كاد الأمل ينقطع من بقاء النصرانية في إسبانية، فاتحد ملوك النصارى بأجمعهم أصحاب ليون ونابار وقشتالة وسائر المقاطعات المسيحية، ونبذوا كل ما كان بينهم من خلاف، وصاروا عصبة واحدة، وتسلح الأساقفة والقسيسون وساروا في مقدمة الجيوش بحسب رواية مؤرخي النصارى على ما في مجموعة الدون بوكيه، واجتمعت جيوش جرارة من المسيحيين على حدود قشتالة القديمة، وحشد المنصور جميع ما عنده من قوة وكانت الوقعة هي التي ستكون الفاصلة بين الفريقين، وتلاقى الجمعان على نهر دويره فكانت المعركة من أهول ما يتصور العقل وبقيت طول النهار وسالت الدماء كالأنهار ولم ترجح فئة على الأخرى، ولكن المسيحيين كان أكثرهم في زرد الحديد فكان التلف منهم أقل، ولما خيم الظلام رجعت كل فئة إلى مخيمها وانتظر المنصور مجيء قواده وأعوانه للتشاور معهم فلم يحضر منهم أحد فسأل عن سبب تأخرهم فقيل له: إنهم سقطوا صرعى في المصاف، فعلم المنصور أن العاقبة وبيلة والتاث جسمه وامتنع عن أخذ أي علاج، ومات بعد أيام قلائل، فدفنوه في الثياب التي كانت عليه يوم المعركة وفي التابوت الذي كان يحمله معه ليدفن فيه، ولا يزال قبره معروفا في مدينة سالم.
19
وكان المنصور طول استيلائه على الدولة جامعا بين مجد السيف ومجد القلم، فازدهرت في أيامه العلوم والصنائع وتقدمت الزراعة وازداد العمران وبلغت الأندلس لعهده من السعادة مبلغا لم تعرفه من قبل، وفي أيام المنصور انتشرت مبادئ الفروسية “Chevallerie”
والمبالغة في حفظ الشرف والرفق بالمرأة وبأي ضعيف ونجدة الملهوف أيا كان، وهذا أمر لا نزاع فيه إلا أن المسيو فياردو
Veiredot
في كتابه المسمى «مشاهد الأخلاق العربية في إسبانية في القرن العاشر» قد تجاوز الحد في زعمه أن العرب لعهد المنصور، هم الذين قرروا نظام الفروسية كما كان معروفا عند فرسان المسيحيين فيما بعد، وقد كان واجبا على المسيو فياردو أن يأتي بالبرهان على ما قاله لأن الذي بأيدينا من تواريخ الذين عاشوا في ذلك العصر ليس فيه شيء مما قرره المسيو فياردو.
20
وكانت وفاة المنصور سنة 1002 فقام بالأمر بعده ابنه عبد الملك ولكنه مات سنة 1008 وبموته انقضت أيام الإسلام الزاهرة في إسبانية.
21
ثم نشبت الحرب الداخلية في قرطبة وأخذت الحكومات تهدم بعضها بعضا وفترت الحمية الأولى وبدأ الإسلام يتقهقر ويستسر بدره منذ ذلك الوقت، وقد كان في استطاعة المسيحيين من شمالي الأندلس أن يسترجعوا بلاد آبائهم وأجدادهم من ذلك الحين إلا أنهم هم أنفسهم أيضا كانوا منقسمين وكانت العداوة بين نابار وغاليسية كما كانت بينهم وبين المسلمين، وكان المسيحيون يدخلون في حروب المسلمين بعضهم مع بعض منحازين إلى إحدى الفئتين المتقاتلتين حسبما تقتضي مصلحتهم، وربما كان مع كل من الفئتين فئة من المسيحيين؛ وكان الأساقفة بأنفسهم يخوضون غمرات هذه الحروب، وفي سنة 1009 انضم المسيحيون في الفتنة التي وقعت في قرطبة إلى إحدى الفئتين ونصروها على الفئة الأخرى فاستعانت الفئة التي دارت عليها الدائرة بمسيحيي كتلونية الذين زحفوا إلى قلب الأندلس، ولكنهم فقدوا في أثناء الحرب ثلاثة من أساقفتهم ورجلا من أبطالهم اسمه أرمانجو كونت إيرجل.
صفحة غير معروفة