عطوفة الأمير شكيب أرسلان
كلمة بين يدي رحلتي لتتبع الآثار العربية في الأقطار الغربية
مبدأ غارات العرب على فرنسة وما اعتمدنا عليه من الروايات عنها
1 - حملات العرب الأولى على فرنسة إلى عهد إخراجهم من أربونة واللانغدوق سنة 759 مسيحية
2 - غارات العرب على فرنسة من بعد جلائهم عن أربونة إلى عهد استيلائهم على بروفانس سنة 889 مسيحية
3 - نزول العرب في بروفانس وغاراتهم من هناك على سافواي وبييمونت وسويسرة إلى دور إجلائهم عن فرنسة
4 - الصفة العامة لغارات العرب هذه والنتائج التي ترتبت عليها
كتاب غارة العرب على سويسرة في أواسط القرن العاشر
الخاتمة
عطوفة الأمير شكيب أرسلان
كلمة بين يدي رحلتي لتتبع الآثار العربية في الأقطار الغربية
مبدأ غارات العرب على فرنسة وما اعتمدنا عليه من الروايات عنها
1 - حملات العرب الأولى على فرنسة إلى عهد إخراجهم من أربونة واللانغدوق سنة 759 مسيحية
2 - غارات العرب على فرنسة من بعد جلائهم عن أربونة إلى عهد استيلائهم على بروفانس سنة 889 مسيحية
3 - نزول العرب في بروفانس وغاراتهم من هناك على سافواي وبييمونت وسويسرة إلى دور إجلائهم عن فرنسة
4 - الصفة العامة لغارات العرب هذه والنتائج التي ترتبت عليها
كتاب غارة العرب على سويسرة في أواسط القرن العاشر
الخاتمة
تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط
تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط
تأليف
شكيب أرسلان
عطوفة الأمير شكيب أرسلان
المقدمة
بقلم شكيب أرسلان
جنيف 19 ربيع الأول 1352
بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا إليك نفزع من مداحض القدم، وبك نستعصم في ما يجري به القلم، ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، بارئ النسم ومفيض النعم، وباسط الوجود على العدم، شهادة نعدها للنجاة إذا اشتدت الغمم، ونتقي بها النار ذات الضرم، ونشهد أن محمدا عبدك ورسولك سيد من دعا إلى توحيدك من بين الأمم، وسلطان من طهر الأرض من عبادة الصنم، المنزل عليه كلامك الموصوف بالقدم، المبعوث بالآيات الباهرة والحكم. اللهم صل عليه وعلى آله لهاميم العرب ومعادن الكرم، وأصحابه حملة الكتاب وليوث الكتائب في المزدحم، الذين أشرقت شموسهم في الشرق والغرب فأماطت الظلم وأنارت الظلم، وسلم يا رب كثيرا.
وبعد، فإنه مما يجب أن يخلد في الصدور قبل السطور، وأن يكتب على الحدق قبل الورق، أن حفظ التاريخ هو الشرط الأول لحفظ الأمم ونموها، ورقي الأقوام وسموها، وأنه لا يتصور على وجه الكرة وجود أمة تشعر بذاتها وتعرف نفسها قائمة بنفسها إلا إذا كانت حافظة لتاريخها واعية لماضيها، متذكرة لأولياتها ومبادئها، مقيدة لوقائعها مسلسلة لأنسابها حاشدة لأحسابها خازنة لآدابها، مما لا يقوم به إلا علم التاريخ الذي هو الواصل بين الماضي والمستقبل، والرابط بين الآنف والمستأنف، وأنه لا جدال في كون الأمة العربية التي تتحفز لتنباع وتستوفز لتمد طائل الباع، لم تكن لتحدث نفسها بالنهوض الذي جعلته نصب نواظرها، والاتحاد الذي سيرته شغل خواطرها لو لم تكن رقت من رئاسة الممالك فيما غبر هاتيك الدرجات العالية، وطالعت من تاريخها تلك الصفحات المتلالية فجعلت الحاضر منها يخجل أن يقصر عن شأو الغابر، ويستطار أن يعلم أباه سيدا في الأوائل وهو عبد في الأواخر، فكان إذن تاريخ العرب هو عمدة العرب فيما يطمحون إليه من معال، ووسيلتهم فيما يندفعون إلى تحقيقه من آمال، ولعمري إن هذا التاريخ المجيد وإن سقته سيول المحابر واخضرت له أعواد المنابر، وسبقت فيه تآليف استولى أصحابها على الأمد إخراجا، ولمعت فيه كتب أو لاحت لكانت بروجا، ولو نضدت لكانت أبراجا، لا تزال فيه نواقص بادية العوار ومعالم طامسة الآثار، ومظان متوارية غامضة، ومعلومات قاعدة غير ناهضة، تحتاج إلى همم بعيدة من الأفواج الآتية ليثيروا من دفائنها، وإلى معارف واسعة عند السلائل المقبلة لينثلوا من كنائنها، وإن من أخص ما أهمل العرب فيه التأليف مع أنه من أمجد ماضيهم وألمع ما لمعت فيه مواضيهم هو الدور الذي كان لهم في القارة الأوربية خارجا عن الأندلس، وذلك كفتوحاتهم في ديار فرنسة وإيطالية وسويسرة، وما كانوا يقولون له: الأرض الكبيرة، وكفتوحاتهم لجزائر البحر المتوسط التي رفعوا فوقها أعلامهم حقبا طويلة، وأثروا فيها آثارا كثيرة أثيرة، فإن هذا الدور من أدوارهم يكاد يكون عند أبنائهم مجهولا، بل إن كثيرا من ناشئتهم لا يعرفون عنه كثيرا ولا قليلا، والحال أنه من أقعس فتوحاتهم مجدا وأوعر مغازيهم غورا ونجدا، وأدل أعمالهم على ما أوتوه من علو الهمم ومضاء العزائم، وما كان غالبا على أخلاقهم يومئذ من احتقار الطوائح واستصغار العظائم، فلهذا خصصت بهذا الموضوع كتابا مستقلا أسميته «الخبيئة المنسية في مقام العرب بجبال الألب والبلاد الإفرنسية»، وجعلت هذا الكتاب أشبه بجزء من أجزاء كتابي الذي أنا مباشر تأليفه عن الأندلس باسم «الحلة السندسية في الرحلة الأندلسية»، وسيكون فيما أحزر أربعة أو خمسة أجزاء إن لم يكن أكثر.
هذا وقد رأيت أن أتوج هذا الكتاب باسم الملك العربي الصميم منزعا ونسبا، ذؤابة بيت الرسول الكريم وحسبك بذلك شرفا وطهرا وأما وأبا، الذي وقف نفسه الأبية على خدمة أمته العربية عاملا لنهضتها بعد ربضتها، ومجاهدا في ربوتها بعد كبوتها فيصل بن الحسين ملك العراق والرافدين، أطال الله أيامه ونصر أعلامه وسدد آراءه وأحكامه، وأبلغه من مجد العرب مرامه، وذلك بالاتفاق مع أخويه الإمامين الهمامين العاهلين العادلين ملكي الجزيرة العربية في هذا العصر، المكتوب لهما فيه بإذن الله التمكين والنصر، الإمام يحيى بن محمد بن حميد الدين صاحب مملكة اليمن السعيدة، والملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود صاحب الدولة العربية السعودية، أيدهم الله جميعا لتأييد هذه الأمة وصيانة ذمارها، وألهمهم دوام الائتلاف والاتحاد لما به تجديد مجدها وإقامة عثارها، حتى يعود أمرها كما بدا وترجع أيام عزها جددا، وما ذلك على الله بعزيز.
ملحق بالمقدمة
بقلم شكيب أرسلان
جنيف 14 جمادى الثانية 1352
قد كنت حررت هذه المقدمة منذ أشهر قلائل والملك فيصل في الحياة والأمة العربية تستمد حياتها السياسية من حياته، وتبني معظم آمالها على أصيل آرائه ومنصور راياته، وقبل أن بوشر طبع هذا الكتاب اختار الله هذا العربي الكبير لجواره، وكانت بموته الفادحة التي لم يرزأ العرب بمثلها، وقامت نوادبهم وسالت مدامعهم في كل غور ونجد من أجلها، فلم نشأ أن نغير شيئا من مقدمة هذا الكتاب بل أبقيناه متوجا باسمه كما لو كان في الحياة؛ إذ إننا لا نزال نعد فيصلا حيا في القلوب والخواطر وإن غاب بوجهه الكريم عن النواظر، لا سيما أن المرحوم كان قد سمع بخبر هذا التأليف وسألني - وا حسرتاه عليه إذ كان مؤخرا في برن - عنه وعن مباحثه وعما أمكنني الاطلاع عليه من آثار العرب في القرى السويسرية التي كان انتهى إلى سمعه أنني ذهبت إليها ونقبت فيها، وكان مهتما بهذا الموضوع مرتاحا إلى نشر هذا الكتاب، كما كان مرتاحا إلى نشر كل أثر عربي، وما كان فيصل رحمه الله إلا رمزا للقضية العربية، والرمز لا يموت عند قومه، فإذا كان فيصل قد مات فلن يموت تذكاره ولا تمحى آثاره، ولنا نعم العزاء في جلالة ولده المعظم الملك غازي الأول الذي نرتقب من هلاله بدرا ناميا، ونرجو من كرم الحق تعالى أن يجعله فيصلا ثانيا. آمين.
كلمة بين يدي رحلتي لتتبع الآثار العربية في الأقطار الغربية
ليس بعجيب أن يكون مثلي مغرما بالأندلس وآثار العرب فيها، وفيما جاورها من الأصقاع الأوربية، فإن كل عربي صميم حقيق بأن يبحث عن آثار قومه، ويتعلم مناقب أجداده، ويتدارس معالي هممهم مع إخوانه، ويترك من ذلك تراثا خالدا لأعقابه، ولعمري إن آثار العرب في الأندلس هي غرة شادخة وهمة شامخة في تاريخ الأمة العربية، بل نقول ولا نخشى مغالطا إنها من أنفس ما أثره العرب، بل من أنفس ما أثره البشر في الأرض. فلا غرو أن يعجب بها العربي، وينقب عنها، ويشد الرحال إليها ويأخذ العبرة اللازمة منها، فليست هي الآية الناطقة والبينة القاطعة على مجدنا الماضي، وعلى ما قدرنا أن نعمله في سالف الحقب فحسب، بل هي الحجة الملزمة والآية المعجزة المفحمة على جدارتنا بالاستقلال التام، وكفايتنا إذا ملكنا الاستقلال أن نحسن الاضطلاع بالأحكام، وهي أيضا للدلالة على أننا نقدر أن نعمل في الأعصر المستأنفة ما عملناه في الأعصر السالفة إذا تركنا الأجانب وشأننا.
كنت إذن منذ ريعان شبابي وغضاضة إهابي مولعا بحضارة الأندلس العربية وآثارها، مشغوفا بتاريخها وأخبارها حتى أني منذ أربع وثلاثين سنة وهي مدة يصح أن تسمى دهرا نقلت من الإفرنسية إلى العربية رواية الكاتب الأشهر شاتوبريان المسماة ب«آخر بني سراج»، وذيلت تلك الرواية المترجمة بتاريخ للأندلس استخلصته من الكتب العربية والأوربية، وأجلت معظم قداح البحث فيه عن سقوط مملكة غرناطة، وجلاء العرب الأخير عن تلك الجزيرة؛ لأن هذه الحقبة من ذلك التاريخ كادت تكون في عصرنا مجهولة، وقد صادف ظهور هذا الكتاب مبدأ النهضة العربية فكان له في النواحي رنة نواح، وسال له من المآقي مدمع سفاح، وتجددت تذكارات أشجان، وبلغ التأثير من قلوب جميع الذين قرأوه أنهم كانوا يتلونه المرة بعد المرة شفاء لما في صدورهم، أشبه بالثكلى التي لا يشفي ما بها سوى ذرف دموعها، ولطم خدودها وتلمس آثار مفقودها، وكانت بازدياد النهضة العربية تزداد الرغبة في هذا المقام وتشرئب إلى الأندلس الأعناق، وتتحلب على ذكراها الشفاه، فأعدت من سنين قلائل طبع الرواية المذكورة «آخر بني سراج» مع ذيلها، وأضفت إليهما تاريخا قديما عن سقوط غرناطة عثرت عليه في مدينة مونيخ عاصمة بافاريا يسمى «أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر» لمؤلف لم يذكر اسمه فيه، لكنه يترجح كثيرا مما لحظنا من كلامه أنه كان ممن حضر الوقائع بنفسه أو ممن عاصر أهلها؛ لأنه يسرد أخبارها سرد من شاهدها بالعيان، أو من روى عمن شاهدها، وأظن المقري عند ما كتب «نفح الطيب» كان مطلعا على ذلك الكتاب؛ لأني رأيت في كتاب «أخبار العصر» هذا جملا كثيرة رأيتها في النفح بحروفها، نعم أعدت طبع كتابي ذاك عن الأندلس مضموما إليه هذا الكتاب الذي عثرت عليه في مونيخ غفلا من اسم مؤلفه ومعه أربعة مراسيم سلطانية من السلطان أبي الحسن علي بن الأحمر والد أبي عبد الله آخر ملوك العرب بالأندلس الذي سلم غرناطة إلى الملك فرديناند والملكة إيزابلا، وكان طبعي لهذه الكتب منذ ثمان سنوات بمطبعة المنار الشهيرة بمصر.
ولكن كل هذا لم ينقع غلتي ولم يشف ما بي من أمر الأندلس، وبقيت بعد معرفتها بالقلم متشوقا إلى مشاهدتها بالعيان والتجوال فيها بالقدم، استزادة من معرفة أخبارها واقتصاص آثارها، ووفاء بواجب ازديارها، وما زلت أحدث نفسي برحلة أقوم بها في تلك الديار التي ترك لنا عنها آباؤنا أجمل تذكار، وتعوقني العوائق عنها، وتعترضني الأشغال من دونها، وأنا أخشى أن توافيني المنية قبل تحقيق هذه الأمنية إلى أن يسر الله هذه الرحلة منذ ثلاث سنوات، والأمور مثل النفوس مرهونة بالآجال، وكنت موطنا النفس على السفر إلى الأندلس في ربيع سنة 1348 وفق سنة 1930 فجدت شئون وطرأت طوارئ اقتضت أن نراجع جمعية الأمم في جنيف مراجعات مستمرة قضت علي بأن لا أفارق جنيف في تلك الآونة، بحيث إنه أقبل الصيف يسحب من ذيله، وجاء الحر هاجما برجله وخيله، فأخذ بعض الإخوان يشيرون علي بتأخير الرحلة إلى الشتاء التالي أو إلى الربيع الذي وراءه ذهابا إلى أن السياحة في إسبانية لا تلائم في أيام القيظ لا سيما القطعة الأندلسية التي أنا قاصدها، فلم يكن ذلك ليغير من نيتي ولا ليرخي من مشدود طيتي؛ لأني لم أبرح في هذه المسألة منذ ثلاثين سنة أمني بها النفس، وكلما حدا سائق بدا عائق، ونحن نعتمد على التأخير والتسويف ونعلل النفس بشتاء وصيف وربيع وخريف، وقد عرفنا أكثر البلاد الأوربية ولم تبق مدينة فيها إلا دخلناها، وربما بدل المرة الواحدة مرارا، وقتلنا أحوالها درسا واختبارا، ولم يبق من أوربة ما لم نعرفه سوى الأصقاع الإسكندنافية في الشمال والبلاد الإسبانية في الجنوب، فأما الأولى فإنه يجوز لمثلنا أن يعرفها كما أنه يجوز له أن لا يعرفها إذا عاقته العوائق عن معرفتها، ولكن الأندلس التي نحن إليها منذ نعومة الأظفار ونقرأ عنها بل نؤلف الأسفار، فإنه لا يجوز لمثلنا أن يتأخر عن السفر إليها، ونحن لا نزال أنضاء أسفار بين الأقطار، وعليه انتهزنا هذه الفرصة، واغتنمنا من وقتنا هذه الخلسة قاصدين إلى الأندلس عن طريق فرنسة التي حصلنها على رخصة المرور بها أياما معدودات، وذلك أنه لما كان الغرض الأصلي من الرحلة اقتراء آثار العرب كيف حلوا، وأنى ارتحلوا من هذه الديار الغربية كان لا بد لنا أولا من زيارة فرنسة التي كانت للعرب فيها جولة، بل كانت لهم في جنوبيها دولة وصولة، وطالما عصفت ريحهم ببلاد الإفرنجة بعد أن عصفت ببلاد القوط والجلالقة والباشكنس وغيرهم من أمم الغرب التي خفضوا دعائمها ونقضوا مرائرها، وكادوا يلحقون بأولها آخرها، وها أنا ذا أحدث عن سياحتي:
في 18 يونيو قبل الظهر من سنة 1930 فصلت من لوزان قاصدا إلى باريس فوصلت إلى تلك العاصمة ليلا، وكان قد عرف بقدومي شابان من نخبة أدباء المغاربة: السيد أحمد بلافريج من ذوائب بيوتات الأندلسيين في رباط الفتح، والسيد محمد الفاسي من آل الجد الفهريين الأندلسيين من أعيان فاس، فما نزلت من القطار حتى وجدتهما أمامي في المحطة وركبنا معا إلى فندق أورليان پالاس في شارع برون “Bonlevard Brune”
وتحدثت إليهما في موضوع رحلتي، وكان ذلك قبل ميعاد عطلة الدروس التي كانا يريدان بعدها السفر إلى وطنهما فاتفقنا على أن يوافياني إلى «مجريط» ليرافقاني في بعض هذه السياحة، وبعد ذلك بأيام قلائل مرا علي بالفعل؛ إذ أنا في فندق رومة في عاصمة الإسبانيول، وكان في اليوم التالي من وصولي إلى باريس أقبل علينا أولادنا الطلبة السوريون، وأنسنا بلقائهم واجتمعنا مع فئة من نخبتهم في المطعم العربي الذي بقرب الجامع، وبعدها ذهبت أنا والسيدان محمد الفاسي وأحمد بلا فريج إلى مكتبة غوتنر المتخصصة بالكتب الشرقية حيث اشتريت بعض كتب عربية أكثرها يتعلق بالأندلس، وصادف أني لدى نزولي في أورليان بالاس وجدت صديقي الحميم حسين رءوف بك بطل الدارعة حميدية الشهير، ورئيس نظار أنقرة سابقا، وناظر البحرية العثمانية من قبل، فسررت بلقائه كثيرا لأن آخر العهد بيننا كان في الأستانة سنة 1924، وكذلك جاء لزيارتي هناك رحمي بك الذي كان واليا لأزمير أيام الحرب الكبرى، وكان من أركان جمعية الاتحاد والترقي في تركيا، وهو من أعز إخواني وإخوان ابن عمي الأمير أمين مصطفى أرسلان، فكانت لي بغير ميعاد فرحة عظيمة بالاجتماع بهذين الخليلين اللذين طال عهدي بلقائهما، وذهبنا إلى المطعم العربي فأوصينا على مطاعم مغربية، وسمعنا من شجي ألحان الموسيقى العربية ولا سيما الألحان الأندلسية، وسمرنا أجمل سمر وكانت ليلة كلها سحر، وبعد إقامة خمسة أيام بباريز ركبت القطار الحديدي إلى تولوز «طلوزة» وجاء لوداعي إلى المحطة جمهور من شبان العرب بباريز وهتفوا في المحطة: فليحيا العرب.
ووصلت إلى طلوزة بعد مسيرة ثماني ساعات بالقطار، ونزلت في فندق قريب من محطتها اسمه «ترمينوس»
1
وفي اليوم التالي قصدت قرقشونة
2
التي فيها الآثار الشهيرة فزرت البلدة والقلعة، وصعدت إلى الأسوار، وجولت في تلك الحصون نحوا من ساعتين، ورجعت في المساء إلى طلوزة، والمسافة بالقطار بين هاتين البلدتين لا تزيد على ساعتين. (1) الكلام على طلوزة وقرقشونة
رأيت مناسبا ابتداء الكلام على فرنسة العربية قبل الانتقال إلى إسبانية العربية، وذلك بناء على كوني بدأت رحلتي من فرنسة، ولما كان غرضي من هذه الرحلة هو استقصاء آثار العرب وأخبارهم أينما كانوا وحلوا من القارة الأوربية توخيت أن لا أخرج عن هذا الصدد إلا نادرا مما يقتضيه سياق البحث، فلو كنت زرت الأندلس مبتدئا من المكان الذي دخل منه العرب، أي: من الجنوب لكان الترتيب يقضي علي بأن أبدأ بجبل طارق، فالجزيرة الخضراء فشريش فأشبيلية فقرطبة فطليطلة وهلم جرا نحو الشمال، وأن أنتهي بأربونة فقرقشونة ونيم وأفينيون إلى جبال الألب بين إيطالية وفرنسة وسويسرة، وهكذا كان ينبغي أن أفعل لو كنت حرا أن أسكن في هذه الأيام وطني سورية، فكان السفر منها إلى الأندلس على الطريق الذي سلكه أجدادنا عند فتحهم تلك الديار، وهي طريق المغرب، ولكن الغربة التي تطوحنا بها بسبب نضالنا عن استقلال وطننا قضت علينا بأن نسكن أوربة، وأن نقصد الأندلس من شماليها لا من جنوبيها، أى: من حيث نحن مقيمون الآن، ومن حيث انتهى العرب في فتوحاتهم الأوربية لا من حيث ابتدأوا بها، ولما كان المقصود هو كما قلنا من استقراء آثار السلف وتأثر خطواتهم، حيث دل عليها التاريخ، وأثبتها الأثر من قارة أوربة بدون تقيد بمكان معين وبدون التزام، ما شاهدناه من هذه الأماكن بالعين بل باطراد الكلام على جيل من الغولوا ولا نعلمما شاهدناه إلى ما لم نشاهده مما جاوره ودخل تحت حكمه، أى: جميع ما قيل إن أقدام العرب وطئته من هذه البلدان في حملتهم الأولى على الغرب، لم يكن لنا بد من أن نتناول طلوزة وقرقشونة وأربونة ونيم وأفينيون وليون، وليست هذه فقط بل جميع البلاد التي احتلوها من جنوبي فرنسة، وما صاقب ذلك من شمالي إيطالية، وما ناوح ذلك من جبال الألب العالية الواقعة اليوم بين هذه الممالك الثلاث: فرنسة وإيطالية وسويسرة، إلى حدود بحيرة كونستاتزة من ألمانية.
فكان هذا الكتاب وإن استقل باسم «تاريخ غزوات العرب في فرنسة وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط» هو في الحقيقة جزءا من رحلتي الأندلسية التي نحن بسبيلها؛ لأنها هي خاتمة مطاف العرب في أوربة، وفاتحة ما أفاضوا إليه من الممالك بعد فتحهم للأندلس، وإذا لحظت أني قد بدأت بالرحلة وبتاريخ حملة العرب على أوربة من هذه الجهة كان لك أن تقول: إني جعلت أولا ما كان ينبغي أن يكون آخرا، فإن هذا الجزء هو الآخر باعتبار فتوحات العرب، ولكن قضت الأقدار بأن يكون هو الأول باعتبار ترتيب سياحتي التي بدأت فيها من الشمال إلى الجنوب، فرأيت أنا أولا ما فتحوه هم أخيرا، ورأيت آخرا ما احتلوه هم أولا.
وبالجملة فموضوع هذا الكتاب هو أيام العرب، في فرنسة وفي شمالي إيطالية وقلب سويسرة، وهو أول تأليف عربي مستقل في هذا الموضوع.
طلوزة
Toulouse
كانت طلوزة في قديم الدهر حارات متفرقة، ولم تأخذ شكل مدينة إلا في أيام الرومانيين، ومن ثم صارت قاعدة مملكة التكتوزاجيين
3
ومركز علم وصناعة، ودخلت فيها النصرانية بواسطة القديس سيرنيه، وبعد أن سقطت سلطنة رومة صارت طلوزة عاصمة ملوك القوط، وبقيت دار مملكتهم من سنة 419 للمسيح إلى سنة 508، وكانت حينئذ قاعدة بلاد أكيتانية المنضمة إلى إسبانية، وسنة 778 صارت كونتية مستقلة، واشتهر من أمرائها الكونت ريموند الرابع، ولم تنضم إلى مملكة فرنسة إلا سنة 1271 للمسيح
4 . ففي القرن الخامس كانت دار ملك القوط، وفي القرن السابع والثامن كانت مركز دوقية أكيتانية، وفي القرن الحادي عشر والثاني عشر صارت قاعدة كونتية طلوزة، ولما شن العرب الغارة على فرنسة كانت طلوزة من المدن التي قصودها لكنهم لم يتمكنوا منها كما تمكنوا من أربونة وقرقشونة وغيرهما.
وقد كانت غارة العرب على طلوزة في أيام إمارة السمح بن مالك الخولاني على الأندلس، وذلك لمضي إحدى عشرة سنة على دخول العرب إلى إسبانية كما سيأتي عند الكلام على غارات العرب في جنوب فرنسة.
قرقشونة
CARCASSONNE
مدينة على نهر الأود
Aude
وقناة الجنوب وهي قسمان: الأول: الذي فيه القلعة وهو مبنى على متن رابية مشرفة على القسم الثاني، وفيه بعض بيوت وشوارع ضيقة وكنيسة معروفة بكنيسة سان نازير
Saint-Nazaire
من بناء القرن الحادي عشر، وجميع أبنية هذا القسم العالي لا تزال كما كانت في القرون الوسطى، وليس مثلها في كل فرنسة في هذا الباب، ولهذا هي مقصد السياح من كل فج. والقسم الثاني: هو الذي على شاطئ النهر، ويسمى قرقشونة الجديدة، وهي جديدة بالنسبة إلى قرقشونة القديمة التي على الرابية، ولكن هي في الحقيقة من زمن لويس التاسع ملك فرنسة، أي القديس لويس الذي عاش في أواسط القرن الثالث عشر.
5
وأما تاريخ العرب فيها فالمشهور أنهم افتتحوها في سنة 713 للمسيح، وأنها بقيت في أيديهم إلى سنة 759 على ما ستقرأه عند الكلام على غارات العرب في جنوبي فرنسة.
هوامش
مبدأ غارات العرب على فرنسة وما اعتمدنا عليه من الروايات عنها
أهم كتاب وضع في هذا الموضوع هو كتاب المستشرق الفرنسي الشهير المسيو «رينو»
1
الذي عاش في الثلثين الأولين من القرن الماضي، وكتابه يسمى «غارات العرب على فرنسة، ومن فرنسة على سافواي وبيمونت وسويسرة في القرن الثامن والتاسع والعاشر من التاريخ المسيحي بحسب روايات المؤرخين المسيحيين والمسلمين».
2
فإن جميع المؤرخين الأوربيين ذكروا غارات العرب على فرنسة بعد استيلائهم على إسبانية، وأجمعوا على أن شارل مارتل الذي يسميه العرب: «قارله» هو الذي أنقذ أوربة في وقعة «پواتييه» الشهيرة من الوقوع تحت سلطة العرب، وأنه لولا انهزام العرب في تلك المعركة لكانوا استولوا على أوربة كلها، وربما كانت بأجمعها قد دخلت في الإسلام، ولا نقدر أن نحصي ما جاء في كتب الأوربيين من فرنسيس وألمان وإنكليز وإسبانيول وطليان في هذا الموضوع، ولا نجد لزوما لهذا الاستقصاء بعد أن قرروه في الجملة، وأجمع عليه مؤرخوهم وأيدت ذلك تواريخنا العربية، وإنما كان غرضنا في هذا الكتاب استقصاء جزئيات هذه الغارات العربية إلى قلب أوربة، والإحاطة بما يتسنى لنا من تفاصيلها، ولم نجد في هذا الباب كتابا أوعى من كتاب المسيو رينو المذكور؛ لأنه وضع خاصا بتاريخ هذه الغارات، ولأن واضعه هو من أشهر المحققين في المسائل التاريخية والمطلعين حق الاطلاع على اللغة العربية بحيث يمكنه عند كل رواية أن يقابل ما جاء عنها في الكتب اللاتينية القديمة بما جاء في الكتب العربية، وإنك لتجده لا يروي رواية ولا خبرا إلا ذكر في الحاشية مأخذ تلك الرواية، أو ذلك الخبر مع تعيين المؤلف والمؤلف والجزء والصفحة، وأحيانا خزانة الكتب التي فيها ذلك المؤلف، وقد يورد النصوص بعينها لا سيما إذا كانت من التواريخ التي وضعت في عصر تلك الفتوحات، وكما أنه يستعمل هذه الدقة في الاستشهاد من كتب الإفرنجة فإنه يستعمل الدقة نفسها في الاستشهاد من كتب العرب، ومن أجل ذلك كان أكثر اعتمادنا في تاريخ هذه الوقائع على المستشرق المشار إليه، كما أننا اعتمدنا في تاريخ استيلاء العرب على قسم من شمالي إيطالية ومن أهالي سويسرة عليه أيضا، وعلى مؤلف آخر من أهالي سويسرة الألمانية اسمه «فرديناند كيللر»
3
سنأتي بتلخيص تأليفه بعد الانتهاء من تلخيص كتاب المسيو رينو، وسنقابل جميع رواياتهم بما لدينا من التواريخ العربية الشهيرة.
قال المسيو رينو في مقدمة كتابه:
جاء وقت كانت فيه فرنسة عرضة لغارات شعب أجنبي كان قد استولى على إسبانية وبلدان أخرى مجاورة لها، وجاء بدين جديد ولسان جديد وأوضاع جديدة، فأصبحت المسألة مسألة هل فرنسة وسائر ممالك أوربة التي لما تخضع لهذا الشعب الجديد تقدر أن تحتفظ بأعز ما يحتفظ به الإنسان من دين ووطن وأوضاع أم لا؟
وكان الناس يتساءلون عن كنه هذه الوقائع التي ترتب عليها احتلال ذلك الشعب لقسم من بلادنا ومن آية جهة وقعت، وأية أحوال أحاطت بها، وهل كان المغيرون كلهم من العرب، أم كانوا من أمم شتى؟ وما كانت نتائج هذه الغارات المتكررة كثيرا؟ وهل بقي في البلاد منها آثار أم لا؟
ولقد جرى البحث أكثر من مرة عن هذه القضية، ولكن لم يعن أحد فيما يظهر لنا بأن يضع لهذا الموضوع تأليفا خاصا يحيط بجميع الوقائع التي نحن بصددها ويستنبط منها نتائج عامة
4
ولا شك في أن تأليفا وافيا بهذا الغرض ينبغي له الجمع بين الروايات الأوربية المسيحية والروايات العربية الإسلامية ليعرف قول الغالب وقول المغلوب معا.
ومن مدة طويلة كان الناس في أوربة قد لحظوا أن روايات مؤرخي أوربة المسيحية عن هذه الوقائع لم تكن كافية، وأن الزمن الذي قد حصلت فيه هذه الحوادث، وأغار فيه العرب على فرنسة هو أشد الأزمنة على هذه البلاد وأحلكها سوادا، ففي سنة 712 عندما بدأت هذه الحملات على فرنسة كانت هذه البلاد مقسمة بين إفرنج الشمال الذين كانوا يملكون «نوستريا»
5
و«أوسترازيا»
6
و«بورغونيا»
7
وبين إفرنج الجنوب الذين كانوا يملكون «أكيتانية»
8
من نهر اللوار إلى جبال البيرانه، وبين بقايا القوط الغربيين
9
الذين كان بقي في أيديهم قسم من مقاطعة «لانغدوق»
10
وقسم من مقاطعة «بروفانس»
11
وكانت الفوضى قد وقعت في الحكومة والمجتمع، فلذلك لم تأتنا إلا معلومات ضئيلة عن ذلك العهد، ولم تبدأ الأخبار التاريخية تنجلي إلا في أيام «ببين» ابن «شارل مارتل» وفي أيام «شارلمان» بن «ببين»، ولكن في ذلك الوقت كان المسلمون قد نكصوا إلى الوراء، ثم عاد جو فرنسة فاربد ثانية في زمان أولاد لويس الحليم “Le Débonnaire”
وجدد العرب غاراتهم على فرنسة أيام كان النورمنديون من جهة، والمجار من جهة أخرى يشنون مثلها ويعيثون في الأرض مفسدين.
ولا نقدر أن نقول: إن تواريخ العرب عن تلك الحوادث كانت مستوفية الشروط، فإن المؤلفين الذين كتبوا عنها جاءوا بعدها بزمن فلم يعاصروها، إلا أن يكون ثمة مؤرخون لم تصل إلينا كتبهم، فقد ذكر العرب أن لموسى بن نصير تاريخا ألفه حفيده، وإن لأحد الشعراء قصيدة في تاريخ طارق بن زياد نظمها بعد عهده بقرنين، ولكن هذه الكتب التي كتبت بعد الحوادث بمدة غير قصيرة لم تكن مستوفية شروط التحقيق، وأكثر الأحيان يروي أصحابها روايات شفهية عن أفواه الرواة
12
وغير خاف أن العرب كانوا في ذلك الدور، دور الحماسة والمجد، لا يفكرون إلا في إعلاء شأن دينهم، فكان لا يهمهم شيء بقدر الشعر والضرب في أودية الخيال.
إذن حكاية العرب لوقائع غارات العرب على فرنسة كانت متأخرة عن زمن حدوثها في القرن التاسع المسيحي، كما أن منها ما لم يتعرض العرب للبحث عنه أصلا.
ولقد كان في أيدي العرب وسائل لمعرفة أحوال فرنسة الداخلية وما جاورها؛ لأنهم عدا احتلالهم مدة مديدة جانبا منها كانت صلاتهم مع هذه البلاد مستمرة، وكانت السفراء تختلف بين الفريقين الفينة بعد الفينة، فقد ذكر المسعودي أنه في نواحي سنة 939 مسيحية توجه إلى قرطبة مطران جيرون من كتالونية وكان اسمه «غودمار»
Godmar
وذلك في أيام الخليفة عبد الرحمن الناصر، وألف لولده الحكم المشهور بحبه للعلم تاريخا لبلاد فرنسة من زمن كلوفيس إلى ذلك العهد
13
وكانت كتالونية أيام شارلمان خاضعة لمملكة فرنسة، وكان مطران جبرون يعترف بسيادة لويس دوترمير
Louis-d’Outremer
وعليه نعتقد أن تاريخ فرنسة هذا الذي قال المسعودي: إنه عثر على نسخة منه في مصر تاريخ صحيح، ولكن مع الأسف لم نعلم عن هذا التاريخ شيئا إلا هذا القليل الذي رواه منه المسعودي.
14
ومما كان يشق جدا على العرب كثرة الأسماء الأعجمية من أسماء الرجال والبقاع التي كانت تعرض لهم، وكانت مجهولة عندهم، ولم يكن من المألوف عندهم وضع الحركات، ثم كان نساخهم كثيري السقط في التنقيط فتبعد اللفظة عن أصلها بعدا يجعلها مجهولة تماما.
15
وقد كان مما يفيد في هذا الباب المسكوكات التي كان يضربها الفاتحون، إلا أن العرب في إسبانية وفرنسة لم يكونوا إلى القرن العاشر يعرفون سوى مسكوكات قرطبة، فأما مسكوكات ما قبل هذا التاريخ فلم يكن فيها شيء سوى آيات قرآنية، ولم يكن فيها ذكر ملك ولا أمير.
فمن أجل هذا كان من الصعب جدا معرفة أخبار العرب في الأدوار الأولى من استيلاهم على إسبانية، وأصعب منه معرفة أخبار استيلائهم على ما استولوا عليه من فرنسة.
ومن الكتب النفيسة في هذا الموضوع تاريخ «استيلاء العرب على إسبانية» الذي ظهر بالإسبانيولية في السنوات الأخيرة لمؤلفه «كوند»
Conde
الذي كان لديه كتب عربية كثيرة في مكتبة الإسكوريال وغيرها؛ فاستقى بدون شك من منابع غزيرة إلا أنه لم ينتدح له أن ينقح كتابه كما يجب، وربما كان هو نفسه غير ماهر في التمحيص.
16
وهناك تأليف آخر لم يطلع عليه كوند وهو مجموعة رسائل مفيدة في إيضاح تاريخ إسبانية أيام العرب بقلم «فوستينو بوربون» الذي اطلع على المخطوطات العربية التي في خزانة الأسكوريال، وكان معظم همه تخطئة «تاريخ إسبانية» تأليف «ماسدو»
Masdeu .
وفي كتاب فوستينو بوربون هذا شواهد عربية محرفة إلا أنه عنده بصر بالنقد، وإنك لتجد في كلامه على جيوش العرب الفاتحين واختلاف أصولها الذي أدى إلى تنازعها تدقيقات لا يعرفها كوند.
إننا نحن لم نكن في هذا التأليف لنجهل المشكلات التي ستعترضنا في طريقنا، لكننا برغم ذلك وجدنا في استطاعتنا إضافة معلومات جيدة إلى ما تقرر في هذا الباب إلى حد الآن، وفي الغزوات العربية التي لم نجد لها أثر رواية إلا في كتب الأوربيين أمكننا أن نصل إلى أبعد مما وصل إليه «موراتوري»
17
والدون «بوكه».
18
ولقد اتبعنا في عملنا هذا الطريقة الآتية، وهي أن نمحص عن الوقائع شهادات المعاصرين أو الذين كانوا في العهد أقرب من غيرهم إليها، ومهما قيل عن النقصان الذي في روايات المؤرخين المسيحيين الذين كانوا في ذلك العهد، فإننا قد وجدنا فيها ما يستحق كثيرا من الاعتبار بحيث إذا تطابقت مع روايات العرب جزمنا بأن الحقيقة هي هناك، وأما إن لم تطابق روايات هؤلاء روايات أولئك، فإننا ننقل حينئذ ما قاله كل من الفريقين ونبدي رأينا في ترجيح الأقرب إلى العقل، وأما المنابع التي لم نقدر أن نصل إليها فقد نبهنا عليها وأشرنا إلى أماكنها، وذلك كبعض وقائع رواها كوندي نقلا عن كتب العرب فقد كان الأحسن أن ننقل تلك النصوص بعينها، ولكننا لم نظفر بها.
وفي آخر كتابنا هذا نذكر الشعوب التي انضمت إلى العرب، وأوشكت بالاتحاد مع العرب أن تخضع أوربة كلها لشريعة القرآن، فنحن نطلق على الجميع اسم «سارازين» وهي لفظة لم يجزم إلى الآن في وجه اشتقاقها، أو لفظ «المور» أي المغاربة؛ وذلك لأن العرب جاءوا أولا إلى المغرب، ومنه دخلوا إلى إسبانية فسموا من أجل هذا مغاربة، وليعلم أنه في أثناء ما كان المسلمون يكتسحون أراضي فرنسة ويجتاحون شمالي إيطالية وبلاد سويسرة كانت منهم عصائب حاكمة في صقلية وجنوبي إيطالية، ولم يكن لغارات هؤلاء صلة بغارات أولئك، ولكن كان لها تأثير بعضها في بعض مما لم تفتنا الإشارة إليه.
ثم إنه في جميع البلاد التي احتلها العرب طويلا أو قصيرا كانت بقيت لهم آثار وسرت عنهم أخبار، فهنا كنت ترى قلعة كانوا يعتصمون بها عندما يجتاحون تلك الأرض، وهناك كانت مخاضة نهر أو قنطرة كانوا يأخذون عندها رسما على المارين، وهنالك كهف في واد كانوا يضعون فيه الغنائم، وعلى تلك الجبال أبراج متناوحة كانوا يتبادلون منها الإشارات النارية لأجل توحيد حركاتهم، وهلم جرا، فالآثار والأخبار التي لا ترتكز على دليل وثيق من ذلك العصر نفسه لم نتعرض لها.
ومثل ذلك فعلنا بالقصص التي قصها الرواة الذين لم يعاصروا تلك الحوادث، والتى هي أقرب إلى أن تكون من عمل خيالات القصاص المولعين بأخبار الحماسة والمغرمين بأحاديث المجد والرئاسة، ففي القصص التي ترويها الرواة عندنا أغلاط كثيرة؛ منها ما وقع فيه بعض مؤرخي ذلك الوقت مثل تلقيبهم المسلمين «السارازين» بلفظة «بايين»
أي: وثنيين، وذلك أن المسيحيين كان من عادتهم أن يسموا جميع الأمم السالفة للنصرانية «وثنيين» وجميع الأمم التي حاربها الإفرنسيس وثنيين، ومن جملة هؤلاء حسبوا المسلمين! ولهذا فقد عزوا إلى هؤلاء آثارا ومباني وهياكل كانت في الحقيقة هي من عمل غيرهم، وليسوا منها في قبيل ولا دبير.
وكذلك لما كانت شهرة شارلمان قد غلبت شهرة الجميع فإن القصاص نسبوا إلى أيامه حوادث وقعت من قبله، وحوادث أخرى وقعت من بعده، فالوقائع التي جرت في زمان شارل مارتل جعلوها في زمان شارلمان، وما زالوا ينسبون إلى أيام شارلمان غزوات جميع الإفرنج في بلاد المسلمين إلى القرن العاشر بل إلى آخر القرن الحادي عشر أي الزمن الذي استصرخ فيه مسلمو الأندلس يوسف بن تاشفين ملك المرابطين، فتأمل.
ومن هذا النمط تعمد بعض القصاص والزجالين أن ينحلوا أجداد ممدوحيهم فضل تحرير البلاد وطرد الأعداء، وذلك مثل قصيدة غيليوم ذي الأنف الأصلم الذي ينسب إليه الشاعر إجلاء العرب عن تولوز ونيم وأورانج وغيرها من مدن فرنسة.
ثم إنه كان المجار قد جاءوا من شرقي أوربة وعاثوا في نواحي فرنسة، فاختلط على الناس ما عاثه المجار بما عاثه العرب، بحيث كثيرا ما كان أولئك القصاص يسمون المجار «سارازين» ويسمون الفاندال «سارازين»، وممن قال بذلك الأب «لوكوانت»
مؤلف التاريخ الإكليريكي في فرنسة والدون «مابيون»
Mabillon
والأب «باجي»
والدون «فاسيت»
Vaissette
والدون «بوكه»
Bouquet
والحقيقة أنه لم يوجد دليل واحد من رواية مرجعها إلى القرن الثامن يدل على كون الفاندال اجتاحوا فرنسة في ذلك العصر، وقد يقال: إن هذه الأقاويل وردت في تواريخ القديس «دنيس»
Saint-Denis
الشهيرة التي هي الحجة الكبرى عند آبائنا، ولكن تواريخ القديس كتبت في أواسط القرن الثاني عشر، وقد حشر فيها كاتبوها كل الأساطير التي كانت تدور في ذلك الوقت، ولم يزل التاريخ لم يمحص ولم ينفصل عن الأقاصيص إلى القرن السابع عشر.
ولنعد إلى موضوع كتابنا هذا فنقول: ليست المسألة مسألة اجتياح بعض مقاطعات محدودة بل قد بقي جانب كبير من فرنسة ميدانا لجيوش العرب مدة طويلة، ثم تجاوزوا منها إلى «سافواي» و«بيمونت» و«سويسرة» واحتلوا أمنع الحصون من قلب أوربة، وذلك من خليج «سان تروبيس» إلى بحيرة «كونستانزة» ومن نهر الرون وجبل «جورا» إلى سهول جبل «فرات» و«لومبارديه»، ومما لا جدال فيه أن تذكار الغزوات العربية في هذه الديار لم يكن بدون تأثير في الحملات الصليبية وفي هذه الحركة العامة التي اندرأت بها أوربة على آسية وإفريقية، ووضعت أصحاب الإنجيل في وجه أصحاب القرآن مدة قرون مستطيلة.
لقد فسحنا بهذا الكتاب مجالا للباحثين في هذا الموضوع بحيث يمكن من يأتي بعدنا أن يأتوا بمعلومات جديدة عنه، ولما كانت الشقة بعيدة بين زمن هذه الوقائع والزمان الحاضر فقد بقيت في كتابنا مواضع كثير مفتقرة إلى الجلاء، ومع هذا فإن كنا قد قدرنا أن نلقي بعض الشعاع على هذا القسم الذي هو أغمض قسم من تاريخ فرنسة، فلا يكون ذهب عناؤنا سدى.
ولقد قسمنا كتابنا هذا إلى أربعة أقسام: الأول: ما يتعلق بحملات العرب الزاحفين من الأندلس مخترقين جبال البيرانه
19
إلى أن طردهم «بيين» القصير من «ناربون» وكل «اللانغدوق» سنة 759 مسيحية. الثاني: ما يتعلق بغارات العرب برا وبحرا على «پروفانس» في نواحي 889. الثالث: ذكر توغل المسلمين من پروفانس إلى «دوفيني» و«سافواي» و«بييمونت» وسويسرة. الرابع: شكل هذه الغزوات والنتائج التي ترتبت عليها.
انتهى ملخصا كلام المستشرق الإفرنسي رينو في مقدمة كتابه.
ثم شرع رينو في سرد الوقائع فقال تحت عنوان: «القسم الأول في حملات العرب الأولى على فرنسة إلى عهد إخراجهم من أربونة واللانغدوق سنة 759 مسيحية».
لما وصف أحد مؤرخي العرب كيفية فتح أبناء ملته لإسبانية، روي عن محمد
صلى الله عليه وسلم
الكلمات الآتية: «زويت لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها».
20
وقد كاد يكون هذا هو الواقع، وجاء زمن ظن الناس فيه أن جميع الربع العامر سيعنو لراية النبي
صلى الله عليه وسلم ، فإنه ما مضت سنوات قلائل حتى ضرب الإسلام بجرانه على العراق وفارس والشام ومصر وإفريقية إلى سيف الأوقيانوس الأطلنتيكي ، ثم من إفريقية أغار العرب على إسبانية وما زالوا يجوسون خلال البلاد إلى أن بلغوا فرنسة، وصارت جميع قارة أوربة تحت خطر استيلائهم، ثم من الجهة الأخرى تجاوزوا سيحون وجيحون وما زالوا يفتحون البلدان حتى ظن أنه لن يقف في وجههم شيء إلا أن كان من الحدود الطبيعية التي للكرة الأرضية.
وكان مركز هذه السلطنة التي لا نهاية لها هو في سورية بمدينة دمشق القديمة، وكانت الرئاسة الروحية والدنيوية في الخلفاء بني أمية. وكان الخليفة يومئذ هو الوليد.
21
وكان العرب قد وجدوا في إفريقية أمة تسكن جبال الأطلس اسمها البربر اشتهرت بصعوبة المراس، وبحب الحرية والاستقلال، وقاتلت القرطاجنيين والرومانيين من دونهما، وكان بعض هؤلاء البربر يهودا وبعضهم نصارى وبعضهم وثنيين، وكان لهؤلاء البربر لسان خاص بهم، ومنهم من كان يتكلم بلغة تقرب من العربي والعبري والفينيقي
22
فسواء كان هؤلاء البربر بقايا شعوب جاءت من أرض كنعان وفينيقية
23
أو كانوا قد رحلوا من اليمن فرارا من وجه الأحابيش الذين كانوا قد استولوا على بلاد اليمن
24
فهذا التشابه في اللغة كان عاملا كبيرا في استقرار دولة العرب في إفريقية، وأعان البربر العرب في فتوحاتهم ومغازيهم، وأضف إلى ذلك كون العرب والبربر متشابهين أيضا في البداوة، وسكنى الوبر، وشظف العيش، وطلب النجعة، وحب القتال، وشن الغارات.
هوامش
الفصل الأول
حملات العرب الأولى على فرنسة إلى عهد إخراجهم من أربونة واللانغدوق سنة 759
مسيحية
خبر موسى بن نصير وطارق بن زياد
فما رسخت أقدام العرب في إفريقية حتى فكروا في عبور بحر الزقاق الفاصل بين إفريقية وأوربة، وكان ذلك سنة 710م وأمير إفريقية من قبل الخليفة هو موسى بن نصير من أهل الحجاز، ولد في زمان عمر بن الخطاب ورضع مع اللبن الغرام بالغزو حبا في نشر عقيدة التوحيد.
1
وكان عمره يوم قام بهذه الغزوات ثمانين سنة، ولكن كانت فيه همة الشبان تتوقد نارها لم يفتر منها شيء، وكانت إسبانيا تحت حكم القوط وكان الأمير عليها لذريق.
2
وكان يتبعها من أرض فرنسة مقاطعة «روسيون»
3
وقسم من «اللانغدوق»
4
من (بروفنس)
5
وكانت في إسبانية حواضر حافلة بالعمران زاهرة، إلا أن روح الانتقاض كان كامنا في النفوس، وفساد الأخلاق كان قد تغلغل في جسم الأمة، فلم يكن عجبا أن تسقط مملكة كهذه ولو عظيمة في ظاهرها بيد عدد قليل من المتدينين الأحامس الذين يسوقهم إلى الحرب حب الغنائم، فضلا عما يعتقدونه من أنهم مرسلون من الله لهداية البشر.
فجرب موسى التجربة الأولى ببعض برابر أجازهم إلى طريفة
6
فعاثوا ونهبوا ولم يصادفوا مقاوما فاشتد بذلك عزم موسى. وفي السنة التالية (711) جرد تجريدة جديدة اثني عشر ألف مقاتل كان أكثرهم من البربر عقد عليهم لطارق بن زياد، فهزم طارق بهذا الجيش الصغير جيش القوط كله، واحتز رأس لذريق وبعث به إلى الخليفة
7
في دمشق. وفي أقل من سنة تم لطارق فتح قرطبة ومالقة وطليطلة، وقد روى أحد مؤرخي العرب أنه لأجل أن يلقي الرعب في القلوب أمر مرة بقتل بعض الأسرى الذين وقعوا في يده، وجعل من لحومهم شواء أطعم منه عسكره. وطارق بن زياد
8
هو الذي سمي باسمه هذا الصخر المسمى بجبل طارق، فالمسلمون المؤمنون كانوا يرون هذا الجهاد مما يزيد سواد المسلمين ويضمن لهم الجنة، والمسلمون الذين لم يكونوا يفكرون في أمر الآخرة قد رأوا في الأندلس قطرا خصيبا فياضا بالخيرات، فيه كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. فاجتمعت إذن في هذا الفتح مقاصد الدنيا والآخرة، وانتظم فيه الاحتساب مع الاكتساب، ومما لا نزاع فيه أنه قد كان من أهم أسباب فوز طارق في الأندلس عضد اليهود الذين كانوا كثيرين في إسبانية، وكان المسيحيون يغلظون في معاملتهم ويعدون عليهم أنفاسهم فلما أقبل العرب وجدوا فيهم إخوانا يأخذون بثأرهم
9
وينفسون من خناقهم.
فلما بلغ موسى بن نصير ما فتحه الله على يد طارق هاج أشد هياج للأخذ بنصيبه من هذا الفتح، وأقبل بجيش من العرب والبربر
10
ومعه واحد من أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم
عمره مائة سنة وكثير من أبناء الصحابة.
11
وقد انتحى موسى طريقا غير الطريق التي سلكها مولاه طارق، وفتح بلدانا أخرى مثل ماردة
12
وسرقسطة
13
وكان أكثر جنده من الفرسان، وكانت تتبع كل كوكبة من فرسانه طائفة من حملة الأرزاق بالبغال، وإن مؤرخي العرب متفقون على أن موسى بن نصير وصل بغزواته إلى فرنسة، وأنه في «ناربون»
14
وجد في إحدى الكنائس سبعة تماثيل فضية منقوشة، وكذلك في قرقشونة عرضت لمطامعه في كنيسة «سانت ماري» سبعة أعمدة كبار هائلة من الفضة.
15
وكان العرب يطلقون على فرنسة اسم «الأرض الكبيرة» ويعنون بها جميع الأرض الواقعة بين جبال البيرانه (التي يقول لها العرب: البرانس) وجبال الألب والأوقيانوس ونهر البا ومملكة الروم، وهذه البلاد تنطبق في الحقيقة على فرنسة في زمن شارل مارتل
16
وابنه ببين
17
ولا سيما في زمان شارلمان.
18
وكانت الأمم التي في هذه المملكة تتكلم بعدة لغات كما يقول مؤرخو العرب.
وقد كان أشد ما بهت له المسيحيون أوانئذ أنهم كانوا يرون أعداءهم هؤلاء في كل مكان وفي وقت واحد، وكانت طريقتهم في الفتح أنه إذا خضع لهم بلد بدون قتال لم يعتدوا على سكانه في مالهم ولا في دينهم، وإنما كانوا يحولون جانبا من الكنائس إلى جوامع ويغنمون ما فيها من النفائس، ويضعون أيديهم على الأراضي التي نزح أهلها وعلى الخيل والأعتدة التي كانت ضرورية لهم في تلك الغزوات المتواصلة، وكانت الجزية التي يضربونها على الأهالي متفاوتة بحسب الأحوال، وربما أخذوا من الأهالي رهائن ليستوثقوا منهم، فأما البلاد التي لم تخضع لهم إلا بالسيف فقد كانت عرضة لجميع المظالم التي تصحب الفتوحات، وكان يضرب عليها ضعف جزية البلاد الخاضعة بلا قتال، وكانوا يتركون فيها حامية لحفظها، وربما جعلوا في هذه الحامية بعض اليهود الذين كانت عداوتهم للمسيحيين أضمن سبب للثقة بهم.
وقد ذكر مؤرخو العرب في عرض الكلام على الفتوحات العربية في فرنسة أنه قد كان مقصد موسى بن نصير رحمه الله المعاد إلى دمشق حضرة الخلافة عن طريق ألمانيا مارا بالقسطنطينية وبآسية الصغرى، بحيث يصبح البحر المتوسط كله عبارة عن بحر متوسط للمملكة الإسلامية، يخدم مواصلات بعضها مع بعض، أما مؤرخو المسيحيين فلم يذكروا شيئا عن دخول موسى إلى أرض فرنسة، ولعل زحفة موسى عليها كانت قاصرة على غارات سريعة مر بها كخطفة البازي ورجع. ومما لا مشاحة فيه أن النصرانية كانت يومئذ تحت أشد الأخطار، وأن الإنسان ليرتجف رعبا عندما يفكر فيما كان يمكن أن يحل بأوربة لو لم يقع الخلف من أول الأمر بين العرب الغالبين» أ.ه كلام رينو ملخصا.
وقد استشهد رينو هنا بكلام المقري فوجب أن ننقل قول المقري في هذا الصدد جاء في الصفحة 129 من الجزء الأول من نفح الطيب ما يأتي ببعض اختصار: كانت نفس موسى بن نصير تنزعج إلى جليقية (وهي ما يسميه الإفرنج
Galicie
غاليسيا وقاعدتها مدينة كان العرب يسمونها شانت ياقو
Santiago
ويقول لها الإفرنج
Saint-Jacques De Compostelle ) فبينما هو يعمل في ذلك ويعد له إذ أتاه مغيث الرومي رسول الوليد بن عبد الملك يأمره بالخروج عن الأندلس والإضراب عن الوغول فيها، فساءه ذلك وقطع به عن إرادته؛ إذ لم يكن في الأندلس بلد لم تدخله العرب إلى وقت ذلك غير جليقية، فكان شديد الحرص على اقتحامها، فلاطف موسى مغيثا رسول الخليفة وسأله أنظاره إلى أن ينفذ عزمه في الدخول إليها ويكون شريكه في الأجر والغنيمة، ففعل ومشى معه حتى بلغ المفازة فافتتح حصن بارو وحصن لك (هو في الإفرنجية
Luque ) فأقام هناك وبث السرايا حتى بلوغ صخرة بلاي على البحر الأخضر، وطاعت الأعاجم فلاذوا بالسلم وبذل الجزية، وسكنت العرب المفاوز، وكان العرب والبربر كلما مر قوم منهم بموضع استحسنوه حطوا به ونزلوه قاطنين، فاتسع نطاق الإسلام بأرض الأندلس، وبينما موسى كذلك في اشتداد الظهور وقوة الأمل إذ قدم عليه رسول آخر من الخليفة يكنى: أبا نصر أردف به الوليد مغيثا لما استبطأ موسى في القفول، وكتب إليه يوبخه وألزم رسوله إزعاجه، فانقلع حينئذ من مدينة «لك» بجليقية وخرج على الفج المعروف بفج موسى، ووافاه طارق في الطريق منصرفا من الثغر الأعلى، فأقفله مع نفسه ومضيا جميعا، وقف معهما الرسولان مغيث وأبو نصر حتى احتلوا أشبيلية، فاستخلف موسى ابنه عبد العزيز على إمارة الأندلس وأقره بمدينة أشبيلية لاتصالها بالبحر، وركب موسى البحر إلى المشرق بذي الحجة سنة خمس وتسعين وطارق معه، وكان مقام طارق قبل دخول موسى سنة، وبعد دخوله سنتين وأربعة أشهر، وحمل موسى الغنائم والسبي وهو ثلاثون ألف رأس والمائدة (سيأتي ذكر ذلك كله في محله من الجزء الآتي) منوها بها ومعها من الجواهر ما لا يقدر قدره، وهو مع ذلك متلهف على الجهاد الذي فاته آسف على ما لحقه من الإزعاج، وكان يؤمل بأن يخترق ما بقي عليه من بلاد إفرنجة ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس في الشام، متخذا مخترقه بتلك الأرض طريقا مهيعا يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من المشرق وإليه على البر لا يركبون بحرا، وقيل: إنه أوغل في أرض الفرنجة حتى انتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار فأصاب فيها صنما عظيما قائما كالسارية مكتوبا فيه بالنقر كتابة عربية قرئت فإذا هي: «يا بني إسماعيل انتهيتم فارجعوا» فهاله ذلك، وقال: ما كتب هذا إلا لمعنى كبير، فشاور أصحابه في الإعراض عنه وجوازه إلى ما وراءه فاختلفوا عليه، فأخذ برأي جمهورهم وانصرف بالناس وقد أشرفوا على قطع البلاد وتقصي الغاية أ.ه.
وجاء في نفح الطيب بعد ذلك بصفحتين ما يأتي: وذكر بعض المؤرخين أنهم وجدوا في الحجر بعدما تقدم من الكتابة التي هي: ارجعوا يا بني إسماعيل ... إلخ ما معناه: (وإن سألتم لم ترجعون فاعلموا أنكم ترجعون ليضرب بعضكم رقاب بعض).
19
أ.ه.
وقال ابن خلدون عن دخول موسى بن نصير إلى الأندلس ما يلي:
نهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين في عسكر ضخم من وجوه العرب والموالي وعرفاء البربر، فوافوا خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء، فأجاز إلى الأندلس، وتلقاه طارق فانقاد واتبع. ويقال: إن موسى لما سار إلى الأندلس عبر البحر من ناحية الجبل المنسوب إليه المعروف اليوم بجبل موسى، وتنكب النزول على جبل طارق وتمم الفتح وتوغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة المشرق، وأربونة في الجوف، وصنم قادس في الغرب، ودوخ أقطارها وجمع غنائمها، وأجمع أن يأتي المشرق من ناحية القسطنطينية، ويتجاوز إلى الشام دروب الأندلس ودروبه، ويخوض إليه ما بينهما من بلاد أعاجم أمم النصرانية مجاهدا فيهم ومستلحما لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة من دمشق، ونمى الخبر إلى الخليفة الوليد فاشتد قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب، ورأى أن ما هم به موسى تغرير بالمسلمين، فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف وأسر إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع هو، وكتب له بذلك عهده، ففت ذلك في عزم موسى وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة والحامية في ثغورها، واستعمل ابنه عبد العزيز لسدها وجهاد عدوها وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة، واحتل موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين، وارتحل إلى المشرق سنة ست بعدها، بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظهر. يقال: إن من جملتها ثلاثين ألف رأس من السبي. وولى على إفريقية ابنه عبد الله، واندرجت ولاية الأندلس يومئذ في ولاية المغرب، فكان صاحب القيروان ناظرا في الجميع، وقدم موسى على سليمان بن عبد الملك وقد ولي الخلافة بعد الوليد فسخطه ونكبه. وثارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز فقتلوه لسنتين من ولايته بإغراء الخليفة سليمان، وكان خيرا فاضلا وافتتح في ولايته مدنا كثيرة، وكان الذي تولى قتله حبيب بن أبي عبيدة الفهري، وكان سبب غضب سليمان على موسى أنه لما توجه إلى المشرق وانتهى إلى مصر وصل أشرافها وفقهاءها وبلغه الخبر بمرض الوليد، ووافاه كتابه يستحثه على القدوم، ووافاه كتاب آخر من سليمان يثبطه، فأسرع موسى باللحاق بالوليد فقدم عليه قبل وفاته بثلاثة أيام ودفع إليه ما معه من الذخائر والأموال، فغاظ ذلك سليمان، وأساء مكافأته حين أفضى الأمر إليه فنكبه ونكب آل بيته أجمع، وكانت وفاة موسى رحمه الله بالمدينة المنورة سنة ثمان وتسعين، وقيل غير ذلك. أ.ه.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد القيرواني: ارتدت البربر اثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة، ولم يستقر إسلامهم حتى عبر موسى بن نصير البحر إلى الأندلس، وأجاز معه كثيرا من رجالات البربر برسم الجهاد، فاستقروا هنالك فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه وتناسوا الردة. أ.ه.
وقال ابن عذارى المراكشي في «المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب» ما يلي:
وفي سنة 96 توفي الوليد بن عبد الملك في جمادى الآخرة وولي الخلافة سليمان فغضب على موسى غضبا عظيما وأمر عليه فأوقف في يوم شديد الحر في الشمس، وكان رجلا بادنا ذا نسمة، فوقف حتى سقط مغشيا عليه، وقال له سليمان: كتبت إليك فلم تنظر كتابي هلم مائة ألف دينار. فقال: يا أمير المؤمنين، قد أخذتم ما كان معي من الأموال فمن أين لي مائة ألف؟ فقال سليمان: لا بد من مائتي ألف. فاعتذر، فقال: لا بد من ثلاثمائة ألف دينار، وأمر بتعذيبه وعزم على قتله. فاستجار بيزيد بن المهلب، وكانت له حظوة عند سليمان فاستوهبه منه وقال: يؤدي ما عنده. وقيل: إن موسى افتدي من سليمان بألف ألف دينار. ذكر ذلك ابن حبيب وغيره. ثم إن يزيد بن المهلب سهر ليلة مع الأمير موسى فقال له: يا أبا عبد الرحمن، في كم تعتد أنت وأهل بيتك من الموالي والخدام، أتكونون في ألف؟ فقال: نعم وألف وألف. قال: فلم ألقيت بيدك إلى التهلكة؟ أفلا أقمت في قرار عزك وموضع سلطانك؟ فقال: والله لو أردت ذلك لما نالوا من أطرافي شيئا، ولكني آثرت الله عز وجل ولم أر الخروج عن الطاعة. أ.ه.
قلت: لم يكن يزيد بن المهلب بالذي يجهل فضل الطاعة للخليفة وشناعة شق العصا، ولكنه قال لموسى هذا الكلام لما أثار من غيظه عمل خليفة كسليمان بن عبد الملك برجل عظيم خدم الإسلام ما لم يخدمه أحد مثل موسى بن نصير، فقد كافأه بما لا يكافأ به مجرم، وهو في الحقيقة لا من أعاظم رجال الإسلام فقط بل من أعاظم رجال العالم، وحسبك أنه هو الذي دوخ البربر المشهورين بشدة البأس وصعوبة المراس بعد أن أشعلوا ثورات، لا ينادى وليدها ولا يحصى عديدها، وبعد أن ارتدوا عن الإسلام اثنتي عشرة مرة، فلم يستقر إسلامهم إلا على يد موسى بن نصير، وحسبك أنه دخل الأندلس واستتم فتحها واستصفى ممالكها وهو ابن 75 سنة، وكان جميع جيشه هو وطارق لا يزيد على ثلاثين ألف مقاتل، ولو أن قائدا معه ثلاثمائة ألف مقاتل ما أحاط بالأندلس وأثخن فيها ما أحاطه موسى وأثخنه في ذلك الأمد القصير بين أمم أعداء تموج حواليه كالأبحر الزاخرة، وما رأى الأندلس وحدها كفؤا لهمته بل حدثته نفسه التي قل مثلها في نفوس البشر في بعد الهمة، أن يوغل في أرض الإفرنج، ويعطف منها إلى الشرق حتى ينفذ من القسطنطينية.
وقرأت في «تاريخ دول الإسلام» للإمام الذهبي أن موسى بن نصير توفي في وادي القرى عن 78 عاما، وأنه كان يقول: لو أطاعني عسكري نفذتهم حتى أفتح رومية.
وروى ابن عذارى أنه أقام على المغرب والأندلس أميرا نحوا من 18 سنة.
ومما ذكر في وفاته أنه حج مع الخليفة سليمان فلما وصلا إلى المدينة قال موسى لأصحابه: ليموتن بعد غد رجل قد ملأ ذكره المشرق والمغرب، وبالفعل كان موسى الرجل الذي ملأ اسمه المشرق والمغرب، وكان في الرجولية كالصخرة التي تنحط عنها السيول.
هذا ولم يكتف سليمان بنكبة موسى في شخصه حتى نكب جميع أولاده، فأمر محمد بن يزيد أمير إفريقية بأخذ عبد الله بن موسى بن نصير وتعذيبه واستئصال أموال بني موسى، فسجنه محمد وعذبه ثم قتله، وأما عبد العزيز بن موسى فقد رويت في أسباب قتله روايات كثيرة، أقربها إلى العقل أنه لما بلغه ما حل بأبيه وأخيه وأهل بيته خلع طاعة بني مروان، فجاء أمر سليمان إلى وجوه العرب بالأندلس بقتله، فقتلوه وحمل رأسه ورأس أخيه عبد الله حتى وضعا بين يدي أبيهما موسى وهو في عذابه.
20
قال ابن عذارى: «فكان فعل سليمان هذا بموسى من هفوات سليمان التي لم تزل تنقم عليه».
قلت: من هفوات ابن عذارى أن يعبر عن أعمال سليمان هذه بلفظة هفوات، وهي في الواقع من الجرائم التي لا تغفر، ولكن مما لا يجوز أن ننساه أن موسى بن نصير أخذته الغيرة مما وفق إليه طارق بن زياد من الفتوح، وأهانه بعد أن تلاقيا في الأندلس، وكان هذا العمل الصغير غير متناسب مع كبارة نفس موسى وعلو همته، ولم يخل من تأثير في قضية نكبته؛ لأن طارقا شكا إلى الخليفة ما فعله به وظاهره في ذلك مغيث الرومي رسول الوليد إلى الأندلس. قال صاحب «أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها رحمهم الله والحروب الواقعة بينهم» وهو من أقدم ما كتب من تواريخ الأندلس يظهر أن صاحبه حرره
21
في عهد الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر: أنه لما دخل موسى الأندلس كان ذلك سنة ثلاث وتسعين ومعه ثمانية عشر ألفا - وهذا خلاف الرواية التي نقلها المقري وهي أنه دخلها بعشرة آلاف - وقد بلغه ما صنع طارق فحسده، فلما نزل الجزيرة قيل له: اسلك طريقه. قال: ما كنت لأسلك طريقه. فقال له العلوج الأدلاء: نحن ندلك على طريق هي أشرف من طريقه، ومدائن هي أعظم خطبا من مدائنه لم تفتح بعد يفتحها الله عليك إن شاء الله، فامتلأ بذلك سرورا، فكأن فعل طارق قد غمه، فساروا به إلى مدينة شذونة فافتتحها عنوة ألقوا بأيديهم إليه، ثم سار إلى مدينة قرمونة
22
فقدم إليها العلوج الذين معه، وهي مدينة ليس في الأندلس أحصن منها ولا أبعد من أن ترجى بقتال أو حصار، وقد قيل له حين دعا إليه: ليست تؤخذ إلا باللطف، فقدم إليها علوجا ممن قد أمنه، واستأمن إليه مثل (يليان) ولعلهم أصحاب يليان، فأتوهم على حال الأفلال معهم السلاح فأدخلوهم مدينتهم، فلما دخلوها بعث إليهم الخيل ليلا وفتحوا لهم باب قرطبة - من أبواب قرمونة - فوثبوا على أحراسه ودخل المسلمون قرمونة، ومضى موسى إلى أشبيلية وهي أعظم مدائن الأندلس شأنا وخطبا وأعجبها بنيانا وآثارا، وكانت دار الملك قبل غلبة القوطيين على الأندلس، فلما غلب القوطيون حولوا السلطان إلى طليطلة ، وبقي شرف الرومانيين وفقههم ودينهم ورئاستهم في دنياهم بأشبيلية، فأتاها موسى بن نصير حتى حصرها أشهرا، ثم إن الله فتحها وهرب العلوج إلى مدينة باجة، فضم موسى يهودها ومضى إلى مدينة ماردة، وكانت أيضا دار بعض ملوك الأندلس، ذات آثار وقنطرة وقصور وكنائس تفوت الوصف، فحصرها وقد كان أهلها خرجوا إليه وزحمهم دفعة، فقاتلوه من سورها على قدر ميل أو أكثر قتالا شديدا، فلما رأى خروجهم إليه أبصر فيها حفرا كانت مقاطع للصخر فأكمن فيها الرجال والخيل ليلا، فلما أصبح زحف إليهم فخرجوا إليه كهيئة خروجهم بالأمس، فركبهم المسلمون وخرج عليهم الكمين وقتلوا قتلا ذريعا، ونجا من نجا منهم إلى المدينة، وهي مدينة حصينة لها سور لم يبن الناس مثله، فثبت عليهم يقاتلهم أشهرا حتى عمل دبابة فدب المسلمون تحتها إلى برج من أبراجها فنقبوا صخره، فلما نزعوا صخره أفضوا في داخله إلى الصماء التي يقال لها: «اللاشة ماشة» بلسان أهل الأندلس، فنبت عنها معاولهم وفئوسهم، فبينا هم يضربون فيها إذ استفاق عليهم العلوج فاستشهد المسلمون تحت الدبابة فسمي بذلك البرج «برج الشهداء» إلى اليوم، وما أقل من يعرف هذا، وكان فتحه لها في رمضان سنة أربع وتسعين يوم الفطر، فلما كان من أمر الشهداء ما كان، قال العلوج: قد كسرناه، فإن كان يوما مجيبا إلى الصلح فاليوم فاطلبوه إليه، فخرجوا إليه فألفوه أبيض اللحية فراوضوه على شيء لم يوافقه ثم رجعوا، فلما كان قبل العيد بيوم خرجوا إليه ليراوضوه، فإذا هو قد شبب لحيته بالحناء فألفوه أحمر اللحية، فعجبوا، وقال قائلهم: أظنه يأكل ولد آدم، أو ما هذا الذي رأيناه بالأمس؟ ثم خرجوا إليه يوم الفطر فإذا اللحية سوداء فرجعوا إلى أهل مدينتهم فقالوا: يا حماقى، إنما تقاتلون أنبياء يتخلقون، كيف شاءوا يتشببون
23
قد صار ملكهم حدثا بعد أن كان شيخا، اذهبوا فأعطوه ما سأل، فصالحوه على أن جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية للمسلمين، وأموال الكنائس وحليها له، ثم فتحوا له المدينة يوم الفطر في سنة أربع وتسعين، ثم إن عجم أهل أشبيلية تحيلوا على من بها من المسلمين، وجاءوا من مدينة يقال لها: لبلة. ومدينة يقال لها: باجة. وقتلوا من بها من المسلمين - قتل فيها ثمانون رجلا - فقدم فلهم على موسى بن نصير بماردة، فلما فتح ماردة بعث ابنه عبد العزيز على جيش إلى أشبيلية فافتتحها ورجع، ثم مضى موسى من ماردة في عقب شوال يريد طليطلة، وبلغ طارقا إقباله فخرج معظما له متلقيا، فلقيه بكورة طلبيرة، فلما رآه نزل إليه، فوضع موسى السوط على رأسه، وونبه فيما كان من خلاف رأيه، ثم سار به إلى مدينة طليطلة، ثم قال له: أحضرني بما أصبت وبالمائدة
24
فأتاه بها وقد اقتلع رجلا كسرها من أرجلها فقال له: أين هذه الرجل؟ فقال: إني لا علم لي، كذلك أصبتها. فأمر بالرجل فعمل لها من ذهب، وعمل لها سفط من خوص فأدخلها فيه ثم سار حتى افتتح سرقسطة ومداينها. أ.ه.
ولم يرد في «أخبار مجموعة» أن موسى دخل بلاد إفرنجة، ومقتضى كلام صاحب هذا التاريخ أن هذا حصل من بعده، فإنه يذكر بعد ولاية موسى بن نصير ولاية ابنه عبد العزيز، ولا يذكر أن مقتل عبد العزيز كان بإشارة من سليمان بن عبد الملك كما ذكر كثير من المؤرخين، ولا يقول إن عبد العزيز بن موسى خرج عن الطاعة بعد ما بلغه ما فعل الخليفة بأبيه، بل بالعكس هو يقول: إنه لما بلغ الخليفة سليمان قتل عبد العزيز شق ذلك عليه وأمر عبيد الله بن زيد عامله على إفريقية بأن يتشدد في قضية قتل عبد العزيز، وأن يقبض على حبيب بن أبي عبيدة وزياد بن النابغة اللذين قتلاه، وأن يقفلهما إليه مع من شركهما في قتله من وجوه الناس.
الولاة على الأندلس بعد موسى بن نصير
وهو يذكر أن أهل الأندلس ولوا عليهم بعد عبد العزيز واليا صالحا كان يؤمهم في صلاتهم هو «أيوب بن حبيب اللخمي»
25
ابن أخت موسى بن نصير، وتولى بعده «الحر بن عبد الله الثقفي»، ثم في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تولى السمح بن مالك الخولاني، وأمره الخليفة بأن يخمس الأراضي ويخرج منها ما كان عنوة خمسا لله من أرضها وعقارها، وبقر القرى في أيدى غنامها بعد أن يأخذ الخمس، وأمره بأن يكتب إليه بصفة الأندلس وأنهارها، وكان رأيه انتقال أهلها منها لانقطاعهم عن المسلمين.
قال صاحب «أخبار مجموعة»: وليت الله كان أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم إلى بوار إلا أن يرحمهم الله.
وهذه العبارة تدل على أن عقلاء المسلمين من أول الفتح، وفي أيام عنجهية العرب بالأندلس، وأيام كانت قرطبة عاصمة فيها مليون ونصف من السكان، وكان في الأندلس من عز الإسلام ما كان، لم يزالوا يستشعرون خطر المقام بتلك البلاد نظرا لانقطاعها عن بلاد الإسلام، ولكثرة فتن العرب بعضهم مع بعض، وفتن العرب مع البربر وغير ذلك.
هذا وبعد السمح بن مالك الخولاني تولى عنبسة بن سحيم الكلبي، ثم يحيى بن مسلمة الكلبي، ثم عثمان بن أبي سعيد الخثعمي، ثم حذيفة بن الأحوص القيسي، ثم الهيثم بن عقير الكناني، ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي الذي استشهد في واقعة بلاط الشهداء
26
ثم عبد الملك بن قطن المحاربي القرشي.
27
قال صاحب «أخبار مجموعة»: وكان من وصفنا من الولاة يجاهدون العدو ويتوسعون في البلاد حتى بلغو إفرنجة وحتى افتتحت عامة الأندلس. أ.ه.
وذكر المؤرخ (كوندي) الإسبانيولي أن الحر الثقفي هو الذي تجاوز حدود الأندلس إلى بلاد إفرنجة ونواحي أربونة وسبى وغنم وقفل بالأسارى والغنائم.
وقال: إن غزو الحر لإفرنجة وصرف قوته إلى الجهاد في بلاد الغال كانا من الأسباب التي سهلت للمسيحيين الملتجئين إلى جبال آستوريا الاجتماع على العصيان، وزرع نواة المقاومة ووضع أساس دولة مسيحية في إسبانية محل الدولة التي كان قد بادت، وقد انضم إلى هذا السبب سبب آخر أراد الله به تيسير أمرهم هو سخط الناس على إدارة الحر، وتبرم الدهماء بعسفه، المسلمون والمسيحيون في ذلك سواء، فإن الحر كان قد آسف الخاصة والقواد والأمراء وصاروا إلبا عليه، وكانت الأهالي في غاليسيا وليون والجبال الأشتورية حديثة العهد بالخضوع للعرب، فثقل عليهم الظلم أكثر مما ثقل على الذين أطاعوا من قبل، وظهر في ذلك الوقت رجل استفاد من هذه الأحوال الروحية في الشعب وجمع شمل بقايا حزب المقاومة وثار به، وهو بيلاي
28
أول ملك للإسبانيول بعد دخول العرب للأندلس أ.ه.
وذكر صاحب «أخبار مجموعة في فتح الأندلس وأخبار أمرائها والحروب الواقعة بينهم» أن عبيد الله بن الحبحاب بن الحارث، مولى بني سلول من قيس، عندما ولاه الخليفة مصر أقر بشر بن صفوان على إفريقية وولى عقبة بن الحجاج السلولي الأندلس فدخلها سنة 110 وافتتح الأرض حتى بلغ أربونة.
ثم ذكر أنه لما وقعت الواقعة بين العسكر الشامي وعبد الملك بن قطن أمير الأندلس في خبر سيأتي ذكره في الجزء الآتي، وقتل الشاميون عبد الملك وصلبوه في قرطبة، كان ابناه في نواحي أربونة. قال صاحب «أخبار مجموعة»: فلما بلغ ابنيه ما كان حشدا من أقصى أربونة وراجعا أهل البلد والبربر، وسيوفهم تقطر من دماء البربر، فرضيت البربر أن تنال ثأرها من أهل الشام
29
فإذا فرغوا كان لهم في أهل البلد رأي، فأقبل قطن وأمية ومعهما عبد الرحمن بن حبيب، وأقبل معهم عبد الرحمن بن علقمة اللخمي صاحب أربونة، فأقبلوا في مائة ألف أو يزيدون أ.ه.
ومن هنا يعلم القارئ ما كان من بال العرب بأربونة منذ خيم الإسلام بعقرتها، وما كان من وفرة جيوشهم فيها لأجل الرباط وسداد الثغور.
رجع إلى حديث استيلاء العرب على جنوبي فرنسة
نعود إلى كلام المستشرق «رينو» في موضوع غارات العرب على جنوبي فرنسة، فهو يذكر أن فتن العرب المستمرة المصطلمة، بعضهم مع بعض، قد نفست من خناق المسيحيين في الأندلس وإفرنجة، ويقول: إن معظم اهتمام الخلفاء كان وقتئذ توجه إلى الاستيلاء على القسطنطينية التي كانوا أغزوها جيشا عدته مائة وعشرون ألف مقاتل، وأسطولا عدده ألف وثمانمائة سفينة، ولا شك أن سموهم إلى فتح شرقي أوربة شغلهم عن الزحف على غربي أوربة، ولكنه يقول: إن مؤرخي العرب ذكروا مع ذلك بعض غارات على «اللانغدوق» في أيام ولاية الحر الثقفي سنة 718 مسيحية.
وقد أيد هذه الرواية «أيزيدور» أسقف «باجة»
30
وهو من المؤرخين الذين عاشوا في ذلك العصر، و«لذريق شيمنيس» مطران طليطلة
31
وقالوا: إن العرب زحفوا إلى الأمام حتى وصلوا إلى مدينة «نيم»، ولم يجدوا مقاوما ورجعوا بالغنائم والسبي الكثير.
قال رينو: ولم تكن مقاطعات جنوبي فرنسة لتقدر أن تقف في وجه العرب المندفقين عليها من جبال البيرانه، وكان الحكم للدولة المعروفة بدولة «الكسالى»
32
إذ ذاك، وكانت بلاد اللانغدوق يقال لها: «القوطية»
Gotie
بسبب طول مقام القوط بها، وقد يقال لها أيضا: «سبيتمانية» أي «السبعية» لاشتمالها على المدن السبع: أربونة، ونيم، واقد، وبيزيه، ولوديف، وقرقشونة، وماقلونة.
33
وكانت من جملة مملكة «أود» دوق اكيتانيه
34
وكان هذا يدعي أنه من ذرية الملك كلوفيس
35
وبهذا السبب كان من أبناء عم ملوك فرنسة الشمالية فكان يكره بطبيعة الحال حجاب القصر، الذين قد استولوا على الأمور واستبدوا بها من دون الملوك، ولم يبق لهم هم إلا في توطيد سلطتهم وسلطة جنس الفرنج
36
في تلك المملكة مما ثني أعنتهم عن صد العرب الموجفين على جنوبي فرنسة.
فصارت بلاد اللانغدوق والبروفانس متروكة لأهلها الغاليين
37
وكان هؤلاء شعبا مركبا من أعقاب الرومانيين القدماء ومن القوط، وكانت لكل من الفريقين عادات خاصة وشرائع يمتاز بها، فلم يكن من واق لجنوبي فرنسة في ذلك الوقت أحسن من وقوع بأس العرب فيما بينهم، وذلك أن حكومة إسبانية العربية كان مرجعها القيروان في إفريقية، وحكومة إفريقية كانت عائدة إلى دمشق دار الخلافة، فلم يكن من الممكن أن تكون سلطة موزعة إلى هذا الحد، وأن تتعدد مراكزها كل هذا التعدد وأن يستتب بها النظام، وأن تقيم على الطاعة رجالات نشأوا في ظلال السيوف، ثم إن النزاع كان وقع بين العرب والبربر، وبين المسلمين وغير المسلمين من الجيوش الفاتحة، ولما كانت أراضي المسيحيين التي دخلت في حوزة الفاتحين قد صارت إلى أيدي عدد من ذوي الأطماع ، وحرم كثير من المستحقين الفيء الذي يستحقونه، أدى ذلك النزاع أخيرا إلى القتال، وسالت الدماء ومشت الصفوف بعضها إلى بعض، وهناك سبب آخر كان به أعظم الفرج لفرنسة، نفس من خناقها وأرخى من رباقها وهو انتفاض عصابة من مسيحيي إسبانية فيهم شماس، وصعوبة مراس ثاروا بالعرب ثورة الضواري، وأبوا إلا الدفاع عن دينهم ووطنهم، فلجأوا إلى جبال آستورية
38
وغاليسية
39
ونابار.
40
وهناك بدأوا بمقاومة لم تضع عصاها إلا بإجلاء المسلمين أجمع عن تلك البلاد.
وكان الخليفة الجديد عمر بن عبد العزيز اطلع على ما دب من الخلل إلى موقف العرب بالأندلس، فأنفذ إليها السمح بن مالك الخولاني أميرا، وعهد إليه بإصلاح الأمور ورم الثغور، وكان السمح مدبرا حكيما وقائدا باسلا وسائسا حازما، ذا دربة بتمشية الأمور، فرتق الفتوق، ووازن بين الدخل والخرج، وأنصف الجند في الأعطيات، ووزع على المجاهدين جانبا من الأراضى، وعهد بما بقي منها إلى وكلاء من ذوي الأمانة ورد ريعها إلى بيت المال، وكان الخليفة قد أمر السمح بأن يقدم له بيانا عن البلدان المفتوحة وما فيها من النفوس والجبايات، ليبرم في أمر الأندلس رأيا، فقد كان عمر بن عبد العزيز شديد الخوف على الإسلام، وكان قد هاله بقاء ذلك العدد الكبير من المسيحيين في تلك البلاد، واستشعر من ورائهم خطرا على مستقبل المسلمين، ففكر في إجلاء مسيحيي إسبانية وجنوبي فرنسة إلى إفريقية حيث لا يكون من وجودهم تهلكة على الدولة، إلا أن السمح طمأن مخاوف الخليفة قائلا له: إن الإسلام ينمو وينتشر وتمتد شماريخه بسرعة في إسبانية، وأنه لا يبعد اليوم الذي تصير فيه تلك البلاد بأجمعها تابعة لدين محمد. روى ذلك بعض مؤرخي العرب وأسفوا من كون السمح بن مالك الخولاني لم يعمل برأي الخليفة في هذا الموضوع.
41
انتهى.
ولنقابل الآن كلام رينو وكلام من نقل عنهم من مؤرخي الإسبانيول والإفرنج بكلام العرب لتزداد الحقائق وضوحا فنقول: نقل المقري في النفح عن ابن حيان ما يلي:
قالوا: إن موسى اصطلح مع طارق وأظهر الرضى عنه وأقره على مقدمته على رسمه، وأمره بالتقدم أمامه في أصحابه وسار موسى خلفه في جيوشه فارتقى إلى الثغر الأعلى، وافتتح سرقسطة وأعمالها، وأوغل في البلاد، وطارق أمامه، لا يمران بموضع إلا فتح عليهما وغنمهما الله تعالى ما فيه، وقد ألقى الله الرعب في قلوب الكفرة لم يعارضهما أحد إلا بطلب صلح، وموسى يجيء على أثر طارق في ذلك كله ويكمل ابتداءه، ويوثق للناس ما عاهدوه عليه، فلما صفا القطر كله وطمأن نفوس من أقام على سلمه، ووطأ لأقدام المسلمين في الحلول به أقام لتمييز ذلك وقتا، وأمضى المسلمين إلى إفرنجة ففتحوا وغنموا وسلموا وعلوا وأوغلوا حتى انتهوا إلى وادي «ردونة»
42
فكان أقصى أثر العرب ومنتهى موطئهم من أرض العجم، وقد دوخت بعوث طارق وسراياه بلد إفرنجة، فملكت مدينتي برشلونة
43
وأربونة
44
وصخرة «أبينيون»
45
وحصن «لودون»
46
على وادي ردونة، فبعدوا عن الساحل الذي منه دخلوا جدا، وذكر أن مسافة ما بين قرطبة وأربونة من بلاد إفرنجة ثلاثمائة فرسخ وخمسة وثلاثون فرسخا، وقيل: ثلاثمائة فرسخ وخمسون فرسخا. ولما أوغل المسلمون إلى أربونة ارتاع لهم قارله ملك الإفرنجة بالأرض الكبيرة وانزعج لانبساطهم، فحشد لهم وخرج عليهم في جمع عظيم، فلما انتهى إلى حصن لودون، وعلمت العرب بكثرة جموعه زالت عن وجهه، وأقبل حتى انتهى إلى صخرة أبينيون فلم يجد بها أحدا، وقد عسكر المسلمون قدامه فيما بين الأجبل المجاورة لمدينة أربونة، وهم بحال غرة لا عيون لهم ولا طلائع، فما شعروا حتى أحاط بهم عدو الله قارله، فاقتطعهم عن اللجا إلى مدينة أربونة، وواضعهم الحرب فقاتلوا قتالا شديدا استشهد فيه جماعة منهم، وحمل جمهورهم على صفوفه حتى اخترقوها ودخلوا المدينة ولاذوا بحصانتها، فنازلهم بها أياما أصيب له فيها رجال، وتعذر عليه المقام وخامره ذعر وخوف مدد للمسلمين، فزال عنهم راحلا إلى بلده، وقد نصب في وجوه المسلمين حصونا على وادي ردونة شكها بالرجال فصيرها ثغرا بين بلده والمسلمين، وذلك بالأرض الكبيرة خلف الأندلس. انتهى.
إن كلام ابن حيان هذا يجمل خبر غزوات العرب لإفرنجة أو فرنسة من أيام موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى زمان عبد الرحمن الغافقي، ومنه يعرف أن غزو العرب لإفرنجة يرجع إلى أول الفتح الأندلسي، وإن كان مؤرخو الإفرنج لا يذكرون مغازي العرب لفرنسة إلا من بعد ولاية السمح بن مالك الخولاني، وأما المؤرخان المسيحيان أيزيدور الباجي وشيمينش مطران طليطلة، وأولهما عاصر زمان الفتح، فإنهما يذكران غارات للعرب على فرنسة في زمان الحر بن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي أمير الأندلس بعد عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي ثأر به الجند، وقتلوه حسبما تقدم الكلام عليه.
والذي في نفح الطيب نقلا عن ابن خلدون أن محمد بن يزيد عامل الخليفة سليمان بن عبد الملك على إفريقية لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسى بن نصير بعث الحر بن عبد الرحمن الثقفي أميرا على الأندلس. وفي صفحة 140 من نفح الطيب من الجزء الأول الطبعة الأزهرية يذكر أمراء الأندلس على النسق الآتي:
طارق بن زياد مولى موسى بن نصير، ثم الأمير موسى بن نصير، وكلاهما لم يتخذ سريرا للسلطنة، ثم عبد العزيز بن موسى بن نصير، وسريره أشبيلية، ثم أيوب بن حبيب اللخمي، وسريره قرطبة، وكل من يأتي بعده فسريره قرطبة والزهراء والزاهرة بجانبيها إلى أن انقضت دولة بني مروان على ما ينبه عليه، ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفي، ثم السمح بن مالك الخولاني، ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، ثم عنبسة بن سحيم الكلبي، ثم عذرة بن عبد الله الفهري، ثم يحيى بن سلمة الكلبي، ثم عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، ثم حذيفة بن الأحوص القيسي، ثم الهيثم بن عبيد الكلابي، ثم محمد بن عبد الله الأشجعي، ثم عبد الملك بن قطن الفهري، ثم بلج بن بشر بن عياض القشيري، ثم ثعلبة بن سلامة العاملي، ثم أبو الخطار بن ضرار الكلبي، ثم ثوابة بن سلامة الجذامي، ثم يوسف بن عبد الرحمن الفهري. قال: وها هنا انتهى الولاة الذين ملكوا الأندلس من غير موارثة أفرادا عددهم عشرون فيما ذكره ابن سعيد، ولم يتعدوا في السمة لفظ الأمير. قال ابن حيان: مدتهم منذ تاريخ الفتح من لذريق سلطان الأندلس النصراني، وهو يوم الأحد لخمس خلون من شوال سنة 92 إلى يوم الهزيمة على يوسف بن عبد الرحمن الفهري وتغلب عبد الرحمن بن معاوية المرواني على سرير الملك قرطبة، وهو يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة 138 ست وأربعون سنة وخمسة أيام. انتهى.
وأما ابن عذارى في «البيان المغرب» فيذكر في الجزء الأول أن محمد بن يزيد أمير إفريقية استعمل على الأندلس الحر بن عبد الرحمن القيسي، وكانت الأندلس إذ ذاك إلى والي إفريقية كما كان أيضا والي إفريقية من قبل والي مصر. ثم قال: وسنة 99 توفي سليمان بن عبد الملك واستخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يوم وفاته فاستعمل على إفريقية إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم. قال: «واستعمل إسماعيل بن أبي المهاجر على الأندلس السمح بن مالك الخولاني. ثم ذكر ابن عذارى أنه عند ولاية بشر بن صفوان على إفريقية ولي الأندلس عنبسة بن سحيم الكلبي. ثم ذكر أنه عند ولاية عبيدة بن عبد الرحمن السلمي على إفريقية تولى عثمان بن أبي نسعة على الأندلس، ثم من بعده حذيفة بن الأحوص القيسي، ثم الهيثم بن عبيد الكناني، ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي الذي استشهد ببلاط الشهداء، ثم ذكر إمارة عبد الملك بن قطن على الأندلس، ثم ولاية بلج بعد مقتل عبد الملك، ثم ولاية ثعلبة بن سلامة العاملي، ثم ولاية أبي الخطار الكلبي، ثم ولاية ثوابة بن سلامة الذي ثار على أبي الخطار وهزمه، ثم ولاية يوسف الفهري آخر أمراء الأندلس الذي دخل في زمانه عبد الرحمن بن معاوية الأموي إلى تلك البلاد.
وأما صاحب «أخبار مجموعة في تاريخ أمراء الأندلس» فذكر بعد إمارة عبد العزيز بن موسى بن نصير إمارة أيوب بن حبيب اللخمي، كان يؤم أهل الأندلس في صلاتهم وكان رجلا صالحا، فولوه أمرهم بعد قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير، وهو ابن عمة عبد العزيز، وجاء بعده الحر بن عبد الله الثقفي
47 (ولم يقل: الحر بن عبد الرحمن الثقفي) ثم ذكر أنه لم يستقر بالحر القرار حتى ولي عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخلافة فعزل عبد الله بن يزيد والي إفريقية (ولم يقل: محمد بن يزيد) وولاها إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم، وذلك أن الخلفاء كانوا إذا جاءتهم جبايات الأمصار والآفاق يأتيهم مع كل جباية عشرة رجال من وجوه الناس وأجنادها، فلا يدخل بيت المال من الجباية دينار ولا درهم حتى يحلف الوفد بالله الذي لا إله إلا هو ما فيها دينار ولا درهم إلا أخذ بحقه، وأنه فضل أعطيات أهل البلد من المقاتلة والذرية بعد أن أخذ كل ذي حق حقه، فأتى وفد إفريقية بخراجها وذلك أنها لم تكن يومئذ ثغرا فكان ما فضل بعد أعطيات الأجناد وفرائض الناس ينقل إلى الخليفة، فلما وفدوا بخراج إفريقية في زمان سليمان أمروا بأن يحلفوا فحلف الثمانية، ونكل إسماعيل بن عبيد الله مولى بني مخزوم، ونكل بنكوله السمح بن مالك الخولاني، فأعجب ذلك عمر بن عبد العزيز من فعلهما ثم ضمهما إلى نفسه فاختبر منهم صلاحا وفضلا، فلما ولي عمر ولى إسماعيل إفريقية، وولى السمح بن مالك الأندلس وأمره أن يخمس أرضها، ويخرج منها ما كان عنوة خمسا لله من أرضها وعقارها، ويقر القرى في أيدي غنامها بعد أن يأخذ الخمس وأن يكتب إليه بصفة الأندلس وأنهارها، وكان رأيه انتقال أهلها منها لانقطاعهم عن المسلمين، وليت الله كان أبقاه حتى يفعل فإن مصيرهم إلى بوار إلا أن يرحمهم الله، فقدمها السمح سنة مائة فوضع يدا في السؤال عن العنوة ليميزه من الصلح وفي إخراج البعوث، وبنى القنطرة وذلك أنه كتب إلى عمر يستشيره ويعلمه أن مدينة قرطبة تهدمت من ناحية غربها، وكان لها جسر يعبر عليه نهرها ووصفه بحمله وامتناعه من الخوض الشتاء عامة «فإن أمرني أمير المؤمنين ببنيان سور المدينة فعلت فإن قبلي قوة على ذلك من خراجها بعد عطايا الجند ونفقات الجهاد، وإن أحب صرفت صخر ذلك السور فبنيت جسرهم» فيقال والله أعلم: إن عمر رحمه الله أمر ببنيان القنطرة بصخر السور، وأن يبني السور باللبن؛ إذ لا يجد له صخرا فوضع يدا فبنى القنطرة في سنة إحدى ومئة.
ثم هلك عمر رحمه الله، فولى يزيد بن عبد الملك بشر بن صفوان أخا حنظلة بن صفوان إفريقية، فعزل بشر السمح بن مالك وولى عنبسة بن سحيم الكلبي، ثم تتابعت ولاة الأندلس بعد عنبسة، فوليها يحيى بن مسلمة الكلبي، ثم وليها بعد يحيى عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، ثم وليها بعد عثمان حذيفة بن الأحوص القيسي، ثم الهيثم بن عفير الكناني، ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، وعلى يديه استشهد أهالي بلاط الشهداء، واستشهد معهم واليهم عبد الرحمن، وولي عبد الملك بن قطن المحاربي محارب فهر من قريش، وولايته الأولى نحو من ستة أشهر، لم تطل، وكان من وصفنا من الولاة يجاهدون العدو ويتوسعون في البلاد حتى بلغوا إفرنجة وحتى افتتحت عامة الأندلس (إلى أن يقول): إن هشام بن عبد العزيز رحمه الله بعث على مصر عبيد الله بن الحبحاب بن الحارث مولى بني سلول من قيس، وجعل إليه أمر إفريقية والأندلس، فأقر بشر بن صفوان على إفريقية، وولى عقبة بن الحجاج الأندلس (ثم قال): فدخل الأندلس (أي: عقبة بن الحجاج) سنة عشر ومئة فأقام عليها سنين وافتتح الأرض حتى بلغ أربونة، وافتتح «جليقية»
48
و«إلبة»
49
و«بنلونة»
50
ولم يبق بجليقية قرية لم تفتتح غير «الصخرة» فإنه لاذ بها ملك يقال له: «بلاي» فدخلها في ثلاثمائة راجل، فلم يزالوا يقاتلونه ويناورونه حتى مات أصحابه جوعا وترامت طائفة منهم إلى الطاعة، فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلا ليست معهم عشر نسوة. فيما يقال: إنما كان عيشهم بالعسل، ولاذوا بالصخرة فلم يزالوا يتقوتون بالعسل معهم جباح
51
والنحل عندهم في خروق الصخرة، احترزوا وأعيى المسلمين أمرهم فتركوهم وقالوا: ثلاثون علجا ما عسى أن يكون أمرهم ؟ واحتقروهم ، ثم بلغ أمرهم إلى أمر عظيم سنذكره إذا بلغنا موضعه إن شاء الله. أ.ه.
ثم ذكر صاحب «أخبار مجموعة»: أن عقبة بن الحجاج بقي أميرا على الأندلس إلى سنة 121 إذ ثارت البربر في إفريقية ودخلوا طنجة، وقتلوا واليها عمر بن عبد الله المرادي، وشغل صاحب إفريقية بشر بن صفوان بهذه الثورة، فوثب عبد الملك بن قطن المحاربي على عقبة بن الحجاج، فخلعه ولا أدري أقتله أم أخرجه؟ فملكها بقية 21، 22، 23 حتى دخل بلج بن بشر القشيري ثم الكعبي بأهل الشام، وقد وصفنا سبب دخوله في أحاديث تأتي بعد هذا.
ثم ذكر ما معناه: أنه بعد موت بلج القشيري تولى الأندلس ثعلبة بن سلمة العاملي، وجار في سياسته، وذهب وفد من الأندلس إلى حنظلة بن صفوان أمير إفريقية يشكون ما هم فيه، فأرسل عليهم واليا أبا الخطار حسام بن ضرار الكلبي، فأصلح الأمور ورضي به الشاميون والبلديون، وكان رجلا من خيار الناس وأنزل أهل الشام في الكور، وبقي أبو الخطار أربع سنين وستة أشهر إلى أن دخل الأندلس الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن، وشمر هو الذي قتل الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه، وقتله بعد ذلك المختار بالكوفة، فارتحل ولد الشمر عن الكوفة إلى الجزيرة، ثم ارتحلوا إلى الأندلس مع جند قنسرين، ورأس الصميل بالأندلس ودانت له قيس فيها واقتتل مع أبي الخطار وانهزم هذا، وتولى ثوابة بن سلمة الجذامي، ثم مات سنة 129، وتولى بعده يوسف بن عبد الرحمن بن عقبة بن نافع الفهري، وفي أيامه اشتدت العداوة بين قيس واليمن، فانحازت مضر وربيعة إلى يوسف ومعه الصميل، واجتمعت يمن الأندلس حميرها وكندتها ومذحجها وقضاعتها تحت لواء أبي الخطار، وكانت بين الفريقين أشد حرب عرفها العرب بعضهم مع بعض. قال صاحب «أخبار مجموعة»: وهي الفتنة العظمى التي بها يخاف بوار الإسلام بالأندلس إلا أن يحفظه الله.
ومن كلام هذا المؤرخ الذي كتب هذا التاريخ في أيام الحكم المستنصر يظهر أنهم كانوا يخشون على إسلام الأندلس البوار ، لا من جهة انقطاع مسلمي الأندلس من وراء البحر فقط، بل من جهة الفتنة التي لا يفتر أوارها فيما بينهم، ولقد وقع ما كانوا منه يحذرون، فما كان زوالهم من هناك بحرب الإسبانيول فحسب بل كان أقوى عامل على زوالهم من الأندلس شدة عداوة بعضهم لبعض، وهو مرض الفرقة الذي رافقهم إلى الساعة الأخيرة من ملكهم هناك.
52
رجع الحديث إلى حرب القيسية واليمانية
ذكر صاحب «أخبار مجموعة» أن ابن حريث
53
وأبا الخطار زحفا إلى يوسف والصميل
54
بقرطبة، فأقبلا حتى نزلا على نهر قرطبة بقبليها بقرية «شقندة»
55
وعبر يوسف والصميل النهر إليهما بمن معهما، فالتقوا حين صلوا الصبح فتطاعنوا على الخيل حتى تقصفت الرماح وثبتت الخيل وحميت الشمس، ثم تداعوا إلى البراز فتنازلوا وتضاربوا بالسيوف حتى تقطعت، ثم تقابضوا بالأيدي والشعور ولم يكن في الإسلام صبر مثله إلا ما يذكر من صفين.
56
ولم يكن القوم بالكثير لا هؤلاء ولا هؤلاء وإنما كانوا خيار الفريقين، وكانوا متقاربين، إلا أن اليمن كانوا أكثر قليلا، فلما أعنى بعضهم بعضا تواقفوا يضرب بعضهم وجوه بعض بالقسي والجعاب، ويحثي بعضهم التراب على بعض؛ إذ قال الصميل ليوسف: ما وفقنا إذ خلفنا جندا نحن منهم في غفلة. قال: ومن هم؟ قال: أهل السوق بقرطبة. فرد إليهم يوسف مولاه خالد بن يزيد وصاحب سوقه، فأخرجا منهم نحوا من أربعمائة راجل معهم الخشب والعصي، ومع قليل منهم السيف والمزراق، فخرج الجزارون بسكاكينهم فجاءوا إلى قوم موتى، وقد مضت الظهر والعصر لم يصلوهما لا صلاة خوف ولا أمن، فجردوهم وقتلوا وأسروا بشرا كثيرا خيارا، وأسروا أبا الخطار وابن حريث وكانا الأميرين، وكان ابن حريث لما رأى أهل سوق قرطبة يقتلون أصحابه تغيب ودخل تحت سرير الرحى التي بموضع بيع الخشب، فلما أسروا أبا الخطار وهموا بقتله قال: ليس علي فوت ولكن عندكم ابن السوداء ابن حريث، فدل عليه فأخرج وقتلا جميعا، وكان ابن حريث يقول: لو أن دماء أهل الشام جمعت لي في قدح لشربتها، فلما استخرج قال له أبو الخطار : يا ابن السوداء هل بقي في قدحك شيء لم تشربه؟ فقتلا، وأسر منهم بشر كثير. ثم أتي بالأسرى، وقعد الصميل في كنيسة كانت في داخل مدينة قرطبة، وهي اليوم موضع مسجدها الجامع، فضرب أوساط سبعين منهم. فلما رأى ذلك أبو عطاء بن حمد المري قام إليه فقال له: أبا جوشن أغمد سيفك أو ارجع سيفك. قال له: اقعد أبا عطاء فهذا عزك وعز قومك. فجلس ولم يغمد السيف، ثم قام إليه فقال له: يا عرابي، والله إن تقتلنا إلا بعداوة صفين لتكفن أو لأدعون بدعوة شامية، فأغمد سيفه وأمن الناس على يدي أبي عطاء بعد بلاء عظيم، فيقال والله أعلم: إن تلك الوقيعة توجد في بعض العلم أنها قاطعة الأرحام.
57
وكانت قبل سنة إحدى وثلاثين ومئة، قال: فأعقبهم الله بالجوع والقحط، فجاعت الأندلس سنة اثنتين وثلاثين ثم سنة ثلاث، فثار أهل جليقية على المسلمين وغلظ أمر علج يقال له بلاي، قد ذكرناه في أول كتابنا، فخرج من الصخرة
58
وغلب على كورة «واستورس»
59
ثم غزاه المسلمون من جليقية وغزاه أهل «استورقة»
60
زمانا طويلا حتى كانت فتنة أبي الخطار وثوابة.
61
فلما كان في سنة ثلاث وثلاثين هزمهم وأخرجهم عن جليقية كلها، وتنصر كل مذبذب في دينه وضعف عن الخروج، وقتل من قتل وصار فلهم إلى خلف الجبل إلى «أستورقة» حتى استحكم الجوع فأخرجوا أيضا المسلمين عن أستورقة وغيرها، وانضم الناس إلى ما وراء الدرب الآخر وإلى «قورية»
62
و«ماردة»
63
في سنة ست وثلاثين، واشتد الجوع فخرج أهل الأندلس إلى طنجة وأصيلا وريف البربر ممتارين ومرتحلين، وكانت إجازتهم من واد بكورة «شذونة»
64
يقال له: وادي «برباط»
65
فتلك السنون تسمى سني برباط فخف سكان الأندلس، وكاد أن يغلب عليهم العدو إلا أن الجوع شملهم. أ.ه.
هذا ما اخترنا تلخيصه وتمحيصه من أخبار الأمراء الذين تعاقبوا على الأندلس والذين كانوا يغزون إفرنجة أو فرنسة، ولنضف إليهم ما ذكره ابن عميرة صاحب «بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس»
66
فهو يذكر الحر بن عبد الرحمن القيسي ويقول: إنه عزل بعنبسة بن سحيم الكلبي. ويقول: إن عنبسة تولى الأندلس سنة 106 من قبل بشر بن صفوان أمير إفريقية في أيام هشام بن عبد الملك ومات سنة 107 وقيل 109.
وأما ابن خلدون فيذكر أن ولاية عنبسة بن سحيم كانت من قبل يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية، لا بشر بن صفوان، وأن بشر بن صفوان كان واليا على إفريقية وقت مقتل عنبسة، ولما بلغه الخبر أرسل مكانه واليا على الأندلس يحيى بن مسلمة الكلبي. ويقول ابن خلدون: إن استشهاد عنبسة كان في أرض الفرنجة سنة 107.
وبين ابن خلدون وصاحب «أخبار مجموعة» اختلاف في الأسماء، لعله من تصحيف النساخ، ففي نفح الطيب نقلا عن ابن خلدون يذكر «الهيثم بن عبيد الكلابي» - وهكذا في صبح الأعشى - وفي «أخبار مجموعة» الهيثم بن عفير الكناني، ثم إن صاحب «أخبار مجموعة» يذكر بعد الهيثم ولاية عبد الرحمن الغافقي بلا فاصل، على حين أن ابن خلدون يذكر بعد الهيثم محمد بن عبد الله الأشجعي، ولعل صاحب أخبار مجموعة أهمله لقصر مدته لأنه لم يلبث إلا شهرين.
وأما ابن عذارى فيذكر في «المغرب» أن بشر بن صفوان تولى إفريقية مرتين، وفي الثانية منهما ولى على الأندلس عنبسة بن سحيم. ثم يقول: إنه سنة 107 ولى على الأندلس يحيى بن سلمة الكلبي. ومن هنا يعرف أن مقتل عنبسة بن سحيم بأرض إفرنجة غازيا كان سنة 107، وهذه هي رواية ابن عميرة وابن خلدون أيضا. والمستشرق رينو
67
يقول: إنه قتل سنة 725 مسيحية، والمؤرخ كوندي الإسبانيولي يجعل قتله سنة 106 هجرية الموافقة 724 مسيحية.
ولنرجع إلى تاريخ رينو عن غارات العرب على فرنسة فهو يقول: إن السمح بن مالك الخولاني الذي تولى الأندلس في خلافة عمر بن العزيز بعد أن سكن الدهماء وأصلح الأمور في الداخل، أعمل همته في الجهاد ليستأنف المسلمون الحرارة الأولى، وليجدد عزائمهم بعد الالتياث، ويعقد صرائمهم بعد الانتكاث قال: وكان ذلك سنة 721 مسيحية في خلافة يزيد بن عبد الملك، وكان مضى على فتح العرب للأندلس إحدى عشرة سنة لا غير، فأجاز السمح إلى بلاد فرنسة، تفيض بجيوشه أقطارها، وزعم مؤرخو الإفرنجة المعاصرون أن العرب جاءوا ومعهم نساؤهم وأولادهم؛ لأنهم كانوا على نية الاستقرار في البلاد. قالوا: وكان الفقراء والمحاويج يأتون من جزيرة العرب والشام ومصر وإفريقية ومعهم عائلاتهم لأجل سد مفاقرهم بالفتوحات وارتياد الرزق من وراء الغارات.
قال رينو: ولم يزل السمح يتقدم بجيشه إلى أن صار أمام أربونة فحصرها ولم يلبث أن فتحها وقتل رجالها وسبى نساءها وذراريها، وكانت أربونة بمصاقبتها للبحر وسهولة الوصول إليها بالسفن من إسبانية ثم بمنعتها الطبيعية من جهة البر تصلح أن تكون مسلحة للعرب في أرض إفرنجة، فزاد السمح في تحكيم حصونها ووضع الحاميات في المدن المجاورة لها.
الكلام على مدينة أربونة
Narbonne
كانت زيارتي لأربونة بعد أن قفلت من الأندلس، لا كما كانت زيارتي لطلوزة وقرقشونة، أي قبل أن دخلت إليها. وأربونة هي كما لا يخفى المدينة التي توجهت إليها همة العرب أكثر من الجميع من أرض فرنسة، وذلك لكونها على كثب من البحر ولسهولة التوصل إليها من الأندلس على الماء، وكونها لذلك العهد أهم حاضرة إفرنسية في جوار إسبانية، فكان العرب إذا أفاضوا من جبال البيرانه ناحرين الشمال يجدون أربونة هي المدينة الأولى التي تستقبلهم.
وموقع أربونة هو على ارتفاع 10 أمتار فقط عن سطح البحر الملح، وعلى مسافة 14 كيلو مترا منه إلى الشرق، ونهر الأود يمر بالقرب منها، والسهول التي بينها وبين البحر هي متكونة من الرواسب التي أبقاها هذا النهر بجريه من آلاف وآلاف من السنين.
وهي الآن مدينة من الدرجة الثالثة، لا يزيد عدد أهلها على 30 ألفا، ومناخها شبيه بمناخ المدن العربية، أي: إنها لطيفة الشتاء نادرة الثلج، حارة القيظ لولا نسمات لطاف تهب عليها أحيانا من جهة البحر فتخفف من حرارتها، وفي مدة تزيد على نصف السنة تعصف الرياح في أربونة من الشمال الغربي، وتسفي التراب وتكدر صفو المزاج، ولكنها تفيد في تنشيف ما حول أربونة من المستنقعات، وأكثر حاصلات أربونة من الكرم، وفيها جميع أشجار البلاد الحارة ، وقد شاهدت فيها التين والزيتون والصبير.
ويمر بأربونة جدول اسمه «روبين»
68
مشتق من قناة الجنوب المستمدة من الأود وأربونة من أقدم مدن الأرض، عثروا فيها على آثار الآدميين من العصر الحجري، وعلى قبور مما قبل التاريخ، وفي أواخر القرن الثاني عشر قبل المسيح أغار السلتيون على أربونة واستقروا بها، وكانت لهم علاقات تجارية مع اليونانيين الذين كانوا يترددون إلى سواحل بروفانس والكاتالان.
وقد جعل الجبل المسمى «بالفولسك»
69
مدينة أربونة حاضرة لهم، وجاء الرومانيون سنة 121 قبل المسيح فافتتحوها وصارت في أيامهم مركزا تجاريا عظيما تضارع مرسيلية، وكان الولاة الرومانيون يقيمون بها، وكانت لها امتيازات لعهدهم عريضة، وبلغ عدد أهلها مائة ألف نسمة في ذلك العصر، وسنة 1413 استولى عليها القوط، وتزوج فيها ملكهم أدولف بالأميرة «بلا سيدة غالة»
70
أخت الإمبراطور الروماني، وكانت لزفافه فيها حفلة عظيمة، ثم استولى على أربونة «غوندبود»
71
ملك البرغونديين،
72
لكنه لم يتمتع بها طويلا، وعادت للقوط، وثبت هؤلاء فيها برغم غارات الفرنج عليها.
نقلنا هذه الخلاصة عن «دليل أربونة»
73
ولنذكر ما جاء في هذا الدليل بشأن العرب، قال: في أوائل القرن الثامن للمسيح ظهر العرب على «سبتيمانية» وافتتح «زاما»
74
أربونة سنة 719 بعد حصار استمر ثمانية وعشرين يوما فقتل الرجال وسبي النساء والأطفال، ثم نظر «زاما» إلى أهمية أربونة الجغرافية فحصنها وشحنها بالميرة. وهكذا تمكن العرب فيها من صد غارة شارل مارتل الذي حاصر أربونة سنة 732 بعد أن هزم العرب في معركة بواتيه، ثم إن «ببين» القصير حاصر أربونة سنة 752 ونكص عنها، ولم يتمكن منها سوى شارلمان سنة 759، وذلك بعد أن حاصرها مدة سبع سنوات، فإن الأهالي الذين في البلدة كانوا ملوا هذا الحصار الطويل فثاروا بالحامية العربية وذبحوها، وعاد العرب سنة 792 فحاصروا أربونة، فبعث شارلمان لنجدتها بعثا عدته عشرون ألف مقاتل، عقد لواءه للفارس المشهور غليوم،
75
وتلاقى الجمعان بقرب أربونة، فاستأصل العرب جيش الإفرنج ولم يبق من هؤلاء إلا غليوم وثلاثة عشر من رفاقه، وصلم أنف غليوم في المعركة، ولقب من ذلك اليوم بذي الأنف القصير، إلا أنه أحرز مجد قتل عبد الملك أمير الجيش العربي بيده، فأما أربونة فبرغم انكسار الإفرنج ذلك اليوم لم تسقط في أيدي العرب.
انتهى ما جاء في دليل أربونة، وهذا غير مطابق لما في تواريخ العرب. انظر إلى ما جاء في نفح الطيب في هذا الصدد، قال: «كان هشام (ابن عبد الرحمن الداخل الأموي) يذهب بسيرته مذهب عمر بن عبد العزيز، وكان يبعث بقوم من ثقاته إلى الكور، فيسألون الناس عن سير عماله ويخبرونه بحقائقها، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أوقع به وأسقطه أو أنصف منه ولم يستعمله بعد، ولما وصفه زياد بن عبد الرحمن لمالك بن أنس قال: نسأل الله تعالى أن يزين موسمنا بمثل هذا.
76
وفي أيامه فتحت أربونة الشهيرة، واشترط على المعاهدين من أهل جليقية
77
من صعاب شروطه انتقال عدد من أحمال التراب من سور أربونة المفتتحة يحملونها إلى باب قصره بقرطبة وبنى منه المسجد الذي قدام باب الجنان، وفضلت منه فضلة بقيت مكومة، وقاسى مع المخالفين له من أهل بيته وغيرهم حروبا، ثم كانت الدائرة له. وقصد إلى بلاد الحرب غازيا، وقصد «ألبة»
78 «والقلاع»، فلقي العدو وظفر بهم وفتح الله عليه سنة خمس وسبعين، وبعث العساكر إلى جليقية مع يوسف بن بخت، فلقي «ابن منده»
79
وهزمه، وأثخن في العدو، وفي سنة ست وسبعين بعث وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث
80
لغزاة العدو، فبلغ ألبة والقلاع فأثخن في نواحيها، ثم بعثه في العساكر سنة سبع وسبعين إلى أربونة وجرندة
81
فأثخن فيها ووطئ أرض برطانية.
82
وتوغل عبد الملك في بلاد الكفار وهزمهم، ثم بعث العساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى بلاد جليقية، فانتهى إلى «أسترقة»
83
فجمع له ملك الجلالقة واستمد بملك الباشكنس ثم خام عن اللقاء ورجع أدراجه وأتبعه عبد الملك، وكان هشام قد بعث بالجيوش من ناحية أخرى فالتقوا بعبد الملك وأثخنوا في البلاد، واعترضتهم عساكر الفرنج فنالوا منهم بعض الشيء ثم خرجوا سالمين ظافرين. أ.ه.
فمن هنا يظهر أن العرب عادوا فافتتحوا أربونة في زمان الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل، ولكن الرواية عن الفتح التام والاستقرار تضعف بقول المقري في النفح: «ثم بعثه في العساكر إلى أربونة، وجرندة فأثخن فيها» فإذا كان قد تم له فتحها فلا محل لغزوها ثاني مرة والإثخان فيها. وقد جاء ذكر الأمير هشام في المعلمة الإسلامية لهوتسما وباسيت ورفاقهما، ولم يذكروا أنه فتح أربونة، وإنما قالوا: إنه أغزى مرارا الجيوش الإسلامي بلاد النصارى وجنوبي فرنسة، ووصلت جيوشه إلى «أسترقة» و«أوبياده»
84
من المملكة التي أسسها بقايا ملوك المسيحيين في إسبانية، ممن لم يخضعوا للعرب، من أعقاب بلاي
85
وغزا جيرونة
86
وأربونة، ولم يرد في الأنسيكلوبيديا الإسلامية أنه فتح أربونة.
أما المؤرخ الإسبانيولي كوندي فإنه يذكر غزوات الأمير هشام في جليقية بالجيش الذي أرسله تحت قيادة الحاجب عبد الواحد بن مغيث، وغزواته في نواحي البيرانه بالجيش الذي أرسله تحت قيادة عبد الله بن عبد الملك، ويقول: إن عبد الله هذا فتح جيرونة سنة 793 وفق 177، وبعد أن فاز بفتح هذه البلدة زحف صوب الشمال فعبر البيرانه وفتح أربونة وذبح أهلها واكتسح أقطارها، ووصل إلى قرقشونة حيث تجمعت لصده أمراء البلاد قاطبة، وناجزته الحرب بين قرقشونة وأربونة، فظهر المسلمون في هذه المعركة، وانهزم المسيحيون انهزاما غير تام، يدل على ذلك أن عبد الله قفل راجعا إلى الأندلس بعد تلك الطائلة. وقيل: إن سبب قفوله هو خوفه أنه بطول القتال يفقد الغنائم الوافرة التي كان غنمها. وقالوا: إن هشاما جعل هذه الأموال في بناء جامع قرطبة، ثم إن الأمير ولى عبد الله بن عبد الملك سرقسطة، وسرح عبد الكريم بن الحاجب عبد الواحد إلى جليقية فعاث ودمر، ولكنه سقط في كمين دبره له الأذفنش، وهلك فيه أكثر عسكره وقواده ومنهم يوسف قائد الفرسان.
وأما المستشرق رينو في كتابه: «غارات العرب على فرنسة ومن فرنسة على سافواي وبييمونت وسويسرة» فإنه يذكر ما رواه مؤرخو العرب عن هذه الغزاة وما تابعهم فيه لذريق شيمينيس، ويروي قصة أحمال التراب التي حملها أسارى المسيحيين المساكين على ظهورهم وبالعجلات من مسافة مائتي مرحلة، ويقول: إن مؤرخي العرب زعموا سقوط أربونة تلك النوبة في أيديهم، ولكنه يستبعد هذا الأمر بسبب كون المؤرخين المسيحيين لم يذكروا ذلك ولو بمناسبة دخول المسيحيين ثانية إلى أربونة، ثم يقول: إن النويري الذي روى خبر هذه الغزاة ببعض تفصيل لم يصرح بأن جيوش العرب استولت على أربونة في هذه الغزاة واستقرت فيها،
87
وسنذكر بقية هذا البحث فيما يأتي عند الكلام على غزوات بني أمية في فرنسة.
رجع الحديث إلى السمح بن مالك الخولاني وغارات العرب على فرنسة
قال رينو: وبعد أن انتهى السمح من أمر أربونة، وشجن المدن المجاورة لها بالمقاتلة، زحف نحو طلوزة
88
وكانت وقتئذ عاصمة أكيتانية
89
فحشد «أود» دوق أكيتانية كل ما قدر على حشده من الجنود، وخف لصد العرب عن المدينة، بينما كانوا قد أخذوا بمخنقها واستعملوا المنجنيقات وسائر آلات الحصار في قتالها إلى أن أوشك أهلها أن يسلموها، وإذا باود قد أقبل بجيش يسد الفضاء حتى قال مؤرخو العرب: إن العثير المتطاير من زحف أقدامهم كان يغطي عين الشمس من كثرتهم، فتلا السمح لعسكره الآية القرآنية:
إن ينصركم الله فلا غالب لكم
ولما تدانى الجمعان خيل أن الجبال تلاقى بعضها ببعض، وكانت المعركة من أهول ما يتصوره العقل، وكان السمح يظهر في كل مكان وسيفه ينطف دما وهو يشدد عساكره بقوله وبفعله، وكان كالفحل الهائج لا يرد رأسه شيء أو كالأسد الزائر يحمل على العدو فلا يقف أحد في وجهه، فما هو إلا أن أصابته طعنة خر بها صريعا عن جواده، فلما رآه المسلمون مجدلا
90
فت في أعضادهم ونكصوا على أعقابهم، وتركوا قتلاهم بالعراء ورجعوا إلى الوراء، وكانت هذه الواقعة في شهر مايو من سنة 721 وطاح فيها عدد من فرسان المسلمين المغاوير الذين شهدوا الفتوحات السابقة. ولقد تولى قيادة الجيش - بعد قتل السمح وتقهقر العرب - عبد الرحمن (الغافقي) وعاد به إلى الأندلس.
91
ولما شاع خبر هذه الواقعة دبت الحماسة في قلوب أهالي اللانغدوق والبيرانه وهبوا لخلع طاعة العرب وحميت أنوفهم، إلا أن هؤلاء كانوا لا يزالون متمكنين في أربونة، وكانت قد جاءتهم نجدات من الأندلس فعادوا يشنون الغارات منها على البلاد المجاورة، وآضت جيوشهم تتقدم من كل مكان وتجر بخزائم الطاعة أنوف السكان، وكان الرهبان والقسيسون في ذلك الوقت هم أصحاب الكلمة العليا، وكانت الكنائس والأديار ملأى بالنفائس والذخائر، فلم يكن من العجب أن تتوجه همة العرب قبل كل شيء إلى اجتياح هذه المعابد وصب البلاء على الرهبان، ولم يكن من العجب أن يكون هذا القسم من تاريخنا ملآن بقصص تدمير العرب للأديار والبيع؛ لأن الذين كانوا يكتبون إذ ذاك إنما كانوا من الرهبان والإكليريكيين، فكان معظم كلامهم الحديث عما حل بأديارهم وتقديمها على ديارهم.
فقد جاء في تواريخ الرهبان الذين شهدوا تلك الوقائع أن العرب هدموا دير «جوسل»
92
بقرب «بيزيه»
93
ودير القديس «بوزيل»
94
بقرب «نيم»
95
ودير «صنجيل»
96
بقرب «آرل»
97
والدير المشهور بالثروة المسمى بدير «الترتيل»
98
بقرب «آغيمورت».
99
وكان يسمى كذلك لأن الرهبان كانوا ألزموا أنفسهم فيه النشيد الدائم بتسبيح الرب، وذلك على أنه كلما تعبت طائفة خلفتها طائفة في الترتيل فلا ينقطع الترتيل من الدير لا ليلا ولا نهارا. فدهم العرب هذه الأديار كلها بغتة، منحدرين عليها انحدار العقبان، بحيث لم يقدر الرهابين الذين فيها إلا أن يخلصوا، نجيا برقابهم وببعض ذخائر القديسين التي كانت عندهم،
100
وكان العرب أول ما يعمدون إلى الأجراس والنواقيس فيكسرونها
101
وكانت بعض عصائب من أهالي البلاد تقاتل العرب في الأحايين، وكان هؤلاء لا يسيئون معاملة الذين يدخلون في طاعتهم بدون مقاومة ويكفونهم القتال.
ثم إنه في سنة 724 تولى إمارة الأندلس عنبسة (ابن سحيم الكلبي)
102
واجتاز جبال البيرانه بجيش جرار، وأوغل في البلاد، وفتح قرقشونة وأوقع بمن وجد فيها، ثم فتح نيم وأخذ من أهلها رهائن أرسلهم إلى برشلونة
103
وقد كانت فتوحات عنبسة بحسب رأي أيزيدور الباجي فتوحات حذق ومهارة أكثر منها فتوحات بطش وقوة، ولذلك تضاعف في أيام عنبسة خراج بلاد الغال. وقيل: إن عنبسة نفسه قد زاد الخراج على الأهالي، ولا يظهر أن ذلك صحيح، وإنما ازداد الخراج بتوفيره وبحسن تدبيره، ثم إن عنبسة وقع قتيلا في إحدى الوقائع سنة 725 فخلفه في القيادة «حديرة» وجاءت إلى هذا نجدات من الأندلس، وعادت ريح الإسلام فعصفت ببلاد النصرانية من كل جهة، بحسب تعبير أحد مؤرخي العرب، فالسبتيمانية إلى حدود الرون و«الألبيجوا»
104
و«الرورغ»
105
و«الثبيلاي»
106
و«التبيلاي»
107
صارت ميدانا لغارات العرب، وشملها الخراب من كل جهة، وما لم يؤخذ بالحديد سلطوا عليه النار إلى حد أن كثيرين من الغزاة أنفسهم أكبروا هذا العبث الزائد في تلك البلاد، فإنهم لم يكونوا يعفون عن شيء سوى الجواهر النفيسة والسلاح والخيل وكل ما يزدادون به قوة على قوة.
وأكثر ما شمل الخراب مقاطعة «روديس»
108
فقد احتل العرب فيها حصنا يظنه بعضهم حصن «رو كبريف»
109
والآخرون حصن «بالاغيه»
110
وأخذوا يحتاجون جواره ولا يلقون مناهضا ولا عرقا نابضا، وقد بقيت عندنا عن تلك النوازل شهادة رجل كان يقال له: «دادون»
111
عندما زحف العرب خرج بسلاحه ومعه جماعة مسلحون من أهل وطنه، فجاء العرب إلى بيته ولم يجدوا فيه سوى أمه فأخذوها من جملة السبي، وعادوا إلى الحصن الذي كانوا تبوأوه، فجاء دادون بسلاحه ومعه رفاقه، ووقفوا أمام باب الحصن، وطلب دادون تسليم أمه، وقال: إنه ليس ببارح حتى ينقذها فأجابه واحد من العرب: إن شئت أن نرد عليك أمك فادفع إلينا الجواد الذي أنت راكبه وإلا فإننا نذبح أمك أمام عينيك. فأجاب دادون وقد كاد الغضب يخرجه من عقله: افعلوا بأمي ما تريدون فلا أسلم جوادي. عند ذلك جاء البربري بأم دادون وقطع رأسها وألقاه من فوق الحصن إلى ما بين يدي ذلك المسكين، فعندما شاهد دادون رأس والدته كادت نفسه تزهق من الألم وأخذ ينتحب ويصيح: يا للأخذ بالثأر. ولكنه لم يكن يقدر أن يدخل إلى الحصن، فذهب وقد خولط في عقله وانقطع عن الناس، وأقام على ضفاف وادي «دوردون»
112
في المكان الذي بني فيه فيما بعد الدير المسمى بدير «كونك».
113
وقد استشهد رينو على هذه الحادثة بقصيدة «أرمولدس نيجلوس»
114
التي نشرها في موراتوري
115
ثم الدون بوكيه
116
في مجموعة مؤرخي بلاد الغال، ثم المسيو بيرتس
117
في تاريخ الجرمانيين، وقد جاءت هذه الحادثة في البيت المائتين والسبعة من قصيدة «نيجلوس» وليس يوجد في القصيدة ولا في تاريخ دير «كونك» ما يدل على السنة التي أغار فيها العرب على «رورغ»، ولكن إذا عرفنا أن دادون مات في أواخر القرن الثامن علمنا الزمن الذي وقعت فيه هذه الحادثة، فأما دير «كونك» فقد بقي قائما إلى زمان الثورة الفرنسوية.
ولنذكر حادثا آخر يدل على ما بلغته من الفجائع تلك الغارات التي كان جانب عظيم من فرنسة مرزحا لها، وهذا الحادث وقع في دير «موناستييه»
118
في جهات «فيلي»
119
فقد كان المسلمون اجتاحوا مقاطعات «بوي»
120
و«كليرمون»
121
وكنيسة «بريود»
122
ثم أشرفوا على دير «موناستييه» فجمع القديس «شافر»
123
رئيس الدير رهبانه، وأمرهم بأن ينسحبوا إلى الحراج المجاورة، ويأخذوا معهم الأعلاق النفيسة والذخائر التي في الدير ويتواروا في البرية، إلى أن يتأذن الله بالفرج وبأوقات أحسن فيعودوا فيها إلى متبوئهم الأول، أما هو، أي: القديس المذكور فقد أجمع أن يبقى في الدير مهما كان البرابرة يريدون أن يفعلوا به، فإن أمكنه أن يردهم إلى الصراط المستقيم فذاك، وإلا فإن قتلوه فيكون تردى بالأحمر من أثواب الشهادة، فأخذ الرهبان يبكون ويستغيثون راجين منه أن يذهب معهم إلى البرية ويطلب النجاة كما يطلبون أو أن يتركهم يموتون معه، فأصر القديس على كلامه، وقال لهم: إن اتقاء الخطر ضروري لا سيما إذا كان في السلامة فائدة للكنيسة، وضرب لهم مثلا مسألة الرسول بولس الذي كان اليهود أعداؤه يقتصون أثره في دمشق للاقتصاص منه، ففر منهم ونزل ليلا في زنبيل تدلى به من عن سور المدينة وخلص نجيا، وكذلك بطرس رئيس الحواريين كان قد أجمع الفرار من وجه نيرون لو لم يكن سبق في إرادة الله توقيف خطواته، ثم قال لهم القديس: أما أنا فإني لست بذاهب من هذا الدير، فإن من واجبات الراعي أحيانا أن يضحي بنفسه في سبيل خلاص رعيته، وإني إن سال دمي هذه المرة فربما يسكن بانفجاره الغضب الإلهي الثائر بدون شك من خطايا البشر.
فلما رأى الرهابين تصميم القديس هذا لم تسعهم إلا طاعته، وبعد أن سمعوا القداس وأخذوا معهم النفائس التي في الدير خرجوا إلى البرية، وتغلغلوا في الغابات، ولكن انسل منهم اثنان فصعدوا فوق رابية مشرفة على الدير ليشهدوا ما عساه أن يقع فيه، ولم يلبث العرب أن حضروا فوجدوا القديس «شافر» عاكفا على الصلاة في زاوية من الدير، فلم يأبهوا له، وإنما أخذوا يطوفون في الدير أملا بالعثور على شيء يغنمونه، وكان مرادهم أن يثقفوا الرهبان وأن يأخذوا منهم أحدثهم سنا وأقواهم بنية ليبيعوهم في سوق النخاسين بالأندلس، فلما علموا أن الرهبان قد فروا بأسرهم وأنه لم يبق في الدير شيء من النفائس التي كانت تحدثهم أنفسهم بها استشاطوا غضبا وانهالوا على القديس بضرب مبرح.
وكان في ذلك اليوم عند البرابرة عيد يقدمون فيه ضحية لله، ولم يقل المؤرخ الذي ننقل عنه هذه القصة ما شكل تلك الضحية؟ ولكنه يقول: إنهم كانوا في ذلك العيد يشربون الخمر ويطنزون، مما يدل على أن العصابة التي أغارت على كورة «فيلاي» لم تكن عصابة مسلمة، ولكن عصابة بربرية لا يزال أهلها غائصين في لجج الوثنية، فلما رآهم القديس قد انتبذوا مكانا للقيام بشعائر عيدهم جاء إليهم ونصح لهم بأنهم بدلا من عبادة الشياطين يكون أولى بهم أن يعبدوا خالق الأكوان الذي لولاه لم يكن شيء في هذه الدنيا، فلم يكن هذا الكلام ليقع منهم موقع القبول بل زادهم سخطا، وجاء أحدهم فرماه بحجر فسقط على الأرض مغشيا عليه، ثم أراد البرابرة أن يحرقوا الدير ويدكوه إلى الحضيض، ولكن يقول المؤرخ: إنهم بينما هم يهمون بأن يفعلوا سلط الله عليهم ريحا صرصرا عاتية وصواعق محرقة فأركنوا إلى الفرار، وتركوا الدير، ثم مات القديس بعد أيام قلائل من أثر الضرب، بعد أن عاد الرهبان إلى ديرهم، ولا تزال الكنيسة تحتفل بعيد القديس «شافر» في 19 أكتوبر من كل سنة، وأما الدير المذكور فقد بقي قائما إلى زمان الثورة الفرنسية الكبرى.
ونظن أنه في ذلك العهد كانت قد وقعت غارة العرب على مقاطعة «دوفيني»
124
وعلى مدينة «ليون»
125
وعلى بلاد «برغونيا»
126
وقد ذكر أحد مؤرخي العرب هذه الغزوات قائلا: إن الله قد قذف الرعب في قلوب الكفار، فلم يكن واحد منهم يقف في وجه المسلمين إلا لطلب الأمان، ولم يزل المسلمون يتقدمون في البلاد ويؤمنون العباد إلى أن وصلوا إلى وادي «الرون» وهناك ابتعدوا عن السواحل وأوغلوا إلى الداخل.
وقد نقل رينو هذا الكلام عن المقري، ولكن إن كان الكلام الذي نقله هنا هو الوارد في النفح فإن العبارة التي اطلعنا عليها هي هذه نقلا عن ابن حيان: إن موسى اصطلح مع طارق وأظهر الرضا عنه، وأقره على مقدمته، على رسمه، وأمره بالتقدم أمامه في أصحابه، وسار موسى خلفه في جيوشه، فارتقى إلى الثغر الأعلى وافتتح «سرقسطة» وأعمالها وأوغل في البلاد وطارق أمامه لا يمران بموضع إلا فتح عليهما وغنمهما الله تعالى ما فيه، وقد ألقى الله الرعب في قلوب الكفرة فلم يعارضهما أحد إلا بطلب صلح، وموسى يجيء على أثر طارق في ذلك كله ويكمل ابتداءه ويوثق للناس ما عاهدوه عليه، فلما صفا القطر كله وطمأن نفوس من أقام على سلمه، ووطأ لأقدام المسلمين في الحلول به، أقام لتمييز ذلك وقتا، وأمضى المسلمين إلى إفرنجة ففتحوا وغنموا وسلموا وعلوا وأوغلوا وانتهوا، حتى انتهوا إلى وادي «ردونة» فكان أقصى أثر العرب ومنتهى موطئهم من أرض العجم، وقد دوخت بعوث طارق وسراياه بلد إفرنجة فملكت مدينتي «برشلونة» و«أربونة» وصخرة «آبينيون» وحصن «لودون» على «وادي ردونة» فبعدوا عن الساحل الذي منه دخلوا جدا. انتهى.
فهذه العبارة قد تقدم نقلنا إياها في الكلام عن موسى بن نصير وطارق.
رجع إلى كلام رينو. قال: ولا نعلم في الحقيقة الأمكنة التي أشرف عليها العرب ذلك اليوم إلا بأخبار الاجتياح الذي وقع فيها، فإنه في نواحي «فيين»
127
على ضفاف «الرون» أصبحت الكنائس والأدبار كلها دكا، و«ليون» التي يسميها العرب «لودون» رأيت أيضا تخريب أعظم كنائسها، وكذلك شمل العيث «ماسون»
128
و«شالون»
129
وكذلك «بون»
130
حل فيها من العيث ما لا يوصف، ووصل العرب إلى مدينة «أوتون»
131
وأحرقوا كنيسة «سان نازير»
132
وكنيسة «سان جان»
133
ودير «سان مرتين».
134
وكذلك نهبوا دير «سين أندوش»
135
في «صوليو»
136
وكذلك دمر العرب دير «بيز»
137
بقرب «ديجون».
138
وقد استشهد «رينو» على هذه الحوادث بتاريخ «مواساك» من مجموعة مؤرخي بلاد الغال، وبتاريخ «الدون بلانشيه»
139
المسمى بتاريخ برغونيا وبتاريخ «غاليا كريستيانيا».
140
ويذهب بعضهم إلى أن غارات العرب قد امتدت إلى أبعد مما ذكرنا، وقالوا: إنهم بثوا سراياهم إلى جهات نهر «اللوار» وأخرى بقرب «نيفير».
141
وأخرى إلى مقاطعة «فرانش كونتي».
142
وقالوا: إن دير «سان كولمبان»
143
قد دكه العرب في تلك الغزوة، وأنهم قتلوا أكثر الرهابين والقسيسين الذين صادفوهم في «بيزانسون». قال «رينو»: وليس في هذه الروايات شيء لا يقبله العقل ولا سيما ما تعلق منها بمقاطعة «فرنش كونتي» التي فيها أسماء وآثار عربية كثيرة، وقالوا أيضا: إن الدير الذي في سفح جبال «الفوج»
144
المسمى بدير «لوكسول»
145
قد جعله العرب أيضا أثرا بعد عين، وذبحوا الرهابين الذين كانوا فيه تحت رئاسة القديس «ميلين».
146
نقل هذه الروايات «رينو» عن الأب «لكوانت»
147
ونقل أيضا عن «مابيون»
148
وقال: يظهر أن المسلمين لم يجدوا مقاومة حقيقية إلا أمام مدينة «سانس»
149
فإن هذه المدينة كان فيها مطران ينتسب إلى عائلة نبيلة، يقال له: «أبيول»
150
اشتهر بالفضائل والكمالات حتى جعلوه في مصاف القديسين، فهذا المطران عندما سمع بإيجاف العرب قاصدين بلده بدأ بتحصين البلدة، وهيأ أسباب الدفاع عنها، بحيث لما وصل العرب إليها وأخذوا يقذفونها بقذائف منجنيقاتهم كان أهاليها يرمونهم من أعالي الأسوار بأجزاء محرقة كانت تلتهب بها آلاتهم الحربية.
قال «رينو»: إلا أنه يعترضنا في هذه الروايات كون المؤرخين الذين ذكروها لم يصرحوا بأن أصحاب هذه الغارات كانوا من السرازين
151
ولا ثمة لفظة تدل على أن الذين فعلوا هذه الأفاعيل هم مسلمون بدون شك، بل كان المؤرخون يشيرون إليهم بقولهم : «فندال»
152
وطالما كانوا يطلقون هذا الاسم في النصف الأول من القرن العاشر على المجار عندما جاء هؤلاء إلى ألمانية ودخلوا إلى فرنسة واكتسحوا «الألزاس» و«اللورين» و«فرانش كونتي» و«برغونيا» و«شمبانيا» وغيرها.
ثم يعود رينو، فيقول: إنه على كل حال قد تحقق مجيء العرب إلى فرنسة وتغلغلهم في أحشاء البلاد وأنهم لم يكن لهم خطة مرسومة معينة في مغازيهم ومراميهم، وأنهم لم يجدوا في البداية من أهل فر نسة إلا مقاومة واهية وعزما غير جميع. نعم تختلف فرنسة عن إسبانية في هذا الباب بأن إسبانية وجد فيها من انضم إلى العرب وسعى بين أيديهم ودان بدينهم، وأما في فرنسة فإذا استثنينا بعض أشخاص لا يعرفون معنى للدين ولا للوطن لم يوجد من الأهالي فئة كان لها شيء من الوجاهة والنبالة رضيت بأن تنحاز إلى العرب أو أن تصبأ عن دينها، بل إنه في وسط مدينتي أربونة وقرقشونة، حيث أقام العرب مدة طويلة، بقي الأهلون متمسكين بدينهم المسيحي لا يرضون به بدلا.
وكان أود دوق أكيتانية طول هذه المدة منحرفا عن القتال، متجنبا الانغماس في الحرب؛ لأن غارات العرب كانت واقعة على أطراف بلاده ولم تكن في قلب البلاد مثل ذي قبل، وأما «شارل مارتل» فكان مشغولا بمحاربة «الغريزونيين» و«البافاريين» و«السقسون» الذين كان يخشى أن يعبروا عليه نهر الرين وينازعوه مركز سلطانه، وكان بينه وبين «أود» ما بين النظراء الذين يغص بعضهم بمكان بعض، فأما مؤرخو العرب الذين لم يكن لهم اطلاع على تلك المنافسات الداخلية بين ملوك الإفرنج فعللوا سكوت «شارل مارتل» الذي كانوا يسمونه: «قارله» عن مقارعتهم بالتعليل الآتي. قالوا: إن كثيرا من أمراء الإفرنج فزعوا إلى «قارله» وشكوا له الأضرار التي حلت بهم من عيث المسلمين في البلاد، وأوضحوا له العار الذي يلحق بها من كون جيش كالجيش العربي، مجهز بأسلحة خفيفة، يتغلب على جيوش شائكة بأثقل الأسلحة غائصة في الزرد إلى أعناقها كالجيوش الإفرنجية، فأجابهم قارله: دعوهم الآن يفعلون فإنهم في إبان صولتهم أشبه بالسيل الذي يجرف كل ما يقف في وجهه، وهم اليوم قد اتخذوا من جرأتهم دروعا ومن أقدامهم حصونا، ولكنهم بعد أن تمتلئ أيديهم من الغنائم، وبعد أن يألفوا نعيم الحضر ويستولى الطمع عليهم فينافس بعضهم بعضا ويدخل الشقاق في صفوفهم، حينئذ نزحف إليهم ونتغلب عليهم ونترك جمعهم شريدا وقائمهم حصيدا، وقد نقل هذا الكلام «رينو» عن المقري صاحب النفح، ونحن راجعنا المقري فوجدناه يقول في آخر صفحة 128 من الطبعة الأزهرية المصرية ما يلي:
وقال الحجاري في المسهب: إن موسى بن نصير نصره الله نصرا ما عليه مزيد، وأجفلت ملوك النصارى بين يديه حتى خرج على باب الأندلس الذي في الجبل الحاجز بينها وبين الأرض الكبيرة، فاجتمعت الفرنج إلى ملكها الأعظم قارله - وهذه سمة لملكهم - فقالت له: ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب؟ كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد، بجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم، فقال لهم ما معناه: الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم هذه، فإنهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم في إقبال أمرهم ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيدهم من الغنائم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرئاسة ويستعين بعضهم على بعض فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر. قال: فكان والله كذلك بالفتنة التي طرأت بين الشاميين والبلديين والبربر والعرب والمضرية واليمانية، وصار بعض المسلمين يستعين على بعض بمن يجاورهم من الأعداء. انتهى.
قلت: إن أعظم العوامل التي قضت برجوع بدر العرب كالعرجون القديم، بعد أن كان تماما وأنار المشرق والمغرب، تعود إلى عاملين كبيرين: أحدهما الفتنة التي ذكرها صاحب المسهب بين الشاميين والبلديين، فقد طال بينهما النزاع وتحول إلى فتنة صماء أوقفت سير الإسلام في أوربة بعد أن مشى فيها مشي النار في يابس العرفج، وأهم من فتنة البلديين والشاميين فتنة العرب والبربر، فقد أجمع المؤرخون من العرب والإفرنجة على أن الحرب التي اصطلت بين المسلمين في شمالي إسبانية والتي تغلب فيها البربر على العرب وأخرجوهم بها من تلك الديار كانت هي السبب في انتهاز الإفرنج والإسبانيول تلك الغرة اللائحة لاستئناف دولتهم وصولتهم وطردهم للمسلمين من شمالى إسبانية. وبعد ذلك عندما جمع العرب شملهم وكروا على البربر وأوقعوا بهم، انتقاما عما صدر من البربر من قبل، استفاد الإسبانيول والإفرنج فائدة كالفائدة الأولى، واغتنموا أيضا مثل تلك الفرصة، وقد كان أنكى من الفتنتين المار ذكرهما فتنة القيسية واليمانية وواقعة شقنده المشهورة ووقائع أخرى كانت تشغل العرب بعضهم ببعض، فيستأسد العدو في خلالها وينهض من ورائها فيكر عليهم ويسترجع منهم قلاعا وحصونا وحواضر عامرة، وقد شوهد أنه لما اشتدت الفتنة في قرطبة بين العرب والبربر في أيام الخليفة المستضعف هشام الثاني كان كل فريق من المسلمين يستعين بالإسبانيول، وكان هؤلاء يشترطون للنجدة كذا وكذا من الحصون، وكذا وكذا من المدن، وكان أولو الأمر في قرطبة ينزلون لهم عنها.
153
أما العامل الثاني الذي لم يكن يقل خطرا عن الأول فإنه ولوع العرب بالغنائم وحرصهم عليها إلى الدرجة التي كانت سببا في الهزائم، فإن الواقعة الكبرى التي وقعت بين عبد الرحمن الغافقي و«شارل مارتل» الذي يقول له العرب: «قارله» كان سبب إدبار العرب فيها، وتملص أوربة من أيديهم هو شدة الخوف على الغنائم لا غير، فإنه لما تلاقى الجمعان أراد عبد الرحمن أن يأمر جيشه بترك الغنائم التي كانوا جمعوها حتى لا تبقي قلوبهم مشغولة بها عن القتال، ولكنه توجس خيفة أن يكسر بذلك من قلوبهم، فتفتر عزائمهم وتخبث نفوسهم، فأذن لهم في حفظ غنائمهم وهو كاره، فجعلوها وراء المعسكر وأعينهم فيها، وعلم بذلك الإفرنج ولحظوا شدة حرص العرب عليها، فلما حمي الوطيس زحف جانب من جيش الإفرنج من طريق آخر قاصدا المعكسر الذي فيه الغنائم، فانكفأ العرب عن ميدان القتال راجعين إلى معسكرهم الذي فيه تلك الأسلاب ليدافعوا من دونها، ولم يبق في الميدان قوة كافية لصد السواد الأعظم من الجيش الإفرنجي ، وهكذا كانت تلك الهزيمة الكبرى في المحل الذي يسميه العرب ببلاط الشهداء، ويسميه الإفرنج بمعركة «پواتييه». فأنت ترى أن «قارله» عندما قال للإفرنج قوله ذاك: «دعوا العرب يملأون أيديهم» كان كأنه يقرأ في ظهر الغيب.
نعود إلى سياق التاريخ بحسب رواية «رينو» فنقول:
وفي سنة 730 تولى إمارة الأندلس عبد الرحمن «الغافقي» الذي خلف السمح بن مالك الخولاني في قيادة الجيش المحاصر «لطلوزة» عند مصرع السمح في المعركة، وكان عبد الرحمن هذا رجلا صارما عادلا محببا في جنده، لنزاهته ولعدم رغبته في حطام الدنيا لنفسه، وكان أيضا محل احترام صلحاء المسلمين لمعرفته بالحديث النبوي ومصاحبته لأحد أولاد الخليفة عمر.
154
وقبل أن نكمل ترجمة عبد الرحمن الغافقي التي ستنتهي بواقعة بلاط الشهداء ينبغي لنا أن نكمل الخبر عن الفترة التي وقعت بين إمارة عنبسة بن سحيم الكلبي وإمارة الغافقي، فنقول: قال المؤرخ الإسبانيولي «كوندي»: إن أول عمل قام به عنبسة هو تنظيم الخراج وتقسيم الأراضي بين المسلمين بدون تجاوز على الأراضي التي لها ملاكون أصليون من الأهالي، فكان يستوفي العشر من الذين خضعوا لدولة العرب من أنفسهم، ويستوفي الخمس ممن لم يخضعوا إلا بالسيف، وهو الذي بنى جسر قرطبة.
155
وطاف عنبسة في المقاطعات ينظر في مظالم الناس ويوزع بينهم العدل بدون تمييز بين الأديان، ثم إن أهالي «طرسونة» انتقضوا عليه فزحف إليهم ودوخهم ودك حصونهم، واقتص من زعماء الثورة وفرض عليهم غرامة مضاعفة.
ثم أغزى جيوشه بلاد إفرنجة، فدمر وأحرق ونسف زروعا وأسر خلقا كثيرا، وقيل: إنه كان يكره هذا العيث في بلاد العدو، إلا أنه كان يداري جنده ويحذر أن يتهم بفتور الحمية الإسلامية.
156
قال «كوندي»: ثم إنه في ذلك الوقت خرج في سورية نبي كذاب اسمه «زوناريا»
157
كان يزعم أنه المسيح المنتظر عند اليهود، فلما سمع بخبره عرب الأندلس، وكان كثير منهم من أهل الشام، صدقوا مقالته هذه وتركوا الغنائم التي كانوا غنموها والمساكن التي كانوا ارتضوها، وعادوا إلى سورية مجفلين، فضبط عنبسة الأملاك التي تركوها، وحولها لبيت المال، ثم في السنة التالية غزا عنبسة بلاد فرنسة ورافقه النصر في أول الأمر، وما زال يقطع الأودية ويستقري البسائط حتى عبر نهر «الرون» إلى الشرق، ولكنه وقع في إحدى الوقائع مثخنا بجراحات كثيرة، مات على أثرها، وذلك سنة 106 للهجرة، وقبل أن مات استخلف حديرة الفهري، فلم يشغل هذا المنصب إلا مدة يسيرة؛ لأن أمير إفريقية أرسل أميرا على الأندلس يحيى بن سلمة.
158
وكان هذا قائدا مجربا محبا للعدل صارما جدا في إعطاء الحقوق لأصحابها، فهابه المسلمون والمسيحيون معا، وبينما كان يطوف في الولايات الشمالية انتهز أعداؤه الفرصة فطلبوا من أمير إفريقية عزله فأجابهم إلى ما سألوا وأرسل أميرا على الأندلس عثمان بن أبي نسعة
159
وكان عثمان هذا مشهورا بالبسالة والنجدة والبصيرة بالحروب، فتولى الإمارة واضطلع بها، ولكن وجد أصحابه فيه عودا صليبا وقناة لا تلين لغامز ولم يحققوا فيه آمالهم، ولا هو عرف لهم جميل سعيهم في تأميره، بل رأوا منه ما أمض وأرمض، فما زالوا يسعون به كما سعوا بسلفه حتى حملوا الخليفة هشاما على صرفه بحذيفة بن الأحوص
160
فلم يقم هذا إلا قليلا، وعاد أمير إفريقية فولى على الأندلس عثمان بن أبي نسعة نفسه، ولكن ولاه وكيلا لا أصيلا، إلى أن قدم من دمشق بأمر الخليفة الهيثم بن عبيد الكناني
161
وكان الهيثم شاميا ولكنه كان فظا بخيلا جاسيا، فآسف شيوخ العرب والبربر وساءت ملكته فيهم، فاتحدوا عليه فألقى بهم في السجون وأهلك بعضهم.
وكان من جملة المنكوبين زياد بن زيد فرفع الشكوى إلى الخليفة، هو ومن معه، واتهموا الهيثم بأنه يسير في الأندلس سيرة لا مناص من أن تنتهي ببوار الأمة والخطوب المدلهمة، فأرسل الخليفة هشام محمد بن عبد الله، وفوض إليه أمر التحقيق عن الشكاوى الواقعة بحق الهيثم، وأذن له بأنه إذا ثبت لديه كون الهيثم مجرما يعزله ويقتص منه ويتبدل به الأمير الذي يراه الأصلح، فجاء محمد هذا ومضى بالتحقيق اللازم على أحسن وجه، وعند ما ثبت لديه إجرام الهيثم ألقاه في السجن وأطلق الذين كان نكبهم ورد عليهم أموالهم، ويقال: إنه قبل أن نفى الهيثم من الأندلس إلى إفريقية أمر بتطويفه في شوارع قرطبة راكبا على حمار، تشهيرا له ونكالا وفاقا.
وبعد ذلك فوض محمد بن عبد الله بالإمارة الأمير عبد الرحمن الغافقي فاستحسن الجميع تولية عبد الرحمن الغافقي لما كانوا سبروا من نجابته ومن مزاياه العالية، ولم يشذ عن الجمهور إلا عثمان بن أبي نسعة الذي كان يرى نفسه أولى بالإمارة، فتولى عبد الرحمن سنة 728 وفق 110 (هنا فرق بثلاث سنوات عن رواية نفح الطيب). وكان متوفر العناية بإقامة العدل ورفع المظالم وإيتاء الحقوق أصحابها، ولأجل أن يتمكن من تسكين الدهماء وإرضاء الجمهور بقي سنتين يطوف على بلد بلد ويباشر إماطة المظالم وإزاحة العلل بنفسه غير مميز بين المسلم والمسيحي، وعزل كثيرا من القواد والولاة الذين ثبتت مظالمهم للرعية، وكذلك أعاد إلى المسيحيين الكنائس التي كانوا انتزعوها من أيديهم، والتى كان لهم الحق بها وفقا للعهود، كما أنه هدم الكنائس التي كانوا أخذوا الإذن فيها بالرشوة خلافا للعهود.
ولم يكن يهدأ له بال إلا بغزو فرنسة حتى يدوخها ويضمها إلى إمارته أو يضم منها البلدان التي كانت من قديم الزمان تحت حكم القوط، فحشد جيشا جرارا من نخبة المقاتلة والصابرين في الحروب، واستنجد أمير إفريقية فأرسل إليه بجنود مختارة للجهاد، تتلظى شوقا إلى الجلاد، ولما وصلت نجدة أمير إفريقية سرحها عبد الرحمن إلى الدروب، وبعث إلى عثمان بن أبي نسعة أمير الثغر بأن يشاغل العدو بالغارات إلى أن يكون هو قد أطل بمعظم الجيش، فوقع من عثمان على باقعة شديد البأس كان بدون هذا ينافس عبد الرحمن على الإمارة، ولم يكن مرتاحا إلى عمل يبدأ به عبد الرحمن، وينال به حسن الذكر. وقد انضاف إلى هذا السبب في كراهيته لتلك الحرب أنه في إحدى غاراته على فرنسة وقعت في يده ابنة «أود» دوق أكتيانية، ويقال: إنها كانت تسمى «نوميرانسه»
162
ويقال: إن اسمها «مينين»
163
ولكنها كانت مشهورة باسم «لامبيجيه»
164
وكانت بارعة في الجمال مع مكانها من بيت الملك ، فهام عثمان بها حبا وتزوج بها كما تزوج عبد العزيز بن موسى بن نصير بالأميرة «أيجيلونة»
165
أرملة الملك «لذريق» فمن بعد أن أصبح عثمان بن أبي نسعة صهرا لدوق «أكيتانية» عقد مع أبيها معاهدة سلم ومهادنة أمن بها «دوق أكيتانية» غارات العرب ولو إلى مدة من الزمن.
فلما ورد أمر الأمير عبد الرحمن الغافقي إلى الأمير عثمان بن أبي نسعة بالزحف على بلاد حميه «دوق أكيتانية» وقع في حيص بيص، وراجع الأمير قائلا له: إنه لا يقدر أن يخفر جواره ولا أن يخرق العهد قبل انقضاء أجله، وكان عبد الرحمن قد عرف بزواج عثمان مع ابنة «أود» وأنه قد شغفه حبها فغضب من تلكؤ عثمان عن الزحف، وأفهمه أن ذلك العهد الذي كان عقده مع الإفرنج بدون علمه لا يعده هو موثقا له، وأن عليه أن يتحرك للجهاد بدون مراجعة، فلما قطع عثمان أمله من منع عبد الرحمن عن إعمال الغارة في بلاد «أود» أرسل إلى حميه يخبره بما وقع
166
حتى يأخذ حذره ويتخذ لنفسه وسائل الدفاع، فبلغ عبد الرحمن ما فعله عثمان، فأرسل جيشا إلى الباب تحت قيادة ابن زيان، انتخبه من أصدق رجاله، وأمره بأنه إن تمكن يقبض على عثمان بن أبي نسعة ويرسله إليه، وإن أبى الطاعة يهدر دمه، فوصل ابن زيان بعسكره بغتة إلى مقر عثمان، وهو ينوي القبض عليه، ففر هذا في الجبال ومعه بعض أعوانه واستصحب أيضا زوجته الأميرة «لامبيجيه» التي كان لا يفارقها ولا يرى الدنيا إلا بها، فسار الجيش في إثره حتى أدركوه وأحاطوا به، فتفرق عنه أصحابه في تلك الأوعار ولم يبق معه سوى زوجته الحسناء، فدافع عن نفسه وعنها دفاع الأسود حتى أردوه قتيلا، وفي جسمه ما لا يحصى من طعن وضرب، فاحتزوا رأسه وأتوا به وبالأميرة الحسناء إلى الأمير عبد الرحمن، فلما رأى عبد الرحمن هذه الغادة هتف قائلا: والله ما كنت أظن أنه يوجد مثل هذا الصيد في جبال البرانس. وقد وقعت هذه الواقعة سنة 730 وفق 113 ثم إن الأمير عبد الرحمن أرسل الأميرة إلى دمشق هدية للخليفة، وهكذا انتهت حياة الأميرة «لامبيجيه» ابنة دوق «أكيتانية» في حرم الخليفة الأموي في الشام.
167
ولما وصل خبر مصرع عثمان إلى دوق «أكيتانية» علم أن الحرب واقعة لا محالة وتأهب للدفاع الشديد، ولكن الجيش العربي اندلق من جبال «البيرانه» اندلاق السيول من الجبال، لا يقف في وجهه شيء، فاكتسح الأرضين من «نافارا»
168
إلى «بوردو»
169
وامتلأت أيدي المسلمين بالغنائم، ولما وصلوا إلى «بوردو» حاول أهلها أن يدافعوا عنها فكسروهم وأخذوا البلدة عنوة ووضعوا السيف فيها ونهبوها، وكان الأهالي الذين وقعوا في اليد يفدون أنفسهم بالمال، وأما أمير «بوردو» فقد قتل في المعركة.
وبعد أن انتهى عبد الرحمن من فتح بوردو تقدم إلى الشمال فوجد دوق «أكيتانية» في طريقه يحاول صده في مضيق «دوردون»
170
غير أن حملات العرب لم يكن ليصدها شيء، فانهزم «أود» وفر بجيشه، وقطع أمله من ملكه، فتناسى جميع ما كان بينه وبين «شارل مارتل» من الأحقاد والضغائن، وأرسل يستصرخه، فلم يمكن «شارل مارتل» أو «قارله» إلا إجابة «أود» لا لأجل الإنسانية فقط بل لأجل السياسة؛ إذ كان جميع مصير فرنسة والممالك المجاورة لها متوقفا على نتيجة هذه الحرب فلو كان العرب تغلبوا ذلك اليوم على الإفرنج لما كانوا وقفوا إلا على ساحل البلطيق.
فامتد الصريخ في كل بلاد فرنسة وزحفت المقاتلة من كل صوب، وانضم الجميع تحت لواء «شارل مارتل» وبقي العرب يتقدمون إلى أن وصلوا إلى قريب من مدينة «تور»
171
وهناك علم عبد الرحمن الغافقي أن جيشا عظيما زاحف لمصادمته، وكان عبد الرحمن مع شدة بأسه وغرامه بالحرب عاقلا حازما بصيرا بالعواقب، ففكر ساعة فيما بين أيدي رجاله من الغنائم الثقيلة، وعلم ما يعوقهم عن القتال من اهتمامهم بحفظها، فهم بإعطاء الأمر إلى الجيش بترك جميع ما في أيديهم من الغنائم والأسلاب، ولكنه خاف من إغضاب عسكره فيما لو حملهم على تجرع هذه الكأس المرة؛ إذ قد تفتر همتهم وتلقس نفوسهم، فرجع عن عزمه هذا معتمدا على ما كمن في نفوسهم من شجاعة وصبر، ثم تقدم وحصر «نور» وأخذها عنوة بمشهد من جيش «شارل مارتل» وخيم بساحتها، ولما دخل العرب المدينة أسرفوا في القتل والنكاية، ثم تلاقى الجمعان بين «تور» و«پواتييه»
172
وكان عبد الرحمن هو البادئ بالمناجزة فاستمرت المعركة مدة طويلة، قبل أن يترجح النصر للإفرنج، ولما رأى عبد الرحمن الخلل قد ابتدأ يظهر في صفوفه ألقى بنفسه في وسط المعمعة يصطليها بيده، ودخل حتى بين صفوف الأعداء أنفسهم، يغامر مغامرة الجندي الذي هو من عرض الجند، إلى أن خر هناك صريعا، فلما رأى العرب مصرع قائدهم الأكبر نزل بهم الرعب ونكصوا على أعقابهم وبنكوصهم خمدت جمرتهم وسقط في أيديهم، فأذرع الإفرنج فيهم القتل وطرحوا منهم بالعراء ألوفا وما زالوا يعملون في أقفيتهم السلاح إلى «أربونة».
173
فلما وصل خبر هذه الفاجعة إلى الأندلس وإلى إفريقية زلزل المسلمون زلزالا شديدا، وعم الحزن واشتد البث ولبس المسلمون أثواب الحداد، فأسرع أمير إفريقية بإرسال عبد الملك بن قطن الفهري، خلفا لعبد الرحمن الغافقي، وأنفذ معه جيشا من خيل ورجل وبعث إلى الخليفة بدمشق يعلمه بفاجعة بلاط الشهداء وقتل الأمير عبد الرحمن الغافقي وبأنه أنفذ عبد الملك الفهري مكانه وجرد معه جيشا، فوافق الخليفة على عمل عامله وشمر للأخذ بالثأر وأمر بغزو بلاد فرنسة وأخذها بالسيوف من كل ناحية، فسار عبد الملك الفهري وفي نيته أن يأخذ بذحل المسلمين ويجبر الكسر الذي وقع، ولكن هيهات فقد كان بلغ بالمسلمين اليأس مبلغه، وذهب كل كلام القائد في استنهاض هممهم سدى، وسار منهم مع عبد الملك جيش إلى فرنسة لكنهم ساروا بصدور غير منشرحة وآمال غير منفسحة، وكيف يقاتل جيش تعوزه القوة المعنوية، فانهزم جيش عبد الملك في جبال «البيرانه».
وأخيرا أرسل الخليفة مكانه عقبة بن الحجاج (السلولي)، وكان اشتهر ببسالته وحسن تدبيره في حرب البربر بإفريقية فوصل إلى الأندلس، وانتعشت به الآمال بما كان عليه من زكاء السيرة والعدل وسداد التصرف، فبدأ بعزل العمال الذين عسفوا الرعية وحبس الذين غلوا من أموال الدولة أو قاموا بجبايات غير شرعية، وانتصر للضعفاء واقتص لهم من الأقوياء، وأمر الولاة بتجنيد فرق من الجند أرصدها لاستئصال قطاع الطرق، وأسس كثيرا من المدارس والمساجد على نفقة الدولة، وخصص لها الخدمة الكثيرين، وكان لا يميز في المعاملة بين أصناف رعيته، وبالإجمال فقد كان عقبة هذا كامل العدالة تام الرجولية لا يجد قائل فيه مطعنا، ثم نظر في سيرة سلفه عبد الملك الفهري فلم يجد عليه ما يؤاخذه به، فجعله أميرا على الخيالة، وأرسله إلى الثغر، وكان في نية عقبة أن يزحف إلى فرنسة بجيش جرار
174
امتثالا لأمر الخليفة، ولكن لما وصل إلى «سرقسطة» جاءه الخبر بأن البربر في إفريقية ثاروا عودا على بدء، وأمره أمير إفريقية بأن يتولى قيادة الجيش الثائر للتنكيل بهم وأن يعبر البحر إلى طنجة، وهكذا اضطر عقبة أن يعدل عن غزو فرنسة وأجاز إلى طنجة واشتدت به عزائم العرب في إفريقية.
وكانت هذه الواقعة سنة 737 مسيحية وفق سنة 120 هجرية، وفي آخر هذه السنة توفي «بيلاي» بطل «أستورية» الذي كان هو وحده بنفسه نواة المقاوة بما بقي من قوة الإسبانيول في وجه العرب بعد أن استصفى هؤلاء جميع إسبانية وأخنوا على ملك المسيحيين بها، فإنه بطائفة قليلة من رجاله لم يزل يفر في جبال «أشتورية» من صخرة إلى صخرة إلى أن اعتصم بمغارة جعلها مركز قوته المنيعة، ولم يبرح معتصما بذلك الغار يشن منه الغارات على الأطراف القريبة منه، وهو بمنجاة من العرب، حتى وسع رقعة إمارته، وما زالت تتسع شيئا فشيئا إلى أن صارت إمارة مذكورة ثم مملكة ثم تغلبت هذه المملكة بعد عدة قرون على جميع إسبانية وأخرجت العرب من كل أوربة، وسنذكر في الجزء التالي جميع ما يتصل بنا علمه من خبر «بيلاي» هذا، وكيفية نشوء إمارته ونمو أعقابه إلى أن استرجعوا جميع وطنهم بعد ثمانية قرون، ولنعد الآن إلى تاريخ «رينو» عن غزوات العرب في فرنسة، ولنمهد لكلامه بما يلي:
واقعة بلاط الشهداء
قبل الدخول في شرح هذه الواقعة وأسبابها وما قيل فيها أرى أن أترجم للقارئ بطلي هذه المعركة عبد الرحمن الغافقي العربي و«شارل مرتيل» الإفرنجي الذي يسميه العرب «قارلة» وأذكر خلاصة خبرهما، فيكون ذلك أعون على فهم الواقعة والحوادث التي أدت إليها ونشأت عنها. «فشارل مرتيل» هو ابن «ببين ديريستال»
175
مولده سنة 689 كان اتهمه أبوه بقتل أخيه الذي كان من غير أمه فاعتقله في كولونية
176
وما زال إلى أن مات أبوه ببين سنة 714 في الاعتقال فثار الأسترازيون أي أهالي القسم الشرقي من المملكة الميروفنجية الإفرنجية بتلك الدولة وجعلوا شارل (أو كارل أو قارله) دوقا عليهم وتغلبوا به على أهالي القسم الغربي من المملكة بعد وقائع متعددة سنة 716 وسنة 717 إلى سنة 719، وعند ذلك اضطر الملك «شيلبريك» الثاني أن يتخذ شارل حاجبا فتسلم زمام الأمور، واستبد بها وصار مع الملك «شيلبرك» الثاني والملك «تيتري» الرابع كما كان المنصور بن أبي عامر في الأندلس مع الخليفة الأموي هشام أو كما كان عز الدولة ابن بويه أو ابن عمه عضد الدولة بن بويه مع الخليفة الطائع العباسي أو كما هو المقيم العام الذي تجعله إحدى الدول الاستعمارية من قبلها في هذا العصر بجانب أحد سلاطين الإسلام ممن ليس له من السلطنة إلا الاسم، هذا ومن ذلك الوقت أخذ شارل يمهد البلدان التي تليه ويدوخ الشعوب التي في جواره فقهر السكون والبافاريين وغيرهم من الألمان وكذلك كان «أود» دوق أكيتانية قد هاجمه فدحره.
ولكن لم يبلغ تلك الشهرة التي بلغها ولم يلقب بشارل مارتل، أي: المطرقة إلا بعد أن ظهر على العرب في واقعة «پواتييه» أو بلاط الشهداء، جاء في «المعلمة التاريخية الإفرنسية لغريغوار وموريس فال»
177
ما يلي: وكان العرب استولوا على إسبانية وسبتيمانية وتهددوا بلاد الغال والنصرانية كلها وهزموا «أود» دوق أكيتانية، فاستصرخ هذا شارل فزحف شارل إلى العرب على رأس جيش الأسترازيين والمقاتلة التي جاءته من وراء الرين، فانتصر على الأمير عبد الرحمن انتصارا عظيما بين «تور» و«پواتييه» سنة 732، ويقال: إنه بعد هذه الوقعة تلقب بمارتيل، وهي لفظة معناها المطرقة ، ثم إنه بسط الملك الإفرنجي على البلاد التي يسقيها نهر الصاوون ونهر الرون، ودخل سبتيمانيا، وطرد العرب من نيم ومدن أخرى، لكنه لم يقدر على أربونة التي تم فتحها فيما بعد على يد ابنه ببين القصير. انتهى.
ومات شارل مارتل سنة 741 ولم يسمح لأحد من الملوك الميروفانجيين بشيء من الملك ولا بلقب الملك، وترك سبعة أولاد ذكور، أشهرهم ببين وكارلومان، فتقاسم هذان المملكة بينهما.
أما عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي فهو أمير الأندلس، كان مع السمح بن مالك الخولاني في غزاة طلوزة بحسب رواية «رينو»، ولما استشهد السمح رحمه الله في تلك الغزاة تولى عبد الرحمن قيادة جيش العرب الغازي للإفرنجة، وقفل به إلى الأندلس وآلت إليه الإمارة فيما بعد، وقد ذكرنا في حاشية متقدمة ترجمة الأمير عبد الرحمن المذكور نقلا عن بغية الملتمس لابن عميرة. ولنذكر الآن شيئا عن نسب هذا الرجل العظيم فنقول:
يقال له: الغافقي نسبة إلى غافق، وهي قبيلة من الأزد، وهو ابن الشاهد بن عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد، وقيل: بل هو غافق بن الحارث بن عك بن الحارث بن عدنان، وإليهم ينسب الحصن المعروف بغافق في الأندلس على مسافة مرحلتين من قرطبة. وجاء في تاج العروس: إن لهم خطة أيضا بمصر. وذكر ياقوت في معجم البلدان: غافق. فقال: إنها حصن بالأندلس من أعمال فحص البلوط منها أبو الحسن علي بن محمد بن الحبيب بن الشماخ الغافقي كان من أهل النبل، وتولى الأحكام ببلدة غافق مدة طويلة قدر 65 سنة ومات سنة 503. وقال المقري في نفح الطيب: إن غافقا هو ابن عك بن عدنان بن أزان بن الأزد، قال ابن غالب: من غافق أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب، وأكثر جهات شقورة ينتسبون إلى غافق. انتهى.
قلت: ومن العلماء المعروفين المنسوبين إلى غافق عبد العزيز بن علي بن عيسى بن سعيد بن مختار الغافقي أبو الأصبغ المعروف بالشقوري، المتوفى سنة 531 ترجمه ابن بشكوال في الصلة وابن الأبار في التكملة.
ومنهم عبد الرحمن بن بشر بن الصارم الغافقي أبو سفيان، وفد على سليمان بن عبد الملك ورجع إلى الأندلس فاستشهد بها في قتال الروم، روى عنه بكير بن الأشج وعبد الرحمن شريح.
ومنهم أبو بكر محمد بن أبي عامر بن حجاج الغافقي الأشبيلي وهو الذي جاور بالمدينة المنورة، وقال:
لم يبق لي سؤل ولا مطلب مذ
صرت جارا للحبيب الحبيب
لا أبتغي شيئا سوى قربه
وها أنا منه قريب قريب
جاء ذكره في نفح الطيب.
ومنهم أبو عبد الله محمد بن فطيس الغافقي الألبيري الزاهد: كان من أهل الحديث والضبط رحل إلى المشرق وسمع من شيوخ كثيرين وعاد إلى البيرة وطنه، وتوفي بها في شوال سنة 319 عن تسعين سنة، ورد ذكره في النفح أيضا.
ومنهم محمد بن عيسى بن دينار الغافقي من أهل قرطبة كان فقيها زاهدا حج وحضر افتتاح أقريطش «أي جزيرة كريت» واستوطنها. قاله الرازي.
ومنهم اليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع بن عبد الله الغافقي، من أهل بلنسية أصله من جيان، وسكن المرية ثم مالقة، يكنى: أبا يحيى، ترجمه صاحب نفح الطيب، وقال: إنه كتب لبعض الأمراء بشرقي الأندلس، وله كتاب سماه «المغرب في أخبار محاسن أهل المغرب» جمعه للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالديار المصرية بعد أن رحل إليها من الأندلس سنة ستين وخمسمائة، وتوفي بمصر سنة 575.
ومنهم أبو العباس أحمد بن عبد السلام الغافقي الأشبيلي الشهير بالمسيلي: رحل حاجا وقفل إلى بلده، ذكره صاحب النفح.
ومنهم أبو إسحق إبراهيم بن عبد الله بن خصيب بن أحمد بن حزم الغافقي: أندلسي سكن دمشق وتولى بها الحسبة وسمع بمصر وبغداد وطرابلس ودمشق وغيرها، كان مالكي المذهب لكنه كان يميل إلى مذهب المعتزلة، قال المقري: ما سمعت بمالكي معتزلي غير هذا، توفي سنة 404 ذكره ابن عساكر.
ومنهم أبو أمية إبراهيم بن منبه بن عمر بن أحمد الغافقي من أهل المرية نزل مرسية، وتولى القضاء والخطبة فيها وحدث بصحيح البخاري آخر الحجة سنة 555 ذكره صاحب النفح ، ومنهم غير هؤلاء من الأعلام.
وأما عبد الرحمن الغافقي، أمير الأندلس، فقد ذكر المقري في النفح نقلا عن ابن سعيد أنه كان من التابعين، تولى إمارة الأندلس في حدود العشر ومائة وهو من أبطال الإسلام المعدودين، كل ما ذكره المؤرخون من أخباره يدل على أنه كان من أفذاذ الرجال، جمع إلى الشجاعة والإقدام، العدل في الأحكام، والسهر على مصالح الأنام، وبعد النظر في السياسة.
قال المؤرخ «رينو» إنه كان مهتما بأخذ ثأر المسلمين عن الغزوات التي أصيبوا فيها في السنين الأخيرة قبل إمارته، وكان يفكر في حملة شديدة على فرنسة يدوخ بها هذه المملكة ثم يجتاز منها إلى إيطالية فألمانية فالقسطنطينية ويدخلها في حكم الإسلام، ولما كانت الحماسة الدينية في ذلك الوقت في إبان غليانها، وكانت الأندلس وفرنسة الجنوبية بخصب أراضيهما واعتدال هوائهما أصبحتا مقصدا للعرب من جميع الجهات، وكان يأتيها كل يوم رجالات أشداء من جزيرة العرب ومن جبال الأطلس، فقد كان الأمير عبد الرحمن الغافقي يمرن هؤلاء المجاهدين على استعمال السلاح ويثير فيهم نخوة القتال، وكان مقامه بقرطبة، ولكنه بقي مدة يطوف في الأندلس وينظر في مظالم العباد ويقتص من القوي للضعيف ويعزل الولاة الذين حادوا عن جادة الاستقامة ويتبدل بهم ولاة معروفين بالعدل والنزاهة، وكان يعامل المسلمين والمسيحيين على السواء تقريبا وعلى كل حال لم يكن يخرج في معاملة المسيحيين عن العهود المعقودة معهم.
وفي تلك الأيام كان المسلمون يوالون الغارات من أربونة وقرقشونة على البلدان المجاورة لهما، ولكن حصل حادث نفس من خناق المسيحيين بعض الشيء، وذلك أن القائد الذي كان في سردانة من جبال البيرانيه كان بحسب رواية إزيدور الباجي ولذريق شمينيس أحد أحلاس الحرب الإفريقيين الذين بالاتحاد مع العرب فتحوا الأندلس، وكان يسمى «مونوزه» وكان من ذوي البطش والشبا المرهوب، وكان في مبدأ أمره صارما جدا في معاملة المسيحيين، وأحرق حيا أسقفا اسمه «أنامبادوس» فلما وقعت الحرب بين البربر والعرب مال بطبيعة الحال إلى قومه البربر، واتحد مع «أود» صاحب جنوبي فرنسة الذي لأجل أن يتمكن منه أزوجه ابنته المسماة «لامبيجيه» وكانت فتاة بارعة في الجمال
178
بلغت شهرة عظيمة.
وقد روى «كوندي» الإسبانيولي هذه الحادثة بشكل آخر نقلا عن مؤرخي العرب، فجعل «مونوزه» هذا محرفا عن عثمان بن أبي نسعة
179
الذي تولى إمارة الأندلس مرتين، وكان ينافس عبد الرحمن الغافقي على الإمارة ويرى نفسه أولى بها، وروى «كوندي» أن ابن أبي نسعة هذا أصاب هذه الأميرة في إحدى غزواته فسباها في من سبا وهام بحبها نظرا لجمالها واتحد من أجلها مع «أود» أبيها، ثم لما حمله عبد الرحمن على شن الغارات في بلاد إفرنجة اعتذر «مونوزه» أو ابن أبي نسعة بوجوب مراعاة الميثاق الذي بينه وبين «أود» فلم يقبل عبد الرحمن منه هذا العذر وأصر عليه بالتعبية والزحف، فأسرع ابن أبي نسعة بتحذير حميه «أود» ليكون على أهبة ضخمة في وجه عبد الرحمن، فأرسل عبد الرحمن نخبة من جنوده إلى «البيرانه» وأمرهم بالقبض على ابن أبي نسعة حيا أو ميتا، فلما رأى هذا نفسه لا يقدر على الوقوف أمامهم فر ومعه زوجته الحسناء إلى الجبال، فتأثروه إلى حيث ثقفوه، وتغلبوا عليه واحتزوا رأسه وأرسلوا بالرأس إلى دمشق، وكذلك أرسلوا إلى دمشق الأميرة «لامبيجيه» التي دخلت في حرم الخليفة. روى هذه الحادثة أيضا إيزيدور الباجي ولذريق شيمينس، ثم رويا أن المسلمين الذين كانوا في جنوبي فرنسة كانوا قبل واقعة «پواتييه» غزوا مدينة «أرل».
قال «رينو»: وقد أشار مؤرخو العرب إلى هذا الحصار بدون تسمية هذه المدينة ولكن بوصفهم إياها بأنها مبنية على ضفاف نهر كبير هو أكبر نهر في تلك البلاد كانت تصعد به السفن من البحر، ويظن بعض مؤرخي الإفرنج أن حملة العرب على مدينة آرل لم تكن إلا خدعة يقصدون بها صرف نظر الإفرنج عن وجهة الحرب الحقيقية، وهي الجهة الشمالية، فإن عبد الرحمن بعد أن لبث نحوا من سنتين، يتأهب للزحف ويكتب الكتائب ويعبي الجنود، توجه إلى جبال البيرانيه، وكان جيشه جرارا يزج الأرض ويهتز شوقا إلى القتال، والأرجح أن مروره من هناك وقع في ربيع سنة 732، وقد جعل طريقه على أرغون ونابارة ودخل أرض فرنسة من أودية «بيغور»
180
و«بيرن»
181
يستدل على ذلك من آثار التدمير التي وقعت في تلك الديار فقد هدم العرب الكنائس والأديار مثل دير «سان سافين»
182
بقرب «طارب»
183
ودير «سان سيفر دورستان»
184
في «بيغور» وخرب العرب «آير»
185
و«بازاس»
186
و«أوليرون»
187
و«بيرن» وكذلك دير «سانت كروا»
188
بقرب بوردو. ثم افتتحوا بوردو
189
عنوة. وأقبل أود دوق أكيتانيا بجموعه محاولا صدهم في ممر دور دفاون
190
نهزم. وكان عدد قتلى المسيحيين من الكثرة بحيث إن المؤرخ إيزيدور الباجي
191
قال: إن الله تعالى وحده يقدر أن يحصيهم. فلما رأى أود أن لا طاقة له بالثبات أمام العرب استصرخ شارل مارتل الذي كان في ذلك الوقت يدافع عن مملكته فاستجاش عصائبه القديمة من جهات الدانوب والألبا
192
والأوقيانوس، ثم إن العرب بعد أن ظفروا بأود أوغلوا حتى وصلوا إلى پواتييه وأحرقوا دير «سانت إيميليين»
193
وكنيسة «سانت إيلير»
194
في پواتييه.
قال رينو: إنه بلغت حماسة العرب في تلك الغزوة أن بعض مؤرخيهم شبههم بريح صرصر، تقتلع كل ما جاء أمامها، أو بسيف ماض يقطع كل ما يصادمه، وكان العرب قد وضعوا نصب أعينهم مدينة «تور» التي كان فيها دير «سان مارتين»
195
المشهور بنفائسه، وهناك تلقى العرب خبر قدوم شارل مارتل بجيوش الإفرنجة، فقلما ذكر التاريخ معركة لها ما بعدها مثل هذه المعركة، فكان المسيحيون من جهة يذبون عن ديانتهم وأوضاعهم وأملاكهم وأنفسهم، وكان المسلمون من جهة أخرى معتقدين أيضا أنهم إنما يقاتلون في سبيل الله، خلا ما كان يهمهم من حفظ الغنائم التي في أيديهم. قال رينو: إن مؤرخا عربيا روى أن عبد الرحمن كان في آخر الأمر في خوف شديد من لهو جيشه بالغنائم الكثيرة التي كانوا يجرونها في أثناء زحفهم؛ وأنه قد فكر في حملهم على تركها في أرضها لئلا تشغلهم عن القتال فتكون عليهم وبالا، لكنه لم يشأ - وهو في مأزق كذلك المأزق - أن يغيظهم ويخسر توجه قلوبهم، وبقي واثقا بشجاعتهم وبيمن نقيبته في القتال، فكان لتردده هذا تلك النتيجة المشؤومة. وقد روى هذا المؤرخ العربي أن العرب هاجموا مدينة تور، بمرأى من شارل مارتل، وأنهم انقضوا مثل النمور الكاسرة على أهلها فذبحوهم ذبح الشياه مما لا شك أنه قد أغضب الله تعالى فعاقبهم بنكال قريب، أما مؤرخو المسيحيين فكانت رواياتهم عن هذه المعركة قاصرة، ولم يذكروا شيئا عن أخذ العرب لمدينة تور، وقد بقي الجيشان يرابط كل منهما الآخر مدة ثمانية أيام، وبعد مناوشات ليست بذات بال أجمع الجيشان على الوقعة الفاصلة، وبحسب هذه الرواية العربية تكون الوقعة قد حصلت بقرب تور، وهذا هو رأي لذريق شيمينيس الذي كان يروي عن مؤرخي العرب، وأما مؤرخو الإفرنجة فأكثرهم يذهبون إلى أنها وقعت في إحدى ضواحي «پواتييه» ويستدلون على ذلك من الآثار المحفوظة في دير مواساك، ومن الممكن الجمع بين الروايتين. وذلك بأن يقال إن بداية المعركة حصلت بقرب تور وأنها انتهت بقرب پواتييه وقد كان ذلك في شهر أكتوبر سنة 732 بحسب رواية بعضهم، وكان المسلمون هم الذين بدأوا القتال، وكان الفرنج قادمين من حروب اتسق لهم فيها النصر، فكانت حماستهم تغلي مراجلها ويزيدها فيهم وجود شارل مارتل الذي كان كلما ظهرت ثلمة خف وسدها بنفسه، وقد هاجم المسلمون بخفة حركاتهم على سروات الخيل مهاجمات شديدة، يحاولون بها خرق صفوف الإفرنج فكانوا يجدون أمامهم صفوفا أشبه بالجدران في ثباتها، فكانت تتكسر عليها حملات العرب، فاستمر القتال أول يوم طول النهار، ولم يحجز بينهم سوى الظلام، وفي اليوم التالي تجدد القتال ورخصت النفوس في سوق المنايا وحمل المسلمون حملات اليائسين؛ إذ لم يكونوا ينتظرون من الإفرنج مثل هذا الثبات ولكنهم لم ينالوا منهم وطرا، وبينما كانوا يضاعفون حملاتهم؛ إذ أغارت فرقة من الإفرنج على معسكر المسلمين يظن أن قائدها كان أود دوق أكيتانية، فلما رأى المسلمون غارة جانب من الإفرنج على مخيمهم أشفقوا على الغنائم التي كانوا حازوها فتركوا المصاف وانكفأوا إلى المخيم ليستخلصوه من أيدي الإفرنج، وعند ذلك هرع عبد الرحمن يرد المنكفئين ويسوي الصفوف، فذهب اجتهاده عبثا، وأصابه سهم من جهة العدو فخر صريعا، وعند ذلك وقع الفشل في صفوف المسلمين، لكنهم تمكنوا من تخليص مخيمهم من أيدي الأعداء وإن كانوا فقدوا كثيرا من رجالهم، وأقبل الظلام فحال بين الفريقين، وكان مراد شارل مارتل الكر على العرب عند الصباح، إلا أنه عندما أصبح الصباح لم يجد منهم أحدا، وذلك أنهم لما رأوا ما حل بهم سروا في أحشاء الليل وانحازوا إلى الوراء قاصدين جبال البيرانه، وكان مسراهم من السرعة بحيث إنهم تركوا خيامهم منصوبة وغنائمهم مطروحة في الأرض.
ولما رأى شارل مارتل أن العدو أقلع بقضه وقضيضه وزع على عساكره ما وجده في مخيم العرب من الغنائم المركومة، ولكنه لم يتأثر العرب في طريقهم وهم قافلون، وعللوا ذلك بأنه خشي أن يكون انكفاؤهم إلى الوراء استدراجا ومكيدة، أو أنه قد أمن بعد هذه الوقعة على مملكته وأصبح لا يخشى عليها شرا، فلذلك قطع نهر اللوار، راجعا إلى الشمال، مفتخرا بما أحرزه من النصر الباهر، ومنذ ذلك اليوم لقبوه بمارتل (أي المطرقة) سموه بها لمتانته ولما سد به بنفسه من الثلم التي كانت تقع في جيشه.
ولا يمكن قبول روايات بعض مؤرخي المسيحيين الذين أوصلوا عدد المسلمين الصرعى في تلك المعركة إلى ثلاثمائة وستين ألفا، فإن المسلمين ذلك اليوم لم يسقطوا كلهم صرعى، وما كان من الممكن جمع جيش مؤلف من خمسمائة ألف مقاتل في تلك الأيام وقد كانت الحروب الداخلية المستأصلة للرجال لا تنقطع، ثم على فرض المحال وأنه كان ممكنا حشد فيالق جرارة كهذه فكيف كان يمكن إيجاد الميرة اللازمة لهذه الفيالق الجرارة في البلاد التي تمر فيها، وقد كانت خربت تقريبا من توالي الغارات والرزايا، نعم لا ينكر أن هذا الجيش الذي قاده عبد الرحمن الغافقي، تلك النوبة، كان أعظم جيش وأحمس جيش قاده العرب إلى وطننا الجميل، وأنه كان قد هب للحرب كالريح المرسلة، وأدل دليل على ذلك هو كون فرنسة بأجمعها جمعت ذلك اليوم جموعها وجاءت بالشوك والشجر لمقابلة ذلك الجيش العربي المغير، وأن هذه المعركة لا تزال حتى اليوم شاغلة أعظم موقع في أذهان جميع الأوربيين.
وأما مؤرخو العرب فلم يكونوا يعلمون من تفاصيل تلك المعركة الفاصلة أكثر مما عرفه مؤرخو الإفرنج، وغاية ما ذكر العرب أن عددا كبيرا من رجالهم استشهدوا في بلاط الشهداء وهو الاسم الذي أطلقوه على تلك الواقعة، ويقولون: إنه لا يزال يسمع هناك دوي خفي هو ضجيج الملائكة الذين ينزلون من السماء للصلاة في ذلك المكان المقدس على الشهداء الذين لقوا فيه ربهم.
قال المستشرق رينو: وبعد هذه الهزيمة انكفأ فل الجيش العربي إلى البيرانه مدمرا كل ما مر به، ومن جملة ذلك دير سولينياك.
196
وقيل: إن الإفرنج عندما انكفأ العرب أعملوا في أقفيتهم السلاح إلى أن بلغوا أربونة، ولا يظهر أن هذه الرواية متينة
197
وقد كان تأثير هذه الهزيمة مختلفا جدا بين المسلمين والمسيحيين، فالمسيحيون استجدوا عزائمهم واستأنفوا صرائم، وهبوا في جبال البيرانه للأخذ بالثأر، واعتقدوا أن الله عاد معهم يؤيدهم على أعدائهم، والمسلمون استولى عليهم الوهل ونزل الوهن بعزائمهم، وأخذ الأتقياء منهم يقولون: إن ما حل بهم من الأدبار بعد الإقبال إنما كان جزاء وفاقا من الله تعالى على استرسالهم في معاصيهم وإمعانهم في ركوب أهوائهم.
وكان النائب في الإمارة الذي تركه عبد الرحمن الغافقي في قرطبة قد طير الخبر بهزيمة المسلمين في بلاط الشهداء إلى القيروان وإلى دمشق، فارتمض الخليفة لهذا الخطب وأرسل أميرا على الأندلس اسمه عبد الملك
198
وجهز معه جيشا وأمره بالأخذ بثأر المسلمين وشفاء صدور المؤمنين واستنفاد الوسع في هذا الأمر، فأقبل هذا الأمير على الأندلس، يحاول رتق الفتق ورفو الخرق، وأغذ بجيشه إلى البيرانه، وأخذ يخطب في الغزاة والمرابطة، ويشدد من عزائمهم، ويجدل سواعد المسلمين، ويحبك من مرائرهم ويبين فضائل الجهاد وعلو رتبة الاستشهاد، إلا أن كل هذه الخطب في المجاهدين لم تفعل فيهم الفعل الكفيل برأب ذلك الصدع، وكان نصارى شمالي إسبانية وجنوبي فرنسة قد رفعوا رؤوسهم بعد هذه الوقعة ونبذوا إلى المسلمين على سواء، وروى مؤرخ من مؤرخي العرب أن جيشا من الفرنسيس قطع وقتئذ البيرانه واستولى على بانبلونه وجيرونه.
أما الأمير عبد الملك فأعمل الحركة أولا إلى كتالونيا وأراغون ونافار
199
ثم تقدم إلى بلاد اللنغدوق
200
وحصن المدن التي كانت منها في أيدي المسلمين، ثم أبعد المغار في بلاد العدو، وكانت بلاد «السبتيمانيا» و«بروفانس» في حالة الفوضى تقريبا، وكان كل ذي طمع فيها قد انفرد بإمارة واستأثر بزعامة، وكان بعض من هؤلاء الزعماء ينضوون تحت جناح دوق أكيتانية والآخرون يتفيأون في ظل شارل مارتل، وذلك مصانعة لكل منهما، ولكنهم كانوا في الحقيقة إنما يريدون الاستقلال بإماراتهم، وكثيرا ما كانوا يتحدون يدا واحدة مع المسلمين الذين كانوا في أربونة، وذلك ليتقوا بأس أولئك الملوك الكبار ومن هؤلاء الأمراء «موروند» الذي كان يلقب بدوق مرسيلية والذى كان بيده أكثر مقاطعة بروفانس.
وفي تلك المدة كان شارل مارتل مشغولا يبسط سلطته على برغونية وعلى مقاطعة ليون، حيث كان المسلمون قد شنوا الغارات وأهرجوا البلاد وأمرجوها، ثم إنه زحف لقتال «الفريزون»
201
فشغلوه أيضا عن قتال المسلمين.
وفي سنة 734 اتفق يوسف أمير أربونة العربي مع موروند دوق مرسيلية وزحف المسلمون بجيش جرار، وعبروا نهر الرون واستولوا على مدينة «آرل» ونهبوا أديار الرسل والعذراء
202
وهدموا قبر سان «سيزير»
203
ثم تقدموا إلى أواسط بلاد البروفانس، وحاصروا مدينة «فريتا» المعروفة اليوم «بسان ريمي»
204
واستولوا عليها، وساروا منها نحو «آفينيون» وعبثا حاول مقاتلة «آفينيون» صد المسلمين في ممر «دورانس»
205
فإن المسلمين ذللوا كل العقبات، وكانت «آفينيون» في ذلك الوقت عبارة عن الصخرة التي بني عليها فيما بعد قصر الباباوات، وهو المكان الذي كان مؤلفو العرب يسمونه بصخرة أبنيون، وقد بقي المسلمون في ذلك الوقت أربع سنوات محتلين بلاد «بروفانس»
206
وكان «أود» دوق أكيتانيا قد توفي سنة 735 فجاء شارل مارتل واستولى على بلاده وخضع له أولاد الدوق المذكور.
وأما الأمير عبد الملك
207
فبعد أن أهب الله له ريح النصر في هذه الغزوات بأرض فرنسة، عاد إلى جبال البيرانيه، لتدويخ الأهالي الباقين على العصيان، فصادفته أنواء وأمطار وهو في جبال وأوعار فوقعت عليه هزيمة، وعندما بلغ الخليفة ما أصابه قلد إمارة الأندلس أميرا غيره اسمه عقبة
208
ولم يبق في يد عبد الملك سوى إمارة المقاطعات التي في جوار البيرانه.
وكان عقبة هذا رجلا يتقد حمية على الإسلام ويرى في الجهاد قرة عينه، ويقول مؤرخو العرب: إنه اختار إمارة الأندلس حبا بالجهاد والرباط، وكان إذا وقع في يده أسير من المسيحيين لا يهمل أن يعرض عليه الإسلام، وفي أيامه حصن المسلمون جميع المواقع التي أمكنهم تحصينها في بلاد اللنغدوق، حتى ضفاف نهر الرون، وشحنوها بالمقاتلة، وفي ذلك الوقت أعادوا المغار كما بدا على بلاد «دوفينيه»
209
فخربوا بلدة «سان بول» المعروفة بالثلاثة القصور و«دونزير»
210
واحتلوا «فالانس»
211
وأصبحت جميع الكنائس المجاورة لمدينة «فيين»
212
على ضفتي الرون قاعا صفصفا.
وكان المسلمون للأخذ بثأر جيشهم الذي قهره شارل مارتل في بلاط الشهداء قد احتلوا مدينة ليون من جديد، وبثوا الغارات منها على بلاد «بورغونية» فأخذ شارل مارتل يتأهب لقتالهم، وقد كان وافقه الحظ من جهة الشمال والشرق حيث سكنت الثورات التي كانت ثائرة عليه، فسرح أخاه «شيلد براند»
213
بجيش إلى ليون، وأرسل يستصرخ «لويتبراند»
214
ملك «اللومبارديين» في إيطالية ليوافيه بجيش لقتال المسلمين الذين كانوا ألبا واحدا مع موروند دوق مرسيلية، وقد تمكنوا من جبال «دوفينه» و«بييمونت».
215
فجاء شيلد براند (أخو شارل مارتل) وحاصر المسلمين في آفينيون واستعمل في حصارها الآلات المعروفة لذلك العهد، وتبعه شارل مارتل نفسه بجيش جديد، وجاء لويت براند ملك اللومبارديين بجيش آخر من إيطالية، فاستولوا على أفينيون عنوة واستأصلوا من بها من المسلمين، وتقدم بعد ذلك شارل مارتل صوب أربونة وكان فيها أمير يقال له بحسب تلفظ المؤرخين القدماء: «أتيما»
216
وكانت مواصلات مسلمي الأندلس مع مسلمي سبتيمانيا أكثرها من طريق البحر نظرا لكون أهالي جبال البيرانيه المسيحيين حائلين بين الفريقين، فلما وصل الخبر إلى عقبة بأن شارل مارتل قد ضيق الحصار على أربونة أرسل جيشا في البحر، لنجدة هذه البلدة ، تحت قيادة رجل يقال له: عامر.
217
فلما عرف شارل مارتل بمجيء هذا الجيش الجديد جاءه بغتة قبل أن يتأهب للقتال فأخذ المسلمون على غرة وكانت هزيمتهم تامة، وقتل أميرهم ولم ينج منهم إلا فل قليل خلصوا إلى مراكبهم وآخرون وصلوا إلى «أربونة»، ولكن برغم هذا كله لم يتمكن شارل مارتل من أخذ «أربونة» وصعرت له خدها، وفي تلك الأيام جاءه الخبر بأن الفريزون والسكسون أشعلوا الثورة من جديد، فاضطر شارل أن يرحل عن «أربونة» ولكنه قبل رحيله خرب القلاع التي كانت في «بيزيه»
218
و«أقد»
219
ودمر أبواب مدينة «نيم»
220
الشهيرة وقسما من الملهى الروماني الذي كان فيها خوفا من أن يتحصن به العرب، وكذلك دمر مدينة «ماجلون»
221
وأخذ المسلمين الذين فيها أسارى ومعهم أيضا أناس من المسيحيين أبقاهم رهائن عنده.
ولا يمكن أن يقال: إن جميع أهالي جنوبي فرنسة كانوا يحبون شارل مارتل، ولو كان قد دفع عن النصرانية غارات المسلمين؛ لأن هؤلاء الأهالي كانوا ينظرون إلى هذا الرجل وقومه كبرابرة من أهل الشمال، بينما هم يرون أنفسهم أمة ذات مدنية قديمة من زمان الرومانيين، ولا نزاع في أن المسلمين كانوا قد خربوا الكنائس والأديار وما يخصها من الأراضي، ولكن شارل مارتل عندما جاء ودفع عادية المسلمين عن تلك البلاد لم يرد تلك العقارات على الرهبان والأساقفة، بل وزعها على رجال الحرب من أنصاره، فبقيت الكراسي الأسقفية خالية. ويقال: إن «فليكارپوس»
222
مطران «فيين» بعد أن خرج المسلمون من البلاد لم يرجع إلى أسقفيته، لخلو الكرسي مما يقوم بأوده، فذهب إلى «فاله»
223
حيث جعلوه رئيسا لدير «سين موريس»
224
وكان الأحبار ورجال الدين يؤولون هذه المصائب بأنها عقاب صبه الله تعالى على هام العباد تنبيها لهم للرجوع إلى طريق الفضيلة.
225
ولم يخل الأحبار ورجال الدين من أناس تعلقوا بشارل مارتل الذي تولى كبر دفع المسلمين عن أوربة، وأشهر هؤلاء «هينماروس» مطران «أوكسير»
226
الذي كان يحارب في جيش شارل مارتل بنفسه ويقاتل المسلمين في البيرانه، وهو في ثوب الأسقفية.
وكان موروند دوق مرسيلية قد فر هاربا من وجه شارل مارتل، وبقي متواريا إلى أن غادر شارل مارتل جنوبي فرنسة عائدا إلى الشمال، فلما ذهب شارل مارتل شمالا ظهر موروند من مخبأه، وجدد علاقاته مع المسلمين، وقاموا بعمل واحد، فبلغ الخبر شارل مارتل، وفي سنة 739 زحف إلى الجنوب ومعه أخوه شيلدربرند واستولى على مرسيلية ومن ذلك الوقت أصبح المسلمون في أربونة لا يجرؤون على عبور نهر الرون.
وليست عندنا معلومات يوثق بها عن كيفية معاملة المسلمين لأهالي مقاطعة بروفانس، ويجوز أن يكون اتفاقهم مع موروند قد جعلهم أقل ضغطا على بلاده مما كانوا في غيرها، ولكن نزلت على بلاد بروفانس و«لانغدوق» مصيبة ثانية، وهي غارات المسلمين البحرية التي كانت سواحل جنوبي فرنسة دائما عرضة لها.
وكان المسلمون في أول الأمر لا يحبون ركوب البحر، ولكن بعد أن فتحوا سورية ومصر وإفريقية اضطروا إلى استعمال الأساطيل البحرية، وبعد وفاة الرسول بخمس عشرة سنة غزا معاوية أمير الشام جزيرة قبرص، وفي سنة 669 غزا العرب جزيرة صقلية، ومن ذلك الوقت لم تبرح سواحل سلطنة القسطنطينية عرضة للغارات البحرية الإسلامية، وكانت طوائف الأساطيل الإسلامية، في بادئ الأمر، جمعا مؤتشبا من الأفاقين ومن النصارى الذين أسلموا، ومن الشذاذ من كل قوم، ولكن المسلمين فيما بعد تعودوا ركوب البحر والغزو فيه طمعا في الغنائم، ومنهم من كان يغزو في البحر جهادا في سبيل الله وابتغاء الأجر والثواب، وصاروا يروون أحاديث عن الرسول معناها الحث على الجهاد في البحر، حتى بلغت بهم الحماسة إلى أن النساء صرن يغزون في البحر، ومنهن «أم حرام» امرأة أحد الصحابة التي ماتت في غزاة بحرية في قبرص، وقيل: إنه لما ذهب الأسطول الإسلامي يغزو القسطنطينية، كان أحد أولاد الخليفة عمر حاضرا، فسأل أمير البحر عن ذنوب الغزاة المجاهدين، فأجابه الأمير بأن آثامهم معلقة في أعناقهم، فأجابه ابن عمر: والذى نفسي بيده، لقد تركوا آثامهم على الشاطئ. وعزوا إلى الرسول أنه قال: إن الجهاد في البحر فيه عشرة أمثال أجر الجهاد في البر.
وكانت الغزوات الإسلامية البحرية، صدر الإسلام، موجها أكثرها إلى مملكة الروم، ولما استولى العرب على مدينة قرطاجنة لم يفكروا في أول الأمر أن يجاهدوا فيما وراء البحر، ولذلك بنو مدينة القيروان على مسافة بعيدة عن الشاطئ، ولما غزا موسى بن نصير الأندلس لم يكن عنده إلا أربع سفن لا غير، كانت تذهب وتجيء لنقل الجنود من إفريقية إلى جبل طارق.
227
وعند ذلك فهم موسى ضرورة بناء الأساطيل وأنشأ دور الصناعة في كثير من مرافئ الأندلس، وكذلك كانت للعرب مرافئ كثيرة ممتدة من جبل طارق إلى طرابلس الغرب، وسنة 736 أنشأ العرب دار صنعة عظيمة في تونس، وكان لهم في الأندلس قائد للبحر اسمه أمير الماء
228
ويظن أن لفظة (أميرال) محرفة عنها، وذكر مؤلفو العرب أن موسى غزا جزيرة سردانية سنة 712، وذكر مؤرخو المسيحيين غزاة للعرب في جزيرة كورسكا
229
وكانت جزائر سردانية وكورسكا وصقلية تابعة لملك القسطنطينية، ففي البداية كان العرب يكتفون بانتقاصها من أطرافها ولكن أخذوا فيما بعد يتوغلون في الداخل.
وكان أول نزول العرب في سواحل فرنسة، هو في جزيرة «ليرين»
230
بقرب عين الطيب.
231
وقد اختلف المؤرخون في التاريخ الذي يقال: إن العرب غزوا فيه هذه الجزيرة. فقالوا: إن ذلك وقع سنة 728. وقالوا: بل سنة 739 وكان في هذه الجزيرة دير شهير تخرج منه آباء للكنيسة وأساقفة مشهورون، ويوم كبسه العرب كان فيه خمسمائة راهب آتين من فرنسة وإيطالية وسائر بلاد أوربة، وكان رئيس هذا الدير القديس «پورسير»
232
فلما قرب المسلمون من الدير جمع القديس الرهبان بأجمعهم وقال لهم: إنه يجب عليهم أن ينتظروا الموت، وإنما أرسل إلى البر الأحداث الذين كانوا يتعلمون في الدير، فلما نزل المسلمون في الجزيرة فتشوا عن غنائم يأخذونها فلم يجدوا شيئا ذا بال، فعرضوا على الرهبان الإسلام، فلم يقبل أحد أن يترك دينه فذبحوهم جميعا.
ومات شارل مارتل سنة 741 وخلفه ابنه بيين القصير، واشتغل في توطيد ملكه في شمالي فرنسة وجنوبيها، بحيث كان يمكن العرب أن يغتنموا هذه الفرصة ويحددوا غاراتهم على جنوبي فرنسة ويبلغوا منهم مرادهم ، ولكن وقع الشقاق بين العرب أنفسهم فعاقهم عن كل عمل من هذا القبيل، فإن العرب لم يكونوا في هذه الغزوات وحدهم بل كان معهم البربر، وكان القبيلان في نزاع دائم، كما أنه كان العرب أنفسهم منقسمين إلى يمانيين وهم أبناء قحطان، وإلى عدنانيين وهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم. وكانت الحروب دائمة بين هذين الشعبين، لشدة ما عند العرب من العصبية، فبعد أن وقعت في بلاد العرب امتدت إلى مصر والشام ثم الأندلس وفرنسة.
وفي ذلك الوقت أعفى العرب الأقوام الذين خضعوا لهم وساروا معهم من الجزية التي كانوا ضربوها عليهم، ومنهم البربر، فاعتاد هؤلاء أن لا يؤدوا شيئا، إلا أنه في سنة 737 عاد أمير إفريقية فتقاضى البربر الجزية فعصوا عليه، وكانوا أقواما أشداء نشأوا على صهوات الخيول، فلم يقدر الأمير على تدويخهم، واضطر عقبة أمير الأندلس أن يجيز إلى بر العدوة، أي: إلى إفريقية، لإدخال البربر في الطاعة. وهكذا تمكن شارل مارتل، في غياب عقبة في إفريقية لإدخال البربر في الطاعة، أن يخضد شوكة العرب في جنوبي فرنسة.
233
ثم اشتدت ثورة البربر في إفريقية ظهروا على العرب ولجأ فريق من العرب إلى الأندلس، وكان العرب والبربر الذين في الأندلس قد تقاسموا الأراضي فيما بينهم، سواء في الأندلس أو في جنوبي فرنسة، فخافوا من أن هذا الفريق الذي دخل الأندلس من العرب ينازعهم على الأراضي، وقصدوا أن يجلوهم عن البلاد، وكان الأمير عبد الملك أمير الأندلس عدوا لهؤلاء العرب الذين دخلوا الأندلس، فقتلوه ونصبوا رأسه على جسر قرطبة، وكان في أربونة أمير اسمه عبد الرحمن، من أنصار عبد الملك فزحف من أربونة بجيش يقال: إنه بلغ مائة ألف مقاتل، وكان يريد الأخذ بثأر عبد الملك، فوصل إلى قرطبة واقتتل الفريقان ورمى عبد الرحمن قائد جيش العدو بسهم فقتله، وقفل إلى أربونة بعد أن أخذ بثأر صديقه.
234
ولم يكن في وسع الخلفاء في دمشق أن يعيدوا السكون إلى نصابه في بلاد بعيدة كبلاد الأندلس؛ لا سيما أن الثورات كانت تتوالى في الولايات الشرقية فتشغلهم عن المغرب، وهكذا تغيرت الحالة في جنوبي فرنسة، وخلا الجو للمسيحيين، برغم قصر باع ببين القصير وفتور همته، وكان المسلمون الذين في أربونة قد استولوا على مدينة نيم والمدن المجاورة لها، ولكن الحاميات الإسلامية في تلك المدن أخذت تخف شيئا فشيئا، فصار في نيم وفي بيزييه وفي ماغلون إدارة أهلية مستقلة بعض الشيء، وأصبح لكل من هذه البلدان أمير يدير أمورها لكنه معترف بسلطان المسلمين.
235
ومثل هذا حصل في شمالي إسبانية، أي في أشتورية ونابار وغيرهما.
وفي سنة 747 تولى قيادة الأندلس أمير اسمه يوسف
236
فأنفذ ابنه عبد الرحمن بجيش، إلى البيرانه، لأجل تدويخ تلك البلاد؛ ولكن المسيحيين قاوموه بالسلاح مقاومة شديدة، وكانت طرق الاتصال بين مسلمي أربونة وبين قرطبة، تكاد تكون منقطعة، بسبب جبال البيرانه، ولذلك لم يطل الأمر حتى ابتدأ المسيحيون في السبتيمانية ينتفضون على المسلمين، وكان يتنازع هذه البلاد، أي المدن السبع، فيفر
237
بن أود دوق أكيتانيا وببين بن شارل مارتل، وكان وببين قد نال من البابا لقب ملك، وهو اللقب الذي لم ينله أبوه برغم جميع ما بلغه من الشهرة والمكانة.
وفي سنة 752 سار وببين بجيش إلى اللانغدوق، واستولى على نيم وأقت وماغلون وبيزيه.
238
وبعد ذلك زحف لحصار أربونة وضيق عليها بجميع قوته، ولما وجد أن أمر حصارها يطول أبقى جانبا من عساكره حولها تحت قيادة أمير من أمراء القوط اسمه أنسماندوس
239
إلا أن العرب قتلوا أنسماندوس هذا في كمين عملوه له، وصادف ذلك حصول مجاعة في جنوبي فرنسة عطلت حركات الجيوش.
وكان بنو العباس في الشرق قد تغلبوا على بني أمية، ونقلوا مركز الخلافة من دمشق إلى بغداد واستأصلوا الأمويين، وتعقبوهم في كل مكان، ففر منهم واحد إلى إفريقية ومنها أجاز إلى مالقة فتلقاه عرب الأندلس كمنقذ لهم، وكان اسم هذا الأمير عبد الرحمن
240
وكانت هذه الواقعة سنة 755 وقد قدر أن يكون على يد هذا الرجل وأعقابه أعظم مجد ممكن لمسلمي إسبانية، وفي أيامهم تأثلت المدنية العربية في الأندلس تأثلا لا تزال له آثار باهرة هناك إلى اليوم، وإلى يوم مجيء عبد الرحمن لم يكن لأمراء المسلمين في الأندلس شغل إلا بقتال بعضهم بعضا فلم يؤثروا آثارا خالدة.
وقد لقي عبد الرحمن نفسه خطوبا وأهوالا، وبقي يسكن الثورات ويرتق الفتوق مدة طويلة، ولكنه تمكن أخيرا من توطيد سلطته وتمكين استقلاله، واستوسق له أمر الأندلس بتمامها، إلا أنه لم يقدر أن يتجاوز إلى غيرها، فلذلك تحاشى أن يتلقب بلقب الخليفة واقتصر على لقب أمير، وبقي أعقابه إلى القرن العاشر مكتفين بهذا اللقب، وإنما كانت عاصمتهم قرطبة مركزا للعلوم والصنائع ومبعثا لأشعة المعارف.
وبعد أن رسخت قدم عبد الرحمن الأموي في الأندلس، فكر في مدينة أربونة وما يليها من جنوبي فرنسة، وسرح جيشا تحت قيادة أمير اسمه سليمان، زحف إلى البيرانه أملا برفع الحصار عن أربونة، ولكن المسيحيين كبسوهم في تلك الأوعار، فانهزموا هزيمة تامة.
ولما كان جمهور أهالي أربونة من المسيحيين، وقد ضرسهم حصار أربونة بنابه ولم يعد لهم طاقة بتحمل تلك الحالة، داخلوا الملك ببين سرا على أن ينتفضوا على المسلمين وينضموا إلى جيشه، بشرط أنهم يكونون في المستقبل أحرارا في بلدتهم، وتكون إدارة أمورهم بحسب عرف القوط، وهكذا تم الاتفاق بينهم وبين ببين، فبينما كانت الحامية الإسلامية غافلة عما يصنعون كبسوها على غفلة منها، وذبحوها بأجمعها، وفتحوا أبواب البلدة للفرنسيس، وكان ذلك سنة 759 فانقرضت حكومة الإسلام من أربونة، وأبقى الملك ببين جيشا وافرا لأجل حراسة البلاد.
241
أ.ه. ملخصا من كلام رينو.
هوامش
الفصل الثاني
غارات العرب على فرنسة من بعد جلائهم عن أربونة إلى عهد استيلائهم على بروفانس سنة 889
مسيحية
قال «رينو»: إن العهد الذي سنتكلم عنه الآن في هذا القسم من تاريخنا مختلف عن العهد الذي تقدمه والذي سردنا وقائعه، فقد ظهر لنا مما تقدم من الوقائع أن العرب في تغلغلهم في فرنسة لم يكونوا مقتصرين على نية الاستيلاء على هذه المملكة فقط، وإدخالها في الإسلام، بل كان هدف رميهم الاستيلاء على سائر أوربة وإضافة هذه القارة التي كادت في زمان الرومانيين تستولى على العالم، إلى سلطنة الإسلام كإحدى مقاطعاتها، ومما لا ينبغي أن ننساه أن قواد الجيش العربي الفاتح كان أكثرهم من الجزيرة العربية والشام والعراق، فكان مركز ديانتهم ومبعث قوتهم في الشرق، ومن الشرق، فكانت جميع أعراقهم تنزع بهم إلى هناك، ولم يكن في نظرهم عقبة كؤود بعد أن قاموا بتلك الفتوحات التي لا نظير لها، وكانوا كلما كانت مملكة أوسع رقعة وأكثر رجالا وجدوها أصلح للغارة وأجدر بالفتح وبنيل المجد في الدنيا والثواب في الآخرة.
أما العهد الذي سندخل فيه الآن فلا يماثل العهد السابق؛ فإن الأمير الذي بدأ يتولى الأندلس كان بقية عائلة مالكة قد ثل عرشها في الشام وأبيد رجالها بالسيف، ففر شريدا وانسل وحيدا إلى إسبانية، وأصبح لا يرى في إفريقية وفي سائر أقسام السلطنة الإسلامية إلا أعداء له ولأهله، ولم تكن الجزيرة الأندلسية بالقطر الذي يمكنه وحده أن يستقل بحملات عظيمة كفيلة بالاستيلاء على الأرض الكبيرة، بل كان المسلمون في ذلك القطر قد دب في جوانبهم الوهن بسبب الفتن الداخلية المستمرة التي كانت بينهم، والتي كانت قد أبادت خضراءهم، وبما تأصل في طباع أهل الأندلس من غريزة حسب الانتقاض على كل سلطة مما اهتبل به المسيحيون، سكان المقاطعات الشمالية، الغرة لأجل الكرة على العرب.
وكانت فرنسة التي هي مرمى العرب في هذه الغارات تتأيد يوما فيوما ويغلظ أمرها، فإنها في عهد «ببين» و«شارلمان» خضعت بأجمعها لسلطة واحدة، وكان يمكنها لدى الحاجة أن تستعين بجيوش جرارة تأتيها من ألمانية وبلجيكا وإيطالية، فارتفع إذا كل خوف من وجودها بعد ذلك عرضة لاعتداء المعتدين، ولم يعد مسلمو إسبانية هم المهاجمين لمسيحيي فرنسة، بل أصبح مسيحيو فرنسة هم المهاجمين لمسلمي إسبانية.
1
وكان «ببين» و«شارلمان» قد أخذا يراسلان أهالي «كتالونيا» و«أراغون» و«نابار» ليوحدوا حركتهم مع الإفرنج، كما أنهما كانا دائما يمدان أيدي التحريك إلى أمراء العرب الثائرين على السلطان في قرطبة، وكثيرا ما هم، ثم لم يلبث شارلمان وأولاده أن وطئوا بالفعل أرض إسبانية وأدخلوا بعضها في مملكتهم؛ لأن الولايات التي تشرب من نهر الأيبر
2
بقيت مدة من الزمن تابعة لفرنسة، ثم عندما أخذ المسيحيون سكان الشمال يكرون على العرب ويسترجعون بلاد آبائهم كان أهالي جنوبي فرنسة الذين أكثرهم والإسبان من أصل واحد يخفون لنجدتهم ويجيبون لصريخهم.
ومما يدلك على بعد المدى الذي تصل إليه أهواء النفوس إذا استحكمت العداوة أن أمراء قرطبة كانوا في نزاع دائم مع خلفاء بغداد، وكان وكد كل من الفريقين النكاية بالآخر، أكثر منه في الفتوحات في بلاد المسيحيين أنفسهم، وبينما كان ملوك قرطبة يراسلون قياصرة القسطنطينية الذين كانوا في حرب مع مسلمي الشام وفارس ومصر كان خلفاء الشرق يعقدون معاهدات مع ملوك الفرنسيس الذين كانوا في حرب مستمرة مع مسلمي الأندلس، وكانت لذلك العهد العلاقات التجارية قد بدأت بين الشرق والغرب وسارت السفن تختلف بين «مرسيلية» و«فريجوس» ومرافئ سورية ومصر؛ لأجل التجارة بالبهارات والطيوب والمنسوجات الحريرية، وانضمت إلى هذه العلاقات التجارية أسباب دينية كان يستهان لأجلها بجميع الأخطار، وذلك أن المسيحيين في الغرب كانوا في أثناء الحروب بينهم وبين المسلمين لا يتأخرون ساعة عن أن يزوروا البقاع المقدسة في فلسطين.
وفي سنة 733 ذهب حجاج من الغرب إلى بيت المقدس والناصرة وكانوا يجولون آمنين في فلسطين والشام وزاروا قصر الخليفة نفسه في دمشق ولم يعترضهم أحد
3
ولا خافوا ولا حزنوا.
وكان الخلفاء العباسيون يعاملون الدولة الإفرنسية أحسن معاملة، ويتبادلون وإياها التحف والألطاف، وإن كان قد وجد من عمالهم في إفريقية من يشن الغارات على سواحلنا، في الأحايين، فما ذاك إلا لتباعد المسافات بين أولئك العمال وبين مركز الخلافة العباسية.
هذا ومنذ استرجع «ببين» القصير «أربونة» وأجلى العرب عنها سكنت الأمور بين مسلمي الأندلس والفرنسيس، وكان «ببين» يعد «البيرانه» هي التخم الطبيعي بين فرنسة وإسبانية، وكان عبد الرحمن مشغولا حينئذ بمحاربة الأمراء الخارجين عليه، ولم يكن «ببين» يهمل شيئا من الوسائل لإثارة نيران الفتن بين المسلمين، وسنة 759 أي بعد استرداد الفرنسيس لأربونة دخل أمير برشلونة المسمى سليمان
4
في علاقات مع «ببين » وتعاهد معه.
5
ومؤرخو الفرنسيس يزعمون أنه انضوى تحت لواء «ببين» ولكن الأصح أن يقال: إنه ما قصد إلا أن يستعين به على الاستقلال عن سلطانه، ومن بعد ذلك أصبحت هذه خطة أمراء المسلمين في شمالي الأندلس، فيوم يضغط عليهم السلطان في قرطبة يلجأون إلى فرنسة، ينشدون عندها التنفيس من حناقهم، وإذا ظهرت لهم مطامع الفرنسيس بحق بلادهم عادوا إلى رئيسهم في قرطبة واعتصموا به، وكانت تساعدهم على الاستقلال طبيعة البلاد التي كانوا فيها فإنها بلاد جبلية كثيرة الأوعار صعبة المرتقى يسهل على المقاتلة بها، ولو كان عددها قليلا، أن تشاغل الجيوش الجرارة، وكان العرب يسمون «قشتالة» القديمة و«ألبة» بلاد «البا» و«القلاع»
6
وكانوا يسمون النابار بلاد البشكنس، وربما أطلقوا هذا الاسم على البلاد التي وراء البيرانه إلى جهة فرنسة؛ لأن أصل الأهالي واحد سواء في السفح الجنوبي أو السفح الشمالي من البيرانه.
وكان العرب يسمون البيرانه جبل البورتات وهذه اللفظة مشتقة من الكلمة اللاتينية
وبالإسبانيولية
ومعناها الممر؛ وذلك لأنه من هناك كان الممر من الأندلس إلى الأرض الكبيرة، وكان يوجد في البيرانه أربعة أبواب معروفة عند العرب: الأول طريق برشلونة إلى أربونة على مدينة «پربينيان»
7
الحاضرة. والثاني: طريق «بويسردا» على «سردانة».
8
والثالث: الطريق الذي يؤدي من «بنبلونة» إلى «سان جان بييه دوپور»
9
والرابع: طريق طلوزة إلى بايون.
10
وكانت طرق البيرانه في القرون الوسطى أوعر مما هي الآن بلا نكير.
وكما كان ببين ملك فرنسة كثير التضريب بين أمراء المسلمين، لا يفتأ يغري بعضهم بالإيقاع ببعض، كان الخليفة العباسي المنصور بعد أن بنى بغداد مجتهدا أيضا في توحيد المملكة الإسلامية كما كانت لعهد بني أمية، ولذلك أرسل من سواحل إفريقية أسطولا فيه عساكر لمقاتلة عبد الرحمن الأموي الملقب بالداخل
11
ووجد من أمراء المسلمين بالأندلس من مالأه على عبد الرحمن، ولما كان ببين لا يخشى عادية المنصور، بمكانه من البعد عن فرنسة، وكان يرجو نصرته لكون عدوهما واحدا أسرع إلى الدخول في العلاقات مع المنصور، وأمل منه الجذب بضبعه.
وفي سنة 765 أرسل رسلا إلى بغداد لبثوا ثلاث سنوات حتى رجعوا إلى فرنسة ومعهم رسل الخليفة، فنزلوا في مرسيلية وصعدوا إلى مقر ببين فبالغ في الاحتفاء بهم وقضوا ذلك الشتاء في مدينة «متز» باللورين، ثم أمر بإقامتهم في قصر سلس
Sels
على ضفاف اللوار ثم أعيدوا إلى الشرق، عن طريق مرسيلية، ومعهم الهدايا إلى الخليفة.
هذا وقد اتبع شارلمان خطة أبيه «ببين» في هذا المعنى فما استوسق له الأمر حتى أخذ يداخل أمراء الأندلس، من مسلمين ومسيحيين، فكان يقول لهذا الفريق: إنه إنما يريد ليحررهم من طاعة أمير قرطبة ويساعدهم على استقلالهم ويخفض جناح الرحمة لهم، ولذلك الفريق أنه هو حامي النصرانية الطبيعي الناصر للنصرانية الحافظ للكنيسة الأصلية القامع للبدع ... إلخ.
وكان العرب عندما فتحوا الأندلس أبقوا للمسيحيين حريتهم الدينية، فكان يوجد أساقفة في قرطبة وطليطلة والمدن التي من الدرجة الأولى
12
وكان لهم قسيسون في كل مكان وجدوا فيه، إلا أنه لا يظهر أنه كان يوجد في المدن الثغرية التي كانت مترددة بين حكم المسلمين وحكم النصارى أساقفة ينظرون في شؤون المسيحيين الروحية وكان المسلمون في إحدى الحروب هدموا مدينة طر كونة
13
فلم يبق فيها مركز أسقفي فصارت أمور بلاد كتالونيا الروحية مربوطة برئيس أساقفة أربونة في فرنسة، وقد كان أيضا رئيس أساقفة أوش من مقاطعة جيرس
Gers
في فرنسة ينظر في شؤون مملكة أراغون الروحية، وكان شارلمان يفصل خصومات المسيحيين الإسبانيين فيما بينهم، وكان يتوسط لهم عند الباب فيما إذا كانت لهم رغائب إليه أو قضايا عنده.
وسنة 777 ثار أميران من أمراء المسلمين في مقاطعات نهر إيرة، وخرجا من طاعة السلطان في قرطبة، فاجتازا البيرانه قاصدين شارلمان في وستفاليا
Westphalie
14
حيث كان منعقدا مجلس حافل، وكان أحد هذين الأميرين وهو المسمى سليمان، في أثناء وجوده أميرا على سرقسطة، قد قاتل عساكر أمير قرطبة وأخذ قائدها أسيرا وجاء به وقدمه كهدية إلى شارلمان، ويزعم مؤرخونا أن هذا الأمير دخل في طاعة الإمبراطور الإفرنسي.
15
وكان شارلمان مترصدا فرصة كهذه حتى ينقض على إسبانية ويملك ولو جانبا منها، فأمر بالنفير العام وتوافت إليه المقاتلة من ألمانية وفرنسة ولمبارديه، وزحف بهم قاصدا البيرانه، وكان ذلك سنة 778 ولم يكن يشك في كون الأهلين سيهرعون من كل ناحية إليه، يجتمعون تحت لوائه، ولكن أخطأ حدسه هذا؛ لأن المسلمين عندما جاء بنفسه قاوموه بالسيف وظهر أنه لم يكن مقصد بعض أمرائهم من خطبة وده إلا الاستعانة به على استقلالهم، وأما المسيحيون في الجبال فقد آلوا هم أنفسهم أيضا أن لا يخضعوا لحكم الأجنبي أيا كان، فما وصل شارلمان إلى البيرانه حتى وجد نفسه محاطا بالأعداء فضيق الحصار على بنبلونه
16
ولم يفتحها إلا بعد قتال شديد، وكذلك قاومته مدينة سرقسطة، ويقول المؤرخون المسيحيون: إنه استولى عليها ذلك اليوم وأنه أخذ أميرها أسيرا وأرسله مكبلا إلى فرنسة، وأما مؤرخو العرب فينكرون ذلك، ويقولون: إنه فشل في هجومه على سرقسطة فشلا تاما، ولكن بعد ذلك جرى أن قتل أمير سرقسطة غيلة فالتجأ ابنه إلى فرنسة.
17
أما أمراء برشلونة وجيرونة ووشقة فقد أرسلوا رهائن من قبلهم إلى شارلمان.
وبينما شارلمان يحارب في شمالي إسبانية إذ جاءه الصريخ بأن أمة الصكصون أبت بأن تترك ديانتها الوثنية وبأنها زحفت للقتال، فاضطر شارلمان إلى مغادرة إسبانية عائدا إلى فرنسة، وبينما هو في طريق رجوعه وعند وصوله إلى وادي «رونسفو
Roncevaux » انقض عليه المسيحيون الجبليون، وساعدهم في ذلك المسلمون، فأوقعوا بساقة جيشه واستأصلوها، وهلك ذلك اليوم كثير من أبطال الفرنسيس بينهم فيما يقال «رولان
Roland » الفارس الشهير.
وبالاختصار كانت الجهات الشمالية من إسبانية أشبه بالثغور لفرنسة كما كانت بلادا ثغرية للعرب، وكان العرب يسمونها إفرنجة لكونها طالما ألحقت بمملكة أكيتانيا، وكان شارلمان قد جعل أكيتانيا لابنه لويس الذي جعل كرسي ملكه طلوزة أو طولوز.
فبعد أن قفل شارلمان من إسبانية عادت فعصت عليه المدن التي كانت أطاعته قبلا، وحنق المسلمون على المسيحيين وجعلوا ينتقمون منهم، بحجة أنهم كانوا السبب في مجيء الفرنسيس، فلجأ عدد من المسيحيين إلى الجبال وكانوا يتحملون شظف العيش ويلبسون جلود السباع، ولا يبالون بسكنى البراري، ولكن المترفين من المسيحيين الذين لم يكونوا يستطيعون السكنى في الأوعار، التجأوا إلى شارلمان، ووزع هذا عليهم أراضي في بسائط أربونة، ولم يفرض عليهم من الضرائب شيئا إلا الخدمة العسكرية، وقيل: إنه كان بين هؤلاء المهاجرين أناس مسلمون ارتدوا إلى النصرانية كما يظهر من أسمائهم
18
وقد اشتهر أناس من هؤلاء المهاجرين ولا يزال من بقاياهم عائلات نبيلة ينتسبون إليهم مثل عائلة فلنوف
Villeneuve .
ثم إن عبد الرحمن الأول أمير قرطبة توفي سنة 788 وقد وصفه المؤرخون الفرنسيون بالقسوة، وقالوا: إنه كان سفاكا للدماء جبارا عاتيا وأنه أوقع بكثير من رعيته العرب والبربر، وزعم الدون بوكيه أن النصارى واليهود قاسوا العذاب ألوانا في أيامه، وأنهم اضطروا إلى بيع أولادهم ليتمكنوا من المعيشة، وأما نحن فنعتقد أن هذا الأمير الذي فتح بلاده فتحا بقوة ساعده وبمجرد حسن تدبيره، وكان في جدال وجلاد دائمين لأجل توطيد سلطانه، لم يكن ليستغنى أحيانا عن الإتيان بمثلات من الشدة يرهب بها أعداءه، والحقيقة أنه كان في نفسه حليما عاقلا محبا للعلوم والصنائع، وأنه هو أول مؤسس للمدنية العربية الزاهرة في الأندلس، ولا يظهر أنه كانت له علاقات رأسا مع شارلمان، وإن كان المقري يذكر ذلك ويقول: إنه أراد أن يخطب إحدى بناته
19
والأرجح أنه لم يكن عبد الرحمن الأول هو الذي دخل في علاقات كهذه مع قارله، بل عبد الرحمن الثاني الذي كانت له علاقات مع شارل الأصلع، والذي كان عائشا في عصر لم تكن فيه هذه المصاهرات وأمثالها مستنكرة. أ.ه.
وقبل إكمال حديث «رينو» عن عبد الرحمن الأول وعبد الرحمن الثاني رأينا مناسبا أن نذكر خلاصة تاريخ عبد الرحمن الثاني نقلا عن نفح الطيب.
قال المقري: غزا عبد الرحمن بن الحكم لأول ولايته إلى جليقية وأبعد وأطال المغيب وأثخن في أمم النصرانية هنالك، ورجع، وفي سنة 208 أغزى حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع، فخرب كثيرا من البلاد وانتسفها، وفتح كثيرا من حصونهم وصالح بعضها على الجزية وإطلاق أسرى المسلمين، وانصرف ظافرا، وفي سنة 24 بعث قريبه عبيد الله بن البلنسي في العساكر، لغزو ألبة والقلاع، فسار ولقي العدو فهزمهم وأكثر القتل والسبي، ثم خرج لذريق ملك الجلالقة وأغار على مدينة سالم بالثغر، فسار إليه فرتون بن موسى وقاتله فهزمه وأكثر القتل والسبي في العدو، ثم سار إلى الحصن الذي بناه أهل ألبة بالثغر نكاية للمسلمين فافتتحه وهدمه، ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقية فدوخها وافتتح عدة حصون منها وجال في أرضهم ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم، وفي سنة 26 بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة وانتهوا إلى أرض برطانية
20
وكان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى عامل طليطلة
21
ولقيهم العدو فصبر حتى هزم الله عدوه. وكان لموسى في هذه الغزوة مقام محمود، وفي سنة 29 بعث ابنه محمدا بالعساكر، فتقدم إلى بنبلونة، فأوقع بالمشركين عندها وقتل غرسية صاحبها وهو من أكبر ملوك النصارى.
إلى أن يقول: وفي سنة إحدى وثلاثين بعث العساكر إلى جليقية فدوخوها وحاصروا مدينة ليون
22
ورموها بالمجانيق وهرب أهلها عنها وتركوها، فغنم المسلمون ما فيها وأحرقوها، وأرادوا هدم سورها فلم يقدروا عليه؛ لأن عرضه كان سبعة عشر ذراعا، فثلموا فيه ثلمة ورجعوا، ثم أغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم في العساكر إلى بلاد برشلونة فعاث في نواحيها وأجاز الدروب التي تسمى «البرت» إلى بلاد الفرنجة، فدوخها قتلا وأسرا وسبيا، وحاصر مدينتها العظمى «جيروندة»
23
وعاث في نواحيها وقفل، وقد كان ملك القسطنطينية من ورائهم «توفيلس»
24
بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة 25 بهدية يطلب مواصلته ويرغبه في ملك سلفه بالمشرق من أجل ما ضيق به عليه المأمون والمعتصم، حتى أنه ذكرهما له في كتابه إليه، وعبر عنهما بابني مراجل وماردة
25
فكافأه الأمير عبد الرحمن عن الهدية وبعث إليه يحيى الغزال من كبار أهل الدولة، وكان مشهورا في الشعر والحكمة، فأحكم بينهما الوصلة وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند مناغيه من بني العباس، ويعرف الأمير عبد الرحمن بالأوسط؛ لأن الأول عبد الرحمن الداخل والثالث عبد الرحمن الناصر، ثم توفي عبد الرحمن الأوسط سنة ثمان وثلاثين ومائتين بربيع الآخر لإحدى وثلاثين سنة من إمارته، ومولده بطليطلة في شعبان سنة ست وسبعين ومائة.
وكان عالما بعلوم الشريعة والفلسفة وكانت أيامه أيام هدوء وسكون، وكثرت الأموال عنده، واتخذ القصور والمتنزهات وجلب إليها المياه من الجبال، وجعل لفضلها مصنعا اتخذه الناس شريعة وأقام الجسور، وبنيت في أيامه الجوامع بكور الأندلس، وزاد في جامع قرطبة رواقين، ومات قبل أن يستتمه، فأتمه ابنه محمد بعده، وبنى بالأندلس جوامع كثيرة، ورتب رسوم المملكة واحتجب عن العامة. قال: وكان كثير الميل للنساء، وولع بجاريته «طروب» وكلف بها كلفا شديدا وهي التي بنى عليها الباب ببدر المال حين تجنت عليه وأعطاها حليا قيمته مائة ألف دينار. أ.ه.
وجاء في النفح كلام طويل عن محبة هذا الأمير لطروب ولغيرها من الجواري، ولم يقل: إنه خطب ابنة شارل الأصلع ملك فرنسة، ولم أذكر أن «دوزي» الذي استقصى في الكلام عن عبد الرحمن الثاني وسيرته الشخصية ذكر شيئا من هذا.
ونعود إلى سياق حديث «رينو» عن أمراء بني أمية ومغازيهم في إفرنجة، فهو يقول: إن عبد الرحمن الداخل كان استخلف ابنه هشاما من بعده، وأن هشاما لأول حكمه وجد الفتن مشتعلة في أكثر البلاد، فأراد أن يشغل الأمة عن الفتن الداخلية بجهاد العدو الخارجي؛ لأنه أجمع شيء للكلمة، وكان يريد أن يتلافى ما نقص من المملكة بغارات ببين وشارلمان الأخيرة ويخضد شوكة مسيحيي بلاد استوريش وشمالي الأندلس فأجمع على قتال المسيحيين في كل مكان، وفي أيامه كثرت القالة بأن المسلمين لا يقدرون إلا على قتال بعضهم بعضا، وأفتى بعض الفقهاء بأنه لا يجب دفع الخراج لأمراء لا يعرفون أن يقاتلوا إلا أمة محمد وحدها، وكانوا يضربون الأمثال في خدمة الإسلام بخلفاء بغداد الذين كانوا يواصلون غزو مملكة القسطنطينية.
فبناء على هذا كله تحمس هشام وأعلن الجهاد، وأمر الناس كافة بأن ينفروا قاصدين جبال البيرانه، فمن لم يقدر على الجهاد بنفسه وجب أن يجاهد بماله، وقرئ منشور الأمير في الجوامع، وفيه الآي القرآنية التي تحض على الجهاد
26
فلما تلى هذا المنشور نفر الناس للجهاد من كل فج، وانثالوا على الأمير من كل حدب، ولكن برغم هذا كله لم يكن المجاهدون بالأعداد التي كانت تجتمع في الغزوات الأولى لأول الفتح عندما كان المجاهدون كحصي الدهناء، ينفرون للجهاد في سبيل الله من إفريقية والشام وجزيرة العرب وغيرها، فإن هذه البلدان كلها كانت في أيام هشام موصدة الأبواب على من أراد الجهاد في الأندلس، فأصبح الغزو في الأندلس منحصرا في أهلها، ولذلك لم يجتمع في هذا النفير سنة 792 غير مائة ألف مقاتل، انقسمت إلى شطرين: زحف منها شطر إلى قتال مسيحيي أشتوريش، فلم يظفروا بطائل يذكر، وزحف الشطر الآخر تحت قيادة الوزير عبد الملك
27
إلى كتالونيا، ومنها تأهب لاجتياح فرنسة.
وكان دخولهم إلى فرنسة سنة 793 وشارلمان يومئذ مشغول على ضفاف الدانوب بحرب الآفاريين، ونخبة جنود مملكة أكيتانيا غائبة في إيطالية بصحبة لويس بن شارلمان، فنهد المسلمون من فورهم إلى أربونة، ولما وجدوها محصنة بادروا بإحراق أرباضها، وزحفوا إلى قرقشونة
28
وكان لويس ملك أكيتانيا قد عهد بالوكالة في غيابه إلى غليوم كونت طلوزة، فاستنفر غليوم أمراء المملكة ورجالاتها، وأقبل المسيحيون تحت السلاح من كل جانب، وتلاقوا مع المسلمين على ضفاف نهر «أوربيو»
29
في المكان المسمى «فيلدانيا»
30
بين قرقشونة وأربونة، وكانت المعركة من أحمى المعارك وطيسا، وقاتل الكونت غليوم قتال الضواري، ولكن المسلمين ثبتوا كالأوتاد والفرنسيس انهزموا ذلك النهار وولوا الأكتاد وأصيبوا بخسائر فادحة، وغنم المسلمون غنائم فوق الإحصاء، غير أنه لم يكمل سرورهم وقتل أحد كبار قوادهم، فلم يتعقبوا المسيحيين في هزيمتهم، واكتفوا بما أصابوه من السبي والمغنم، وقفلوا إلى الأندلس ظافرين، وكان لهذه الطائلة للمسلمين على المسيحيين، فرح عظيم عند المسلمين؛ لأنه كان قد طال عهدهم بالظفر
31
وأصاب الأمير خمس الغنائم فبلغ خمسة وأربعين ألف مثقال من الذهب، فإذا حسبنا قيمة الذهب يومئذ بالنسبة إلى قيمته الحاضرة وجب أن نضرب هذا العدد بتسعة فيجتمع لنا سبعمائة ألف فرنك من معاملتنا الحاضرة
32
فبنى هشام بهذا المال في جامع قرطبة الذي كان أبوه لم يتمه
33
وكان عبد الرحمن الأول بدأ جامع قرطبة من غنائم الحرب، فزاد ذلك في حرمة الجامع في نظر المسلمين، فلما باشر ابنه هشام بناء القسم الجديد من الجامع وجد المسلمين ملتزمين الصلاة في القسم القديم، فسأل عن سبب ذلك، فقيل له: إن هذا من أجل كون هذا القسم بني من غنائم الجهاد، فأجابهم هشام بأن القسم الجديد أيضا بني من غنائم الجهاد، واستدعى القاضي ونفرا من كبار القوم فأيدوا كلامه.
34
وقال بعضهم: إن أسس هذا الشطر الجديد من الجامع وضعت على تراب مجلوب من جليقية ومن جنوبي فرنسة، أي من مسافة مائتي مرحلة، حمله أسرى المسيحيين على ظهورهم، وقد تقدم هذا الخبر في الكلام على مدينة أربونة.
ولم يثبت أن المسلمين تمكنوا من أربونة في تلك الغزاة، ولو كانوا فتحوها لكان مؤرخو المسيحيين أشاروا إلى ذلك الحادث، واشتهر في تلك الحرب غليوم كونت طلوزة، من أمراء البلاد ومن أفرس فوارسها وأشدهم تحمسا بالدين المسيحي؛ لأنه بعد أن قضى حياته في الحروب، وكان من جملة غزاة الفرنسيس الذين فتحوا برشلونة، أنهى حياته في دير جلون (Gellone)
الذي بناه هو بنفسه في لوديف (Lodéve)
ومات بذلك الدير منقطعا للعبادة، وصار معدودا في مصاف القديسين، ترجمه أحد معاصريه فقال: إنهم في القرن العاشر كانوا في الكنائس يرتلون دائما الأناشيد بذكر أعماله المجيدة ومواقفه في جهاد المسلمين، ولما أخذ شعراء الفرنسيس ينظمون القصائد على شارلمان ومشاهير رجاله ويترنمون بذكر وقائع، فيها ما هو صحيح وفيها ما هو خيال، كانوا يجعلون من ذلك قسطا كبيرا لغليوم ذي الأنف القصير، وكانوا يصورون مدينة نيم ومدينتي أورنج وآرل كأنها قد وقعت في أيدي المسلمين ولم يتم استخلاصها إلا على يد ذلك البطل الذي لا يغالب ... وكذلك وجدت كتابة لاتينية بقيت محفوظة إلى زمان الثورة الفرنسوية في دير «مون ماجور» “Mont-Major”
تفيد أن شارلمان جاء بنفسه إلى آرل لطرد المسلمين منها.
ومن المعلوم أن الشعراء لم يكن همهم التدقيق في المسائل التاريخية إذا أرادوا التغني بأحاديث أبطالهم وهاموا في أودية خيالهم، فأما الكتابة التي في دير «مون ماجور» فهي غير صحيحة؛ لأنها تتضمن أن شارلمان بنى ذلك الدير تمجيدا لواقعة طرد المسلمين من آرل، والحال أن الدير قد بني بعد ذلك بمئة وخمسين سنة.
وكان هشام ملك قرطبة قد توفي سنة 796 وخلفه ابنه الحكم، فثار بعد عماه
35
فاضطر أن يقضي أوائل أيامه في قمع الثورة، وفي السنة التالية بينما كان شارلمان في مدينة أكسلاشابل
Aix-la-chapelle
جاء مستنجدا به أمير برشلونة المسلم وعم الحكم أمير قرطبة.
36
وفي تلك السنة نفسها بينما كان لويس بن شارلمان ملك أكيتانيا عاقدا مجمعا في طلوزة، جاءه رسول من الأذفونش ملك جليقية وأشتورية، يلتمس حشد جميع القوات المسيحية وتجريدها لقتال العدو العام، ثم وفد أيضا على هذا المجمع رسول من قبل أمير مسلم في ناحية وشقة (Huesca)
يقال له: «باهالوك» يريد أن يسالم المسيحيين.
37
فظهر أن الغرة كانت لائحة لأخذ الثأر من المسلمين وللدخول إلى إسبانية، وكان لويس ملك أكيتانيا وأخوه شارل (أو كارل) قد شنا الغارات في أطراف المقاطعات التي تشرب من نهر إيرة، ثم عاد لويس فأجاز البيرانه من جهة آراغون، وحاصر وشقة التي كان أميرها قد أرسل بمفاتيحها إلى شارلمان، ولكن لما جاء الفرنسيس لتسلم بلدته امتنع عليهم ولبس لهم جلد النمر، وفي ذلك الوقت كان عبد الله عم الحكم أمير قرطبة قد استولى على طليطلة، وعمه الآخر سليمان استقر في بلنسية، فسرح جيشا لقتال عمه عبد الله في طليطلة، وسار هو بنفسه مع جيش من الفرسان قاصدا البيرانه، فأدخل في الطاعة برشلونة وغيرها من المدن التي كانت أشرطت نفسها للعصيان، ومن هناك قصد الجبال وأوقع بالمسيحيين وسبى منهم كثيرا نساء ورجالا، واتخذ الحكم من أسراه حرسا خاصا وهو أول أمراء قرطبة الذين اتخذوا حرسا خاصا من الأسرى والأجانب، وقد رجع الحكم من تلك الغزاة مظفرا منصورا،
38
كما أن عمه سليمان قتل في إحدى المعارك التي دارت بينهما، وعمه عبد الله فر إلى إفريقية وعادت طليطلة إلى الطاعة، ثم إن الأذفونش صاحب جليقية أغار في تلك الأيام على المسلمين في إشبونة، ووقع في يديه بعض أسرى منهم، فأرسلهم راكبين على البغال إلى شارلمان اعتزازا بالنصر، ثم إن لويس ملك أكيتانيا الذي هو ابن شارلمان اكتسح نواحي وشقة
39
ولم يكن شيء من هذه الغارات، سواء من هذه الجهة أو من تلك الجهة، ليؤدي إلى نتيجة حاسمة يستفص منها أحد الفريقين ملكا، بل كانت النتيجة الوحيدة هي خراب تلك النواحي، وكان أهم ما لقيه الفرنسيس في هذه الحرب هو أن أمراء المسلمين الذين كانوا أظهروا الطاعة لشارلمان، عندما جاءت جيوشه إلى بلادهم، أبوا أن يقبلوها وأصلوها نارا حامية، وكان المسلمون لا يزالون أصحاب المدن الكبرى والمعاقل المنيعة مثل برشلونة وطرطوشة وسرقسطة، وكانت برشلونة بنوع خاص بحصانة موقعها وبقربها من فرنسة ووجودها على سيف البحر، من أشد البلاد نكاية بالفرنسيس، وكان الأمير الذي فيها والذي يسميه مؤرخونا «زاتون»
40
قد أوهم شارلمان أنه يريد الدخول في طاعته، ولكن عندما حضر الفرنسيس أمام بلدته امتنع من قبولهم وقلب ظهر المجن فأجمع لويس ملك أكيتانيا بالاتفاق مع غليوم كونت طلوزة، وبرأي مجمع مؤلف من أمراء تلك البلاد أن يستولى على برشلونة في أول فرصة، وكان شارلمان يومئذ في رومة مشغولا بقضية تتويجه إمبراطورا على الغرب.
وكانت برشلونة كما قال الشاعر «أرلمولدوس نيجلوس»: قد أصبحت للمسلمين معقلا متينا، وكانت تصدر عنها فرسان تلك الخيل المشهورة بخفة الحركات، فتبث الغارات في بلاد النصارى وتعود أيديها ملأى بالغنائم، وكانت من المنعة بحيث إن الفرنسيس لبثوا سنتين يحصرونها ويضيقون عليها، ويكتسحون نواحيها، ولكنهم لم يقدروا على دخولها، وقد قسم الفرنج جيشهم إلى ثلاثة أقسام: قسم منهم كان يهاجم برشلونة، وقسم ثان يقوده غليوم كونت طلوزة كان يرابط في الممر الذي تفيض منه جيوش المسلمين الآتية من قرطبة لنجدة برشلونة، وقسم ثالث كان يقوده الملك لويس نفسه، وكان في أعالي جبال البيرانه، يحمل على المسلمين حيث وجد الفرصة ملائمة.
وكان الإفرنج قد تقاسموا أعمال الحصار، فمنهم من كان مشغولا بوضع السلالم ومنهم من كان يجلب الميرة والعدة، ومنهم من كان موكولا إليه الحفر والنقب، ومنهم من كان موكولا إليه غير ذلك، فاشتد الحصار شدة غير معهودة، وجاءت جيوش المسلمين فلم تقدر على النفوذ إلى برشلونة فتحولت إلى بلاد أشتورية، وهزمت أهلها، فبقي أمير برشلونة منفردا بقوته، وخرج في إحدى المعارك لقتال الإفرنج المحاصرين، فأخذ أسيرا ثم حمل الإفرنج على البلدة الحملة الأخيرة وفتحوها.
41
وكان فتح الإفرنج لبرشلونة سنة 801 مسيحية بعد أن بقيت تسعين سنة في أيدي المسلمين، فلما دخلوها حولوا جوامعها كنائس، وأرسل الملك لويس إلى أبيه شارلمان جانبا من الغنائم، فيها دروع وخوذ، ومنها خيول مسرجة بأفخر السروج، وبعد ذلك أصبح لفرنسة منطقتان في شمالي إسبانية إحداهما كتالونيا وقاعدتها برشلونة، والثانية غشقونية ومن جملتها ناباره وأراغون.
وفي تلك السنة جاء وفد من قبل هارون الرشيد إلى شارلمان، وكان شارلمان قبل ذلك قد أرسل رسولا يهوديا اسمه إسحق مصحوبا باثنين من الفرنسيس لأجل السلام من قبله على الخليفة العباسي، وقد أمر شارلمان هذا الوفد بأن يمر بالقدس قبل ذهابه إلى بغداد، وأن يتعهد أحوال زوار المسيحيين لبيت المقدس، ويتوسط لدى الخليفة في تسهيل هذه الزيارة حتى يزداد عدد الزوار والتجار القاصدين إلى البقاع المقدسة، وكان الفرنسيس من عهد أنيبال لم يروا في بلادهم فيلا، فكان من جملة مهمة هذا الوفد أن يأتوا من الشرق بفيل يبتهج برؤيته أهل فرنسة، فلما وصل الوفد إلى بغداد استقبلهم الخليفة برا وترحيبا ووعد بتسهيل زيارة المسيحيين لبيت المقدس وترفيه مقامهم عندما يردون إليه، ولم يكن في دار الوحوش التي عند الخليفة عندئذ سوى فيل واحد فبعث به هارون الرشيد إلى شارلمان ومعه هدايا أخر من منسوجات حريرية وقطنية لم يكن يوجد منها في فرنسة، ومن طيوب ومعطرات وأشياء أخر، وكان من جملة الهدية شمعدان من نحاس أصفر، عظيم الحجم، وساعة من نحاس أصفر أيضا تتحرك بالماء وتدق اثنتي عشرة مرة بعدد ساعات النهار.
ونزل الوفد في قدمته من الشرق، في مدينة بيزة، وحملت الهدايا بابتهاج عظيم إلى «أكس لاشابل» مركز الإمبراطور شارلمان، ولما وصل الوفد قدموا للإمبراطور تحايا الخليفة، وأبلغوه ما قاله لهم من أنه يضع مودته فوق مودة جميع الملوك
42
وكان هذا الوفد قد صدر له الأمر من شارلمان بأن يتوجه إلى قرطجنة، في إفريقية، ويلتمس من إبراهيم الأغلبي (عامل الخليفة) الإذن بنقل رفات القديس فبريانس المدفون في قرطجنة وغيره من القديسين المدفونين هناك، فأذن لهم إبراهيم فيما طلبوه وبعث أيضا رسولا وراءهم إلى الإمبراطور يتودد إليه، وقد كان لذلك في هاتيك الأيام وقع عظيم، نظرا لانقطاع العلاقات تقريبا بين الأقطار المتباعدة، وكانت الناس تستدل به على عظمة شارلمان
43
وأن الله أعطاه في ذلك العصر صورة ترى كل ملك دونها يتذبذب، وفي تلك الأيام لم تكن الحرب تسكن بين المسلمين والإفرنج في بلاد أراغون وكتلونية وناباره، وكانت سجالا بين الفريقين.
ولم يكن شارلمان ليقدر على النظر في جميع شؤون مملكته الواسعة، ففي سنة 809 مسيحية مات الكنت أوريول “Aureole”
قائد الجيوش الإفرنسية في أراغون، فجاء أمير سرقسطة المسلم، وكان يقال له: عمروس، واستولى على الأماكن التي كانت في حوزة الكنت زاعما أنه عندما يأتي شارلمان بنفسه يسلمها إليه، ولكن لما جاءت العساكر الفرنسية أبى إنزالهم فيها، فبقيت في يد المسلمين. هكذا روى مؤرخو الفرنسيس. وقد روى بعض مؤرخي العرب أن عمروس هذا كان أميرا في وشقة، وكان أبوه مسلما وأمه مسيحية، وكان مثل هذا الزواج كثير الوقوع في إسبانية لذلك العهد، لا سيما في الأصقاع الشمالية، وكان يقال لهؤلاء الذين هم من أب مسلم وأم مسيحية المولدون، وكان هذا الصنف من الناس لا يرجعون إلى مبدأ، ولا يتقيدون بذمام، وإنما يتبعون مصالحهم الخاصة، وكانوا كثيرين في مدينة طليطلة فثاروا على أمير قرطبة فرماهم برجل يقال له: عمروس، وكان داهية من الدواهي، فجاءهم عمروس وتظاهر لهم بالإخلاص لقضيتهم، وأوهمهم أنه في نفسه ممالئ لهم ينتظر أول فرصة للانتقاض معهم على السلطان، وأقنعهم بذلك بمكره وحيلته وصدقوا كلامه، واتفق معهم على بناء قلعة في أعلى البلدة تكون المعقل الأمين بزعمه لهم ، بحيث لا تنالهم جيوش السلطان بسوء، فلما أكمل بناء هذه القلعة دعاهم فيها إلى وليمة، فكان كلما دخل منهم واحد قطع الجند رأسه، فقيل: إنه قطع رؤوس أربعمائة من أعيانهم، وقيل: إنه بلغ عدد القتلى خمسة آلاف، وهكذا تمكن عمروس من إدخال طليطلة في الطاعة. انتهى.
وقد ذكر دوزي الهولندي في «تاريخ الإسلام في إسبانية»: إن عمروس هذا كان من الإسبانيول الذين اتخذوا الإسلام دينا، والحقيقة أنه لم يكن يهمه لا مذهب ولا مشرب، وإنما كانت تهمه مطامعه الدنيوية، فكاشفه الأمير الحكم بما في نفسه من أمر طليطلة التي كانت لا تنتهي من ثورة إلا إلى ثورة، وكانت تأبى الخضوع لوال عربي، وقد أعيى الحكم أمرها، فدبر عمروس هذه المكيدة على أهالي طليطلة بالاتفاق مع الحكم، وكتب الحكم قبل ذلك إليهم قائلا لهم: إن أعظم دليل على اعتنائنا بشأنكم أننا مرسلون إليكم الآن واليا من أبناء جنسكم، وقد كان هذا القول صحيحا لأن عمروس كان إسبانيوليا، مهتديا للإسلام، وذهب عمروس فخدع أهالي طليطلة وتودد إليهم وزعم أنه كاشفهم سرا بما في نفسه من الحمية على جنسه، والاستعداد لخلع طاعة السلطان عندما تلوح أول بارقة أمل، وقال لهم: إن أكثر أسباب النزاع بينكم وبين السلطان كانت من قبل الولاة الذين كانوا يتولون طليطلة، فكانوا يضعون الجند في بيوتكم فيسلبون راحتكم، فلو بنينا في طرف من المدينة حصنا تتخذه ثكنة للعساكر لانحسمت أسباب النزاع بينكم وبين السلطان، فوثق الأهالي بكلام عمروس، وبنوا الحصن واستقر به عمروس. وبعد ذلك أكمل عمروس المكيدة بأنه تواطأ مع السلطان على أن يرسل جيشا إلى طليطلة بحجة أن العدو تحرك في الثغر فأرسل الحكم جيشا تحت قيادة ولده عبد الرحمن - وكان في الرابعة عشرة من عمره - فلما وصل الجيش إلى طليطلة أشاعوا أن العدو انقبض إلى بلاده، وأن الجيش سيعود أدراجه إلى قرطبة، ولكن عمروس أشار على أعيان طليطلة بأن يأتوا للسلام على الأمير عبد الرحمن، قياما بواجب الحرمة للسلطان، فجاء منهم جمهور وسلموا عليه، واستقبلهم الأمير بالحفاوة والإكرام، وهم دعوه أن يطيل الإقامة عندهم، وتظاهر الأمير بادئ ذي بدء بأنه مضطر لسرعة الأوبة، ولكن أعيان البلدة ألحوا عليه بالتريث عندهم، وأملوا فيه خيرا كثيرا، وكانوا مسرورين بكون واليهم الجديد إسبانيوليا من جنسهم، وبعد ذلك تقرر إعداد وليمة لأعيان طليطلة وجوارها ولكنها لم تكن مريئة المأكلة، وفي اليوم التالي جاء المدعوون أفواجا أفواجا ونزلوا عن ركائبهم وربطوها خارج الحصن، وصاروا يدخلون زرافات، وكان في ساحة الحصن خندق وقف بجانبه جماعة من الجلادين، فكانوا كلما أقبل جماعة يقطعون رؤوسهم ويرمون بها في الخندق، وتم كل هذا وأهل البلدة لا يعلمون بشيء مما جرى داخل الحصن.
وكان هناك طبيب من أهل طليطلة، عظيم الفراسة، لحظ عدم خروج أحد من المدعوين، فسأل الأهالي: هل رأيتم أحدا من المدعوين إلى الحصن خرج منه؟ فأجابوه: يجوز أن يكونوا دخلوا من هذا الباب وخرجوا من الباب الآخر. فقال لهم الطبيب: بل أظن أنهم لن يخرجوا أبدا وأنه أتى عليهم القتل. وقال ابن عذارى: إن عدد القتلى يوم الخندق هذا بلغ سبعمائة. وقال النويري وابن القوطية: إنهم أكثر من خمسة آلاف، ولكن من بعد هذه الواقعة سكنت الثورة في طليطلة مدة طويلة. انتهى كلام دوزي.
فهذه كانت عقبى غرام أهل طليطلة بالانتقاض، وعمروس الإسبانيولي هذا الذي دبر هذه المكايد هو الذي خدع أيضا قواد الفرنسيس وتسلم منهم المواقع التي كانوا فيها، ولا يبعد على رجل كهذا، غدر ذلك الغدر بأهل وطنه، أن يغدر بالفرنسيس.
ولننظر الآن إلى رواية المؤرخ كوندى الإسبانيولي، قال: إن الحكم لم يتمتع طويلا بالراحة التي كان وطد أطنابها بتعبه وجهاده، ففي سنة 801 مسيحية وفق 185 هجرية تحرك ملك أشتورية وأراد التجاوز على المسلمين، ولما كان يعلم نفسه أضعف من أن يقدر عليهم استنجد بشارلمان، وهذا أسرع لنجدته مؤملا بذلك الاستيلاء على ولايات إسبانية الشمالية وضمها إلى مملكته، فجعلت أمداد شارلمان تثوب إلى الإسبانيول تحت قيادة ولده لويس ملك أكيتانية، فزحف لويس واستولى على مدينة جيرونة، وجاء فحاصر برشلونة، وانضم إليه بهلول بن مخلوق من عمال أمير قرطبة، وسار بالفرنسيس إلى طرطوشة، فزحف الحكم بنفسه ومعه عمروس ومحمد بن مفرج قائد الخيالة الذي كان عظيم الاعتماد عليه نظرا لدهائه وإقدامه.
ولما وصل إلى سرقسطة ثارت الثورة في طليطلة بما أحرج الأهالي من عسف يوسف بن عمروس الذي كان قبض عليه الأهالي لسوء ملكته فيهم، فاستدعى السلطان والده عمروس، وعهد إليه نظرا لدربته ودهائه بولاية طليطلة، وأرسل ولده يوسف قائدا على تطيلة.
ثم أغار الحاكم على نابارة وبنبلونة ودخل وشقة، فخشي الأذفونش على بلاده وحشد عساكره، وزحف إليه يوسف بن عمروس فأوقعه الأذفونش في كمين وأخذه أسيرا، فدفع عليه أبوه فدية جسيمة حتى أنقذه، وأما الحكم فكان يتوقد صدره إحنة على بهلول عامله الذي انحاز إلى الفرنسيس ومشى بين يديهم، ولما عرف أنه في جوار طركونة عمد إليه من فوره، ولم يزل في أثره حتى ثقفه في طرطوشة بعد أن هزمه، واحتز رأسه، ورجع الحكم إلى قرطبة بدون أن يتعرض لبرشلونة، وذلك خوفا من الفشل في حصارها.
أما حصار الإفرنج برشلونة فقد أجمع المؤرخون أنه كان من أندر ما عرف التاريخ شدة وصبرا، وأن مسلمي برشلونة صبروا في هذا الحصار إلى الحد الذي تتحير فيه العقول، ولكن الخلاف وقع بين المؤرخين في الأطوار التي دخلت فيها تلك الحرب، فبعضهم قالوا، كما في تاريخ متس وتاريخ ريجينون وغيرهما: إنه في سنة 797 قدم أمير برشلونة العربي على شارلمان، وبعد ذلك في سنة 801 أراد خلع طاعته، فأخذ أسيرا ونفي. وهؤلاء المؤرخون يسمونه تارة «زاتون»
Zaton
وطورا «زادو»
Zaddo
وأحيانا «زاد»
Zaad ، ولعل اسمه سعدون أو سعد، وفي تاريخ الملك لويس الحليم ورد أن سعدون هذا وقع أسيرا في سربونة، وأنه بعد أسره تولى إمارة برشلونة ابن عم له، اسمه عامر، فدافع عن البلدة دفاعا يتقاصر عنه كل وصف مدة سنتين، تحمل في أثنائها مسلمو برشلونة من ضيق الحصار ما يعجز أي قبيل عن تحمله.
وذهب مؤرخون منهم مارمول
Marmol
إلى أن الرواية الصحيحة هي أن سعدون أو سعدا كان تابعا لملك قرطبة فانتقض على سلطانه فأرسل إلى شارلمان يعده بالدخول في طاعته، وفي سنة 797 و798 دخل فعلا في طاعة شارلمان، ولكن شارلمان بعد سنتين من هذا العهد شعر بأن أمير برشلونة نقض طاعته، فسرح إليه جيشا تحت قيادة ولده لويس فحاصر برشلونة واستفتحها ثم انصرف عنها، فجاء أمير سرقسطة واستردها، ولكن لويس عاد ثانية سنة 806 فاستولى عليها وعلى أعمالها، فالروايات تختلف في كيفية استيلاء الفرنسيس على برشلونة، ولكن خلاصتها واحدة وهي أن العرب خسروا بلاد كتلونية مذ ذلك الوقت، وأنه تولى عليها في البداية أمراء تابعون لفرنسة ثم لم يبرحوا حتى استقلوا عنها وعن العرب معا.
وقد ذكر كوندي الإسبانيولي واقعة عمروس في طليطلة، وكيف غدر بأعيان تلك البلدة وكيف دعاهم إلى وليمة في القصر وقطع رؤوسهم غدرا، ولكن رواية كوندي تختلف عن رواية دوزي بكون دوزي يوهم أن تلك المكيدة وقعت بتواطؤ عمروس مع سيده الحكم ومع ابنه الأمير عبد الرحمن الذي كان في الخامسة عشرة من عمره، وبأن كوندي يقول: إن صاحب ذلك الرأي إنما كان عمروس، وأن الأمير عبد الرحمن مع صغر سنه أوضح له فظاعة ذلك العمل وما يبقى بعده على الأعقاب من قبيح الذكر ولكنه تغلب عليه لحداثة سنه، وراجعه الأمير كثيرا وأبدى وأعاد فلم يقنع عمروس إلا بتنفيذ ما بيته لأهل طليطلة، قائلا للأمير: إن طليطلة قد ألفت العصيان من زمن طويل حتى صار لها خلقا ملازما وأنه لا بد لسكونها من قطف عدة مئات من رؤوس أعيانها، ثم ذكر كوندي زحف ملك أكيتانية وحصاره لطرطوشة سنة 807 وأن الأمير عبد الرحمن كان في سرقسطة فزحف لإنجاد طرطوشة ووافاه إليها وإلى بلنسية فطردوا الفرنسيس عنها، ثم يقول: إن عبد الرحمن عاد فاستولى سنة 812 على جيرونية من كتلونية، وأنه وصل بجيشه إلى أربونة وعاد بغنائم وافرة، ثم إن الفرنسيس استولوا على طرطوشة بعد حصار شديد وسار ملكهم لويس منها قاصدا أخذ وشقة
44
فما كاد ينصرف عن طرطوشة حتى رجعت هذه البلدة إلى حكم العرب.
وقد علق «دومارليس » على روايات كوندي عن هذه الحرب حاشية معناها: أن مؤرخي الفرنسيس يزعمون أن ملك قرطبة بعث إلى شارلمان وفدا بطلب الصلح، وأنهم وصلوا إلى «أكسلاشابل» وتقرر الصلح على أن ينزل العرب لشارلمان عن جميع البلاد الواقعة بين نهر إيرة والبيرانه، وإن هذه المعاهدة انعقدت سنة 810.
فدومارليس يستبعد وقوع هذه المعاهدة بكون العرب لم يذكروا عنها شيئا في تواريخهم ثم بكون لويس بن شارلمان زحف إلى كتلونية عدة مرات من بعد هذا التاريخ، فيرى دومارليس أنه يجوز أن تكون حصلت مهادنة بين الفريقين إلى حد سنة820 أو إلى ما بعد ذلك، وأما العرب الذين شوهدوا في أكسلاشابل فربما كانوا من بعض أولئك الولاة المسلمين الذين كانوا ينقضون على ملك قرطبة ويستعينون عليه بالأجانب من قبيل بهلول بن مخلوق الذي تلقى جزاء خيانته من يد الحكم نفسه.
أساطيل الإسلام في الأندلس وإفريقية
قال رينو: وفي تلك الأيام أخذت قوة الإسلام البحرية تزداد وتنبسط في البحر المتوسط بسبب رغبة المسلمين بإنشاء الأساطيل في مرافئ الأندلس وإفريقية، وقد كان لذلك تأثير عظيم في اجتياح المسلمين لجنوبي فرنسة، ولما اقتطع عبد الرحمن الداخل بلاد الأندلس عن خلافة بني العباس وأرسل هؤلاء جيشا في البحر، أجاز إلى الأندلس لمطاردته، علم عبد الرحمن بأنه لا بد له من قوة بحرية في وجه قوتهم البحرية.
ففي سنة 793 اتخذ عبد الرحمن الأول دور الصناعة
45
في مراسي طركونة وطرطوشة وقرطجنة وأشبيلية والمرية وغيرها، وقبل ذلك كانت جزر الباليار - أي: ميورقة ومينورقة ويابسة وجزيرتا سردانية وكورسيكة - عرضة لغزوات المسلمين، بحيث إن أهالي هذه الجزائر وضعوا أنفسهم تحت حماية شارلمان، وورد في مجموعة الدون بوكيه أن هؤلاء كانوا تغلبوا على المسلمين في بعض الوقائع وأخذوا منهم بضع رايات، فأرسلوا بها إليه، وعلى أثر ذلك ازداد غزو المسلمين لهذه الجزائر، فكانوا يغادونها القتال ويراوحونها، ويسبون من أهلها النساء والأطفال ويقتلون المقاتلين ولم يكونوا يعفون إلا عن الشيوخ العاجزين والمرضى والمقعدين.
وسنة 806 اكتسح المسلمون جزيرة كورسيكة
46
وكان ببين بن شارلمان ملكا على إيطالية، فأرسل أسطولا لمطاردتهم، فلما شعر المسلمون بدنو أسطول النصارى انسحبوا إلى الوراء، فطمع فيهم آدمر
Admer
كونت جنوة وتعقبهم بأسطول فرجعوا إليه وقتلوه وهزموا أسطوله وأسروا ستين راهبا وباعوهم في الأندلس، وبلغ ذلك شارلمان ففكهم من الأسر بفدية أداها عنهم.
47
وسنة 808 جاء قرصان من الأندلس، فنزلوا بسردانية فاجتمع أهلها ودحروهم فنزلوا بكورسيكة (أو قرسقة) فصادمهم القائد بورشارد
Burchard
فخسروا ثلاثة عشر مركبا وانهزموا، ولكن المسلمين في السنة التالية جاءوا من إفريقية ونزلوا في سردانية، كما أن غزاة مسلمين آخرين جاءوا يوم عيد الفصح ونزلوا في كورسيكة وعاثوا فيها. وجاء في تاريخ كورسيكة لجاكوبي أن المسلمين خيموا في الجهة الشرقية من الجزيرة بين أطلال مدينة «آليرية
Aleria » ولم يتمكن الفرنسيس من طردهم إلا بشق الأنفس، ثم في سنة 813 رجعوا إلى كورسيكة وأسروا وغنموا، وبينما هم راجعون أكمن لهم كونت أمبورياس
Amporias
بقرب مدينة برينيان قوة بحرية غنمت منهم ثمانية مراكب كان فيها أكثر من خمسمائة أسير، فانتقم المسلمون عن ذلك باجتياح سواحل نيقه
Nice
وبروفنس وسيفيتة فكشيا
Civita-Vecchia
بقرب رومة.
48
ورأى الإمبراطور شارلمان أن الخطر قد ازداد على بلاده، وأن لا بد له من تدابير بالغة في الشدة لرد غارات المسلمين البحرية، وقد كانت إمارة الأغالبة في إفريقية تابعة للخلافة العباسية في بغداد، فكان أمير القيروان مدة خلافة هارون الرشيد يتحامى سواحل مملكة شارلمان حرمة للعهد الذي كان بين هارون والإمبراطور، ولكن عندما مات الرشيد سنة 809 ووقعت الحرب بين ولديه الأمين والمأمون تفصى الأمير الأغلبي من ذلك العهد، وصارت مراسي تونس وسوسة بؤرة قرصان تنبث منها الغارات البحرية. وقيل: إن أمير صقلية كان يشكو إلى رسول قادم من عند الأغالبة عيث القرصان في سواحله، فأجابه الرسول: نعم منذ مات أمير المؤمنين صار الذين كانوا عبيدا يريدون أن يكونوا أحرارا، والذين كانوا أحرارا ولكنهم فقراء يريدون أن يكونوا أحرارا أغنياء.
وكان القرصان أكثر ما يتعرضون للسفن التي تتردد بالبضائع بين فرنسة وإيطالية من جهة، ومصر والشام وآسيا الصغرى من أخرى، وكان قد انضم إلى قرصان المسلمين قرصان النورمانديين وأخذوا جميعا يعيثون في السواحل الجنوبية، فأمر شارلمان ببناء الأبراج والحصون في السواحل وعند مصاب الأنهار، وأنشأ الأساطيل لدفع عوادي القرصان، وجميع هذه الروايات جاءت في مجموعة الدون بوكيه.
ولما طالت هذه المساجلات البحرية وتعب منها الفريقان داخل بعضهم بعضا في عقد معاهدة سلم تأمن بها السفن البحرية غوائل متلصصة البحر، ففي سنة 810 انعقدت أول متاركة، ثم تجددت بعد سنتين، وجاء رسول من الأندلس يرجح أنه يحيى بن حكم أمير الماء
49
في الأندلس قاصدا أكسلاشابل وعقد مهادنة مع شارلمان لثلاث سنوات، ولكن المسلمين نقضوها هذه المرة؛ لأنهم سنة 813 نزلوا في جزيرة كورسيكة وتقدم عبد الرحمن ابن أمير قرطبة إلى حدود فرنسة بجيشه، وفي تلك الواقعة قتل القديس آفانتين “Saint Aventin”
من أهالي بانيبر دولوشون
Bagneres-De-Luchon
في مقاطعة غارون العليا.
ومات شارلمان سنة 814 وخلفه ابنه لويس الحليم، وسار على أثره في السياسة، ولكن في أيامه استفحلت غزوات المسلمين البحرية، وجرت لذلك العهد حادثة في قرطبة تفاقم بسببها هذا الأمر، وذلك أن أهالي ربض قرطبة ثاروا على الحكم أميرهم فسار إليهم الحكم برجاله وحرسه وأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ونفى بقية السيف، وكانوا زهاء خمسة عشر ألفا فأركبهم طبقا عن طبق وأجازهم البحر إلى إسكندرية، وهناك خاف عاديتهم والي الإسكندرية فأدى إليهم مبلغا من المال وأركبهم إلى جزيرة أقريطش التي يقال لها اليوم: كريت.
50
وفي سنة 816 توجه رسل من قبل الأمير عبد الرحمن بن الحكم الذي كان بدأ يباشر الأشغال في حياة أبيه، وذلك إلى مدينة كومبيان
Compiegne
حيث كان يقيم الإمبراطور، ثم ذهبوا إلى أكسلا شابل حيث كان سينعقد مجلس شورى، وكان مراد رسل أمير الأندلس عقد متاركة، وانعقدت إلا أنها لم تطل، وفي سنة 820 سار أسطول إسلامي من تركونة وغزا جزيرة سردانية فجاء أسطول مسيحي لأجل الدفاع عنها، فتغلب الأسطول الإسلامي وأغرق المسلمون ثمانية مراكب للمسيحيين وأحرقوا أيضا مراكب كثيرة.
وفي تلك السنة مات الحكم، وتولى ابنه عبد الرحمن، وكان الحكم موصوفا بالقسوة جبارا وكان يلقب بأبي العاصي ومن هنا لقبه الإفرنج بلفظة أبولاز
Abulaz
فلما مات الحكم جاء عمه عبد الله يطالب بالإمارة كعادته، وهو الذي كان داخل شارلمان لأجل أن يساعده على ابن أخيه، فلما جاء هذه المرة وأهرج الأندلس وأمرجها اهتبل الفرنسيس الغرة ليزحفوا مجددا إلى كتلونية وآرغون فعاثوا ودمروا وأحرقوا.
وفي سنة 820 اتهم بيره
Bera
أمير برشلونة من قبل فرنسة بممالأة المسلمين سرا، وكان الواشي به أحد القوط، وكان بيره نفسه قوطيا أيضا، وكان من عادة القوط أنه إذا تخاصم اثنان ولم يقدر أحدهما أن يثبت دعواه بالبينة تبارزا بالسلاح فالمغلوب منهما يعد مذنبا، وفي ذلك اليوم كان المغلوب «بيره» فتقرر حينئذ أنه كان خائنا للفرنسيس، وفي ذلك الوقت ثار نصارى ناباراه على الفرنسيس من شدة عسفهم وظلمهم، واتفقوا مع المسلمين، وسلموهم مدينة بنبلونة، فأرسل الإمبراطور الكنت أزنار
Asnar
والكنت أبل
Eble
لأجل تسكين الثورة، فانقض عليهما نصارى الجبال وثقفوهما، فأما أزنار فعفوا عنه لأنه كان من أصل غشقوني أي من أقارب الإسبانيول فأطت بهم رحم القرابة نحوه، وأما الكنت إبل فلكونه إفرنسيا صريحا أرسلوه إلى الأمير في قرطبة، روى ذلك الدون بوكيه.
وفي سنة 826 ثارت مدينة ماردة على عبد الرحمن، فكتب إليهم لويس بن شارلمان الكتاب الآتي نصه:
باسم ربنا الإله وباسم مخلصنا يسوع المسيح، من لويس الإمبراطور السعيد بالنعمة الإلهية إلى الأساقفة والشعب في ماردة، قد اتصل بنا ما تقاسونه من العذاب من جهة الملك عبد الرحمن الذي لا يزال يرهقكم عسرا متبعا في ذلك طريقة أبيه أبولاز الذي كان يبتزكم أموالكم والذي كان جعل أصدقاءه أعداء وجعل الطائع عاصيا، فاليوم يريدون أن يحرموكم حريتكم وأن يثقلوا كواهلكم بالضرائب وأن يمسوا كرامتكم ويهينوكم، وقد علمنا أنكم أبيتم تحمل الإهانة ودفعتم عنكم ظلم ملوككم ووقفتم في وجه طمعهم وغدرهم، وقد جاءنا هذا الخبر من مصادر عدة، فرأينا أن نكتب هذا الكتاب لتعزيتكم على ما أنتم فيه ولتحريضكم على الثبات في خطتكم هذه، ولما كان هذا الملك البربري عدوا لنا، كما هو عدو لكم، فإننا حاضرون للاشتراك معكم في قتاله. ومرادنا في هذا الصيف بعون الله تعالى أن نرسل جيشا يجتاز البيرانه ويكون حاضرا للعمل بإشارتكم، فإن كان عبد الرحمن سيزحف إليكم فيكون جيشنا بالمرصاد له، وترانا نعلمكم من الآن أنكم إن كنتم تخلعون طاعة عبد الرحمن وتصيرون من رعايانا فنحن حاضرون أن نعيد إليكم حريتكم الأولى، بدون مساس بها وبدون أن نطالبكم بأدنى مال تؤدونه لنا، وأنتم تختارون القانون الذي تريدون أن تسيروا عليه، ونحن نعاملكم كأصدقاء يريدون أن يشتركوا في الدفاع عن سلطتنا ونسأل الله أن يسبغ عليكم أثواب العافية. انتهى.
وفي ذلك الوقت عقد الإمبراطور لويس ندوة عامة في أكسلاشابل، حضرها ابنه ببين وسائر أمراء البلاد المجاورة لإسبانية، وأعلن الإمبراطور عزمه على غزو الأندلس للأخذ بالثأر. وكان في أكسلاشابل قائد قوطي اسمه عيسون
Aizon
التجأ بزعمه إلى الإمبراطور، فما شعروا به إلا وقد انسل من هناك خفية، وجاء وأثار الأهالي في كتلونية وآراغون، واستولى على مدينة أشونة
Assuna
واجتاح البلاد التي كانت تحت احتلال الفرنسيس، وأرسل يستنجد أمير قرطبة، ولما أبطأ عليه الإمداد ذهب بنفسه إلى قرطبة لأجل الاستعجال في التعبئة والنجدة فسرح عبد الرحمن جيشا بقيادة عبيد الله أحد أبناء عمه، وسار هذا الجيش ومعه عيسون، وأغذوا السير، بينما الجيش الإفرنسي يسير بطيئا، فوصلوا إلى برشلونة وجيرونة واجتاحوهما، وتقدموا إلى سردانة وملأوا البلاد عيثا وتدميرا كما جاء في مجموعة بوكيه، وكان أهالي ماردة قد أعلنوا الحرب على عبد الرحمن، وانتظروا نجدة الفرنسيس لهم، ولكن عبد الرحمن ضيق عليهم الحصار وجرعهم أمر كؤوسه ثلاث سنوات حتى دخلوا في طاعته صاغرين ورجعوا داخرين بعد أن كانوا فاخرين، وفي تلك الأيام ازداد عيث قرصان النرمندانيين في سواحل فرنسة وألمانية وإنكلترة وإسبانية، بينما قرصان إفريقية والأندلس تجعل في سواحل فرنسة وإيطالية غدوها ورواحها، فعيل صبر بونيفاس أمير كورسيكة وأرسل مراكب إلى إفريقية فاجتاحت ساحل قرطجنة للأخذ بالثأر.
وقد ذكروا أنه كان للمسلمين لذلك العهد بارجة متناهية في الكبر يظنها الرائي من بعيد سورا عاليا سائرا في البحر غزت مرة جزيرة أوي
Oye
في بريطانية عند مصب نهر لوار ولكن لم نعلم من آثارها شيئا غير هذا.
ولا يخفى أن هذه الوقائع كانت تتراكم كلها في أيام الإمبراطور لويس الحليم الذي كان هو بنفسه قائل الرأي ضعيف العزيمة سيئ الإدارة فاقد الإرادة، قسم مملكته بين أولاده الثلاثة، وسلم إلى كل حصته، ثم بدا له أن يعيد القسمة وأن يجعل نصيبا لولده الرابع، فثار أولاده عليه وقاتلوه وخلعوه، ورجع إلى العرش، ولكن لم ترجع مهابته وامتلأت أيامه بالفتوق والآفات بحيث إنه أصدر سنة 828 منشورا يقول فيه: إن المجاعة والطاعون وسائر أصناف الآفات السماوية انقضت على شعوب سلطنتنا مما يدل على غضب الله تعالى من أعمالنا غير المستقيمة، ثم أمر الإمبراطور بصيام عام وباجتماع الأساقفة في أربع حواضر، منها مدينة طلوزة، وذلك لأجل المذاكرة في التدابير اللازمة لمعالجة هذه الحال.
أما العلاقات التجارية، بين مملكة شرلمان وبين مصر والشام، فلم تنقطع في وقت من الأوقات، وفي سنة 831 تجددت المواصلات بين الخلافة العباسية والسلطنة الغربية، وقد تقدم وفد من قبل الخليفة المأمون إلى فرنسة مؤلف من ثلاثة، اثنان منهما مسلمان والثالث مسيحي، وجاءوا إلى الإمبراطور بهدايا منها منسوجات فاخرة ومنها أفاويه عاطرة.
وكانت الحرب لا تزال مشتعلة في جبال البيرانه، بين جيوش أمير الأندلس وجيوش فرنسة، فاجتاح الأمير عبيد الله ابن عم الأمير عبد الرحمن في سنة 838 البلاد التي كانت تحتلها جيوش الفرنسيس، كما أن هؤلاء اجتاحوا من بلاد قشتالة ما كان تابعا لملوك قرطبة، وسار أسطول للمسلمين من تركونة ومعه أسطول آخر من جزيرتي ميورقة ويابسة، وهاجم المسلمون مرسيلية وأنزلوا العساكر في نواحيها واستولوا على ضواحيها وساقوا جميع الرجال حتى الرهبان أسرى، والمظنون أنه في تلك الغزوة حصلت الحادثة المنسوبة إلى القديسة أوزيبيا
Cusebia
رئيسة دير الراهبات في مرسيلية والأربعين راهبة اللائي كن في ذلك الدير، وذلك أنهن خشين من أن الغزاة يتجاوزون على أعراضهن ويلحقون بهن المعرات فشوهن خلقة أنفسهم بجدع أنوفهن حتى يكن بمأمن من تجاوز غزاة العرب.
ومات الإمبراطور لويس سنة 840 فوقع الخلف بين أولاده، واغتنم المسلمون هذه الفرصة فدخلوا من مصب نهر الرون، كما جاء في مجموعة مؤرخي فرنسة للدون بوكيه، وعاثوا في مدينة آرل ونواحيها، وفي الوقت نفسه أغار موسى أمير تطيلة في بلاد نابار وأوغل حتى بلغ أرض سردانة، واكتسح تلك البلاد.
51
وكانت في تلك الأيام قد ساءت الأحوال في فرنسة إلى الدرجة القصوى بسبب الحروب الداخلية، وأصبحت قد انتثر سلكها وتعطلت حلاها وتقاسم جنوبي فرنسة ثلاثة ملوك: الإمبراطور لوطير
Lothaire
والملك شارل الأصلع والملك الشاب ببين بن ببين الذي كان ملكا على أكيتانية، ثم ثار أمير اسمه فولكراد
Folcrade
على الإمبراطور وسمى نفسه كنت آرل وبروفنس، وقد بلغ حب الشقاق وفساد الأخلاق أن الكثيرين من سلالة شارل مارتل وببين القصير وشارلمان كانوا يستنجدون بالأعداء الأجانب بعضهم على بعض.
ولم تكن إيطالية بأحسن حالا من فرنسة؛ لأن المسلمين كانوا استولوا على جزيرة صقلية، وكان اثنان من أمراء المسيحيين يتنازعان الإمارة في بلاد بينيفنتي بقرب نابولي، فاستنجد كل منهما بالمسلمين الذين كانوا في صقلية، فدخل المسلمون إلى الأرض الكبيرة واستولوا على قسم كبير منها.
52
وفي سنة 846 جاء غزاة العرب إلى رومة وصعدوا في نهر الطير ونهبوا كنائس القديسين بطرس وبولس وغزوا أيضا جنوة وعطلوا سدود نهرها، فنفر الأهالي وقاتلوهم وحمل الرهبان والقسيسون السلاح.
53
ولم تكن الأندلس بأسعد حالا في تلك الأيام؛ لأن الفتن كانت تصطلمها، والآفات تنيخ عليها بكلكلها فانضم إلى الفتن المجاعة والقحط والجراد وغزو النورمنديين الذين أخذوا ينزلون في أشبونة وأشبيلية ويفسدون في أرضهما.
وفي سنة 848 عاد المسلمون فغزوا مرسيلية وجميع الساحل إلى جنوة، كما جاء في مجموعة الدون بوكيه، وكان الملك ببين شابا، وكان في حرب مع عمه شارل الأصلع، فطلب ببين مساعدة المسلمين له وأرسل إلى قرطبة غليوم كونت طلوزة حفيد البطل غليوم الذي اشتهر في حروب المسلمين وتلقب بالقديس، كما سبق الكلام عليه، فنال غليوم ما أراده وأصحبوه بعساكر تمكن بها ببين من إخراج عمال شارل الأصلع من برشلونة ومن مدن أخرى من كتلونية، وكان قرصان المسلمين قد نزلوا في سواحل آرل، واضطروا لمعاكسة الريح أن يتأخروا في الساحل، فحمل الأهالي السلاح من كل جهة وذبحوهم، ولكن في تلك المدة زحف جيش من المسلمين يقوده موسى عامل سرقسطة وتقدم من جهة أورجل
Urgel
وريباغورسة
Ribagorsa
ولم يزل يثخن في أرض الفرنسيس ويقتل ويسبي إلى أن اضطر الملك شارل الأصلع أن يطلب من المسلمين الصلح ولم ينله إلا بتقديم هدايا ثمينة كما جاء في مجموعة الدون بوكيه.
وفي سنة 850 وقعت نكبة على مسيحيي الأندلس، وحصلت حوادث في قرطبة وصل خبرها إلى فرنسة، وتحرير الخبر أن الشرع الإسلامي يطلق لأهل الذمة الحرية الدينية ولا يجبرهم إلا على أداء الجزية، ولكن إذا تزوج مسلم بمسيحية فالأولاد يجب أن ينشأوا على دين الأب، كذلك إذا أسلم مسيحي أو مسيحية فأولاده معدودون من المسلمين إذا كانوا قاصرين، فإذا بلغوا سن الرشد وأرادوا الرجوع عن الإسلام فلا يحق لهم، وكذلك إذا قذف أحد المسيحيين نبي الإسلام فليس أمامه سوى الإسلام أو الموت.
وقد كان الزواج المختلط كثير الوقوع في الأندلس، فطالما تزوج مسلمون بمسيحيات وقد كانت المرأة المسيحية المتزوجة بمسلم كثيرا ما تلقن بناتها قواعد النصرانية فيحصل بسبب ذلك نزاع شديد في العائلات، وفي ذلك الوقت كان في قرطبة قسيس متضلع في اللغة العربية اسمه بهارفكتس، وكان قد شاع أن بهارفكتس في إحدى المرار تلفظ بالشهادتين وأسلم، فصادفه بعد ذلك أناس من المسلمين وسألوه عن رأيه في نبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم
فامتنع أولا عن الجواب فألحوا عليه في تبيين رأيه، فأجاب بجواب نال فيه من الرسول، وقيل: إن المسلمين ذلك اليوم لم يتعرضوا له بسوء، ولكنه بينما كان مارا فيما بعد في أحد الشوارع جاء أحد المسلمين وأغرى العامة بالهجوم على القسيس قائلا لهم: إن هذا هو الذي قذف بالنبي، فهجمت العامة عليه، وذهبوا به إلى القاضي، فسأله عما عزي إليه من القذف، فلم ينكر كلامه، بل أيده أمام القاضي فاضطر القاضي أن يحكم عليه بالقتل، وكان ذلك في شهر رمضان فلم ينفذ فيه الحكم إلى أن انسلخ الشهر وجاء العيد فقطعوا رأسه بمحضر من جم لا يحصى من الأهالي.
54
فكان لهذه الحادثة صدى بعيد وثارت من أجلها الخواطر، وكان المسيحيون كثيري العدد في الأندلس وفي نفس قرطبة مركز السلطنة وكان المسلمون تركوا لهم كثيرا من كنائسهم وأديارهم، وكانت لهم أديار للرهبان وأخرى للراهبات، وكان من المسيحيين كثير من المستخدمين في القصر الملكي لا سيما أن القصر كان يحتوي عددا عظيما من الصقالبة، فكثرت من أجل ذلك المنازعات الدينية وصارت تتقدم الشكايات على بعض المسيحيين بأنهم قذفوا بالرسول فيؤتى بهم إلى القاضي فيسألهم فلا ينكرون، فيحكم القاضي عليهم بالقتل، ولأجل أن لا يأخذ المسيحيون أجسادهم ويحنطوها ذخائر كان الحكام يحرقون أجساد المحكوم عليهم بالقتل ويرمون رمادها في النهر، وقيل: إنهم كانوا يطرحون بعضها للكلاب.
وقد كان تأثير هذه الشدة بعكس ما أمل رجال الحكم، فإنه وجد من المسيحيين من كان يتهافت على القذف بالرسول
صلى الله عليه وسلم
ليقتلوه ويصير شهيدا، وقتل بهذا الشكل أناس كثيرون، ومن جملتهم رجل اسمه «سانشو» من فرنسة كان مستخدما في القصر، واثنان من الخصيان في القصر أيضا، وأكثر من تهافت على القذف بالرسول لنيل الشهادة المتحمسات من النساء المسيحيات.
55
وأخيرا عقد أساقفة المسيحيين مجمعا قرروا فيه أن التحرش بهذا الموضوع أي القذف بنبي الإسلام عمدا، حبا بالقتل ونيل الشهادة، هو مخالف لروح الإنجيل، ثم إن الملك شارل الأصلع تدخل في هذه المسألة، بناء على التماس المسيحيين منه؛ لأنه قد أصابهم في البلدان الشمالية من إسبانية ما أصابهم في قرطبة.
ولما تفاقم هذا الأمر اشتد غضب عبد الرحمن الثاني على المسيحيين، وطرد من قصره جميع الذين كانوا مستخدمين فيه منهم، ثم مات عبد الرحمن سنة 858 وخلفه ابنه محمد، وفي أولى أمره شدد أيضا في معاملة المسيحيين حتى فكر في إخراجهم جميعا من مملكته، ولكنه عاد فعدل عن فكره بسبب توالي الثورات وعدم مؤاتاة الوقت له، وكانت الحرب لا تزال مشتعلة في كتلونية، وكان موسى أمير سرقسطة قد ظفر بالمسيحيين في بعض الوقائع إلا أنه انكسر في آخر الأمر وتغلب عليه ملك أشتورية فعزله الأمير محمد من إمارة سرقسطة، فاستشاط غضبا وانحاز إلى المسيحيين، وزوج ابنته بغرسية ملك ناباره، وثارت في أثناء ذلك مدينة طليطلة.
ثم إن المسلمين غزوا أيضا جزيرتي سردانية وكورسيكة، واشتدت الفوضى وانتشر الحبل في بلاد فرنسة، فكنت ترى الكنائس مهدمة والمدن خرابا واللصوص أسرابا والناس يتركون ديارهم ويضربون في الأرض طلبا للأمان، ومنهم من فضل الموت على ترك أرضه، ومن الأهالي من كان ينضم إلى الغزاة طمعا في السلب.
وبينما الحال هكذا في فرنسة لم تكن الأندلس بأسعد منها، إذ ثار فيها رجل يقال له: عمر بن حفصون - كان مسيحيا فأظهر الإسلام - وأعصوصب حوله جيش من اللصوص وقطاع الطرق، فثار على الأمير محمد وجاذبه الحبل وصارت الأندلس في أمر مريج، واضطر الأمير إلى مسالمة ملك فرنسة شارل الأصلع ليتفرغ لأمر ابن حفصون، وجاءت رسل شارل إلى قرطبة وكان ذلك سنة 866 وتقرر أن تبقى كتلونية بيد الفرنسيس، وعاد رسل شارل بهدايا ثمينة من قرطبة ومعهم إبل بحدائج مزينة، وهكذا تقضي حوادث الزمن على الملوك بمصافاة ذوي الشحناء ومهاداة الأعداء.
وفي سنة 869 جاء غزاة العرب فنزلوا في بروفانس في محل يقال له كامرغ
Camargua
وهو جزيرة مشكلة من نهر الرون، وفيها أملاك للمطران رولان رئيس أساقفة آرل، فلما نزل المسلمون في هذه الجزيرة صادفوا المطران هناك يتعهد مزارعه فقبضوا عليه وقتلوا ثلاثمائة من رجاله وساقوه إلى أحد مراكبهم، فجاء المسيحيون لأجل أن يفكوه بفدية، فطلب المسلمون به مائة وخمسين ذهبا و150 ثوبا و150 سيفا و150 عبدا، فرضي المسيحيون بتقديم هذه الفدية، فجمعوها وقدموها لأجل إنقاذ المطران، وكان هذا في أثناء جمعها قد فارق الحياة بما أصابه من الرعب فكتم المسلمون موته حتى يقبضوا المال، ولما تسلموا جميع الأشياء التي اشترطوها أخرجوا جثة المطران إلى البر، وألبسوها الثياب التي كانت عليه عندما كان حيا، وانصرفوا وكان المسيحيون قد جاءوا جمعا عظيما لتهنئة المطران بالخلاص، فلم يجدوا سوى جثة هامدة، وتحول فرحهم مأتما.
ومات شارل الأصلع سنة 876 وكان ناويا أن يذهب بجيش إلى إيطالية التي كان المسلمون قد استولوا على نواحيها الجنوبية وأصبح بسبب ذلك البابا في رومة تحت الخطر، وبرغم توالي غزوات المسلمين والنرمنديين كان الشقاق بين أمراء فرنسة لا يزال قائما قاعدا، حتى نهكت قوى البلاد بأجمعها، ولم يبق إلا أمل ضعيف يمسك بحشاشتها، وبلغ اختلاف الكلمة وتشظى العصا أقصى ما يتصور العقل.
هوامش
الفصل الثالث
نزول العرب في بروفانس وغاراتهم من هناك على سافواي وبييمونت وسويسرة إلى دور إجلائهم عن
فرنسة
قال رينو: إن الدور الأخير الذي سنتكلم عنه يشابه الدور الذي نقدمه في شدة المهاجمات وفي آثار السلب والعيث، جد المشابهة، وإنما الفرق هو في كون الحوادث السابقة لم تصب إلا سواحل فرنسة خاصة، على حين أن الحوادث التي نحن بسبيلها الآن ستمتد إلى بلاد دوفيني، إلى حدود ألمانية، وأن الحوادث السابقة كانت عبور سبيل، على حين أن هذه كانت راجعة إلى مركز ثابت مستقر، وكانت تنذر بأن تستمر.
وقد بدأ هذا الدور في سنة 889 إذ كان متوليا على بروفنس ودوفيني رجل يقال له بوزون
Boson
وقد سمي نفسه ملك أرل، ولما كان بوزون المذكور غير منتسب إلى بيت شارلمان الإمبراطوري ثقلت إمارته على الناس، وشملهم القنوط، فكان المكان والزمان مساعدين على نزول غزاة العرب في تلك الديار.
وإليك تحرير خبر نزولهم واستقرارهم في بروفنس بحسب تاريخ ليوتبراند
Liutprand
في مجموعة موراتوري وبحسب تاريخ دير نوفاليز
Novalese
وبحسب مجموعة الدون بوكيه وتاريخ بروفنس تأليف بوش
Bouche
قالوا:
إن عشرين ملاحا عربيا ركبوا مركبا خفيف القلع من سواحل إسبانية، قاصدين سواحل بروفنس، فأخذتهم الريح العاصفة وألقت بهم في خليج غريمو
Grimad
الذي يقال له أيضا: خليج سانتروبيز
Sant-Tropes
فصعدوا إلى البر، لم يبصرهم أحد، وكان حول هذا الخليج أجمة أشبة بلغ من اشتباك سرحها أن الإنسان لم يكن يجرؤ أن يدخل فيها، وإلى الشمال من الخليج كانت سلسلة جبال، بعضها أعلى من بعض، فإذا وصل الإنسان إلى قمتها أشرف على قسم كبير من بروفنس السفلي، فأغار العرب على أقرب قرية من البحر وذبحوا أهلها، وأخذوا يرودون في الجوار، ولما وصلوا إلى القمم التي كانت تشرف من جهة على البحر وتناوح من جهة أخرى جبال الألب، فهموا حالا ملاءمة هذا المكان لاستقرارهم فيه، بصورة دائمة، فالبحر كان لهم بابا لتلقي الإمدادات التي قد يحتاجون إليها في بعض الأحيان، والبر كان لهم منفذا إلى النواحي التي يرومون الغارة عليها، والغابة المشتبكة التي ذكرناها تصلح لهم معقلا يلجأون إليه عند الاضطرار.
فلم يطأ هؤلاء القرصان تلك الأرض حتى أرسلوا إلى إسبانية وإفريقية، يستمدون من إخوانهم الانضمام إليهم، وبدأوا هم بالعمل في مكانهم، فما مضت عدة سنوات حتى امتلأت تلك الأرض بالحصون والمعاقل، وكان أهم تلك الحصون المسمى فركسيناتوم
Fraxinetum
1
الذي يشتق من اسم شجر الدردار الكثير في تلك الجهات. والمظنون أن فركسيناتوم كانت في القرية الحاضرة التي يقال لها: غاردفرينه
Garde-Frainet
الواقعة في ذيل الجبل إلى جهة الألب، ومما لا جدال فيه أن مركز هذه القرية كان بغاية الأهمية؛ لأنها الطريق الوحيد من الخليج إلى الشمال، وإلى الآن يجد الناس في أعلى الجبل آثار خراب وبقايا عمران: جدرانا متهدمة، وبنيانا منحوتا في الصخر وبئرا منحوتة في الصخر أيضا.
ولم يبق شيء من شجر الدردار إلى هذا الوقت، ولكن المسيو جرمون
Germond
كاتب العدل الحالي في سانتروبيز الذي بحث بحثا دقيقا في هذه المسألة يظن أنه كان توجد غابة دردار في قعر الخليج على شاطئ البحر، وأنه كان توجد قرية رومانية اسمها فركسينيتو احتلها العرب ثم هدموها، واختاروا قمة من الجبل لإنشاء معقل لهم سموه فركسينيت
Fraxinet
ومن رأي المسيو جرمون أن ذلك المعقل كان أشبه بمخفر يقصدون منه الإشراف على سهول بروفنس السفلى، وذلك لأن المكان لا يزيد محيطه على ثلاثمائة قدم ولا يتسع لأكثر من مائة رجل لا غير. ويظن المسيو جرمون أن المعقل الأصلي الذي كان العرب يعولون عليه هو على نصف فرسخ من هناك، بقرب البحر، فوق جبل يقال له اليوم: «سيدة ميرمار»
Notre Dame de Miremar
حيث توجد آثار مهمة وخنادق عميقة. وأما المسيو بوش صاحب تاريخ بروفنس فيظن أن العرب قد أطلقوا اسم فركسينيت على حصون كثيرة شادوها في دوفيني وسافواي وبييمونت، وإننا نرى رأي بوش هذا صوابا لكثرة وجود هذا الاسم في هذه النواحي.
ولما انتهى العرب من بناء حصنهم بدأوا بشن الغارات في النواحي القريبة منهم وصادف ذلك تلك المحاربات الداخلية التي كان حاميا وطيسها بين زعماء البلاد فصارت كل فئة تجتهد أن تجذبهم إلى نفسها، ثم عندما نمت شوكتهم عدوا أنفسهم سادة لتلك الأرض واستولى الرعب على قلوب الجميع من عاديتهم وأصبح لا يرتفع في وجههم رأس ولا ترتقي إلى مصارعتهم همة، ومن جملة الأدلة على ذلك أنه وجدت في قبر القديسة مادلينه في فيزلاي
Vezelay
من بورغونية كتابة تفيد أن جسد القديسة نقل من مدينة إكس في بروفنس إلى هناك، خوفا من العرب. وكان وجود هذه الكتابة قد انكشف سنة 1279. راجع في ذلك تاريخ هينو
Hainut
تأليف جاك دوغويز
DeGuyse
وتاريخ بروفنس تأليف بوش.
وكان العرب يتقدمون يوما فيوما نحو جبال الألب تعلقا وتسلقا حتى وقفوا في أعلاها، وكانت مملكة آرل خاضعة للويس بن بوزون المتقدم الذكر، وكان لويس هذا سار بجيش إلى إيطالية لمقاتلة بيرانجة ملك لونباردية فترك بلاده بدون حامية تقريبا وصارت ثفوره عورة وكان النرمنديون يعيثون في قلب فرنسة وكادوا إحدى المرار يستولون على باريز، وجاءت فرقة من البرابرة الوثنيين من الشرق وهم المجر فعاثت وخربت جانبا من ألمانية ثم من إيطالية وأوشكت أن تدخل إلى فرنسة.
وفي سنة 906 اجتاز العرب مضايق دوفيني
Dauphiné
وقطعوا جبل سنيس
Mont Cenis
حتى انتهوا إلى دير نوفاليز على حدود بييمونت، في وادي سوزة. وكان رهبان الدير قد تمكنوا من الفرار إلى مدينة توزينو ومعهم ذخائر القديسين وما في الدير من أشياء ثمينة، ومن جملتها خزانة كتب نفيسة، فلما وصل العرب لم يجدوا في الدير إلا راهبين بقيا كحراس فيه، فنهب العرب الدير والقرية، وأحرقوا الكنائس.
جاء ذلك في تاريخ دير نوفاليز الوارد في مجموعة موراثوري: وفيه أنه كانت هناك كنيسة صغيرة باسم القديس هلدراد
Heldrad
من رجال أوائل القرن التاسع فأحرقوها وفر كثير من الأهالي إلى الجبال بين سوزة وبريانسون
Briançon
واعتصموا بدير أولكس
Oulx
فاقتص العرب آثارهم وقتلوا منهم عددا كبيرا حتى سمي ذلك المكان بساحة الشهداء (راجع مجموعة دير أولكس التي نشرها ريفانتلا في تورينو سنة 753) وكان الأهالي قد اجتمعوا وثاروا بالعرب، وقبضوا على أناس منهم وساقوهم إلى تورينو، واعتقلوهم في دير القديس أندراوس. ولكن هؤلاء الأسرى حطموا الأصفاد التي كانوا مقيدين بها وأحرقوا الدير وأفلتوا وكادوا يحرقون جانبا من المدينة، ثم إن العرب قطعوا المواصلات بين فرنسة وإيطالية، واحتلوا جميع مضايق جبال الألب، فصار مرور الناس عائدا إلى أذنهم. وسنة 911 كان رئيس أساقفة أربونة يريد السفر إلى رومة لمهم مستعجل فلم يقدر على السفر خوفا من العرب، وكانوا لا يسمحون لأحد أن يمر بدون أن يأخذوا منه رسما معلوما، ثم شرعوا يشنون الغارات على سهول بييمونت ومونفرات
Montferrat . وفي سنة 908 نزل بعض قرصان العرب في سواحل لنغدوق بقرب أيغمورط ونهبوا دير الترتيل الذي كانوا هدموه في زمان شارل مارتل ثم أعيد بناؤه.
وكان صعد على عرش قرطبة سنة 912 عبد الرحمن الثالث الملقب بالكبير والذى تولى الملك خمسين سنة وجمع تحت حكمه بلاد الأندلس قاطبة، وكان من أيمن ملوك الدهر نقية. أوصل الأندلس إلى أعلى ذرى الهناء والسعادة والمجد، وهو أول من تلقب من أمرائها بالخليفة أمير المؤمنين.
وكان حنشو غرسية ملك نابار وأوردونة ملك ليون تحالفا مع ابن حفصون الثائر على المسلمين، وبالاتحاد مع مقاتلة الفرنسيس وقفوا في وجه جيوش عبد الرحمن، إلا أن عبد الرحمن سنة 920 أرسل عمه المسمى أيضا عبد الرحمن، والملقب بالمظفر، فهزم جيوش الأعداء وقطع جبال البيرانه واكتسح جانبا عظيما من غشقونية ووصل إلى أبواب مدينة طلوزة ثم أصيب في رجوعه بفشل؛ إذ هجم عليه غرسية بن حنشو أو سانجه كما يقول العرب واسترجع منه جميع الغنائم التي غنمها.
2
فامتد الصريخ في بروفنس ودوفيني وبلاد الألب، من أعمال غزاة العرب، وحاول بعضهم أن يقاوموهم بالسلاح فهلكوا لعدم اجتماع كلمتهم، وكانت مرسيلية أيضا قد نالها عيثهم، وخرب العرب كنيستها العظمى، وكذلك أغاروا على إكس، وروى بوش في تاريخ بروفنس وغويز في تاريخ هيبو أن العرب سلخوا جلود بعض من وقعوا في أيديهم أحياء،
3
وفر مطران اسمه «أودول ريكوس» إلى مدينة «رنس» في الشمال، وكان العرب يسبون نساء البلاد ويبنون بهن بما نشر سلالتهم فيها، ولا شك أنه قد انضم إليهم أناس من أبناء البلاد ممن لا يبالون على أي جنبيه وقع الأمر.
وبلغ من شدة الذعر أن الأغنياء صاروا يجلون إلى جهة الشمال فرارا من بطش العرب وجاء في سيرة القديس ميول
Mayeul
في مجموعة البولنديين أن القديس الذي كان أهله أغنياء من أبنيون فر من وجه العرب إلى برغونية، وأحرق العرب كنائس سيسترون
Sisteron
وغاب
Gap
وقتلوا في أنبرون
Enbrun
القديس ينديكتوس رئيس الأساقفة ومطرانا آخر معه، وجاء في تاريخ خطط الألب العليا تأليف المسيو لادوسيت
Ladoucete
خبر ثلاثة أبراج محصنة في أنبرون كان العرب نزلوا بها وبواسطتها ملأوا تلك الناحية خوفا، وكان القديس ليبرال قد انتخب خلفا للقديس بندكتس فأراد أن يدخل أنبرون ولكنه لم يجرؤ على ذلك بسبب وجود العرب هناك ورجع من حيث أتى.
وكان من عادة أهالي فرنسة وإسبانية وإنكلترا أن يذهبوا إلى رومة، ولو مرة في العمر، لزيارة قبور الرسل، ولم يكن بد من علاقات الأساقفة والقسيسين برومة كما لا يخفى، ولكن معابر الألب صارت كلها إلى أيدي العرب، وصار هؤلاء يعتدون على السابلين، وبرغم أن الناس كانت تجتمع قوافل وتسير بالأسلحة لم تكن تمضي سنة بدون أن تحصل في تلك المعابر وقائع دموية حسبما جاء في مجموعة مؤرخي فرنسة.
وفي تلك الأيام وصل المجار إلى فرنسة، وملأوا البلاد عيثا وتدميرا، ورأى الأهالي فيهم تصديق نبوة حزقيال عن يأجوج ومأجوج، ولما كانت سنة الألف للمسيح ظن الناس أنها قد أزفت الساعة، وسأل مطران فردن
Verdin
أحد القسيسين عن صحة هذه المسألة وهل المجار هم يأجوج ومأجوج أم لا؟ فطمأن القسيس خاطر المطران قائلا له: إن من أشراط الساعة أن يأتي يأجوج ومأجوج ومعهم شعوب أخرى، والحال أن المجار جاءوا وحدهم، فلا تنطبق هذه النبوة عليهم، على أنه من المحقق أنهم في العيث والتدمير بذوا الأولين والآخرين.
ثم إن بلاد بييمونت ومونفرات كانت ميدانا لغارات العرب، روى مؤرخ دير نوفاليزه أن أحد أعمامه، وكان من قواد الجند، ذهب من «مويين» إلى «فارسل» فداهمته عصابة عربية في إحدى الحراج بقرب البلدة فتقاتل الفريقان وجرح عدد منهما ووقع بعض المسيحيين أسرى فأخلى العرب سبيل بعضهم واستبقوا القادرين منهم على الفدية، وبقي عم الراوي وخادمه في أيديهم، وكان والد الأسير المذكور مارا من هناك فعلم بالخبر والتزم أن يجول في المدينة وأن يقترض مبلغا من المال ليفك به ابنه مع خادمه، وروى هذا المؤرخ أن العرب كانوا وصلوا إلى حدود ليغورية (على خليج جنوة) وذكر المؤرخ الشهير ليوتبراند
4
الذي عاش في الثلث الأول من القرن العاشر أن العرب أغاروا على مدينة آكي
Aqui
إحدى مدن مونتفرات المشهورة بحماماتها المدنية ولكنهم انهزموا في تلك الواقعة، ويقول المؤرخ نفسه: إن بعض قرصان العرب دخلوا مدينة جنوة وقتلوا ونهبوا وسبوا كثيرا من النساء والأولاد.
وكان الأساقفة الذين فروا من وجه العرب في بروفنس والرهبان وغيرهم قد لجأوا إلى بلاد فاليه
Valais
من سويسرا فجاء العرب ودخلوا هذا الوادي واكتسحوه.
وكان هناك دير على اسم الشهيد القديس موريس
5
كان الإمبراطور شارلمان وغيره من الملوك أولوه مزيد العناية فجعله العرب دكا، على ما في تاريخ غالية كرستيانية
Gallia Christiana
وذهب بعض المؤرخين إلى أن المسلمين كانوا هدموا هذا الدير سنة 900.
وجاء في مجموعة الدون بوكيه أن العرب استولوا على ناحية تارنتيس وأن قافلة كانت ذاهبة من فرنسة إلى إيطالية، فوقعت في يدهم واضطرت إلى الرجوع بعد أن قتل عدد منها.
ولما استولى العرب على فاليه تقدموا إلى أواسط كورة غريزون
6
وكان هناك دير شهير اسمه دير دي زانتيس
Disentis
بناه أحد تلاميذ القديس كولومبان فنهبه العرب وجردوه من كل حلاه، وكذلك فعلوا بكنيسة «كوار». روى ذلك المؤرخ أشبريخر
Sprecher . وقيل: إن المطران فالدو
Wualdo
شكا سنة 940 من غارات العرب المتواصلة وأن آثار تلك الغارات كانت باقية إلى سنة 952 وأن الإمبراطور أوتون أقطع المطران المذكور أملاكا على سبيل التعويض بموجب مرسوم مؤرخ في سنة 956، ورد ذلك في مجموعة تاريخية ألمانية طبعت في كوار، وكانت سويسرة يومئذ تابعة لمملكة بورغونية.
وكانت الحرب في تلك الأيام مشتعلة بين ملوك أشتورية وناباره من جهة، وخليفة قرطبة من جهة أخرى، وتواقف الفريقان عند زمورة، فانهزم المسلمون في تلك الواقعة وقتل منهم نحو من مائة ألف
7
ولكن عبد الرحمن الناصر كان يقدر أن يجمع جميع قوى المسلمين في الأندلس فلم تكن هزيمة كهذه لتكسر من شوكته، وكان في استطاعته وقتئذ أن يفحش النكاية بالمسيحيين لولا اشتغاله بالفتوحات في إفريقية ولولا ظهور الدولة الفاطمية التي أخذت تجاذب الدولة الأموية الحبل، فكان هذا من حسن حظ المسيحيين.
وكانت مدينة فريجوس في مقاطعة الفار بلدة عامرة ومرسى عظيما للسفن، فأغار عليها العرب واجتاحوها اجتياحا شديدا حتى لاذ أهلها بالفرار وتركها كجوف حمار، وأخذ المسيحيون الذين في السواحل كلها ينسحبون إلى الجبال، وكان في ذلك الوقت الكنت هوغ
Hugues
ملكا على بروفنس، فأعلن عزمه على طرد المسلمين من تلك الأطراف، ولما كان أهم معقل لهم هناك هو حصن فراسينت الذي منه كانت تنبعث غاراتهم إلى داخل البلاد، أجمع هوغ أن يهاجم هذا الحصن، ولما كان مصاهرا لإمبراطور القسطنطينية أرسل إليه يطلب منه إنجاده بأسطوله، وكان الروم يملكون نفاطات يقال لها: النار الإغريقية، فكانت تحرق المراكب بمجرد ما تصيبها، ففي سنة 942 زحف هوغ على حصن فركسينت بجيش جرار من البر. وجاء الأسطول الرومي من البحر فأحرق مراكب العرب التي في الخليج، كما أن جيش هوغ تمكن من الحصن والتجأ العرب إلى الجبال المجاورة، ولكن جاء الخبر إلى هوغ وهو في هذه الحرب مع العرب بأن بيرانجة
Berenger
الذي كان ينازعه مملكة إيطالية، وكان قد فر إلى ألمانية، رجع إلى إيطالية يحاول أن يتنسم ريح الدولة ثانية فنسي هوغ الخطر الواقع على بلاده من العرب وأسرع إلى مهادنتهم بشرط أن يقطعوا الطريق في معبر سان برنار وسائر معابر الألب على بيرانجة. روى ذلك المؤرخ ليوتبراند الذي بهذه المناسبة أفحش الطعن في هوغ وقال: إنه جاء بها صلعاء لا سبيل للعذر فيها، وبلغ من حدته أنه أخذ يخاطب معبر سان برنار فيقول له شعرا معناه: إنك تسهل هلاك الأتقياء وتجعل نفسك حصنا واقيا للطغاة الذين يقال لهم المورو أفلا تخجل أيها التعس من أن تبسط ظلك على أناس يسفكون الدم البشري ويعيشون من قطع الطريق؟ وماذا أقول لك، لعمري جدير بك أن تنقض عليك صاعقة أو أن تكسر تكسيرا أو أن تفنى فناء أبديا ... إلخ.
ومن بعد هذه الحادثة ازدادت جرأة العرب ونفحوا عرفهم واستقرت قدمهم في البلاد وأصبحوا كأنهم سيلبثون أبديا في قلب أوربة فأخذوا يتزوجون من أنفس الأهالي ويحرثون ويزرعون كسائر الفلاحين، وكان أمراء النواحي يكتفون بأن يأخذوا منهم إتاوة خفيفة، وربما اعتضدوا بهم في بعض الأحايين، أما الذين كانوا في أعالي الجبال فقد كانوا يتقاضون المارين الأموال الفادحة، ويقتلون من يمتنع عن دفع ما يطلب منه، وأما معبر سان برنار الكبير الذي كان يسمى من قبل بجبل المشترى فقد كان من قديم الدهر بموقعه بين فاله
Valais
ووادي أوسط
Aoste
هو واسطة الاتصال بين سويسرة وإيطالية، ولما استولى عليه العرب وعلى غيره من المعابر تمكنوا من سائر النواحي المجاورة.
وكانت مدينة نيس (أونيقة) تابعة لمملكة آرل وكانت أيضا تحت طائلة العرب ويظهر أن جماعة من المسلمين كانوا يسكنون في نيس؛ لأن دورانت يذكر في تاريخ نيس أنه كان فيها ناحية للمسلمين
Canton Des Sarrazins .
وقد احتل العرب أيضا مدينة غرانوبل
Grenoble
مع الوادي المريع المسمى وادي غرازيفودان
Graisivaudan
وذهب مطران غرانوبل ومعه ذخائر القديسين وكنوز الكنيسة والتجأ إلى دير دونات
Donat
في فلانس إلى الشمال، ولا يعلم تماما في أية سنة دخلوا عرانوبل وإنما من المحقق أن العرب في سنة 954 كانوا استولوا على هذه البلدة، لأنه وجدت كتابة منقوشة على حجر تاريخها سنة 954 تدل على وجود المسلمين في غرانوبل، والغالب على الظن أن مسلمي بيمونت كانوا قد اتخذوا لأنفسهم عدة معاقل كانوا يعتصمون بها عند الحاجة، وقد ذكر مؤرخ دير نوفاليزة حصنا من هذا النمط كان يحتله العرب باسم فراسنيدلوم
Frascenedellum
وهو مكان بقرب كازال على نهر البو
وكان هذا المحل يسمى أيضا فركسيناتوم، وقيل: بل هذا الحصن هو الذي يسمى الآن فنسترال
Fenestralle .
وعلى كل حال فلينظر القارئ إلى مؤرخ معاصر شاهد الحوادث بعينه وهو مؤرخ دير نوفاليزة، فقد قال: إن العرب كانوا يسبون النساء والأولاد والخيل وغير ذلك، وكان قد دخل معهم أفاق من أهل البلاد اسمه أيمون
Aymon
طمعا في الغنائم فوقعت في أيديهم مرة امرأة بارعة في الجمال فاستأثر بها أيمون لنفسه فجاء أحد زعماء العصابة العربية وانتزع تلك الحسناء من يد أيمون بالقوة فغلت مراجل الغضب في صدر أيمون وثار للانتقام فذهب إلى الكنت روتبلدس
8
الذي كان صاحب السيادة في بروفنس العليا وكالمه بالسر الخفي في قضية طرد العرب من البلاد، وكان للعرب سعاة وجواسيس في كل محل فاجتهد أيمون أن يكتم مسعاه بكل ما أمكنه حتى تمكنوا من استنفار الناس بدون أن يشعر العرب، واجتمع الأمراء والزعماء وقادوا الأهالي وهاجموا العرب وأخمدوا جمرتهم ورفعوا نيرهم عن أعناق الأهلين. قال هذا المؤرخ: وإن عائلة أيمون هذا كان لا يزال منها بقايا إلى زمانه.
وفي سنة 952 كان المجار قد اكتسحوا الإلزاس، وصارت جميع بلاد جبل جوراه
Jura
تحت خطر احتلالهم، ففكر كونراد الذي كان أميرا على بورغونية وسويسرة وفرنشكونتي ودوفيني في تدبير حيلة للتخلص من المجار والعرب معا، فكتب إلى العرب كتابا يقول لهم فيه: إن لصوص المجار قد سمعوا بخصب الأراضي التي في أيديكم وهم عامدون إلى انتزاعها منكم، فتعالوا إلي لنزحف إليهم معا ونبيدهم، وفي الوقت نفسه كتب إلى المجار قائلا لهم: لماذا ينازع بعضنا بعضا؟ إن المسلمين هم الذين بأيديهم أخصب البقاع، فتعالوا إلي لنزحف إليهم ونطردهم وحينئذ أنا أجعلكم في مكانهم. قال: هذا وعين للفريقين مكانا للقاء، فحضر الفريقان والتحمت الحرب بينهما من نفسها، وكان الكنت قد حشد عساكره وكمن لهم جميعا، فلما اشتبكوا في الملحمة انقض عليهم بجيشه فذبحهم ولم ينج منهم إلا القليل فأرسل بقية السيف إلى آرل وبيعوا في أسواقها أرقاء.
جاء هذا الخبر في مجموعة الدون بوكيه ولم نعلم تماما في أي مكان حصلت هذه المعركة، وكان مركز العرب الأصلي في بروفنس وكان المجار في الألزاس وفرنشكونتي فالمظنون أن هذه الوقعة حصلت في نقطة متوسطة كأن تكون مثلا في السفواي وقد ثبت أن العرب أقاموا طويلا في السفواي وكانت تسمى موريين
Maurienne
حتى ذهب بعضهم إلى أن هذه اللفظة مشتقة من لفظة المورو التي تطلق على المسلمين المغاربة، ولكن هذا الزعم هو خطأ؛ لأن هذه اللفظة معروفة منذ القرن السادس للمسيح، وكيف كان الحال فقد أقام العرب طويلا بسفواي، وقد علمنا أن المطران بيلية
Billiet
أسقف سان جان دومورين قام بمباحث دقيقة فيما يتعلق بتاريخ بلاد سفواي، فعثر على أسماء كثيرة تدل على وجود العرب هناك لا سيما في جوار مودان
Modane
إذ يوجد واد يقال له: وادي السرازين وقرية اسمها فريناي
Freney
وقد ذكر بوش مؤرخ بروفنس ما يؤيد هذا القول.
وكان المسلمون يجولون في جميع أنحاء سويسرة بلا معارض كأنهم في دياراتهم وقد تقدموا إلى أن صاروا على أبواب مدينة سانغال وعلى ضفاف بحيرة كونستنز، وكانوا يعتدون على الرهبان الذين كانوا هناك فلا يخرج منهم أحد إلا رشقوه بسهم، وكانوا قد ألفوا سكنى الجبال والسير في الأوعار، حتى قال أحد الكتاب المعاصرين: إنهم صاروا أشبه بالمعزى في خفة أقدامهم وسهولة سيرهم في حروف الجبال، وكانوا قد بنوا أبراجا في أماكن متعددة يقال: إن آثارها لا تزال موجودة. وكانوا قد ألحقوا أضرارا لا تحصى بالمسيحيين. وذكر مؤرخ دير سان غال
Saint-Gall
في كتاب داخل في مجموعة برتز أنه كان يوجد رئيس للدير المذكور اسمه «فالتون» قد جمع عصابة من الرجال الأشداء وسلحهم بالحراب والفؤوس وهاجم هؤلاء البرابرة بغتة، فقتل أكثرهم ومن نجا منهم قبض عليه، وساقوا الأسرى إلى الدير، فأبى هؤلاء أن يأكلوا أو يشربوا، فماتوا جوعا!
وفي أثناء ذلك تغلب الألمان على المجار، وكسروا شرتهم، فنشقت سويسرة نسيم الفرج، ولكن البروفانس والدوفيني وجانبا من جبال الألب بقيت تحت طائلة العرب الذين كانت ترد إليهم الإمدادات من البحر، وكانت هذه البلدان لا تستريح ما داموا فيها، وكان الرجل العامل المدبر إذ ذاك بين ملوك أوربة، أوتون ملك جرمانية الذي لقب فيما بعد بالإمبراطور والذي استحقت له خلاله المجيدة لقب «الكبير» فدخل أوتون في علاقات مع خليفة قرطبة الذي كان أشبه بالحامي لمستعمرة فراكسينية العربية، فعزم أوتون لأجل الدفاع عن حقوق النصرانية أن يبعث بسفارة إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر، وكان قد جاء إلى أوتون كتاب من عبد الرحمن لا يخلو من عبارات فيها غض من الدين المسيحي، بحيث اعتمد أوتون بخاصة أن يجعل في سفارته إلى قرطبة عالما لهوتيا يمكنه الاعتماد عليه في الأخذ والرد مع علماء المسلمين، فوقع الاختيار على راهب من دير غورز
Gorse
بقرب متس كان يقال له: جان وكان بلغ من تضلعه في علم اللاهوت أن حاول إقناع الخليفة عبد الرحمن بالتنصر.
وقد كانت هذه السفارة في سنة 956 والمؤرخون من المسلمين ومن النصارى متفقون على ما بلغته قرطبة لذلك العهد من العظمة والمجد فقد كانت فيها العلوم والمعارف والصنائع والفنون والسياسة، والكياسة قد أدركت الأمد الأقصى في وقتها، وكانت أوربة المسيحية مدهوشة بعظمة قرطبة وكان عبد الرحمن مقصدا لجميع ملوك العصر، وكان يراسله البابا وإمبراطور القسطنطينية وملوك إسبانية وفرنسة وألمانية وبلاد الصقالبة، وكان ملوك المسيحيين - بحسب قول مؤرخي العرب - يبسطون أيدي الخضوع للخليفة، ويعدون شرفا عظيما لهم أن يرسل الخليفة يده لسفرائهم ليقبلوها؛ وذلك لجلالة قدره في أعينهم ولطف منزلته في أنفسهم، وكان عبد الرحمن الناصر عندما تقدم عليه وفود هؤلاء الملوك لا سيما وفد ملك الروم، يبالغ في الاحتفال ويتكلف الكلف الثقال ويأمر باستقبالهم بالعساكر والأعوان وبإظهار جميع عظمة الخلافة، فكانوا يفرشون لهم الشوارع التي يمرون بها بفاخر البسط والديباج، وكانت الألوف من حرس الخليفة الخاص وأمامهم الأمراء وعظماء الدولة يصطفون على الجانبين؛ ومنهم بطانة تحيط بعرش الخليفة وبعد ذلك يقوم الأئمة ويخطبون في هذا الحفل بما يناسب المقام من وصف عز الإسلام وإظهار مناقب الإمام ثم يتلوهم الشعراء بالقصائد الطنانة التي تزيد من ابتهاج الحاضرين وحماسة السامعين.
9
أما سفارة الراهب غورز من قبل ملك فرنسة، فإنها وإن لم تكن محفوفة بجميع تلك الأهمية فلم تكن خالية من الاحتفاء والاحتفال، ولقد بقي لنا عنها رحلة بقلم أحد تلاميذ الراهب المذكور يمكننا أن نلخص منها ما يلي:
سافر الراهب جان ومعه راهب ثان لا غير، وكانت الهدايا التي لا بد من استصحابها هي من مال الدير الذي ينتسب إليه الراهب، فسار الراهب ماشيا على قدميه إلى «فيين»
Vienne
على نهر الرون، ومنها ركب في النهر إلى البحر، وركب فيه إلى برشلونة التي كانت إذ ذاك تابعة لمملكة فرنسة، وإنما كانت أول مدينة تخص الخليفة من الثغور هي طرطوشة
10
فلما وصل سفراء ملك إفرنجة إلى طرطوشة وأذن لهم عاملها بالمسير إلى قرطبة تقدموا في البلاد، وقطعوا جانبا عظيما من جزيرة الأندلس، وهم في ضيافة العرب بالمعهود من كرمهم، فوصلوا إلى قرطبة لم يتكلفوا إنفاق درهم واحد، وهناك استقبلوا برا وترحيبا وأنزلوا في محل على مسافة ميلين من قصر الخلافة.
ثم إن الخليفة علم بمهمة الراهب، وما هو مكلف تبليغه من قبل ملك فرنسة، فأراد أن يتجنب المباحثات الدينية، وقال: إنه لم يكن لائقا بمقام اثنين مثل الخليفة والملك أن يدخلا في مجادلات كهذه وأنه لا يسع الخليفة أن يسمع كلاما فيه نيل من الرسول
صلى الله عليه وسلم
ولا يجوز له ذلك بحسب الشريعة
11
واقترح الخليفة أن يعد كتابه إلى الملك أوتون كأنه لم يكن، ولكن جميع هذه الملاحظات لم يقبلها ذلك الراهب، وأصر على رأيه، وجاء مطران قرطبة ينصحه بترك هذا العناد، فأخشن له الجواب وأخذ يقرعه على هوادته وتساهله وتساهل جماعته في أمر الدين المسيحي، وكيف أنهم قد رضوا بختان أولادهم وبالامتناع عن أكل الخنزير مسايرة للمسلمين. ولما علم الخليفة بتصلب هذا الراهب وأنه راكب رأسه لا ينثني عن عزمه أبى أن يقبله وأرسل إليه قائلا إنه كان قد بعث إلى الملك أوتون أحد الأساقفة سفيرا عنه فانظره ثلاث سنوات ولذلك هو يريد أن يمسك سفير أوتون لديه لا ثلاث سنوات فقط بل تسع سنوات؛ لأنه يرى نفسه أكبر من أوتون بثلاث مرات، فأجاب الراهب بأنه لا يقدر أن يخرج عن الأوامر التي في يده من أوتون وتقرر عند ذلك أن يرسل الخليفة رسولا آخر يسأله عما إذا كان لا يزال مصمما على رأيه في كيفية سفارة الراهب وأخذ الخليفة ينتدب للرسالة إلى أوتون من عنده ممن يصلح لذلك، فكان المسلمون يستعفون من تلك السفارة؛ لأنه من المعلوم أن على المسلمين واجبات دينية يصعب عليهم القيام بها في بلاد النصارى، ومن أجل ذلك كان أكثر سفراء ملوك الإسلام إلى ملوك النصارى مسيحيين، وكثيرا ما كانوا أساقفة أو قسيسين، ففي تلك النوبة انتدب لهذه السفارة رجل مسيحي اسمه «رسيموندس» كوفئ فيما بعد على المهمة التي قام بها بجعله أسقفا وكان يحسن اللاتينية والعربية معا، ويظن بعضهم أن الأسقف رسيموندس هذا هو نفس رمندس الذي كان مطرانا إسبانيوليا وكانت بينه وبين المؤرخ ليوتبرند علاقة ومودة وقد جعل هذا تاريخه باسمه.
وفي تلك المدة كان أوتون مشغولا بإطفاء فتنة أثارها عليه ابنه وصهره فلما وصل السفير الإسبانيولي من قبل الخليفة أجابه الملك إلى كل ما اقترحه، وقفل الرسول إلى قرطبة وقد دبر الأمور كما شاء الخليفة، ورضي الخليفة من بعدها أن يستقبل الراهب، وكان الخليفة يعلم تقشف الراهب ومذهبه في لبس الخشن وبعده عن مظاهر الأبهة، فبعث إليه بأنه يريد أن يستقبله كسفير من قبل الملك، وأنه لا بد له إجلالا لقدر مرسله من قبول حالة السفارة وأنه ينبغي له أن يدخل على الخليفة بملابس لائقة، فأجابه الراهب بأنه لا يجد لبسا أبهى ولا أفخر من ثوب رهبانيته، فظن الخليفة أنه قد يكون الراهب عاجزا عن شراء الملابس اللازمة، فبعث إليه بعشر أقات فضة، وكانت الأقة اثنتي عشر أوقية، ولكن الراهب تصدق بهذه الفضة على الفقراء. فأرسل الخليفة إليه قائلا إنه يقبله ويحتفل به ولو جاءه في كيس خيش.
وفي اليوم المعين للاستقبال اصطفت العساكر على الجانبين، ووقف العبيد الصقالبة قابضين على الحراب، ووقف آخرون بالقسي، وكانت هناك الفرسان تلعب في الميدان وفي هذه الحالة دخل الراهب السفير، وقد فرشت أمامه مداخل القصر بالبسط والديباج، فما زال يتقدم إلى أن وصل إلى البهو الذي فيه الخليفة، فوجد الخليفة جالسا على سرير الخلافة متربعا على عادة الشرقيين، فعند وصوله إليه أعطاه باطن يده تمييزا له عن غيره فقبلها الراهب، ثم أمر له بالجلوس وبعد المراسم المعتادة في المجاملة شرع الخليفة يتكلم عن الملك آتون وما بلغه من المقام السامي بين الملوك وأثنى عليه مزيد الثناء.
ثم إنه لما كان عبد الرحمن قد بلغه كون ابن الملك أوتون ثار على أبيه أنحى بشيء من اللائمة على الملك قائلا: إنه لا ينبغي للملوك أن تقبل أقل انتقاص من سلطتها ولا ترعى في ذلك عاطفة إشارة إلى شيء كان وقع مع عبد الرحمن نفسه، فإنه عصى عليه أحد أولاده فانتهى الأمر بأن أمر بقتله.
ثم دار الكلام على موضوع الرسالة التي جاء بها الراهب سفيرا؛ فمؤرخو العرب أو بالأقل المؤرخون الذين عرفناهم، لم يكونوا يذكرون شيئا عن قضية احتلال العرب لسواحل بروفنس وبثهم الغارات إلى الداخل، مما يدل على أنهم لم يكونوا يأبهون لهذه الحادثة
12
على أن المؤرخ ليوتبرند الذي عاش في ذلك العصر يؤكد أن تلك المستعمرة العربية في جبال الألب كانت تحت حماية الخليفة نفسه، وصاحب الرسالة التي نحن بصددها عن رحلة الراهب سفيرا من قبل الملك أوتون إلى الخليفة عبد الرحمن هو نفسه يقول: إن موضوع تلك السفارة لم يكن سوى التوسط لدى الخليفة لوضع حد لغارات العرب في فرنسة وإيطالية. ومن المؤسف أن الرسالة ناقصة والكلام منقطع في أهم نقطة من الموضوع ولم يعثر إلى الآن على نسخة تامة لتلك الرسالة.
هذا وفي سنة 960 تم طرد العرب من جبل سانبرنار وليس عندنا معلومات عن تفاصيل الوقعة، ويظهر أن القديس برنار دومنتون
Dementhone
الذي بنى ملجأ في أعلى هذا الجبل، حتى نسبت إلى اسمه سلسلة تلك الجبال كلها، كان هو نفسه في هذه المعركة.
ومات عبد الرحمن الثالث (أي الناصر) سنة 961 فخلفه ابنه الحكم الثاني، وكان ملكا محبا للعلوم والمعارف جانحا إلى السلم، ففي أيامه ازداد عكوف الناس في الأندلس على العلوم والصناعات وبلغوا منها شأوا مدهشا وغلبت الكياسة والرقة ودماثة المدنية على أولئك الأقوام الذين كانوا في مبدأ أمرهم على جانب عظيم من الخشونة والجفاء، فأما في زمن الحكم فقد صارت الدولة للعلم وترقى به حتى النساء، اللائي كان منهن العالمات والفاضلات وصاحبات المكانة في دار الخلافة، وكان الحكم في أوائل أيامه، استجلابا لثقة المسلمين به، قد غزا جليقية وأشتورية وكتلونية ودوخها ولكن المسيحيين طلبوا منه الصلح فأجابهم إليه، ولما أخذ وزراؤه وقواده يحثونه على نقض هذا الصلح لما عند المسلمين من حب الجهاد، أجابهم بهذه الآية البديعة من القرآن:
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا
نعم إنه اشترط على كنت برشلونة وسائر أمراء الكتلان دك حصونهم القريبة من ثغوره وأخذ منهم موثقا بأنهم لن يمالئوا أحدا من ملوك المسيحيين الذين يدخلون معه في حرب.
13
وكان العرب لا يزال منهم جماعات محتلة لبروفنس ودوفيني ولا تزال الناس هناك تخشى عاديتهم، وكان الملوك في منازعاتهم يستعينون بهم فيكون الترجيح بواسطتهم، وكان أوتون ملك الألمان بعد أن قهر المجار واستصفى جميع ألمانيا أجبر البابا على تتويجه بتاج الإمبراطورية وتغلب على برانجة ملك لونباردية، وخرج هذا من مملكته شريدا فقام ابنه أدالبرت للمطالبة بملك أبيه، وروى بعض المؤرخين مثل البريك المنقول تاريخه في مجموعة لاينبتز أن أدالبرت استعان بمسلمي فركسينت.
وفي سنة 956 تم إجلاء العرب عن غرينوبل، وقد تقدم أن أساقفة هذه المدينة كانوا هجروها إلى ساندوناث من جهة فالانس، فقام أحدهم إيزاردن وجمع أكابر البلاد وقوادها واستنفرهم لقتال المسلمين، وكان هؤلاء يملكون أخصب النواحي وأجود الأراضي فتقرر أن كل إنسان يكون نصيبه من هذه الأراضي بقدر بسالته وإقدامه ، فلما تمكن الأهالي من إجلاء العرب عن غرينوبل ووادي غرازيفودان تقاسم المقاتلون للعرب تلك البقاع التي كانت بيدهم بحسب درجة انغماسهم في الحرب، ومن ذلك جاءت ثروة بعض العائلات القديمة في مقاطعة دوفيني ومن جملتها عائلة إينارد
Aynard
التي يقال: إن أصل ثروتها من تلك الحرب الصليبية، وبعد أن استصفى الأسقف إيزورن تلك البلاد ومحا آثار العرب فيها أعلن عن نفسه أميرا على غرينوبل وعلى الوادي، وحفظ خلفاؤه تلك الإمارة مدة طويلة وبقي جانب من امتيازاتهم إلى زمن الثورة الإفرنسية.
فالقارئ يرى أن أمور المسلمين في تلك الأصقاع كانت قد أخذت تتراجع إلى الوراء، وأن ذلك التقهقر كان يزيد طمع الأهالي في التخلص منهم تماما، ففي سنة 968 نادى الإمبراطور أوتون بهذه العزيمة وأجمع أن يستأصل شأفتهم من هذه النواحي، إلا أنه مات قبل أن يحقق وعده. وكان في ذلك العصر رجل لا يذكر اسمه إلا مقرونا بالتجلة والإكرام سواء عند الملوك أو بين الشعوب وهو القديس مايول
Mayeul
الذي كان قسيسا في بلدة كلوني
Cluny
في بورغونية، وكان قد بلغ من شهرته بالفضائل أن تحدث الناس بانتخابه لمقام البابوية، وكان هذا القديس ذهب إلى رومة لزيارة كنائسها وفي إيابه من رومة جاءت طريقه على بلاد البييمونت قاصدا الرجوع إلى ديره من جهة جبل جنيفر
Genevre
وأودية دوفيني، وكان المسلمون إذ ذاك محتلين البلاد الواقعة بين غاب
Gap
وإمبرون
Embrun
ومركزهم في الأعالي المشرفة على وادي دراك
Drac
بإزاء جسر أورسيير (ولا يزال هذا المكان معروفا إلى اليوم).
فلما وصل القديس مايول إلى ذيل الألب وجد هناك عددا كبيرا من الزوار القافلين من رومة والمسافرين قد علموا بمجيئه فانتظروه ليسيروا معه؛ إذ لم يكونوا يرجون أن تنتدح لهم فرصة خير من هذه لاجتياز جبال الألب، فتقدمت قافلة القديس وفيها هذا الجم الغفير، وما وصلوا إلى ضفاف الوادي سائرين في طريق منحصرة بين الجبل والنهر، حتى انهال عليهم العرب برشق من السهام من عل، وكان العرب نحوا من ألف مقاتل ولم يكن للمسيحيين مفر، فأحيط بهم ووقع أكثرهم في الأسر، وكان من جملة الأسرى القديس مايول، وقد جرح في يده وهو يذب عن أحد رفاقه؛ فسيق الأسرى إلى مكان على حدة، وكان أكثرهم فقراء لا يطمع الإنسان من ورائهم في مغنم فدنا العرب من القديس وسألوه عن درجة يساره، فأجابهم القديس بأنه من قوم أغنياء ولكنه خرج من جميع أملاكه ووقف نفسه على عبادة ربه وهو الآن راهب في دير ذي أملاك وأراض واسعة فتساوموا معه على فدية تبلغ ما يساوي ألف ليبرة من الفضة أو ثمانين ألف فرنك من المعاملة الحاضرة، وطلب العرب من القديس أن ينفذ رفيقه إلى دير كلوني ليحمل إليهم المال وضربوا له موعدا قالوا له: إن فات هذا الموعد ولم يروا المال فإنهم يقتلون القديس وسائر الأسرى فكتب القديس إلى الدير قائلا: إلى آباء كلوني والإخوان الذين فيه مايول المسكين أسير مكبل بالقيود ... إلخ. فلما وصل هذا الكتاب ارتفع البكاء والعويل من كل جانب وأسرعوا بجمع الأموال واستجادوا أكف ذوي الحمية وجردوا الكنيسة من زخرفها، وأرسلوا كل ما وقع في أيديهم من المال لفكاك القديس ومن معه من الأسرى، فوصل المال قبل انقضاء الأجل وأطلق المسلمون سراحهم.
وكان القديس في أثناء وقوعه في الأسر قد حاول أن يرشد المسلمين قائلا لهم: إن الذي يعتقدون به لا يقدر أن يخلصهم من العذاب ولا ينفعهم بشيء، فعندما سمعوا منه هذا الكلام هاجت حفيظتهم وشدوا وثاقه وصاروا به إلى أحد الكهوف وحبسوه فيه ثم إنهم عادوا فسكنوا ورجعوا إلى معاملته بالحسنى، وكان إذا اشتهى الطعام جاء أحدهم وغسل يديه وأصلح له طعاما شهيا ووضعه بين يديه بكل أدب، وكان مع القديس نسخة من التوراة، فجاء أحد المسلمين ومد يده إليها بدون احترام، فلامه رفاقه وقالوا له: إن هذا كتاب مقدس ونحن معاشر المسلمين نقدس جميع الكتب السماوية، وبهذه المناسبة قال أحد كتاب ذلك العصر: إن المسلمين يحترمون مثلنا أنبياء العهد القديم ويرون المسيح نبيا كبيرا وإنما يجعلونه على كل حال أصغر من محمد بقولهم: إن محمدا كان خاتم الرسل وهم يقولون: إن محمدا هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم.
وقد وقعت حادثة القديس مايول هذه في سنة 972 فصار لها دوي عظيم في الأقطار وضج لها المسيحيون الصغار والكبار وهبوا طالبين الأخذ بالثأر وكان في نواحي سيسترون
Sisteron
في قرية يقال لها نويه
Noyers
رجل نبيل يقال له: بوبون
Bebon
كان قد استنفر الناس مرارا لتخليص هذه البلاد من العرب فانتهز هذه الفرصة التي كان فيها الناس غضابا من أجل حادثة مايول فجمع كلمة الفلاحين والأعيان وسكان البوادي والحواضر ممن يغضبون للدين والوطن ثم بنى حصنا في نواحي سيسترون بإزاء حصن كان ينزله المسلمون يريد بذلك مراقبة حركاتهم حتى ينقض عليهم في أول غرة ويقتحم أول ثلمة. وحاول المسلمون أن يعرقلوا مساعي بوبون هذا فلم يفلحوا وكان الحصن الذي فيه المسلمون على رأس جبل يقال له: «بيترة انبيه»
وبينما الفريقان يداور كل منهما الآخر إذ اغتصب قائد حصن العرب امرأة الحرسي الموكول إليه باب الحصن فانتقم البواب المذكور عن هذه الفعلة بأن عرض على بوبون أن يفتح له الباب على حين غرة فيدخل إلى الحصن ويفتك بمن فيه، وهكذا تم وجاء بوبون ومعه رجاله فوجدوا الباب مفتوحا فدخلوا وذبحوا المسلمين وهم غارون ومنهم من عرض على المسيحيين أن يتنصر فهؤلاء عفوا عنهم واستحيوهم ومن جملتهم القائد، وقد جعلت الكنيسة بوبون هذا في مصاف القديسين كما يستفاد من المجموعة البولندية.
14
وفي الوقت نفسه كان أهالي غاب
15
قد ثاروا بالعرب ووثبوا عليهم واستأصلوهم.
وجاء في كتاب قديم يتعلق بهذه البلدة أن الذي جمع كلمة الأهلين وثار بهم على العرب هو رجل يقال له: غليوم فكبسوا العرب بياتا في جميع المواقع التي كانوا يحتلونها، واستأصلوا عرقاتهم وكانت مكافأة الذين قاموا بهذه الحرب أن أخذوا نصف البلدة ونصف الأراضي وتركوا النصف الآخر للمطران والكنائس، وهكذا تحررت بلاد الدوفيني وأصبح خلاص مملكة بروفنس بعد ذلك قريبا.
وإن من المؤسف أن لا تكون لدينا على هذا الحادث المهم معلومات مفصلة، وغاية ما علمناه أن غليوم كونت بروفنس هو الذي تولى كبر تلك الحرب ، ومن يدري فقد يكون هو نفسه غليوم الذي عفى آثار العرب في «غاب» فإن غاب كانت من توابع بروفنس، وكان غليوم كونت بروفنس محبا للعدل محافظا على الديانة برا برعيته فأحبه رعاياه حبا جما، ولما استنفر أهالي بروفنس ودوفيني السفلى ونيس لقتال العرب لبوا نداءه، فلما اجتمع إليه الجم الغفير منهم قصد أن ينهد إلى العرب في فركسينت، وعندما علم العرب أن أهالي البلاد ضيقوا عليهم من كل جانب نزلوا من جبالهم مجتمعين ودافعوا عن أنفسهم صفا، وأول معركة وقعت معهم وقعت في نواحي دراغينمان
Dragengman
في مكان يقال له: تورتور
Tourtour
حيث يوجد إلى الآن برج مبني منذ ذلك اليوم، تذكارا لتلك المعركة، فانهزم المسلمون والتجأوا إلى حصن منيع، ولكن المسيحيين أخذوا بمخنقهم حتى اضطروهم أن يغادروا الحصن ليلا ويلجأوا إلى الحراج المجاورة، فتأثرهم أهالي البلاد وتغلبوا عليهم، فقتل أكثرهم، وأخذ الباقون أسرى
16
وجميع من وقع في الأسر أو استسلم من المسلمين عفوا عنه كما أنهم لم يقتلوا المسلمين الذين كانوا ساكنين وادعين في القرى المجاورة، ومن هؤلاء من تنصر واندمج في الأهالي، ومنهم من بقي مسلما ولكنه أصبح رقيقا مستخدما إما في أراضي الأديار أو في أراضي الزعماء، وقد بقيت لهذه الأمة بقايا معروفة مدة طويلة كما سيأتي الكلام عليه.
أما سقوط حصن فركسينت فقد وقع في سنة 975 وكانت مدة بقاء هذا الحصن في أيدي المسلمين أكثر من ثمانين سنة، ولما كان هو المركز الأصلي لجميع العرب المنتشرين في داخل فرنسة وشمالي إيطالية وفي سويسرة، فلابد من أن ذلك الحصن كان ملآن بالأموال والنفائس، فوزع الكونت غليوم صاحب بروفنس تلك الأموال على الذين امتازوا بقتال العرب، وأشهرهم «جيبلين غريما لدي» الذي كان من أهل جنوة فإنه كوفئ على إقدامه بالأراضي التي كانت في منتهى خليج سان تروبيز، وممن يذكر بين المشاهير الذين جالدوا حق الجلاد بهذه الحرب مسيحي آلت إليه السيادة على مدينة كاستلان
Castallane
في مقاطعة الألب السفلى، وربما كانت ثروة آل كاستلان الحاضرة راشحة عن تلك الفتوحات، ولا ينبغي أن ننسى أن العرب كانوا أيضا قد أجلوا عن مدينة رييز في (الألب السفلى) فإنه في كل سنة يحتفل أهالي هذه البلدة بعيد خلاصهم منهم الذي يصادف يوم العنصرة.
وقد استولت الكنيسة أيضا على كثير من الأراضي التي كانت بأيدي المسلمين، وذلك لأن رجال الدين المسيحي كانوا قد أصيبوا أكثر من سواهم بهذه الغارات العربية وتهدم كثير من أديارهم فلذلك كانوا هم دائما في طليعة الحركة لإجلاء العرب، فنال أساقفة فريجس ونيس نصيبا كبيرا من الأراضي التي كانت بأيدي المسلمين، وفي طولون وقع نزاع بين الأهالي على الأراضي التي كانت للمسلمين؛ لأنه كان قد طال حكم العرب لتلك البلدة فدثرت آثار التملك القديم وأصبحت الحدود مجهولة، فجاء الكونت غليوم من آرل وأجري التقسيم بين الأديار والأهالي والأمراء، وأرضى الجميع، ولذلك بقي لغليوم هذا اسم كبير في التاريخ، وأطلقوا عليه لقب أبي الوطن.
فقد تقرر إذا أن سقوط حصن فركسينت في أيدي المسيحيين وقع في سنة 975 وأنه من ذلك الوقت لم يبق للمسلمين شيء في أرض فرنسة، نعم إن بعض المؤرخين ومنهم داليين المار الذكر يزعم بقاء المسلمين في جبال الألب مستمرا إلى ما بعد سنة 980 بل إلى ما بعد سنة الألف، ولكننا لا نثق بهذه الرواية، ونظن أنه إن كانت قد بقيت عصابات عربية في جبال الألب من بعد تاريخ سقوط فركسينت فلا تكون عصائب محاربة بل تكون عصائب مستسلمة وقد ارتدت عن الإسلام إلى النصرانية أو صار رجالها في حكم الرقيق، وبالاختصار فمن بعد ذلك العهد لم يبق على أتباع الإنجيل خطر من أتباع القرآن إلا إن كان من قبيل وقائع قرصانية كان لا بد لأجل التخلص منها من مطاردة البرابرة إلى نفس بلادهم.
وفي سنة 976 مات الخليفة الحكم الثاني في قرطبة وكان ابنه بليدا فتقلد الأمور الحاجب الملقب بالمنصور وكان آية باهرة في البسالة والإقدام وحسن التدبير بلي منه النصارى بباقعة لا نظير لها فأعاد للإسلام رونقه الأول وبث الغارات في أطراف بلاد النصرانية حتى أوقع الذعر في جميعها وعادت النصرانية على شفا خطر عظيم، وكان المنصور عندما تسلم الزمام قد بدأ بترتيب أمور الولايات الإفريقية، حيث أدخل في الطاعة جميع أهلها وجند منهم الجيوش الجرارة، واستنفر أيضا أهل الأندلس منتخبا منهم أشجع الشبان وأخذ يشوقهم إلى القتال ويمرنهم عليه، وكانت غزوات المنصور كلها في فصل الصيف، ما عدا غزاة واحدة، وذلك لأن رجال إفريقية كانوا لا يتحملون برد الأصقاع الشمالية، وبلغ عدد غزواته في مدة سبع وعشرين سنة ستا وخمسين غزوة، لم تنهزم له فيها راية ولا ولى جيشه مدبرا.
17
وكان المسلمون في الغالب فرسانا فإذا قصدوا إلى بلاد النصارى وهزموا لهم جيشا ذبحوا الرجال وسبوا النساء والأولاد وباعوهم رقيقا، فكنت ترى بعد كل غزاة من غزوات المنصور أسواق قرطبة وأشبيلية وأشبونة وغرناطة مكتظة بالرقيق من ذكور وإناث، وكان تجار الرقيق يأتون بهذه الخلائق إلى إفريقية ومصر وسائر بلاد الإسلام فتنتشر فيها، وكان المنصور يرى جهاده في بلاد النصرانية أفضل قرباته إلى الله تعالى، وكان يستصحب في جميع أسفاره التابوت الذي يريد أن يوضع فيه عند موته، وكان من عادته أن ينفض الغبار الذي يعلق بثيابه في أثناء غزواته ويجعله في ذلك التابوت، ليصنع منه لبنة يضعها تحت رأسه عند الموت، فجال غزاة المسلمين تحت راياته المنصورة في قشتالة وليون وناباره وآراغون وكتلونية إلى أن وصلوا إلى غاشقونية وجنوبي فرنسة.
وجاست خيل المنصور في أماكن لم يكن خفق فيها علم إسلامي من قبل، وسقطت مدينة شانتياقب من جليقية وهي أقدس معهد مسيحي في إسبانية في أيدي المسلمين، وأحرقت تلك المدينة، وأخذت أجراس الكنيسة الكبرى المعروفة بكنيسة القديس يعقوب إلى قرطبة حيث عمل منها قناديل وعلقت في الجامع الأعظم، ولأجل أن يزيد المنصور من إذلال المسيحيين أجبرهم على حمل الأجراس المذكورة على ظهورهم من شانتياقب إلى قرطبة، وهي مسافة ثمانمائة كيلو متر، ولا ينكر أن المسيحيين عادوا عندما دخلوا قرطبة فاسترجعوا هذه الأجراس وحملوها على ظهورهم من قرطبة إلى شانتياقب، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
وفي أيام المنصور
18
كاد الأمل ينقطع من بقاء النصرانية في إسبانية، فاتحد ملوك النصارى بأجمعهم أصحاب ليون ونابار وقشتالة وسائر المقاطعات المسيحية، ونبذوا كل ما كان بينهم من خلاف، وصاروا عصبة واحدة، وتسلح الأساقفة والقسيسون وساروا في مقدمة الجيوش بحسب رواية مؤرخي النصارى على ما في مجموعة الدون بوكيه، واجتمعت جيوش جرارة من المسيحيين على حدود قشتالة القديمة، وحشد المنصور جميع ما عنده من قوة وكانت الوقعة هي التي ستكون الفاصلة بين الفريقين، وتلاقى الجمعان على نهر دويره فكانت المعركة من أهول ما يتصور العقل وبقيت طول النهار وسالت الدماء كالأنهار ولم ترجح فئة على الأخرى، ولكن المسيحيين كان أكثرهم في زرد الحديد فكان التلف منهم أقل، ولما خيم الظلام رجعت كل فئة إلى مخيمها وانتظر المنصور مجيء قواده وأعوانه للتشاور معهم فلم يحضر منهم أحد فسأل عن سبب تأخرهم فقيل له: إنهم سقطوا صرعى في المصاف، فعلم المنصور أن العاقبة وبيلة والتاث جسمه وامتنع عن أخذ أي علاج، ومات بعد أيام قلائل، فدفنوه في الثياب التي كانت عليه يوم المعركة وفي التابوت الذي كان يحمله معه ليدفن فيه، ولا يزال قبره معروفا في مدينة سالم.
19
وكان المنصور طول استيلائه على الدولة جامعا بين مجد السيف ومجد القلم، فازدهرت في أيامه العلوم والصنائع وتقدمت الزراعة وازداد العمران وبلغت الأندلس لعهده من السعادة مبلغا لم تعرفه من قبل، وفي أيام المنصور انتشرت مبادئ الفروسية “Chevallerie”
والمبالغة في حفظ الشرف والرفق بالمرأة وبأي ضعيف ونجدة الملهوف أيا كان، وهذا أمر لا نزاع فيه إلا أن المسيو فياردو
Veiredot
في كتابه المسمى «مشاهد الأخلاق العربية في إسبانية في القرن العاشر» قد تجاوز الحد في زعمه أن العرب لعهد المنصور، هم الذين قرروا نظام الفروسية كما كان معروفا عند فرسان المسيحيين فيما بعد، وقد كان واجبا على المسيو فياردو أن يأتي بالبرهان على ما قاله لأن الذي بأيدينا من تواريخ الذين عاشوا في ذلك العصر ليس فيه شيء مما قرره المسيو فياردو.
20
وكانت وفاة المنصور سنة 1002 فقام بالأمر بعده ابنه عبد الملك ولكنه مات سنة 1008 وبموته انقضت أيام الإسلام الزاهرة في إسبانية.
21
ثم نشبت الحرب الداخلية في قرطبة وأخذت الحكومات تهدم بعضها بعضا وفترت الحمية الأولى وبدأ الإسلام يتقهقر ويستسر بدره منذ ذلك الوقت، وقد كان في استطاعة المسيحيين من شمالي الأندلس أن يسترجعوا بلاد آبائهم وأجدادهم من ذلك الحين إلا أنهم هم أنفسهم أيضا كانوا منقسمين وكانت العداوة بين نابار وغاليسية كما كانت بينهم وبين المسلمين، وكان المسيحيون يدخلون في حروب المسلمين بعضهم مع بعض منحازين إلى إحدى الفئتين المتقاتلتين حسبما تقتضي مصلحتهم، وربما كان مع كل من الفئتين فئة من المسيحيين؛ وكان الأساقفة بأنفسهم يخوضون غمرات هذه الحروب، وفي سنة 1009 انضم المسيحيون في الفتنة التي وقعت في قرطبة إلى إحدى الفئتين ونصروها على الفئة الأخرى فاستعانت الفئة التي دارت عليها الدائرة بمسيحيي كتلونية الذين زحفوا إلى قلب الأندلس، ولكنهم فقدوا في أثناء الحرب ثلاثة من أساقفتهم ورجلا من أبطالهم اسمه أرمانجو كونت إيرجل.
22
والحاصل أن مسلمي إسبانية كانوا قد أخذوا ينكصون وتنحص أجنحتهم ولم يبق أدنى خطر منهم على فرنسة، وأخذت هذه المملكة تتقوى وتتقدم إلى الأمام، وسنة 987 انتقل الملك إلى آل كابت
Cabet
فكانوا أجدر به من المتأخرين من سلالة شارلمان، ثم تنصر النورمنديون وصاروا عاملا عظيما من عوامل القوة النصرانية وسكنوا وركنوا وتركوا العيث والدعارة، وكذلك تنصر المجار وأصبحت أوربة كلها مسيحية، وفي ذلك الوقت بدأت الناس تطالب الملوك بحقوقها وتنبهت الجماعات وناقشت السلطة الحساب وتأسس ما يسمى بالحرية البلدية مما أدى في آخر الأمر تدريجا إلى الحالة الاجتماعية التي جعلت أوربة في مقدمة العالم المتمدن، وأورق من ذلك الوقت غصنها واخضر رعيها وأفلح سعيها، على أن سواحل فرنسة لم تسلم من غارات المسلمين إلى ما بعد ذلك بمدة طويلة ففي سنة 1003 نزل مسلمون أندلسيون في أرض أنطيب أو عين الطيب
Antibes
وأخذوا بعض رهبان أسرى وفي سنة 1019 غزا منهم أناس مدينة أربونة فاجتمع عليهم الأهالي وكشفوهم ثم قتلوهم وأسروا منهم عشرين رجلا كانوا في غاية الطول والعظم، فأرسلوهم إلى دير سان مارسيان في ليموج، فاستخدم منهم رئيس الدير اثنين وفرق الباقين على أصحابه، وجاء في مجموعة الدون بوكيه خبر يفيد أن هؤلاء لم تكن لغتهم عربية.
وفي سنة 1047 نزل مسلمون أندلسيون في جزيرة لارين
Lerins
23
واستاقوا عددا من الرهبان أسرى فذهب رئيس دير سان فكتور في مرسيلية إلى الأندلس لافتكاكهم، وكان بعض أمراء الأندلس شرعوا يشنون الغارات البحرية على بلدان المسيحيين، وأشهر هؤلاء مجاهد العامري الذي استولى على دانية وجزر الباليار والإفرنج يسمونه موجيت
Mujet
أو موزكتوس
Musectus
وكان اسمه يلقي الرعب في سكان كورسكة وسردانية وبيزة وجنوة، وبقيت غارات المسلمين على سواحل فرنسة تتوالى ولا تغيب طويلا إلى أن اشتدت قوة فرنسة البحرية ولم تنته تماما إلا بفتح فرنسة لجزائر الغرب،
24
وكانت مدينة ماغلون مقصدا لغزاة المسلمين حتى أطلق عليها لقب بورسارازين
port-Sarrazin
ومن هذا القبيل مدينة مارتيخ عند مصاب نهر الرون التي فيها أبنية يقال: إنها من أيام العرب ومثلها جزر هييار
Hyeres
التي قبالة ساحل الفار وقد جاء في إحصاء لمقاطعة مصاب الرون - بقلم المسيو تولوزان - أنه وجدت أوراق قديمة في مارتيغ تتعلق بإقامة المسلمين في تلك البلاد، وكذلك وجدت أوراق قديمة في فوس يظهر منها أن المسلمين سكنوا في جزائر هييار المارة الذكر، على أن المسلمين بدأوا بالتقهقر البحري في أواسط القرن الحادي عشر، ففي سنة 961 كان الروم استردوا جزيرة أقريطش، وفي سنة 1050 أجلي المسلمون عن جنوبي إيطالية وفقدوا ملكهم في صقلية، وتجاوز المسيحيون البحر ونزلوا في بعض سواحل إفريقية حيث خفقت لهم أعلام مدة طويلة، ثم لم يلبث الإسبانيول أن استرجعوا طليطلة وقرطبة وأشبيلية وغيرها، ثم زحف من أوربة إلى آسيا الصليبيون بجيوش لا تحصى فوقفوا المسلمين عند حدودهم بل غزوهم في عقر دارهم وفقد المسلمون كل أمل في التجاوز على فرنسة والجنوب الغربي من أوربة، وفي سنة 960 كان الكاتب العربي ابن حوقل يصف مسلمي الأندلس بالجبن والطيش وفقد الصلابة والحزم، وكذلك ابن سعيد الذي كان يكتب في القرن الثاني عشر قد تعجب كيف أن المسيحيين لم يطردوا مسلمي الأندلس تماما في ذلك الوقت.
25
ومما يدلك على ما وقع في نفوس المسلمين من هذه الجهة الشاهدان الآتيان: روى مؤرخو العرب أنه لما قفل موسى بن نصير إلى الشام بعد فتحه الأندلس، سأله الخليفة عن الشعوب المختلفة التي مارسها، فأجابه، أن الإفرنج فيهم العدد والشدة والإقدام والثبات، ويستغرب أن يكون موسى بن نصير وصف الإفرنج بهذا الوصف وهو لم يباشر معهم حربا، وعلى فرض أنه وصل إلى جنوبي فرنسة كما يزعم مؤرخو العرب، فإنه لم يكن قد لقي الإفرنج بل لقي القوط الذين كانوا أصحاب الحكم في البلاد الجنوبية من فرنسة ولكن مسلمي الأندلس عندما تلاقوا مع رجال شارل مارتل وشارلمان علموا من هم الإفرنج في صلابة العود وعلموا من هم الفرنسيس في حب المجد والإقدام على الأخطار، وقد روى المؤرخ الإسبانيولي كوندي كلام موسى بن نصير هذا وأضاف إليه بزعمه قول موسى: إن الإفرنج إذا انهزموا فليسوا بشيء.
26
والشاهد الآخر هو ما يرويه العرب من وجود كتابة منقوشة على تمثال في مدينة أربونة معناها: يا أولاد إسماعيل لا تتجاوزوا هذا المكان فإنكم إن تجاوزتموه ولم ترجعوا على أعقابكم هلكتم. هكذا روى المقري في نفح الطيب في النسخة الخطية التي في المكتبة الملوكية.
27
هوامش
الفصل الرابع
الصفة العامة لغارات العرب هذه والنتائج التي ترتبت عليها
مرادنا أن ننظر إلى هذه الغارات العربية من حيث المجموع وأن نشير إلى بعض حقائق لم يتسن لنا حتى الآن أن نتبسط فيها.
وكذلك نريد أن نذكر الشعوب المختلفة التي ضربت بأسهم مذكورة في هذه الغارات، ولا نزاع في أن النهضة الأولى قد كانت للعرب، وأن جميع الغزوات الكبرى كان يرأسها قواد من هذه الأمة، وأن الاسم العربي هو الذي كان غالبا فيها، وأنه كان بمنزلة القطب من الرحى، وأن المراد بلفظة «سارازين» عند كتاب الأوربيين هو العرب لا غير.
فمن أين جاءت لفظة سارازين هذه؟ الجواب جاءت من اللفظة اللاتينية «ساراسنوس» التي أصلها اللفظة اليونانية «سراكنوس» وهذه اللفظة معروفة منذ القرون الأولى من التاريخ المسيحي، والناس تقصد بها العرب الرحل الذين في جزيرة العرب وبين دجلة والفرات وسورية وبلاد العجم، قد ذهب الناس مذاهب شتى في مأخذ هذه اللفظة، وأكثر الآراء اتفقت على أنها مشتقة من «شرقي» لا سيما أن بطليماوس الجغرافي الفلكي اليوناني الذي كان بمصر يتكلم في جغرافيته عن شعب يقطن في بلاد جزائر الغرب يقال له: مغاربة
Machurebe
فمن هنا ظهر أنه أريد بكلمة «شرقيين» التي جاءت منها كلمة «ساراكينو» العرب الذين بقوا في آسية، كما أن الذين جلوا منهم إلى إفريقية تسموا مغاربة وذلك كما هي الحال اليوم.
وقد ذهب بعض علماء المسيحيين في القرون الوسطى إلى أن «سرازين» مشتقة من «سارة» زوجة إبراهيم الخليل، وهذا غير وارد؛ لأن سارة هي أم إسحق لا أم إسماعيل جد العرب.
ومن الأسماء التي يطلقها المسيحيون على العرب في القرون الوسطى الإسماعيلية،
1
أي أبناء إسماعيل، وهذه هي نسبة موافقة للواقع؛ لأن قسما كبيرا من قبائل العرب متسلسل من إسماعيل، ومحمد من هذه السلالة، ولكن العرب لا يعترفون بأن إسماعيل كان ابن أمة وأن إسحق يمتاز عليه، وهم ينسبون إلى إسماعيل كل ما ورد في التوراة عن إسحق، ومما استعملوه في القرون الوسطى من الأسماء التي كانت تطلق على العرب لفظة «هجارنة» أي سلالة هاجر، وهذا الاصطلاح، أي هجارنة، مجهول عند العرب، ثم إن أعظم شعب اشترك مع العرب في هذه الغزوات هو الشعب الساكن في جبل الأطلس ونواحيه المنتشر من مصر إلى الأوقيانوس الأطلنطيكي، ومن البحر المتوسط إلى السودان، والذي يقال له: البربر. يعرفهم الإنسان بلونهم النحاسي وأنوفهم الحادة وشفاههم الرقيقة ووجوههم المستديرة، والمظنون أن هذه الأقوام التي يقال لها: البرابر قد وجدت في إفريقية قبل أن وجد الفينيقيون في قرطجنة، وهم من قديم الزمان معتصمون بجبالهم لا يخضعون لسلطة أجنبية، وكان اليونان والرومان يقولون عنهم: البرابرة فبقي عليهم اسم بربر إلى الآن. وقد اندمج هؤلاء البربر مع غيرهم من الإفريقيين ومع بقايا الشعب القرطجني وبقايا الرومان والفاندال، وتألف منهم شعب واحد يقال له: الشعب المغربي
Maure
أو الشعب الإفريقي
Afri ou Afrecaia .
وقد كان بين الأقوام الذين اشتركوا مع العرب في غزو فرنسة من هم من سلالة جرمانية أو صقلبية، وذلك أنه في القرنين الرابع والخامس للمسيح تقدم أسلاف الذين كانوا ساكنين في شمالي البحر الأسود ونهر الدانوب، زاحفين إلى قلب أوربة وإلى جنوبيها، بأسماء مختلفة، كصقالبة وخرواطيين وسربيين ومورافيين وبوهيميين وتديروا بولونية وبوهيمية وسربية ودالماسية، وقسما من بلاد اليونان، وكانوا في أثناء زحفهم يقتتلون مع الأمم السكسونية والأمم الهونية التي منها المجار، وكان الفريقان في حروب دائمة مع شارل مارتل وأولاده وأحفاده؛ لأن ممالك هؤلاء كانت دائما عرضة لغارات هؤلاء البرابرة، ولم تنقطع هذه الحروب المصطلمة إلا بعد أن دخل الجرمانيون والسلاف في النصرانية، وقد كان البرابرة المذكورون يستعملون الأسرى الذين يقعون في أيديهم كالحيوانات بلا فرق، وكان أهالي هولندة يبيعون أسراهم كالعبيد، وانتشرت هذه العادة في فرنسة والبلاد المجاورة لها، ولم تنقطع إلا بعد أن دخل هؤلاء البرابرة في النصرانية
2
وتهذبوا.
ومن المعلوم أن تجارة الرقيق امتدت جدا بعد أن افتتح المسلمون الشام ومصر وإفريقية والأندلس؛ لأن العرب كانوا يعرفون الرق ويحملون عبيدهم على جميع الأشغال اليدوية وعلى الحرث والزرع، أما في الشرع الإسلامي فالرقيق لا يهان أصلا، وكل عبد تظهر كفايته في شغل من الأشغال يقدر أن يرقى إلى ما يرقى إليه الحر بدون فرق وكان التجار يذهبون إلى بلاد الجرمانيين والسلاف وأحيانا إلى نواحي بحر الأدرياتيك والبحر الأسود ويأتون بأصناف الرقيق، ولم يزل أهالي القوقاس يبيعون من أولادهم إلى اليوم، فكانت هذه الشعوب تبيع من أولادها إلى التجار، وكان يأتي منهم قسم إلى فرنسة لا بالبيع والشراء بل بواسطة السبي في الحروب.
ولما كان المسلمون غيرا في قضية الحريم صاروا يخصون هؤلاء العبيد ليمكنهم استخدامهم في داخل الأحاريم بدون خوف فتنة، وهكذا تولدت في فرنسة مهنة جديدة هي مهنة الخصي، وتأسس لذلك معمل كبير في فاردون
Verdun
في بلاد اللورين.
وكان الصبيان الذين ينجون من خطر هذه العملية القاسية يباعون في أسواق الأندلس بأثمان عالية، وكانوا يتهادون الخصيان من الصقالبة كما يتهادون الخيل أو الحلي الثمينة.
وقد روى أحد كتاب العرب أنه في سنة 966 أراد أمراء كتلونية من الإفرنج أن يتزلفوا إلى خليفة قرطبة فقدموا له هدايا من جملتها عشرون خصيا صقلبيا، والعرب يصفون جميع الرقيق الجرماني والصقلبي والسلافي بلفظة صقلبي
Saclabi
ونظن أنه من هذه اللفظة جاءت كلمة اسكلاف
Esclave
بمعنى عبد. وكان أكثر حرس خلفاء قرطبة وأمراء الأندلس من الصقالبة، وكان منهم كثير في صقلية، ولهم في مدينة بلرم حارة منسوبة إليهم، وكان منهم عدد كبير في إفريقية، وقد يصل الصقالبة إلى أعلى المناصب، ولذلك لا يمكنك أن تقرأ تاريخا لدولة عربية ليس فيه ذكر للصقالبة؛ إذ بدون ذلك يكون التاريخ مغلقا لا يتحصل فهمه.
3
ولم يكن بين العرب والبربر أناس من شمالي أوربة ومن أصل وثني فقط، بل وجد لهم أنصار ويا للخجل قد ولدوا في حجر النصرانية، من أهل إيطالية وأهل فرنسة، وقد كان اليهود يستثمرون بؤس الأهالي ويشترون الأولاد من ذكور وإناث ويأتون بهم إلى مراسي البحر حيث كانت ترد سفن اليونان والبنادقة وتحملهم إلى بلاد الإسلام، وكانت هذه التجارة القبيحة قد وصلت إلى قلب عاصمة النصرانية، وقد جاء في مجموعة موارثوري أنه في سنة 750 اضطر البابا زخريا أن يشتري بماله من أيدى البنادقة عددا كبيرا من الأولاد ذكورا وإناثا كانوا يريدون الخروج بهم من رومة ثم إن البابا الذي خلف زخريا اضطر أن يحرق مراكب كثيرة لليونان آتية لحمل الرقيق، وقد جاء في تاريخ الصليبيين للمسيو ميشو أن هذه التجارة كانت جارية في أوربة حتى القرن الثالث عشر، ولكن بشيء من الاحتياط، وكان أسارى المسيحيين والسبي منهم يستخدمون في جيوش المسلمين، وكان السبي من أعظم مقاصد هؤلاء في الغزو، فكلما حصلت معركة رأيت أسواق الأندلس وإفريقية غاصة بالأسرى المسيحيين، فأما الأطفال والأولاد فكانوا يربون في الإسلام وفي اللغة العربية، وكانوا لا يقدرون أن يرتدوا عن الإسلام إذا بلغوا، وأما الأرقاء الذين بلغوا سن الرشد فلم يكونوا يجبرون على الإسلام لأنه جاء في القرآن
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي
على أن كثيرا من المسيحيين البالغين كانوا يخدمون في جيوش المسلمين عن طيب خاطر.
وأضف إلى هؤلاء قسما من أهالي البلاد التي افتتحها المسلمون، فإن العرب والبربر عندما افتتحوا الأندلس وجدوا أعوانا لا يحصى عددهم من المسيحيين واليهود، ولما لم يكن جيش العرب كافيا لحفظ جميع هذه الفتوحات كانوا كلما دخلوا بلدة عهدوا إلى اليهود بحراستها،
4
ولما دخل العرب إلى أرض فرنسة وما جاورها من البلاد لم يخل الأمر من أنهم وجدوا من أهل البلاد رجالا ممن لا يعرفون الحمية الدينية ولا الوطنية، وممن دأبهم أن يستفيدوا من المصائب العامة، فمشوا بين أيدي العرب في غزواتهم وفتوحهم وحطبوا في حبالهم، ولقد رأينا كيف أن «مورونت» دوق مرسيلية وغيره من سادة البلاد تمالأوا مع العرب على أبناء بلادهم، فإذا كان هذا شأن الكبار فما ظنك بالصغار؟ ولا شك أن العرب في فتوحاتهم في مقاطعات دوفيني وبييمونت وسفواي وسويسرة كانوا قد وجدوا من الأهالي أعضادا لهم سرا وعلنا، وكان مؤرخو ذلك العصر لا يصرحون بذلك حياء، ويجتزئون بالإشارة إلى خيانة بعض المسيحيين، ولكن الحقيقة أنه لولا تلك الخيانة لم يكن المسلمون ليستقروا في تلك البلاد القاصية المنقطعة عن أوطانهم الأصلية، وهم في قلة من العدد، في زمن كانت فيه المواصلات غير ما هي الآن.
نعم إن العرب كانوا يجدون من أهالي البلاد ردءا لهم، وقد رأينا في تاريخ دير نوفاليس كيف أن المسلمين قاتلوا الأهالي بقرب فرسل
Verceil
وتغلبوا عليهم وساقوا عددا منهم أسرى ثم دخلوا المدينة وعرضوا الأسرى للبيع، كما تعرض السلع، وصار كل من أراد يدفع في الأسير ثمنا إلى آخر القصة.
أما من جهة اليهود وسياستهم في جنوبي فرنسة، لذلك العهد، فقد قرأنا في سيرة القديس تيودار
Theodard
رئيس أساقفة أربونة أنه لما دخل المسلمون بلاد اللانغدوق انحاز اليهود إليهم وفتحوا لهم أبواب مدينة طلوزة، وأن شارلمان - تأديبا لليهود على خيانتهم - أمر بأنه كل سنة في الأعياد الكبرى الثلاثة يؤتى بيهودي ويصفع على باب الكنيسة العظمى، وقد بقيت هذه العادة مدة طويلة ثم تبدلوا بها دفع مبلغ من الدراهم. ولنا اعتراض على هذه الرواية من جهة أن العرب لم يدخلوا طلوزة فعلا فلعل هذه الحادثة وقعت في فتح مدينة أخرى، وإذا تركنا قضية أنساب الغزاة ورجعنا إلى لغاتهم فإننا نجد أنهم لم يكونوا بأجمعهم يتكلمون بالعربية، فقد روى ابن القوطية أن بعضهم كان يتكلم بالبربرية، وأنه سنة 1019 عندما غزا المسلمون أربونة كان الغزاة ذلك اليوم من الذين لا يعرفون العربية، وكذلك لم يكن جميع الغزاة مسلمين، بل كان فيهم يهود ووثنيون وأحيانا مسيحيون، وقد كان في البربر عبدة أوثان ومجوس، ولم يدخلوا جميعا في الإسلام إلا بعد فتح إفريقية بمدة طويلة.
5
ومن الغريب أن المسيحيين في القرون الوسطى كانوا يسمون غزاة العرب بالوثنيين، مع أنه لا يوجد أبعد عن الوثنية من المسلمين، ومن شدة توحيدهم للباري تعالى يكرهون جميع شعائر الوثنية ويحرمون تصوير المخلوقات الحية، نظير اليهود، ولكن شدة حرمة المسلمين لمؤسس ديانتهم جعلت العوام في أوربة يعتقدون أن المسلمين يعبدونه، كما أن المسيحيين في القرون الوسطى كانوا يطلقون لقب وثني على كل من ليس مسيحيا وقد جاء في التاريخ المنسوب إلى المطران توربين
Turbin
أنه يوجد في إسبانية على شاطئ البحر تمثال من نحاس صنعه محمد نفسه وأن المسلمين يسجدون له، وكذلك فيلومين
في تاريخه لفتح شارلمان بلاد لانغدوق يتكلم عن تمثال لمحمد من الفضة المذهبة كان المسلمون في أربونة في أثناء استيلائهم عليها يعتقدون أنه ملجأ لهم، وكذلك جاء في رواية تمثيلية اسمها لعب القديس نقولا كان لها شهرة في القرون الوسطى أن أحد أمراء المسلمين في إفريقية كان يعبد صنما اسمه ترفاغنت
Tervagant
وأنه عندما كان يحصل على مراده كان يغطي خدود الوثن بأوراق الذهب، ثم إن في قصيدة إفرنسية تذكر وقائع رولان الشهير أن مسلمي سرقسطة كان عندهم مغارة جعلوها هيكلا لآلهتهم، وكان فيها تماثيل من ذهب كل تمثال في يده صولجان وعلى رأسه تاج، وأن المسلمين كانوا يجتمعون في تلك المغارة للعبادة.
6
وكان اسم «ترفاغنت» ينقلب أحيانا إلى ترماغنت وكان يرد معه اسم أبولين
Apolin
وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، فتدور في أقاصيصنا القديمة، مثل قصة لافيوكت (البنفسجة) التي نشرها فرنسيسك ميشال، وزعموا أن هذه الأسماء هي أسماء آلهة إسلامية!
وقد بلغ من تعصب أجدادنا وتحاملهم على المسلمين أنه في الرواية المسماة بلعب القديس نيقولا كان يوجد تمثال لذلك القديس كانوا يسمونه محمدا باعتبار أن لمحمد تمثالا، وأنهم كانوا يسمون هيكل الأوثان محمدية
Mohamarie
فانظر إلى غرابة تصاريف الأقدار، وقابل بين هذه الخرافات وبين الحقيقة، وتأمل كيف صنع محمود الغزنوي عندما غزا الهند سنة 1025م، واستولى على صنم أصر على كسره، وعرض عليه الهنود مقدار وزنه ذهبا فأبى إلا أن يكسره وأن يضعه على أسكفة باب المسجد في عاصمته، حتى تدوسه الأقدام.
7
وليست هذه الحادثة فذة في بابها، فتأمل في كتابنا المسمى «خلاصة التواريخ العربية عن الحروب الصليبية» تجد من أمثالها كثيرا.
ماذا كان السبب يا ترى في ذهاب آبائنا في الوهم والخطأ إلى هذا الحد؟ الجواب أن بعض العلماء ذهبوا إلى كون أسماء ترفاغنت وأبولين وما أشبه ذلك كانت آتية من بلاد النورمانديين أهالي شمالي أوربة الذين كانوا يعبدون الأصنام، فالعامة في أوربة خلطوهم بالمسلمين بزعمهم أن كل من ليسوا مسيحيين وثنيون! وكذلك كان البربر الذين جاءوا مع العرب متمسكين ببعض شعائر وثنية كانوا يمارسونها ظنت العامة أن هذه الشعائر كان يمارسها العرب أيضا، ولا يجوز أن ننسى أنه في هذه الكتب التي تتهم المسلمين بالوثنية وتزعم هذا الزعم الغريب أنهم ينحتون تماثيل من حجر أو خشب أو معدن ويعبدونها وقد ورد أن المسلمين إذا وجدوا تلك التماثيل لم تنفعهم انقضوا عليها وحطموها وجعلوها جذاذا.
على أن الاسم العربي والدين الإسلامي كانا هما السائدين في هذه الفتوحات الإسلامية في أوربة، فليس عندنا شيء من الآثار عن البربر أو الصقالبة الذين كانوا مع العرب في مغازيهم ، وكل ما عندنا عن هذه الفتوحات إنما هو من رشحات أقلام العرب المسلمين.
أما أسباب هذه الفتوحات العربية، والعلل الأصلية في اقتحام هذه الغمرات، فهي متعددة، فمنها ما يرجع إلى حب الغنائم وكسب الأموال، ومنها ذوق خاص بالضرب في الآفاق، ومنها ما هو محض تجرد لنشر الدين الإسلامي ورجاء ثواب هذا العمل المبرور عند الله فإن القرآن يحث على الجهاد في سبيل الله
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون
فالمسلمون الذين كانوا يقدرون على حمل السلاح كانوا يجاهدون بأنفسهم، والذين لم يكونوا قادرين على القتال كانوا يجاهدون بأموالهم وجاء في القرآن:
الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم
وكل مسلم يموت وهو يقاتل في سبيل الله فإنه يموت شهيدا
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون
فالمسلمون يسمون شهيدا كل من بذل دمه في سبيل الإسلام، كما أن المسيحيين يسمون شهيدا كل من مات لأجل النصرانية.
ثم إن الشرع الإسلامي يفرض على المسلمين أن يدعوا غير المسلمين إلى الإسلام، أو إلى دفع الجزية، وذلك قبل إعلان الجهاد ومباشرة الحرب ويجوز أن يكون قد حصل هذا الإعلان عند دخول العساكر الإسلامية إلى فرنسة ولكن الأهالي لم يجيبوا دعوة الإسلام فاضطر أمراء المسلمين إلى تجريد الحسام، وكان المسلمون في أوائل الفتح يتقلدون السيوف ويتأبطون الرماح ويتنكبون القسي، وكانوا كلهم متعممين، ثم إنهم بتغير الأوقات صاروا يتشبهون بالنصارى في أزيائهم وأسلحتهم، ويلبسون الدروع ويغوصون في الزرد وطالما كانوا يقتنون سيوف مدينة «بوردو» لشهرتها في ذلك الوقت، وتركت عساكرهم العمائم وصاروا يلبسون على رءوسهم الكمة الهندية، وكان أمراء الفرنسيس في كتلونية أهدوا الخليفة عشر أدراع سلافية ومائة سيف إفرنسي، وأنعم الخليفة على حاجبه يوم توليته إياه الوزارة بمائة فارس إفرنجي متقلدين السيوف والحراب غائصين في الحديد على رءوسهم الكمم الهندية، وبالاختصار كان المسلمون قد اقتدوا في شكتهم وأعلامهم وسروج خيولهم بأوربة المسيحية، ولكن بدون شك كانوا يسترجحون في التسلح جانب الخفة ، ويتجنبون السلاح الثقيل الذي كان يعول عليه الأوربيون.
8
أما الغنائم فكانت عبارة عن الحجارة النفيسة والنقود المضروبة والمنسوجات والأدوات والأسرى والسبي، وكان السبي أفضل جزء من الغنائم، وكان الأمير يستأثر بالخمس بحسب الشريعة، وينفقه في إعانة الفقراء وأبناء السبيل، وكان الباقي يوزع على الجند، وللفارس ضعفا ما للراجل، وكان يوجد دائما في ساقة الجيش تجار يشترون كل ما يقع في أيديهم من صامت وناطق.
أما الأسرى فليسوا كأسرى هذه الأيام، فكان المسيحي إذا وقع أسيرا كبلوه وإذا انتهت قسمة الغنائم عرف الأسير ذلك الرجل المسلم الذي خرج هو في نصيبه فيصير له مملوكا يتصرف به كيف شاء، ويصير هو وجميع ما يعمله ملكا لسيده، ويتوارثه الأبناء عن الآباء، ويعود أولاده أيضا أرقاء نظير والدهم، وإذا كان سيده غيورا على الإسلام عرض على ذلك الأسير المسيحي اتخاذ الإسلام دينا فإذا أسلم فقد يعتقه وإن لم يعتقه افتكه بعض الصالحين ومحبي الخير من المسلمين؛ لأن تحرير الرقاب هو من أفضل القربات عند المسلمين، وهو بعد تحريره يصير في المجتمع الإسلامي نظير سائر الأحرار ويبلغ من درجات العلياء ما يقسم له حظه ونصيبه ويطلق عليه اسم مولى وهو اسم يتضمن معنى السيد ومعنى المملوك معا، وهناك طبقة أخرى وهي طبقة العبيد الذين يعتقهم سادتهم ولكن على شرط أن يؤدوا إلى سادتهم شيئا معلوما كل سنة.
9
وإن كان الأسير المستعبد أبى أن يتحول عن دينه إلى الإسلام فقد كانوا يستعملونه في حرث الأرض أو في حمل الأثقال، وقد وجد مسيحيون كثيرون قبلوا الإسلام، وآخرون بقوا متمسكين بنصرانيتهم، وكلهم كانوا يمتازون بالخدمة وكان يعول عليهم في الحروب، وقد كان منهم كثير في الحرس الخاص للخلفاء والملوك لا سيما في قرطبة، ولم يكن أسرى المسيحيين الذين بقوا متمسكين بدينهم ليلبثوا عبيدا بدون أمل في الحرية، بل كان أمراء المسلمين وأغنياؤهم ممن يصير إليهم بعض هؤلاء الأسرى إذا وقعت لهم حوادث جاء التوفيق فيها لهم رفيقا أرادوا شكر الله تعالى على نعمته فحرروا من عندهم من الأسرى وسنة 997 علم المنصور بن أبي عامر بأن الله كتب لجنوده النصر في واقعة كبيرة في إفريقية فشكرا لله تعالى أسرع إلى تحرير ألف وثمانمائة أسير مسيحي من ذكور وإناث.
10
وكان المسيحيون يجمعون أموالا ويذهبون إلى إسبانية وإفريقية لافتكاك الأسارى، هذا يفتك أباه وهذا أخاه وهذا صديقه وهلم جرا، ومن هناك تأسست رهبانيات بقيت مدة قرون في أوربة لم يكن لها عمل إلا افتكاك الأسارى من بلاد المسلمين، وقد سجل التاريخ من مآثر هذه الجمعية ما هو فوق الوصف، ومن ذلك عمل إيزان رئيس دير القديس فيكتور في مرسيلية، الذي ذهب في سنة 1047 إلى الأندلس برغم ضعف جسمه وكثرة أمراضه، وأفتك عددا من أسارى المسيحيين وجاء بهم قاصدا فرنسة، فبينما هم في البحر هاجمهم قرصان فأخذوهم ووقعوا ثانية في الأسر، ورجع إيزان يسعى من جديد سعيا حثيثا ويذهب ويجيء حتى افتكهم مرة ثانية، وعندما جاء بهم إلى مرسيلية كان الضنى قد بلغ منه مبلغه فما وطئ أرض مرسيلية حتى مات دنفا.
وأما الرقيق من النساء فكن يشتغلن في قصور الأمراء وحرم الأغنياء ويساعدن زوجات الرجل الذي يملكهن، وإذا امتازت إحداهن بجمال أو قسام كانت تعلم وتهذب وتباع بثمن غال أو يتزوج بها مالكها وكثيرا ما كن يرسلن هدايا إلى الخلفاء والكبراء، وذلك كما حصل للأميرة «لمبيجية» ابنة أود دوق أكيتانية التي صارت إلى الخليفة في دمشق وإذا تزوج المسلم بأمة صارت بذلك حرة وكان أولادها أيضا أحرارا، ولم يكن فرق بينها وبين الزوجة التي هي حرة من الأصل، وإن كان ولد للرجل من جاريته أولاد، ولو لم يكن عقد نكاح، ورضي بأن يعترف بهم فإنهم يصيرون أحرارا وتصير أمهم حرة أيضا لكن مع بقائها تحت سلطة زوجها، ومثل هذه الجارية عند وفاة زوجها تتحرر تماما ويقال لها عندهم: أم ولد. وكانت قصور خلفاء دمشق وبغداد وقرطبة ملأى بالنساء اللائي يقال لهن: أم ولد. وكان أولاد هارون الرشيد، ما عدا واحدا فقط، كلهم أبناء جوار يقال للواحدة منهن: أم ولد. أما إذا كان الأب ولد له أولاد من جاريته ولم يرد أن يعترف بهم فإنهم يبقون هم وأمهم عبيدا.
ولنضرب لك مثلا على ما كان يعانيه الأسرى المسيحيون، في بلاد الإسلام، بالحادثة الآتية:
في أواخر القرن العاشر وقع رجل من أحلاس الحرب، من بلدة طلوزة، أسيرا في أثناء ذهابه لزيارة بيت المقدس، فصار إلى بيت رجل من الأغنياء استخدمه في حرث الأرض، فقال لهم: إنه لا يحسن هذا العمل وإنه لا يحسن غير القتال، فجعلوه جنديا، وحضر وقائع كثيرة وآل به التقلب في البلاد إلى أن حضر حرب قرطبة الأهلية سنة 1009 مسيحية، وهناك امتاز بالبسالة ونبه أمره، ولما كان «شنجو» كونت قشتيلة قد خاض غمرات تلك الحرب وشاهد ما شاهده من إقدام هذا الرجل أمر بإطلاق سبيله.
أما مصير المسلمين الذين كانوا يقعون في أيدي الإفرنج فلم يكن يختلف كثيرا عن مصير المسيحيين الذين يقعون أسرى في بلاد الإسلام، ولقد كان الرق معروفا بفرنسة، وكان يأتيها رقيق كثيرون من جرمانيين وسلاف وغيرهم من شمالي أوربة، فإذا كان يستعبد فيها الأوربيون فبديهي أن يستعبد فيها الأسرى من المسلمين، ولم يكن فرق بين الأسرى في الإسلام والأسرى في بلاد الإفرنج، سوى أن الرقيق في الإسلام إذا تحرر أصبحت له جميع حقوق الأحرار، بخلاف القاعدة في أوربة فإن طبقة العبيد ولو تحرروا تبقى منحطة عن طبقة النبلاء، وتبقى بينهما فواصل، وكان المسلمون يبذلون أيضا الأموال في افتكاك أسراهم، فمنهم من يفكه أهله، ومنهم من يفكه أصحابه، ومنهم من يفكه سلطانه، وقد تأسست عند المسلمين جمعيات لفداء الأسرى كما عند المسيحيين، وذلك إن فك العاني معدود من أفضل الأعمال في الإسلام، وقد سأل محمدا
صلى الله عليه وسلم
سائل عما يجب أن يعمله لينال أفضل الثواب فأوصاه النبي بتحرير الرقاب، وقد روى النويري ولذريق شيميناس أنه في زمن الأمير هشام بن عبد الرحمن بلغ من ظفر جيوش الإسلام أنهم بحثوا عن أسرى يفكونهم بالمال المجموع لذلك الغرض فلم يجدوا أسيرا مسلما يفكونه.
وكان يؤتى بأسرى المسلمين إلى آرل ومرسيلية وأربونة، ويباعون فيها، ويأتي أناس من أبناء ملتهم إلى هذه المدن فيفدونهم فأما المسلمون الذين لم يحصل لهم نصيب الافتكاك من الأسر فكانوا يصيرون إلى العبودية، فيشتغل الواحد منهم في خدمة مالكه، وأكثر ما كانوا يستعملونهم في الحرث، وكان يحق لمالك العبد أن يبيعه أو أن يضربه أو أن يعذبه، وكثيرا ما كانوا يكبلونهم بالحديد لئلا يفروا، ولم يكن للعبيد من المسلمين، كما لم يكن للعبيد من اليهود ومن الوثنيين، حق أن يتزوجوا بالمسيحيات ولو كن من الخوادم، ومن كانت منهن متزوجة بغير مسيحي كان لا يؤذن بدفنها في مقابر النصارى بل هناك ما هو أكثر من ذلك، وهو أنه لم يكن يؤذن في زواج العبد من الأمة ولو كانا من ملة واحدة، وإنما كان للمالك أن يأذن في مساكنة العبد للأمة في مكان واحد، ولكن على شرط أن الأولاد الذين يولدون لها يكونون ملكا للمالك المذكور، ولقد تلاشى الرق من أوربة في نواحي القرن الثاني عشر إلا أنه بقي جائزا بحق غير المسيحيين لا سيما المسلمين، وعلى ذلك شواهد من آثار القرن الثاني عشر والقرون التالية، ومن جملتها نصوص واردة في مجموعة القوانين البحرية القديمة تأليف المسيو بارديسو، غير أن ذوي التقوى كانوا إذا أرادوا أن يشكروا الله تعالى على نعمة أفاءها الله عليهم أعتقوا عبيدهم ثم عمت العادة بأن كل عبد طلب أن يتعمد أي أن يتنصر يصير حرا، وهكذا اندمج العبيد في سائر الأمة.
وكان العبيد من المسلمين يشتغلون في المزارع من أملاك المتمولين أو أوقاف الأديار والكنائس، وقد مر بنا أن أسارى المسلمين الذين وقعوا في اليد سنة 1019 أمام أربونة قد وزعهم المسيحيون على الكنائس وعلى بعض الزعماء، وهكذا وقع للمسلمين الذين كانوا في فرنسة بعد سقوطهم في معركة سنة 975 ولجميع عساكر المسلمين الذين انفصلوا عن مجموع جيشهم في أثناء غزواتهم للبلاد الإفرنسية.
وكانت هناك أسباب أخرى لزيادة عدد الرقيق المسلم في فرنسة، منها الحروب الصليبية في الشرق، ومنها الحروب التي كانت تقع بين الإفرنج وبين مسلمي الأندلس، وقد ذكر المسيو بارديسو - في كتابه المار الذكر - أن منها ما كان آتيا أيضا بطريق التجارة، ومما لا نزاع فيه أنه قد بقي استعباد أسرى المسلمين في فرنسة عادة متبعة دهرا طويلا، وفي سنة 1149 أوصى أرنود مطران أربونة بعبيده المسلمين لمطران بيزيه
Beziers
وفي سنة 1250 أوصى روميو فيلنوف
Romeo de Villeneuve
الذي كان وزيرا عند كونت بروفنس، قبل موته، ببيع العبيد المسلمين الذين كانوا في أراضيه، وكانوا من الذكور والإناث، ذكر هذا المسيو بوش في تاريخ بروفنس، وبعد ذلك بمئتي سنة ورد ذكر شراء الملك رينه
Reué
11
لثلاثة عبيد من المسلمين، وقد اطلعنا على قرارات لمجمع الأساقفة في طراكونية في إسبانية المنعقد 1239 من جملتها أن يجبر المسلمون الذين بفرنسة على اتخاذ لبس خاص بهم، وكذلك اليهود، وقد جاء مثل هذا الاقتراح في قانون لأسقف بيزيه سنة 1863.
وكان المتحمسون بالنصرانية يغضبون للسماح بزواج الأرقاء في فرنسة بحيث وجد في قانون رهبانية جيتو
Jéteau
مادة تمنع أديار هذه الرهبانية أن يجتمع فيها مسلمون ومسلمات في محل واحد، بل كان هناك معاهد دينية ترفض استخدام العبيد المسلمين في أشغالها.
لقد مر بنا أن المسلمين الذين كانوا يطلبون المعمودية يصيرون أحرارا، وكان هذا حقا لهم، ولما كان كثير من هذا الطلب لا يقع عن إخلاص أو عقيدة، وكان بعض هؤلاء المتعمدين إذا حصلوا على حريتهم يعودون إلى ضلالهم، فكان لسادة هؤلاء العبيد الحق في امتحانهم مدة من الزمن، وعند ذلك صار كثير من المسيحيين الذين لا وجدان لهم يمتحنون عبيدهم من المسلمين امتحانات يقصدون بها منعهم من الدخول في النصرانية، ومنهم من كانوا وقد تنصر عبيدهم، يرفضون الموافقة على تحريرهم ويستمرون على إرهاقهم بأشد ما يمكن، ولقد أصدر الباب كليمنفوس الرابع سنة 1266 منشورا أنزل به صواعق الغضب على رئيس دير القديس بندكنس في ميرنده، لكونه عذب رجلا مسلما غنيا كان قد تنصر، وزعم هذا الرئيس أن تنصره كان غير حقيقي وضبط له أملاكه وحرم منها أولاده.
فأنت ترى أنه كان من المسلمين المستعبدين في فرنسة أشخاص ذوو أملاك، وكانوا مثل اليهود يقرضون الأموال بالربا، وكان إذا غضب الشعب على المرابين من اليهود أدخلوا المسلمين أيضا في دائرة غضبهم، وقد قلنا: إنه لم يكن للمسلمين حق في التزوج بمسيحيات، وإن كل مسيحية كانت ترضى بأن يتزوجها مسلم كانت تحرم من حق الدفن في المقابر المسيحية، وكان هؤلاء المسلمون يعطلون أشغالهم في الأعياد المسيحية قسرا.
وبالإجمال فعدد المسلمين الذين تنصروا في فرنسة كان كبيرا،
12
وهذه نتيجة طبيعية للحالة التي كانت يومئذ ولكن الفرنسيس الذين مع الأسف اتخذوا الإسلام دينا كان عددهم أكبر، فإن الغزوات الإسلامية الأولى لفرنسة وسبي المسلمين للذراري من أهلها وما كان التجار يتجرون به من الرقيق، كل هذا قد أدخل في الإسلام عددا لا يحصى من الإفرنج، ومن المعلوم أن المسلمين يتلقون المسيحيين الداخلين في دينهم بمزيد التساهل ويعتنون بهم ويوفرون حظوظهم وأرزاقهم وبهذا كثر عدد النصارى الذين صبأوا عن دينهم ودخلوا في الإسلام.
ولنتكلم الآن عن كيفية حكم المسلمين في فرنسة أيام كانوا سائدين فيها وعن طرز معاملتهم لرعاياهم وعن سياستهم المدنية والدينية والخراجية، فإنهم قد استقروا بعد غزواتهم الأولى في بروفنس ودوفيني وبييمونت وسفواي وسويسرة، ولكن استقرارهم الحقيقي لم يكن إلا في بعض المعاقل الحصينة وفي ضواحيها، ولم يتفق لهم أن استولوا في فرنسة على بلاد بأسرها، نعم كانت في أيديهم معابر الجبال والأنهار، فكانوا يأخذون من السابلة رسوما على المرور، وكان الوادعون منهم يشتغلون بالفلاحة والزراعة، وربما أدوا الضرائب عن محصولاتهم إلى أمير البلاد التي كانوا فيها، أما بلاد بروفنس التي كانت تجاور حصن فركسينت فقد كانت دائما عرضة لعبث عصاباتهم، وفي أوائل فتحهم لجنوبي فرنسة أيام شارل مارتل وابنه ببين القصير لم يطل الأمر أن وقعت بينهم الحروب التي أدت إلى التنفيس من خناق المسيحيين، فكان للقوط في اللانغدوق أمراؤهم وقوامسهم يلون أمورهم وإنما لم يكن المسلمون يعطون هؤلاء الأمراء سلطة عسكرية واسعة فكأنهم كانوا يحفظون حق السيطرة لأنفسهم على الحكومات المسيحية المحلية ، وقد ذكرا يزيدور الباجي المؤرخ المسيحي الذي عاش في ذلك العصر أن عقبة أمير الأندلس في سنة 734 كان يلتزم سياسة ترك الشعوب التي تخضع لحكم المسلمين على قوانينها الأصلية، وقد وقع في يدنا منشور من الوالي المسلم لمدينة قويمرة في البرتغال يظهر منه أنه كانت للمسيحيين إدارة خاصة بهم، ونص هذا المنشور هو ما يلي: يكون على مسيحيي قويمرة كونت يلي أمورهم ويحكم فيهم بالسداد، وكما كانت عادة المسيحيين في الأحكام وله أن يفصل الخصومات التي تقع بينهم، ولكنه لا يقدر أن يحكم على أحد بالقتل إلا بعد موافقة قاضي المسلمين وذلك بأن الجاني يؤتى به أمام القاضي ويقرأ نص الحكم عليه بحسب الشريعة المسيحية، فإذا وافق القاضي أمكن تنفيذ الحكم بالقتل وإلا فلا، ويكون لكل مدينة من المدن الصغيرة قاض خاص بها يحكم فيها بالعدل ويكف المنازعات، وإن أهان مسيحي مسلما عومل بشرع المسلمين، وإن سطا مسيحي على عرض مسلمة أجبر على الإسلام وعلى التزوج بالمرأة التي اعتدى على عرضها، وإلا فالقتل، وإن كانت المرأة محصنا فإن المعتدي على عرضها يقتل بلا مراجعة.
13
وقد وجد نص هذا المنشور في دير لوربان
Lorban
وطبع في أشبونة سنة 1609.
أما من جهة سياسة المسلمين الدينية في فرنسة فليست عندنا عنها معلومات شافية للغليل، وكل ما نعلم أن المسلمين تركوا للنصارى حريتهم الدينية، وأن السواد الأعظم من أهل أربونة مثلا بقوا مسيحيين، وكان عددهم كبيرا، وقد ترك لهم المسلمون كنائسهم وبيعهم مع القسيسين والوفهة الذين يخدمونها، على أنه لم يسمع أن المسلمين في أربونة وما جاورها من فرنسة مثلا متعوا المسيحيين بالحقوق التي أمتعوهم بها في قرطبة والمدن التي في قلب المملكة، نعم إن المسلمين في قرطبة استولوا على كنائسها الكبرى، ولكنهم أبقوا للمسيحيين سائر كنائسهم وتركوا لهم أديارهم التي للرهبان والتي للراهبات على السواء، وتسامحوا معهم في أمر لم يتسامح فيه المسلمون لا في إفريقية ولا في آسية وهو قرع المسيحيين للأجراس
14
في مواعيد صلاتهم، أما في أربونة وما جاورها من المدن فلم يكن للمسيحيين أساقفة كما في قرطبة، ولا كانت لهم أديار ولم يكن السبب في ذلك كله من المسلمين بل كانت هناك فوضى كنسية كما يستدل عليه من كتاب بعث به القديس بونيفاس إلى البابا زخريا سنة 742 وهذه الفوضى كانت ناشئة عن الانقلابات التي أحدثتها حروب أولاد كلوفيس فيما بينهم، أما في شمالي إسبانية فقد وقعت الفوضى الكنسية لدى وصول المسلمين إلى البلاد، ففي أراغون مثلا، عندما جاء المسلمون واستولوا على هذه المملكة، فر الأسقف إلى جبال البيرانه ولم تعد الأسقفية إلى أراغون إلا بعد ذلك بثلاثمائة سنة، أي عندما أجلي المسلمون عن البلاد، ولا يظهر أنه كان في برشلونة أسقفية لعهد وجود المسلمين فيها، بل يظهر أن أمراء المسلمين تحاشوا قبول الأسقفيات في المدن الواقعة في الثغور، وقد كان المسلمون يتركون للمسيحيين كنائسهم على شريطة أن يكتفوا بالقديم منها، وأن لا يؤسسوا كنائس جديدة، وإن بنوا شيئا جديدا منها فلا يكون إلا مكان القديم، وذهب بعض فقهاء الإسلام إلى أنه لا يجوز تجديد الكنيسة الجديدة إلا بأحجار الكنيسة القديمة، ولم يكن للمسيحيين حق في الطواف في الأسواق بالصلبان والأعلام المسيحية ولم يكن أيضا للمسيحيين أن يعارضوا نصرانيا يريد الدخول في الإسلام، وقد تبين من الأمر المتعلق بنصارى قويمرة في البرتغال أنه كان على كل كنيسة دفع ضريبة لبيت المال، مقدارها خمس وعشرون قطعة فضية، وكان على كل دير دفع خمسين قطعة أما الكنائس العظمى فكانت تدفع مائة قطعة.
وقد تقدم أن المسلمين في مدن الأندلس كانوا يعاملون النصارى بالحسنى، كما أن النصارى كانوا يراعون شعور المسلمين فيختنون أولادهم ولا يأكلون لحم الخنزير، ومع هذا فقد وجدت كتابات للمسيحيين من القرن التاسع تدل على أن مراجل البغضاء كانت تغلي أحيانا بين الفريقين، وأنه كان محظورا على المسيحيين إقامة شعائر دينهم علنا بالاحتفال اللازم، وأن المسلمين كانوا إذا سمعوا قرع النواقيس اشمأزوا ونفروا وربما قذفوا وشتموا، ولكن لا ينكر أن المسيحيين أيضا كانوا إذا سمعوا الأذان تعوذوا بالله ورسموا إشارة الصليب على صدورهم، وقد أقر بذلك القديس أولوج
Euloge
الذي كان من المضطهدين سنة 850.
أما من جهة الخراج فقد تقدم أن السمح (ابن مالك الخولاني) أمير الأندلس كان هو البادئ بتنظيم الجبايات واستخراج الارتفاعات سواء في إسبانية أو في جنوبي فرنسة، وقبل ذلك كانت أمور الجباية فوضى والحبل منتشرا، وقد وزع السمح قسما من الأراضي المأخوذة من المسيحيين على غزاة المسلمين وعلى العائلات الفقيرة، بعد أن كان بعض ذوي السلطة قد استأثروا بها لأنفسهم من دون الفقراء، وقد ضم السمح بقية الأراضي إلى بيت المال، وكان الخراج المفروض على أراضي المسلمين هو عشر المحصول بخلاف المسيحيين فقد كانوا يدفعون الخمس، أي ضعف خراج المسلمين، وكان المسيحيون عدا الخمس يدفعون الجزية، وهي إتاوة شخصية كان يتقاضاها المسلمون من المسيحيين في مقابلة محافظتهم على دمائهم وأموالهم وأمتاعهم بحريتهم الدينية، أما من أسلم من المسيحيين فكان معفي من الجزية، وكان ملوك الأندلس يضربون رسما على البضائع والسلع، فالمسلم كان يؤدي اثنين ونصفا في المئة، والمسيحي كان يؤدي خمسة في المئة، وكانوا يسمونها زكاة وكانت تنفق في إعانة الفقراء وافتكاك الأسرى.
وكان المسلمون يسمون المسيحيين الذين خضعوا لهم ودفعوا الجزية المعاهدين أو أهل الذمة، أي الذين لهم على المسلمين ذمة الحماية والمحافظة، أما المسيحيون الذين لم يكونوا خاضعين للإسلام فكانوا يسمونهم أعلاجا واحدها علج، وكانوا يقولون: عجمي لكل من ليس بعربي، ويسمون مشركا كل من يقول بأن الله ثلاثة أقانيم لأن المسلمين لا يرون في الثلاثة الأقانيم إلا ثلاثة أشخاص.
ويحق للإنسان أن يسأل: بأي لسان كان العرب يكالمون الأمم التي تغلبوا عليها؟ فإن من عادة العرب أن لا يحفلوا بغير لغتهم كما أن المسيحيين لذلك العهد كانوا من الجهل والبربرية بحيث لم يكونوا يفكرون في تعلم العربية، ولم يذكر التاريخ رجلا مسيحيا لأوائل أيام الفتح الإسلامي أتقن العربية غير هارتموت
Hertmote
رئيس دير سانغال الذي كان يعرف العربية واليونانية والعبرية، وكان من رجال أواخر القرن التاسع، ولم يبدأ آباؤنا بتعلم العربية إلا في أيام الحروب الصليبية؛ إذ لم يجدوا غنى عن الاطلاع على لغة قوم استولوا على جانب من بلادهم، فكانوا يذهبون إلى إسبانية حيث كانت العربية واللاتينية تعلمان جنبا إلى جنب ويقرأون العربية على أهلها، وفي سنة 1142 أكمل بطرس رئيس دير كلوني
Cluny
أول ترجمة لاتينية للقرآن، وبدأ يكتب الردود على دين الإسلام، وتبعه في ذلك مؤلفون كثيرون من النصارى.
على أننا لا نشك في أنه في أول دخول العرب إلى فرنسة كانت اللغة العربية معروفة فيها، وكان كثير من الإفرنج يحسنون التكلم بها، وذلك لأن العرب كانوا يأخذون أبناء البيوتات النبيلة رهائن على طاعة أهلهم لهم، ويرسلون هذه الرهائن إلى قلب مملكتهم، فكان لابد لهم هنالك من أن يتعلموا العربية، وكذلك كان بديهيا أن الأسرى والعبيد من المسيحيين يتعلمون العربية، فإذا عادوا إلى بلادهم كانوا من جملة الإفرنج الذين يعرفون هذه اللغة، وأضف إلى ذلك المسلمين المستعبدين الذين كانوا في أرض فرنسة فقد كانوا كلهم يتكلمون بالعربية، ولا تنس التجار وزوار بيت المقدس الذين برغم جميع تلك الحروب الهائلة لم ينقطعوا عن التجارة ولا عن الزيارة، وكانوا يختلفون إلى مصر والشام وغيرهما من بلاد الإسلام، ومن جملة هؤلاء الإنكليزي القديس غيلبود
Geillebaud
الذي ذهب إلى الشرق ووصل إلى الشام سنة 734 للمسيح، وقيل: إنه عند وصوله إلى دمشق قبض عليه على ظن أنه جاسوس، فلما علموا أنه قادم لزيارة بيت المقدس خلوا سبيله، فطاف في سورية وفلسطين بدون معارضة؛ ولكن لم يقع في أيدينا شيء من المعلومات عما دار من الأحاديث بين الخليفة في دمشق وبين القديس المذكور.
وكان المسيحيون في ذلك العصر مستسلمين للأقدار يعتقدون أن غزوات العرب لبلادهم إنما هي عقاب من الله تعالى للبشر على خطاياهم فكانوا راضين بما قدره الله عليهم لا يحاولون دفع ما نزل بهم ولم ينهضوا في أوربة لاستعمال الوسائل البشرية الكفيلة بدفع الأذى عنهم إلا في أيام الحروب الصليبية.
وكان المسلمون في غاراتهم يستعملون السبي فيربون الصبيان إلى أن يبلغوا رشدهم، ويجعلونهم جنودا، ويربون الصبيات إلى أن يبلغن رشدهن فيتخذوهن حلائل، وكانوا في أي مكان شنوا فيه الغارة وضعوا ذلك نصب أعينهم، تأمل في كيفية حلولهم بجزيرة أقريطش، فقد تقدم أن خمسة عشر ألفا من ربض قرطبة أجلوا عن الأندلس على أثر فتنة الربض المشهورة، فجاءوا إلى الإسكندرية، ومن هناك عزموا على النزول في أقريطش نظرا لحسن هوائها وجودة تربتها، ولما وصلوا إلى تلك الجزيرة أمرهم قائدهم بأن يبدأوا بالعمارة، وأحرق السفن التي جاءوا بها، فصاح رفاقه به قائلين له: كيف يمكننا بعد الآن أن نراسل نساءلنا وأولادنا؟ فأجابهم: إنني أعطيتكم وطنا جديدا وهذا الوطن هو الذي يكفل لكم إيجاد نساء تتزوجون بهن، وبعد ذلك عليكم أنتم أن تنسلوا الأولاد، ولما جاء المسلمون ودخلوا أرض فرنسة فاتحين لم يكن لهم مقصد سوى نشر دين الإسلام وإخضاع فرنسة وكل أوربة لأحكام القرآن، ولكن فيما بعد ذلك دخل في تلك الغزوات مقاصد أخرى، كحب النهب أو الأخذ بالثأر، ومن هذا القبيل نزول العرب في أواخر القرن التاسع في أرض بروفنس.
وقد ذكر المؤرخ ليو تبرند كيفية فتح العرب لصقلية فقال: إن أمير صقلية من قبل إمبراطور القسطنطينية كان قد خرج من طاعته، فأرسل يستنجد أمير العرب في القيروان، فشاور هذا أعوانه فيما يفعل، فأشاروا عليه بإصراخه، ولكن على شرط أن العسكر الإسلامي يأخذ ما يمكنه من الغنائم ويقفل بدون استقرار في تلك الجزيرة، وذلك لأنهم لمعرفتهم بشدة قرب صقلية من الأرض الكبيرة كانوا يعتقدون أن مقام أمة تخالف أهل تلك الديار في اللغة والعقيدة لا يمكن أن يكون هناك لا طويلا ولا وطيدا، وأنه لا مناص من أن يكر اليونان والإفرنج فيسترجعوا تلك الجزيرة ولو بعد حين، قيل: إن أحدهم سأل يوم عقد تلك الشورى بشأن غزو صقلية ما مقدار المسافة التي تفصل بين الجزيرة والأرض الكبيرة؟ فأجابوه بأن الإنسان يقدر أن يأتي ويرجع مرتين أو ثلاثا في النهار، فسأل: وكم المسافة بين صقلية وإفريقية؟ فقيل له: مسافة يوم وليلة. فقال: لو كنت طيرا ما رضيت أن أجعل مقامي بهذه الجزيرة والحال هي هذه من جهة المسافة. ذكر ذلك النويري. والحقيقة أن المسلمين لم يعولوا على البقاء في صقلية إلا بعد أن رأوا أمورها فوضى، وبعد أن وجدوا أمراء تلك البلاد يستعينون بهم بعضهم على بعض، لا تجمعهم جامعة قومية ولا تضمهم صارخة وطنية.
أما الآثار الحجرية التي تركها المسلمون في فرنسة على أثر غزواتهم فيها فهي قليلة جدا ففي أربونة مثلا حيث بقي العرب نحوا من أربعين سنة، لم نجد لهم بناء خاصا بهم، وغاية ما عملوا أنهم زادوا في تحكيم القلاع التي فيها حتى جعلوها في مناعتها لا تؤخذ، ولكن لم يجد المؤرخون هناك كتابات عربية ولا آثارا يتحققون كونها عربية. وقد قيل عن بناء في مدينة سردانية التي بجوار جبل لويس: إنه من عمل المسلمين، ولكن ذلك القول لم يثبت لأنه بناء لا يشابه أبنيتهم المعهودة، نعم يوجد في جنوبي فرنسة كثير من المسكوكات العربية وأكثرها ليس عليه ذكر الملوك الذين ضربت في أيامهم، ولا ينكر أنه في أواخر القرن التاسع للميلاد كان المسلمون قد قطعوا مراحل بعيدة في المعارف والفنون وأخذوا يتقدمون يوما فيوما في المدنية، وفي ذلك الوقت كان نزولهم في بلاد بروفنس ودوفني وسافواي وسويسرة، ولا نزاع في أن مسلمي إسبانية وصقلية بل مسلمي إفريقية نفسها كانوا في ذلك العصر أرقى من مسيحيي فرنسة والبلاد المجاورة لها التي كانت غائصة في فتن كقطع الليل المظلم ولسنا الآن في صدد المدنية الباهرة التي أثلها العرب في الأندلس فمن ذا الذي لا يسمع بعظمة جامع قرطبة الأعظم، ومن لا يعلم ما شاده العرب من الجسور والمعابر وشقوه من الأنهر والجداول لري الأراضي، وما بنوه من القصور المنيفة الشامخة، ولعمري لم ينحصر فضلهم في الصناعة والفن بل كانت لهم القدم الراسخة في العلوم العقلية والفلسفة وكانوا ترجموا إلى العربية كتب أرسطو وأبيقراط وجالينوس وديسقوريدوس وبطوليماووس وغيرهم، وكشفوا من العلم أسرارا جديدة أضافوها إلى ما تلقوه عن غيرهم. فكان تفوق العرب على المسيحيين في ذلك العصر حقيقة ثابتة لا مراء فيها وكان المسيحيون يفتقرون إليهم في العلم ويردون حياضهم فيه، وقد روى المؤرخون أن شانجة ملك ليون كان في سنة 960 جاء إلى قرطبة ملتمسا الاستشفاء، لدى أطباء العرب، من مرض كان قد أعياه شفاؤه، فوجد عند أطباء العرب الراحة التي كان ينشدها وبقي طول حياته يذكر الحفاوة التي استقبل بها والاعتناء الذي رآه في قرطبة بشأنه، وفي تلك الأيام كان راهب اسمه جربرت انتجع إسبانية، طلبا للعلوم الطبيعية والرياضية، فبلغ من العلم مبلغا خيل لعامة فرنسة إذ ذاك أنه ساحر.
15
أما العرب الذين جاءت عصائبهم ونزلت في أرض فرنسة وتدرجت إلى جبال الألب فلم يكونوا من النمط الأول؛ أي من الذين يريدون أن ينشروا ثقافة أو يؤثلوا مدنية، وإنما كانت غاراتهم كلها منبعثة عن طمع في النهب وغرام بالكسب. فالنهضة الحقيقية في أوربة لم تبدأ إلا منذ القرن الثاني عشر أي منذ زحف أهل الغرب لقتال أهل الشرق، ووجدت النصرانية والإسلام في الصراع وجها لوجه، فوقع الاحتكاك بين المسلمين والمسيحيين، وأفاق الفرنسيس والإنكليز والألمان من رقدتهم ونفضوا عنهم غبار الخمول، ووجدوا ضرورة المشاطرة في المدنية الإسلامية، وكان علم اللغة اليونانية قد درس، وصار العلم اليوناني غير معروف إلا عند العرب، فأخذ المسيحيون من فرنسة وجوارها يؤمون إسبانية لأجل ترجمة التآليف العربية المنقولة عن اليونان، وذلك إلى اللغة اللاتينية التي كانت يومئذ لغة الكتابة والعلم في أوربة، وقد بقيت هذه التراجم إلى القرن الخامس عشر هي عمدة الجامعات والمدارس في معرفة علوم يونان.
ولا مندوحة لنا عن أن نقول كلمتين عن آثار هؤلاء العرب الذين نزلوا في فركسنيت، فإن الأثر الذي أثروه هناك من الآبار المحفورة والأسراب المكفورة والحجارة المنحوتة والأبنية المحكمة لا تزال بقاياه بارزة للعيان، دالة على صبر عجيب وهمة بعيدة، ولكن لم يوجد على شيء من ذلك الحصن كتابات عربية كما وجد في الحصون التي من بناء العرب في الأندلس.
وقد ذكروا أن حصونا كثيرة على قنن الجبال هي من بناء العرب المذكورين وأنه كانت لهم أبراج كثيرة منتظمة بلبة الساحل الإفرنسي والإيطالي، اختاروا لها تلال الجبال لتوقد بها النيران ليلا على حسب عادة العرب الذين كانوا يشبون هذه النيران إيذانا بوقوع الحرب وطلبا للمدد وجمعا للقوة. وقد ذكر ذلك المسيو ألفونس ده نيس
Denys
في كتابه النزهة البديعة في مقاطعة الفار، وكذلك جاء في كتب العرب كلام على الأربطة والمراقب التي شادها الأمير عقبة بن الحجاج السلولي، أمير الأندلس في جنوبي فرنسة، في نواحي سنة 734 وقد ذكر أيزيدور الباجي أن السمح بن مالك الخولاني الذي تولى قبل عقبة إمارة الأندلس، قد بنى هو جانبا من هذه الأبراج، ولكننا لا نعلم لماذا ينسبون بناء هذه الأبراج كلها إلى العرب، ولماذا لا يجوز أن يكون أهل البلاد أنفسهم هم الذين بنوها، أو بنوا بعضها، احتياطا لأنفسهم ومراقبة لأعدائهم.
16
هذا ومما وجد من آثار العرب في فرنسة الأطالس الحريرية والأسفاط الثمينة من العاج والفضة والكؤوس البلورية والأسلحة النفيسة، ولا يزال منها جانب في خزائن الكنائس وفي مخادع الغواة؛ والناس تقومها بأثمان غالية مما يدل على مكانة الصنعة العربية في الأنفس، ولكن من المحقق أن أكثر هذه المصنوعات العربية هي من عصر متأخر عن القرن الثامن، ولم يكن مقام العرب بفرنسة خاليا من تأثير في طرق الزراعة فإن هؤلاء القوم لم يحلوا في مكان إلا طبقوا الأراضي بالعمل، وجروا الأقنية، ونسقوا من تحتها الجنان شاهدك على ذلك تلك البساتين المنقطعة النظير، في مرسية وبلنسية وغرناطة، ويقال: إن العرب الذين نزلوا في بروفنس هم الذين بدأوا في استثمار شجر البلوط، ولا يزال هناك غابة منه يقال لها: غابة المغاربة. وكذلك العرب هم الذين كانوا يستخرجون القطران من أشجار الصنوبر والأرز، ويقلفطون به المراكب، ولهذا تجد أهالي بروفنس لا يقولون للقطران غودرون
Goudron
كما يقول سائر الفرنسيس، بل يقولون قطران
Quitran .
17
وقالوا: إن العرب هم الذين أصلحوا جنس الخيل في فرنسة، وذلك أنهم كانوا يأتون على سفنهم بالجياد العراب ليتسنى لهم عليها بث الغارات في داخل البلاد، فبقي جنسها في فرنسة من ذلك الوقت والآن يوجد صنف من الخيل في مقاطعة كامرغ
Camergue
متولد من ازدواج الخيل الأندلسية بخيول تلك المقاطعة.
ومما يظنه الناس من بقايا عادات العرب نوع الرقص الذي يطلع عليه الإنسان في جنوبي فرنسة وهو يختلف باختلاف الأماكن، فمنه زفن يقع في الليالي يرقص فيه الشاب بين فتاتين، وفي أثناء رقصه يقدم فاكهة تارة إلى هذه وطورا إلى تلك، ومنه ما يقف فيه الراقصون خطا، بإزاء الراقصات خطا، ثم يشتبك الخطان أحدهما بالآخر والشخص الذي يكون على رأس كل من الخطين يعمل إشارات يقتدي بها الآخرون، وهناك رقص عسكري يرقص فيه اثنان كل منهما متقلد سيفا يحاول أن يصيب به الآخر أشبه بالأقران في ساحة القتال إذا أرادوا أن يهاجموا أو يدافعوا.
أما وجود أناس في فرنسة نقدر أن نحكم عليهم حكما باتا بأنهم من أصل عربي فغير محقق، قيل لنا: إن قوما يسكنون على ضفاف نهر الصاوون، بين ماصون وليون، لا سيما على الضفة الشمالية أنهم من بقايا شرذمة من العسكر العربي انقطعت عن مجموع الجيش في أيام شارل مارتل وقالوا: إن لهؤلاء عادات خاصة وألفاظا خاصة قد تكون باقية من اللغة العربية ولكن شيئا من هذا لم يتحقق، لا سيما أن تلك الألفاظ هي في الحقيقة مشتقة من اللاتينية، أو باقية من الإفرنسي القديم وأن البلاد الواقعة بقرب ماصون لم ينزل بها عرب بل كانت ملجأ لمن فروا من وجه العرب، وكذلك قيل: إن جماعة من سكان البلاد المجاورة لجبال البيرانه، يقال لهم: كاغوت، هم من أصل عربي. ولكن لم يثبت شيء من هذا، بل الأرجح أن هذا الجيل من الناس هو من جملة الأجيال الغريبة المنتشرة في بريطانية وأوفرنيه باسم كاكو وكابوت وما أشبه ذلك.
ثم إنه كما لا يخفى في زمن الملك هنري الرابع هاجر من إسبانية إلى فرنسة عدد كبير، نحو من مائة وخمسين ألف نسمة من مسلمي الأندلس، فرارا من تضييق فليب الثالث ملك إسبانية الذي منع أن يجتمع في جزيرة الأندلس دينان، وأجبر بقية المسلمين فيها على التنصر بالنار والسيف، ولما وجد أن الكثرين منهم لا يزالون مسلمين باطنا، وأن لهم علاقات بالدولة العثمانية التي كانت في ذلك العصر ذات صولة عظيمة، أجمع أخيرا على طردهم من بلاده، فجاءوا إلى فرنسة ولكنهم لم يكونوا في فرنسة إلا عابري سبيل؛ لأنهم أبحروا من سواحل فرنسة إلى إفريقية والبلاد العثمانية ومن بقي منهم في فرنسة تنصر واندمج في مجموع الأمة كما أشار إلى ذلك شينيه
Chenier
في كتابه المباحث التاريخية عن المغاربة.
18
أما تأثير الأدب العربي في آداب لغات الأمم الساكنة في جنوبي أوربة، فقد قيل فيه: إنه وقع في لغة الأوك
Oc
التي كان يتكلم بها أهالي جنوبي فرنسة وكتلونية، إذ هناك أقام العرب طويلا، وقد دخل في اللغة الإفرنسية كلمات كثيرة من العربية لا مراء فيها، وهذا الاختلاط في اللغات لم يقع بخاصة أيام وجود العرب بفرنسة، بل قد وقع أكثره بعد جلائهم عنها؛ لأن العلاقات التجارية لم تنقطع بين العرب والفرنسيس في يوم من الأيام، وبالإجمال فتأثير العرب في فرنسة كان أقل مما يتوهم الناس، وإن ما أجروه فيها من العيث والتدمير ليتضاءل في جانب ما خربه النورمانديون والمجار، بل نقدر أن نقول: إنه بقيت للعرب مكانة عظيمة في نفوس الناس، حتى أصبحت لفظة سرازين ولفظة روماني كأنهما واحدة، وحتى تعود العامة أن ينسبوا إلى السرازين أي العرب كل ما يرونه كبارا أو جبارا.
ومن الغريب أنه لم يبق من غارات النورمنديين والمجار إلا تذكارات في بطون التواريخ، والحال أن تذكار غزو العرب لفرنسة لا يزال في جميع الأذهان كأنه حديث العهد، وقد وقعت غزوات العرب قبل غزوات النورمنديين والمجار، واستمر وجودهم في البلاد إلى ما بعد جلاء المجار واندماج النورمنديين في مجموع الأمة، إلا أن غزوات العرب الأولى كان فيها من العظمة والأبهة ما لا يمكن أن يقرأه الإنسان إلا وتعروه الدهشة والحيرة، وكان العرب يمتازون عن النورمنديين والمجار بكونهم أمة بقيت مدة طويلة تسير على رأس المدنية العامة، وأنهم بعد جلائهم عن فرنسة لم تزل تحت الرعدة من احتمال غاراتهم، ثم إن الحروب العظيمة التي تولوا كبرها، سواء في الأندلس أو في إفريقية أو في آسية في وجه الصليبيين، قد أضافت إلى اسمهم لمعانا جديدا فوق اللمعان الذي كان من قبل، وكل هذا لم يكن كافيا في تفسير مكانة العرب المكينة في الصدور لولا قصص الفرسان والفروسية التي كان يتغنى بها أهل فرنسة وجوارها، خلفا عن سلف، فقد كانت هذه القصص تكاد تكون الأسمار الوحيدة للأمراء والنبلاء، بل الأسمار الوحيدة لعامة الشعب، وإنما كان يعجب بتلك القصص وهاتيك الأخبار من سير الأبطال كل من كان يدعى نفسا عالية وحسا نجيبا، وقد تضاءل كل تاريخ بجانبها وهزل كل أدب ما عداها، وكان أكثرها شعرا ولهذا الشعر رواة اختصوا به، يذهبون من بلدة إلى بلدة ومن قرية إلى قرية، فينشدونها الجماهير التي تترنح لها أعطافهم، وكان لا يحتفل بعيد ولا بموسم إلا اندفع أولئك الرواة في إنشاد تلك القصائد عن سير أبطال الوطن، وكانت أكثر هذه السير تدور على حروب المسلمين، وعلى ما جالده صناديد الفرنسيس في دفع غاراتهم، ولما كان في هذه القصص وتلك القصائد من المبالغة ما هو جدير بكل القصاص الذين يترنمون بوقائع الأبطال، كانت الواقعة الواحدة تتجسم وتنمو وتصبح أضعاف ما هي تجسيما لفضل أولئك الذين تولوا كبر تلك الوقائع، حتى صار في تاريخ كل مدينة وكل بلدة من فرنسة وإيطالية أمير عربي أو بطل عربي يبارزه أمير إفرنسي أو بطل إفرنسي وبعد أن يشتد البراز ويطول العراك وتظهر فيه خوارق الأقدار، ينتهي بالبداهة بتغلب البطل الفرنسي على البطل العربي.
وبالجملة فقد كان العرب لذلك العهد، هم الأمثلة العليا والأقيسة البعيدة، في الشجاعة والشهامة وعزة النفس ومكارم الأخلاق والعفو عند المقدرة وقرى الضيف، تشهد بذلك وقائع ونوادر كثيرة، منها ما رواه بعض مؤرخي الإسبانيول من أنه في سنة 890 أراد ملك أشتورية، أذفونش الكبير، أن ينتدب مؤدبا لابنه وولي عهده فاستدعى اثنين من مسلمي قرطبة، حرصا على تهذيبه؛ إذ لم يجد في المسيحيين إذ ذاك كفؤا لهذه المهمة.
ومن الغريب أنه في قصة من قصص الفروسية المتعلقة بشارلمان الكبير يروون أنه في صغره ذهب واقتبس من أنوار العرب، وأنه من تأثير ذلك تمكن من إدارة تلك السلطنة العظيمة التي جدد بها مجد العالم الغربي، وقد بقيت هذه الأقاصيص هي المعول عليها في الأندية والمجامع، وهي الفكاهة المستطرفة في المواسم والمحافل إلى عهد غير بعيد، ولم يدخل التمحيص التاريخي عندنا إلا منذ مائة وخمسين سنة؛ إذ أخذ الناس ينبذون ما هو من عمل الخيال إلى ما هو من لباب الوقائع الراهنة.
وختام القول: إنه لو نشر موسى بن نصير وطارق بن زياد وعبد الرحمن الناصر والمنصور بن أبي عامر، ورأوا ما هي عليه الحالة في زماننا هذا، لوجدوا اختلافا كثيرا في بيئتي المسيحيين والمسلمين، عما كانتا عليه في الأعصر السالفة. ولكن مما لا شك فيه أنهم بعد الوهلة الأولى كانوا يبتهجون بالمكانة العليا التي جعلها القصاص والزجالون من آبائنا لأعمالهم الكبيرة، وكانت نفوسهم المشغوفة بمعالي الأمور تقابل بمزيد الإكبار ذلك الشعور النبيل الذي كان يختلج عند من نسميهم البرابرة من آبائنا والذي لا يزال يتلاشى يوما فيوما.
انتهى كتاب رينو ببعض اختصار وتصرف.
هوامش
كتاب غارة العرب على سويسرة في أواسط القرن العاشر
تأليف الدكتور فرديناند كلر
Der einfall der Sarazenenen in die Schweiz.
um die mitte des X Jahremderts.
Von dr Ferdinand Keller.
Mittheilungen der antiquarischen.
Gesellsehaft in Zurich.
وهو كتاب بالألمانية، نشرته شركة «الآثار العتيقة» في زوريخ، في سنة 1856 وقد أطلعنا عليه العلامة الأستاذ «البروفسور هس» مدرس التاريخ والألسن الشرقية في جامعة زوريخ من سويسرة، وذلك في سنة 1919 وهو أول كتاب اطلعنا عليه في هذا الموضوع، فلخصناه يومئذ، ونشرنا خلاصته في مجلة المنار لصاحبها الأستاذ العلامة السيد رشيد رضا، ثم إننا رأينا نقل هذا الكتاب برمته إلى العربية في كتابنا هذا، ولم نختصر منه إلا في المظان التي ليس فيها طائل.
قال فرديناند كلر في كتابه:
قال ليوبراند (Liuprand) : إنه بحسب إرادة الله التي لا يدرك سرها، قد جرى في سنة 891 أنه جاء عشرون عربيا في مركب صغير من سواحل إسبانية، قذف بهم الريح بالرغم منهم نحو خليج القديس تروبز
St Tropez
في بروفانس
. فنزلوا إلى البر هناك، على عادة لصوص البحر، وكان نزولهم في جوف الليل فتسللوا إلى قرية «تروبز» وفتكوا بأهلها المسيحيين، وملكوا الناحية، ثم اتخذوا معقلا الجبل المسمى موروس
Maurus
ليكونوا في حرز حريز من عادية الأمم المجاورة، وكان ذلك الجبل مغطى بالأشجار الشائكة التي كانوا يحتمون بأشواكها وألفافها، ولم يجعلوا فيها سوى شعب واحد لأنفسهم يمرون فيه، وهذا المكان يسمى فراكسينيتوم
Fraxinétum
1
يحده البحر من جهة ومن جهة أخرى غابة مؤتشبة مشتبكة الأغصان، من نشب فيها نفذت فيه أشواك أحد من الحراب فلا يقدر أن يتقدم ولا أن يعود، فأمنوا في هذا المكان المنيع وصار لهم سربا وصاروا يجولون في الجهات المجاورة بدون وجل، واثقين بمكمنهم هذا، ثم أنفذوا رسولا إلى إسبانية لأجل أن يندب الناس من قومهم، ليلتحقوا بهم، فمدح الرسول المكان وأطمع الناس فيه، وقال: إن أهالي تلك البلاد لا يخشى بأسهم وليسوا بجمرة قوية فلم يلبث إلا قليلا حتى رجع ومعه مائة رجل من العرب، جاءوا ليتحققوا ما ذكره لهم الرسول عن هذا الموقع وطيب نجعته.
وقد أسعف غارة العرب هذه ما كان بين أهل بلاد بروفانس، من الشقاق البعيد، وقيام بعضهم ضد بعض، فكان بعضهم لأجل أن يستأصل البعض الآخر يستنجد هؤلاء العرب العفارية المكارين، فكان من اختلاف أهالي تلك البلاد، ومن توالي النجدات إلى العرب من إسبانية، أن أصبح هؤلاء آمنين في سربهم، وشرعوا يجولون ويسلبون ويقتلون كيفما شاءوا، وكيفما لاح لهم الصيد، واجتاحوا تلك البلاد الخصيبة اجتياحا تاما وأصابوا فيها مغانم كثيرة.
هذه هي الرواية الحرفية لمؤرخ معاصر
2
عن نزول المسلمين في سواحل بروفانس وعن طبيعة جبل «فراكسيناتوم» وكيفية تحصينهم له، بحيث بقي مدة سنين طوال مركزا لقوتهم في هذا الجانب من أوربة وصيصية يمتنعون بها ويبعثون منها شراذم كثيرة أو قليلة إلى الجنوب، وإلى الشرق من جبال الألب البحرية، وما عتموا أن صارت لهم شوكة يتحدث الناس بها، برعب الناس منهم، وباعتمادهم هم على أنفسهم، وكانت لهم غزوات بعيدة المغار، لأجل الغنائم، فإذا لم يجدوا أمامهم من يقرع النبع بالنبع نهبوا تلك الأديار الغنية والمدن المحصنة والمعاقل التي كان يسكنها أشراف البلاد، وتركوها قاعا صفصفا كأن لم تغن بالأمس.
والذى يظهر جليا من روايات مؤرخي ذلك العصر أن هذه الغارة لم تكن ذات مغزى سياسي كغيرها من الغارات، ولا كان لها غرض راجع إلى توسيع ممالك الدولة الإسلامية الأندلسية، ولم يكن مقصد هذه العصابة إخضاع أهالي هاتيك البلدان لسلطانها. وذلك لأن عددها لم يكن كافيا لتحقيق دعوى كهذه، وقصارى ما كانت ترمي إليه أن تحوز الذهب والكنوز التي تعثر عليها، وتعود بها إلى معقلها في جبل فراكسيناتوم، وأنها إذا وجدت طالع الحرب قد خانها تشحنها في السفن الراسية في خليج فركسيناتوم وتطوير بها بجناح الريح قافلة إلى إسبانية، وكذلك يظهر أن خليفة إسبانية لم يكن ذا علاقة بهذه العصابة التي تطوحت في ذلك الفج السحيق ولا أتاها أدنى مدد من جهته.
3
وأما السؤال عن الوقت الذي اجتاز فيه المسلمون جبال الألب، وتوغلوا في أرض إيطالية، فإنه لا يجد جوابا مستندا على معلومات دقيقة ويجب أن يكون هذا الحادث قد وقع على كل حال في أوائل القرن العاشر، فقد دلنا محرر المذكرات اليومية لدير «نوفاليز»
Novalese
الذي على مقربة من «سوزا»
Susa
بحذاء جبل «سنيس»
Senis
على أن غارة المسلمين كانت في نواحي سنة 906، فمنذ تلك السنة كانوا في «بروفانس» و«بورغوند»
Burgund
و«شيمله»
Cimella
حول «نيسه»
Nizza
يجولون ويقتلون ويحرقون، ومن المحقق أنهم في هذه السنة كانوا يتوقلون في جبل سنيس وكانوا قد فتحوا الباب نحو بلاد سافواي وسويسرة، وفي أسفل هذا الجبل كان دير نوفاليزه الذي كان من أعظم الأديار وأغناها، فلما سمع الرهبان بلصوصية هؤلاء القوم وبقسوتهم، وكانوا يعرفون جيدا ما وراءهم حزموا ما في الدير من الأشياء الثمينة ومن جملتها خزانة النفيسة وذهبوا بها إلى تورين لتكون بمأمن. فما كادوا يفارقون الدير حتى جاء المسلمون واكتسحوا كل شيء وأحرقوا الكنيسة والبناء كله، وكان راهبان طاعنان في السن قد بقيا في الدير لأجل حراسته فقبضوا عليهما وأهانوهما.
4
وفي ذلك العهد أصبحت البلاد الواقعة بين نهري «بو»
و«الرون» مجالا للغارات والعيث، فالبييمون وبروفانس وبلاد «دوفيني»
Dauphiné
و«مونتفرات»
Montferrat
وبلاد «تارنتيزة»
Tarentaise
كانت كل سنة عرضة للدمار والنار، وقد حدث مدونو الوقائع اليومية في ذلك العصر عن حوادث ترعد لها الفرائص، مما فعله هؤلاء العرب ورووا كيف كانوا يهجمون على التجار والزوار عابري السبيل، ويسلبونهم ما معهم وإذا حاولوا الدفاع عن أنفسهم يقتلونهم.
5
وكان أكابر القوم لا سيما الرؤساء الروحيون الذين يؤمون رومة واقعين تحت الخطر الشديد من غارات العرب، بسبب ما يحملون من الذخائر وما يستصحبون من الأعلاق النفيسة، وأما في القرى فلم يكونوا يقتصرون في النهب على الخيل والمواشي، بل كانوا ينهبون كل ما له قيمة، ويقبضون على الرجال والنساء والأطفال ويبيعونهم في سوق الرقيق، وكانوا إذا رأوا مقاومة من بعض البلاد وطاح منهم أناس في المعركة، انتقموا لأنفسهم بإحراق هاتيك المدن حتى يصيروها رمادا، وكانت تنقطع العلاقات والمواصلات أحيانا بين البلاد بسبب غارات العرب وكان أهالي الأماكن التي يهاجمها المسلمون يفرون ويلجأون إلى الجبال والغابات، وربما قاوموا العرب وربما كانت لهم الغلبة عليهم، إلا أنهم لم يكونوا يقومون عليهم بصورة نفير عام ولا كان ينتدب لهم يومئذ أدلاء مستبسلون، وأشنع شيء كان هو عدم الوئام بين أهالي البلاد، بسبب عداوة الأمراء بعضهم لبعض، واستنجادهم في حروبهم الداخلية بهؤلاء الأعداء، وكان من الطبيعي أن يوجه العرب كل همتهم إلى الاستيلاء إلى الطرق العامة، وبنوع خاص على معابر جبال الألب، لأنهم كانوا يرون في ذلك أحسن طريقة للكسب والسلب، فكانت المتاجر والبضائع تقع هناك تحت أيديهم على طرف الثمام وكان المسافرون الأغنياء يأخذون معهم في أسفارهم كل ما يلزم لهم، فكان في ذلك مطمع عظيم للمسلمين، وكانوا في تلك الطرق الجبلية يتمكنون من استقبال السابلين بالسهام والحجارة، ومن إلقائهم في الأودية والمهاوي بحيث إنهم بعدد غير كبير كانوا يقدرون على ما لا تقدر عليه الجيوش الكبيرة.
وروى «فلودوارد»
Flodoard
في تعليقاته السنوية أن المسلمين سنة 921 أتوا على قافلة من حجاج الإنكليز كانت ذاهبة إلى رومة، فلقوها في بعض أودية الألب، واستأصلوها، وبعد ذلك بسنتين لقوا قافلة إنجليزية أخرى وفتكوا بها، ثم إنهم في سنة 929 لقوا قافلة حجاج أخرى أيضا، فاضطر هؤلاء إلى الرجوع قبل أن يقعوا في أيديهم، ولما كان غير ممكن تعيين أماكن هذه الوقائع فلا نقدر أن نحكم في أي محل حصلت، أفي ضمن حدود إيطالية إلى جهة سويسرة، أما في حدود فرنسة؟ وإذا فكرنا أنه كان من عادة المسافرين الإنكليز الذين يقصدون رومة أن يجتازوا من معبر سان برنار،
6
لزم أن نرجح كون الوقائع المذكورة جرت في ضمن حدود إيطالية، ولقد اطلعنا على تاريخ يثبت أن كنوت “Knnut”
ملك إنكلترة والدانمرك الذي كان يلقب بالكبير كان قد طلب من رودولف “Rudolf”
الثالث ملك برغوند
Burgond
أن يأمر بالتسهيلات اللازمة سواء من جهة تأمين الطرق أو من جهة الإعفاء من الرسوم للقسوس والتجار والحجاج الذين من ممالكه يؤمون رومة.
7
في أي حقبة من القرن العاشر تمكن العرب من معبر سان برنار الذي كان يسمى حينئذ بجبل جوفيس “Mont Jovis”
وفي أية سنة بسطوا سيادتهم على تلك البقعة؟
هذا شيء لا نقدر أن نحدده، نعم توجد كتابات، من ذلك الوقت، متعلقة بهذه الحوادث، إلا أنها لا تحتوي على تواريخ يمكن الاعتماد عليها، والذي يظهر من كلام رينو
8
أنه يميل للقول بأن هذه الحوادث جرت في سنة 939 لكننا سنرى فيما يأتي أنها جرت قبل هذا التاريخ.
9
ومن المحقق أن العرب نزلوا سنة 940 من جبال سان برنار العالية إلى وادي الرون الخصيب، حيث كان مبنيا دير أغاوونوم “Agaunum”
العظيم، المؤسس على اسم سان «موريتيوس
Mauritius » وأصحابه، والذي كان فيه ذخائر كثيرة من الذهب والفضة وأصناف الجواهر، المهداة إليه من الملوك الكارلوفنجيين والبورغونيين، وكانت محفوظة ضمن حيطانه، ففي السنة المذكورة هجم العرب على هذا الدير ونهبوه وأحرقوه وتركوه رمادا، ولم يمض إلا قليل حتى جاء القديس «أولريك»
Ulrich
أسقف «أوغسبورغ»
Augsburg
في أثناء سفرته إلى برغوند، وزار هذا المكان لأجل نقل عظام الشهداء التي أذن له كونراد ملك بورغوند في دفنها في أوغسبورغ، ولم يكن باقيا هناك سوى خادم واحد يحرس البناء الذي صار طعمة للنار.
10
ومما جاء في تاريخ «فلودوارد» أنه في سنة 940 جاءت قافلة مؤلفة من حجاج إنكليز وغاليين، كانوا قاصدين رومة، فبعد أن فقدت بعض رجالها رجعت من حيث أتت لأن العرب كانوا قد استولوا على القرية والدير المذكور.
وقد ذكر مؤرخو الفرنسيس كتابا محفوظا موجها من راهب من دير سان «موريس»
St-Maurice
اسمه رودولف إلى ملك فرنسة لويس الرابع المسمى «أوترمير»
Outremer
يقول له فيه: كم ألقى الله من سلام على ملوك فرنسة من «كلوفيس» و«داغوبرت» إلى كارل الكبير
11
لكونهم اعتنوا بهذا المكان وقدسوه، وهو يلتمس منه أن ينفق على هذا المكان لأجل تجديد بناء الدير وترميم قبور القديسين الذين دفنوا فيه.
وفي ذلك الوقت كانت العصابة من دعار العرب الذين جعلوا مساكنهم في جبال الألب المعروفة بالألب البونينية
قد بدأت تشن الغارات على بحيرة جنيف وبلاد «فاد»
12
كما ذكر المؤرخون المعاصرون، ويظهر أنها كانت استولت على معابر جبال الألب الشرقية، فإذا كان ينقصنا تواريخ مضبوطة عن دخول العرب إلى جبال الألب الغربية، وجوسهم الأودية التي تتخللها، فإن عندنا قاعدة متينة لتاريخ وجودهم في شرقي سويسرة، بما هو محفوظ من الوثائق التاريخية في سجلات «كور
Chur » الأسقفية. فإن فلودوارد يذكر من جملة وقائع سنة 936: «أن العرب شنوا الغارة على سويسرة الألمانية وقتلوا كثيرا من الحجاج الذين كانوا قافلين من رومة».
ومما لا ينقدح فيه أدنى عارض من شك أن جانبا من سويسرة الألمانية وهو القسم الذي من «كور» إلى وادي «الرين» كان المسلمون قد اكتسحوه. وليس هذا القسم سوى جبال الألب الراتية
Ratische
العليا فإن ثبت هذا الرأي فقد ترتب عليه إما أن تكون غارة العرب على مقاطعة «فاليس
Wallis » قبل سنة 939 أو أن يكون احتلالهم لجبال الألب الراتية سبق احتلالهم لجبال الألب البونينية، وليس من المحقق ما ذهب إليه فلودوارد من أن احتلال العرب لمعابر الألب سنة 936 أو سنة 933 يعني به احتلالهم جبال الألب الراتية، وإنما المحقق كون «كور» ونواحيها قد اجتاحها العرب قبل سنة 940 وأنه ليكون ذا بال أن تتمكن من معرفة الطريق التي سلكها العرب عندما تبطنوا أحشاء هذه البلاد، هل جاءوا من البيامون منقسمين شطرين، شطر منهم اتبع جبال الألب الشرقية، والشطر الآخر اتبع جبال الألب الغربية من سويسرة؟ الجواب: ليس بمستحيل أن يكونوا قصدوا ناحية «راتين» وبلغوها برغم قلة عددهم، معتمدين على بسالتهم والرعب الذي وقع في قلوب الناس منهم، ففتحوا طريقا لأنفسهم على ضفاف بحيرات لانغن “Langen”
وكومر “Comer”
وعرفوا مسالك الألب.
13
إن تاريخ إيطالية العليا لا يذكر هذه الحوادث ولكن قد افترضنا أن العرب تقدموا من مارتيناخ “Martinach”
خارجا عن مجرى نهر الرون وتتبعوا ناحية فوركا “Furka”
والألب العليا اللتين يفصل بينهما وادي أورزيرن “Urseren”
وساروا على الطرق القديمة المؤدية إلى منابع الرين وأبواب معبر الألب الراتية، وهذا الافتراض لا يستند على رواية مكتوبة وليس فيما وجد في دير ديسنتيس “Dissentis”
الواقع أمام وادي الرين ما يؤيد مرور أتباع محمد من هناك، إلا أن المؤرخين لا يزالون يعتقدون أن العرب كما عاثوا بنواحي «كور» ونهبوا ديرها قد اجتاحوا أيضا دير «ديسنتيس».
وأما السند الذي ثبت به حضور العرب في وادي الرين فهو أن هرمان أمير سويسرة الألمانية قد التمس من أوتو الكبير في المجلس الذي عقده الإمبراطور في كويد لنبورغ
Quedlinburg
في شهر أبريل سنة 940 أن يهب فالتو “Walto”
أسقف كور تعويضا عما لحقه من اجتياح العرب لديره، وأن الإمبراطور قد أجاب رجاءه فعهد إلى الأسقف المذكور بإدارة كنيستين إحداهما كنيسة «بلودنس»
في وادي «دروس»
Drusthale
والثانية كنيسة سان مارتين في وادي شامزر
Schamserthale
على شرط أن ريع الأولى يعود إلى أساقفة كور وأن ريع الثانية يعود إلى دير الراهبات في «كازيس».
وظاهر أن العيث الذي عاثه العرب قد كان طويل الأمد، وأنه وقع منذ سنة 939 وأن احتلالهم للألب الراتية كان في زمن احتلالهم للألب البونينية، وأن هذا الحادث تقدم إحراق العرب لدير سان موريس الذي يذهب رينو إلى أنه وقع عند عبور العرب من سان برنار.
ولكن في قولنا: إنهم عاثوا واكتسحوا تلك البلاد، لا نعني أنهم أقاموا بها مستقرين في مكان، بل كانوا يكمنون في الجبال وينقضون من مكامنهم لدى الفرصة فلم تكن لهم قدم ثابتة في محل، وكانت حياتهم حياة عصابة تنتجع في كل يوم جبلا متى لاحت أمامها بارقة أمل في الكسب أقدمت، وإلا أحجمت، فكان مطمح نظرهم كله قطع الطرق على التجار وعلى الحجاج الذين كانوا يقصدون رومة ومعهم الأموال والذخائر، ومما لا شك فيه أنهم كانوا قد احتلوا بعض قرى صغيرة، واتخذوها لهم مركزا، وكانت لهم أنزال يلجأون إليها وأبراج يضعون فيها مغانمهم، وأكثر ما كانوا يهجمون على القوافل في الأودية العميقة وفي المضايق التي لا يمكن فيها الدفاع، وكانوا متى أعوزهم القوت صالوا على الأماكن غير الحصينة وعلى الأديار المملوءة بالأعلاق الكنسية.
وبقيت حالتهم على ما وصفناه مدة مديدة، إلا أنه بعد دخولهم إلى البلاد باثنتي عشرة سنة طرأ حادث فجائي وافق مصلحتهم، ومكنهم من معابر جبال الألب، فازدادت بهم جرأتهم وتضاعف طمعهم.
وهو أن «هوغو»
Hugo
كونت «بروفانس» كان في سنة 926 قد أحرز تاج مملكة «لومبارديا»
Lombardie
ودخل في حرب عوان مع صهره «البريكوس»
Albericus
بطريق رومة. فاهتبل العرب من هذه الحرب الغرة، واستفادوا من غياب الأمير المذكور عن بلاده، فتمكنوا من سلسلة جبال الألب، سواء من الشمال أو من الغرب، ونهبوا البلدان التي بحذائها، ولما وصل صريخ رعايا الكونت هوغو مما لقوه من عيث العرب، صحت عزيمته على مصالحة صهره والرجوع إلى إيطالية العليا، ثم على مهاجمة المسلمين في معقلهم الأول «فراكسينيتوم»، ولأجل أن يستوثق من الانتصار سعى في استمداد سلطنة القسطنطينية، لتنجده بمقدار من النار الإغريقية يحرق بها سفن العرب الراسية في ميناء فراكسينيتوم، ويقطع عن هؤلاء كل مدد من البحر، وكان في نيته مهاجمة العدو من جهة البر بينما يكون أسطول القسطنطينية ممسكا عليهم البحر، فبعد أن اتفق هوغو مع إمبراطور القسطنطينية وقبل شروطه جاءت السفن البيزنطية إلى مرسى «سان تروبيز» بينما كان الجيش البري يزحف من جهة «بافيا
» فلم يكد الأسطول البيزنطي يصل إلى المرسى حتى أحرق سفن العرب كلها، وتقدم الملك هوغو من جانب البر فضيق عليهم الخناق حتى انهزموا معتصمين بجبل «موروس» وكاد يستأصلهم ويأخذهم جميعا أسرى، لولا أن حدث حادث غير منتظر وذلك أن «برنغار»
Berengar
كونت «أيفريا»
Ivrea
حفيد الإمبراطور «برنغار» المتوفى سنة 926 ووارثه كان قد أخذ يسعى سرا للحصول على تاج مملكة لومبارديا، فبلغ هوغو خبر هذه المؤامرة فعزم أن يقبض على المتآمرين وأن يقتلهم أو يسمل أعينهم، ولكن برنغار كان على حذر شديد فانسل من لومبارديا بغتة والتجأ إلى هرمان أمير الشفاب
Schuvaben
وسار إليه عن طريق سان برنار، فتلقاه الأمير هرمان برا وترحيبا، وقدمه للإمبراطور أوتو وهذا أكرمه وخلع عليه، فما كان أسرع هوغو عندما عرف بالقضية إلى إرسال الهدايا من الذهب والفضة إلى أوتو.
وكان هوغو قد خلص ممالكه من العرب، وخضد شوكتهم، وتحول فكره إلى جهة الإمبراطور وأوجس خيفة أن يحشد هذا عليه وينزع منه تاج لومبارديا، فعدل هوغو مع العرب عن العداوة إلى المسالمة، وبعث إليهم في جبل مورو يعرض عليهم السلم على شرط أن يجوسوا خلال ديار برنغار ويمنعوه بجميع الوسائل من أن يجتاز جبال الألب بجيشه.
14
فاشترط العرب حينئذ على هوغو أن يعترف لهم بحق احتلالهم معابر الألب الراتية والبونينية، كما أن هوغو اشترط على العرب أن يخلوا المدن والقرى التابعة له، ولكن لم يكن هذا الشرط الأخير مصرحا به في المعاهدة، فالمسلمون قاموا بأحكام المعاهدة حق القيام واحتلوا جميع معابر الألب المذكورة، يستدل على ذلك من كون برنغار عاد إلى إيطالية مع جند قليل من أصحابه عن طريق جبال التيرول
Tyrol .
فأما العرب فقد تلقوا هذا العقد، مع الملك هوغو، بفرح عظيم، وأصبحوا يرون أنفسهم السادة الشرعيين لهذه المعابر، وصاروا يأخذون رسوما من السابلين، ومن لم يؤد الرسم أخذوه أسيرا ثم اضطر أن يفك رقبته بمبلغ عظيم من الذهب.
15
وتقدم العرب من سان برنار وجاسوا في بلاد «فاتلاند»
16
إلى «أفانشس»
Avanchez
ونيوشاتل
Niochatel
في جبال «جورا»
Jura
وكانوا حيث مروا يعيثون وينهبون، ولقد كانت غاراتهم في شمالي الألب الراتية من «كور»
17
إلى بحيرة «كونستانس»
18
في وادي الرين هائلة جدا، فقد وجد في خزانة كتب دير «كور» كتابة تفيد أن الإمبراطور أوتو الكبير عندما مر في 24 فبراير سنة 953 بقصر «إرنشتاين»
Ehrenstein
ترجاه الأسقف «هارتبرت» مطران «كور» في تعويضهم من الرزايا التي ألحقها بهم العرب، فأقطعهم أوقافا في «الإلزاس» وأخرى في «كونيغسكهايم»
Konigsheim
وكنيسة «موخنهايم
Mauchenheim
وما يتبعها.
وقد وجدت كتابة ثالثة في «دورنبورغ»
Dornburg
تاريخها 28 ديسمبر سنة 955 مآلها أن الإمبراطور «أوتو» كان منصرفا من إيطالية فشاهد بعينه آثار عيث العرب وبناء على التماس أخيه رئيس أساقفة «برونو» أنعم على دير كور بتلك التعويضات، وقيل: إن جزالة هذا العطاء الذي أعطاه الإمبراطور كان من قبيل نذر نذره لأجل عودته موفقا من إيطالية على طريق الألب، فإنه أنعم على الأسقف بالدار التي كانت تخصه في «زيزرس» وأمر بإعفاء سفن الأساقفة في بحيرة «فالنزي» من المكوس، وقد اتبع ذلك أعطيات أخرى، مثل إعطائه إياهم كنيسة «ننتسينغن» في وادي «دروس» مع العقارات التابعة لها، وإنعامه بجباية الأملاك التي كانت تخصه في كور، وبمكوسها التي كان يؤديها سابلة الجبال من الألمان، وأخيرا أعطاهم في سنة 958 كنائس عدة مثل «سان لورنز» و«سان هيلاريوس» و«سان مرتينوس» وكنيسة «كاربوفوروس» ومنحهم حق ضرب السكة، وكذلك أعطى دير «ديسنتيس» في سنة 965 الدار التي كانت له في «فافيكون» على بحيرة زوريخ، وأقطع فيكتور رئيس رهبان كور سنة 967 قطائع في «فينشغاو» و«إنغادين
Engadin ».
وفي ذلك الوقت أوصل العرب غاراتهم إلى «زارغانس»
Sargans
و«توغنبورغ»
Togenburg
وأبنسيل “Appenzell”
وصالوا على أهالي تلك الجبال، فقتلوا الرجال ونهبوا المواشي وأحرقوا المساكن. وقد روى الراهب «أيكهارد»
19
الذي حرر تاريخ دير «سانت غالن» ما يلي: «كان العرب يبعدون جدا مغارهم في جبال الألب لا سيما في زمان «فالتو» ويفتكون بأهلها بجرأة غريبة، حتى إنهم في ذات يوم رشقوا بالنبال من أعالي جبل واقع شرقي الدير جماعة كانوا قائمين بطواف ديني يتقدمهم الصليب مرفوعا، ولكن «فالتو»
20
كان شديد البأس فأمر قومه بأن يتعقبوا العرب إلى مكامنهم، وسلحهم بالحراب والمناجل والفؤوس ، وفي الليلة الثانية كبسهم بياتا، فقتل منهم وأسر بعضهم
21
وفر الباقون، ولم يقدروا أن يدركوهم لأنهم كانوا أقدر على التوغل، وأبصر بالتوقل في الجبال، أما الذين وقعوا أسرى فسيقوا إلى الدير في الأغلال، وقد رفضوا رفضا باتا أن يأكلوا ويشربوا، وما زالوا حتى هلكوا جوعا. وقال «أكهارد» أن الرزيئة التي رزئ بها الدير من عيث العرب كانت من الجسامة بحيث يستلزم وصفها كتابا.
22
ولا يقدر أحد أن يعلم بالتمام كم كانت مدة إقامة العرب بشرقي سويسرة، فإن الأوراق والوثائق التي وجدت في دير «كور» ودير «سان غالن» ودير فافرس “Pfafers”
لم يوجد فيها ما يحدد هذه المدة، ولا يظهر أن رحيلهم من هناك تأخر عن العقد السادس من القرن العاشر.
وفي سنة 954 نفسها، وهي التي وصل فيها العرب إلى سان غالن، وقع الحادث المهم الذي هو هزيمة العرب والمجار معا، فقد تمكن كونراد ملك بورغوند أو البرجان، ببسالته الشخصية وبخدعة حربية دبرها، من استئصال طائفة مهمة من هؤلاء العرب
23
وتطهير أودية بلاده منهم، إلا أنه برغم هذه الهزيمة كان العرب لا يزالون مستولين على معابر الألب الغربية.
وليس بمحقق وجود عرب الألب الغربية في هذه الواقعة، فإن «أكهارد» الرابع، راهب دير سان غالن الذي روى خبر هزيمة العرب في هذه الواقعة يقول: إن العرب كانوا متمكنين جيدا في قلب الجنوب من أوربة حتى إنهم لم يكونوا يحدثون أنفسهم بإمكان خروجهم منها، وكانوا يتزوجون، بحسب قوله، من بنات أهل البلاد، ويسكنون أودية خصيبة، ويؤدون للملك ضرائب، وعلى كل حال فمما لا شك فيه أن قسما من العرب الذين كانوا يصلون هذه الحروب قد أقاموا في الآخر وأوطنوا، ونووا أن يؤسسوا لأنفسهم مستعمرة ويتعاطوا الفلاحة والزراعة، ولكنه غير ممكن تعيين المكان الذي نووا أن يستعمروه، هل هو في «فاله» أو في «سافواي» أم في غيرهما، فإن المؤرخين لم يعينوه، وفي سنة 954 التي اشتهرت بغارة العرب من جهة، وغارة المجار من جهة أخرى على سويسرة وقعت حادثة فرار الملكة برتا “Bertha”
مع عمها المطران «أولريك » أسقف «أوغسبورغ» والتجائهما إلى البرج الذي كانت بنته هي في «نوشاتل» والمظنون أن هذا الحادث كان مبدأ لعمران مقاطعة «فو».
24
ولم ترد قصة العرب هذه في التواريخ العالية فقط بل جاءت في سيرة بعض القديسين، وبالإجمال قد كانت اشتدت وطأتهم، وعم الرعب منهم، إلى أن أصبح الجميع في حنق شديد عليهم، ومما زاد حنق الناس عليهم أنهم كانوا تعرضوا لرجل من أكبر رجال عصره، وهو القديس مايولوس “Majolus”
راهب دير كلوني “Cluny”
قبضوا عليه وهو عائد من «بافيا» إلى بورغوند، وذلك سنة 972 وقد روى هذه القصة خلفه في رئاسة دير كلوني كما يأتي:
عبر القديس مايولوس ورفاقه في 22 يوليو سنة 973 قنن جبال الألب، ووصلوا إلى قرية واقعة إلى الشمال من معبر سان برنار على ضفة نهر درانس “Drance”
كان يقال لها لذلك العهد «بونس أورزاريي
» وتسمى اليوم «أورزيير»
25
وقد كان انضم إليه عدد من الحجاج من أقطار مختلفة أملا بأن يكونوا بمعيته في مأمن، فلما وصلت هذه القافلة إلى هذه القرية ومرت هناك من معبر ضيق، انقضت عليها عصابة من العرب فأوقعت بها، ولم يكن من سبيل في ذلك المكان للدفاع، فأركنت إلى الفرار لا تلوي على شيء، فتأثرها العرب وقبضوا على من أدركوه منها وأوثقوه بالقيود، وكان أحد العرب يحاول طعن أحد خدمة القديس بمزراقه إذ تقدم القديس واتقى الطعنة بكفه، فنفذت الطعنة منها، وكانت جراحة شديدة بقي أثرها في يده طول حياته، وأما الخادم ففر ناجيا، ثم جردت هذه العصابة العربية الحجاج من كل ما معهم، وساقتهم إلى كهف من الصخر حبستهم فيه، ولم تستثن من الحبس القديس مايولوس، فلحظ العرب رجلا جالسا على حجر لا يلوح على وجهه علامة الاهتمام بالخلاص، وبينما كانوا يهينونه كان هو مهتما بدعوتهم إلى الديانة المسيحية، فازداد بذلك غضبهم منه، فقيدوا رجليه بالحديد، وأدخلوه الكهف مع الآخرين، وفي الليلة التالية رأى مايولوس رؤيا أنه سيخلص من أيدي العرب، بواسطة الرسل الحواريين، فقد رأى أسقف رومة بالأثواب الحبرية وفي يده المبخرة، ثم رأى رؤيا ثانية أيدت أمله في أنه سيحتفل هو ورفاقه بعيد صعود السيدة مريم، ولما أصبح الصباح وجاء وقت الطعام عرض العرب عليه أن يطعم من طعامهم، وكانوا يأكلون لحما وخبزا يابسا، فأجابهم مايوليوس أنه ليس بآكل من هذا الطعام الذي لم يألفه فحينئذ عجنوا له بسرعة وخبزوا خبزا نظيفا طريا، وقدموه له فتناوله منهم وأكل الخبز بعد أن بارك عليه بحسب عادته، وعادت إليه قوته، وكان أحد المسلمين قد أراد قطع عصا من شجرة واحتاج إلى أن يتسلق عليها، فوضع رجله على التوراة التي كان القديس يحملها دائما معه في أسفاره، فأخذ القديس يتنفس الصعداء، ولحظ ذلك المسلمون فوبخوا أخاهم على عمله هذا، وقالوا له: لا يليق أن تفعل هذا بكتاب يتضمن كلام الأنبياء، وذلك أن المسلمين يعظمون الأنبياء ويقولون: إن ما قاله الأنبياء عن عيسى قد تم بشخص محمد
صلى الله عليه وسلم .
ثم إن العصابة العربية دخلت مع القديس في قضية فدائه وفداء بقية الأسرى، لا سيما بعد أن رأوا منه ما استوجب حرمتهم له، وقد سألوه أهو من ذوي اليسار، أم معدم؟ فأجابهم بأنه لا يملك شيئا ولكن للدير أصحاب يقدرون أن يفكوا الأسرى بأموالهم، فأرسل مايولوس بالاتفاق مع العرب راهبا كان معه، وأصحبه بكتاب إلى دير «كلوني» يقول فيه: «إلى السادة والإخوان في دير كلوني، من مايولوس المسكين المقيد بالحديد، إنني محاط بالهلاك من كل ناحية فأسرعوا بإنقاذي وإنقاذ رفاقي وبإرسال المال اللازم للفداء» فلما قرئ هذا الكتاب في مجتمع الرهبان، وكانوا يحبونه جميعا ويحترمونه احتراما زائدا، بلغ منهم الحزن مبلغه وسارعوا إلى جمع المال لساعتهم، ولم يضنوا بشيء ولا ادخروا منفسا حتى أنهم بذلوا الأشياء الضرورية فضلا عن الكمالية وعن الذخائر والأعلاق التي كانت عندهم، وفي اليوم المعين كان أحد الرهبان المبجلين في قرية «أورزيير» ومعه جميع المال المطلوب، فتخلص مايولوس هو ومن معه، وتمتعوا بفرح الاحتفال بعيد صعود مريم إلى السماء كما كان رأي القديس في المنام.
ومما يهم الاطلاع عليه هو أن العرب تقاضوا في فداء القديس مايوليوس ألف دينار فضة، ولم يتقاضوا على الآخرين إلا دينارا واحدا عن كل رقبة.
ثم إنه من هذه الحالة تتجلى القوة التي تمكن بها العرب في ذلك الوقت من الاستيلاء على جميع معابر الألب، ومن الغريب أنهم لم يكونوا يتقاضون مكوسا على البضائع التي تحمل على هذه الطرق كما كانوا يتقاضونها في الأزمنة الأولى، ولم يطلبوا في البداية شيئا منها من مايولوس نفسه، وذلك حتى يطمعوه في التقدم فيقطع أعالي الجبال ويصير في الجهة الأخرى، فحينئذ ينقضون عليه ويسلبونه على حين يتعذر عليه الفرار. وهكذا حصل.
وكان الملك هوغو قد اشترط عليهم أن لا يتعرضوا للحجاج ولا يأخذوا منهم شيئا، فرعوا ذلك العهد إلا أنه لما مات هوغو رأوا أنهم أصبحوا غير مقيدين بعهد.
وقد قال «رينو»: إن حادثة مايولوس كان لها صدى عظيم في كل الأقطار، وارتفع الصراخ من كل الجهات لأخذ الثأثر، وفي ذلك الوقت كان في جوار سيسترون “Sisteron”
رجل نبيل يقال له: «بونو» أو «بوفو» (
Bobo
أو
Beuoo ) مشهور بالحمية والنجدة، عظيم الهم في تحرير وطنه، فاستنهض الناس المعروفين بالحمية على دينهم ووطنهم، وقرروا بناء قلعة مناوحة لحصن العرب، ليتمكنوا من استئصالهم، فبوبو هذا الذي أصبح فيما بعد معدودا من القديسين هو الذي بدأ بتخليص نواحي سيسترون من العرب وأخرجهم من جميع بلاد «دوفينه»
Dauphiné
ثم إنهم أخرجوا من «بروفانس»
لأن غيليوم أحد أكناد
26
بروفانس هاجمهم برجال أشداء من صناديد تلك البلاد ومن رجال دوفينه السفلى وإمارة نيقة
27
وذلك في قلعتهم فراكسينيتوم المشهورة، فبعد دفاع شديد استولى الإفرنج على القلعة وفر بعض حماتها العرب إلى الغاب الذي بقربها وطلب آخرون النجاة في الجبال وانتهى الأمر بأن فريقا منهم هلك وفريقا تنصر، فاستحياهم الإفرنج واختلطوا بالأهلين.
ولما كانت فراكسينيتوم مستودعا لجميع كنوز العرب وذخائرهم، سواء الذين منهم كانوا في فرنسة أو عليا إيطالية أو سويسرة، فقد أصابها الغالبون وتقاسموها فيما بينهم.
آثار كتابة في كنيسة القديس بطرس مونتجو
من أهم الآثار التي تركها العرب في بلادنا الكتابة التي في كنيسة القديس بطرس مونتجو
28
في «فاله»
Valais
فقد كان هذا الوادي مجالا لغاراتهم ومركزا لهم في أثناء مقامهم بجبال الألب، وهذه الكتابة هي دليل واضح على أن تذكارهم المخيف لم يكن أمحى من قلوب الأهالي حتى من بعد مائتي سنة من جلائهم فإنها قد كتبت في العقد الثالث أو الرابع من القرن الحادي عشر، أي زمان بناء الكنيسة التي شيدها هوغو أسقف جنيف، وهو الذي كان ولدا طبيعيا للملك البورغوني رودولف الثالث، وتولى كرسي الأسقفية نحوا من تسع عشرة سنة
29
ودفن في كنيسة لوزان الكاتدرائية بجانب أبيه، ومما يؤسف له أن هذه الكتابة كانت قد ذهبت في أثناء ترميم هذه الكنيسة سنة 1739 وجعل الحجر الذي كانت منقوشة عليه من جملة عتبات الباب، ولقد طمست الآن هذه الكتابة حتى لم يبق منها سوى حرف هاء
h
وحرف ف
f
وصليب صغير، ولقد ورد نص هذه الكتابة على روايات مختلفة في بعض الكلمات لكنها متفقة في المعنى
30
وهي لاتينية معناها: «إن عصابة إسماعيلية
31
انتشرت في وادي الرون وألقت الرعب في البلاد بالنار والحديد ورفعت الهلال في أودية الألب البنينية».
32
وفي أسفل الكتابة تاريخ بناء الكنيسة حسبما تقدم.
أسماء عربية في البلاد
كان علماء الآثار قد بحثوا عن أسماء بلاد «فاله» ووجدوا ألفاظا كثيرة لم يعلموا لها أصلا في اللغات الغالبة على هذا الشطر من أوربة، ولما كانت هذه البلاد واقعة في معابر «الفاله» إلى «البيامون» حيث مر العرب في القرن الحادي عشر فقد ترجح أن هذه الأسماء عربية الأصل ونحن الآن موردون عدة أسماء لا شك في كونها عربية. «الماجل» في وادي زاس:
هذا المكان هو قرية صغيرة في الجنوب من أعالي وادي زاس
33
الذي يمتد منه طريقان إلى البيامون، أحدهما يمر في وادي «فوركا» ويسمى معبر «أنترونا» والآخر هو معبر «مورو» نسبة إلى جبل مورو، وكلا الطريقين معروف منذ سنة 1440 بكونه من أقدم المعابر، فأحدهما كانت تمر منه المواشي والحيوانات الموقرة بأموال التجار، والآخر كان يمر منه البريد الطلياني قبل تمهىد طريق السمبلون.
34
ولقد ثبت أن معاهدة الملك هوغو مع العرب لم تضمن لهؤلاء احتلال معبر سان برنار فقط بل حق الاستيلاء على جميع المعابر لمنع مرور الجيوش، فمن البديهي أن يكون العرب قد استولوا على وادي زاس ملتقى هذين الطريقين وجعلوا هناك برجا فيه خفراء، ومنه يأتي اسم «الماجل» بالتشديد محرفا عن «محل».
35 «على العين» في وادي زاس:
في القسم الأعلى من وادي زاس مثلجة يقول لها أهالي تلك الجهات «مثلجة على العين» إذ منها تخرج ساقية من سواقي نهر «فيسب»
Visp
الذي هو وادي زاس فتسمية ذلك المكان «على العين»
36
هي في غاية المطابقة. «العين» في وادي زاس:
إن الجبل الآلي الشرقي الذي هو منبع نهر «فيسب» كان يسميه العرب أيضا «ألب العين». «مشابل» في وادي زاس:
إن أسماء القسم الغربي من وادي زاس لم تكن معروفة المعاني، إلا أن الأستاذ «هيتزيغ»
37
يذهب إلى أن «مشابل»
Mischabel
جاءت من الأشبال أي الأسود، ويشرح ذلك بقوله: إن هناك عدة قنن صغيرة تعلوها قنة كبيرة هي بينها أشبه بلبؤة بين أشبالها وأنه لا يبعد مثل هذا التخيل عن أمم الجنوب، ولأجل تأييد هذا الرأي يستشهد بكون القمم التي إلى الشرق من السمبلون تسمى بجبل الأسد.
38
وأنه يوجد أسماء أخرى يظهر عليها الأصل العربي لكنها محرفة تحريفا يصعب معه الاهتداء إلى حقيقة أصلها، فلذلك تركناها واكتفينا منها بجبل «مورو».
39
فأول ما يعرف بجبل «مورو» الجبل الذي إلى الجنوب من حصن «فراكسينيت» والثاني الجبل الذي فيه معبر «مورو» الذي يؤدي من حصن العرب هذا إلى «ماكونياغا»
Macugnga
في البيامون.
ويوجد أيضا قمة يقال لها: «قمة المورو»
40
إلى الجنوب من «بانيو» في وادي «انزه»
41
ثم قمة أخرى بهذا الاسم بين «أنترونا» ووادي «أنزه» إلى الشمال من «بريبنونة»
.
وكذلك إلى الشرق من معبر سان برنار قمة اسمها جبل مورو.
فانغلهارد
Engelhard
المؤرخ يرى في كثرة هذه الأسماء بالجهة الإيطالية من جبال الألب أن العرب كانوا فيها قديما.
أسوار وطرق وكهوف وغير ذلك
إن العرب كما هو معروف هم أهل إتقان لصنعة البناء، ولا سيما بناء الأبراج، وطالما أثروا في هذا الباب آثارا باهرة، فمن الغريب أن لا يكونوا تركوا عند معابر الألب شيئا من المعاقل والحصون، ولكن من المحتمل أن يكونوا أقاموا بالأبراج التي كانت قبل مجيئهم قائمة عند مضايق الجبال باقية من القرنين الثامن والتاسع، فلم تكن بهم حاجة إلى بناء حصون جديدة، وعلى كل حال ينبغي أن تكون الحوادث التي جاءت بعد خروجهم من البلاد قد أنست الأهالي ذكراهم بالمرة.
وأما في سويسرة فليس الأمر كذلك، ولا سيما في مقاطعة لوزان، فإنك تجد برج العرب
La tour Des Sarrazins
فوق «شييزاس» عند «فيفاي».
42
ودهليز العرب وغار الغرب بقرب «لوسنس»
Lucens .
وفي «فيفلسبورغ»
Viflisburg
يوجد حائط يقال له: حائط العرب
43
جاء ذكره في تاريخ سويسرة ل مولر
Muller
في الجزء الأول صفحة 251.
وأن كثيرا من الأسماء المضافة إلى «سارازين» المراد بهم العرب توجد في مدينة «بازل»
44
ونواحيها حسبما ذكر الأب «سيراسة»
Serasset
في تاريخه «المباحث التاريخية والأثرية والجغرافية عن أبرشية بازل» في الجزء الثاني صفحة 149 فهو يقول:
ويؤكدون أن هذه العصائب الفتاكة، بعد أن أحرقت دير سان موريس تقدمت نحو بحيرة جنيف وزحفت إلى «الجورا»
Jura
ولم يقل لنا التاريخ شيئا عن توغل العرب في بلاد «روراسيا»
Rauracia
ولكن إن كانت الكتب قد سكتت فقد قامت الأخبار المعنعنة المتواترة مقامها، وأن كثيرا من أماكن بلادنا بإضافتها إلى أسماء عربية، تشعر بوقوع هذه الغارة المخيفة، فعلى نصف مرحلة من «دفلية»
Develier
على الجبل، وإلى الشمال الغربي منه، يوجد على مقربة من الطريق السلطاني الروماني فسحة صغيرة بين صخرتين، يقال لها: غار «السارازين» وأهالي هذه النواحي يروون بالتواتر نقلا عن آبائهم، أن هذا المحل كان قد احتله «السارازين» أي العرب، وأنهم كانوا يذهبون ويوردون جمالهم عند «السورن»
Sorne
بقرب «كورتيتيل»
Courtetelle
فهذا هو الاسم الذي يطلقه الأهالي على ذلك الطريق الروماني، وعلى أحد صخور الغار محفور عدد 23 بالأرقام العربية، ولما كان لا يعرف من نقش هذا الرقم في الصخر، وكان قديما جدا، فيترجح أنه قد نقشه العرب عندما كان لهم محرس في ذلك المحل.
وبقرب من «روسميزون »
Rossemaison
بحذاء جبل «شايبوت»
Cheibut
توجد آثار طريق يقال له: طريق السارازين.
45
المسكوكات
من قديم الزمان يوجد في سويسرة مسكوكات عربية من الفضة، غير قليلة، تستجلب النظر، ولقد تمكن العلماء باللغة العربية من إثبات مكان ضربها وزمانه، ولكن لم يكن عليهم من السهل الجواب على كيفية وجود هذه المسكوكات تحت الأرض نظير ما وجد من المسكوكات الباقية من الدور الروماني، فقبل أن ندخل في بحث تاريخ هذه المسكوكات يجب أن نذكر الأماكن التي عثر عليها فيها وكيفية العثور عليها.
فأول تنقيب جرى بشكل علمي وأدى إلى نتيجة كان سنة 1830 وذلك أنه وجد على مائة خطوة من قرية «شتيكبون»
Steckbon
على الطريق العام ثلاثون قطعة من الفضة، لم يعرف أحد في البداية ما هي، وقد اشترى أكثرها الماجور «شيغ»
Schiegg
وبعضها دخل في حيازة البرنس لويس نابوليون
46
ثم أهداه البرنس بواسطة الأستاذ «أوكن»
Oken
إلى مجموعة العاديات في زوريخ، وبعد هذا أهدى الأستاذ «كيرن»
Kern
والأب «ران»
Rahn
من شتيكبورن جملة من هذه القطع إلى المجموعة المذكورة، وقد كان أول من شرح تاريخ هذه القطع، من علماء المسكوكات، الأستاذ «فراين»
Fraehn
من أعضاء أكاديمية بترسبورغ، فقال: إن هذه الدراهم هي من ضرب عمال الخلفاء على إفريقية في الربع الأخير من القرن الثامن، وكانوا يطلقون لفظة إفريقية على البلاد التي تتركب اليوم من تونس وطرابلس، فأقدم هذه الدراهم مضروبة سنة 169 للهجرة وأحدثها سنة 182 أي أقدمها في زمن الخليفة الهادي وأحدثها في زمن هرون الرشيد الشهير، وكلها مضروبة في القيروان عاصمة إفريقية في زمان الأمراء عمال الخلفاء نصر
47
وهرثمة
48 (ابن أعين) ويزيد.
49
وأن قطعة واحدة هي مضروبة في زمان إدريس مؤسس الدولة الإدريسية.
50
وهذه المسكوكات مغطاة بالكتابة، كاسم الأمير، ومكان الضرب وتاريخه، وبعض آيات من القرآن.
وأكثر الكتابة هي بالخط الكوفي الذي يختلف عن الخط العربي الحاضر.
وأما كيفية دخول هذه المسكوكات الإسلامية إلى سويسرة فيظن الأستاذ فرين أنه كان عن طريق فرنسة؛ لأنها وجدت مع هذه الدراهم مسكوكات مضروبة باسم كارلوس الأصلع ملك فرنسة (843-877) وأن النورمنديين قد أتوا بها إلى فرنسة في أثناء غارتهم عليها، وكان النورمانديون أتوا بها من شمالي إفريقية، في أثناء غاراتهم على سواحل تلك البلاد، ولقد ظن ذلك بناء على أنه وجد من هذه المسكوكات في الروسية مما كان قد جاء به النورمنديون أيضا، إلا أنه بعد أن تحقق كون العرب أقاموا زمانا طويلا في نفس سويسرة لا يبقى محل لنسبة جلب المسكوكات إلى النورمانديين.
وقد وجدت دفينة أخرى من المسكوكات العربية في «مودون» لكنهم لم يعرضوها على علماء المسكوكات إلا منذ سنة، ولقد اعتنى بهذه المسألة المسيو «سوره»
Soret
من جنيف ومن أعضاء الأكادمية الذين لهم مباحث جليلة عن مسكوكات سويسرة.
فإحدى هذه القطع مضروبة في إفريقية أيام العباسيين سنة 170 هجرية (786-787 للمسيح) والثانية عليها اسم إسماعيل بن أحمد في أيام الخليفة المعتضد، ومكان ضربها الشاش، وزمان ضربها سنة 283 للهجرة (896) والثالثة مضروبة في بغداد سنة 361 (974).
وقد ترجم الأستاذ «سوره» كتابات الدراهم، فأحدها مكتوب عليه من إحدى الجهتين لا إله إلا الله وحده لا شريك له: عضد الدولة أبو علي بويه. وعلى الدائر باسم الله، ضرب هذا الدرهم في مدينة السلام سنة أربع وستين وثلاثمائة، ومن الجهة الأخرى لله المجد، محمد رسول الله. الطائع لله. الملك العادل عضد الدولة أبو شجاع.
ورأي المسيو «سوره» يوافق رأي الأستاذ «فرين» بشأن المسكوكات العربية التي وجدت في شتكبورن، وهو أنها دخلت سويسرة بواسطة النورمانديين، أما التي وجدت في مودون فإنه يراها دخلت بواسطة العرب الذين أقاموا بسويسرة.
ومن جملة الافتراضات أن تكون هذه المسكوكات قد وصلت إلى سويسرة بطريقة سلمية، أي كثمن بضائع، أو أن تكون وصلت إلى أيدي السويسريين في أيام الحرب الصليبية من جملة ما غنمه الإفرنج من المسلمين، ولا نميل إلى قبول هذين الافتراضين كما نميل إلى رأي «سوره» من كون دفينة مودون هي مما تركه العرب الذين شنوا الغارة على سويسرة.
الملابس العربية
إن في خزانة كنيسة «كور» من بقايا القرون الوسطى أشياء نفيسة إلى الغاية يندر وجود مثلها في البداعة، فمنها حلة من الحرير يلبسها القسيس في القداس، تختلف عن بقية الملابس الكنسية وهي مطرزة بآيات قرآنية مكتوبة بالأحرف العربية، ولا نعلم شيئا عن كيفية حيازة الكنيسة لهذه الحلل، ولكن يترجح أنها كانت في أيام وجود العرب في سويسرة، وكما أن رينو يقول: إن في كنائس فرنسة كثيرا من الحلل الدمقسية والآنية الثمينة والأقداح البلورية التي جاءت في زمان وجود العرب بفرنسة، فلا يبعد أن يكون ما في كنيسة كور من هذه الملابس الكهنوتية قد جاء في زمان وجودهم بسويسرة.
وإننا مضطرون للاعتراف بأن العرب كانوا في أيام ازدهار الخلافة في إسبانية، أعلى كعبا في الصناعات والعلوم من الأوربيين، وأن الثياب التي كانوا ينسجونها للزينة كانت من أفخر ما يوجد، ولقد اتفقت الكلمة على كون الصنائع العربية اليدوية، من الحلي والآنية الفضية والأسلحة، هي من الأشياء التي يتنافس الناس بها، إلا أننا نقول: إن الشيء الذي فاق العرب به الجميع هو صنعة النسيج التي كان أكثر ازدهارها في القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر، وكان الخلفاء يهدون منها أمراء أوربة وملوكها، فإنهم كانوا يتحفونهم بنفائس الأسلحة والآنية، وأفخر ما كانت تشتمل عليه هداياهم هو الثياب المطرزة المنسوجة بأنواع التصاوير المزركشة بالذهب والفضة مما كانت تخرجه معامل المسلمين، وكان من اصطلاح العرب في النساجة أن يجعلوا خطوطا عرض الواحد منها سبعة سنتيمترات، وينسجوا عليها حروف الكتابة التي يريدونها من جهة، والتصاوير من جهة أخرى، ولم تكن هذه الكتابات وهذه التصاوير من صنع الأيدي، بل كانت من عمل المعامل والأنوال، وكانت مادة النسج من الخز وخيوط الفضة مصنوعة بالتطريق، وكانت تدور بخيطان الفضة بنود من الحرير الأصفر، بحيث لا تزال الفضة تلمع في أثناء النسيج، وتنعكس عليها ألوان الأطلس الأصفر فيخال الرائي تلك الفضة ذهبا.
وقد ذكر ابن خلدون الكاتب العربي المشهور أن أمراء العرب وملوكها كانت تخلع على من تريد تشريفه أو تكريمه خلعا من هذا النوع، وكان المعمل الذي يخرج هذه المنسوجات يسمى بالمطراز، وقد نقل المستشرق الشهير «دساسي» عبارة ابن خلدون في المجلد الثاني صفحة 782 من كتابه «المنتخبات العربية»
Chrestomatie Arabe
كما أنه في صفحة 305 من هذا الكتاب ذكر ما يأتي:
إننا نعرف منسوجات كثيرة من صنع العرب، هي من النوع الذي يسميه ابن خلدون بالطراز، وأول ما أذكره الطيلسان الذي كان يرتديه قياصرة ألمانيا عند تتويجهم، فقد كان هذا الطيلسان يشتمل على كتابة عربية منسوجة من خيطان الذهب، كان قد ترجمها وشرحها المرحوم المسيو «تيخسن»
Tychsen
وظهر أن هذا الطيلسان صنع في بلرم
51
سنة 528 للهجرة (1133 للمسيح) ولا شك في أن ذلك كان في زمن رجار
52
لأنه لا يوجد في تلك الكتابة شيء يتعلق بالديانة الإسلامية.
ثم ذكر دساسي أسماء كتب ألمانية تتكلم عن هذا الطيلسان. ثم قال:
وأذكر قطعة ثانية من هذا النوع من الحرير والذهب محفوظة في ذخائر كنيسة نوتردام في باريز، وهي من أنفس النسيج وعليها ألقاب الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي المتوفى سنة 411 (1020) ثم أذكر قطعة ثالثة من هذا النوع وجدت في أحد قبور دير «سان جرمان دي پراي»
St-Germain-Des-Près
وفيها كلمتان عربيتان مكررتان كثيرا، وقد ذكر هذه التحف المسيو «فيلمين»
Villemin
في كتابه عن الآثار المجهولة إلى الآن والتي تنبغي معرفتها خدمة لتاريخ الصناعة، وتكلم أيضا عن هذه القطعة المسيو «دمارست»
Demarest
في رسالة مطبوعة سنة 1806 ومما يلحق بهذا الباب ما وجد في قبر الإمبراطور فريدريك الثاني
53
المتوفى في 13 دسمبر سنة 1250 فقد عثروا على قميص على أكمامه كتابة عربية، وذكر ذلك في كتاب إيطالياني مطبوع سنة 1814 في نابولي يتضمن كلاما على قبور بلرم، ولقد نشر المسيو «دمور»
Demurr
في أحد تآليفه صورة سجادة، عليها كتابة عربية، منسوجة بمصر في زمان المستعلي بالله أي بين سنة 1094 وسنة 1101 وهي محفوظة في خزانة الفاتيكان في رومة» انتهى كلام دساسي.
وعاد كيلر إلى ذكر القطعة التي وجدت في دير «كور» بسويسرة، فقال: إن عليها كتابة بالعربية «أطال الله لنا أهله» وقال: إن الأستاذ «هيتزيغ» قد ترجمها، وإذا بالترجمة هي دعاء للمدعو له بإطالة حياة رجال ثقته وقومه، وهو تفسير غريب. والمرجح أن هذا الأستاذ تصحفت عليه كلمة «أجله» فقرأها «أهله» لا سيما أن الكتابة هي الأحرف الكوفية، ولا بد أن تكون العبارة «أطال الله أجله» لأن «أطال الله أهله» ليس لها معنى. انتهى كلام كيلر ببعض اختصار.
هوامش
الخاتمة
القصص على آثار العرب في وادي فاليه من سويسرة
قد تقدم في هذا الكتاب بحسب الروايات المتفق عليها والتي يعدها المؤرخون من الحقائق التاريخية أن العرب أغاروا على هذا الوادي واستولوا على معبر سان برنار الكبير، وتغلغلوا في عدة من شعاب الوادي، وأقاموا بها، وكانت لهم وقائع مع الأهلين ومن جملتها إحراقهم دير القديس موريس، ومنذ جئنا إلى سويسرة، وألقينا فيها عصا التسيار، علمنا في أثناء الحديث مع علماء البلاد، ولا سيما الذين يعنون بالآثار التاريخية، أنه يوجد في ذلك الوادي قرى أصل أهلها من العرب أو فيها أناس من سلائل العرب اندمجوا مع سائر الأهالي، وأنهم يعرفون من سحنائهم أنهم عرب، فلما أجمعنا نشر هذا الكتاب، وفيه كل ما تعلق بموضوع إقامة العرب بفرنسة وسويسرة وإيطالية، رأينا حريا بنا، زيادة في التثبت ونصحا بالبحث، أن نتوجه بنفسنا إلى هاتيك القرى التي يقال: إن أهلها من أصل عربي، وننقب ما استطعنا عن هذه المسألة بمشافهة أهل الديار ومراجعة ما يمكن العثور عليه من الآثار، وكان طبيبنا في لوزان الدكتور جاك رو
1
قد أشار علينا بزيارة دير سان موريس الذي فيه خزانة كتب قيمة ومخطوطات متناهية في العتق، وكتب كتاب توصية لرئيس الدير حتى يضع بين أيدينا من الكتب والمخطوطات ما يوافق موضوعنا، كما أن صديقنا المحامي الدكتور فريدريش من جنيف، وهو من المتخصصين في العلوم التاريخية والأثرية، قد ذكر أنه من جملة تلك القرى قرية اسمها إيزيرابل
Iserables
وقرية أخرى اسمها فريتوريس
Freytorreus
وقال: إن القرية الأولى في مكان حصين، محاط بالأوعار، مما يستدل منه على أن العرب لجأوا إلى ذلك المكان واعتصموا به.
ففي 29 يونيو من هذه السنة قصدت إلى سان موريس وهي تبعد عن جنيف بالسكة الحديدية ساعتين وربع ساعة، وذهبت إلى الدير الذي تنتسب إليه القصبة، وهو دير عريق في القدم بناه سيجسموند أمير بورغونية في سنة 515 للمسيح ، ولا يزال معمورا من ذلك الوقت، فعندما دخلت إلى الدير ناولتهم الكتاب الذي معي من صديقهم الدكتور جاك رو، فاستدعوا لي الراهب المتولي حفظ المكتبة واسمه طونولي
Tonoli
فجاء وجلس إلي، وتجاذبنا أطراف البحث الذي جئت إلى هناك من أجله، فقال لي: إنه لا يعهد في خزانة كتب الدير مخطوطات فيها شيء يتعلق بغارة العرب على وادي فاله، وأنه يمكن الاطلاع على هذه المسألة في الكتاب الذي يقال له
Monumanta Germanica Historica
أي مجموع التاريخ الجرماني. ثم قال لي: إلا أنه من المتواتر عند الجميع أن العرب مروا من هنا وأحرقوا هذا الدير، ثم أشار علي بالذهاب إلى بلدة مارتيني
Martigni
وهي على الخط الحديدي تبعد نحوا من نصف ساعة عن سان موريس إلى الجنوب، وتقع بعد سان موريس بثلاث محاط، وأن هناك رجلا محاميا يقال له: كوكو
Coquoz
يقدر أن يدلني على القرى التي يقال: إن من أهلها من هو منحدر من دم عربي، ويقفني على معلومات قد يهمني الاطلاع عليها، وكذلك في مدينة سيون
Sion
قاعدة مقاطعة فاليه رجل يقال له: الأب ليوماير، متخصص في الأمور التاريخية، وله كتاب عن تاريخ مقاطعة فاليه، فهو أيضا من الأشخاص الذين قد أجد ضالتي عندهم.
وعلى هذا فقد ذهبت إلى مارتيني وبحثت عن المسيو كوكو، وحدثته بالمقصود من زيارتي له، فدلني على رجل يقال له فيليب فاركه
Farquet
يقيم بدائرة تخص دير سان برنار، وهو معدود من العلماء، فذهبت واجتمعت بهذا الرجل، فقال لي: إنه لا يعلم شيئا من جهة تاريخ العرب في وادي فاليه غير ما هو شائع على ألسن الجميع، ولكنه أشار إلى ساحة وراء كنيسة مارتيني وقال لي ونحن ننظر من النافذة: إن هذه الساحة التي أمامنا يقال لها ساحة السرازين
ومن هنا يعلم أن العرب سكنوا في مدينة مارتيني هذه، وهو أمر معقول جدا؛ لأنه قد ثبت في التاريخ كونهم استولوا على معبر سان برنار المشهور، ومن المعلوم أن مارتيني هي البلدة التي يصعد منها الناس إلى جبل سان برنار الذي فيه الدير القديم، وكل يوم تسير السيارات بالمسافرين بين سان برنار ومارتيني.
وكنت علمت من هؤلاء الأشخاص الذين تحادثت معهم في هذا الموضوع أن قرية إيزرابل هي التي يرجح أن فيها من بقايا العرب، وأنه يوجد أيضا قرية أخرى تابعة لمدينة سيون يقال لها: إيفولين
Evolene
هي من هذا القبيل، فسرت بالقطار إلى سيون، واجتمعت بالقسيس الذي يقال له ماير وهو قيم خزانة الكتب التي في مدرسة سيون، فلم أجد هذا الرجل معتقدا بصحة هذه الروايات، وهو يظن أن العرب مروا ببلاد فاليه غزاة، عابري سبيل، وما عدوا أن أحرقوا دير سان موريس ولا أعلم هل هو معتقد ذلك فعلا، أم يحاول إنكار وجود آثار للعرب في تلك الديار فقد وجدته من القسيسين المتعصبين في الكثلكة إلى الغاية ولم أجد في كلامه ما ينقض شيئا من الروايات التي أطبق عليها المؤرخون من كون العرب أوطنوا وادي فاليه وأقاموا بها حقبة وبقيت لهم فيها أعقاب، وهو نفسه أشار علي بمراجعة كتاب بالألماني لمؤلف يقال له فيشر
Fischer
لكنه يقول: إنه غير واثق برواياته.
فتركت القسيس وركبت سيارة وسرت إلى قرية إيفولان، والمسافة من سيون إليها نحو من 25 كيلو مترا، وهي في الجبال ليس وراءها عمران، ومنها إلى حدود إيطالية بضع ساعات لا غير، فلما وصلت إلى القرية وجدتها قرية صغيرة ليس فيها أكثر من مائة بيت، أهلها فلاحون، يعيش أكثرهم من الحرث ومن قطع الأخشاب، لكثرة الحراج التي حولهم، فسألت عن شيخ القرية أو عمدتها، كما يقال في مصر، فدلوني على بيت حقير، دخلت إليه فوجدت الرجل، وحادثته في الموضوع فقال لي: إنه يسمع بهذه الروايات كسائر الناس، وأنه ليس عندهم وثائق خطية على شيء من هذا، ثم أشار علي بمقابلة القسيس مرشد أهل القرية فسألت عن القسيس فلم أجده، ثم ملت إلى فندق صغير في تلك القرية، يقصد إليه السياح الذين يحبون العزلة في الجبال، فوجدت صاحب الفندق رجلا على أثارة من علم، وهو من أهل سيون، فقال لي : إن الجميع يسمعون أن أهالي هذه القرية أو بعضهم على الأقل هم من أصل عربي، وأنه في الوادي الآخر الذي وراء وادي إيفولن والذي يقال له أنيفيه
Anniviers
قرى يقال أيضا: إن فيها من بقايا العرب الذين أغاروا على وادي فاليه، وسألت هذا الرجل هل يعلم في إيفولين عائلة تعلم نفسها منحدرة من أصل عربي، فأجابني: أما هكذا فلا أعلم وغاية من هناك أنهم يقولون بوجود الدم العربي في هذه القرية، وأن في سحنة بعض أهلها ما يدل على كونهم ليسوا من أصل سويسري.
فغادرت قرية إيفولين، ورجعت إلى سيون، ومنها ركبت القطار وجئت إلى محطة ريد
Rid
التي منها يمكن الذهاب إلى قرية إيزارابل، فنزلت في ريد، وسألت: هل يوجد طريق معبد إلى إيزارابل؟ فقالوا: لا، ولا سبيل إلى الذهاب إلا على ظهر دابة أو سيرا على الأقدام، ولما كان وجود مطية يأخذ وقتا، وكان من عادتي بحسب إشارة الطبيب أن أمشي كل يوم لا أقل من ساعتين، لأجل الرياضة الجسدية، اخترت أن أذهب إلى إيزارابل ماشيا، ولكنها كانت مرحلة شاقة لأن الطريق إلى إيزارابل إنما هو تصعيد مستمر في عقبة كؤود، يأخذ اجتيازها ساعتين ونصف ساعة فيصل الإنسان إلى تلك القرية التي يجدها في أوعر محل من ذلك الجبل، لولا ذلك الطريق الذي ينفذ إليها لا يكاد الماعز يجد إليها متسلقا ولا متعلقا، ولا شك أن العرب إن كانت بقيت منهم بقايا ولاذت بالجبال، طالبة النجاة من أيدي أهل البلاد، لم يكونوا ليجدوا للامتناع خيرا من ذلك المحل، والقرية في سفح جبل قائم، تشرف على واد عميق الغور، والغابات تحف بها، فلما وصلت إليها سألت شيخها، ويقال له كازيمير تافر
Tavre
فسألته عما يعلم من قضية انتساب هذه القرية إلى العرب، فقال لي: إن العرب كانوا شنوا الغارة على وادي فاليه، وأحرقوا دير سان موريس، وانتشروا في هذه الأرض ثم انقرضوا كما جاء في التواريخ، وإن كانت لهم أعقاب في هذه البلاد فليس ذلك خاصا بقرية إيزارابل، فربما كانت بقايا العرب في عدة قرى، فسألته هل يعلم عائلات تعلم نفسها من أصل عربي، فقال لي: لا، فسألته: هل يوجد عندهم أوراق عتيقة تدل على صحة تلك الروايات؟ فأجابني أن عندهم في خزانة البلدية أوراقا مكتوبة باللاتينية ترجع إلى سنة 1200 مسيحية فما بعدها، وإن هذه الأوراق كلها صكوك بيع وشراء يراجعونها عند وقوع الخلاف على حدود الأراضي، وليس فيها شيء عائد إلى التاريخ، فتركته وجئت إلى ساحة القرية، فوجدت شبان القرية كلهم مجتمعين في مقهى صغير يشربون فيه المرطبات، فسألت عن سبب هذا الاجتماع فقيل لي: إن لشبان القرية جمعية قد جعلت لنفسها علما خاصا، وإن ذلك اليوم هو يوم الاحتفال بالعلم، فكان لي اجتماعهم هذا فرصة لأجل التفرس في هيئاتهم وسحنهم، فرأيت فيهم سحنا لا تفترق عن غيرها من خلقة أهل سويسرة، ورأيت أشخاصا تغلب عليهم السمرة الشديدة، ولا تشبه خلقة الآخرين، وأما من جهة لغتهم فإنهم يتكلمون الإفرنسية ولغة أخرى عامية مشتقة من اللاتينية، وهذه اللهجة العامية غالبة على جميع قرى ذلك الوادي من أوله إلى آخره، ولا يتكلم الأهالي فيما بينهم إلا بها، وقد تختلف لهجة ناحية عن ناحية، ولم يتسع لي الوقت أن أبحث في عاميتهم هذه، ولا سيما في لهجة إيزارابل وإيفولين، لأعلم هل هناك ألفاظ عربية أم لا؟ فإن بحثا كهذا ليأخذ وقتا طويلا لم أكن أملكه، فتركت إيزارابل مكتفيا بما رأيته وسمعته، وعلمت أن تاريخ العرب في ذلك الوادي لا يمكن أن يؤخذ إلا من بطون الكتب، وما عدا ذلك فهو روايات شائعة متواترة لا شك في أن لها أصلا ولكن هذا الأصل قد اختفى بكرور الأيام.
ثم إن أحد أصحابي ممن يعنون بتاريخ سويسرة نبهني إلى مطالعة القاموس التاريخي السويسري المسمى
Dictionnaire historique et biographique de la Suisse
إذ فيه تحت لفظة «سرازين» فصل يتعلق بمقام العرب في سويسرة وجبال الألب، فذهبت إلى خزانة كتب الجامعة في جنيف، وطالعت الفصل المذكور، ولخصت منه ما يلي: في القرن التاسع للمسيح استغاث البابا بالسويسريين والفريزوزينين، لوقاية رومة من غارات العرب، وفي سنة 888 جاء عرب من إسبانية واحتلوا فركسيناتوم (مقاطعة الفار في فرنسة) وأغاروا من هناك على الشمال والغرب، وسنة 906 اجتازوا جبال الألب الغربية واكتسحوا دير نوفاليز بقرب سوز
Suze
وفي سنة 913 كانوا في آكي
Acque
في بيامونت، وفي سنة 921 وصلوا إلى جبل سان برنار الكبير، حسبما روى فليودار دورنز
Fléodard de Reims
وهناك رموا بالحجارة قافلة إنكليزية كانت ذاهبة إلى رومة، وفي سنة 936 قطع العرب جبال الألب الريتية
Alpes Rhétiennes
واكتسحوا أسقفية كوار
Coire
فاضطر الملك أوتون الأول أن يعوض أسقف كوار مما رزأه به العرب، ومن الوقائع التي لا شك فيها أن العرب نزلوا من جبل سان برنار، ونهبوا دير سان موريس في وادي فاليه، وذلك سنة 940 كما روى ذلك أولريك مطران أوغسبورغ، ولا تمكن معرفة ما إذا كانت ثمة علاقة بين حوادث سان برنار وحوادث كوار، وفي سنة 941 كان هوغ ملك إيطالية في حرب الماركيز بيرانجه الإيفري
Berenger D'ivrée
والملكة برته صاحبة برغونية التي كان طلقها، فاستمال هوغ العرب واستخدمهم وألقى إليهم بحراسة معابر الألب، ففر بيرانجه من وجههم والتجأ إلى الدوق هرمان الشوابي
Hermamnn de Soiab
وبلغ من قوة العرب أنهم جعلوا رسوما على المارة الذين كانوا يقطعون جبال الألب، قاصدين رومة، ويقال: إنهم تقدموا من هناك حتى بلغوا مقاطعة فو
Void
التي قاعدتها لوزان ومقاطعة جوره، التابعة لنيو شاتال، واستطالوا على دير سان غال
Saint Gall
وكانت توجد كتابة في كنيسة القديس بطرس في بورغ
Bourg
محفورة بين سنة 1019 و1038 يستدل منها على الغارات العربية إلى جهة الغرب.
وأما غاراتهم إلى جهة الشمال الشرقي فالروايات عنها لم تحقق بصورة قطعية وكذلك لم يتحقق كونهم تديروا جبال الألب، بصورة ثابتة، وإنما تحقق على وجه ليس فيه مراء أن الملك أوتون مر بكوار سنة 952 ومعه «أدليدة» فوجد الدير قد نهبه العرب فعوض الدير مما فقده، وذلك سنة 955 وأما في جنوبي الألب فقد طال مقام العرب، ولكن لا نظن صحيحا أنهم استعمروا وادي ساز
Saas
سنة 940 إلى سنة 960 وكذلك ما يقال من احتلالهم بونترازينه
وأما ما يقال من كون بعض أسماء وادي ساز هي عربية مثل «على العين»
Allalin
والعين
Ein
والماجل
Almagel
ومشابل
Mischabel
وبالفرين
Balfrin
ومونتومورو
Monto Moro
فلم يثبت كون هذه الألفاظ عربية، وفي 23 يوليو سنة 973 قبض العرب على الراهب ميول ورفاقه، فثار الناس من أجل هذه الفعلة، واجتمع غليوم كونت آرل، وهاردوين أمير تورينو وربالد كونت بروفانس، وزحفوا إلى العرب من كل جهة واستولوا على فركسينة وانقرض العرب من هناك.
وهذا الفصل من قاموس سويسرة التاريخي عليه إمضاء
H. Dübi
وهو مأخوذ من بضعة عشر تأليفا بالإنكليزية والإفرنسية، وأكثرها بالألمانية، وفي رأس هذه التآليف كتاب كيلر
Keller
الذي ترجمناه وأردفنا به كتاب رينو المستشرق الإفرنسي.
بقي علينا أن نلاحظ على هذا الفصل ارتياب كاتبه في عروبة الألفاظ التي ذكرها فنحن نخالفه في هذا الرأي، ونوافق على رأي كيلر، وهو أن هذه الألفاظ عربية لا ريب فيها وأنه يستحيل أن توجد ثلاثة ألفاظ كهذه مشابهة للألفاظ العربية تصادفا، وذلك مثل «على العين» و«العين» و«الماجل» فإن هذه كلمات عربية صريحة، وشكل التلفظ بها بحسب رسم حروفها باللغة الإفرنسية يدل على كونها عربية مغربية؛ لأن إخواننا المغاربة والأندلسيين يميلون إلى الكسر في تلفظ الحرف الأول من لفظ عين وما في ضربها من الألفاظ كزيت وجيش وزيد وغيرها، بخلافنا نحن المشارقة فإننا نلفظ كل هذه الألفاظ بفتح أولها، وأما الماجل فقد تقدم أنه حوض الماء، وأن هذه اللفظة كانت تسعمل في مكة لحياض الماء التي فيها، وأما مشابل فيجوز أن تكون من أصل عربي بمعنى مكان الأسود، أو كما قيل من إن هناك جبالا شبهوها بلبؤة تجر أشبالها كما أنه يجوز أن يكون أصلها لفظة أوربية تشابهت اتفاقا مع اللفظة العربية، أما الألفاظ الثلاثة الأولى فلا يمكن أن يكون وجودها مجرد اتفاق، لا سيما أنها أسماء لأماكن فيها مياه، وأما بالفرين فقد تكون محرفة عن أصل عربي ويكون أصلها بالفرين تصغير فرن، ويجوز أن تكون لفظة إفرنجية، وأما «مونتومورو» فهو ظاهر ومعناه جبل المغاربة أو العرب، وبالاختصار فرأى كاتب هذا البحث من جهة هذه الألفاظ هو في غير محله.
فهذا ما اخترنا نقله وجمعه من أخبار غارات العرب على فرنسة وإيطالية وسويسرة ممحصا ممخوضا معولا فيه على أوثق المصادر والله تعالى من وراء العلم هو المبدئ المعيد والأول والآخر.
فتح المسلمين لمالطة
قد كان أصل المحور الذي دارت عليه مباحث هذا الكتاب هو غزوات العرب في شمالي جبال البيرانه من فرنسة وإيطالية وسويسرة، ولكن الحديث شجون والتاريخ، إنما هو حديث عن حوادث يثير بعضها بعضا، وقلما تجد منها حادثة إلا وهي متعلقة بسابقة لها، ولذلك لم يكن حصر الكتاب ضمن الحدود التي ذكرناها، بل تعدى إلى موضوع غزو العرب لجزائر البحر الرومي مثل كورسيكة وسردانية وصقلية والأرض الكبيرة المقابلة لها التي يقال لها كالابرة، وتناول البحث أيضا جزيرة إقريطش التي يقال لها اليوم: كريد، فأما جزر الباليار فهذه تابعة للأندلس قديما وحديثا، ولذلك أبقينا الكلام عليها إلى الكتاب الذي ننوي وضعه على الأندلس، وقد هيأنا كثيرا من مواده، وإنما بقيت جزيرة في البحر المتوسط، فاتنا ذكر فتح المسلمين لها، مع كونها ذات ذكر شهير في التاريخ أكبر كثيرا من جرمها الجغرافي ألا وهي جزيرة مالطة، فأحببنا أن نذكر عنها خلاصة تاريخية في هذا الكتاب، فنقول:
يوجد أرخبيل يقال له: الأرخبيل المالطي مؤلف من جزيرة مالطة وأخواتها غوزو
Gozo
وكومينو
Comino
و كومينوتو
Cominotto
وفلفولا
Filfola
وصخور أخرى تحاذيها، جاء في الإنسيكلوبيدية الإسلامية المحررة بالإفرنسية أن هذه الجزر كانت في الأعصر القديمة مأهولة بطائفة من طوائف البحر المتوسط، لها آثار تدل عليها، محفوظة في مكان من مالطة يقال له: «الحجر القائم»
Hagiar kaim
وأول ما عرف التاريخ عنها هو أن الفينيقيين استعمروها قبل القرن العاشر قبل المسيح، واتخذوها قاعدة لسفنهم التجارية، قالت الإنسيكلوبيدية: ولم يتحقق كون اسم مالطة مشتقا من الفينيقية وإنما تحقق كون جزيرة غوزو أو غولوز
Gailos
معنى اسمها «سفينة تجارية مستديرة الشكل» وقد استولى القرطاجنيون على مالطة في القرن السابع قبل المسيح، وبقوا فيها أربعة أو خمسة قرون، ثم استولى عليها الرومانيون سنة 218 قبل الميلاد وبقيت نحوا من عشرة قرون في أيدي الرومانيين واليونانيين، وفي القرن الأول للمسيح تنصر أهل مالطة عن يد القديس بولس، ولما سقطت السلطنة الرومانية الغربية استولى عليها البيزنطيون، وكانت لهم مركزا ضروريا بعد استيلائهم على شمالي إفريقية.
وقد استولى المسلمون على مالطة سنة 256 للهجرة وفق 869 و870 مسيحية، ولكن هذا الاستيلاء هو الاستيلاء الثابت؛ لأن ابن الأثير يخبرنا أنه في سنة 221 أرسل إبراهيم بن الأغلب أسطولا لغزو الجزائر، والأرجح أن مراده بالجزائر هو الأرخبيل الذي من جملته مالطة، وقد كانت غزوات المسلمين لمالطة وصقلية في القرن الثامن للمسيح، وربما كانت مالطة دخلت في حوزة المسلمين قبل سنة 800 وكان مقام المسلمين بمالطة أطول وأثبت من مقامهم بصقلية، بدليل كون لغة مالطة عربية.
وقد اختلف العلماء في أصل اللهجة المالطية، فزعم بعضهم أنها من أصل فينيقي، وذهب آخرون إلى أنها لهجة عربية، وهذا رأي الجمهور، فاللغة المالطية عربية تشابه في كثير من الألفاظ لهجات العرب الشرقيين، وفي كثير منها العرب المغاربة وتكثر في لغة مالطة الإمالة، كما يكثر أيضا قلب الألف ياء، فيقولون: «يينا»، بدلا من أنا، ويقلبون القاف همزة، ويستعملون أحيانا نون الجمع المتكلم قبل المفرد، فيقولون مثلا: إنا نقول له. بدلا من: نحن نقول له، وهذا على نسق أهل المغرب وتختلف اللهجات في نفس مالطة بين المدينة والقرى، وبين مالطة وغوزو، ولا توجد الخاء والغين في مدينة مالطة المسماة «فاليت» وإنما توجد في جزيرة غوزو، ولم يتم البحث حتى الآن عن اللهجات المالطية حتى يعرف ما هو راجع منها إلى العربية الشرقية وما هو راجع إلى العربية الغربية، وقد أثرت الثقافة اللاتينية الإيطالية في اللغة المالطية، ودخلت ألفاظ كثيرة منها في لغة مالطة، ولم يكن للمالطيين حروف يكتبون بها إلى أن قام في القرن الثامن عشر رجل يقال له: «آجيوس سلدانيس» فاعتنى بالبحث عن لغة بلده، ومن ذاك الوقت أخذوا يكتبون لغتهم، واستعملوا الحروف العربية، ثم نهضت عصبة من المالطيين اسمها «عقدة تالكتيبة تالمطي» أي عصبة الكتاب المالطية ونشرت كتابا في نحو اللغة المالطية سمته «تعريف الكتب المالطية» وذلك في سنة 1924 وجاء في مقدمة هذا الكتاب ذكر أنواع الكتابة المالطية، ثم إن هذه العصبة نشرت مجلة اسمها المالطي في سنة 1925 وكان غرضها الأصلي إحياء اللغة المالطية العربية أو ما تعبر عنه بالمالطي الصافي.
ومنذ سنة 1850 أخذت مسألة اللغة المالطية شكلا سياسيا، وذلك لأن الإنكليز أحبوا أن يعززوا اللغة المالطية العربية، لعدم رغبتهم في نشر اللغة الإيطالية التي هي لغة الطبقة المثقفة ولغة رجال الكنيسة في مالطة، ومن شاء الاطلاع على آداب اللهجة المالطية فليراجع كتب بونللي
L, Bonelli
وشتومة
H. Stumme .
وقد ترك المسلمون في مالطة، عدا أسماء البلاد واللغة العربية، قطعا من المسكوكات وعددا كبيرا من الآثار الكتابية لا سيما كتابات القبور، وأشهر هذه الكتابة المسماة «ميمونة» تاريخها يوافق سنة 1173 مسيحية، وقد نشرت منذ قرن تام، وبحث فيها المستشرقون مثل إيطالينسكي
Italenski
ولنسي
Lance
وآماري
Amari
وغيرهم، وقد وجدوا كتابة أيضا في جزيرة غوزو، وهي محفوظة في متحف مالطة ثم إنه وجدت كتابات نحو العشرين في أثناء الحفريات التي وقعت بين سنة 1922 وسنة 1925 في محل يقال له: رباطو
Rabato
بقرب نوتابيل
Notabile
وهي محفوظة في متحف مربع رومانا
Romana
على مقربة من مكان الحفريات.
هذا وقد خرجت مالطة من أيدي المسملين سنة 1090 مسيحية، فإن النورمنديين استردوها بعد استردادهم لصقلية، ولكن كان المسلمون مأذونا لهم في الإقامة بهذه الجزيرة إلى سنة 1249 ثم إن مالطة من سنة 1530 إلى سنة 1798 صارت مركزا لفرسان ماريوحنا أورشليم الذين طردهم الترك من رودس سنة 1523 فانتقلوا إلى مالطة وأنشأوا أسطولا عظيما، كانوا يلاقون به أساطيل المسلمين، الترك أو الإفريقيين، وكان يؤتى بألوف من أسارى المسلمين إلى مالطة، ولهذا قصد الأتراك الاستيلاء على مالطة سنة 1565، ولكنهم لم يتمكنوا منها، وحاولوا ذلك مرة أخرى في أيام السلطان محمد الرابع، وفي المكتبة العمومية في مالطة وفي متحفها بعض كتابات عربية متعلقة بفن الملاحة، انتهى ما ذكرته الإنسيكلوبيدية الإسلامية عن مالطة، نقلناه باختصار.
ولما كان العلامة الرحلة اللغوي المشهور أحمد فارس الشدياق، صاحب الجوائب قد أقام بمالطة أربع عشرة سنة وكتب عليها كتابا سماه «الواسطة في معرفة أحوال مالطة» فقد أردنا أن نأخذ من هذا الكتاب بعض ما يتعلق بغرضنا من جغرافية مالطة وتاريخها وذكر فتح المسلمين لها ، فنقول:
قال أحمد فارس: إن تخطيط مالطة هو في 22 درجة وأربع وأربعين دقيقة من الطول، وفي 25 درجة و54 دقيقة من العرض، أما موقعها في الكرة فإن بعض الجغرافيين ألحقوه بإفريقية، بالنظر إلى المكان، وبعضهم ألحقه بجزائر إيطالية بالنظر إلى عادات أهل مالطة وأحوالهم وديانتهم، فأما عرض مالطة فاثنا عشر ميلا، وطولها عشرون، ودورتها ستون وقاعدتها الآن هي المدنية المسماة فالته “La Valette”
فأما في الأعصر السالفة فكانت نوتابيلي، ويقال لها الآن المدينة، وموقعها في وسط الجزيرة في أرفع موضع منها، وكانت الجزيرة منقسمة إلى شطرين: أحدهما يمتد جهة الشرق، والآخر جهة الغرب، والذي بنى فالته كان أحد أمراء الإفرنج وسماها باسمه، وذلك سنة 1576 وهي على ربوة بقرب البحر يقال لها: شبراس، قلت: زعم بعض المالطيين أن أصل هذه الكلمة «شبرا الراس» وبعضهم أنها «جبل راس» وعندي أنها شعب الراس، قال في الصحاح: شعب الراس شأنه الذي يضم قبائله. أ.ه.
وهو كناية عن أصل الشيء ومجتمعه، كما أن قبائل الراس مرجعها إلى الشعب، ويحتمل أنها سميت بشيب الراس لأن أهل مالطة كانوا يناصبون المسلمين الحرب وكل فريق ملاق من فريقه ما يشيب الرأس. أ.ه.
قلت: تأييدا لما استشهد به أحمد فارس أقول: جاء في لسان العرب «والشعب شعب الراس وهو شأنه الذي يضم قبائله، وفي الرأس أربع قبائل، وأنشد:
فإن أودى معاوية بن صخر
فبشر شعب رأسك بانصداع أ.ه.
ثم نقل أحمد فارس عن المؤلف الفرنساوي بوليه أن قاعدة مالطة سميت باسم الأمير لافاليت رئيس طريقة الفرسان، ولد في سنة 1494 ومات سنة 1568 وكان شهيرا بالبأس، وأول ما استولى عليه من الجزيرة عند محاصرته المسلمين بها برج «سانت المو» ثم قوي عليهم وأخرجهم منها أ.ه. قلت: إن هذه الرواية تخالف ما جاء في الإنسيكلوبيدية الإسلامية من كون مالطة خرجت من أيدي المسلمين سنة 1090 إذ ينبغي من هذه الرواية أنه كان فيها مسلمون في أواسط القرن السادس عشر للمسيح، وأنه كانت في أيديهم حصون وأبراج، ولولا ذلك ما قيل: إن الأمير لافاليت أخرجهم منها.
وأما اسم مالطة فجاء في كتاب أحمد فارس: إن اليونانيين سموها مليته، واشتهر ذلك سنة 828 قبل الميلاد، ومعنى ميليته أو ميليسه في لغة اليونان النحل فحرف المسلمون ذلك وقالوا: مالطة، قال: وزعم قوم أنها سميت باسم ميليته ابنة دوريس، وهو مشتق من ميليت في السريانية، وهو اسم إله، ولا يبعد أن يكون ذلك في اللغة الفينيقية أيضا، قال: وممن ذكر مالطة من الشعراء الأقدمين أوميروس وأوفيديوس ويفهم من كلام الأول أن القبيلة التي يقال لها: «ألفپا كونس» هم أول من استوطنوا هذه الجزيرة، وكانوا ذوي قوة وبأس، ثم خلفهم الفينيقيون، وهم من جهات صور وصيدا، وذلك سنة 1519 قبل الميلاد، فلبثوا فيها نحو أربعمائة وخمسين سنة، حتى تغلب عليهم الإغريقيون ثم سلموها للقرطجنيين، وذلك نحو سنة 528 قبل الميلاد، ثم جاء من بعدهم الرومانيون سنة 283 من التاريخ المذكور، وأعظم ما حدث في أيامهم قدوم ماربولس، وانكسار السفينة به وبمن كان معه، وذلك سنة 58 للميلاد، في موضع يقال له الآن: خليج ماربولس، ومنذ ذلك الوقت تنصر أهل الجزيرة، ثم بعد الرومانيين استولت قبيلة «الفندلس» ثم «القوث» ثم «البليساريون» وألحقوها بحكومة البلاد الشرقية وبقيت كذلك إلى سنة 780 فأخذوه في هضم الرعية، فقاموا عليهم وسلموا الجزيرة للمسلمين. أ.ه. ملخصا.
قلت: يريد بالقوث أمة القوط الذين كانوا غلبوا على إسبانية، وبالفاندالس الأمة التي كانت أيضا غلبت على إسبانية وإفريقية، وأما البليساريون فهم قوم بليسار
Belisaire
وكان من قواد الإمبراطور يوستنيانوس صاحب بيزنطية، ولد سنة 490 وفي سنة 533 غزا الفندلس في إفريقية، واستولى على قرطاجنة، ثم غزا أيضا القوط عندما كانوا في إيطالية واستولى على صقلية ونابولي ورومة، ولعله في هذه الغزاة استولى على مالطة، ثم قال أحمد فارس: ذكر في كتاب الجمع والبيان في أخبار القيروان: إن مالطة فتحت في أيام أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب، توفي سنة إحدى وستين ومائتين، وإنما لقب بالغرانيق لأنه كان مشغوفا بالصيد، روي أنه بنى قصرا في السهلين، لصيد الغرانيق أنفق فيه ثلاثين ألف دينار ، فكني بهذه الكنية، فعلى هذا فلا معنى لقول المؤلف (أي المؤلف الذي نقل عنه أحمد فارس): وسلموا الجزيرة للمسلمين. أ.ه. يريد أحمد فارس أن يقول: إن المسلمين أخذوها فتحا.
ثم نقل صاحب «الواسطة في معرفة أحوال مالطة» عن ذلك المؤلف بقية حوادث مالطة، فقال: ثم قام الأمير روجر النورماندي بعدها بمائتي سنة، واسترد الجزيرة وألحقها بصقلية، فبقيت كذلك نحو سبعين سنة، ولما تزوج القيصر هنري السادس قيصر جرمانية ولية عهد صقلية دخلت مالطة في حكومته، وذلك سنة 1266 وبقيت كذلك اثنتين وسبعين سنة، وفي أثناء ذلك ولي أخو لويس ملك فرنسة حكم صقلية ومالطة معا، وبعد سنتين تغلب عليه الأمير بطرس الأراغوني، ثم آل أمرها إلى الملك كرلوس ملك صقلية فولى عليه الفرسان من نظام ماريوحنا برضى الأهلين واتفاق دول أوربا، ثم لما نبغ نابليون واستولى على البلاد سلمت له الجزيرة على أن يرخص للأهلين في التصرف بحقوقهم، إلا أن الفرنسيس لم يلبثوا أن هتكوا بعض السنن القديمة، وانتهكوا حرمة الكنائس، فتحزب عليهم المالطيون تحزبا لم يخل من سفك دم كثير منهم وتلف أموالهم، إلى أن أتت الإنكليز فسلموها لهم وكان ذلك سنة 1800.
قلت (أي قال أحمد فارس): لما دخلها نابليون وجد فيها ألفا ومائتي مدفع ومائتي ألف رطل من البارود وأربعين ألف بندقية وعدة بوارج و4500 أسير من المسلمين فأطلقهم، وذلك سنة 1798.
ثم رجع الشدياق إلى النقل عن المؤلف الذي نقل عنه فقال: إن أخذ المسلمين لمالطة كان من باب المصادفة أولى منه من المغالبة، وعاملوا الأهلين أولا بالرفق والمياسرة، وقرروا سننهم وأحكامهم، وامتزوجوا بهم للغاية، حتى كأن الجيلين واحد، كما يتبين من بقاء لغتهم فيهم.
قال: أما لغة مالطة فذهب بعضهم إلى أنها عربية فاسدة، وذلك آخرون إلى أنها فينيقية لأن اليونانيين بعد أن فتحوا الجزيرة لم يخرجوا منها الفينيقيين بل ظلوا فيها آمنين محافظين على لغتهم، وما برحت مستقلة حتى بعد استيلاء الرومانيين عليها وأنها لم تتغير في مدة القرطاجنيين لأن لغة هؤلاء كانت أيضا فينيقية، ومع أن دأب الرومانيين كان حمل الناس على التخلق بأخلاقهم والسلوك بسنتهم أينما ملكوا فلم يجبروا الرعية هنا على التكلم بلغتهم، والدليل على ذلك أن الرومانيين الذين كانوا مع ماربولس سموا المالطيين بربرا ولم يكن يطلق هذا الاسم إلا على من جهل اللاتينية واليونانية.
قال: ثم بقيت في دولة المسلمين أيضا ولم تتغير وإنما دخل فيها بعض ألفاظ أجنبية ويؤيد كونها فينيقية مشابهة بعض ألفاظ منها للعربية، نحو بير وصيد، فإنهما في الفينيقية بر وصد وغير هذا كثير مما له لفظ واحد ومعنى واحد في كلتا اللغتين، والحاصل أن مأخذ اللغة المالطية من الفينيقية أرجح من أن يكون من العربية وإن كانت قريبة من هذه أيضا. أ.ه.
قال أحمد فارس: قلت: دليله هذا أوهى من بيت العنكبوت فإن البير والصيد ينطق بهما في لغتهم كما في لغتنا سواء ما عدا موافقتهما في تصريف الأفعال والأسماء وفي الضمائر وغير ذلك من أساليب الكلام، ومن الغريب أن المؤلف لا يعرف الفينيقية ولا العربية ولا المالطية، وإن كانت لغته، ويتعرض للحكم والاستدلال، فكيف يحكم على الشيء وهو يجهله وكيف يقول: إن لغة المسلمين بقيت في أهل مالطة لشدة الالتحام الذي كان بين الفريقين ثم يقول الآن: إنها فينيقية لمجرد وجود كلمتين فيها؟ وإنما حمله على هذا بغضه وبغض أهل بلاده للعرب وتبرئة أنفسهم أنهم ليسوا منهم بل من الفينيقيين. أ.ه.
قلت: لغة مالطة عربية لا شبهة فيها، وإنما ثبتت العربية في مالطة برغم انقراضها من صقلية وسردانية والأندلس وجنوبي فرنسة وجميع البلدان التي احتلها العرب من أوربة، لكون أصل لغة تلك الجزائر والبلدان لاتينيا، فلما تقلص ظل العرب عنها رجعت إليها لغتها الأصلية وانقرض العربي منها بالكلية، فأما مالطة فلغتها الأصلية لم تكن لاتينية بل كانت الفينيقية وهي أخت العربية، فلما جاءتهم العربية بعد فتح الإسلام لمالطة كانت كأنها نزلت في وطنها وثبتت فيها ثبوتا لم يزلزله خروج المسلمين من مالطة كما ذهبت العربية من البلدان الأخرى التي أهلها الأصليون لاتينيون ولغاتها الأصلية لاتينية.
ثم قال أحمد فارس: والظاهر أن المسلمين الذين فتحوا مالطة لم يكونوا من أهل العلم والتمدن، كالذين كانوا في صقلية وغيرها، فإني لم أجد قط فيما قرأت من كتب الأدب والتواريخ قال المالطي، والسيوطي رحمه الله لم يغادر في كتاب الأنساب الذي سماه «لب اللباب» أحدا من أهل العلم إلا ذكره ما خلا المنسوب إلى مالطة. أ.ه.
قلت: أتذكر أني قرأت في بعض كتب التراجم، من مؤلفات أهل الأندلس، أسماء رجال منسوبين إلى مالطة، وفي معجم ياقوت يذكر نقلا عن السلفي: سمعت أبا العباس أحمد بن طالوت البلنسي بالشقر يقول: سمعت أبا القاسم بن رمضان المالطي بها يقول: كان القائد يحيى صاحب مالطة قد صنع له أحد المهندسين صورة تعرف بها أوقات النهار الصنج، فقلت لعبد الله بن السمطي المالطي أجز هذا المصراع:
جارية ترمي الصنج فقال:
بها النفوس تبتهج
كأن من أحكمها
إلى السماء قد عرج
فطالع الأفلاك عن
سر البروج والدرج
وأما قول ياقوت إنها بلدة بالأندلس فليس بمانع من كونه يريد بها هذه الجزيرة المسماة مالطة الواقعة في بحر الروم، فقد جاء في تاج العروس: ومالطة كصاحبة ووقع في التكملة مضبوطا بفتح اللام والمشهور على الألسنة سكونها بلدة بالأندلس كما نقله الصاغاني وهي مدينة عظيمة في جزيرة من بحر الروم، شديدة الضرر على المسلمين في البحر، يعظمها النصارى تعظيما بالغا وبها وكلاء عظمائهم من كل الجهات، ولقد حكى لي من أسر بها عن زخارفها ومتانة حصونها وتشييد أبراجها وما بها من عدة الحرب ما يقضي بالعجب، جعلها الله دار إسلام بحرمة النبي
صلى الله عليه وسلم ، فأنت ترى أن كتاب العرب كانوا يجعلون مالطة من الأندلس كما كانوا يجعلون ميورقة ومينورقة وسردانية وغيرها.
ثم نقل أحمد فارس عن المؤلف الذي اعتمد عليه كلاما عن جزيرة «كوتزو» من أخوات مالطة فقال: إن اسمها جزيرة غورش وإنها بالإفرنجية كوتسو وإن هذه اللفظة يونانية ومعناها مركب مستدير وهي كأنها ذيل انقطع من مالطة وطولها اثنا عشر ميلا في عرض ستة، وأهلها نحو خمسة عشر ألفا، وجملة قراها ست، ومدينتها تسمى الربط (كأنه محرف عن الربض) وفيها آثار قلعة قديمة، وبقول الجزيرة وفاكهتها طيبة جدا، وكذا عسلها، وزعم بعضهم أن مالطة وغورش وكمونة كانت في الأصل جزيرة واحدة وحدث من الزلازل ما فرقها. أ.ه.
وأردف أحمد فارس رحمه الله هذا الكلام بقوله: رأيت جزيرة غورش غير مرة، أما اسمها فأظنه محرفا عن لفظة الهودج، سماها به المسلمون لشدة شبهها به، كما سموا الجزيرتين الأخريين كمونة وفلفلة لصغرهما، إلا أن أهلها ينطقون بها بالغين المعجمة لا بالمهملة كما ينطق بها أهل مالطة.
ثم ذكر أحمد فارس أن أهل مالطة رغما من كون لغتهم فرعا عن العربية فليس منهم من يحسن قراءتها والتكلم بها، وأن هناك دار كتب موقوفة فيها ثلاثة وثلاثون ألف سفر، وليس فيها من الكتب العربية ما تحته طائل، ثم ذكر أن في لغتهم إمالة كثيرة فهم يقولون للتفاح تفيح وللرمان رمين وللبطيخ بتيح بالحاء المهملة وللخيار حيار بالحاء المهملة أيضا وللإجاص لنجاص وللدلاع دليع وللخبز حبس وللخوخ حوح بالحائين المهملتين، ويقولون: بس بمعنى حسب، ولكن يبدلون سينها زايا ويكسرون أولها.
ثم قال: إنه لا ينكر أن كثيرا من الكلام العربي الذي بقي في مالطة مستعمل بطريقة المجاز إما بذكر اللازم وإرادة الملزوم وإما بتخصيص العام وتعميم الخاص كقولهم مثلا «وحلت» للوقوع في الأمر الصعب وأصله الوقوع في الوحل خاصة، ونحو «الطلاب» للمتكفف وهو اسم فاعل للمبالغة من طلب، ونحو «مغلوب» للنحيف وهو اسم مفعول من غلب وهو لازم له غالبا، وفتيت أي قليل وهو من فتت الشيء إذا كسرته وصغرت جرمه، قال: وإن أهل غورش ينطقون بالأحرف الحلقية على حقها إلا أنهم يكسرون ما قبل الواو الساكن فيقولون مكسور ومفتوح ويضمون ما قبل الألف نحو قاعد وهلم جرا، ويقولون منكم وعليكم بكسر الكاف وهي لغة ربيعة وقوم من كلب كما في المزهر ويسمى الوكم.
وذكر من اصطلاحاتهم أنهم يعبرون عن الدخول في الفعل بلفظة «سائر» وهي نظير قول أهل الشام ومصر «رايح» فإذا قال المالطي: أنا ساير نسافر فهي كقول الشامي أو المصري: أنا رايح أسافر.
قلت: يظهر أن سائر هذه كانت مستعملة في المغرب وقد نحتوها فبقي منها سين مفتوحة، فيقولون عن شخص مثلا هو في حال الأكل سيأكل، وأحيانا يقلبونها تاء فيقولون تيأكل، ويقولون في المغرب في مثل هذه الحالة كيأكل، وأظن الكاف هنا منحوتة من «كائن» وذلك كما ينحت أهل الشام لفظة «عمال» فبدلا من أن يقول هو عمال يأكل تجده يقول: «عمياكل» وفي بعض جهات من شمالي لبنان يقلبون الميم نونا فيقولون: «عنياكل».
ثم ذكر أحمد فارس اصطلاح أهل مالطة على إدخال لفظة «تا» بين المضاف والمضاف إليه، فيقولون مثلا: «الرجل تالبيت» وذهب أحمد فارس إلى أنها منحوتة من متاع، قال: فإن أهل المغرب يدخلونا كثيرا في الإضافة ويبتدئون بالميم ساكنة على عادتهم من الابتداء بالساكن وتقصير اللفظ، ومما يؤيد هذا التوجيه أن المالطيين لا ينطقون بالعين إذا وقعت في آخر الكلمة فيقولون مثلا: تلا وقلا في طلع وقلع، قال أحمد فارس: وقلب العين ألفا أو همزة هو من أساليب العرب، كما في تفصى وتفصع، وأقنى وأقنع، والشمى والشمع، وتكأكأ وتكعكع، وزقاء الديك وزقاعه، وزأزأ وزعزع، وبدأ وبدع، والخباء والخباع وغيرها، حتى إنهم قلبوها متوسطة كما في تأرض وتعرض، ودأم الحائط ودعمه، انتهى.
قلنا: إن الهمزة والعين من مخرج واحد فلا عجب أن تأتي ألفاظ بالهمزة وبالعين ومعناهما واحد.
ثم قال أحمد فارس: إنهم في مالطة يجعلون الهاء حاء، وأنشد من شعر المالطيين:
المحبوب تا قلبي سافر
ليلي ونهاري نبكيح
جعلنلو بدموعي البحر
وبالتنهيدات تا قلبي الريح
أي: ليلي ونهاري نبكيه، وإبدال الهاء حاء لغة من لغات العرب، قالوا المليه، والمليح، والمده والمدح، وتاه وتاح، إلى آخره.
قال: ومما بقي عندهم من فصيح العربية قولهم دار نادية، وحقها دارندية ولكنها أفصح من قول أهل مصر والشام دار ناطية، ويقولون للداية قابلة ، ويقولون للرهان مخاظرة، وللعلية غرفة، ويقولون عن لي بمعنى بدالي، وتجالدوا وهو أفصح من تعاركو، وزفن أي رقص، وبوقال وهي أفصح من قول أهل الشام شربة أو نعارة، ومن فصيح كلامهم يماري أي لا يقنع بالحق، ويشرق بالماء، ويستقصي، وفرصاد للتوت، وسفود، وأهل الشام يقولون سيخ وشيش، ويقولون تقزر أي تباعد من الأدناس، وعسلوج للقضيب، وجلوز للبندق الذي يؤكل.
قال: ولكن هذه الألفاظ كلها مستعملة في الغرب وبهذا يترجح أن أصل المالطيين من المغاربة، ولكنه في محل آخر قال: إنه لا شك في كون اللغة المالطية عربية ولكني لست أدري أصل هذا الفرع أشامي هو أم مغربي، فإن فيها عبارات من كلتا الجهتين والغالب عليها الثانية، غير أن الألفاظ الدينية من الأولى فيقولون مثلا: القداس والقديس والتقربن والأسقف مما لا يفهمه أهل المغرب. أ.ه.
قلت: إن في المالطية ألفاظا واصطلاحات شامية، وقد ورد هذا الرأي في الإنسيكلوبيدية الإفرنسية، ولكن الألفاظ المغربية هي بدون شك أكثر.
وذكر أحمد فارس من أوزان كلام مالطة فاعلة للمصدر، فيقولون عملته بالواقفة أو بالقاعدة، والمصدر على هذا الوزن معروف في العربية قال تعالى:
فهل ترى لهم من باقية
أي من بقاء، وقال تعالى:
ليس لوقعتها كاذبة
أي كذب، ثم قال: إن بقاء العربية في مالطة لو محرفة مع عدم تقييدها في الكتب دليل على مالها من القوة والتمكن عند من تصل إليهم من الأجيال، ألا ترى أن مالطة قد تعاقبت عليها دول متعددة ودوا لو يحملون أهلها على التكلم بلغاتهم فلم يتهيأ لهم وبقوا محافظين على ما عندهم خلفا بعد خلف، وهؤلاء الإنكليز يزعمون أن لغتهم ستكون أعم اللغات وما تهيأ لهم أن يعمموها عند المالطيين، ويقال: إن الذي تحصل عند أهل مالطة من العربية مما هو مأنوس الاستعمال وغير مأنوسه يبلغ عشرة آلاف كلمة.
بحث دقيق جليل عن مغازي العرب في أوربة وجزائر البحر المتوسط
بقلم الأستاذ الأفضل السيد عبد العزيز الثعالبي رئيس الحزب الوطني في تونس
كان بلغنا أن لدى الأستاذ الأجل الأفضل السيد عبد العزيز الثعالبي، وثائق ومعلومات لا توجد عند غيره ، في موضوع فتوحات العرب في جنوبي أوربة، فاقترحنا عليه كتابة شيء في هذا الموضوع نجعله كالقلادة في جيد تأليفنا هذا، فتفضل علينا حفظه الله ونفع به الإسلام بالخلاصة التالية:
إن أول واضع لخطة الفتوحات الإسلامية في أوربة هو الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه حين ندب أخاه من الرضاع، عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لفتح بلاد شمالي إفريقية، ووافته البشائر بفوز جيوشه على جيوش جيجير والي سبيطلة من قبل البيزنطيين، ندب القائدين البحريين الجليلين عبد الله بن عبد القيس وعبد الله بن نافع بن الحصين الفهريين، وكانا على الأسطول، فأمرهما بالمسير إلى الأندلس وكتب لهما وصية سياسية في ذلك، تلك الوصية الخالدة التي يقول فيها: إن القسطنطينية تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن فتحتم ما أنتم بسبيله تكونون شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر، وقد اتخذ ولاة شمالي إفريقية وقواد أجنادها هذه الوصية نبراسا لسياستهم الإسلامية التي يسيرون عليها.
وأول أمير شرع في إعداد الوسائل والمعدات لتنفيذ تلك الوصية الأمير حسان بن النعمان، شيخ وزراء الدولة الأموية، بعد أن دان له شمالي إفريقية بالطاعة فقد أنشأ بفناء قرطاجنة دار الصناعة لبناء السفن والأساطيل وصنع الأسلحة، وجلب لها الصناع من قبط مصر، وسار على منهاجه في ذلك مولاه طارق بن زياد بعد أن ولي المغرب، فجاز بجيوشه أرض العدوة، وناجز الأندلسيين سنة 92 ثم تلاهما في ذلك إسماعيل بن أبي المهاجر الذي تقلد إمارة شمالي إفريقية في عهد عمر بن عبد العزيز فأغزى أساطيله جنوبي أوربة سنة 105 وكانت قيادتها لعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، ولم يعد إلا بعد أن أثخن في إيطالية، وهذه الغزوة تعتبر كبشير لإنقاذ الإيطاليين من حكم البيزنطيين الطغاة.
وفي ولاية عبيد الله بن الحبحاب لإفريقية جهز أسطولا كبيرا جعل إمارته لقائد جيوشه الموفق حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة الفهري، فغزاها سنة 123 ونكل فيها بالبيزنطيين أشد تنكيل، ولو لم تحصل ثورة البربر ضد الحكم العربي بسبب تخميس أعشارهم لتملك شطوط إيطاليا وطهرها من حكم البيزنطيين كما فعل ذلك من قبل حسان بن النعمان في شمالي إفريقية.
وفي سنة 207، بعد استقرار الدولة الأغلبية جهز زيادة الله الأكبر أسطولا بإمارة قائده محمد بن عبد الله التميمي لمنازلة سردينية، ثم أعاد عليها الكرة سنة 212، وكانت إمارة الأسطول والجيوش في هذه المرة لقاضي القضاة الإمام أسد بن الفرات، فملك مازرة وحاصر سركوسة، وحول أسوارها أدركت الإمام الشهادة رضي الله عنه سنة 213 فتولى القيادة العامة صاحب أسطول الأندلس القائد أصبغ المعروف بفرغلوسن، وبعد أن استقرت الأمور في البلاد المفتوحة قلد زيادة الله إمارة إيطالية لابن أخيه إبراهىم بن عبد الله بن الأغلب، وما زال مواليا للجهاد حتى فتح بليرم ونابولي.
وفي ولاية أي عقال الأغلب بن إبراهيم استؤنفت حرب التحرير في إيطالية سنة 224 وتم فتح صقلية.
وفي ولاية الأمير محمد الأول تقدمت الفتوحات في شطوط إيطالية واستمرت من سنة 233 إلى سنة 240 ففتحت باتية وقطانية وبشيرة.
وفي ولاية الأمير أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب ندب والي صقلية العباس بن الفضل لغزو قصر الحديد ومدينة شلقودة وجهز الأسطول وأمر عليه أخاه وسيره لفتح جزيرة أقريطش فكان له واقعة مهولة في البحر الرومي مع أسطول بيزنطية.
وفي عهد أبي الغرانيق محمد الثاني بن أحمد بن محمد بن الأغلب قلد خفاجة الولاية على إيطالية وأخرجه سنة 251 لفتح جنوة ففتحها وتقدم إلى جبال الألب واستمر فاتحا إلى نهاية سنة 252 وفي سنة 253 سيرت بيزنطية أسطولا ضخما، لمحاربة المسلمين في شطوط أوربة الجنوبية ومنع جحافلهم من التقدم في فرنسة، فواقعهم خفاجة على شواطئ جنوة وسركوسة وألحق بهم خسارة عظيمة.
وفي سنة 255 غزا الأسطول الأغلبي جزيرة مالطة واستولى عليها وألحقها بشمالي إفريقية.
وفي عهد إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب قلد الحسن بن رباح ولاية جنوبي أوربة ونهده إلى الغزو فيما يليها؛ فتقدم إلى مرسيلية وفتح البروفنص فاستنجدت فرنسة بالدولة البيزنطية فسيرت لها أسطولا مؤلفا من 140 مركبا، فتلقاه الأسطول الإفريقي في عرض البحر الرومي فدارت بينهما معركة مهولة كان الفوز فيها للبيزنطيين بعد أن تحطمت شوانيهم والتجأت بقايا الأسطول الإفريقي إلى بليرم، لكن الجيوش الإسلامية كانت تتوغل في فرنسة واستمرت على ذلك من سنة 266 إلى سنة 272 فملكت بعض شواطئ الرون واحتلت كولونيا، غير أن عين البيزنطيين لم تنم عن هذه الفواجع، فأعادوا كرة حملتهم البحرية وحاولوا في هذه المرة قطع خطوط الاتصال بين جنوبي أوربة وشمالي إفريقية، فاحتل أسطولهم مدينة سبرية فقاومهم المسلمون مقاومة عنيفة منعتهم من التقدم.
وفي سنة 275 جهزت إفريقية أسطولا عظيما لتعقب أسطول البيزنطيين وشل حركتهم عن التقدم في الشطوط، ولم يلبث أن اشتبك العدو وضربه الضربة الحاسمة ومكن سيادة المسلمين في إيطاليا وجانب من فرنسة.
واستمر نجم الإسلام صاعدا في أوربا بعد هذه الوقعة العظيمة وأمراء الأغالبة لا ينفكون عن تعزيز المسلمين في ولايتهم الأوربية ومراقبة حركات الصليببين مراقبة عنيفة تحبط كل سعي في الانتكاث حتى دان من كان في حوزتهم من النصارى بالإسلام وتذوقوا حلاوة تحريره إياهم من ظلم الأمراء الإقطاعيين، وطغيان الكنيسة الكاثوليكية واستمر ذلك إلى أن ظهرت النبعة الآثمة نبعة الدعوة العبيدية في قبيلة كتامة البربرية من المغرب الأوسط، وقدر لها أن تجتاح الدولة الأغلبية فتعطل الفتح في أوربا وانقلبت جيوش إفريقية مغيرة على العالم الإسلامي لتقويض دولة بعد أخرى وهدم الخلافة العباسية القائمة في المشرق وبسبب ذلك تحولت السياسة الإسلامية تجاه أوربا من الهجوم والتوثب إلى الدفاع والتسليم.
ولم يجن أحد على الإسلام ما جناه عليه هؤلاء العبيديون أو الفاطميون وإليك البيان:
لما تغلب عبيد الله المهدي على إفريقية وزال عنها حكم بني الأغلب كرهت الولايات الإسلامية في أوربا أن تقدم طاعتها للمتغلبين، فأجمع أصحاب الشأن فيها على إعلان الاستقلال حتى يمتنع نقل الجيش من أوربا إلى إفريقية، فبايعوا بالإمارة القائد أحمد بن زيادة الله بن قرهب؛ وبمجرد انعقاد هذه البيعة كتب الأمير إلى المقتدر بالله الخليفة العباسي بالطاعة، فأنفذ إليه المقتدر بالتقليد والخلع والألوية وطوق من الذهب ولما بلغ ذلك عبيد الله المهدي أخذ يسعى في بث الدسائس والفتن بين المسلمين في أوربا، وما زال بهم حتى اختلت الأمور على ابن قرهب فخلع سنة 303 وقتل بعد أن وصل إلى المهدية؛ وعقب ذلك اجتمع أولو الحل والعقد من المسلمين في دار الإمارة ببليرم فكتبوا إلى المهدي، وذلك بعد أن بلغهم أنه جهز جيشا لغزو المشرق بقيادة الطاغية البربري القائد حباسة بن يوسف يلتمسون منه تعيين الولاة والقضاة وأن يبقى لهم الجيش يدرأون به الأخطار أمام الأعداء إلى غير ذلك من الشروط التي تضمن لهم الاستقلال الداخلي ولا تجعل بلادهم عرضة للغارة والفتوق، فأبى أن يجيبهم إلى هذه الطلبات العادلة، وأخرج إليهم الجيوش والأساطيل وعين عليهم سعيد بن المضيف فحاصرهم شهورا، وكانت البلاد ممتنعة عنه فتنحى عنها وأرجل جنود كتامة في أرباض الشواطئ المفتوحة للنهب والسلب، ففعلوا الأفاعيل التي أفزعت النساء والذرية؛ حتى إذا رأى المسلمون أنه لا طاقة لهم بهذا الفزع نزعوا إلى طلب الأمان فأمنهم بلا قيد ولا شرط، وعلى أثر ذلك احتل البلاد وهدم أسوار المدن وجرد حاميتها من السلاح والخيل وفرض المغارم الكثيرة، ونصب سالم بن أبي راشد أميرا عليها وعززه بجيش من كتامة فكان دأبهم الإفحاش في الظلم وسلب الأموال، فانقبضت النفوس وخارت الهمم عن التوسع حتى طمع فيهم رعاياهم الإيطاليون والفرنسيون.
وفي عهد أبي القاسم بن عبيد الله المهدي عين لولاية أوربا خليل بن إسحاق الطاغية؛ فقضى في الحكم أربعة أعوام ارتكب فيها من الجور والفساد ما لم يسمع بمثله، وجعل المسلمين يفرون أفواجا أفواجا إلى البلاد النصرانية ويتنصرون. ويحدثنا عنه المؤرخون أنه لما عاد سنة 329 إلى شمالي إفريقية كان يفتخر بمظالمه، فقد حضر مجلسا من وجوه الدولة العبيدية في قصر الإمارة وكانوا يتباحثون في شئون الدولة، فقال: إني قتلت في إمارتي ألف ألف نسمة، فرد عليه أبو عبد الله المؤدب، وكان من عقلاء الرجال في الدولة الشيعية: «لك يا أبا العباس في قتل نفس واحدة ما يكفيك».
وفي أيام الأمير تميم الملقب بالمعز لدين الله وجه القائد جوهرا في الغزوة الثانية على مصر سنة 357 بعد وفاة صاحبها كافور الإخشيدي فاستولى عليها وبنى له مدينة القاهرة، وفي سنة 361 رحل المعز إلى المشرق واتخذ القاهرة عاصمة لملكه واستخلف على إفريقية أبا الفتوح يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي مؤسس الدولة الصنهاجية؛ فكان همه ضبط البلاد وتكوين الشعور بالوحدة البربرية، فشعرت الأمم النصرانية المتاخمة للمسلمين في أوربا بسريان هذا الضعف والانحلال في قوة التماسك بالوحدة الإسلامية، فأخذوا يواثبون المسلمين في كل مكان، وما زالوا يجمعون ويؤلبون عليهم إلى أن وافتهم سنة 372، فحشدوا قواهم لمناجزة المسلمين في فرنسة، ولما بلغ ذلك أبا الفتوح أمر عامله على جنوبي أوربا أن ينهد لقتالها فتحرك إليهم في جيوش كثيفة ودارت بينهم معارك ارتدت فيها النصرانية على الأعقاب وفاز فيها المسلمون فوزا عظيما، فما كان من الملك روجار النرماندي قائد هذه الحملات الصليبية الأولى إلا أن استنفر الأمم النصرانية لمحاربة الإسلام في أوربا وإفريقية.
وكان النرمنديون نزلوا من شمال فرنسة إلى جنوبها ثم شرعوا يتعقبونهم ويناجزونهم في إيطاليا ويفتكون منهم المدن، مدينة إثر مدينة، حتى ملكوا جميع البلاد الإسلامية في جنوب أوربا، ومما ساعدهم على ذلك تراجع أمر الدولة الصنهاجية أواخر حكم المعز بن باديس إثر الزحفة الهلالية التي سيرها إليهم العبيديون سنة 452 من مصر لتقويض معالم شمالي إفريقية.
ولم تقف أطماع النرمنديين على إزالة الحكم الإسلامي من أوربا، بل جنحوا إلى التغلب على المسلمين في مواطنهم الآمنة بإفريقية، فهجموا في سنة 476 على المهدية دار المملكة الصنهاجية بأسطول مؤلف من 300 مركب عليه 30 ألف مقاتل، وكانت المدينة مفتوحة غير محصنة فتغلبوا عليها وعلى زويلة، وأحدثوا فيها مقتلة ذريعة، وحرقوا وخربوا المعالم المشهورة وأخيرا صالحهم تميم بن المعز بن باديس على مائة ألف دينار وما انتهبوه من الأموال وسبوه من النساء والذراري.
ولما انتقل الحكم إلى الأمير حسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس سنة 516 أراد غسل العار الذي لحق الدولة من فعل النرمنديين ورد ما فقدته من الأقطار الواسعة في أوربا، فندب لذلك حليفه الأمير علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني صاحب العدوتين أن ينهد لقتال النرمنديين؛ فأغزى أسطوله شطوط أوربا الجنوبية، وكان بقيادة أبي عبد الله ميمون، فأثخن فيها قتلا وسبيا ورد أمم النصرانية على أعقابها بعد أن هلك من الطرفين عدد لا يحصى، ولم تخمد هذه الكارثة همم النرمانديين وتقعد بهم عن استئناف حملتهم على المهدية، فأعادوا الكرة عليها في أساطيلهم أواخر جمادى الأولى سنة 517 فتلقاهم آساد العرين في كل مكان وتخطفتهم السيوف حتى أبيدوا عن آخرهم، وغنم المسلمون مراكبهم وأسلحتهم وأموالهم، فكانت وقعة عظيمة أنعشت أرواح المسلمين بعد طول الخمود؛ ولكن الصليبيين لم يكفوا عن متابعة الغارة فأعادوا الكرة على المهدية سنة 543 فاحتلوها بعد وقائع مهولة وخرج منها السلطان حسن بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بجملته وحاشيته إلى جزائر بني مزغناي (الجزائر) وجعل الصليبيون المهدية قاعدة لحركتهم الحربية في شمالي إفريقية وشن الغارة منها على ما يليها من الشطوط التي استولوا عليها، وقد مكثوا بها إلى أن أجلاهم عنها أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي في المحرم سنة 555 ولولا نجدته لكانت بلادنا اليوم بلادا نصرانية من غير شبهة. انتهى.
كتابات عربية على القبور الإسلامية في مالطة
بعد أن أتممنا كتابنا المتضمن غزوات العرب في فرنسة وسويسرة وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط ومن جملتها جزيرة مالطة اطلعنا على رسالة للمستشرق الإيطالي (إيطوري روسي)
Ettore Rossi
الذي يعد من أعلم المستشرقين بأحوال مالطة إن لم يكن أعلمهم وهو الذي حرر الفصل المختص بمالطة في الإنسيكلوبيدية الإسلامية واجتمعنا مع الأستاذ المشار إليه في رومة في هذه الأيام الأخيرة وتباحثنا في تاريخ مالطة وكثير مما يتعلق بشؤونها وهو الذي قدم لنا رسالته هذه باللغة الإيطالية فأحببنا أن ننقل ما جاء فيها من الكتابات العربية التي وجدت على القبور الإسلامية في مالطة والتي جمعها إيطوري روسي وصورها بالفوتوغرافية ونشر صورها في الرسالة المذكورة فنحن آثرنا نقلها كما وجدناها في رسالته إتماما للفائدة.
ومما جاء في صدر هذه الرسالة أن نزول العرب في مالطة وقع بحسب الرواية المشهورة في سنة 256 للهجرة وأنه من المعلوم أن أبا الأغلب إبراهيم غزا جزيرة صقلية سنة 221 للهجرة أي 835-836 للمسيح واستولى عليها فغير معقول أن يكون استولى على صقلية وترك مالطة وهي أقرب إلى إفريقية من صقلية فلابد أن يكون استيلاء المسلمين على مالطة وقع قبل سنة 226 للهجرة وفق 869-870 للمسيح.
أما تاريخ استخلاص مالطة من أيدي المسلمين فيذكرون أنه وقع بين سنة 992 للمسيح وسنة 1025 وذلك بالغارة البيزنطية، ولكن مما لا شك فيه أن المسلمين بعد أن استرجع المسيحيون مالطة بقوا يسكنون الجزيرة نحوا من مئتي سنة أي إلى سنة 1224 بل إلى سنة 1249 بحسب رواية العلامة آماري
Amari
مؤرخ صقلية.
وهذه هي نصوص الكتابات التي وجدت في المقابر الإسلامية في مالطة ننقلها كما وجدناها في الرسالة المذكورة:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وسلم تسليما، لله العزة والبقا وعلى خلقه كتب الفنا ولكم في رسول الله أسوة حسنة، هذا قبر ميمونة بنت حسان بن علي الهذلي عرف ابن السوسي توفيت رحمة الله عليها يوم الخميس السادس عشر من شهر شعبان الكائن من سنة تسع وستين وخمسمائة وهي تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
انظر بعينيك هل في الأرض من باقي
أو دافع الموت أو للموت من راق
الموت أخرجني قصرا فيا أسفى
لم ينجني منه أبوابي وإغلاق
وصرت رهنا بما قدمت من عمل
محصا علي وما خلفته باقي
يا من رأي القبر أني قد بليت به
والترب غبر أجفاني وآماقي
في مضجعي ومقامي في البلا عبر
وفي نشوري إذا ما جئت خلاقي
أخي فجد وتب.
بسم الله الرحمن الرحيم: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم (...) توفي ... يوم الأربعا ودخل قبره يوم الخميس من العشر الأو (...).
الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين أدعو ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب الم (...) محمد وآله وسلم تسليما إن ربكم الله. (...) م ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات.
بأمره ألا له (؟). (بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سي)دنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما فاز. (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجورك)م يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد.
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. هاذا قبر الشيخ المرحو(م ...).
توفي رحمه الله فى العشر الأول من صفر عام ثمانية وسبعي(ن ...).
بسم الله الرحمن الرحيم هذا قبر محمد ... توفي يوم الثلاثة في ذي الحجة سنة ثلاث و ... (...) الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون (...). (...) العلي العظيم لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت (...). (... لق)د جاكم رسول من أنفسكم رؤوف فإن تولوا لا إله إلا هو ع(ليه ...). (...) من شعبان سنة ستة وأربعين وخمسمائة برحمة الله وبرضوانه وصلى الله على محمد (...). (... أج)وركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة (...). (...) إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر (...).
كل نفس (...).
سلام على أهل القبور (...). ... عنده إلا بإذنه يعلم ما بين (...). ... لعطى محمد
قف بالقبور ...
بسم الله الر(حمن ...).
هذا قبر (...). (... زح)زح عن النار و(...). (... ا)لا متاع الغرور. (... الرحي)م هذا قبر أمة الله بنت أبو القاسم ابن عرو(ة)
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ... الله ...
إنما تو(فون أجوركم ...).
بسم الله الرحمن (الرحيم) ... (إ)براهيم الصمطى.
بسم الله الرحمن الرحيم ... والح ...
توفي يوم الخميس الثامن من ... سنة ... ... وخمسمائة
بسم الله الرحمن الرحيم (...) ... لله الله (...)
بسم الله الر(حمن الرحيم ...) ... النار وأدخل الجنة ...
عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم.
لا إله
إلا الله
محمد و
رسول الله
بسم الله الرحمن الرحيم الله لا إله إلا هو الحي القيو(م ...).
أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا (...). (...) الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. (...) شربة ولم يأكلوا من كل رطب ويابس. (... صلى الله ...) محمد وآله وسلم تسليما إن ... (...) (...) ... إلا له ... (...). (... أجور )كم يوم القيامة فمن زحرج عن النار و(...). (... و)لا نوم له ما في السماوات وما في الأرض (...).
سلام على أهل القبور الدوارس
كأنهم لم يجلسوا فى المجالس
ولم يشربوا من بارد الماء شربة
ولم يأكلوا ما بين رطب ويابس
هذا قبر ... عبد
العزيز ...
ورحم الله من
دعا له بالرحمة
هوامش
صفحة غير معروفة