ص _004 كأنما أحاذر شراكآ منصوبة، أو أصعر خدى.. علم الله لا عن كبر- بل إحجامآ عن قبول الدنية ورفضآ لهضم الحقوق! وما اضطررت إليه من عمل ينافى طبعى، فإن مرده طبيعة الأحوال التى أحيا فيها، وليس ألبتة من طبيعة الرسالة التي أؤديها بعد ما صرت إلى ما خطه القدر لى، أى رجلآ من الدعاة إلى الله! وهمزة وصل بين الأرض والسماء! . وقد استبان لى بعد ما درست الدين عن بصر وعلى مكث، أن الخصال التى تردنى فى وهم الناس عنه، هى أصدق المرشحات لحمل تعاليمه والوصول بالبشرية إلى أهدافه! وعلمت بعد اختبار صحيح للرجال الملتصقين بالدين من رسميين وشعبيين، وللرجال المبتعدين في الدين من ملحدين ومتهمين، صدق ما قاله النبى صلوات الله عليه وسلامه: "رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة". إن العصاة الضارعين أدنى إلى الله من الزهاد المدلين، وإن الرجل الذى يشبه الطفل فى مسالكه أقرب إلى فطرة الله من أولئك الذين أحاطوا أشخاصهم بهالات من التصنع الدقيق لما يفعلون ويتركون. ولا ريب أنه- بعيدا عن دائرة الدين- يوجد قطعان من الناس نزلوا إلى درك سحيق من الفساد، كبارهم وحوش، وصغارهم ذباب... ووظيفة الأنبياء الأولين - ومن خلفهم فى القيام على رسالتهم- بذل الجهد فى تقويم هؤلاء، وإسداء النصح لهم، والحيلولة بينهم وبين موارد الشر، التى يتهاوون إليها بغرائزهم. وهذا أجل عمل يمنحه إنسان إنسانا. وما يستطيعه فى هذه الحياة إلا الأقلون، بل إن الطاقة الروحية الدافقة التى تسكب من نقائها على القلوب الملوثة فتغسلها من أدرانها ، وترفعها عن حضيضها ، ليست متاحة لمن ابتغاها من الناس، ولكن القدر يصطفى لذلك مواهب وكفايات فريدة (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). وأين الديانون الذين يريدون للحياة صوابها إذا فقدت صوابها؟ إنهم قليلون جدا. ص _005 والناس يحتسبون فى حملة الوحى الداعين إلى الله: أن غرائز الحياة ماتت فى دمائهم، وأن تجردهم لما عرفوا به يتقاضاهم ذلك!. وهذا خطأ، فإن الواجب فى حق هؤلاء أن يكون ما عند الله أرجح فى نفوسهم من غرائز الحياة كلها، ومعنى ذلك أن حظهم من الدنيا قد يكون أكبر فى حقيقته من حظوظ غيرهم، ولكنه مهما كبر يتضاءل أمام ما فى نفس الرجل المؤمن من حب للخير ، وتضحية فى سبيله! والتقى حقآ هو الرجل الذى أوتى من علو الهمة وطول الباع ما يمكنه من تملك الدنيا... ثم هو قد أوتى إلى جانب ذلك من صدق اليقين واحترام الحق والنزوع إلى الكمال ما يجعله يزدرى ذلك كله فى ساعة فداء وتضحية! وقد اختلطت بفئات شتى تنتسب إلى الدين فراعنى أن هذا الصنف- كما قلت- عزيز المنال. هناك جمهور ضخم من العامة سليم الصدر صريح الهدف يشترك مع الملأ الأعلى فى نقاء صحيفته واستقامة سريرته. وهناك نفر من المرشدين مشموا فى آثار النبوة وصدقوا الله جهادهم ومحضوه عملهم.. بيد أنه كما ظهر قديمآ أنبياء كذبة يوجد متاجرون بالدعوة إلى الله مصابون فى عقولهم أو ضمائرهم بلوثات عكرت رونق الدين، وأفسدت شئون الحياة. وقد يسبق الوهم إلى أنى أقصد فقط طوائف المحترفين المعروفين... ولئن كان هؤلاء ممن نعنيهم... إنهم ليسوا الخطر كله... فلنذكر فى معرض الزراية عشرات من الرجال المدنيين أخفقوا فى أعمالهم وانهزموا فى ساحتها... ثم، كما يتحول اللص العاجز إلى واحد من رجال الشرطة، يتحول أولئك المهزمون إلى مبشرين بالدين، ويزحمون "الجمعيات " الدينية ليحرسوا الإيمان! وكان أولى بهم- لو عقلوا - أن يخدموا الدين إتقان الأعمال التى توفروا عليها وتخصصوا فيها... لا أن يخدموه بالخطب والمظاهرات، فإن بلاء الدين بدأ يوم تحول طقوسا وتلاوات، وانقطع عن ملاحقة العمران، والهيمنة على البواعث والغايات فى أعمال الإنسان. فى هذا الكتاب صور وخواطر، وبحوث ولفتات، لا يجمعها فى نسق مؤتلف إلا هذا العنوان العام "تأملات فى الدين والحياة "، وقد كتبت أكثرها منذ أعوام. وربما كانت فى وضعها الجديد قد تجردت من الملابسات التى أوحت بها، إلا أن ذلك ص _006
صفحة ٤