لا يغض من قيمتها، فقد عالجت أمورا لا تزال تستحق المزيد من النقد والنظر! وخير ما فيها أنها عرضت الدين على الناس نابضا بالحياة والحركة، ونشدت للحياة ضوابط الإيمان والتقى. وعهد الناس بالدين أنه طريق إلى البلى. وبالدنيا أنها لا تنضج وتشتهى إلا بعيدة عن وحيه وهداه.. " من هذه التأملات ألفت عدة كتب قرأها الناس بحوثا مستقلة بعد ما طالعوها مقالات مبعثرة. وقد يلحظ القراء تشابها فيما سيجدونه هنا من فكر طوال أو قصار، وبين ما ظهر لغيرى من رسائل ومؤلفات. ربما كان اتحاد الطريق والوجهة سر هذا التلاقى ، وذلك ما أرجحه! وأيا ما كان الأمر، فإن هذه الأفكار من الناحية الفنية، والتاريخية قد نشرت قبل أن يبدو غيرها فى ميدان الأدب بأمد طويل، عندما كنت أحرر مجلة الإخوان المسلمين... على أن الإسلام، من حيث هو دين، ليس وصف معالمه حكرا لأحد. والمثوبة التى يرتجيها المؤمنون، لا يعرف من سوف يظفر بها، السابقون أم اللاحقون؟ محمد الغزالي ص _007 سياسية الحرية والكفاح . ثمن واحد... لبضائع مختلفة: إن الشجاعة قد تكلف صاحبها فقدان حياته، فهل الجبن يقى صاحبه شر المهالك؟ كلا. فالذين يموتون فى ميادين الحياة وهم يولون الأدبار أضعاف الذين يموتون وهم يقتحمون الأخطار...؟ وللمجد ثمنه الغالى الذى يتطوع الإنسان بدفعه، ولكن الهوان لا يعفى صاحبه من ضريبة يدفعها وهو كاره حقير. ومن ثم فالأمة التى تضن ببنيها فى ساحة الجهاد تفقدهم أيام السلم. والتى لا تقدم للحرية أبطالا يقتلون وهم سادة كرام، تقدم للعبودية رجالا يشنقون وهم سفلة لئام. وهكذا من لم يسهر نفسه للتعليم أياما، أسهره الجهل أعواما، ولو حسبنا ما فقده الشرق تحت وطأة الجهل والفقر والمرض لوجدناه أضعاف ما فقده الغرب وهو يبحث عن العلم والغنى والصحة!! وما دام الشىء وضده يكلفان الكثير فلماذا نرضى بالحقير ولا نطمع فى الخطير؟ ألا ما أجمل قول الشاعر: إذا ما كنت فى أمر مروم فلا تقنع بمادون النجوم! فطعم الموت فى أمر حقير كطعم الموت فى أمر عظيم والذين يحسبون البذل فى سبيل الله مغرما يستحق الرثاء، والموت فى سبيل الله تضحية تستحق العزاء، هم قوم ليسوا من الدين فى شىء، ولا من الدنيا فى شىء. وحق على هؤلاء أن يدفنوا وهم أحياء، وأن يرقدوا فى مهاد الذل لا ليستريحوا، ولكن لتستجاب فيهم دعوة خالد بن الوليد: "لا نامت أعين الجبناء". إن اللصوص عندما يقومون بمغامراتهم الجريئة للسلب والنهب لا يأخذون من الموت أمانا، ولا ينالون من الحظ ضمانا، بل يقدمون وهم يعرفون أن القتل والعذاب لهم ص _008 بالمرصد. ومع ذلك لا يهابون. فكيف الحال إذا تشجع اللصوص وخاف أصحاب الحقوق المهددة وساورتهم الهواجس على أموالهم وأولادهم؟ كيف الحال إذا أقبلت الدول الضاربة الغاصبة، وأدبرت الدولة المضروبة المغصوبة؟! كيف الحال إذا ضحى أصحاب العدوان ونكص أصحاب الإيمان؟! إن القرآن يخاطب المؤمنين فى صراحة مبينا لهم أن المغارم قسمة عادلة بين المؤمنين والكافرين جميعا فى ميادين الكفاح والبقاء. فأيما امرئ نكص على عقبيه مهزوما فقد سقط من عين الله!! يقول القرآن لأصحاب الحق (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله). ويقول: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون) فهل يفر من الألم والجرح والتعب، والكدح فى سبيل الله إلا مجرم دنىء. (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) عندما تمشت مصر مع قواعد الشرف والنجدة والأخوة وقررت أن تحمل السلاح لإنقاذ الأرض المقدسة من إخوان القردة الذين يريدون انتهابها ، تذاكر الناس أن البرلمان قرر بضعة ملايين من الجنيهات، وأن جيش مصر سيواجه فى فلسطين أقواما أولى بأس شديد!! قلت ليس فى شىء من هذا ما يتعاظم الناس فعله. فإن مصر وحدها تنفق 60 مليونا من الجنيهات على الدخان. تلك الحماقة التى تحرق بين الأصابع والشفاه، على غير فائدة. فهل كلفنا ميدان الشرف نصف ما كلفنا ميدان الترف؟ كلا.. ذاك فى المال، أما فى الرجال فكم سنقدم من الشهداء الأبرار فداء لعقيدتنا وكرامتنا؟ إن ضحايا هذا الجهاد النبيل- إن صحت تسميتهم ضحايا- لن يبلغوا أبدا نصف ما قدمته هذه البلاد لأوبئة الحمى أو الكوليرا فى عام واحد. وشتان بين موت وموت!! ص _009 فلنحمل مواثيق الكرامة بعزة وشمم.. ولنأخذ سبيلنا الفذة فى طليعة الأمم!. ولندفع الثمن فى سبيل الله طوعا وإلا دفعناه فى سبيل الشيطان على رغمنا، ثم لا أجر لنا. (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا). . ضريبة الدم والمال: الرجل الذى يعيش لنفسه فقط، لا ينتفع به وطن، ولا تعتز به عقيدة ولا ينتصر به دين. ولا قيمة لإنسان يكرس حياته لإشباع شهواته وقضاء لباناته فإذا فرغ منها لم يهتم لشىء ولم يبال بعدها بمفقود أو موجود! مثل هذا المخلوق لا يساوى فى ميزان الإسلام شيئا. ولا يستحق فى الدنيا نصرا ولا فى الآخرة آجرا. لا قيمة للإنسان إلا إذا آمن بربه ودينه. ولا قيمة لهذا الإيمان إلا إذا أرخص الإنسان فى سبيله النفس والمال. وقد بين لنا القرآن الكريم أن الرجل! قد يحب أن يعيش آمنا فى سربه، وادعا بين ذويه وأهله، سعيدا فى تجارته، أو مطمئنا فى وظيفته، مستقرا فى بيته ومستريحا بين أولاده وزوجته. بيد أنه إذا دعا الداعى إلى الحرب وقرعت الآذان صيحات الجهاد فيجب أن ينسى الإنسان هذا كله. وأن يذهل عنه فلا يفكر إلا فى نصرة ربه وحماية دينه وإنقاذ آله ووطنه... وإلا فإن الإسلام منه برىء: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين). والأمة التى تستثقل أعباء الكفاح وتتضايق من مطالب الجهاد إنما تحفر لنفسها قبرها وتكتب على بنيها ذلا لا ينتهى آخر الدهر! ص _010 وما ساد المسلمون إلا يوم أن قهروا نوازع الخوف، وقتلوا بواعث القعود، وعرفتهم ميادين الموت أبطالا يردون الغمرات ويركبون الصعاب. وما طمع الطامعون فيهم إلا يوم أن أخلدوا إلى الأرض، وأحبوا معيشة السلم، وكرهوا أن يدفعوا ضرائب الدم والمال. وهى ضرائب لابد منها لحماية الحق وصيانة الشرف، ولا بد منها لمنع الحرب وتأييد السلام، إن كرهنا الحرب وأحببنا السلام... إن كثيرا من المسلمين يحبون أن يعيشوا معيشة الراحة والهدوء والاستكانة برغم ما يهدد بلادهم من أخطار، وما يكتنف مستقبلهم من ظلمات، وحسبهم من الدنيا أن يبحثوا عن الطعام والكسوة، فإذا وجدوا من ذلك ما يسد المعدة ويوارى السوأة فقد وجدوا أصول الحياة، واستغنوا عن فضولها! وتلك لعمرى أحقر حياة وأذلها، وما يليق ذلك بأمة كريمة على نفسها، بله أمة كريمة على الله أورثها كتابه وكلفها أن تعمل به وأن تدعو الناس إليه! ألم يسمع هؤلاء أنباء الحروب العظيمة التى دارت رحاها فى الغرب؟ ألم يروا ضروب البسالة وألوان التضحية التى كان يبذلها كل فريق؟ ألم يروا كيف أن جنودا تنتحر ولا تستسلم للأسر، وأن فرقا من الفدائيين كانت تقف حياتها على المهمات القاتلة، فهم يدفعون أرواحهم ثمنا لها، فى غير وجل أو تردد. فأى حياة ترجوها الشعوب الخوارة والكسول إلى جانب هؤلاء؟ وأى نصر يطلبه أهل الحق إذا أغلوا حياتهم على حين يرخص أهل الباطل أنفسهم فى سبيل ما يطلبون؟ وإذا ضننا على القه بضريبة الدم والمال، فما طمعنا فى نصرته أو أملنا فى جنته، وهو القائل: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون). إن الإسلام دين فداء ودين استشهاد. عرفه كذلك أسلافنا الأمجاد فأحرقوا أعصابهم وعظامهم فى سبيل الله، لا يبالون بالموت! كيف وهو الذى يطلبون، وفيه ص _011 يرغبون؟ فكان هذا الشعور الغامر هو الدعامة المكينة التى بنوا عليها تاريخهم، وسجلوا فيه صحائف خلودهم، فعاش من عاش سعيدا، ومات من مات شهيدا. أما الرجل الذى ينصرف إلى الدنيا ويترك دينه ينهزم فى كل ميدان فلن ينال خير الدنيا ولن يذوق حلاوة الإيمان، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم " لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين " . . بالنفس والنفيس: عن شداد بن الهاد: أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فآمن به ثم قال له: أهاجر معك؟- وكان من الأعراب البدو- فأوصى به النبى كل صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه وضمه إلى جنده... فكانت غزاة انتصر فيها المسلمون وغنم النبى فيها شيئا، فقسمه على من معه وأرسل إلى الأعرابى نصيبه! فلما وصل إلى الأعرابى قال: ما هذا؟ قال: حظك من الغنيمة قسمته لك! قال: ما على هذا اتبعتك! ولكن اتبعتك على أن أرمى بسهم إلى ههنا- وأشار إلى حلقه بيده- فأموت، فأدخل الجنة. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : إن تصدق الله يصدقك. ثم نهضوا فى قتال العدو.. وما لبثوا إلا قليلا حتى جىء بالأعرابي محمولا وقد أصابه سهم فى حلقه حيث أشار بيده!! قال النبى صلى الله عليه وسلم : أهو هو؟؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله، فصدقه! ثم كفن فى جبة النبى صلى الله عليه وسلم: ثم قدمه فصلى عليه. فكان مما ظهر من صلاته على الأعرابي القتيل: "اللهم: هذا عبدك خرج فهاجر فى سبيلك. فقتل شهيدا. وأنا على ذلك شهيد " !!. . دين الحق والقوة: يخرج الجندى من وطنه حيث يعيش هادئا آمنا، إلى ساحة الميدان حيث يحمل من الأعباء ويتحمل من المخاطر ما يحتاج إلى بأس شديد وعزم جديد. وقد قدر الإسلام هذه المشقات حق قدرها، وتكفل الله عز وجل لها بأضعاف أجرها . ص _012 فى الميدان الرحيب، تهب الرياح السافية، وتهيج العواصف العاتية، وتمتلئ صدور المجاهدين بالغبار، وتتراكم على ملامحهم وملابسهم وأقدامهم سحب التراب. هذا كله لا ينساه الله للمجاهد المخلص الصبور. فقد جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في جوف عبد: غبار في سبيل الله ودخان جهنم " "ما من رجل يغبر وجهه في سبيل الله إلا آمنه دخان النار يوم القيامة. وما من رجل تغبر قدماه في سبيل الله إلا آمن الله قدمه من النار يوم القيامة " . وعندما يلقى الليل على الكون أستاره. وينتدب من الجند من يقوم بحراسة المعسكر، ومراقبة الأعداء. فإن يقظة الجندى الساهر على حياة إخوانه، والتفاته لكل حركة، واكتشافه لكل ريبة، إنما هو ضرب من العبادة والتهجد يزيد على الصوم والصلاة. وتلك أيضا حسنة تدخر للمؤمن عند الله: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرص في سبيل الله " والجندى فى الميدان يتعرض للقتل، كما يعرض أعداء الله له، ويقع فى مآزق ضيقة، ويواجه أزمات معنتة ، وتهيج فى نفسه مشاعر القلق، ويخاف تارة على نفسه، وتارة على من معه. والذى يواجه الموت فى كل ساعة لا يستغرب منه أن تتوتر أعصابه وأن يقشعر إهابه. لكن حساب هذه العاطفة المتوجسة لا يضيع عند الله أبدا، كما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خالط قلب امرئ رهج وجل فى سبيل الله إلا حرم الله عليه النار" وليست حياة المجاهد فى ميادين القتال هى الحياة الرتيبة التى ألفناها، ولا معيشته هى المعيشة السهلة المريحة التى عرفناها، فإن التعب عنصر مشترك فى كل ساعة من ساعاته... عليه أن ينتظر تأخر ضروراته عن موعدها، وأن يتحمل فراغ البطن، وجفاف الحلق، وطول السهر، وكثرة السفر، وحدوث المفاجآت، ووقوع المضايقات. غير أن شيئا من هذا لا يجوز أن يخذل مؤمنا عن الجهاد، ولا أن يؤخره عن أداء الواجب المكتوب عليه لنصرة الله ورسوله: ص _013 (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون). والمغارم والمصارع والجروح الخفيفة أو الغائرة، أمور معتادة فى الحرب، فلا يجوز أن نجزع لها أو نتراجع تحت وطأتها. وما يصيبنا من هذه الأحداث هو شهادة نلقى الله بها، ووجوهنا نضرة، ونفوسنا مستبشرة. "من جرح جرحا في سبيل الله، أو نكب نكبة، فإنها تجئ يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران، وريحها ريح المسك ". وفى الوقت الذى تشهد فيه على الفجار جوارحهم بما اقترفوا من آثام تكون جروح المجاهدين دلائل ناطقة بما تحملوا فى ذات الله وما بذلوا فى سبيل الله. إن الإسلام لا ينشئ الحرب إنشاء، إنما يلجأ إليها إلجاء. والمحرج يدفع عن نفسه كيف يشاء، ويثير الحفائظ، ويستصرخ الهمم، ويحشد الجهود، ويستنفد آخر ما لدى المؤمنين من طاقة وحول، ليمهد لنفسه ويزيح العقبات من طريقه ولذلك يقول الله لنبيه: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا). فلا غرو أن يجعل الله فترة الجهاد كلها سلسلة حسنات لصاحبها حتى يتعلم المسلمون الاستقتال فى رفع رايتهم وتدعيم مكانتهم، وحتى تكون حياتهم إعدادا واستعدادا، لا ينتهيان حتى ينتهى الليل والنهار، فلا يضن أحد بنفقة، أو يبخل بجهد، أو ينكل عن تضحية. وكل غال فى سبيل إعلاء الحق يهون. ص _014 ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ساهرة يوم حنين، فأطنبوا فى السير حتى كان عشية، فحضرت صلاة الظهر فجاء فارس، وقال: يا رسول الله.. إنى انطلقت بين أيديكم حتى طلعت فوق بعض الجبال، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم- بظعنهم ونسائهم ونعمهم- اجتمعوا إلى حنين. فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله!! ثم قال: من يحرسنا الليلة؟ فقال أحد الفرسان: أنا. يا رسول الله. قال: اركب، فركب فرسه وجاء إلى الرسول مستعدا. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: استقبل هذا الشعب حتى تكون فى أعلاه، ولا تغرن من قبلك الليلة- أى لا يخدعك أحد من العدو- فلما أصبحنا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال: هل أحسستم بفارسكم؟ قالوا: لا، ما شعرنا به.. فثوب بالصلاة! فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يصلى وهو يتلفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: ابشروا.. فقد جاء فارسكم! فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر فى الشعب الكثيف، فإذا به قد جاء حتى وقف بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: إنى انطلقت حتى كنت فى أعلى هذا الشعب حيث أمرتني يا رسول الله، فلما أصبحت استكشفت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدا. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم. هل نزلت الليلة؟ قال: لا.. إلا مصليا أو قاضى حاجة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "قد أوجبت- أى لنفسك الجنة- فلا عليك ألا تعمل عملا بعدها"!! ص _015 * الشرق الأوسط .. بين حركات الأحرار وسياسة العبيد إن سياسة الظلام تكتب خاتمتها مؤامرات الظلام!... عندما ترامت إلينا الأنباء بأن القدر الغالب خط للملك عبد الله مصيره المشئوم، رجعت أنا لنفسى أستحيى فيها ذكريات قريبة..! كنت بين اللاجئين إلى المنطقة المصرية من فلسطين، وكنت أتسمع أنباء القرى المهجورة، وحنين الأهل المطرودين من ربوعها. ورأيت يوما رجلا كبير السن، مقطب الجبين، على صفحة وجهه غيوم، يبدو أنها لا تريد أن تنقشع، واستدرجته في الحديث، فعلمت أنه من أهل "اللد" وأن ابنه قتل فى الحرب... ثم هز رأسه آسفا وهو يقول: لقد رأيت بنفسى حادثة المسجد!! قلت: وما حادثة المسجد؟ قال: لما خاننا الملك عبد الله وأمر جيشه بتسليم اللد والرملة لليهود. فوجئنا بمصفحات العدو تقتحم مدينتنا، وانهارت مقاومتنا تحت وطأة اليأس والعجز، وانحاز بضع مئات من الرجال والشباب إلى أحد المساجد ينتظرون النجدة!.. من الوهم! قال الرجل: وكنت هاربا فى بيتى القريب من المسجد فسمعت ضجة فزع، خلال طلقات لا تنتهى من المدافع الرشاشة ورأيت المسجد يتحول إلى مقبرة أو مجزرة. وفى الحرب- يا سيدى- لا تترك الجثث طويلا، حتى لا يسبب عفنها الأخطار للجيش المنتصر.. فما هى إلا لحظات حتى رأيت البنزين يصب على رفات المئات من القتلى العرب و... تحول الصبا والفتوة إلى... رماد تشم منه رائحة الشواء! وسكت الرجل... وتكلمت دموعه!. هاجت هذه الذكريات كلها فى نفسى ، وأنا أسمع محطة الإذاعة تنعى الملك عبد الله، عاهل العروبة والإسلام، وسليل أسرة بنى هاشم الكرام، وعميد بيت النبى عليه الصلاة والسلام، حامى حمى الدين، وناصر قضية فلسطين... إلى آخر ما ألف الناس سماعه من نفاق ودجل عندما يهلك عظيم من عظماء هذه الأيام. لقد اغتيل "رازمارا "، فى إيران، "والنقراشى" فى مصر، "وعبد الله " فى الأردن، واغتيل كثير من الحكام الذين آزروا إنجلترا على حساب وطنهم الجريح... ولهذه الاغتيالات عندى دلالة سيئة مؤسفة! إنها قد تدل على حماسة أفراد، بيد أنها دليل كذلك على بلادة الشعوب وخمولها! ص _016
صفحة ١٤