عطوفة الأمير شكيب أرسلان
كلمة بين يدي رحلتي لتتبع الآثار العربية في الأقطار الغربية
مبدأ غارات العرب على فرنسة وما اعتمدنا عليه من الروايات عنها
1 - حملات العرب الأولى على فرنسة إلى عهد إخراجهم من أربونة واللانغدوق سنة 759 مسيحية
2 - غارات العرب على فرنسة من بعد جلائهم عن أربونة إلى عهد استيلائهم على بروفانس سنة 889 مسيحية
3 - نزول العرب في بروفانس وغاراتهم من هناك على سافواي وبييمونت وسويسرة إلى دور إجلائهم عن فرنسة
4 - الصفة العامة لغارات العرب هذه والنتائج التي ترتبت عليها
كتاب غارة العرب على سويسرة في أواسط القرن العاشر
الخاتمة
عطوفة الأمير شكيب أرسلان
صفحة غير معروفة
كلمة بين يدي رحلتي لتتبع الآثار العربية في الأقطار الغربية
مبدأ غارات العرب على فرنسة وما اعتمدنا عليه من الروايات عنها
1 - حملات العرب الأولى على فرنسة إلى عهد إخراجهم من أربونة واللانغدوق سنة 759 مسيحية
2 - غارات العرب على فرنسة من بعد جلائهم عن أربونة إلى عهد استيلائهم على بروفانس سنة 889 مسيحية
3 - نزول العرب في بروفانس وغاراتهم من هناك على سافواي وبييمونت وسويسرة إلى دور إجلائهم عن فرنسة
4 - الصفة العامة لغارات العرب هذه والنتائج التي ترتبت عليها
كتاب غارة العرب على سويسرة في أواسط القرن العاشر
الخاتمة
تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط
تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط
صفحة غير معروفة
تأليف
شكيب أرسلان
عطوفة الأمير شكيب أرسلان
المقدمة
بقلم شكيب أرسلان
جنيف 19 ربيع الأول 1352
بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا إليك نفزع من مداحض القدم، وبك نستعصم في ما يجري به القلم، ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، بارئ النسم ومفيض النعم، وباسط الوجود على العدم، شهادة نعدها للنجاة إذا اشتدت الغمم، ونتقي بها النار ذات الضرم، ونشهد أن محمدا عبدك ورسولك سيد من دعا إلى توحيدك من بين الأمم، وسلطان من طهر الأرض من عبادة الصنم، المنزل عليه كلامك الموصوف بالقدم، المبعوث بالآيات الباهرة والحكم. اللهم صل عليه وعلى آله لهاميم العرب ومعادن الكرم، وأصحابه حملة الكتاب وليوث الكتائب في المزدحم، الذين أشرقت شموسهم في الشرق والغرب فأماطت الظلم وأنارت الظلم، وسلم يا رب كثيرا.
وبعد، فإنه مما يجب أن يخلد في الصدور قبل السطور، وأن يكتب على الحدق قبل الورق، أن حفظ التاريخ هو الشرط الأول لحفظ الأمم ونموها، ورقي الأقوام وسموها، وأنه لا يتصور على وجه الكرة وجود أمة تشعر بذاتها وتعرف نفسها قائمة بنفسها إلا إذا كانت حافظة لتاريخها واعية لماضيها، متذكرة لأولياتها ومبادئها، مقيدة لوقائعها مسلسلة لأنسابها حاشدة لأحسابها خازنة لآدابها، مما لا يقوم به إلا علم التاريخ الذي هو الواصل بين الماضي والمستقبل، والرابط بين الآنف والمستأنف، وأنه لا جدال في كون الأمة العربية التي تتحفز لتنباع وتستوفز لتمد طائل الباع، لم تكن لتحدث نفسها بالنهوض الذي جعلته نصب نواظرها، والاتحاد الذي سيرته شغل خواطرها لو لم تكن رقت من رئاسة الممالك فيما غبر هاتيك الدرجات العالية، وطالعت من تاريخها تلك الصفحات المتلالية فجعلت الحاضر منها يخجل أن يقصر عن شأو الغابر، ويستطار أن يعلم أباه سيدا في الأوائل وهو عبد في الأواخر، فكان إذن تاريخ العرب هو عمدة العرب فيما يطمحون إليه من معال، ووسيلتهم فيما يندفعون إلى تحقيقه من آمال، ولعمري إن هذا التاريخ المجيد وإن سقته سيول المحابر واخضرت له أعواد المنابر، وسبقت فيه تآليف استولى أصحابها على الأمد إخراجا، ولمعت فيه كتب أو لاحت لكانت بروجا، ولو نضدت لكانت أبراجا، لا تزال فيه نواقص بادية العوار ومعالم طامسة الآثار، ومظان متوارية غامضة، ومعلومات قاعدة غير ناهضة، تحتاج إلى همم بعيدة من الأفواج الآتية ليثيروا من دفائنها، وإلى معارف واسعة عند السلائل المقبلة لينثلوا من كنائنها، وإن من أخص ما أهمل العرب فيه التأليف مع أنه من أمجد ماضيهم وألمع ما لمعت فيه مواضيهم هو الدور الذي كان لهم في القارة الأوربية خارجا عن الأندلس، وذلك كفتوحاتهم في ديار فرنسة وإيطالية وسويسرة، وما كانوا يقولون له: الأرض الكبيرة، وكفتوحاتهم لجزائر البحر المتوسط التي رفعوا فوقها أعلامهم حقبا طويلة، وأثروا فيها آثارا كثيرة أثيرة، فإن هذا الدور من أدوارهم يكاد يكون عند أبنائهم مجهولا، بل إن كثيرا من ناشئتهم لا يعرفون عنه كثيرا ولا قليلا، والحال أنه من أقعس فتوحاتهم مجدا وأوعر مغازيهم غورا ونجدا، وأدل أعمالهم على ما أوتوه من علو الهمم ومضاء العزائم، وما كان غالبا على أخلاقهم يومئذ من احتقار الطوائح واستصغار العظائم، فلهذا خصصت بهذا الموضوع كتابا مستقلا أسميته «الخبيئة المنسية في مقام العرب بجبال الألب والبلاد الإفرنسية»، وجعلت هذا الكتاب أشبه بجزء من أجزاء كتابي الذي أنا مباشر تأليفه عن الأندلس باسم «الحلة السندسية في الرحلة الأندلسية»، وسيكون فيما أحزر أربعة أو خمسة أجزاء إن لم يكن أكثر.
هذا وقد رأيت أن أتوج هذا الكتاب باسم الملك العربي الصميم منزعا ونسبا، ذؤابة بيت الرسول الكريم وحسبك بذلك شرفا وطهرا وأما وأبا، الذي وقف نفسه الأبية على خدمة أمته العربية عاملا لنهضتها بعد ربضتها، ومجاهدا في ربوتها بعد كبوتها فيصل بن الحسين ملك العراق والرافدين، أطال الله أيامه ونصر أعلامه وسدد آراءه وأحكامه، وأبلغه من مجد العرب مرامه، وذلك بالاتفاق مع أخويه الإمامين الهمامين العاهلين العادلين ملكي الجزيرة العربية في هذا العصر، المكتوب لهما فيه بإذن الله التمكين والنصر، الإمام يحيى بن محمد بن حميد الدين صاحب مملكة اليمن السعيدة، والملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود صاحب الدولة العربية السعودية، أيدهم الله جميعا لتأييد هذه الأمة وصيانة ذمارها، وألهمهم دوام الائتلاف والاتحاد لما به تجديد مجدها وإقامة عثارها، حتى يعود أمرها كما بدا وترجع أيام عزها جددا، وما ذلك على الله بعزيز.
صفحة غير معروفة
ملحق بالمقدمة
بقلم شكيب أرسلان
جنيف 14 جمادى الثانية 1352
قد كنت حررت هذه المقدمة منذ أشهر قلائل والملك فيصل في الحياة والأمة العربية تستمد حياتها السياسية من حياته، وتبني معظم آمالها على أصيل آرائه ومنصور راياته، وقبل أن بوشر طبع هذا الكتاب اختار الله هذا العربي الكبير لجواره، وكانت بموته الفادحة التي لم يرزأ العرب بمثلها، وقامت نوادبهم وسالت مدامعهم في كل غور ونجد من أجلها، فلم نشأ أن نغير شيئا من مقدمة هذا الكتاب بل أبقيناه متوجا باسمه كما لو كان في الحياة؛ إذ إننا لا نزال نعد فيصلا حيا في القلوب والخواطر وإن غاب بوجهه الكريم عن النواظر، لا سيما أن المرحوم كان قد سمع بخبر هذا التأليف وسألني - وا حسرتاه عليه إذ كان مؤخرا في برن - عنه وعن مباحثه وعما أمكنني الاطلاع عليه من آثار العرب في القرى السويسرية التي كان انتهى إلى سمعه أنني ذهبت إليها ونقبت فيها، وكان مهتما بهذا الموضوع مرتاحا إلى نشر هذا الكتاب، كما كان مرتاحا إلى نشر كل أثر عربي، وما كان فيصل رحمه الله إلا رمزا للقضية العربية، والرمز لا يموت عند قومه، فإذا كان فيصل قد مات فلن يموت تذكاره ولا تمحى آثاره، ولنا نعم العزاء في جلالة ولده المعظم الملك غازي الأول الذي نرتقب من هلاله بدرا ناميا، ونرجو من كرم الحق تعالى أن يجعله فيصلا ثانيا. آمين.
كلمة بين يدي رحلتي لتتبع الآثار العربية في الأقطار الغربية
ليس بعجيب أن يكون مثلي مغرما بالأندلس وآثار العرب فيها، وفيما جاورها من الأصقاع الأوربية، فإن كل عربي صميم حقيق بأن يبحث عن آثار قومه، ويتعلم مناقب أجداده، ويتدارس معالي هممهم مع إخوانه، ويترك من ذلك تراثا خالدا لأعقابه، ولعمري إن آثار العرب في الأندلس هي غرة شادخة وهمة شامخة في تاريخ الأمة العربية، بل نقول ولا نخشى مغالطا إنها من أنفس ما أثره العرب، بل من أنفس ما أثره البشر في الأرض. فلا غرو أن يعجب بها العربي، وينقب عنها، ويشد الرحال إليها ويأخذ العبرة اللازمة منها، فليست هي الآية الناطقة والبينة القاطعة على مجدنا الماضي، وعلى ما قدرنا أن نعمله في سالف الحقب فحسب، بل هي الحجة الملزمة والآية المعجزة المفحمة على جدارتنا بالاستقلال التام، وكفايتنا إذا ملكنا الاستقلال أن نحسن الاضطلاع بالأحكام، وهي أيضا للدلالة على أننا نقدر أن نعمل في الأعصر المستأنفة ما عملناه في الأعصر السالفة إذا تركنا الأجانب وشأننا.
كنت إذن منذ ريعان شبابي وغضاضة إهابي مولعا بحضارة الأندلس العربية وآثارها، مشغوفا بتاريخها وأخبارها حتى أني منذ أربع وثلاثين سنة وهي مدة يصح أن تسمى دهرا نقلت من الإفرنسية إلى العربية رواية الكاتب الأشهر شاتوبريان المسماة ب«آخر بني سراج»، وذيلت تلك الرواية المترجمة بتاريخ للأندلس استخلصته من الكتب العربية والأوربية، وأجلت معظم قداح البحث فيه عن سقوط مملكة غرناطة، وجلاء العرب الأخير عن تلك الجزيرة؛ لأن هذه الحقبة من ذلك التاريخ كادت تكون في عصرنا مجهولة، وقد صادف ظهور هذا الكتاب مبدأ النهضة العربية فكان له في النواحي رنة نواح، وسال له من المآقي مدمع سفاح، وتجددت تذكارات أشجان، وبلغ التأثير من قلوب جميع الذين قرأوه أنهم كانوا يتلونه المرة بعد المرة شفاء لما في صدورهم، أشبه بالثكلى التي لا يشفي ما بها سوى ذرف دموعها، ولطم خدودها وتلمس آثار مفقودها، وكانت بازدياد النهضة العربية تزداد الرغبة في هذا المقام وتشرئب إلى الأندلس الأعناق، وتتحلب على ذكراها الشفاه، فأعدت من سنين قلائل طبع الرواية المذكورة «آخر بني سراج» مع ذيلها، وأضفت إليهما تاريخا قديما عن سقوط غرناطة عثرت عليه في مدينة مونيخ عاصمة بافاريا يسمى «أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر» لمؤلف لم يذكر اسمه فيه، لكنه يترجح كثيرا مما لحظنا من كلامه أنه كان ممن حضر الوقائع بنفسه أو ممن عاصر أهلها؛ لأنه يسرد أخبارها سرد من شاهدها بالعيان، أو من روى عمن شاهدها، وأظن المقري عند ما كتب «نفح الطيب» كان مطلعا على ذلك الكتاب؛ لأني رأيت في كتاب «أخبار العصر» هذا جملا كثيرة رأيتها في النفح بحروفها، نعم أعدت طبع كتابي ذاك عن الأندلس مضموما إليه هذا الكتاب الذي عثرت عليه في مونيخ غفلا من اسم مؤلفه ومعه أربعة مراسيم سلطانية من السلطان أبي الحسن علي بن الأحمر والد أبي عبد الله آخر ملوك العرب بالأندلس الذي سلم غرناطة إلى الملك فرديناند والملكة إيزابلا، وكان طبعي لهذه الكتب منذ ثمان سنوات بمطبعة المنار الشهيرة بمصر.
ولكن كل هذا لم ينقع غلتي ولم يشف ما بي من أمر الأندلس، وبقيت بعد معرفتها بالقلم متشوقا إلى مشاهدتها بالعيان والتجوال فيها بالقدم، استزادة من معرفة أخبارها واقتصاص آثارها، ووفاء بواجب ازديارها، وما زلت أحدث نفسي برحلة أقوم بها في تلك الديار التي ترك لنا عنها آباؤنا أجمل تذكار، وتعوقني العوائق عنها، وتعترضني الأشغال من دونها، وأنا أخشى أن توافيني المنية قبل تحقيق هذه الأمنية إلى أن يسر الله هذه الرحلة منذ ثلاث سنوات، والأمور مثل النفوس مرهونة بالآجال، وكنت موطنا النفس على السفر إلى الأندلس في ربيع سنة 1348 وفق سنة 1930 فجدت شئون وطرأت طوارئ اقتضت أن نراجع جمعية الأمم في جنيف مراجعات مستمرة قضت علي بأن لا أفارق جنيف في تلك الآونة، بحيث إنه أقبل الصيف يسحب من ذيله، وجاء الحر هاجما برجله وخيله، فأخذ بعض الإخوان يشيرون علي بتأخير الرحلة إلى الشتاء التالي أو إلى الربيع الذي وراءه ذهابا إلى أن السياحة في إسبانية لا تلائم في أيام القيظ لا سيما القطعة الأندلسية التي أنا قاصدها، فلم يكن ذلك ليغير من نيتي ولا ليرخي من مشدود طيتي؛ لأني لم أبرح في هذه المسألة منذ ثلاثين سنة أمني بها النفس، وكلما حدا سائق بدا عائق، ونحن نعتمد على التأخير والتسويف ونعلل النفس بشتاء وصيف وربيع وخريف، وقد عرفنا أكثر البلاد الأوربية ولم تبق مدينة فيها إلا دخلناها، وربما بدل المرة الواحدة مرارا، وقتلنا أحوالها درسا واختبارا، ولم يبق من أوربة ما لم نعرفه سوى الأصقاع الإسكندنافية في الشمال والبلاد الإسبانية في الجنوب، فأما الأولى فإنه يجوز لمثلنا أن يعرفها كما أنه يجوز له أن لا يعرفها إذا عاقته العوائق عن معرفتها، ولكن الأندلس التي نحن إليها منذ نعومة الأظفار ونقرأ عنها بل نؤلف الأسفار، فإنه لا يجوز لمثلنا أن يتأخر عن السفر إليها، ونحن لا نزال أنضاء أسفار بين الأقطار، وعليه انتهزنا هذه الفرصة، واغتنمنا من وقتنا هذه الخلسة قاصدين إلى الأندلس عن طريق فرنسة التي حصلنها على رخصة المرور بها أياما معدودات، وذلك أنه لما كان الغرض الأصلي من الرحلة اقتراء آثار العرب كيف حلوا، وأنى ارتحلوا من هذه الديار الغربية كان لا بد لنا أولا من زيارة فرنسة التي كانت للعرب فيها جولة، بل كانت لهم في جنوبيها دولة وصولة، وطالما عصفت ريحهم ببلاد الإفرنجة بعد أن عصفت ببلاد القوط والجلالقة والباشكنس وغيرهم من أمم الغرب التي خفضوا دعائمها ونقضوا مرائرها، وكادوا يلحقون بأولها آخرها، وها أنا ذا أحدث عن سياحتي:
في 18 يونيو قبل الظهر من سنة 1930 فصلت من لوزان قاصدا إلى باريس فوصلت إلى تلك العاصمة ليلا، وكان قد عرف بقدومي شابان من نخبة أدباء المغاربة: السيد أحمد بلافريج من ذوائب بيوتات الأندلسيين في رباط الفتح، والسيد محمد الفاسي من آل الجد الفهريين الأندلسيين من أعيان فاس، فما نزلت من القطار حتى وجدتهما أمامي في المحطة وركبنا معا إلى فندق أورليان پالاس في شارع برون “Bonlevard Brune”
وتحدثت إليهما في موضوع رحلتي، وكان ذلك قبل ميعاد عطلة الدروس التي كانا يريدان بعدها السفر إلى وطنهما فاتفقنا على أن يوافياني إلى «مجريط» ليرافقاني في بعض هذه السياحة، وبعد ذلك بأيام قلائل مرا علي بالفعل؛ إذ أنا في فندق رومة في عاصمة الإسبانيول، وكان في اليوم التالي من وصولي إلى باريس أقبل علينا أولادنا الطلبة السوريون، وأنسنا بلقائهم واجتمعنا مع فئة من نخبتهم في المطعم العربي الذي بقرب الجامع، وبعدها ذهبت أنا والسيدان محمد الفاسي وأحمد بلا فريج إلى مكتبة غوتنر المتخصصة بالكتب الشرقية حيث اشتريت بعض كتب عربية أكثرها يتعلق بالأندلس، وصادف أني لدى نزولي في أورليان بالاس وجدت صديقي الحميم حسين رءوف بك بطل الدارعة حميدية الشهير، ورئيس نظار أنقرة سابقا، وناظر البحرية العثمانية من قبل، فسررت بلقائه كثيرا لأن آخر العهد بيننا كان في الأستانة سنة 1924، وكذلك جاء لزيارتي هناك رحمي بك الذي كان واليا لأزمير أيام الحرب الكبرى، وكان من أركان جمعية الاتحاد والترقي في تركيا، وهو من أعز إخواني وإخوان ابن عمي الأمير أمين مصطفى أرسلان، فكانت لي بغير ميعاد فرحة عظيمة بالاجتماع بهذين الخليلين اللذين طال عهدي بلقائهما، وذهبنا إلى المطعم العربي فأوصينا على مطاعم مغربية، وسمعنا من شجي ألحان الموسيقى العربية ولا سيما الألحان الأندلسية، وسمرنا أجمل سمر وكانت ليلة كلها سحر، وبعد إقامة خمسة أيام بباريز ركبت القطار الحديدي إلى تولوز «طلوزة» وجاء لوداعي إلى المحطة جمهور من شبان العرب بباريز وهتفوا في المحطة: فليحيا العرب.
صفحة غير معروفة
ووصلت إلى طلوزة بعد مسيرة ثماني ساعات بالقطار، ونزلت في فندق قريب من محطتها اسمه «ترمينوس»
1
وفي اليوم التالي قصدت قرقشونة
2
التي فيها الآثار الشهيرة فزرت البلدة والقلعة، وصعدت إلى الأسوار، وجولت في تلك الحصون نحوا من ساعتين، ورجعت في المساء إلى طلوزة، والمسافة بالقطار بين هاتين البلدتين لا تزيد على ساعتين. (1) الكلام على طلوزة وقرقشونة
رأيت مناسبا ابتداء الكلام على فرنسة العربية قبل الانتقال إلى إسبانية العربية، وذلك بناء على كوني بدأت رحلتي من فرنسة، ولما كان غرضي من هذه الرحلة هو استقصاء آثار العرب وأخبارهم أينما كانوا وحلوا من القارة الأوربية توخيت أن لا أخرج عن هذا الصدد إلا نادرا مما يقتضيه سياق البحث، فلو كنت زرت الأندلس مبتدئا من المكان الذي دخل منه العرب، أي: من الجنوب لكان الترتيب يقضي علي بأن أبدأ بجبل طارق، فالجزيرة الخضراء فشريش فأشبيلية فقرطبة فطليطلة وهلم جرا نحو الشمال، وأن أنتهي بأربونة فقرقشونة ونيم وأفينيون إلى جبال الألب بين إيطالية وفرنسة وسويسرة، وهكذا كان ينبغي أن أفعل لو كنت حرا أن أسكن في هذه الأيام وطني سورية، فكان السفر منها إلى الأندلس على الطريق الذي سلكه أجدادنا عند فتحهم تلك الديار، وهي طريق المغرب، ولكن الغربة التي تطوحنا بها بسبب نضالنا عن استقلال وطننا قضت علينا بأن نسكن أوربة، وأن نقصد الأندلس من شماليها لا من جنوبيها، أى: من حيث نحن مقيمون الآن، ومن حيث انتهى العرب في فتوحاتهم الأوربية لا من حيث ابتدأوا بها، ولما كان المقصود هو كما قلنا من استقراء آثار السلف وتأثر خطواتهم، حيث دل عليها التاريخ، وأثبتها الأثر من قارة أوربة بدون تقيد بمكان معين وبدون التزام، ما شاهدناه من هذه الأماكن بالعين بل باطراد الكلام على جيل من الغولوا ولا نعلمما شاهدناه إلى ما لم نشاهده مما جاوره ودخل تحت حكمه، أى: جميع ما قيل إن أقدام العرب وطئته من هذه البلدان في حملتهم الأولى على الغرب، لم يكن لنا بد من أن نتناول طلوزة وقرقشونة وأربونة ونيم وأفينيون وليون، وليست هذه فقط بل جميع البلاد التي احتلوها من جنوبي فرنسة، وما صاقب ذلك من شمالي إيطالية، وما ناوح ذلك من جبال الألب العالية الواقعة اليوم بين هذه الممالك الثلاث: فرنسة وإيطالية وسويسرة، إلى حدود بحيرة كونستاتزة من ألمانية.
فكان هذا الكتاب وإن استقل باسم «تاريخ غزوات العرب في فرنسة وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط» هو في الحقيقة جزءا من رحلتي الأندلسية التي نحن بسبيلها؛ لأنها هي خاتمة مطاف العرب في أوربة، وفاتحة ما أفاضوا إليه من الممالك بعد فتحهم للأندلس، وإذا لحظت أني قد بدأت بالرحلة وبتاريخ حملة العرب على أوربة من هذه الجهة كان لك أن تقول: إني جعلت أولا ما كان ينبغي أن يكون آخرا، فإن هذا الجزء هو الآخر باعتبار فتوحات العرب، ولكن قضت الأقدار بأن يكون هو الأول باعتبار ترتيب سياحتي التي بدأت فيها من الشمال إلى الجنوب، فرأيت أنا أولا ما فتحوه هم أخيرا، ورأيت آخرا ما احتلوه هم أولا.
وبالجملة فموضوع هذا الكتاب هو أيام العرب، في فرنسة وفي شمالي إيطالية وقلب سويسرة، وهو أول تأليف عربي مستقل في هذا الموضوع.
طلوزة
Toulouse
صفحة غير معروفة
كانت طلوزة في قديم الدهر حارات متفرقة، ولم تأخذ شكل مدينة إلا في أيام الرومانيين، ومن ثم صارت قاعدة مملكة التكتوزاجيين
3
ومركز علم وصناعة، ودخلت فيها النصرانية بواسطة القديس سيرنيه، وبعد أن سقطت سلطنة رومة صارت طلوزة عاصمة ملوك القوط، وبقيت دار مملكتهم من سنة 419 للمسيح إلى سنة 508، وكانت حينئذ قاعدة بلاد أكيتانية المنضمة إلى إسبانية، وسنة 778 صارت كونتية مستقلة، واشتهر من أمرائها الكونت ريموند الرابع، ولم تنضم إلى مملكة فرنسة إلا سنة 1271 للمسيح
4 . ففي القرن الخامس كانت دار ملك القوط، وفي القرن السابع والثامن كانت مركز دوقية أكيتانية، وفي القرن الحادي عشر والثاني عشر صارت قاعدة كونتية طلوزة، ولما شن العرب الغارة على فرنسة كانت طلوزة من المدن التي قصودها لكنهم لم يتمكنوا منها كما تمكنوا من أربونة وقرقشونة وغيرهما.
وقد كانت غارة العرب على طلوزة في أيام إمارة السمح بن مالك الخولاني على الأندلس، وذلك لمضي إحدى عشرة سنة على دخول العرب إلى إسبانية كما سيأتي عند الكلام على غارات العرب في جنوب فرنسة.
قرقشونة
CARCASSONNE
مدينة على نهر الأود
Aude
وقناة الجنوب وهي قسمان: الأول: الذي فيه القلعة وهو مبنى على متن رابية مشرفة على القسم الثاني، وفيه بعض بيوت وشوارع ضيقة وكنيسة معروفة بكنيسة سان نازير
صفحة غير معروفة
Saint-Nazaire
من بناء القرن الحادي عشر، وجميع أبنية هذا القسم العالي لا تزال كما كانت في القرون الوسطى، وليس مثلها في كل فرنسة في هذا الباب، ولهذا هي مقصد السياح من كل فج. والقسم الثاني: هو الذي على شاطئ النهر، ويسمى قرقشونة الجديدة، وهي جديدة بالنسبة إلى قرقشونة القديمة التي على الرابية، ولكن هي في الحقيقة من زمن لويس التاسع ملك فرنسة، أي القديس لويس الذي عاش في أواسط القرن الثالث عشر.
5
وأما تاريخ العرب فيها فالمشهور أنهم افتتحوها في سنة 713 للمسيح، وأنها بقيت في أيديهم إلى سنة 759 على ما ستقرأه عند الكلام على غارات العرب في جنوبي فرنسة.
هوامش
مبدأ غارات العرب على فرنسة وما اعتمدنا عليه من الروايات عنها
أهم كتاب وضع في هذا الموضوع هو كتاب المستشرق الفرنسي الشهير المسيو «رينو»
1
الذي عاش في الثلثين الأولين من القرن الماضي، وكتابه يسمى «غارات العرب على فرنسة، ومن فرنسة على سافواي وبيمونت وسويسرة في القرن الثامن والتاسع والعاشر من التاريخ المسيحي بحسب روايات المؤرخين المسيحيين والمسلمين».
2
صفحة غير معروفة
فإن جميع المؤرخين الأوربيين ذكروا غارات العرب على فرنسة بعد استيلائهم على إسبانية، وأجمعوا على أن شارل مارتل الذي يسميه العرب: «قارله» هو الذي أنقذ أوربة في وقعة «پواتييه» الشهيرة من الوقوع تحت سلطة العرب، وأنه لولا انهزام العرب في تلك المعركة لكانوا استولوا على أوربة كلها، وربما كانت بأجمعها قد دخلت في الإسلام، ولا نقدر أن نحصي ما جاء في كتب الأوربيين من فرنسيس وألمان وإنكليز وإسبانيول وطليان في هذا الموضوع، ولا نجد لزوما لهذا الاستقصاء بعد أن قرروه في الجملة، وأجمع عليه مؤرخوهم وأيدت ذلك تواريخنا العربية، وإنما كان غرضنا في هذا الكتاب استقصاء جزئيات هذه الغارات العربية إلى قلب أوربة، والإحاطة بما يتسنى لنا من تفاصيلها، ولم نجد في هذا الباب كتابا أوعى من كتاب المسيو رينو المذكور؛ لأنه وضع خاصا بتاريخ هذه الغارات، ولأن واضعه هو من أشهر المحققين في المسائل التاريخية والمطلعين حق الاطلاع على اللغة العربية بحيث يمكنه عند كل رواية أن يقابل ما جاء عنها في الكتب اللاتينية القديمة بما جاء في الكتب العربية، وإنك لتجده لا يروي رواية ولا خبرا إلا ذكر في الحاشية مأخذ تلك الرواية، أو ذلك الخبر مع تعيين المؤلف والمؤلف والجزء والصفحة، وأحيانا خزانة الكتب التي فيها ذلك المؤلف، وقد يورد النصوص بعينها لا سيما إذا كانت من التواريخ التي وضعت في عصر تلك الفتوحات، وكما أنه يستعمل هذه الدقة في الاستشهاد من كتب الإفرنجة فإنه يستعمل الدقة نفسها في الاستشهاد من كتب العرب، ومن أجل ذلك كان أكثر اعتمادنا في تاريخ هذه الوقائع على المستشرق المشار إليه، كما أننا اعتمدنا في تاريخ استيلاء العرب على قسم من شمالي إيطالية ومن أهالي سويسرة عليه أيضا، وعلى مؤلف آخر من أهالي سويسرة الألمانية اسمه «فرديناند كيللر»
3
سنأتي بتلخيص تأليفه بعد الانتهاء من تلخيص كتاب المسيو رينو، وسنقابل جميع رواياتهم بما لدينا من التواريخ العربية الشهيرة.
قال المسيو رينو في مقدمة كتابه:
جاء وقت كانت فيه فرنسة عرضة لغارات شعب أجنبي كان قد استولى على إسبانية وبلدان أخرى مجاورة لها، وجاء بدين جديد ولسان جديد وأوضاع جديدة، فأصبحت المسألة مسألة هل فرنسة وسائر ممالك أوربة التي لما تخضع لهذا الشعب الجديد تقدر أن تحتفظ بأعز ما يحتفظ به الإنسان من دين ووطن وأوضاع أم لا؟
وكان الناس يتساءلون عن كنه هذه الوقائع التي ترتب عليها احتلال ذلك الشعب لقسم من بلادنا ومن آية جهة وقعت، وأية أحوال أحاطت بها، وهل كان المغيرون كلهم من العرب، أم كانوا من أمم شتى؟ وما كانت نتائج هذه الغارات المتكررة كثيرا؟ وهل بقي في البلاد منها آثار أم لا؟
ولقد جرى البحث أكثر من مرة عن هذه القضية، ولكن لم يعن أحد فيما يظهر لنا بأن يضع لهذا الموضوع تأليفا خاصا يحيط بجميع الوقائع التي نحن بصددها ويستنبط منها نتائج عامة
4
ولا شك في أن تأليفا وافيا بهذا الغرض ينبغي له الجمع بين الروايات الأوربية المسيحية والروايات العربية الإسلامية ليعرف قول الغالب وقول المغلوب معا.
ومن مدة طويلة كان الناس في أوربة قد لحظوا أن روايات مؤرخي أوربة المسيحية عن هذه الوقائع لم تكن كافية، وأن الزمن الذي قد حصلت فيه هذه الحوادث، وأغار فيه العرب على فرنسة هو أشد الأزمنة على هذه البلاد وأحلكها سوادا، ففي سنة 712 عندما بدأت هذه الحملات على فرنسة كانت هذه البلاد مقسمة بين إفرنج الشمال الذين كانوا يملكون «نوستريا»
صفحة غير معروفة
5
و«أوسترازيا»
6
و«بورغونيا»
7
وبين إفرنج الجنوب الذين كانوا يملكون «أكيتانية»
8
من نهر اللوار إلى جبال البيرانه، وبين بقايا القوط الغربيين
9
الذين كان بقي في أيديهم قسم من مقاطعة «لانغدوق»
صفحة غير معروفة
10
وقسم من مقاطعة «بروفانس»
11
وكانت الفوضى قد وقعت في الحكومة والمجتمع، فلذلك لم تأتنا إلا معلومات ضئيلة عن ذلك العهد، ولم تبدأ الأخبار التاريخية تنجلي إلا في أيام «ببين» ابن «شارل مارتل» وفي أيام «شارلمان» بن «ببين»، ولكن في ذلك الوقت كان المسلمون قد نكصوا إلى الوراء، ثم عاد جو فرنسة فاربد ثانية في زمان أولاد لويس الحليم “Le Débonnaire”
وجدد العرب غاراتهم على فرنسة أيام كان النورمنديون من جهة، والمجار من جهة أخرى يشنون مثلها ويعيثون في الأرض مفسدين.
ولا نقدر أن نقول: إن تواريخ العرب عن تلك الحوادث كانت مستوفية الشروط، فإن المؤلفين الذين كتبوا عنها جاءوا بعدها بزمن فلم يعاصروها، إلا أن يكون ثمة مؤرخون لم تصل إلينا كتبهم، فقد ذكر العرب أن لموسى بن نصير تاريخا ألفه حفيده، وإن لأحد الشعراء قصيدة في تاريخ طارق بن زياد نظمها بعد عهده بقرنين، ولكن هذه الكتب التي كتبت بعد الحوادث بمدة غير قصيرة لم تكن مستوفية شروط التحقيق، وأكثر الأحيان يروي أصحابها روايات شفهية عن أفواه الرواة
12
وغير خاف أن العرب كانوا في ذلك الدور، دور الحماسة والمجد، لا يفكرون إلا في إعلاء شأن دينهم، فكان لا يهمهم شيء بقدر الشعر والضرب في أودية الخيال.
إذن حكاية العرب لوقائع غارات العرب على فرنسة كانت متأخرة عن زمن حدوثها في القرن التاسع المسيحي، كما أن منها ما لم يتعرض العرب للبحث عنه أصلا.
ولقد كان في أيدي العرب وسائل لمعرفة أحوال فرنسة الداخلية وما جاورها؛ لأنهم عدا احتلالهم مدة مديدة جانبا منها كانت صلاتهم مع هذه البلاد مستمرة، وكانت السفراء تختلف بين الفريقين الفينة بعد الفينة، فقد ذكر المسعودي أنه في نواحي سنة 939 مسيحية توجه إلى قرطبة مطران جيرون من كتالونية وكان اسمه «غودمار»
صفحة غير معروفة
Godmar
وذلك في أيام الخليفة عبد الرحمن الناصر، وألف لولده الحكم المشهور بحبه للعلم تاريخا لبلاد فرنسة من زمن كلوفيس إلى ذلك العهد
13
وكانت كتالونية أيام شارلمان خاضعة لمملكة فرنسة، وكان مطران جبرون يعترف بسيادة لويس دوترمير
Louis-d’Outremer
وعليه نعتقد أن تاريخ فرنسة هذا الذي قال المسعودي: إنه عثر على نسخة منه في مصر تاريخ صحيح، ولكن مع الأسف لم نعلم عن هذا التاريخ شيئا إلا هذا القليل الذي رواه منه المسعودي.
14
ومما كان يشق جدا على العرب كثرة الأسماء الأعجمية من أسماء الرجال والبقاع التي كانت تعرض لهم، وكانت مجهولة عندهم، ولم يكن من المألوف عندهم وضع الحركات، ثم كان نساخهم كثيري السقط في التنقيط فتبعد اللفظة عن أصلها بعدا يجعلها مجهولة تماما.
15
وقد كان مما يفيد في هذا الباب المسكوكات التي كان يضربها الفاتحون، إلا أن العرب في إسبانية وفرنسة لم يكونوا إلى القرن العاشر يعرفون سوى مسكوكات قرطبة، فأما مسكوكات ما قبل هذا التاريخ فلم يكن فيها شيء سوى آيات قرآنية، ولم يكن فيها ذكر ملك ولا أمير.
صفحة غير معروفة
فمن أجل هذا كان من الصعب جدا معرفة أخبار العرب في الأدوار الأولى من استيلاهم على إسبانية، وأصعب منه معرفة أخبار استيلائهم على ما استولوا عليه من فرنسة.
ومن الكتب النفيسة في هذا الموضوع تاريخ «استيلاء العرب على إسبانية» الذي ظهر بالإسبانيولية في السنوات الأخيرة لمؤلفه «كوند»
Conde
الذي كان لديه كتب عربية كثيرة في مكتبة الإسكوريال وغيرها؛ فاستقى بدون شك من منابع غزيرة إلا أنه لم ينتدح له أن ينقح كتابه كما يجب، وربما كان هو نفسه غير ماهر في التمحيص.
16
وهناك تأليف آخر لم يطلع عليه كوند وهو مجموعة رسائل مفيدة في إيضاح تاريخ إسبانية أيام العرب بقلم «فوستينو بوربون» الذي اطلع على المخطوطات العربية التي في خزانة الأسكوريال، وكان معظم همه تخطئة «تاريخ إسبانية» تأليف «ماسدو»
Masdeu .
وفي كتاب فوستينو بوربون هذا شواهد عربية محرفة إلا أنه عنده بصر بالنقد، وإنك لتجد في كلامه على جيوش العرب الفاتحين واختلاف أصولها الذي أدى إلى تنازعها تدقيقات لا يعرفها كوند.
إننا نحن لم نكن في هذا التأليف لنجهل المشكلات التي ستعترضنا في طريقنا، لكننا برغم ذلك وجدنا في استطاعتنا إضافة معلومات جيدة إلى ما تقرر في هذا الباب إلى حد الآن، وفي الغزوات العربية التي لم نجد لها أثر رواية إلا في كتب الأوربيين أمكننا أن نصل إلى أبعد مما وصل إليه «موراتوري»
17
صفحة غير معروفة
والدون «بوكه».
18
ولقد اتبعنا في عملنا هذا الطريقة الآتية، وهي أن نمحص عن الوقائع شهادات المعاصرين أو الذين كانوا في العهد أقرب من غيرهم إليها، ومهما قيل عن النقصان الذي في روايات المؤرخين المسيحيين الذين كانوا في ذلك العهد، فإننا قد وجدنا فيها ما يستحق كثيرا من الاعتبار بحيث إذا تطابقت مع روايات العرب جزمنا بأن الحقيقة هي هناك، وأما إن لم تطابق روايات هؤلاء روايات أولئك، فإننا ننقل حينئذ ما قاله كل من الفريقين ونبدي رأينا في ترجيح الأقرب إلى العقل، وأما المنابع التي لم نقدر أن نصل إليها فقد نبهنا عليها وأشرنا إلى أماكنها، وذلك كبعض وقائع رواها كوندي نقلا عن كتب العرب فقد كان الأحسن أن ننقل تلك النصوص بعينها، ولكننا لم نظفر بها.
وفي آخر كتابنا هذا نذكر الشعوب التي انضمت إلى العرب، وأوشكت بالاتحاد مع العرب أن تخضع أوربة كلها لشريعة القرآن، فنحن نطلق على الجميع اسم «سارازين» وهي لفظة لم يجزم إلى الآن في وجه اشتقاقها، أو لفظ «المور» أي المغاربة؛ وذلك لأن العرب جاءوا أولا إلى المغرب، ومنه دخلوا إلى إسبانية فسموا من أجل هذا مغاربة، وليعلم أنه في أثناء ما كان المسلمون يكتسحون أراضي فرنسة ويجتاحون شمالي إيطالية وبلاد سويسرة كانت منهم عصائب حاكمة في صقلية وجنوبي إيطالية، ولم يكن لغارات هؤلاء صلة بغارات أولئك، ولكن كان لها تأثير بعضها في بعض مما لم تفتنا الإشارة إليه.
ثم إنه في جميع البلاد التي احتلها العرب طويلا أو قصيرا كانت بقيت لهم آثار وسرت عنهم أخبار، فهنا كنت ترى قلعة كانوا يعتصمون بها عندما يجتاحون تلك الأرض، وهناك كانت مخاضة نهر أو قنطرة كانوا يأخذون عندها رسما على المارين، وهنالك كهف في واد كانوا يضعون فيه الغنائم، وعلى تلك الجبال أبراج متناوحة كانوا يتبادلون منها الإشارات النارية لأجل توحيد حركاتهم، وهلم جرا، فالآثار والأخبار التي لا ترتكز على دليل وثيق من ذلك العصر نفسه لم نتعرض لها.
ومثل ذلك فعلنا بالقصص التي قصها الرواة الذين لم يعاصروا تلك الحوادث، والتى هي أقرب إلى أن تكون من عمل خيالات القصاص المولعين بأخبار الحماسة والمغرمين بأحاديث المجد والرئاسة، ففي القصص التي ترويها الرواة عندنا أغلاط كثيرة؛ منها ما وقع فيه بعض مؤرخي ذلك الوقت مثل تلقيبهم المسلمين «السارازين» بلفظة «بايين»
أي: وثنيين، وذلك أن المسيحيين كان من عادتهم أن يسموا جميع الأمم السالفة للنصرانية «وثنيين» وجميع الأمم التي حاربها الإفرنسيس وثنيين، ومن جملة هؤلاء حسبوا المسلمين! ولهذا فقد عزوا إلى هؤلاء آثارا ومباني وهياكل كانت في الحقيقة هي من عمل غيرهم، وليسوا منها في قبيل ولا دبير.
وكذلك لما كانت شهرة شارلمان قد غلبت شهرة الجميع فإن القصاص نسبوا إلى أيامه حوادث وقعت من قبله، وحوادث أخرى وقعت من بعده، فالوقائع التي جرت في زمان شارل مارتل جعلوها في زمان شارلمان، وما زالوا ينسبون إلى أيام شارلمان غزوات جميع الإفرنج في بلاد المسلمين إلى القرن العاشر بل إلى آخر القرن الحادي عشر أي الزمن الذي استصرخ فيه مسلمو الأندلس يوسف بن تاشفين ملك المرابطين، فتأمل.
ومن هذا النمط تعمد بعض القصاص والزجالين أن ينحلوا أجداد ممدوحيهم فضل تحرير البلاد وطرد الأعداء، وذلك مثل قصيدة غيليوم ذي الأنف الأصلم الذي ينسب إليه الشاعر إجلاء العرب عن تولوز ونيم وأورانج وغيرها من مدن فرنسة.
ثم إنه كان المجار قد جاءوا من شرقي أوربة وعاثوا في نواحي فرنسة، فاختلط على الناس ما عاثه المجار بما عاثه العرب، بحيث كثيرا ما كان أولئك القصاص يسمون المجار «سارازين» ويسمون الفاندال «سارازين»، وممن قال بذلك الأب «لوكوانت»
صفحة غير معروفة
مؤلف التاريخ الإكليريكي في فرنسة والدون «مابيون»
Mabillon
والأب «باجي»
والدون «فاسيت»
Vaissette
والدون «بوكه»
Bouquet
والحقيقة أنه لم يوجد دليل واحد من رواية مرجعها إلى القرن الثامن يدل على كون الفاندال اجتاحوا فرنسة في ذلك العصر، وقد يقال: إن هذه الأقاويل وردت في تواريخ القديس «دنيس»
Saint-Denis
الشهيرة التي هي الحجة الكبرى عند آبائنا، ولكن تواريخ القديس كتبت في أواسط القرن الثاني عشر، وقد حشر فيها كاتبوها كل الأساطير التي كانت تدور في ذلك الوقت، ولم يزل التاريخ لم يمحص ولم ينفصل عن الأقاصيص إلى القرن السابع عشر.
صفحة غير معروفة
ولنعد إلى موضوع كتابنا هذا فنقول: ليست المسألة مسألة اجتياح بعض مقاطعات محدودة بل قد بقي جانب كبير من فرنسة ميدانا لجيوش العرب مدة طويلة، ثم تجاوزوا منها إلى «سافواي» و«بيمونت» و«سويسرة» واحتلوا أمنع الحصون من قلب أوربة، وذلك من خليج «سان تروبيس» إلى بحيرة «كونستانزة» ومن نهر الرون وجبل «جورا» إلى سهول جبل «فرات» و«لومبارديه»، ومما لا جدال فيه أن تذكار الغزوات العربية في هذه الديار لم يكن بدون تأثير في الحملات الصليبية وفي هذه الحركة العامة التي اندرأت بها أوربة على آسية وإفريقية، ووضعت أصحاب الإنجيل في وجه أصحاب القرآن مدة قرون مستطيلة.
لقد فسحنا بهذا الكتاب مجالا للباحثين في هذا الموضوع بحيث يمكن من يأتي بعدنا أن يأتوا بمعلومات جديدة عنه، ولما كانت الشقة بعيدة بين زمن هذه الوقائع والزمان الحاضر فقد بقيت في كتابنا مواضع كثير مفتقرة إلى الجلاء، ومع هذا فإن كنا قد قدرنا أن نلقي بعض الشعاع على هذا القسم الذي هو أغمض قسم من تاريخ فرنسة، فلا يكون ذهب عناؤنا سدى.
ولقد قسمنا كتابنا هذا إلى أربعة أقسام: الأول: ما يتعلق بحملات العرب الزاحفين من الأندلس مخترقين جبال البيرانه
19
إلى أن طردهم «بيين» القصير من «ناربون» وكل «اللانغدوق» سنة 759 مسيحية. الثاني: ما يتعلق بغارات العرب برا وبحرا على «پروفانس» في نواحي 889. الثالث: ذكر توغل المسلمين من پروفانس إلى «دوفيني» و«سافواي» و«بييمونت» وسويسرة. الرابع: شكل هذه الغزوات والنتائج التي ترتبت عليها.
انتهى ملخصا كلام المستشرق الإفرنسي رينو في مقدمة كتابه.
ثم شرع رينو في سرد الوقائع فقال تحت عنوان: «القسم الأول في حملات العرب الأولى على فرنسة إلى عهد إخراجهم من أربونة واللانغدوق سنة 759 مسيحية».
لما وصف أحد مؤرخي العرب كيفية فتح أبناء ملته لإسبانية، روي عن محمد
صلى الله عليه وسلم
الكلمات الآتية: «زويت لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها».
صفحة غير معروفة
20
وقد كاد يكون هذا هو الواقع، وجاء زمن ظن الناس فيه أن جميع الربع العامر سيعنو لراية النبي
صلى الله عليه وسلم ، فإنه ما مضت سنوات قلائل حتى ضرب الإسلام بجرانه على العراق وفارس والشام ومصر وإفريقية إلى سيف الأوقيانوس الأطلنتيكي ، ثم من إفريقية أغار العرب على إسبانية وما زالوا يجوسون خلال البلاد إلى أن بلغوا فرنسة، وصارت جميع قارة أوربة تحت خطر استيلائهم، ثم من الجهة الأخرى تجاوزوا سيحون وجيحون وما زالوا يفتحون البلدان حتى ظن أنه لن يقف في وجههم شيء إلا أن كان من الحدود الطبيعية التي للكرة الأرضية.
وكان مركز هذه السلطنة التي لا نهاية لها هو في سورية بمدينة دمشق القديمة، وكانت الرئاسة الروحية والدنيوية في الخلفاء بني أمية. وكان الخليفة يومئذ هو الوليد.
21
وكان العرب قد وجدوا في إفريقية أمة تسكن جبال الأطلس اسمها البربر اشتهرت بصعوبة المراس، وبحب الحرية والاستقلال، وقاتلت القرطاجنيين والرومانيين من دونهما، وكان بعض هؤلاء البربر يهودا وبعضهم نصارى وبعضهم وثنيين، وكان لهؤلاء البربر لسان خاص بهم، ومنهم من كان يتكلم بلغة تقرب من العربي والعبري والفينيقي
22
فسواء كان هؤلاء البربر بقايا شعوب جاءت من أرض كنعان وفينيقية
23
أو كانوا قد رحلوا من اليمن فرارا من وجه الأحابيش الذين كانوا قد استولوا على بلاد اليمن
صفحة غير معروفة
24
فهذا التشابه في اللغة كان عاملا كبيرا في استقرار دولة العرب في إفريقية، وأعان البربر العرب في فتوحاتهم ومغازيهم، وأضف إلى ذلك كون العرب والبربر متشابهين أيضا في البداوة، وسكنى الوبر، وشظف العيش، وطلب النجعة، وحب القتال، وشن الغارات.
هوامش
الفصل الأول
حملات العرب الأولى على فرنسة إلى عهد إخراجهم من أربونة واللانغدوق سنة 759
مسيحية
خبر موسى بن نصير وطارق بن زياد
فما رسخت أقدام العرب في إفريقية حتى فكروا في عبور بحر الزقاق الفاصل بين إفريقية وأوربة، وكان ذلك سنة 710م وأمير إفريقية من قبل الخليفة هو موسى بن نصير من أهل الحجاز، ولد في زمان عمر بن الخطاب ورضع مع اللبن الغرام بالغزو حبا في نشر عقيدة التوحيد.
1
وكان عمره يوم قام بهذه الغزوات ثمانين سنة، ولكن كانت فيه همة الشبان تتوقد نارها لم يفتر منها شيء، وكانت إسبانيا تحت حكم القوط وكان الأمير عليها لذريق.
صفحة غير معروفة
2
وكان يتبعها من أرض فرنسة مقاطعة «روسيون»
3
وقسم من «اللانغدوق»
4
من (بروفنس)
5
وكانت في إسبانية حواضر حافلة بالعمران زاهرة، إلا أن روح الانتقاض كان كامنا في النفوس، وفساد الأخلاق كان قد تغلغل في جسم الأمة، فلم يكن عجبا أن تسقط مملكة كهذه ولو عظيمة في ظاهرها بيد عدد قليل من المتدينين الأحامس الذين يسوقهم إلى الحرب حب الغنائم، فضلا عما يعتقدونه من أنهم مرسلون من الله لهداية البشر.
فجرب موسى التجربة الأولى ببعض برابر أجازهم إلى طريفة
6
صفحة غير معروفة
فعاثوا ونهبوا ولم يصادفوا مقاوما فاشتد بذلك عزم موسى. وفي السنة التالية (711) جرد تجريدة جديدة اثني عشر ألف مقاتل كان أكثرهم من البربر عقد عليهم لطارق بن زياد، فهزم طارق بهذا الجيش الصغير جيش القوط كله، واحتز رأس لذريق وبعث به إلى الخليفة
7
في دمشق. وفي أقل من سنة تم لطارق فتح قرطبة ومالقة وطليطلة، وقد روى أحد مؤرخي العرب أنه لأجل أن يلقي الرعب في القلوب أمر مرة بقتل بعض الأسرى الذين وقعوا في يده، وجعل من لحومهم شواء أطعم منه عسكره. وطارق بن زياد
8
هو الذي سمي باسمه هذا الصخر المسمى بجبل طارق، فالمسلمون المؤمنون كانوا يرون هذا الجهاد مما يزيد سواد المسلمين ويضمن لهم الجنة، والمسلمون الذين لم يكونوا يفكرون في أمر الآخرة قد رأوا في الأندلس قطرا خصيبا فياضا بالخيرات، فيه كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. فاجتمعت إذن في هذا الفتح مقاصد الدنيا والآخرة، وانتظم فيه الاحتساب مع الاكتساب، ومما لا نزاع فيه أنه قد كان من أهم أسباب فوز طارق في الأندلس عضد اليهود الذين كانوا كثيرين في إسبانية، وكان المسيحيون يغلظون في معاملتهم ويعدون عليهم أنفاسهم فلما أقبل العرب وجدوا فيهم إخوانا يأخذون بثأرهم
9
وينفسون من خناقهم.
فلما بلغ موسى بن نصير ما فتحه الله على يد طارق هاج أشد هياج للأخذ بنصيبه من هذا الفتح، وأقبل بجيش من العرب والبربر
10
ومعه واحد من أصحاب محمد
صفحة غير معروفة
صلى الله عليه وسلم
عمره مائة سنة وكثير من أبناء الصحابة.
11
وقد انتحى موسى طريقا غير الطريق التي سلكها مولاه طارق، وفتح بلدانا أخرى مثل ماردة
12
وسرقسطة
13
وكان أكثر جنده من الفرسان، وكانت تتبع كل كوكبة من فرسانه طائفة من حملة الأرزاق بالبغال، وإن مؤرخي العرب متفقون على أن موسى بن نصير وصل بغزواته إلى فرنسة، وأنه في «ناربون»
14
وجد في إحدى الكنائس سبعة تماثيل فضية منقوشة، وكذلك في قرقشونة عرضت لمطامعه في كنيسة «سانت ماري» سبعة أعمدة كبار هائلة من الفضة.
صفحة غير معروفة