لكن منع من ذلك ما علم الجم الغفير، والعدد الكثير من قريش وغيرهم ممن خالفه. فاذ قد تقرر ذلك، ثم ظهر منه يوم الحديبية أنه أخذ الكتاب من يد علي، فكتب. فإذا قال إنكم قد علمتم من حالي أني لا أكتب ولا أقرأ كتابا، وأما الآن آخذ القلم فأصور صورة لا أميزها، غير أن القلم لا يجري في يدي إلا بما قد وافقتموني عليه، وقاضيتموني به (¬1) /ص66/ فإن ذلك دليل ظاهر، ومعجز بين قاهر. لأن هذا خارق للعادة بعيد عن مستقرها، لأننا لا نشك أنه لا يتأتى ممن لا يحسن الكتابة أن يحرك القلم بيده، فينتظم/ من ذلك سطر واحد من أسطر الكتاب، بل كلمة من كلماته. فإذا رأيناه قد اتفق له من ذلك جميع الكتاب المتفق عليه، علم أن ذلك من فعل الله تعالى، ما أظهر على يدي رسوله_ عليه السلام_ من معجزاته الشاهدة بصدقه. وكذلك لو قال: انكم قد علمتم من حالي أني لا أحسن الكتابة ولا أقرأ الكتب، وقد علمتم أنه لا تتأتى معرفة ذلك لأحد إلا بتعليم بشر في مدة طويلة وتدريب ومواظبة. وأنا الآن قد علمنيه الله تعالى من غير تعليم بشر (¬1) ثم أتى منه بما لا يتأتى لبشر المزيد عليه، لكان في ذلك دليل على ما يدعيه من الرسالة، ومعجز (¬2) لما أتى به من النبوة. ولكان ذلك من جنس ما أتى به من المعجز في ذكره من أخبار الماضين وقصص الأولين، من تعليم ولا قراءة ولا مداخلة أهل الكتاب والسير، مما لا يمكن أن يتأتى لأحد إلا بتعليم ومواظبة على القراءة، ومثابرة على الدراسة، (¬3) في المدد الكثيرة والأعمار الطويلة. /ص67/فإن قيل: فإن الله قد وصفه في كتابه: بأنه أمي، فقال تعالى: ("النبي الأمي") (¬4)فإن الجواب عن ذلك من وجهين: أما علىقول من قال: أنه حين كتب، لم يميز ما كتبه، بل القلم جرى في يده بما قد قرأ منه الحاضرون ما اتفقوا عليه من المقاضاة.فإن الجواب على هذه المقالة بين واضح: أنه لايوصف من هذه صفته، وظهر مثل هذا من جهته: بأنه كاتب ولا أنه غير أمي. بل صفته من ذلك بعد أن خط ذلك الكتاب. كصفته قبل أن يخطه (¬5).
صفحة ٤٥