه انضم إلى العمل الفدائي وأصبح يشجع العمال على سرقة الأسلحة من الإنجليز وإعطائها لنا، تشجعنا وتحسنت حالتنا المعنوية، تزايد عددنا بوصول كتائب جديدة من الإخوان المسلمين والشيوعيين وبعض الشباب من حزب الوفد، استمرت عملياتنا ضد الإنجليز حتى يوم 26 يناير 1952م يوم حريق القاهرة، دبر الإنجليز الحريق للقضاء على العمل الفدائي، هل استخدموا حزب مصر الفتاة أو أحمد حسين؟ هل دخل فيها أعوان وجواسيس الملك؟ لماذا تخلت حكومة الوفد عنا تماما بعد أن كانت تشجعنا؟ وزير الداخلية فؤاد سراج الدين لماذا لم يؤمن مدينة القاهرة؟ كان عنده من رجال البوليس ما يكفي تأمين جبهة القتال في مدن القنال أيضا، لكنه ترك القاهرة تحترق، وأصبحنا نحن الفدائيين بلا حماية، جاءتنا أوامر غريبة من وجيه أباظة تقول: كل مجموعة تدافع عن نفسها وتحمي نفسها لا تحاولوا الاتصال بنا أو الحكومة، أصبح ظهرنا مكشوفا وقائدنا بهاء عاد إلى القاهرة وحده، عرفنا أنه في البوليس السياسي، أصبحنا وحدنا في مواجهة الإنجليز، اختبأنا في منطقة اسمها العباسة، سلاحنا فوق أكتافنا، لا يمكن لمن حمل السلاح أن يتنازل عنه بسهولة، قررنا الاستمرار في العمل الفدائي بدون معونة الحكومة، كان معنا الأهالي والفلاحين والبدو، لكن الناس بدأت تخاف بعد حريق القاهرة، والفلاحون والبدو جاءتهم أوامر من البوليس بعدم حماية الفدائيين، بدأ شعور الأهالي يتغير نحونا، والخوف يتزايد ويمنعهم من حمايتنا، هكذا أصبحنا معزولين تماما بلا سند من أحد، بدأ الإنجليز حركة تمشيط للقضاء علينا، كدنا نسقط أسرى في يد نقطة تفتيش إنجليزية، استطاع زميلنا الذي كان يقود سيارتنا واسمه إسماعيل رضا أن ينقذنا، فقد لمح على بعد 10 أمتار منه مدفعا رشاشا ونقطة تفتيش إنجليزية، رجع إسماعيل بظهر السيارة حوالي ثلاثة كيلو مترات، يمكن لو أطلقوا النار أن يصيبونا جميعا لكنهم لم يطلقوا النار، ربما أرادونا أحياء وليس أمواتا، أو ربما كانت لديهم أوامر ألا يطلقوا النار إلا للضرورة حتى لا يثيروا الأهالي ضدهم، كان غضب الأهالي قد تزايد بعد حريق القاهرة، إلا أن الخوف كان أشد من الغضب، وأخيرا اجتمعنا وقررنا إنهاء العمل الفدائي والعودة إلى القاهرة، حيث وجدنا حكومة جديدة، والأوامر باعتقال الفدائيين وتسليم سلاحنا للبوليس، اختفينا في الفيوم داخل مغارة في منطقة أثرية اسمها هرم اللاهون، حاولنا الاتصال بوجيه أباظة دون جدوى، عزيز المصري اختفى، بهاء عاد إلى البوليس السياسي، اكتشفنا غلطة عمرنا، وهي أن العمل الفدائي يبدأ في الداخل، ضد العدو الداخلي، ثم يتفرغ للعدو الخارجي؛ لأن العدو الداخلي يمكن أن يضربنا في الظهر وفي البطن ويقضي علينا تماما، كما حدث، وأصبحنا في نظر الحكومة مطاردين مثل قطاع الطرق، نرقد في مغارة في جبل اللاهون، يتسلل واحد منا في الظلام ليجلب لنا بعض الطعام، دفنا سلاحنا في بطن الأرض، وقلنا لا يمكن أن نسلمه لحكومة خائنة، كنت أنام وأحلم أني أحارب الإنجليز، في اليقظة أستعيد ذكريات القنال، في يوم خرجنا في إحدى العمليات الناجحة، فجرنا معسكر الإنجليز وعدنا إلى البيت سالمين، لكن اكتشفت أن زميلا لنا غير موجود، كان الواجب أن أخرج إلى الطريق وأبحث عنه حتى أجده وإلا عثر عليه الإنجليز أسيرا، وعن طريق تعذيبه يكشفون مواقعنا، مشيت في الليل وحدي بدون المجموعة أبحث عن زميلنا، كان الفجر لم يطلع بعد وأنا أزحف الطريق كله عائدا حيث كنا، نصف جسمي كان في الأرض والنصف الآخر في الطين ومياه الترعة، أخفي سلاحي في صدري أحميه من التلوث، سلاحي كان أغلى من جسدي، مدفع رشاش تومي جام 9 ميللي، أخيرا عثرت على زميلنا، كان غارقا في النوم في بطن ترعة الإسماعيلية وسلاحه نائم فوق صدره يحوطه بذراعيه كالأم تحتضن طفلها، جلست إلى جواره أتأمله وهو نائم يحلم بتحرير الوطن، عمره كان عشرين عاما مثل عمري وكل الفدائيين، لم يكن يدور بخيالنا أننا كنا فريسة بين الحكومة والملك والإنجليز، وان قيادتنا التي سلمناها حياتنا مثل بهاء ووجيه أباظة وعزيز المصري وأنور السادات ومجدي حسنين، هؤلاء جميعا تركونا وحدنا نواجه مصيرنا تحت رصاص الإنجليز أو مغارات جبل اللاهون، وجميعهم حصلوا على مناصب عالية في الدولة ودخلوا التاريخ على أنهم الأبطال الذين طردوا الإنجليز وقاموا بالثورة، أما نحن الذين حملنا السلاح وحاربنا فقد أصبحنا مطاردين مثل المجرمين. •••
قبل حريق القاهرة انتقلت من مرحلة المشرحة في الكلية إلى مرحلة المستشفى، نقوم نحن الطلبة والطالبات بالمرور على عنابر المرضى نتدرب على الفحص وتشخيص الأمراض، بعد الحريق في 26 يناير 1952م أصدر الملك فاروق قرارا بإقالة النحاس وحكومة الوفد، بدأت الحكومة الجديدة في ضرب الحركة الوطنية والعمل الفدائي، امتلأت الزنازين بالشباب الوطني من مختلف الاتجاهات، الإخوان المسلمين، الشيوعيين، الوفديين، الشباب من اتحاد العمال والنقابات والطلاب المستقلين والفدائيين العائدين من القنال، ثم إعلان قانون الطوارئ، صدر قرار بحل اتحاد العمال، غرقت مدينة القاهرة في الظلمة والصمت، رائحة الدخان تفوح من الجدران السوداء المتفحمة في قلب المدينة.
ثم جاء يوم 23 يوليو 1952م، كنت في حصة المرور على عنبر الجراحة في مستشفى قصر العيني الجديد، الأستاذ قصير القامة نحيف الجسم، عيناه الواسعتان تطلان من وراء النظارة البيضاء تحت جبهة عريضة تصل إلى منتصف الرأس أو أكثر يسمونها الصلعة، صوته خافت، ملامحه خافته بلا جاذبية للعين أو الأذن إلا النحافة الشديدة أو الهزال، يشبه المهاتما غاندي زعيم الهند، الوجه الناحل والعينان الكبيرتان تطلان من تحت العدسات البيضاء الكبيرة.
كان يلقي علينا محاضرة طويلة عن سرطان المثانة، مريض راقد فوق السرير، عظام وجهه بارزة من شدة الهزال، أكثر هزالا من غاندي، يلتف حوله الطلبة يتنافسون على فحصه، خراطيم سماعتهم ممدودة نحو الجسد النحيل، تتلوى وتتعارك فوقه كخراطيم الذباب من حول قطعة لحم، رائحة الدم والصديد العفن تبعثان على الغثيان، أقف في الصفوف الخلفية مكتوفة الأيدي، أتلفت حولي في العنبر الواسع ، وجوه المرضى الناحلة الشاحبة تطل من فوق السراير، فلاحون فقراء كلهم، جاءوا من قرى تشبه قريتي كفر طحلة، دودة البلهارسيا تمص دماءهم، لا يبقى منهم إلا القليل يمصه الأطباء الكبار في العيادات الخاصة، ثم ينتهي بهم المطاف فوق السرير في قصر العيني، تقضي عليهم أصابع الطلبة في حصص التدريب، يخرجون من المستشفى إلى المشرحة، أو يحملهم النعش إلى القبر، تولول من خلفهم النسوة بالجلاليب السود.
بعد انتهاء الحصة خرجنا من العنبر، كانت معي الزميلتان بطة وصفية، خرجنا إلى الممر الطويل، له نوافذ كبيرة تكشف النيل، التراب يغطي النوافذ والزجاج مكسور، أتوقف لحظة لأستنشق الهواء النقي، أغسل الرئتين من أدران المرض والجراثيم، تتعلق عيناي بالأفق، أشعة الشمس تتموج فوق مياه النيل، سبائك من الذهب، قلبي يئن رغم الطبيعة المملوءة جمالا وفرحا، كأنما الحزن لا يظهر إلا بجوار الفرح، لا أعرف لماذا يغمرني الحزن دائما في لحظة الفرح، أهو الحزن المتراكم منذ ولدت؟ أم هذه الآلام التي تحوطني كل صباح في عنابر المرضي؟ أم هو غياب أحمد عن الكلية؟ لم أكن أعرف أين هو، في السجن مع المعتقلين؟ أو جثة مقتولة على شط ترعة الإسماعيلية؟ أو داخل مغارة في جبل اللاهون؟
فجأة رأيت المرضى يندفعون خارج العنابر يهتفون: تحيا الثورة، كان الراديو قد أذاع الخبر، استولى الجيش على الحكم في مصر وانتهى عصر الملك فاروق، سمعوا الخبر وهم راقدون فنهضوا من المرض، كأنما هي وجوه الجثث في المشرحة، نهضت من الموت، أصبحت تتحرك وتمشي، تفتح أفواهها عن آخرها وتهتف: تحيا الثورة، شاب مبتور الساقين في الحرب قفز من فراشه بدون ساقين بدون العكازين، كان يهتف تحيا الثورة.
من عنابر الرجال انطلق الهتافات، من عنابر النساء انطلقت الزغاريد، اندفع الجميع إلى الخارج، المرضى والمريضات بالجلاليب الدمور والشباشب، الممرضات والتمورجية بالمرايل البيضاء والصنادل، أطباء الامتياز والنواب بالمعاطف والسماعات حول الأعناق، الطلبة والطالبات وتلميذات التمريض وعمال المراحيض والمطبخ والمغسل والمشرحة، جميعهم اندفعوا إلى الشارع يهتفون: تحيا الثورة.
أصبح جسدي يندفع معهم وصوتي يهتف مع أصواتهم ، صفية أيضا رأيتها تجري معنا وتهتف: تحيا الثورة، بطة فوق كعبها العالي الرفيع يطرقع مع صوتها الجاد تصيح: تحيا الثوغة (الثورة)، توقفت جنازة ميت خارج من المستشفى، وضع الرجال النعش فوق الرصيف وانطلقوا مع الناس يهتفون: تحيا الثورة، تحولت ولولة النسوة الثكالى إلى زغاريد.
في تلك اللحظة كنت أبحث عن أحمد حلمي، أبحث عن وجهه بين الوجوه، أريد أن شاركه الفرح، كان مقبلا من فوق الكوبري الصغير بين المستشفيين القديم والجديد، خرج من المخبأ في جبل اللاهون، كانت الثورة هي الأمل الجديد، لأول مرة في حياتنا نتعانق بالأذرع، اكتشفنا أن لنا أذرعا يمكن لها العناق، لم يكن لنا إلا الأيدي في المصافحة، بعد الزواج والمشاركة في الفراش لم يكن جسدي يهتز كما كان يهتز في المصافحة، لم أعرف لماذا، أهو الخيال الجامح في الحب يضاعف المشاعر، أم أن «الجنس» مخيب للآمال مثل العمل الفدائي؟
في العناق الأول أحسست أن أحمد ليس هو أحمد، لم أعرف ذلك بعقلي، عرفته بالأعمق، بالأصدق، بإحساس الجسد الفطري لم تلوثه العلوم، شيء فيه راح لم يعد، شيء فيه تركه على شط الإسماعيلية وعاد وحده، أهو قلبه تركه هناك وعاد بلا قلب؟! إلا أننا نسير إلى شجرة الكافور، نتحسس حروف اسمه واسمي داخل القلب المحفور، نتحسس الخاتم الذهبي في أصبعه وأصبعي منقوشا عليه اسمي واسمه، الشيء المادي الوحيد في عالم من الهيولة والضباب، نمسكه بأصابعنا، نتشبث به كالغريق يتشبث بقارب نجاة أو الأعمى يبحث في الظلمة عن خيط من ضوء.
في 26 يوليو اعتلى الملك فاروق اليخت الملكي لآخر مرة في حياته، كان واقفا داخل بدلته البحرية البيضاء، فوق بحر الإسكندرية، سبحت فيه وأنا طفلة، صوت أبي في الفرندة البحرية يهتف: يسقط الملك، سقط الملك وتشكل مجلس وصاية على ابنه الطفل أحمد فؤاد، ورث اسم جده، كنت في الخامسة من العمر حين مات الملك فؤاد عام 1936م، جاء الصبي الصغير فاروق من بريطانيا ليرث عرش أبيه، الهتافات في شوارع الإسكندرية تدوي، مات الملك يحيا الملك، الراديو يغني : ملك البلاد يا زين يا فاروق يا نور العين، يطل الغلام الملك على الناس بوجه أبيض مستدير، وجه طفل أصبح ملكا فجأة، لا يعرف شيئا عن دهاليز السياسة، حوطته القوى الثلاث كالسلسلة الحديدية، القصر والإنجليز والأزهر، ثلاثة رجال هم أركان الحكم، أحمد حسنين، علي ماهر، الشيخ المراغي، كان أبي يسميه الشيخ المرائي (بدل المراغي) أو الشيخ الأزعر (بدل الأزهر).
كيف تحول الطفل إلى ملك مثل أبيه؟ إلى قاتل وعربيد كأبيه؟ واقفا في اليخت يلقي على مصر النظرة الأخيرة، ملؤها الحزن أو الندم، ربما كان الأفضل له ألا يكون ابن ملك، كنت أسمع الناس في قريتي يقولون: «السلطان من ابتعد عن السلطان.» أهناك مرض في السلطان يشبه السرطان ؟! يأكل الخلايا السليمة، ينمو بشراهة وجنون حتى يأكل ذاته، بلغ به النمو السرطاني أن يسعى لتناول التاج من يد الله ويكون خليفة المسلمين.
أسمع أبي يقول: إن الله ليس له يد أو لسان، فكيف تمتد يد الله حاملة تاج العرش لتناوله للملك فاروق؟ أو الماروق كما سماه أبي، يحلو لأبي أن يكتشف التشابه في الحرف والمعنى، فالنحاس هو النحاس حين ينظر بعينه اليمنى إلى الملك والعين اليسرى تفر بعيدا إلى الناحية الأخرى، لم يسلم أحد من سخرية أبي إلا جمال عبد الناصر، أشار إليه في الصورة بإصبعه وقال: «هو ده اللي فيهم لكن محمد نجيب مجرد يافطة.» «محمد نجيب» أول حاكم مصري منذ الملك مينا في مصر القديمة، ملامح وجهه ريفية بسيطة تطفو عليها ابتسامة خالية من الدهاء، صوته فيه بحة تقربه من قلوب الفقراء.
في بداية الثورة صدر قرار العفو عن المسجونين السياسيين، انفتحت أبواب الزنازين وخرج زملاؤنا من حزب الوفد والإخوان المسلمين والمستقلون وغيرهم، إلا الشيوعيين لم يشملهم قرار العفو، بقي داخل السجن شقيق صفية «سعد» وخطيب سامية «رفاعة»، أعلن زكريا محيي الدين «أحد الضباط الأحرار» أن الشيوعيين مجرمون اجتماعيون وليسوا مجرمين سياسيين، مطت سامية شفتيها بازدراء: «بقة دي ثورة يا نوال؟ دول شوية عساكر عملوا انقلاب وأمريكا معهم لتدخل مصر بدل الإنجليز!»
تحديد الملكية الزراعية بدأ بمائتي فدان للأسرة، وخمسين فدانا لكل ولد أو بنت، ثم إلغاء الألقاب والأحزاب وإسقاط النظام الملكي وإعلان الجمهورية في يوليو 1953م.
وجوه الناس في الشارع تغيرت، تغير الشارع، سقطت الحواجز بين الغرباء، كانوا يسيرون بوجوه شاحبة عابسة كل في طريقه، لا أحد يبتسم لأحد، لا أحد يقول صباح الخير لأحد، أصبح الشارع مثل البيت، الناس تكلم بعضها بعضا، يتصافحون دون سابق معرفة، يتساءلون عن الصحة وعن أخبار الثورة، يهنئون بعضهم بعضا، يتناقشون في السياسة، يتنبئون ماذا يحدث غدا، يتوقعون كل يوم قرارا جديدا.
في طريقي إلى الكلية ألتقط بعض تعليقاتهم على الأخبار: «أخيرا ربنا فرج علينا! حد كان يصدق يا ناس إن عرش الملك ده كله يسقط في يوم وليلة؟! خلاص يا عم ما فيش حاجة اسمها باشا ولا بيه! يعني هي كلمة «باشا» دي عربية؟ دي كلمة تركية يا عمي من أيام المماليك والعثمانيين! يعني خلاص البلد اتحررت يا ناس؟ يعيش محمد نجيب يعيش!»
لم يكن للأحزاب القديمة أن تستسلم، لم يكن للباشوات وأصحاب الأراضي أن يتنازلوا عن أملاكهم دون معركة، نشب الصراع بين القديم والجديد، تكتل القديم وراء محمد نجيب، كونوا جبهة قوية تحت اسم الديمقراطية أو الحريات أو إعادة الأحزاب المنحلة، ضمت الجبهة قيادات الوفد والإخوان والشيوعيين، بين الثلاثة عداء مشهود وبحور من الدم، في السياسة يتكتل الأعداء في حلف واحد ضد عدو أكبر، في الغابة أيضا قد يتحالف القط والفأر ضد النمر أو الأسد.
لم يكن الأسد ظاهرا في الصورة، بدأت الثورة بصوت أنور السادات في الراديو، ووجه محمد نجيب في الصحف، رأى أبي الأسد في الصورة واقفا إلى جوار محمد نجيب أشار إلى وجهه بإصبعه وقال: «هذا هو القائد الفعلي للثورة يا نوال!» كان الناس يهتفون لمحمد نجيب ولا أحد يعرف جمال عبد الناصر، سألت أبي: كيف عرفته؟ قال: عرفته من عينيه، عيناه تأملتهما في الصورة، نفاذتان غائرتان تحت جبهة عريضة عظامها قوية، أنفه كبير بارز مقوس في الجانب ، شفتاه رفيعتان مزمومتان في ثورة أو غضب منذ الطفولة، ملامح محمد نجيب إلى جواره تبدو بريئة ساذجة كالأطفال.
التقيت بجمال عبد الناصر أول مرة وجها لوجه في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام 1962م، كان أبي قد مات منذ ثلاث سنوات، الثورة في عنفوانها تحطم القلاع الإقطاعية وتعلن القرارات الاشتراكية، ملامح عبد الناصر في الحقيقة أكثر جاذبية من الصور، عدسة الكاميرا لا تنقل البريق في العينين، اللون البرونزي لبشرة بلون طمي النيل، القامة الطويلة الفارعة تشبه قامة أبي وجدتي الريفية، انحناءة خفيفة وهو يمشي تذكرني بمشية أبي، أيحمل العبء ذاته فوق كتفيه؟ يميل بهما إلى الأمام ويمشي بخطواته الواسعة، كأنما لا يحمل شيئا لولا هذه الانحناءة الخفيفة، تذكرني بالعبء، كان يحمله أبي ليطعم تسعة من الأطفال وأمهم وأمه وأخته المطلقة في القرية، العبء حملته بعد أبي.
لم يحمله أخي الأكبر، اجتمعت الأخوات والإخوة الصغار واتخذوا قرارا بعد موت أبي: «الوصاية علينا تكون لأختنا نوال.» لم يكن معاش أبي يكفي الأسرة الكبيرة، كان علي أن أعمل لأدبر مصاريف أخواتي في المدارس والجامعة وابنتي بعد الطلاق.
ألهذا زحف الشيب إلى رأسي وأنا في ربيع العمر؟ أم أنني ورثت الشعر الأبيض عن أبي كما ورثت عنه العبء؟ في طفولتي كأنما أرى الشعرات البيض تزحف إلى شعره الأسود الغزير، فاحم بلون الليل، لون شعري، تسري فيه الشعرات البيضاء كأنما خلسة، تشق سواد الظلمة كخيوط الفجر.
تخرجت في كلية الطب في ديسمبر 1954م، الدراسة كانت ست سنوات ونصفا من الأشغال الشاقة، محاضرات طويلة مملة تتلى علينا، نحفظها عن ظهر قلب ننساها بعد الامتحان، تعلق أسماء الناجحين على السبورة في مدخل الكلية، العبقرية المفاجئة لأبناء الأساتذة تظهر، يحتلون المراتب الأولى، يحصلون على المناصب العليا في المستشفى الجامعي والكلية، العرش يرثه الابن عن الأب عن الجد، النظام الوراثي في المملكة المصرية وكليات الطب.
الانهيارات العصبية تصيب الطلبة في الامتحانات النهائية، الإدمان على المنبهات «الآنفيتامجين» للسهر في المذاكرة، المنومات «الفاليون» لعلاج الأرق، ثم «الماكسيتون» لليقظة في الامتحان، الأساتذة لا يرحمون المرضى الفقراء فهل يرحمون الطلبة أطباء المستقبل المنافسين لهم في السوق؟!
كنت شديدة الانتباه للدروس، لا تفوتني محاضرة أو حصة في المعمل أو المستشفى، الأساتذة والمدرسون يعبرون عن إعجابهم بهذه الطالبة النجيبة، أذناها عيناها حواسها الخمس تلتقط الكلمة قبل أن تسقط من أفواههم، لا تغيب حتى في الإجازات، يرونها في عنابر المرضى تراجع التشخيص والعلاج، خطوتها وهي تمشي سريعة مستقيمة لا تتلكأ في الفناء مع زميل أو أستاذ، لا تتلفت حولها هنا أو هناك، كالسهم تنطق داخل الكلية وخارجها، قدماها لا تلتويان فوق الكعب العالي، عيناها تنظران مباشرة في عيون الناس.
كان يدرس لنا في قسم الجراحة أستاذ مساعد أو مدرس اسمه الدكتور رشاد، أصابعه طويلة صلبة كالمسامير الحديدية ينقر بها على صدور المرضى، يخرق بها الصدر أو البطن، يدوس بسماعته المعدنية بين الضلوع كما يدوس بحذائه على الأرض، طفل كان هناك في العنبر مريض بالقلب، اسمه مصطفى لا أنساه، ملامحه تشبه ابن عمتي نفيسة وكل أطفال القرية، عمره عشر سنوات، مثل عمري في منوف وأنا أحلم بالحب الأول، بشرته سمراء بلون بشرتي، عيناه سوداوان واسعتان باتساع عيني، مملوءتان بالبريق، انطفأ البريق بعد أيام من دخوله قصر العيني، كست عينيه سحابة من الحزن، الألم يكتمه حين تدوس السماعات فوق صدره، أربعون أو خمسون سماعة أو أكثر، بعدد الطلبة المتزاحمين حول السرير، المتنافسين على سماع الخشخشة في الدم، أو اللغط في صمام يرشقه الدكتور رشاد بنظرة صارمة، إن رفض أن يخلع الجلباب يرتفع الصوت الآمر: «اقلع يا ولد لأقلعلك عينك.» إن أصر على الرفض أو تردد قليلا هبطت اليد الحديدية فوق صدغه صفعة واحدة، يخلع بعدها مصطفى الجلباب الفلاحي الباهت، ضلوعه صغيرة هشة تنتفض كضلوع الفرخ الصغير، تطقطق تحت السماعات المعدنية، تنكسر بصوت مسموع للأذن، هل كانت الآذان كلها صماء؟! مسدودة بخراطيم من الكاوتش، تتدلى من أعناقهم مع رأس السماعة الغليظ.
لم يكن اللغط مسموعا لآذانهم، محشوة بالصمغ ربما وذرات التراب المتراكمة في الشوارع، ومدرجات الكلية وعنابر المستشفى والسنين ... يسلك الواحد منهم أذنيه بعود كبريت، ويظل اللغط غير مسموع ... خافتا هامسا كحركة الدم داخل صمام القلب، كحفيف الهواء يلامس ورقة وليدة في أول الربيع.
يخرج الدكتور رشاد من جيبه قطعة نقود فضية يلقي بها فوق المنضدة كمن يلقي الرهان في سباق الخيل أو البورصة: «الشلن ده مكافأة لمن يقول لي ما هو نوع هذا اللغط.» هذه العبارة كلها يقولها بالإنجليزية، الدراسة في كلية الطب لم تكن باللغة العربية، المراجع والكتب وأسماء الأمراض وأنواع اللغط، وكل شيء باللغة الإنجليزية، حتى النكت، ويندفع الطلبة من جديد نحو الطفل المريض، يدوسون على أقدام بعضهم، يتدافعون بالمناكب والأذرع والأكتاف، يضرب الواحد منهم كوعه في بطن الآخر، يشق طريقه نحو الصدر المكشوف، رأس سماعته منتصب أمامه كالقضيب يلمع سطحه المعدني مثل رأس الكوبرا يتلوى فوق خرطوم من الكاوتش يستقر في النهاية داخل الحفرة في اللحم بين الضلوع، وتنطلق من الطفل صرخة لا يسمعها أحد.
لم يكن للطالبات مجال في هذه المنافسة، معركة بالأجساد فهل تدس البنت العذراء جسدها بين الذكور لتسمع خشخشة في الدم أو تحصل على خمسة قروش؟ وكنت أقف في الصفوف الخلفية يتراءى لي وجه الطفل من بين الأجساد، تلتقي عيناه بعيني، تتشبث عيناه كأنما بعيني الأم أو العمة أو الأخت الكبيرة، يرمقني بنظرة استجداء طويلة تذكرني بعيني خروف العيد في طفولتي، كانت عيناه ترمقاني من وراء جسد الجزار بنظرة الاستجداء نفسها، وكنت أقف صامتة عاجزة عن إنقاذه كما أقف الآن.
في النوم تطاردني العينان، عينا الطفل المريض أو عينا الخروف المذبوح؟ متشابهتان واسعتان دامعتان بلا دموع، تشوبه صفرة تطفو عليها شعيرات دقيقة بلون الدم.
ترمقني العينان في الظلمة، مفتوحتين بلا جفون بلا رموش، لا صوت، لا حركة، فقط هذه النظرة الخرساء بذلك الاستجداء حتى أهب من النوم مبللة بالعرق.
كان الدكتور رشاد في قسم الجراحة يشبه الدكتور عمرو في المشرحة، يقف أمام الأستاذ رئيس القسم مكتوف الذراعين، مكتوف الساقين، كالتلميذ المؤدب أو البنت العذراء، يختفي الرئيس فيفرد الدكتور رشاد ذراعيه وساقيه، يتمشى في العنبر لاويا عنقه إلى الوراء كالطاووس أو الديك الرومي، يقلد الأستاذ رئيس القسم في مشيته، في الطريقة التي ينطق بها الحروف، يقلب حرف القاف إلى كاف كنوع من الرقة، أو الانتماء إلى الطبقات العليا المقلدة للأجانب، يضحك بصوت عال في غياب الرئيس، مقلدا قهقهة الأساتذة، ملقيا برأسه إلى الوراء، عيناه تتجهان نحو الطالبات: «الآنسات الكوارير (القوارير) ساكتين ليه؟ ما فيش واحدة فيكم عاوزة تكسب الشلن؟ ياللا يا ست بطة شدي حيلك، وانتي يا ست صفية وانتي يا ست فوزية ويا ست سميحة ويا ست نبيلة ...» ويأتي الدور علي، يهم أن ينطق اسمي بالسخرية نفسها لكنه يتوقف، لا أعرف لماذا، كنت أرمقه بنظرة مشبعة بالغضب، كلمة القوارير ترن في أذني الجوارير أو الجواري، تشتعل عيناي بنار سوداء أثبتها في عينه لا يطرف لي جفن.
لم أرفض في حياتي رجلا كما رفضت الدكتور رشاد، لم أكن أعرف أن الرجل ينجذب إلى المرأة التي ترفضه، لا يهدأ حتى يرفض الرفض، معركة يخوضها حتى آخر نفس، يشهر فيها كل أسلحته الخمسة عين، عمارة تطل على النيل في المعادي، عزبة في الشرقية، عيادة في ميدان الإسماعيلية، عربة «شيفروليه» زرقاء طويلة يتهادى بها أمام محطة الأتوبيس، يراني واقفة، يوقف السيارة بجانب الرصيف، يطل برأسه من النافذة: «تعالي يا نوال أوصلك.» أنتزع من عضلات وجهي ابتسامة: أشكرك يا دكتور، لا يستسلم الدكتور رشاد لهذا الرفض المؤدب، يكرر الطلب: «تعالي أوصلك بدل زحمة الأتوبيس.» أشكرك يا دكتور، شكرا يا دكتور، أهز رأسي بالشكر والرفض، وهو يكرر الطلب، يزداد رفضي بازدياد إصراره، يزداد إصراره بازدياد الرفض.
في أعماقي كنت أرفضه، جسدي يرفضه حين يصافحني بيده كالقبضة الحديدية، عقلي يرفضه أيضا والروح الكامنة في جسدي، الغامضة غموض الملائكة والشياطين، حتى اليوم لا أعرف لماذا رفضته بهذا العنف.
لكن الكراهية كالحب تحدث بلا سبب، أو ربما ذلك السبب غير المدرك بالعقل، مثل الحقائق الكبرى لا يدركها العقل البشري ومنها حقيقة وجود الله، وقد تشككت في هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق الكبرى، لكني لم أتشكك في مشاعري تجاه الناس، تتحدد مشاعري دائما في أول لقاء، يحدث الحب أو الكره من النظرة الأولى للوجه، العينان نافذتان أطل داخلهما وأعرف الإنسان، عظام الوجه مع الأنف والفم تستكمل الصورة، منذ كنت طفلة في السابعة حتى تجاوزت الستين من العمر لم تتغير نظرتي لوجوه الناس، لم أفقد ثقتي في الانطباع الأول، النظرة الأولى تلهمني أشياء كثيرة يعجز عنها العقل أو العقل الظاهر، لم أكن أعرف الكثير عن العقل الباطن، قرأت شيئا مما كتبه سيجموند فرويد عن أجزاء العقل الواعية والأجزاء غير الواعية شيئا فشيئا مع تزايد العلم بخلايا المخ وأسرار الخلية الحية، تجارب الحياة تكشف الحجاب أكثر من العلم.
في صيف عام 1957م قبل وفاة أمي جاء الدكتور رشاد إلى بيتنا في حي العمرانية، تقدم لأبي يطلب يدي، كان يوما حارا مليئا بالغبار، توقفت سيارته الزرقاء الشيفروليه أمام بيتنا، أطلت عليها عيون الجيران من النوافذ، انبهرت بها النساء والرجال من عائلة أمي وأبي، وانفتح بابها وخرج العريس طويلا ممشوقا داخل بدلة أنيقة بيضاء من الشاركسكن، كنت أكره البدل اللامعة والأحذية اللامعة والشعر اللامع المدهون والدبوس اللامع في الكرافتة والفص اللامع في الخاتم.
في غرفة الصالون جلس الدكتور رشاد، كل شيء فيه يلمع خاصة النظارة الزجاجية، ولا شيء فيه منطفئ إلا العينين، أنظر في عينيه أبحث عن البريق، لم أعرف متى انطفأ البريق في عينيه؟ في طفولته؟ في شبابه وهو طالب؟! أم مؤخرا بعد أن أصبح أستاذا مساعدا في كلية الطب؟! - أهلا رشاد بيه. - أهلا سعداوي بيه.
يتبادلان لقب البكوية رغم سقوط الألقاب منذ الثورة، الأب والعريس جالسان في الغرفة الشديدة الإضاءة، تدخل الخادمة حاملة الصينية الفضية العتيقة، حملتها وأنا في العاشرة من العمر وانقلبت فوق صدر العريس، تعثرت الخادمة في خيط السجادة العجمية، عتيقة أيضا منذ ليلة زفاف أمي، بهتت ألوانها بمثل ما بهت وجه أمي، كادت الصينية تنقلب فوق بدلة الدكتور رشاد، أفلتت من فمي ضحكة مسموعة وأنا جالسة في الركن، تذكرت طفولتي في منوف حين كانت تزورنا مس إيفون، أمد قدمي وأخفي الثقب في السجادة، منذ الثورة لم أعد أخجل من مظاهر الفقر، لم أعد أخفي عمتي الفلاحة عن أعين زملائي وزميلاتي. - أهلا رشاد بيه. - أهلا سعداوي بيه.
كنت أرتدي ثوبا قديما من قماش رخيص اسمه جباردين، لونه رمادي حزين، قلبي ثقيل مملوء بالحزن، أبي عيناه تلمعان بالفرح، هذا هو الزوج المناسب لابنته الدكتورة، وليس الزوج السابق، الطالب الفاشل أو الفدائي الموهوم.
لم تدخل أمي إلى غرفة الصالون، كانت في فراش المرض قبل وفاتها بثلاثة شهور، على طرف السرير تجلس خالتي نعمات، جاءتنا في زيارة ذلك اليوم، تأملت الدكتور رشاد من شق الباب، وعادت إلى أمي تشهق بالفرح: «زي القمر والله ودكتور أد الدنيا ... أي بنت في الدنيا تتمناه، ليه بنتك نوال ترفضه يا زينب؟» «مش عارفة يا نعمات اسأليها.» سألتني طنط نعمات ذلك اليوم: إيه عيب الدكتور رشاد يا نوال؟ لم أعرف بماذا أرد، لم يكن فيه عيب واضح، «مش عارفة يا طنط مش باحبه.» تشوح طنط نعمات بيدها في الهواء: «حب إيه وكلام فارغ إيه، أخدتي إيه من الحب يا بنتي غير إنك بقيتي مطلقة.»
كلمة «مطلقة» اخترقت أذني بصوت طنط نعمات كالكلمة النابية، كان طلاق المرأة نوعا من العار، المرأة المطلقة لا يتزوجها أحد، يقولون عنها امرأة نصف عمر تم استخدامها من قبل، إن تزوجها أحد فهو يشرب من إناء شرب منه غيره، هكذا كان يكتب عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي ونجيب محفوظ وغيرهم من الأدباء الرجال.
حاربت في البيت لأرفض الدكتور رشاد، كما حاربت من قبل لأتزوج أحمد، لم أكن أؤمن بالزواج إلا لسبب واحد هو الحب، كلمة زواج أو عريس لها منذ طفولتي تاريخ سيئ، استطاع الحب أن يطمس هذا التاريخ فأقدمت على زواجي الأول، إلا أن الحب عمره قصير كزهور الربيع، أو ربما هو الزواج يفسد الحب، هناك شيء غير طبيعي في مؤسسة الزواج، أيكون هو قانون الطاعة؟ أول بند من القانون يقول: الرجل يمتلك زوجته وهي لا تملكه، واجب الزوج الإنفاق وواجب الزوجة الطاعة.
كلمة «الطاعة» ترن في أذني كالكلمة النابية، كنوع من السباب أو إحدى صفات العبيد، الناس من حولي يقولون الطاعة فضيلة، وأنا أراها رذيلة، الطاعة معناها أن ألغي عقلي وإرادتي وأصبح مطية للإرادات الأخرى، الطاعة معناها أن أفقد إنسانيتي وأتحول إلى فصيلة أخرى، يسمونها الإناث، أو الزوجات المطيعات، أو الحيوانات المستأنسة في البيوت، لا ترفع الواحدة منهن عينها في عين زوجها، واجبها الطاعة وواجبه الإنفاق.
كلمة «الإنفاق» ترن في أذني كالسباب، كلمة مهينة مشبعة بالإهانة، الإنفاق مقابل الطاعة، الأسياد بالخدم والعبيد، أو علاقة الذكور بالإناث في بيوت البغاء، الرجل يدفع الفلوس والمرأة تلبي أوامره، الطاعة هنا مثل طاعة الزوجة مقابل الإنفاق وليس بسبب الاقتناع.
البند الثالث في قانون الزواج أسوأ من البند الأول، من حق الرجل أن يطلق زوجته حين يشاء ويتزوج عليها امرأة أخرى إذا شاء، وليس للزوجة أن تطلق زوجها إلا في المحكمة إذا أراد القاضي، ولا يمكن لها أن تتزوج رجلا آخر وإلا اعتبرت زانية؛ لأنها تجمع بين زوجين، الرجل لا يكون زانيا إذا جمع بين أربع زوجات.
قانون الزواج ينتهك قانون الأخلاق، المبدأ الأول في الأخلاق هو أن الناس جميعا متساوون أمام القانون بصرف النظر عن الجنس أو النوع أو الطبقة أو العرق أو العقيدة، المبادئ الأخلاقية تسري على الجميع لا فرق بين ذكر وأنثى أو فقير وغني أو حاكم ومحكوم.
لم يكن لي أن أقرأ بنود قانون الزواج دون أن يتملكني الغضب، ينتفض جسدي بالغضب، هل يمكن أن أضع نفسي تحت طائلة هذا القانون؟ أليس هذا نوعا من الجنون أن أقدم على الزواج من أي رجل، وإن أحببته، فما بال رجل لا أحبه؟!
كان الطلاق الأول في حياتي هو الانطلاق، كالعصفور ينطلق في السماء، بعد توقيع القسيمة، انفتح باب السجن وخرجت إلى الحرية، قبضت بأصابعي الخمسة على ورقة الطلاق كالغريق يقبض على قارب النجاة، لحظة من لحظات العمر المتألقة، تشبه لحظة نجاحي وحصولي على شهادة الطب، أو اللحظة حين تسلمت أول مرتب عن عملي، تحررت وأصبحت أنفق على نفسي، كان أبي هو الذي ينفق علي، لم يكن يطلب مني الطاعة مقابل الإنفاق، علمني الكرامة واحترام نفسي، علمني الجدل ومناقشة كل شيء حتى وجود الله، كنت أناقش أبي وأناقش الله، فهل أنحدر إلى مرتبة الزوجات واجبهن الطاعة مقابل الإنفاق؟! لم أكن في حاجة إلى زوج ينفق علي، أحمل لقب دكتورة، لي كيان جديد ليس هو أنثى أو ذكر، أفحص أجساد الذكور كالإناث، أصعد فوق التقسيمات المفروضة بالجنس، أصعد فوق القانون الذي يحكم النساء، يسمونه قانون الأحوال الشخصية، تنحدر تحته المرأة من إنسانة كاملة الأهلية إلى زوجة ناقصة الأهلية، كالطفل أو القاصر لم يبلغ سن الرشد، كالمريض بعقله المجنون في حاجة إلى وصي، زوجها هو الوصي عليها، يمتلك جسدها وعقلها تحت اسم الشرع، يضربها إن عصت الأوامر تحت اسم التأديب، يتزوج عليها ثلاث نساء أخريات، يطلق عليها الرصاص إذا لمحها مع رجل آخر، ويخرج من ساحة المحكمة بريئا شهما مدافعا عن الشرف.
كلمة «الشرف» ترن في أذني غريبة، ينتفض جسدي بالغضب، كان الشرف قاصرا على سلوك المرأة، يرتبط بجزء معين في نصفها الأسفل، لم يكن الشرف يتعلق بسلوك الرجل، لا يعيب الرجل إلا جيبه، إذا امتلأ جيب الرجل بالفلوس أصبح شريفا وإن مارس الجنس مع عدد من النساء داخل الزواج أو خارجه.
صوت النسوة والرجال من عائلة أمي وأبي يرتفع في نفس واحد: ما له الدكتور رشاد؟ عيبه إيه؟ الرجل ما يعيبه إلا جيبه! عنده عمارة وعزبة وعيادة وعربية شيفروليه، ناقصه إيه؟ ناقصه إيه الدكتور رشاد؟
السؤال يدور في رأسي وهو جالس أمامي في غرفة الصالون، أبي منشغل بالحديث في السياسة، تضاعف حماسه لجمال عبد الناصر بعد تأميم قناة السويس عام 1956م، كاد يتطوع في المقاومة الشعبية ضد الاعتداء الثلاثي. - من أول ما قامت الثورة ومن أيام محمد نجيب وأنا أقول إن جمال عبد الناصر هو القائد الفعلي للثورة ... ولا إيه رأيك يا رشاد بيه؟ - أنا معك يا سعداوي بيه، لكن عبد الناصر رايح شمال خالص ناحية الاتحاد السوفييتي وده فيه خطورة على بلدنا يا سعداوي بيه ... - خطورة إيه يا رشاد بيه؟ - الشيوعية يا سعداوي بيه. - عبد الناصر لا يمكن يكون شيوعي يا رشاد بيه، ده راجل مسلم ومؤمن بالله والرسول، لكن أمريكا رفضت تمويل السد العالي وأصبح تأميم القناة وتأميم الشركات الأجنبية شيئا ضروريا، يعني إحنا ما صدقنا خلصنا من الاستعمار الإنجليزي لازم نقع في الاستعمار الأمريكي يا رشاد بيه؟ - أنا ضد الاستعمار الأمريكي يا سعداوي بيه، لكن أنا كمان ضد الاستعمار الروسي. - جمال عبد الناصر راجل وطني رفض كل الأحلاف يا رشاد بيه، ولا يمكن يقع تحت الاستعمار الروسي أو غيره.
في غرفة الصالون كان يدور الحوار بين أبي والدكتور رشاد، كنا في صيف عام 1957م، في بيتنا في حي العمرانية، أجلس في مقعدي صامتة أتابع الحوار، لا أحد منهما يسألني الرأي، الحديث يدور بعيدا عني، كأنما أنا غير موجودة، لماذا يتلاشى وجود المرأة لمجرد وجود الزوج؟ لم يكن الدكتور رشاد زوجي بعد، كان عريسا يتقدم لأبي، يعني مجرد مشروع زوج فقط، لكنه استطاع أن يلغي وجودي، وأبي أيضا الذي دربني على الجدل والنقاش لم يحرك رأسه ناحيتي ليسألني رأيي في جمال عبد الناصر أو الدكتور رشاد نفسه!
ناقصه إيه الدكتور يا نوال؟ سألني أبي بعد أن انتهت الزيارة، لم أكن أملك الإجابة، رأيته جالسا في غرفة الصالون داخل بدلته اللامعة، الدبوس الذهبي في الكرافتة يلمع، أسنانه تلمع، شعره الأسود يلمع، الخاتم في إصبعه يلمع، كل شيء فيه يلمع إلا العينين؛ لم يكن يجذبني شيء في الكائنات الحية إلا بريق العينين، ليس أي بريق، فالقط المتوحش أو النمر المفترس في عينه بريق، كنت أبحث عن بريق خاص لا أراه إلا في عيني الإنسان، لماذا ضاع هذا البريق من عيني الدكتور رشاد؟! لم أعرف، كل ما عرفت أن في عينيه نظرة مليئة بالقسوة وإن كان صوته رقيقا مليئا بالحنان.
لم يغفر لي الدكتور رشاد أنني رفضته، كالجرح الغائر في جسده لم يلتئم، كانت البنات والنساء يتمنينه، فلماذا لم يرغب إلا فيمن ترفضه؟ أهي الرجولة الهشة تتهاوى عند أي هزة؟ أو الغرور الذكري ينقلب إلى النقيض عند أي تهديد؟!
ولم يؤنبني أحد على ضياع هذا العريس كما فعلوا مع العريس الأول حين كنت في العاشرة من العمر، صمت الجميع في وجوم، إلا طنط نعمات قالت بصوت كنعيق البوم: «منفوخة على إيه يا ست نوال ... ده جواز المطلقة زي أكل الطبيخ البايت! ويا ريت مطلقة وبس لكن كمان مخلفة وعندك بنت!»
رنت في أذني كلمة «بنت» كطلقة الرصاص، كتلة متجمدة من الحزن لها كثافة الرصاص، متراكمة في جسد طنط نعمات منذ ولدت من أمها حتى تزوجت بلا حب، وطلقت بلا سبب، وماتت قبل أن تموت، خرجت الكلمة من فمها متجمدة كالبصمة، رمادية بلون النني في عينيها، اخترقت رأسي وعادت بذاكرتي إلى الوراء، حين ولدت بنتا وليس ولدا مثل أخي، حين دب الصمت في الكون ولم تنطلق الزغاريد من أفواه النسوة، أيكون مجيئي إلى الحياة سببا لحزن أهلي؟!
هذا السؤال لم يكف في طفولتي عن الدق في رأسي، مثل المطرقة فوق رأس مسمار، لماذا يكون وجودي في الحياة سببا لحزن أهلي؟ كنت أحب أهلي رغم حزنهم على وجودي، يدور في رأسي سؤال آخر: كيف يتحول وجودي من سبب للحزن إلى سبب للفرح؟! كيف أنتزع البسمة أو الضحكة من تلك الأفواه المزمومة؟! كان الفرح الوحيد بالبنت يوم يأتيها العريس، تنفرج الأسارير وتنطلق الزغاريد، كان فرحي الوحيد حين أنجح في الدراسة، في العلم أو الطب أو الأدب، هذه المجالات كانوا يسمونها رجولية، وما هي المجالات الأنثوية عندهم؟! دعك المراحيض أو مسح البلاط وتقشير البصل والثوم.
أصبح السؤال يدور في رأسي منذ الطفولة: كيف تتغير قلوبهم فيدخلها الفرح بنجاحي في الطب أو الأدب أكثر من نجاحي في دعك المراحيض؟ كيف تتغير أحلام أمي وأبي فيريانني داخل معطف الأطباء أو الأدباء وليس داخل فستان الزفاف.
كان الطريق طويلا شاقا مليئا بالحفر والانتكاسات، قد يفرح أبي وأمي بنجاحي في الطب، لكن سرعان ما يتبدد الفرح حين لا أخضع لإرادتهما فيما يخص حياتي، أو حين لا أنجح في ولادة الذكر وإنما هي أنثى، بنت، بنت، بنت! الكلمة بأصواتهم خاصة صوت طنط نعمات يملؤني بالغضب، بالتحدي، سوف تكون هذه البنت رغم أنوفهم سببا للفرح، سأفرح بابنتي وإن حزنوا، سأطلق زغرودة طويلة ممدودة في الزمان حتى ألف عام، ممدودة في المكان حتى السماء السابعة، حتى آذان الآلهة أو الشياطين إذا كانت لهم آذان، سأعلن في الكون أنني ولدت بنتا وأنني أتحدى بها العالم، أغير بها العالم ليفرح بالبنت كما يفرح بالولد وربما أكثر وأكثر.
في قمة الربيع عام 1956م، في اليوم الثامن من شهر أبريل جاءت ابنتي «منى» إلى الوجود، آلام الولادة تبددت لحظة الولادة، كأنما هي آلام وهمية مفروضة على النساء منذ نزول الآية: «تلدين في الأسى والألم ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.»
في المدرسة الابتدائية في منوف قرأت هذه الآية في «الإنجيل»، قال أبي إن الإنجيل كتاب الله مثل التوراة أنزلهما الله هدى ونورا للناس يؤمن بهما المسلمون كالقرآن، لم يكن عقلي الطفولي قادرا على هذا الإيمان، تتكور الآية في حلقي كالغصة: «تلدين في الأسى والألم ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.» لم أكن اعرف ماذا يعني الله بعبارة «ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.» تصورت أن المرأة إذا اشتاقت لزوجها فهو يسيطر عليها، قلت لنفسي: لن أتزوج أبدا، وإن تزوجت فلن أشتاق لزوجي، وإن اشتقت فلن يسود علي.
تفجر في كياني لحظة الولادة شلال عجيب من الفرح، شلال عجيب من الأحاسيس اسمه الأمومة، قبل أن تأتي ابنتي إلى الوجود لم أعرف ما معنى الأمومة، في أحلامي لم أر نفسي أما تحمل على كتفها طفلا، أو ترضعه من ثديها، كنت أحمل سلاحا لتحرير الوطن، أو مشرطا لتشريح الجسد، أو قلما أكتب به القصص، لحظة الولادة تغير جسدي، تفجر منه الشلال المتراكم في التاريخ، المخزون في خلايا الجسد والعقل والروح، التحم ثلاثتهم في شيء واحد اسمه الأمومة ، أصبح الجسد والعقل والروح كيانا واحدا صلبا هو الأم، بين ذراعي الأم كانت الطفلة المولودة أشبه بالمعجزة، هذه القدرة على تكرار نفسي داخل جسد آخر له ملامحي، وشكل أصابعي، والمقلتان تشعان الضوء كإشراقة الشمس، وهذا الاكتشاف الجديد كالنهر المتدفق باللبن الدافئ، يسري من جسدي في طفولتي، أنا وهي كيان واحد، أفتح عيني وأصحو فوق صدرها كالشاطئ الوحيد في البحر الواسع، النبض في صدرها يدق مع النبض في صدري، تمديدها الصغيرة تمسك يدي، عيناها عسليتان بلون عيني أمي، تتطلعان نحوي باندهاش بفرحة اكتشاف الأم، أصابعها الخمسة الصغيرة تلتف حول يدي كما التفت أصابعي الخمسة حول يد أمي وأنا أرقد بجوارها ليلة مولدي.
أستعيد اليوم وجه طفلتي حين كانت تضحك، كم كان عمرها حين سمعتها تضحك لأول مرة؟ كانت لها ضحكة مميزة عن كل الأطفال في العالم، ترن في البيت تتجاوز الجدران إلى الشارع إلى الكون، أسمعها وأنا أمشي في الشارع، أو واقفة في غرفة العمليات بالمستشفى، أو جالسة أكتب في مكتبي، أو راكبة القطار أو الترام أو الأتوبيس، لها رنين عجيب في أذني، كالماء المقطر يهتز داخل إبريق من الفضة، أسمعها وأنا غارقة في النوم تبدو كالحقيقة، وأسمعها وأنا صاحية يقظة تبدو كالحلم، أحملها فوق صدري وأطعمها كما كانت أمي تحملني فوق صدرها وتطعمني، رائحة طفلتي في أنفي كأنما هي رائحة أمي في طفولتي، واللبن الدافئ يسري داخل عروقي كالدم.
في عيد ميلادي يأتيني صوتها عبر أسلاك التليفون، يجتاز البحر الأبيض المتوسط وقارة أوروبا والمحيط الأطلسي والشاطئ الشرقي الجنوبي لأمريكا الشمالية حتى مدينة دير هام، يخترق صوتها المساحات والمسافات، لا توقفه أرض ولا بحر ولا سماء، يأتيني وأنا نائمة في السرير عند طلوع الفجر، يسري في أذني مثل أول شعاع للشمس «كل سنة وانتي طيبة يا ماما.» لا يمكن أن تنساه، في كل عام تذكرني به، يأتيني صوتها حيث أكون، في المنفى حيث تلقي بي الرياح خارج الوطن، يرن جرس التليفون بجوار سريري، أرفع السماعة: «كل سنة وانتي طيبة يا ماما .» يأتيني صوتها كأنما في الحلم، كنت أنسى دائما يوم مولدي، لم أحتفل أبدا بعيد ميلادي، النهاردة إيه يا منى؟ تضحك ابنتي ضحكتها المميزة تسري عبر الأسلاك إلى أذني، تمشي كالدم الدافئ إلى جسدي النائم: «النهاردة عيد ميلادك يا ماما.» أصحو فجأة كأنما من غيبوبة «مش معقول يا منى دي الأيام بتجري بسرعة أوي.» يعود إلى ذاكرتي صوت جدتي الريفية وأنا طفلة: «اللي متغطي بالأيام عريان.» أردد العبارة بصوت جدتي، تضحك ابنتي كما كانت تضحك وهي طفلة، أستعيد طفولتي، يتدفق الحماس إلى عقلي الناعس، أقفز من السرير كما كنت أفعل وأنا في السابعة من العمر، أفتح النوافذ على آخرها، أستقبل الشمس والهواء، هذا عام جديد يضاف إلى عمري الطويل، هذه ابنتي تذكرني رغم البعد، تشدني إلى الوطن، تحوطني كذراعي أمي، صوتها يأتيني وإن صمتت كل الأصوات، إن نسيني الجميع لا تنساني، تفسح لي مكانا دائما في سريرها، في مدخل بيتها، في قلبها أجدني وإن امتلأت المساحات في قلبها، إن تعبت أو مرضت أجدها بجواري، تمتد ذراعاها نحوي تحملني فوق صدرها كما كنت أحملها فوق صدري، كبرت ابنتي وأصبحت هي الكاتبة المعروفة «منى حلمي»، يخفق قلبي حين أرى اسمها مطبوعا فوق الورق، أصابعها تلتف حول القلم تشبه أصابعي، حروفها قوية بارزة محفورة فوق وجه القمر.
في طفولتي تصورت أن قلب أبي أكبر من قلب أمي، كان يتسع قلبه لحب الله والوطن، لم أسمع أمي تتحدث عن الله أو الوطن، تصورت أن الأبوة تعلو على الأمومة كما يعلو الرجل على المرأة أو يسود عليها، ثم اكتشفت أن قلب الأم أكبر من قلب الأب، لا شيء في الكون أكبر من قلب الأم، لا تشترط الأم الطاعة مقابل الحب، الأمومة راسخة في التاريخ قبل أن يعرف الأب أطفاله، لم تنشأ الأبوة إلا بنشوء النظام الطبقي الأبوي وفرض قانون الزواج على المرأة، الأمومة كالشمس والمطر والزرع، ظاهرة من ظواهر الطبيعة من غير حاجة إلى قوانين.
تعلمت الحب بلا شروط من خلال أمومتي، ثم امتدت الأمومة خارج جدران البيت وروابط الدم، أصبحت أحب الحب بصرف النظر عن صلة الرحم، بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو الطبقة أو الدين، عشت قصصا متعددة من الحب وأصبح لي في كل شبر من العالم قصة حب.
بعد مولد ابنتي في ربيع 1956م امتد الفرح ليشمل الوطن كله، في 8 يونيو 1956م تم إعلان الدستور الجديد وإلغاء الأحكام العرفية، والإفراج عن المعتقلين في 2 يوليو 1956م، ولم يلبث أن دوى الصوت في الراديو يعلن تأميم قناة السويس، إنه صوت جمال عبد الناصر، واليوم هو 23 يوليو 1956م عيد الثورة الرابع، والشهر الرابع من عمر ابنتي، والأفراح في كل بيت، والسجون انفتحت أبوابها وخرج كل المسجونين السياسيين ومنهم الشيوعيين، خرج أسعد شقيق صفية التي أصبحت الدكتورة صفية في مستشفى الأطفال، وتزوجت مدير المستشفى ، خرج من السجن رفاعة خطيب سامية، حضرت فرحهما، واشتغل الاثنان في صيدلية بشارع قصر العيني، تزوجت بطة أحد الأساتذة وشاركته عيادته الكبيرة في ميدان الدقي، أما أنا فقد اخترت طريقا آخر، كنت أبحث عن شيء جديد، لا أريد أن أكون مثل الطبيبات النساء، يسعين إلى العمل في القاهرة في حضن الأهل والأسرة، كنت أبحث عن عمل يأخذني بعيدا في أحضان الريف، أكنت أشتاق إلى قريتي أو هي ابنتي أعادتني إلى طفولتي؟! أم أنني مللت القاهرة بكل ما فيها؟!
منذ جاءت ابنتي للوجود دار سؤال لم يخطر أبدا لعقلي: هذه الابنة! أهي السبب الأول لوجودي؟ أي الهدف الأول من الحب والزواج والطلاق وكل شيء؟ لا شيء خارج كيان هذه الابنة يرتبط بوجودي، مثل ذكر النحل ينتهي دوره بانتهاء الإخصاب، ولا يبقى للمرأة منه إلا الأسى والألم.
أهي الأمومة في قوتها الكاسحة تحطم كل شيء إلا نفسها وموضوع حبها؟! كان الرجل البدائي يقتل أطفاله أو يأكلهم، لم يمنعه إلا الأم، كانت تقتل الأب قبل أن يأكل أطفاله، لولا هذه الأمومة القاتلة في حبها لانقرضت الحياة فوق الأرض واندثرت في التاريخ فصيلة الإنسان.
الفصل الثالث
طبيبة القرية
كان يوما دافئا من أيام سبتمبر 1956م، مدينة القاهرة تركتها وراء ظهري، ليست هي الأرض التي خرجت منها، هذه الشوارع الأسفلت لا تنبت فيها زهرة، إن نبتت تدوسها الأحذية، الكعوب السميكة المربعة أو العجلات الحديد، خطوتي فوق الأرض واسعة قوية، كخطوة جدتي الفلاحة، في أعماقي حنين لرائحة الزروع وخبيز الفرن، ابنتي أحملها فوق صدري، عمرها ستة شهور، أغطيها بشال لونه وردي، اشتغلته بيدي بخيوط من الحرير، دقات قلبها تنبض مع الدقات تحت ضلوعي، أحوطها بذراعي أخفيها عن العيون.
أجري لألحق بالقطار كما كنت وأنا طفلة، أحمل قلب الطفلة داخل جسد المرأة، أفرح بركوب القطار والجلوس إلى جوار النافذة، التلاميذ والتلميذات يجرون نحو القطار يتصايحون بالفرح، صورة جمال عبد الناصر تعلو جدار المحطة، بطل تأميم القناة وأحداث أخرى كانت تتوالى منذ خطابه الشهير في 17 مارس 1953م، كنت طالبة بكلية الطب، والطلبة يتجمعون حول الراديو في الفناء ويصفقون، صوت جمال عبد الناصر يدوي: «نحن نرفض الأحلاف العسكرية الأجنبية تحت اسم الدفاع المشترك، إن الدفاع عن الشرق الأوسط يهم دول المنطقة أكثر من غيرهم، لن يستطيع شعب رازح تحت نير الاستعمار أن يدافع عن استمرار هذا الاستعمار في وطنه بحجة تخوفه من اعتداء آخر قد يتعرض له هذه الشعب وقد لا يتعرض، إننا نريد جلاء ناجزا غير مشروط.»
لم يتم الجلاء إلا بعد ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر من هذا الخطاب، وفي 17 يونيو 1956م أقلعت الباخرة «إيڨان جيب» من قناة السويس حاملة آخر الجنود الإنجليز، انتهى الاحتلال البريطاني الذي دام اثنين وسبعين عاما، ليعود من جديد بعد أربعة شهور فقط، حين وقع الاعتداء الثلاثي على مصر.
في المقعد أمامي جلست تلميذة في العاشرة من عمرها تقريبا، حقيبة كتبها فوق ركبتها، مريلتها من الدمور بالمربعات الصغيرة الزرقاء، تشبه مريلتي في المدرسة الابتدائية، أول رحلة لي بالقطار من منوف إلى القاهرة منذ أربعة عشر عاما، كنت طفلة تهرب من القرية إلى المدينة، اليوم أنا شابة تهرب من المدينة إلى القرية، في الرحلة الأولى لم أكن أملك إلا قلمي الرصاص وكشكولي الأزرق، اليوم أملك شهادة الطب ولقب دكتورة.
تخرجنا أطباء دون أن نعطي حقنة واحدة في العضل أو الوريد، دربت نفسي بنفسي في سنة الامتياز، اختلست بعض الجراحات الصغيرة، أجريتها في غيبة الأستاذ والنائب، أولها عملية إجهاض وآخرها عملية استئصال الزائدة الدودية.
كنت أسمع أبي يقول: الجامعة ليس فيها تعليم مثل وزارة المعارف (المقارف)، إذا تعلم الناس فيها فلن يبقى حاكم على عرشه، كلية الحربية لا تخرج إلا الجهلاء، إن أصبحوا هم الوزراء ماذا يكون الحال؟! تضحك أمي وتسأله: يعني لو عملوك وزير التعليم حتعمل إيه يا سيد؟ كلمة سيد لم تخرج من فم أمي حتى أنجبت منه طفلها الخامس، منذ تزوج أبي لا تتحدث عنه إلا بضمير الغائب «هو»، أنجبت منه أطفالها التسعة دون أن تخلع ملابسها أمامه، أنا أيضا لم أخلع ملابسي أمام زوجي الأول .
ضحكت على نفسي وأنا جالسة في القطار، انتبهت التلميذة الجالسة أمامي، ضحكت هي الأخرى، عيناها السوداوان تلمعان بالبريق، يشبه البريق الذي كنت أراه في عيني وأنا طفلة، حقيبة يدي داخلها مرآة صغيرة مستطيلة، اختلست إليها نظرة سريعة، لمحت البريق فابتسمت لنفسي، كان القطار يجري بعيدا عن القاهرة، كالسجين يهرب من وراء القضبان، البيوت تتراجع إلى الوراء سوداء بالدخان، الكون ينفتح على الأفق، زرقة السماء والحقول الخضراء تتسع مع اتساع دلتا النيل.
الحقيبة الكبيرة إلى جواري فوق المقعد، نصفها ملابس ونصفها كتب، مؤلفات جديدة في الطب والفلسفة، روايات بالعربية والإنجليزية، ومفكرتي السرية، لم أكن أفتح مفكرتي إلا بعد أن ينام الجميع، في ضوء القمر أكتب أخشى أن أضيء النور، لا أحد يراني إلا عين الله التي لا تنام.
اهتز القطار منتفضا فوق العجلات، أطبقت ذراعي حول ابنتي، أيخرج عن القضبان وينقلب؟! الخوف من عقاب الله مدفون في أعماقي، منذ الطفولة أخاف منه!
دخل القطار محطة بنها، استيقظت ابنتي من النوم، ابتسمت امتلأت عيناها بالضوء، منذ ولدت ابنتي تمتلئ عيناها بالفرح حين تراني، لم يفرح أحد بوجودي في الحياة مثل ابنتي، عيناها عسليتان بلون عيني أمي، ترمقني أحيانا بنظرة تشبه أمي، يختلط علي الأمر، أظنها أمي عادت طفلة، تمتد يدها لتطبق على يدي كما كانت أمي بأصابعها الخمسة تطبق على يدي.
لم يكن عقلي يلتقط هذه اللحظة من قبل، هذه اللمسة الحميمة بين الأم والابنة، كان عقلي محشورا بأشياء ثقيلة، مشغولا عن هذه اللمسات الرقيقة بالقضايا الكبرى.
كيف خلت مفكرتي من أحاسيس الأمومة؟! هذا الشلل الطاغي بالفرح، هذه اللمسات بين جسد الأم وجسد الابنة، التيار المتدفق باللذة يسري مع الدم في الأوردة والشرايين، ينقلب الألم سعادة وينقلب الخوف شجاعة، إذا انقلب القطار في هذه اللحظة يمكن أن أطير من النافذة وابنتي بين ذراعي، يمكن أن أفعل أشياء خارقة للعادة.
في مدينة بنها هبطت من القطار، رصيف المحطة كان مزدحما بالناس، موظفون بالبدل الإفرنجية، العجائز منهم بالطرابيش، فلاحون بالجلاليب والطواقي، نساء البندر بالفساتين القصيرة حتى الركبتين، الفلاحات العجائز بالجلاليب السوداء الطويلة، رءوسهن ملفوفة بالطرح، الشابات بالجلاليب الملونة والضفائر الطويلة، ناظر المحطة ينفخ في صفارته، ينتفخ صدغاه بالهواء مثل ناظر محطة منوف، بائع السميط والجبنة الرومي ينادي بصوته القديم، القطار ينفث الدخان الكثيف مطلقا صفارة طويلة حادة، صورة جمال عبد الناصر تغطي الجدران، التلاميذ والتلميذات يتسابقون في الجري فوق الرصيف، يصرخون بالفرح يتقاذفون بالحقائب بالكراريس بالقراطيس.
أتوقف دائما لأرقب هذا المشهد في المحطات، حركة الناس المسافرين، يجرون بالحقائب هنا وهناك، صاعدين أو هابطين، رائحة الدخان تملأ الجو، مع رائحة السميط والجبنة الرومي، مع الكازوزة والصفافير واللهجات من كل نوع، الحركة النشيطة مع الحماس، كالعدوى يدب النشاط في جسدي، أحرك قدمي فوق الأرض بخفة، أجري وسط الناس كمن تسبح في البحر، الحقيبة في يدي والطفلة فوق صدري، يهتز جسدها مع حركة جسدي، تضحك بشهقات الأطفال المتقطعة، عيناها تلمعان بالدهشة: إلى أين تجري أمها بهذا الحماس؟ عيناها تتساءلان، لم تتعلم عنها بعد، العينان تنطقان قبل اللسان، لغة العيون تعجز عنها الكلمات، همست في أذنها بالأغنية: إجري إجري إجري ... وديني أوام وصلني! ضحكت ابنتي وراحت تهز رأسها مع اللحن كما كنت أهز رأسي وأنا في عمرها وأغني: دي دي تيا ... دي دي تيا ...
ركبنا سيارة أجرة من محطة بنها، المسافة بينها وبين قرية طحلة عشرة كيلو مترات، الشوارع في مدينة بنها ترابية مليئة بالحفر والمطبات، يصعد الطريق بنا إلى جسر النيل، السيارة قديمة مكسورة النوافذ، تصطك عجلاتها وأبوابها بعضها ببعض، تعلو وتهبط مع المطبات مثل المرجيحة، تضحك ابنتي وهي تتأرجح فوق صدري، أضحك معها والسائق يشاركنا الضحك، ويقول: العربية دي فيها البركة زي القطط بسبع أرواح، كان عندي حنطور ما شاء الله عليه، والحصان كان زي الحصان، لكن ربنا افتكره، دفنته في التربة مع المرحوم أبويا، وحزنت عليه أكثر من أبويا - الله يرحمه - كان حصان أصيل ابن ناس، ياكل قليل ويشتغل كثير، عشان كده ربنا أخده، ربنا دايما ياخد الحاجات الغالية الأصيلة! - البقية في حياتك يا أسطى وحياة العربية الجديدة. - دي عربية قديمة من أيام سيدنا نوح، لكن ربنا عوضني بيها عن الحصان، وأهي ماشية زي الحصان، مع إنها صفيح في صفيح لا تاكل ولا تشرب ولا تموت، سبحان الله ربنا حط الروح في الصفيح، مش روح واحدة لكن سبع أرواح!
ابنتي ترمق السائق بانتباه، رأسه ملفوف بكوفية بيضاء لها شراشيب حمراء تهتز مع اهتزازات رأسه، تضحك وتمد يدها لتمسك الشراشيب، يداعبها السائق، يشير إلى النيل: شوفي البحر حلو إزاي ما فيش بحر زي ده عندكم في مصر!
الهواء منعش له رائحة الطمي والزرع، دخان القاهرة يتسرب من مسام جسدي وعقلي، حياتي الماضية تتقهقر إلى الوراء ومعها المدينة، كأنما لم تكن لي حياة إلا في هذه البقعة من الأرض، فوق هذا المكان من جسر النيل، في هذه اللحظة الحاضرة الممدودة في الكون إلى ما لا نهاية.
على باب الوحدة تجمع الفلاحون والفلاحات، وانطلقت الزغاريد والأصوات: يا ألف مرحب بالضكطورة! الدنيا نورت من طحلة لكفر طحلة لدجوي والرملة لغاية بنها كمان! دي الضكطورة بتاعتنا، السعداوية بنت السيد بيه، أبوها ربنا يطول عمره أفضاله على الجميع! يا ألف مرحب المجمع نور يا ضكطورة!
كلمة المجمع تعني عندهم الوحدة المجمعة، وهي مجموعة من المباني الجديدة البيضاء، ترقد وسط الزرع مثل حمامات السلام، تشمل الوحدة ثلاثة أقسام: القسم الصحي، القسم الاجتماعي، والقسم التعليمي أو المدرسة.
كان مشروع الوحدات المجمعة الريفية في بدايته عام 1956م، أحد مشاريع الثورة، يشرف عليه في القاهرة جهاز إداري ضخم اسمه المجلس الأعلى للخدمات، يرأسه رجل من أعوان جمال عبد الناصر اسمه محمد فؤاد جلال، يحتل القصر الفخم في شارع قصر العيني، خلف البرلمان، أصبح هذا القصر في عهد أنور السادات مقر هيئة جديدة أطلق عليها اسم مجلس الشورى وباللغة العامية الشورة، الشوربة باللغة الشعبية الساخرة، وتعني اختلاط الحابل بالنابل أو الفوضى في الدولة، تطورت إلى كلمة شعبية أخرى «كوسة» ثم بمية، وتعني الفساد وانتشار الواسطة والرشوة.
لم ألتق بفؤاد جلال إلا مرة واحدة، في الاحتفال الكبير بتعيين أول فوج من الأطباء، كانوا جميعا من الذكور، رفض المجلس الأعلى للخدمات تعيين الطبيبات في الريف.
على المنصة العالية يجلس فؤاد جلال من حوله أعضاء المجلس الأعلى، فوق رأسه صورة جمال عبد الناصر، إطارها ذهبي سميك، الجدار تعلوه الزخارف منقوشة بماء الذهب، مقعد فؤاد جلال يشبه كرسي العرش، في هذا المقعد داخل هذا القصر كان يجلس قبل الثورة رجل فوق رأسه صورة الملك فاروق، بعد موت جمال عبد الناصر جلس رجل آخر فوق رأسه صورة أنور السادات، اليوم يجلس في المقعد نفسه داخل القصر نفسه رجل آخر فوق رأسه صورة حسني مبارك.
داخل الإطار الذهبي السميك تتوالى صور الحكام واحدا وراء الآخر، تعلو الصورة فوق رءوس الرجال، رجلا وراء رجل، تنحني ظهورهم أمام الصورة، يؤدون لها التحية كعبدة الأصنام، يتحدثون بصوت هامس يخشون أن تسمعهم، يرمقونها بطرف عين كأنما تراهم، يقلدون صاحبها في كل شيء، الصوت والحركة، وحبات المسبحة بين أصابعهم كأنما هي أصابعه، إن كانت عنده لازمة معينة أصبحت لهم، لدغة أو تأتأة أو فأفأة، إن قال والله يقولون والله، وإن قال بسم الله يقولون بسم الله، يبدءون كلامهم دائما بهذه الكلمات الأربع: «حسب توجيهات السيد الرئيس.»
من فوق المنصة العالية بدأ فؤاد جلال يخطب: «حسب توجيهات السيد الرئيس بدأنا مشروع الوحدات المجمعة في الريف، في العهد البائد أيها السادة عانى الفلاحون ثالوث الفقر والمرض والجهل، وجاءت الثورة المباركة المجيدة لتنصف المحرومين الكادحين في القرى والنجوع، وهذه هي مهمتنا الأولى في المجلس الأعلى للخدمات، وهي خدمة الشعب!»
وجوه الرجال الجالسين إلى المنصة العالية لا توحي أنهم في خدمة الشعب، وجوههم العسكرية مشدودة كأنما بالأسلاك، البدل من الصوف الإنجليزي مشدودة بالمكواة الحديدية، الأكتاف عريضة محشوة بالقطن، يدسه الترزي في أكتاف الرجال لتصبح أعرض من الحقيقة، وكانت أمي تدسه في أكتاف العريس، نلعب به ونحن أطفال، الدمى نتفرج عليها في مسرح العرائس، أكتافهم المحشوة وأعناقهم المشدودة إلى أعلى بالخيوط.
كانت القاعة مليئة بالأطباء، صدر القرار بتعيينهم في الوحدات المجمعة، ثلاثمائة طبيب أو أكثر، رءوسهم محلوقة، أكتافهم مدكوكة، والكتف تلاصق الكتف.
انتهى فؤاد جلال من إلقاء خطبته، دوت القاعة بالتصفيق، كان التصفيق واجبا وطنيا، يؤكد به الإنسان ولاءه للحكومة، إن لم ترتفع اليدان بهذه الحركة التصفيقية، أو إن جاءت الصفقة فاترة، رمقته العيون بالشك، قد يسقط اسمه الثلاثي من أهل الثقة، ليدخل في قائمة أخرى بوزارة الداخلية.
توالت الخطب من أعضاء المجلس الأعلى، أربعة عن يمين الرئيس وأربعة عن يساره، سقطت جفوني في إغفاءة، عاد إلي كابوس الامتحان يكاد يشبه امتحان الهيئة في الجيش، الكلية الحربية لم تكن لها علاقة بالحرب، يتخرج الضابط أحد الوجهاء، لا تربطه بالحرب إلا البدلة العسكرية، يزهو بها أمام البنات، كتفاه المحشوتان تلمع فوقهما النجوم، جلست في الامتحان أمام رجلين من أعوان فؤاد بيه، الأول اسمه محمد بيه والثاني اسمه مصطفى بيه، متشابهان كالتوءمين، أحدهما أبيض البشرة، والثاني داكن السمرة، نسخة من الكربون. - اليوزباشي السعداوي قريبك يا دكتورة. - ليس في عائلتنا أحد يوزباشي. - وكفر طحلة تبقى فين يا دكتورة؟ - في محافظة القليوبية. - يا دكتورة نوال العمل في الريف صعب وأنت طبيبة ممتازة بلا شك، لكن مهما كنت فأنت من الجنس اللطيف، مش كده يا محمد بيه؟ - طبعا يا مصطفى بيه الدكتورة نوال من الجنس اللطيف.
صوته وهو ينطق كلمة اللطيف رقيق، أكثر رقة من صوت النساء، يده يحركها في الهواء أصغر حجما من يدي، أنامله أكثر نعومة من أناملي، بشرته بيضاء متوردة بالحمرة كوجوه العذراوات، يرتدي قميصا حريريا له أزرار ذهبية لامعة، كنت أرتدي قميصا من تيل المحلة السميك، بشرتي سمراء محروقة بالشمس. - والجنس اللطيف يا محمد بيه لا يمكن يتحمل خشونة الحياة في الريف بدون كهرباء ولا مياه نقية من الحنفية ... مش كده ولا إيه؟ - أيوه كده يا مصطفى بيه، وعندي سؤال لك حالة مستعجلة في نص الليل تقدري تخرجي في الظلمة؟ ما تخافيش الديابة تأكلك في الطرق الزراعية؟ وإذا الكعب العالي انغرز في الطين أو كوم السباخ تعملي إيه يا دكتورة؟
كنت أرتدي حذائي الجلدي الأسود، كعبه مربع سميك يشبه كعوب الكادحين من الرجال، مدقوقة فيه قطعة حديد على شكل حدوة الحصان، يعلوه تراب الشوارع من الجيزة إلى شارع قصر العيني، سمعتهما يضحكان بخلاعة موظفي الحكومة في غيبة رئيسهم، وميوعة الأزواج في غيبة زوجاتهم، أحدهما أبيض له وجه عرائس المولد والثاني داكن السواد رغم الاختلاف في اللون ملامحهما متشابهة، كأنما الحكومة تصكهم كما تصك النقود، يصبح الواحد منهم باهت الملامح كالقرش الممسوح.
أفقت على صوت التصفيق يرج القاعة، انتهت الخطب، وارتفع صوت من فوق المنصة يقول: أهناك أسئلة يا حضرات الدكاترة؟ دب الصمت، لم يتقدم أحد، لم أسمع إلا الأنفاس المكتومة، رأيت يدي ترتفع، صوتي ينطلق وحده يطلب الكلمة، تفضلي يا دكتورة، وجدتني أسير إلى الميكروفون، لمحت العيون ترمقني، تترقب ماذا أقول، الضربات تحت ضلوعي قوية متصاعدة، الغضب المتراكم يتجمع في حلقي، أبتلعه وأتكلم بصوت أبي الهادئ، أعدت إلى ذاكرتهم مبادئ ثورة يوليو، العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، ثم تساءلت: لماذا لم تعين الطبيبات في الوحدات المجمعة مثل الأطباء؟ قلت إنني من قرية اسمها كفر طحلة، تخرج فيها النساء كل يوم قبل الفجر، يشتغلن بالفئوس في الحقول، في صقيع البرد وتحت لهيب الشمس ، عند الغروب يرجعن إلى البيوت، يطبخن ويغسلن ويخبزن، لا يأكلن إلا بعد أن يأكل الجميع، يرتدين في الصيف والشتاء جلبابا واحدا، يمشين في الطرق الزراعية حافيات، وتساءلت: أليست هؤلاء النساء ينتمين إلى الجنس اللطيف؟!
بعد انتهاء الحفل هب فؤاد جلال من فوق المنصة، الموظفون يحيطون به من كل جانب، رآني واقفة وسط الأطباء، أقبل نحوي وصافحني: أعجبتني كلمتك يا دكتورة نوال، سيصدر قرار تعيينك في وحدة طحلة المجمعة، يمكنك الحضور إلى مكتب الدكتور عبده سلام غدا لاستلام القرار.
كالحمامة البيضاء وسط الحقول الخضراء، كان بيتي الجديد الصغير من دورين، يسميه الفلاحون «الفيلا» بحرف الفاء، وليس الڨاء، وليس ذات النقط الثلاث، لا توجد باللغة العربية هذه الحروف اللاتينية، يصعب على المصريين نطقها (مثل الباء الثقيلة)، كان بالوحدة المجمعة ثلاث فيلات (ڨيلات) متشابهات، الأولى قريبة من البوابة يسكنها الاختصاصي الاجتماعي، إلى جوارها الثانية مخصصة لناظر المدرسة، كانت خالية لأنه يسكن في القرية مع أسرته، الڨيلا الثالثة للطبيب، أصبحت هي بيتي، تتكون من صالة الاستقبال ومائدة الطعام والمطبخ في الدور الأول، في الدور الأعلى غرف النوم والحمام، وشرفة تطل على الحقول الممدودة إلى الأفق.
أول يوم دقت بابي امرأة فلاحة فارعة القامة مرفوعة الرأس ذكرتني بجدتي أم أبي، ربطت حمارتها البيضاء أمام البيت، دقت الباب بكفها الكبيرة المحروقة بالشمس، جلبابها الأسود الطويل والرائحة ذاتها، خليط من الزرع والجميز والذرة المشوية وخبيز الفرن، الضحكة نفسها حتى تدمع عيناها السوداوان اللامعتان، وطرف الطرحة السوداء تخفي بها فمها المملوء بالضحك والعبارة بالصوت نفسه: الله اجعله خير يا رب!
اسمها أم إبراهيم، قالت لي حين دخلت من الباب: «يا ضكطورة نوال احنا قرايب من ناحية المرحومة ستك الحاجة مبروكة وأنا وحيدة، العيال كبروا وتركوا الدار، والراجل راح مطرح ما راح، خديني عندك في البيت أخدمك إنتي والمحروسة بنتك بعيني الاتنين.»
أعطيتها لقب «دادة أم إبراهيم»، ومفاتيح البيت والدولاب وابنتي الطفلة، وماهيتي الشهرية، ومفكرتي السرية، علمتها القراءة والكتابة، أصبح عندها ساعة يد كبيرة ونوتة صغيرة تدون فيها المصاريف والمواعيد، اشتريت لها جلابيب ملونة، ومناديل بيضاء تربط بها شعرها الأسود الطويل، تضفره على شكل ضفيرة واحدة، تهتز وراء ظهرها المرفوع حين تمشي، خطوتها فوق الأرض قوية، تدب بقدمها الكبيرة وصوتها يملأ البيت بالفرح: نهارنا أبيض يا ضكطورة زي الشهد!
روائح الفل والياسمين تملأ الجو، زرعت ثلاث شجرات في الحديقة الصغيرة أمام البيت، واحدة فل، والثانية ياسمين، والثالثة شجرة اليوجانفيليا الحمراء، دم الغزال، كنت أنام في غرفة النوم الكبيرة إلى جواري تنام ابنتي في سريرها الصغير الهزاز، في الغرفة الثانية تنام أم إبراهيم، تصحو مع زقزقة العصافير عند الفجر، تسخن لي صفيحة الماء في الحمام، تهبط إلى المطبخ، تجهز الفطور والشاي، حين يلتصق العقربان داخل قرص الساعة فوق الرقم سبعة، تهتف من الدور الأول، صوتها يصلني في الدور الأعلى وأنا غارقة في النوم: «الساعة سبعة يا دكتورة، صباح الخير، النهاردة الشمس طالعة والزرع فتح، يا حلاوة النورات يا دكتورة.» تفتح نوافذ البيت، تفتح الشرفة المطلة على المزارع، تدخل الشمس حتى السرير، وأنا نائمة، تفتح النافذة في الصالة المطلة على مباني الوحدة، تهتف بصوتها المرح: «صلاة النبي أحسن الطوابير مالية المجمع، العيانين واقفين على باب الوحدة من الفجر، قومي يا ضكطورة، الشامي جاهز وسخنت لك فطيرة في الفرن!»
أخرج من البيت في الثامنة صباحا، أخترق الحديقة والمزرعة الخاصة بالوحدة، أسير تحت التكعيبة إلى العيادة الخارجية، كل شيء في غرفة الكشف الطبي جاهز، التمورجي عبد الفتاح واقف كالألف عند الباب داخل المريلة البيضاء الطويلة، جسمه لا يكف عن الحركة، كالسهم ينطلق، كالسهم يعود، كل شيء تحت يديه يتحول من الفوضى إلى نظام، طوابير المرضى والمريضات تصبح خطوطا مستقيمة، قد يصل عددهم إلى مائة أو أكثر، النظام يجعل كل شيء ممكنا، أنتهي من العيادة الخارجية في ثلاث أو أربع ساعات، أصعد إلى الدور العلوي حيث القسم الداخلي وغرفة العمليات، دربت الممرضات الثلاث على العمل، أكثرهن نشاطا كان اسمها «زينات»، تخرجت من مدرسة التمريض الملحقة بمستشفى قصر العيني، أعطيتها لقب الحكيمة، كانت تسكن مع الممرضات في القسم الخاص المواجه للقسم الداخلي، امرأة في الثلاثين من عمرها، لم تتزوج، متوسطة القامة، بيضاء البشرة، عيناها خضراوان مستديران تشبهان عيون القطط، تلمعان في الليل، تمر على المرضى، في يدها كشاف كهربي صغير، حول شعرها الملفوف «الكاب» الأبيض، فوق ثوبها القصير حتى الركبتين المريلة البيضاء المربوطة حول وسطها بحزام رفيع.
كان معي في الوحدة عدد من الموظفين الرجال، دربت أحدهم على أعمال الصيدلية وقراءة الروشتة وصرف الدواء، دربت موظفا آخر على أعمال الثقافة الصحية، والمرور على البيوت في القرى التابعة للوحدة، يشرح لهم وسائل الوقاية من مرض البلهارسيا والإنكلتوستوما أو الملاريا، الأمراض المتوطنة والأمراض المعوية التي تصيب الأطفال، يسكن في القرية مع زوجته وطفلين، تخرج من المعهد الصحي، كان قصير القامة ممتلئ الجسم يرتدي بدلة وكرافتة مثل الموظفين في الحكومة.
يوم السبت كان يوم العمليات الجراحية وهو أول يوم في الأسبوع، يوم الخميس كان للمرور على البيوت، وبقية الأيام للعيادة الخارجية، يوم الجمعة هو إجازتي، أتمشى فوق جسر النيل تحت أشعة الشمس، أدفع عربة الأطفال أمامي ذات الكبوت، يطل منها وجه ابنتي، عيناها العسليتان تلمعان بالضوء، بشرتها البيضاء متوردة بالصحة، تضحك بصوت يشبه الزقزقة، تقبض بأصابعها الصغيرة على يدي حين أرفعها من العربة، أحملها عاليا فوق رأسي لترى النيل.
في منتصف الليل سمعت الدق على باب بيتي، كان هو التمورجي عبد الفتاح، واقفا في الظلمة كالسهم الأبيض داخل مريلته الطويلة، رأسه الأصلع يلمع تحت ضوء القمر، يسكن في القرية مع زوجته وأطفاله الثلاثة، يأتي إلى الوحدة عند الفجر، لا يغادرها حتى منتصف الليل، يعرف المرضى واحدا واحدا باسم الأب والجد. - محمود ابن الحاج حسنين من دار أبو هشام جابوه دلوقتي من الكفر حالته متأخرة أوي يا ضكطورة. - عنده إيه يا عبد الفتاح، أنت دلوقتي بقيت أحسن مني في تشخيص الأمراض! - العفو يا ضكطورة، أنا آجي إيه جنب سعادتك، جايز يكون المصران الأعور أو حصوة في الكلية اليمين، عنده مغص شديد أوي وجسمه سخن نار! - افتح أوضة العمليات وجهز كل حاجة إنت والحكيمة زينات وأنا جاية حالا.
بعد دقائق كنت أجتاز الحديقة الصغيرة والمزرعة، جسمي الطويل النحيف يندفع داخل المعطف الأبيض، في يدي كشاف نور على شكل مسدس، أشق به الظلمة، على باب غرفة الكشف رأيت القبيلة من آل أبو هشام، الأم داخل جلبابها الأسود الطويل، رأسها ملفوف بالطرحة السوداء، تمسح عينيها بطرف الطرحة: ربنا يخليكي يا ضكطورة، محمود ابني ماليش غيره هو الوحيد على ست بنات، إلهي ربنا يحط في إيدك البركة، إلى جوارها يقف الأب حسنين داخل قفطان طويل وعمامة كبيرة حول رأسه، من حولهما حشد من العائلة الكبيرة الممدودة من كفر طحلة، يتطلعون نحوي في رهبة كأنما أنا الإله الشافي.
بعد الفحص الطبي أصبحت داخل غرفة العمليات، داخل المريلة المعقمة الطويلة، وجهي اختفى وراء القناع من الشاش، شعرت بالراحة لهذا الاختفاء، في أعماقي شيء من التردد، في الطب لا يكون التشخيص أبدا مائة في المائة، ليس عندي جهاز أشعة، وسائل التشخيص الحديثة غير موجودة، أعتمد فقط على أصابعي، وحواسي الخمس، وحاستي السادسة، مع خيالي الفني، في كلية الطب لم نتعلم الجراحة، في سنة الامتياز دربت نفسي على بعض الجراحات الصغيرة، اختلست من وراء الأستاذ أو النائب عملية فتاق أو إجهاض أو عملية لوز أو مصران أعور في أحسن الحالات، كان المشرط يثبت في يدي دون رعشة، تعودت الإمساك به في سنوات المشرحة، فتح بطن الميت ليس مثل فتح الإنسان الحي، الأحشاء الميتة خالية من الدم مملوءة بالفورمالين، فاقدة الحركة، كنت أقطع فيها بالمشرط دون وجل، وأغور في بطن الجثة الميتة دون أن يهتز لي جفن.
أول مرة فتحت بطن إنسان حي أصابتني الرجفة، لأول مرة تلمس أصابعي الأحشاء المتحركة النابضة بالحياة، الاهتزازة من طرف المشرط تجعل الدم كالنافورة الحمراء، كالموجات الكهربية الصاعقة، لا أعرف من أين تتفجر ومتى تتوقف، لها سرعة أشد من الضوء، وأشد من الأحمر القاني.
أنفاسي كانت تلهث أمام حركة الدم في الجسد الحي، كأنما للدم حياة خاصة مستقلة عن الجسد، مادة أخرى غير جسدية، أشبه بالروح السائلة المتدفقة دون توقف، أمد يدي إليها أمسكها، أوقفها، أسدها عند الفوهة، أقاومها بكل قوتي، وهي تقاومني، صراع بيني وبين هذا الخرطوم المنطلق في وجهي مثل لسان اللهب.
كان الدم هو الروح المقدس عن المصريين القدماء، الحياة سرها يكمن في الدم، هكذا قال أبو قراط، جسد الإنسان يتكون من الدم أساسا، وعناصر أخرى ثانوية كالماء والصفراء والملح، إذا مرض الدم مرض الجسد كله، إذا مات الدم مات الإنسان. - عرق!
إنه صوتي يرن في غرفة العمليات، يشبه صوت أستاذ الجراحة في الكلية، كان اسمه الدكتور أحمد أبو ذكري، تبرز قطرات العرق فوق جبهته العريضة، يرفع وجهه من فوق البطن المفتوح الغارق في الدم، تمتد يد الحكيمة الممسكة بقطعة من الشاش، تمسح عن جبينه العرق قبل أن يتساقط في الجرح. - عرق!
انتفضت الحكيمة زينات الواقفة إلى جواري، أمسكت قطعة من الشاش المعقم، مسحت العرق عن جبهتي، لم تكن لحسن الحظ تسمع الدقات المتصاعدة تحت ضلوعي، كأنما البطن المفتوح أمامي هو بطني أنا، وهذا الدم المراق تحت يدي هو دمي، وهذه الأمعاء التي تنقبض وتنبسط هي أمعائي.
هل كان المصران الغليظ محشوا بالفطير المشلتت والبطة المحشية بالفريك؟! أطعمت الأم ابنها محمود حتى لكمته، كان في زيارة للقرية في إجازة العيد، هو طالب في الأزهر بالقاهرة، عمره عشرون عاما، الوحيد على نصف دستة من البنات، أرقب البالونة في جهاز التخدير، تنقبض وتنبسط مع حركة الرئتين والقلب، أقلد حركة الدكتور أحمد أبو ذكري، أشمخ بأنفي العالي المطل من فوق القناع. - عرق!
صوتي العالي يزعق مع أنفي الشامخ، لا شيء يخفي الرعب إلا الصوت الزاعق والأنف الشامخ، أيمكن أن تتوقف هذه البالونة عن الحركة؟! لماذا لم أرسله مع أمه إلى مستشفى بنها المركزي؟ لم يكن في الوحدة سيارة للإسعاف، لا شيء يمكن أن يركبه إلا الحمارة أو الدراجة بدون فرامل، قديمة صدئة يملكها طباخ الوحدة، كنت أستعيرها منه أحيانا لإسعاف الحالات الطارئة في البيوت، أرسلت إلى المجلس الأعلى في القاهرة أطلب سيارة ، لم يرد المجلس الأعلى، أرسل إلي بعد عام كامل سيارة قديمة على شكل «البوكس»، تمشي يوما وتتعطل شهرا، أصبحت الحمارة تجر السيارة، أمام القصر الفاخر في شارع قصر العيني كنت أرى السيارات الفاخرة الطويلة، يركبها كبار الموظفين في المجلس الأعلى، لكل واحد منهم سيارة أو سيارتان، واحدة للعمل العام والثانية للعمل الخاص. - عرق!
البالونة لا تزال تتحرك والحمد لله، تذكرت الله في هذه اللحظة: يا رب أنقذ محمود من الموت، أنت يا رب الذي تحيي وتميت، كل شيء بإرادتك، لماذا أتدخل في إرادتك العليا وأنقذه من الموت؟ كان يمكن أن أرسله إلى مستشفى بنها على ظهر الحمارة؟ إذا مات في الطريق فهي مسئولية وخلعتها على الله.
أصابعي حول المشرط ثابتة تقطع المصران الملتهب، كيف ظل المشرط في يدي ثابتا؟ في أعماقي صوت أمي ينتشلني من الغرق : نوال ترميها في النار ترجع سليمة، نوال أشطر واحدة في الدنيا! تيار من الثقة بالنفس اندفع في عروقي كالروح تدب في الجسد، أمسكت المصران الأعور بين طرفي الملقط، رفعته عاليا لتراه عيون الحكيمة والممرضات، كان متضخما منتفخا يقطر دما، ألقيت به في الجردل مع الفوط والشاش والدم المتجمد.
أفاق محمود من البنج بعد ساعة أو أكثر، أول كلمة نطقها كانت «آه»، رنت في أذني أعذب من لحن الحب الأول، فتح عينيه ورآني إلى جواره، عيناه واستعان «والنني» أزرق أجمل من زرقة السماء، أغمض عينيه فاتحا شفتيه، تصورت أنه يلفظ النفس الأخير، نجحت العملية لكن المريض مات، هكذا كنت أسمع من أساتذة الجراحة. - أمه!
خرجت هذه الكلمة من بين شفتيه المنفرجتين، كلمة «أمه» باللغة الريفية تعني أمي، لا ينادي الإنسان على أمه إلا لحظة الموت، أو لحظة البعث إلى الحياة بعد الموت، يوم القيامة لا يحمل الناس إلا اسم الأم، يندثر اسم الأب في التاريخ مع زوال الدنيا الفانية والنفاق، مهما ارتفع الأب إلى مصاف الإله تظل الأبوة غير مؤكدة وهشة تذروها الريح.
ضحكت الحكيمة زينات وهي تلمس شفتيه الجافتين بقطعة من الشاش المبللة بالماء : عاوز أمك يا محمود؟ أهي واقفة برة على الباب هي وأبوك الحاج حسنين وأخواتك وخالاتك وعماتك وأعمامك وكل أهل الكفر قاعدين في الحوش ومعاهم حميرهم كمان يا سيدي!
مرت أربعون سنة من هذه اللحظة، انفرجت الشفتان الباهتتان عن ابتسامة واهنة، هي أجمل ابتسامة رأيتها في حياتي، لا أنساها هذه الابتسامة، الوجه الشاحب يسري فيه الدم بالتدريج، والشعر الأسود الناعم الغزير، خصلة ساقطة فوق الجبهة البيضاء بلون الشهد، أمه سمراء سوداء العينين، أبوه أشد سمرة، عيناه أشد سوادا، من أين جاءته زرقة العينين والبشرة البيضاء؟! - يمكن يا زينات كان له جد أبيض أو جدة عيونها زرقاء ورث عنها الجينات. - جينات يعني إيه يا دكتورة؟ - حاملات الوراثة في الخلية. - لأ يا دكتورة مش الجينات دي الجنيات، لازم أم محمود كانت جنية من جنيات البحر لافت على واد حليوة أبيض وعيونه زرق!
أطلقت أم محمود زغرودة طويلة حادة اخترقت السحب حتى السماء السابعة، مثلا هذا الصوت لا يصدر إلا عن جنية بنت جنية، امتدت الزغاريد من طحلة إلى كفر طحلة إلى دجوي والرملة حتى مدينة بنها، كان الشفاء من المرض عند الفلاحين والفلاحات كالبعث من الموت، كان الموت كثيرا والشفاء قليلا ينتهز الناس فرصة نهوض أحدهم بعد الرقاد ليفرحوا وتنطلق الزغاريد، أو فرصة موت أحدهم ليحزنوا يلطمون الخدود يشقون الجيوب، الفرح والحزن كلاهما نشاط جمعي، لا يتخلف عنه أحد، يتوزع الحزن والفرح على الجميع، فيخف الحزن أو يشمل الفرح كل البيوت.
مع الزغاريد انطلقت الدعوات من أفواه الرجال والنساء: إلهي يحميكي يا ضكطورة نوال، إلهي يطول عمرك يا رب، إلهي ينصرك على أعدائك دنيا وآخرة. بعد الغروب يجلس الرجال على المصاطب، يشربون الشاي والمعسل، يكركرون بالجوزة ويتسامرون. - الضكطورة بنت بلدنا، ربنا وضع البركة في إيدها، يا سلام يا جدعان، سبحان الله! أهي الضكطورة دي واحدة من الحريم! أي والله صحيح قلنا كده وأكثر من كده كمان، لكن دلوقتي إيه اللي حصل يا جدعان؟ طابور الرجالة على باب أوضة الكشف بقى أطول من طابور النسوان!
يضحكون في هدأة الليل، يكركرون بالضحك مع كركرة الجوزة، تتوهج الشعلة تحت النسمة، تتضاحك النسوة المتربعات في مدخل الدار أو فوق جسر النيل.
ما يدور على ألسنة الناس تنقله إلي دادة أم إبراهيم، لم تكن الكهرباء دخلت هذه القرى، الظلمة في الليل دامسة، في البيت توقد أم إبراهيم الفانوس، أقرأ عليه وأنا في السرير، أصبحت عندي مكتبة، رفوفها من الخشب تصعد حتى السقف، تطل منها الكتب القديمة والجديدة في الطب والفلسفة والأدب والتاريخ والفن، ألتهم الكتاب وراء الكتاب باللغة العربية والإنجليزية، لم تنقطع صداقتي بالزميلات القديمات، أولهن سامية وزوجها الدكتور مصطفى المدير أو نائب المدير، في ميدان الدقي، كانت الدكتورة بطة «كاميليا»، وزوجها الدكتور حمدي الأستاذ بقصر العيني، أصبحت بطة تقود سيارة «بويك»، تأتي بها أحيانا إلى القرية، قد تحمل معها صفية وسامية، قد يأتي معهن أزواجهن، تمتلئ «الفيلا» بالضيوف، لا يكف الأهل والأقارب عن زيارتي من القاهرة والقرية، تتألق أم إبراهيم بالفرح، يتصاعد صوتها من الدور الأول إلى الثاني، تتصاعد معه رائحة الفطير المشلتت، والملوخية بالأرانب أو الحمام المحشي بالفريك.
حين لا يأتينا زوار يصبح البيت هادئا، أحب الهدوء بعد الضجيج، أعشق الدخول إلى سريري، معي كتاب أو رواية جديدة أو قصة أكتبها لإحدى المجلات، أو مفكرتي السرية أدون فيها مذكراتي، قد أحمل ابنتي من سريرها لتنام في حضني، تأتي أم إبراهيم بالطشت المليء بالماء الساخن والملح تدلك قدمي وساقي، تقدم لي الينسون المغلي، المغات، أو السحلب، الأعشاب تلمها من الغيطان، تغليها في الماء على النار، تصبها في كوب الفخار على شكل السلطانية يتصاعد منها البخار.
بعد الغروب في القرية تهبط الظلمة، أخرج لأتمشى على جسر النيل، أشهد قرص الشمس ينحدر في الأفق البعيد، تنعكس صورته في الماء، تتلون السماء، تتجسد السحب بأشكال لا حدود لها، وألوان بلا نهاية، تتغير وتذوب حتى آخر قطرة، يهبط الظلام كالعباءة السوداء تخفي القرية.
أحيانا أرتدي المعطف الأبيض وأمر على البيوت مع الممرضات والحكيمة زينات، نجلس مع الرجال على المصاطب، أو مع النسوة في مدخل الدار، إذا أردت التنكر أرتدي جلابيب الفلاحات، أربط رأسي بمنديل أسود من حوله الطرحة السوداء، أمشي في الأزقة لا يتعرف علي أحد، يواصل الرجال أحاديثهم فوق المصاطب دون أن يقطعوا الحديث أو ينهضوا وقوفا هاتفين: «يا ألف مرحب بالضكطورة، اتفضلي، الدنيا نورت، هات الشاي يا ولد، حصلت لنا البركة.» كنت أحب هذه الجولات الحرة، أملك الطريق، لا يستوقفني أحد، لا يعرفني أحد، أمشي كما يحلو لي المشي، بلا اسم، يداي فارغتان أفتحهما، ذراعان أفردهما عن آخرهما، أعانق بهما جسمي والكون، لحظات الحرية والسعادة، أنسى من أنا وماذا أكون، وأتذكر كل شيء، فأعرف من أنا وماذا اكون، كأنما الذاكرة كالضوء لا نراه إلا في الظلمة.
المدرسة في الوحدة كان لها ناظر اسمه الأستاذ عبد المنعم، أشيب الشعر قصير القامة، يرتدي بدلة إفرنجية وطربوشا، في أيام الإجازات يرتدي الجلباب، فوقه العباءة في الشتاء وكوفية رمادية، يتحدث عن أبي باحترام وإجلال: السيد بيه السعداوي راجل عظيم لو كان فيه عشرة زيه في البلد كان التعليم انصلح.
الاختصاصي الاجتماعي حسب اللائحة كان المسئول الإداري عن الوحدة، اسمه الأستاذ خير الله، له صلعة كبيرة يحوطها شعر أسود خشن على شكل دائرة فوق منتصف رأسه، بشرته تميل إلى الشحوب أو الصفرة، له أنف كبير مقوس، شاربه أسود يمتد فوق شفته العليا، يخفي عينيه وراء نظارة سوداء، كرجال المباحث السرية.
لم تكن الصحف والمجلات تصل إلا بالبريد، متأخرة شهرا أو شهرين، لا أعرف ماذا يدور في العالم إلا راديو صغير بالبطاريات، تقول عنه أم إبراهيم «الراديون» تذكرني بستي الحاجة حين تقول: افتحي الراديون يا ضكطورة عاوزة أسمع أم كلثوم، كانت مثل ستي الحاجة تحب أغنية: مدام تحب بتنكر ليه ده اللي يحب يبان في عينيه.
سألتها كما سألت جدتي وأنا طفلة: هل عرفت الحب؟ رمقتني بعينيها السوداوين الغائرتين تحت جبهة عريضة سمراء حرقتها الشمس: «أيوه يا ضكطورة حبيت زي كل الناس.» كانت واقفة عند باب الشرفة تحمل طفلتي بين ذراعيها، تهدهدها، صوتها المرح يغني مع أم كلثوم، طويلة فارعة القوام مملوءة بالشباب، ذراعاها قويتان ترفعان الطفلة حتى السماء دون عناء، جلبابها الطويل من الكستور المشجر ينسدل فوق جسمها الممشوق حتى القدمين. - حبيتي مين يا دادة أم إبراهيم؟ - حبيت ربنا سبحانه وتعالى وحبيت سيدنا محمد ألف صلاة عليه وحبيت الإمام الشافعي والسيدة زينب وستنا مريم العدرا. - قصدي الحب التاني يا أم إبراهيم. - الحب التاني أنهوه يا ضكطورة؟ - اللي بتغني له أم كلثوم.
توقف جسمها عن الحركة فجأة، عيناها كستهما سحابة، تجاعيد ظهرت فوق جبهتها العريضة، تقلصت الابتسامة فوق شفتيها، شدت منديلها حول رأسها، عقدته ثلاث عقدات عند منتصف الجبين، بدت في الخمسين مع أنها لا تزال في الثلاثين أو الأربعين. - وراني المر يا ضكطورة خمسة وعشرين سنة، خلفت منه الولدين والبنتين، لولا ربنا أخده كنت ضربته بالفاس وخلصت منه. - وراكي المر إزاي يا أم إبراهيم؟ - «كان يضربني كل ليلة، لا يمكن تفوت ليلة من غير ما يضربني بفلقة الحمارة، من غير سبب والله يا ضكطورة، أصل الضرب ده عادة في بلدنا من ليلة الدخلة لازم العريس يضرب عروسته عشان تعرف إن الله فوق وجوزها تحت، وراني المر يا ضكطورة من أول ليلة لآخر ليلة خمسة وعشرين سنة، كنت عيلة صغيرة ألعب مع العيال، بزازي ما طلعوش، والعادة ما جاتنيش، ويا لا هوب مسكوني وجوزوني أبو إبراهيم، وهربت منهم في الجرن، لكن الولية الداية الآرحة مسكتني هي وأمي وخالتي وعمتي، وكتفوني زي الفرخة، وخبوا راسي بالبشكير عشان أبو إبراهيم ياخد وشي، نزف الدم يا ضكطورة وكنت هاموت وبدل الجوازة تبقى جنازة.»
صوتها يذكرني بالمرحومة جدتي، كنت طفلة أجلس إلى جوارها في صحن الدار وهي تنقي الغلة، اليوم أنا الطبيبة في القرية، لا تزال هذه العادة موجودة، ليلة الزفاف تفض بكارة العروس بإصبع الداية أو العريس، يشق بظفره المدبب غشاء البكارة، يتلقى الدم الأحمر فوق البشكير الأبيض، يرفعه عاليا لتراه العيون المجتمعة في الحفل، تنطلق الزغاريد من حلوق النساء، يرفع والد العروس رأسه في زهو، لم يعد له زهو في حياته المرة إلا دم ابنته العذراء، إن لم ينزف الغشاء ليلة الزفاف يضيع شرف الرجل، لا يسترد شرفه إلا بإراقة دم ابنته، منذ نشوء الزواج في التاريخ أصبح لدم المرأة دور ثلاثي تجاه شرف الرجل: (1) إثباته (2) إنكاره (3) استرداده. ليس للرجل دور فيما يخص شرفه، الرجل لا يعيبه إلا جيبه، إذا امتلأ جيبه بالفلوس أصبح شريفا، لا يتعلق شرف الرجل بسلوكه بل بسلوك بناته ونسائه: «يا أم إبراهيم لازم العادات دي تتغير.» - «يا ريت يا ضكطورة يا ما بنات نزفوا الدم ليلة الدخلة وبنت عمي ماتت موت، دفنوها ليلة فرحها، كله من الدايات يا ضكطورة.»
الدايات؟ رنت في أذني الكلمة، أضاءت نقطة ضوء، أيمكن الوصول إلى هؤلاء الدايات، كانت الداية هي الحكيمة في القرية، مثل حلاق الصحة، يقوم بعمل الجراحات الصغيرة، فتح الدمامل والخراريج ، خلع الأسنان، طهارة الأولاد، والداية تقوم بطهارة البنات، كلمة «الطهارة» باللغة العامية تعني «الختان».
في كلية الطب لم ندرس شيئا عن العادات الصحية الضارة المنتشرة في الريف والمدن منها عادة ختان الذكور والإناث، تخرجت طبيبة دون أن أعرف شيئا عن «البظر» أو غشاء البكارة، بدأت أعلم نفسي بنفسي، أحضر مع أم إبراهيم الأفراح والمآتم، أشهد حفلات الزواج، فض غشاء البكارة، ختان الأولاد والبنات، لم تكن الدايات وحلاقو الصحة يرحبون بوجودي، في يوم رأيت حلاق الصحة يعطي حقنة في فخذ امرأة فلاحة دون أن يرفع جلبابها «إزاي تعمل كده يا راجل؟» «أعمل إيه يا ضكطورة أصلها مكسوفة ومش عاوزة وركها يتعرى!» في إحدى عمليات الختان لطفل عمره ثمانية أيام بتر حلاق الصحة رأس القضيب، نزف الطفل، كاد أن يموت لولا أن نقلناه بسرعة إلى الوحدة، تم إيقاف النزيف، بقي بالقسم الداخلي حتى التأم الجرح، لكن القضيب ظل بلا رأس، في إحدى حفلات الزفاف ثقب ظفر العريس مثانة العروس وهو يفض بكارتها، حملوها فوق الحمارة بعد منتصف الليل، أتوا بها إلي وهي بين الحياة والموت.
النزيف الناتج عن ختان البنات كان شائعا، تلوث الجرح شيء طبيعي ، لم يكن لدى الدايات من وسائل تطهير الجروح إلا تراب الفرن.
يوم الخميس كان المرور على البيوت، تخرج فرقة الممرضات مع المثقف الصحي، يتحدثون مع النساء والرجال عن وسائل الوقاية من الأمراض، البلهارسيا والإنكلستوما والملاريا والدرن الرئوي، أضف إليها الأمراض الاجتماعية: ختان الذكور والإناث، فض غشاء البكارة، بدأ حلاقو الصحة والدايات يحاربون فريق الثقافة الصحية، عقدت لهم اجتماعا في الوحدة، بدأت برنامجا من الندوات في القسم الصحي لرفع الوعي لدى الدايات وحلاقي الصحة، كنت كمن ينفخ في قربة مقطوعة، وقالت أم إبراهيم: «ومنين ياكلوا يا ضكطورة إذا ما كانش فيه طهارة ولا أخد وش العرايس؟»
الفصل الرابع
الاعتداء الثلاثي
صوت جمال عبد الناصر يدوي في الراديو: سنقاتل، سنقاتل! كان الاعتداء الثلاثي قد وقع في 29 أكتوبر 1956م، الجيوش الثلاثة ضربتنا من البر والبحر والسماء، إسرائيل وإنجلترا وفرنسا، بدأت المقاومة الشعبية في القاهرة، تطوعت سامية ورفاعة وأسعد شقيق صفية، صوت جمال عبد الناصر في الإذاعة يحث الشعب على القتال، منذ الطفولة أحلم بجبهة الحرب، تلوح لي في النوم كأنما هي الحب، أرتدي بدلة الصاعقة أضرب العدو أحرر الوطن، أهتف بصوت أبي: تحيا مصر حرة!
خلعت معطف الأطباء وارتديت بدلة حرب العصابات، نسيت ما حدث للفدائيين قبل حريق القاهرة، كان ذلك أيام الملك والحكومة الخائنة، اليوم أصبحت الحكومة وطنية، جاءنا من مدينة بنها بعض رجال الجيش، تحولت الوحدة إلى معسكر للتدريب على السلاح، تطوع الممرضون والممرضات، تكونت فرقة الإسعافات الأولية، ارتفع علم مصر فوق مباني الوحدة البيضاء، في الليل أجلس في الشرفة أتطلع إلى النجوم، أطرز في ضوء القمر الحروف فوق بدلة الصاعقة: «سنقاتل حتى النصر»، منذ عشر سنوات في حلوان وقفت في نافذة المدرسة الثانوية، إلى جواري زميلاتي فكرية وفاطمة وصفية، نطرز فوق البادج الكلمتين: «الجلاء بالدماء»، فوق أصابعي أستعيد خدوش السلسلة الحديدية، وضربات المسطرة الحادة، وصوت الناظرة يهددني بالطرد، في قلبي جرح لم يلتئم، وجه الشهيد أحمد المنيسي، وصوت أحمد حلمي يأتيني كأنما من قاع البئر: «تركونا وحدنا نواجه مصيرنا تحت الرصاص وأصبحوا هم الأبطال، أما نحن الذين حملنا السلاح وحاربنا فقد أصبحنا مطاردين مثل المجرمين.»
تراني أم إبراهيم داخل المعسكر فوق كتفي البندقية، تمسح دموعها بطرف طرحتها السوداء: «مالك وماللحرب يا ضكطورة، قطيعة تقطع الحرب واللي جابوها، قلبي انكوى من الحرب تمان سنين، ابني البكر إبراهيم راح فلسطين، كان مع جمال في الفلوجا، كل ليلة أشوفه في المنام، يقولي أنا راجع يامه، تمان سنين يا ضكطورة ما اعرفش إن كان ميت ولا حي!»
في الخامسة والعشرين من عمري لم أفكر في الموت، كان بعيدا عني أبعد من نجوم السماء، لم تكن الحرب في خيالي تعني الموت، حلم الطفولة هو الباقي في ذاكرتي، ورثته عن أبي، ضاعت من مخيلتي الأحداث الأليمة، فجيعة القلب في الحب، يذوب الحزن في جسدي كما تذوب السموم، في أعماقي الطفلة لا تموت، الفتاة الصغيرة العذراء لم يمسها بشر، أصحو في الصباح مشرقة متجددة كالشمس، أغني لطفلتي في سريرها:
طلعت يا محلا نورها شمس الشموسا ... ياللا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسا.
تضحك ابنتي تكركر بالضحك، أحوطها بذراعي، بدأت أعطيها لبن الجاموسة الطازج المخفف بالماء، تحلبه عمتي فاطمة في كفر طحلة، ترسله إلي فوق الحمارة مع الزبدة والقشدة والجبنة القريش، لم تكن طفلتي تأكل إلا عصيدة القمح، الأرز المسحوق المطبوخ على النار مع اللبن المخفف بالماء، نصف صفار البيضة المدهوك بقطعة جبن، مع قليل من عصير العنب أو البرتقال، تجلس في كرسيها العالي إلى المائدة أمامها حاجز يمنعها من السقوط، كرات حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء، تحركها بأصابعها الطفولية، تتصادم الكرات بصوت الموسيقى، تهز رأسها مع اللحن وتغني: دي دي تيا ... دي دي تيا ...
في الدور الأرضي أسمع صوت أم إبراهيم تدندن لنفسها بالموال القديم:
في البر لم فتكم في البحر فتوني، بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني ...
يتصاعد صوتها العذب مع نكهة الشاي والفطيرة الساخنة في الفرن، تعود إلي رائحة أمي وصوتها يغني وأنا طفلة. - صباح الخير يا ضكطورة، الفطور جاهز ع السفرة.
أصبحت دادة أم إبراهيم جزءا من أسرتي الصغيرة، تهدهدني في السرير، تدللني، تغمرني بالحب، تعوضني عن الأم الغائبة والحب المفقود، تتربع فوق الشلتة بجوار السرير، تحكي لي قصتها من يوم ولدتها أمها، وقصة أمها وجدتها ونساء طحلة وكفر طحلة، قبل أن تنام تطل على ابنتي في سريرها، تحكم إغلاق النوافذ والأبواب، تأتيني إلى سريري لتحكم من حولي الغطاء، تمسك قدمي اليمنى تدلكها بين يديها الكبيرتين القويتين، ثم القدم اليسرى، وتعود إلى القدم اليمنى، حتى يذوب التعب المتراكم طوال السنين. - يا ضكطورة طول النهار واقفة على رجليكي في أوضة الكشف، واللي زاد علينا كمان المعسكر، إلهي يعينك وينصرك على أعدائك وأولهم الراجل اللي اسمه «خير الله»، الرجل ده كله شر، ولازم يكون اسمه شر الله! وهو اللي كان لازم يشيل السلاح ويروح الحرب مش يقعد هنا زي المره!
كلمة «المره» خرقت أذني بصوتها الحاد ، تعني باللغة الدارجة «المرأة»، أكبر إهانة للرجل المحترم أو غير المحترم أن يقال له «أنت مره»، كيف نطقت أم إبراهيم بهذه الكلمة؟ ألا ترى أني امرأة وهي أيضا امرأة وهذه الإهانة تشملني وتشملها؟ - سامحيني يا ضكطورة إلهي يشل لساني إن نطقت الكلمة دي تاني! أصل لساني واخد على كلام الفلاحين الزفر، لكن المره ما لها يا ضكطورة، فيه مره بعشرين راجل من زي اللي ما يتسماش خير الله!
أصبح المعسكر في الوحدة خلية من النحل، الشباب من القرى الأربع تسابقوا للتدريب على السلاح، الفتيات دخلن فريق الإسعافات الأولية، لم تقبل على حمل السلاح إلا الحكيمة زينات، كانت تتدرب معي على الرماية، أحد المدربين ضابط في الجيش ينادونه «اليوزباشي علاء»، أبيض البشرة طويل يميل إلى البدانة عريض الكتفين، تلمع فوقهما النجوم العسكرية، يأتي كل يوم داخل عربة جيب، شاربه أسود كثيف، عيناه زرقاوان ضيقتان تنغلقان حين يضحك، يقفز لحم وجهه ليصبح مستديرا كوجوه الأطفال، تتلاشى العينان إلا من خطين رفيعين تحت الحاجبين الكثيفين، صوته يخرج من الأنف، تشوبه رنة استعلاء، كبرياء الطبقة الجديدة مع التهاب الجيوب الأنفية. - يا دكتورة الشعب فقير وجاهل لو مسك السلاح في إيده أول