[تأملات في الدين والحياة]
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة لم أكن أتخيل فى طفولتى ولا يفاعتى أننى سأكون يومآ ما داعية إلى الدين. وما حسبت ولا حسب القريبون منى أننى أصلح للعمل فى هذا الميدان الذى تواضع الناس على ترشيح أقوام معينين له، يمتازون بطراز خاص من الخلق والسلوك، ويضفى المجتمع عليهم تقاليد دقيقة تتحكم فى بيئاتهم وهيئاتهم... وسائر مناحى حياتهم. إننى لا أطيق التزمت، ولو تكلفته ما أحسنته! وأحب أن أسترسل مع سجيتى فى أخذ الأ مور وتركها، وقلما أكترث للتقاليد الموضوعة... والمفروض أن اللازمة الأولى فى رجال الدين- كما يسمون- أنهم أهل توقر وسكون. وأنا أجنح إلى المرح عن رغبة عميقة، وأتلمس الجوانب الضاحكة فى كل شىء، وأود لو استطعت أن أعيش هاشآ باشآ... والمفروض أن الناس يتوقعون من أمثالنا تواصل الأحزان، وإطراق الكآبة، وحتى يكون تذكيره بالآخرة، وإنذاره العصاة بالنار، متفقآ مع مخايل الجد والعبوس التى لا تفارق وجهه أبدآ!! ثم إنى شعبى فى تصرفى، لو كنت ملكآ لأبيت إلا الانتظام فى سلك الأخوة المطلقة مع الجماهير الدنيا، أخدمهم ويخدموننى على سواء! وقد فكر أحد الفراشين أن يزوجنى ابنته، يحسبنى غير متزوج! وضحكت مسرورآ، لأن الرجل لم يلمح فى نفسى أثارة من كبرياء تصده عنى أو تصدنى عنه، برغم ما يفرضه الناس بيننا من تفاوت شاسع فى الطبقات!! ولماذا أمضى فى شرح نفسى؟ وماذا يعنى القراء من ذلك؟ الذى يهم أن مؤهلات "رجل الدين " الذى يمشى رويدا ، وينحصر فى حدود حكمة من المراسم، ويشرف من قمته على الناس، ويرسل يده لتقبلها العامة.. إلى آخر كل ذلك كان وما زال بعيدا عنى. وقد تكون الأيام غيرت منى، والتجارب القاسية علمتنى ، فجعلتنى وأنا الضحوك المبتهج- أغوص فى بحار من الأكدار، أو أتحرى موضع قدمى وأنا أسير بين الناس،
صفحة ١
ص _004 كأنما أحاذر شراكآ منصوبة، أو أصعر خدى.. علم الله لا عن كبر- بل إحجامآ عن قبول الدنية ورفضآ لهضم الحقوق! وما اضطررت إليه من عمل ينافى طبعى، فإن مرده طبيعة الأحوال التى أحيا فيها، وليس ألبتة من طبيعة الرسالة التي أؤديها بعد ما صرت إلى ما خطه القدر لى، أى رجلآ من الدعاة إلى الله! وهمزة وصل بين الأرض والسماء! . وقد استبان لى بعد ما درست الدين عن بصر وعلى مكث، أن الخصال التى تردنى فى وهم الناس عنه، هى أصدق المرشحات لحمل تعاليمه والوصول بالبشرية إلى أهدافه! وعلمت بعد اختبار صحيح للرجال الملتصقين بالدين من رسميين وشعبيين، وللرجال المبتعدين في الدين من ملحدين ومتهمين، صدق ما قاله النبى صلوات الله عليه وسلامه: "رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة". إن العصاة الضارعين أدنى إلى الله من الزهاد المدلين، وإن الرجل الذى يشبه الطفل فى مسالكه أقرب إلى فطرة الله من أولئك الذين أحاطوا أشخاصهم بهالات من التصنع الدقيق لما يفعلون ويتركون. ولا ريب أنه- بعيدا عن دائرة الدين- يوجد قطعان من الناس نزلوا إلى درك سحيق من الفساد، كبارهم وحوش، وصغارهم ذباب... ووظيفة الأنبياء الأولين - ومن خلفهم فى القيام على رسالتهم- بذل الجهد فى تقويم هؤلاء، وإسداء النصح لهم، والحيلولة بينهم وبين موارد الشر، التى يتهاوون إليها بغرائزهم. وهذا أجل عمل يمنحه إنسان إنسانا. وما يستطيعه فى هذه الحياة إلا الأقلون، بل إن الطاقة الروحية الدافقة التى تسكب من نقائها على القلوب الملوثة فتغسلها من أدرانها ، وترفعها عن حضيضها ، ليست متاحة لمن ابتغاها من الناس، ولكن القدر يصطفى لذلك مواهب وكفايات فريدة (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). وأين الديانون الذين يريدون للحياة صوابها إذا فقدت صوابها؟ إنهم قليلون جدا. ص _005 والناس يحتسبون فى حملة الوحى الداعين إلى الله: أن غرائز الحياة ماتت فى دمائهم، وأن تجردهم لما عرفوا به يتقاضاهم ذلك!. وهذا خطأ، فإن الواجب فى حق هؤلاء أن يكون ما عند الله أرجح فى نفوسهم من غرائز الحياة كلها، ومعنى ذلك أن حظهم من الدنيا قد يكون أكبر فى حقيقته من حظوظ غيرهم، ولكنه مهما كبر يتضاءل أمام ما فى نفس الرجل المؤمن من حب للخير ، وتضحية فى سبيله! والتقى حقآ هو الرجل الذى أوتى من علو الهمة وطول الباع ما يمكنه من تملك الدنيا... ثم هو قد أوتى إلى جانب ذلك من صدق اليقين واحترام الحق والنزوع إلى الكمال ما يجعله يزدرى ذلك كله فى ساعة فداء وتضحية! وقد اختلطت بفئات شتى تنتسب إلى الدين فراعنى أن هذا الصنف- كما قلت- عزيز المنال. هناك جمهور ضخم من العامة سليم الصدر صريح الهدف يشترك مع الملأ الأعلى فى نقاء صحيفته واستقامة سريرته. وهناك نفر من المرشدين مشموا فى آثار النبوة وصدقوا الله جهادهم ومحضوه عملهم.. بيد أنه كما ظهر قديمآ أنبياء كذبة يوجد متاجرون بالدعوة إلى الله مصابون فى عقولهم أو ضمائرهم بلوثات عكرت رونق الدين، وأفسدت شئون الحياة. وقد يسبق الوهم إلى أنى أقصد فقط طوائف المحترفين المعروفين... ولئن كان هؤلاء ممن نعنيهم... إنهم ليسوا الخطر كله... فلنذكر فى معرض الزراية عشرات من الرجال المدنيين أخفقوا فى أعمالهم وانهزموا فى ساحتها... ثم، كما يتحول اللص العاجز إلى واحد من رجال الشرطة، يتحول أولئك المهزمون إلى مبشرين بالدين، ويزحمون "الجمعيات " الدينية ليحرسوا الإيمان! وكان أولى بهم- لو عقلوا - أن يخدموا الدين إتقان الأعمال التى توفروا عليها وتخصصوا فيها... لا أن يخدموه بالخطب والمظاهرات، فإن بلاء الدين بدأ يوم تحول طقوسا وتلاوات، وانقطع عن ملاحقة العمران، والهيمنة على البواعث والغايات فى أعمال الإنسان. فى هذا الكتاب صور وخواطر، وبحوث ولفتات، لا يجمعها فى نسق مؤتلف إلا هذا العنوان العام "تأملات فى الدين والحياة "، وقد كتبت أكثرها منذ أعوام. وربما كانت فى وضعها الجديد قد تجردت من الملابسات التى أوحت بها، إلا أن ذلك ص _006
صفحة ٤
لا يغض من قيمتها، فقد عالجت أمورا لا تزال تستحق المزيد من النقد والنظر! وخير ما فيها أنها عرضت الدين على الناس نابضا بالحياة والحركة، ونشدت للحياة ضوابط الإيمان والتقى. وعهد الناس بالدين أنه طريق إلى البلى. وبالدنيا أنها لا تنضج وتشتهى إلا بعيدة عن وحيه وهداه.. " من هذه التأملات ألفت عدة كتب قرأها الناس بحوثا مستقلة بعد ما طالعوها مقالات مبعثرة. وقد يلحظ القراء تشابها فيما سيجدونه هنا من فكر طوال أو قصار، وبين ما ظهر لغيرى من رسائل ومؤلفات. ربما كان اتحاد الطريق والوجهة سر هذا التلاقى ، وذلك ما أرجحه! وأيا ما كان الأمر، فإن هذه الأفكار من الناحية الفنية، والتاريخية قد نشرت قبل أن يبدو غيرها فى ميدان الأدب بأمد طويل، عندما كنت أحرر مجلة الإخوان المسلمين... على أن الإسلام، من حيث هو دين، ليس وصف معالمه حكرا لأحد. والمثوبة التى يرتجيها المؤمنون، لا يعرف من سوف يظفر بها، السابقون أم اللاحقون؟ محمد الغزالي ص _007 سياسية الحرية والكفاح . ثمن واحد... لبضائع مختلفة: إن الشجاعة قد تكلف صاحبها فقدان حياته، فهل الجبن يقى صاحبه شر المهالك؟ كلا. فالذين يموتون فى ميادين الحياة وهم يولون الأدبار أضعاف الذين يموتون وهم يقتحمون الأخطار...؟ وللمجد ثمنه الغالى الذى يتطوع الإنسان بدفعه، ولكن الهوان لا يعفى صاحبه من ضريبة يدفعها وهو كاره حقير. ومن ثم فالأمة التى تضن ببنيها فى ساحة الجهاد تفقدهم أيام السلم. والتى لا تقدم للحرية أبطالا يقتلون وهم سادة كرام، تقدم للعبودية رجالا يشنقون وهم سفلة لئام. وهكذا من لم يسهر نفسه للتعليم أياما، أسهره الجهل أعواما، ولو حسبنا ما فقده الشرق تحت وطأة الجهل والفقر والمرض لوجدناه أضعاف ما فقده الغرب وهو يبحث عن العلم والغنى والصحة!! وما دام الشىء وضده يكلفان الكثير فلماذا نرضى بالحقير ولا نطمع فى الخطير؟ ألا ما أجمل قول الشاعر: إذا ما كنت فى أمر مروم فلا تقنع بمادون النجوم! فطعم الموت فى أمر حقير كطعم الموت فى أمر عظيم والذين يحسبون البذل فى سبيل الله مغرما يستحق الرثاء، والموت فى سبيل الله تضحية تستحق العزاء، هم قوم ليسوا من الدين فى شىء، ولا من الدنيا فى شىء. وحق على هؤلاء أن يدفنوا وهم أحياء، وأن يرقدوا فى مهاد الذل لا ليستريحوا، ولكن لتستجاب فيهم دعوة خالد بن الوليد: "لا نامت أعين الجبناء". إن اللصوص عندما يقومون بمغامراتهم الجريئة للسلب والنهب لا يأخذون من الموت أمانا، ولا ينالون من الحظ ضمانا، بل يقدمون وهم يعرفون أن القتل والعذاب لهم ص _008 بالمرصد. ومع ذلك لا يهابون. فكيف الحال إذا تشجع اللصوص وخاف أصحاب الحقوق المهددة وساورتهم الهواجس على أموالهم وأولادهم؟ كيف الحال إذا أقبلت الدول الضاربة الغاصبة، وأدبرت الدولة المضروبة المغصوبة؟! كيف الحال إذا ضحى أصحاب العدوان ونكص أصحاب الإيمان؟! إن القرآن يخاطب المؤمنين فى صراحة مبينا لهم أن المغارم قسمة عادلة بين المؤمنين والكافرين جميعا فى ميادين الكفاح والبقاء. فأيما امرئ نكص على عقبيه مهزوما فقد سقط من عين الله!! يقول القرآن لأصحاب الحق (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله). ويقول: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون) فهل يفر من الألم والجرح والتعب، والكدح فى سبيل الله إلا مجرم دنىء. (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) عندما تمشت مصر مع قواعد الشرف والنجدة والأخوة وقررت أن تحمل السلاح لإنقاذ الأرض المقدسة من إخوان القردة الذين يريدون انتهابها ، تذاكر الناس أن البرلمان قرر بضعة ملايين من الجنيهات، وأن جيش مصر سيواجه فى فلسطين أقواما أولى بأس شديد!! قلت ليس فى شىء من هذا ما يتعاظم الناس فعله. فإن مصر وحدها تنفق 60 مليونا من الجنيهات على الدخان. تلك الحماقة التى تحرق بين الأصابع والشفاه، على غير فائدة. فهل كلفنا ميدان الشرف نصف ما كلفنا ميدان الترف؟ كلا.. ذاك فى المال، أما فى الرجال فكم سنقدم من الشهداء الأبرار فداء لعقيدتنا وكرامتنا؟ إن ضحايا هذا الجهاد النبيل- إن صحت تسميتهم ضحايا- لن يبلغوا أبدا نصف ما قدمته هذه البلاد لأوبئة الحمى أو الكوليرا فى عام واحد. وشتان بين موت وموت!! ص _009 فلنحمل مواثيق الكرامة بعزة وشمم.. ولنأخذ سبيلنا الفذة فى طليعة الأمم!. ولندفع الثمن فى سبيل الله طوعا وإلا دفعناه فى سبيل الشيطان على رغمنا، ثم لا أجر لنا. (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا). . ضريبة الدم والمال: الرجل الذى يعيش لنفسه فقط، لا ينتفع به وطن، ولا تعتز به عقيدة ولا ينتصر به دين. ولا قيمة لإنسان يكرس حياته لإشباع شهواته وقضاء لباناته فإذا فرغ منها لم يهتم لشىء ولم يبال بعدها بمفقود أو موجود! مثل هذا المخلوق لا يساوى فى ميزان الإسلام شيئا. ولا يستحق فى الدنيا نصرا ولا فى الآخرة آجرا. لا قيمة للإنسان إلا إذا آمن بربه ودينه. ولا قيمة لهذا الإيمان إلا إذا أرخص الإنسان فى سبيله النفس والمال. وقد بين لنا القرآن الكريم أن الرجل! قد يحب أن يعيش آمنا فى سربه، وادعا بين ذويه وأهله، سعيدا فى تجارته، أو مطمئنا فى وظيفته، مستقرا فى بيته ومستريحا بين أولاده وزوجته. بيد أنه إذا دعا الداعى إلى الحرب وقرعت الآذان صيحات الجهاد فيجب أن ينسى الإنسان هذا كله. وأن يذهل عنه فلا يفكر إلا فى نصرة ربه وحماية دينه وإنقاذ آله ووطنه... وإلا فإن الإسلام منه برىء: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين). والأمة التى تستثقل أعباء الكفاح وتتضايق من مطالب الجهاد إنما تحفر لنفسها قبرها وتكتب على بنيها ذلا لا ينتهى آخر الدهر! ص _010 وما ساد المسلمون إلا يوم أن قهروا نوازع الخوف، وقتلوا بواعث القعود، وعرفتهم ميادين الموت أبطالا يردون الغمرات ويركبون الصعاب. وما طمع الطامعون فيهم إلا يوم أن أخلدوا إلى الأرض، وأحبوا معيشة السلم، وكرهوا أن يدفعوا ضرائب الدم والمال. وهى ضرائب لابد منها لحماية الحق وصيانة الشرف، ولا بد منها لمنع الحرب وتأييد السلام، إن كرهنا الحرب وأحببنا السلام... إن كثيرا من المسلمين يحبون أن يعيشوا معيشة الراحة والهدوء والاستكانة برغم ما يهدد بلادهم من أخطار، وما يكتنف مستقبلهم من ظلمات، وحسبهم من الدنيا أن يبحثوا عن الطعام والكسوة، فإذا وجدوا من ذلك ما يسد المعدة ويوارى السوأة فقد وجدوا أصول الحياة، واستغنوا عن فضولها! وتلك لعمرى أحقر حياة وأذلها، وما يليق ذلك بأمة كريمة على نفسها، بله أمة كريمة على الله أورثها كتابه وكلفها أن تعمل به وأن تدعو الناس إليه! ألم يسمع هؤلاء أنباء الحروب العظيمة التى دارت رحاها فى الغرب؟ ألم يروا ضروب البسالة وألوان التضحية التى كان يبذلها كل فريق؟ ألم يروا كيف أن جنودا تنتحر ولا تستسلم للأسر، وأن فرقا من الفدائيين كانت تقف حياتها على المهمات القاتلة، فهم يدفعون أرواحهم ثمنا لها، فى غير وجل أو تردد. فأى حياة ترجوها الشعوب الخوارة والكسول إلى جانب هؤلاء؟ وأى نصر يطلبه أهل الحق إذا أغلوا حياتهم على حين يرخص أهل الباطل أنفسهم فى سبيل ما يطلبون؟ وإذا ضننا على القه بضريبة الدم والمال، فما طمعنا فى نصرته أو أملنا فى جنته، وهو القائل: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون). إن الإسلام دين فداء ودين استشهاد. عرفه كذلك أسلافنا الأمجاد فأحرقوا أعصابهم وعظامهم فى سبيل الله، لا يبالون بالموت! كيف وهو الذى يطلبون، وفيه ص _011 يرغبون؟ فكان هذا الشعور الغامر هو الدعامة المكينة التى بنوا عليها تاريخهم، وسجلوا فيه صحائف خلودهم، فعاش من عاش سعيدا، ومات من مات شهيدا. أما الرجل الذى ينصرف إلى الدنيا ويترك دينه ينهزم فى كل ميدان فلن ينال خير الدنيا ولن يذوق حلاوة الإيمان، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم " لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين " . . بالنفس والنفيس: عن شداد بن الهاد: أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فآمن به ثم قال له: أهاجر معك؟- وكان من الأعراب البدو- فأوصى به النبى كل صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه وضمه إلى جنده... فكانت غزاة انتصر فيها المسلمون وغنم النبى فيها شيئا، فقسمه على من معه وأرسل إلى الأعرابى نصيبه! فلما وصل إلى الأعرابى قال: ما هذا؟ قال: حظك من الغنيمة قسمته لك! قال: ما على هذا اتبعتك! ولكن اتبعتك على أن أرمى بسهم إلى ههنا- وأشار إلى حلقه بيده- فأموت، فأدخل الجنة. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : إن تصدق الله يصدقك. ثم نهضوا فى قتال العدو.. وما لبثوا إلا قليلا حتى جىء بالأعرابي محمولا وقد أصابه سهم فى حلقه حيث أشار بيده!! قال النبى صلى الله عليه وسلم : أهو هو؟؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله، فصدقه! ثم كفن فى جبة النبى صلى الله عليه وسلم: ثم قدمه فصلى عليه. فكان مما ظهر من صلاته على الأعرابي القتيل: "اللهم: هذا عبدك خرج فهاجر فى سبيلك. فقتل شهيدا. وأنا على ذلك شهيد " !!. . دين الحق والقوة: يخرج الجندى من وطنه حيث يعيش هادئا آمنا، إلى ساحة الميدان حيث يحمل من الأعباء ويتحمل من المخاطر ما يحتاج إلى بأس شديد وعزم جديد. وقد قدر الإسلام هذه المشقات حق قدرها، وتكفل الله عز وجل لها بأضعاف أجرها . ص _012 فى الميدان الرحيب، تهب الرياح السافية، وتهيج العواصف العاتية، وتمتلئ صدور المجاهدين بالغبار، وتتراكم على ملامحهم وملابسهم وأقدامهم سحب التراب. هذا كله لا ينساه الله للمجاهد المخلص الصبور. فقد جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في جوف عبد: غبار في سبيل الله ودخان جهنم " "ما من رجل يغبر وجهه في سبيل الله إلا آمنه دخان النار يوم القيامة. وما من رجل تغبر قدماه في سبيل الله إلا آمن الله قدمه من النار يوم القيامة " . وعندما يلقى الليل على الكون أستاره. وينتدب من الجند من يقوم بحراسة المعسكر، ومراقبة الأعداء. فإن يقظة الجندى الساهر على حياة إخوانه، والتفاته لكل حركة، واكتشافه لكل ريبة، إنما هو ضرب من العبادة والتهجد يزيد على الصوم والصلاة. وتلك أيضا حسنة تدخر للمؤمن عند الله: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرص في سبيل الله " والجندى فى الميدان يتعرض للقتل، كما يعرض أعداء الله له، ويقع فى مآزق ضيقة، ويواجه أزمات معنتة ، وتهيج فى نفسه مشاعر القلق، ويخاف تارة على نفسه، وتارة على من معه. والذى يواجه الموت فى كل ساعة لا يستغرب منه أن تتوتر أعصابه وأن يقشعر إهابه. لكن حساب هذه العاطفة المتوجسة لا يضيع عند الله أبدا، كما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خالط قلب امرئ رهج وجل فى سبيل الله إلا حرم الله عليه النار" وليست حياة المجاهد فى ميادين القتال هى الحياة الرتيبة التى ألفناها، ولا معيشته هى المعيشة السهلة المريحة التى عرفناها، فإن التعب عنصر مشترك فى كل ساعة من ساعاته... عليه أن ينتظر تأخر ضروراته عن موعدها، وأن يتحمل فراغ البطن، وجفاف الحلق، وطول السهر، وكثرة السفر، وحدوث المفاجآت، ووقوع المضايقات. غير أن شيئا من هذا لا يجوز أن يخذل مؤمنا عن الجهاد، ولا أن يؤخره عن أداء الواجب المكتوب عليه لنصرة الله ورسوله: ص _013 (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون). والمغارم والمصارع والجروح الخفيفة أو الغائرة، أمور معتادة فى الحرب، فلا يجوز أن نجزع لها أو نتراجع تحت وطأتها. وما يصيبنا من هذه الأحداث هو شهادة نلقى الله بها، ووجوهنا نضرة، ونفوسنا مستبشرة. "من جرح جرحا في سبيل الله، أو نكب نكبة، فإنها تجئ يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران، وريحها ريح المسك ". وفى الوقت الذى تشهد فيه على الفجار جوارحهم بما اقترفوا من آثام تكون جروح المجاهدين دلائل ناطقة بما تحملوا فى ذات الله وما بذلوا فى سبيل الله. إن الإسلام لا ينشئ الحرب إنشاء، إنما يلجأ إليها إلجاء. والمحرج يدفع عن نفسه كيف يشاء، ويثير الحفائظ، ويستصرخ الهمم، ويحشد الجهود، ويستنفد آخر ما لدى المؤمنين من طاقة وحول، ليمهد لنفسه ويزيح العقبات من طريقه ولذلك يقول الله لنبيه: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا). فلا غرو أن يجعل الله فترة الجهاد كلها سلسلة حسنات لصاحبها حتى يتعلم المسلمون الاستقتال فى رفع رايتهم وتدعيم مكانتهم، وحتى تكون حياتهم إعدادا واستعدادا، لا ينتهيان حتى ينتهى الليل والنهار، فلا يضن أحد بنفقة، أو يبخل بجهد، أو ينكل عن تضحية. وكل غال فى سبيل إعلاء الحق يهون. ص _014 ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ساهرة يوم حنين، فأطنبوا فى السير حتى كان عشية، فحضرت صلاة الظهر فجاء فارس، وقال: يا رسول الله.. إنى انطلقت بين أيديكم حتى طلعت فوق بعض الجبال، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم- بظعنهم ونسائهم ونعمهم- اجتمعوا إلى حنين. فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله!! ثم قال: من يحرسنا الليلة؟ فقال أحد الفرسان: أنا. يا رسول الله. قال: اركب، فركب فرسه وجاء إلى الرسول مستعدا. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: استقبل هذا الشعب حتى تكون فى أعلاه، ولا تغرن من قبلك الليلة- أى لا يخدعك أحد من العدو- فلما أصبحنا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال: هل أحسستم بفارسكم؟ قالوا: لا، ما شعرنا به.. فثوب بالصلاة! فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يصلى وهو يتلفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: ابشروا.. فقد جاء فارسكم! فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر فى الشعب الكثيف، فإذا به قد جاء حتى وقف بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: إنى انطلقت حتى كنت فى أعلى هذا الشعب حيث أمرتني يا رسول الله، فلما أصبحت استكشفت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدا. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم. هل نزلت الليلة؟ قال: لا.. إلا مصليا أو قاضى حاجة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "قد أوجبت- أى لنفسك الجنة- فلا عليك ألا تعمل عملا بعدها"!! ص _015 * الشرق الأوسط .. بين حركات الأحرار وسياسة العبيد إن سياسة الظلام تكتب خاتمتها مؤامرات الظلام!... عندما ترامت إلينا الأنباء بأن القدر الغالب خط للملك عبد الله مصيره المشئوم، رجعت أنا لنفسى أستحيى فيها ذكريات قريبة..! كنت بين اللاجئين إلى المنطقة المصرية من فلسطين، وكنت أتسمع أنباء القرى المهجورة، وحنين الأهل المطرودين من ربوعها. ورأيت يوما رجلا كبير السن، مقطب الجبين، على صفحة وجهه غيوم، يبدو أنها لا تريد أن تنقشع، واستدرجته في الحديث، فعلمت أنه من أهل "اللد" وأن ابنه قتل فى الحرب... ثم هز رأسه آسفا وهو يقول: لقد رأيت بنفسى حادثة المسجد!! قلت: وما حادثة المسجد؟ قال: لما خاننا الملك عبد الله وأمر جيشه بتسليم اللد والرملة لليهود. فوجئنا بمصفحات العدو تقتحم مدينتنا، وانهارت مقاومتنا تحت وطأة اليأس والعجز، وانحاز بضع مئات من الرجال والشباب إلى أحد المساجد ينتظرون النجدة!.. من الوهم! قال الرجل: وكنت هاربا فى بيتى القريب من المسجد فسمعت ضجة فزع، خلال طلقات لا تنتهى من المدافع الرشاشة ورأيت المسجد يتحول إلى مقبرة أو مجزرة. وفى الحرب- يا سيدى- لا تترك الجثث طويلا، حتى لا يسبب عفنها الأخطار للجيش المنتصر.. فما هى إلا لحظات حتى رأيت البنزين يصب على رفات المئات من القتلى العرب و... تحول الصبا والفتوة إلى... رماد تشم منه رائحة الشواء! وسكت الرجل... وتكلمت دموعه!. هاجت هذه الذكريات كلها فى نفسى ، وأنا أسمع محطة الإذاعة تنعى الملك عبد الله، عاهل العروبة والإسلام، وسليل أسرة بنى هاشم الكرام، وعميد بيت النبى عليه الصلاة والسلام، حامى حمى الدين، وناصر قضية فلسطين... إلى آخر ما ألف الناس سماعه من نفاق ودجل عندما يهلك عظيم من عظماء هذه الأيام. لقد اغتيل "رازمارا "، فى إيران، "والنقراشى" فى مصر، "وعبد الله " فى الأردن، واغتيل كثير من الحكام الذين آزروا إنجلترا على حساب وطنهم الجريح... ولهذه الاغتيالات عندى دلالة سيئة مؤسفة! إنها قد تدل على حماسة أفراد، بيد أنها دليل كذلك على بلادة الشعوب وخمولها! ص _016
صفحة ١٤
وقد تستغرب هذا الوصف، ولكن المقارنة المجردة تشهد له وتنطق بصدقه. إن الملك عبد الله ألغى البرلمان الأردنى بمجلسيه: النواب والشيوخ، وسكت الشعب وهو يرى مستقبله المبهم، تلعب به أيد لا أمانة لها. أما "لويس السادس عشر" ملك فرنسا، فما ان أراد أن يتنكر للنظام الدستورى، ويلؤم مع الشعب المطالب به، حتى ألقى الشعب القبض عليه وقدمه للمحاكمة، فلما ثبتت عليه جريمة الخيانة للشعب وحقوقه، وضع عنقه تحت السكين، فاجتثته واجتثت معه المظالم المتوقعة. وهكذا قال! القضاء كلمته، ولم يحاول فرد هناك أن يغتال الملك خفية. أما الشرق المسكين فإن أوزار الاستعمار الداخلى والخارجى تنوء بكلكلها عليه وهو يتأوه فى صمت. ووددت لو لم يقتل الملك عبد الله غيلة، وأن يقدم أمام محكمة شعبية، تتولى حسابه حسابا دقيقا. على تصرفاته التى يزعم أعداؤه أنها سببت قتل ألوف من العرب والمسلمين، ومن الجيش المصرى المكافح لتحرير فلسطين. ويوم يقول القضاء العادل كلمته فتستريح ضمائر الأحرار، ويغسل من بلاد الإسلام عار أى عار. . طواغيت: لا يسر قلبى شىء مثل أن أرى اختفاء الجبارين وفراغ أيديهم من أسباب البطش ووسائل الغلبة والقهر وانكشاف مواهبهم بعد زوال الحكم وزوال ما يضفيه الحكم على ذويه من مواهب فارغة!. وعلة هذه العاطفة شعورى العميق بحاجة الشعوب الشرقية إلى حكومات لا تعطيها حقوقها فحسب، بل حكومات تسرف فى ذلك حد تدليل الشعب وإشعاره النهاية القصوى فى الحرية والسماحة، فإن الحكومات المستبدة القاسية، المستهينة بالدماء المستبيحة للحريات، هى فى الحقيقة الجسر الممهد الوحيد الذى يعبر عليه الإذلال الأجنبى والاستعمار الخارجى ليجد أمامه ظهورا أوجعتها سياط الإذلال الداخلى فأصبحت ذيولا ورؤوسا مرنت على الانحناء فأصبحت خفيضة منكسرة! إن دماء الشعوب غالية، فالويل لمن يرخصها من الحكام، والويل لمن يفرط فيها من المحكومين، وعلى دعاة النهضات الشرقية المعاصرة أن يفقهوا هذه الحقيقة، وأن يفقهوا فيها الأجيال القادمة، لقد مضى- ولعله إلى غير رجعة- العصر الذى كان ص _017
صفحة ١٥
الحكام فيه يوطدون سلطانهم بالدماء الغزيرة دون أن يخشوا حسابا ولا عقابا. وفى سقوط النقراشى باشا درس لمن يستفيدون من الدروس القاسية. هذا رجل توالت أخطاؤه وتوالى السكوت عنها، حتى إذا حاول بالدماء أن يطيل أجل حكمه قصم الشعب أجله ونفضت الأيدى من التراب الذى أهالته على الضحايا لتهيل التراب كذلك على نوع من الحكم بغيض. إن النفس البارد الذى حاول إطفاء الشعلة الأولى لا يحمل وزر إخمادها وحدها فحسب، ولكنه يبوء بإثمها وإثم الجماهير التى كانت ستشتعل بها، وإثم الأمة المكبوتة العاطفة التى تريد أن ينفجر مرجلها ليكوى بنيرانه الغاصبين ويدخل الرهبة فى أفئدة المعتدين. وكم أود أن تشعر الحكومات السابقة واللاحقة شعورا له بواعثه الصادقة أن بقاءهم فى الحكم عارية من الشعب، إن شاء سكت عنها فبقوا، وإن شاء استردها فسقطوا، وأن الشعب هو الذى يؤدب حكامه المخطئين وليس هو الذى يتلقى لطمات الجبارين المتسلطين. . ألقاب: كتب السلطان سليمان القانونى- خليفة المسلمين فى عهده- إلى ملك فرنسا الرسالة الآتية، وكان الملك الفرنسى قد أرسل يستنجد به لهزائم أصابته فى حروبه. ونحن نورد مقتطفات من نص الرسالة، ثم نعقب عليها ببيان وجهة نظر الدين فيما جاء فيها. لنطهر الدين من لوثات بعض من حكموا باسمه، فإن الشرق- وأغلب نهضاته على الدين- بحاجة إلى دروس متتابعة فى فقه الحكم وإلزام الحكام حدودهم المشروعة، وهذا بعض ما جاء فى هذه الرسالة: "سلطان السلاطين، وملك الملوك، ومانح الأكاليل لملوك العالم ظل الله على الأرض، باشاده، سلطان البحر الأبيض والأسود، وبلاد الرومللى والأناضول وقرصان وأرزوم وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم ودمشق وحلب ومصر ومكة والمدينة والقدس وسائر بلاد العرب واليمن وإيالات شتى فتحها سلفاؤنا العظام وأجدادنا الفخام بقواتهم الظافرة وكثير من البلاد التى أخضعتها عظمتى الملوكية بسيفى الساطع ص _018
صفحة ١٦
أنا ابن السلطان سليم بن السلطان بايزيد شاه السلطان سليمان خان أكتب إليك يا فرنسيس حاكم بلاد فرنسا، أن الكتاب الذى طرحته أمام سدتى الملوكية ملجأ الملوك على يد فرنكيان المستحق لثقتك، والألفاظ الشفاهية التى حملها إلى قد علمت منها أن العدو مستحكم من مملكتك حتى صرت له أسيرا، وتطلب إنقاذك، فجميع ما قلته عرض على أعتاب كرسى عظمتى التى هى ملجأ العالم وقد فهصت شرحه وأحاط . علمى الشريف به... " إلخ. هذا مطلع الرسالة التى نريد التعليق عليها، أرأيت إلى ما تضمنته من ألقاب الجلال والرفعة والتسامى، إنه هو الذى سنقف عنده لنقول حكم الله فيه! فإننا إذا أبصرنا مواضع الخطأ فى الماضى عرفنا كيف نتجنب الانزلاق إليها فى المستقبل. هذه الرسالة لم تملها روح الإسلام، بل سطرت حروفها مظاهر الجبروت التى أحاطت بالحكام فى القرون الأولى! وبذل الإسلام جهود الجبابرة ليجرد أدوات الحكم منها، ويعلم الأمم كيف تتمرد بين الحين والحين عليها. وليس للسلطان سليمان ولا لغيره من الحكام أن يضيفوا إلى أسمائهم هذه المجموعة الفريدة من الألقاب المفتعلة والأوصاف التى أخذ أكثرها من الصفات الإلهية المقدسة، وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه- لما بلغته ألقاب كسرى ملك فارس- وصف صاحبها بأنه أخنع رجل عند الله! وعندما كانت سلطة الحق الإلهى المزعوم تسند الحكام شرقا وغربا، كان أبو بكر الخليفة الأول للإسلام يقول: "أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتم خيرا فأعينونى ، وإن رأيتم شرا فقومونى". هذه الديمقراطية الواضحة جعلت عمر- مقوض الإمبراطوريات الشامخة- يسمى نفسه أمير المؤمنين فقط ويرغب عن كل إضافة أخرى تعطى اسمه فضل جبروت على الناس! وهذا التجرد من ألقاب القداسة ومظاهر الأبهة قصد به الإسلام أن يجعل من الحاكم رجلا يؤخذ منه ويرد عليه، وتنقد تصرفاته كلها فما كان منها صوابا أقر، وما كان منها خطأ رد عليه ولا كرامة، أما وصف أى إنسان من البشر بأنه "ظل الله فى أرضه " فوصف عجيب حقا! ص _019
صفحة ١٧
إن كان يراد به تمثيل العدالة الإلهية فى الأرض، فإن الرجل فى أسرته، والعمدة فى قريته، والمأمور فى مركزه، والمدير فى مدينته، كلهم ظلال الله فى الأرض. وفي هذا التعبير ضرب من الشعر والخيال مقصود، أما إن كان ظل الله فى الأرض رجلا يمثل الألوهية بين الناس، فهو يفعل ما يشاء، ويستعبد من يشاء، ويتخذ الحكم ذريعة لهذه السيادة السقيمة، فإن هذا الظل يجب أن يتقلص. فليس الناس عبيدا إلا لرب واحد: (أإله مع الله تعالى الله عما يشركون). وقد تلقب سلاطين الأتراك بما شاءوا من أمارات الجاه وشارات المجد ولم يخجلوا من الاتصاف بأنهم ظلال الله فى الأرض- كما ترى فى هذه الرسالة- مع أن تاريخ الاستبداد السياسى يحفظ فى طياته صورا مخزية لهذه الظلال المريبة، ويوحى بأن هذه الظلال كانت لمردة وشياطين!! إن صلة الحاكم بالته لا تزيد عن صلته جل وعلا بأى عبد من عباده، وقد روى أن رجلا جاء إلى أبى بكر يناديه: يا خليفة الله! فغضب أبو بكر ولم ير نفسه أهلا لهذه الإضافة الخطيرة، مع أن الخلافة عن الله أقرب إلى الحقيقة الإنسانية العامة من- ظل الله- التى ينحلها الحكام المستبدون لأنفسهم! إذ أن البشر جميعا استخلفهم الله مثلا لعمارة الأرض وتنظيم شئونها! وقد استكثر أبو بكر على نفسه هذه الصفة خشية أن ترمز إلى معنى من معانى القداسة المكذوبة وهو أعرف الناس بأن الحاكم رجل من الشعب، اختاره عن رضا ليتولى أمره. وأنه إذا شاء أبقاه وإذا شاء أقصاه، وأن الشعب يملك عليه كل شىء ولا يملك هو للشعب أى شىء. أما نظرية العصور المظلمة فى فهم الحكم والحكام فقد رفضها الدين رفضا حاسما، ولكن هذا لم يمنع بعض السلاطين أن يعيدوا خرافة الحكم الفردى ، وأن ينعتوا أنفسهم بما قرأت من نعوت لا يقرها الدين. * * * * . حقيقة الألقاب الألقاب العلمية الدالة على مدى نصيب صاحبها من الثقافة ، والألقاب العسكرية الدالة على مدى استعداد صاحبها للكفاح، والألقاب الإدارية الدالة على قدرة ص _020
صفحة ١٨
صاحبها فى التنظيم والتوزيع.. هذه كلها ألقاب لا يرى الإسلام فى حملها حرجا لأنها ألقاب العمل والكفاية. وكل إنسان يكلف أن يكون عاملا وكفئا، "ما الألقاب الفارغة من هذه المعانى فهى التى اعتبرها الدين شارات نبل مكذوب وعظمة جوفاء. وقد نهى نبى الإسلام أن يقول السيد لخادمه يا عبدى، أو أن يقول الخادم لسيده: يا ربى، أو أن يناديه بأى لفظ فيه ضعة العبيد أمام مولاهم الأعلى، فإن الناس- على اختلاف أقدارهم- أخوة على أية حال. وفراعين مصر القدماء اعتبروا أنفسهم من سلالة الآلهة ليفرضوا على الشعب إرادة لا يعقب عليها، فانظر كيف يقول شوقى فى المقارنة بين العصر القديم والعصر الحديث فى قصيدته التى يخاطب بها توت عنخ آمون: "فؤاد" أعز بالدستور دنيا وأعظم منك بالإسلام دينا ذلك لأن الدساتير كفلت حقوق الإنسان، وأمنت حريات الشعوب، ووازنت بين السلطات المختلفة مما يصون المصلحة العامة. والدول التى نضجت كرامتها السياسية ألغت الألقاب تاما، أو أبقتها لتشهد بعينها كيف زال عنها سلطانها القد يم، ف "لوردات " إنجلترا يحكم عليهم "مستر" فلا يشعرون بغضاضة ، ولا يشعر نحوهم بإذلال وكره. أما فى الشرق فلا تزال الألقاب تحكم على الناس بالهوان وتحكم على أصحابها بالغرور. ومن الواجب فك آصارها ومحو آثارها. ورحم الله شوقى إذ يقول: ومن خدع السياسة أن تغروا بألقاب الإمارة وهى رق وكم صيد بدا لك من ذليل كما مالت من المصلوب عنق * * * . من تاريخ الكبراء: مديح الحكام والتغنى بمآثرهم يشغل قسما ضخما من صحائف الأدب العربى ويعد سلم الارتقاء الأول للشعراء الذين يريدون الشهرة والظهور. وتمدح الأمراء ليس سنة إسلامية، بل تقاليد الإسلام فى ذلك تتبع بالنقد والتمحيص فإن كانت عدلا وخيرا أيدت بالعون الصحيح لا بالملق الكاذب، وإن ص _021
صفحة ١٩
كانت جورا وشرودا فندت بالقول الصريح والرأى النصيح، وهذا ضرب من الجهاد الأدبى والشجاعة المعنوية، لا قيام للحق إلا بهما. وقد روى أن وفدا جاء إلي النبى صلى الله عليه وسلم يقول له: "أنت سيدنا"، فقال لهم: "السيد الله " فقالوا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، فقال: "قولوا قولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان ". وروى كذلك: أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحثى التراب فى وجوه المداحين. ومع ذلك فإن سجلات الأدب القديم تضم بين جوانبها صورا لرجال استووا على الأرائك الفخمة بين أيديهم السعاة والحجاب والسيافة، يدلف إليهم شاعر ذرب اللسان، لا يزال يهتف بالقول، ويصرخ بالنظم، ويهيم فى أودية الخيال، وينسب إلى ممدوحه فنونا من المواهب تسلكه مع أبطال الأساطير، ثم ترمى إلى هذا الدجال بدرة من الذهب، ينصرف بها ثمنا حراما لأكاذيبه. وتشيع بعدئذ بين الناس قالة السوء التى ألفها على أنها مدح لأحد الساسة أو القادة، ويسدل حجاب كثيف على حقائق الحياة التى يعيش فيها الولاة وتعيش فيها الشعوب وينتهى الأمر! وتتكرر هذه المأساة كما تتكرر مناظر ألف ليلة وهى تقص أخبار الزمان، أو كما تتكرر مواقف عنترة وهو ينازل الفرسان، إلا أن هذا الإيغال فى الخيال استيقظت بعده الأمة الإسلامية على طبول الأعداء تجوس خلال الديار وتهدم آخر ما بقى من البناء المنهار! من أين كان يدفع الأمراء والحكام هذه الأعطية السخية ألوفا من الدنانير تتبعها ألوف، إنه من مال الشعب.. والشعوب لا تدفع المال فى أبهة شخص وزخارفه فهذا ما يمنعه العقل والنقل. لكن المترفين من الحكام الأولين أبوا إلا أن يعيشوا فى هذا المحظور وإلا أن يحيطوا أنفسهم بالأفاكين الذين حبسوا أفكارهم، ووقفوا جهودهم على تدعيم سلطان الجبابرة، وتجاهل أحوال الأم، وبلغ العهر بأحد هؤلاء المتملقين أن يقول لخليفة فاطمى: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار فهل ستسمح شعوب الشرق يا ترى بعودة هذه الحال؟ وهل ستسمع للأفاكين من حملة الأقلام وهم يمهدون لها؟ ص _022
صفحة ٢٠
وما دمنا فى حديث الملق والزلفى للرؤساء والكبراء، فلا يجوز أن ننسى ظاهرة شنيعة لوحظت على فريق من كبار شيوخ الدين. فإن إطراءهم للحكام ومسارعتهم المريبة إلى تهنئتهم فى كل مناسبة، وتعزيتهم فى كل مصيبة بأسلوب يكتبه الأرقاء والأتباع، ويتنزه عنه الرجال الأحرار. هذه الظاهرة التى تدل على داء عياء بالقلوب، قد غضت من شأن الدين ومنزلته لدى العامة. وقد تذاكر الناس أن شيخا كبيرا من جلة العلماء- كما يقولون- كان فى المرض الذى يسقط عنه الصلاة، لا ينسى أداء مراسم الوثنية السياسية على حين كان الدكتور طه حسين وموقفه من الدين معروف يتكلم بحذر ويرسل مدائحه بقدر!! هذا فى الوقت الذى شطبت فيه ميزانية الأزهر. وأرسل المال سيلا غدقا إلى وزارة المعارف التى يشرف عليها "طه حسين " وإذا كان سكوت العلماء عن فسق الحكام جريمة، فإن تمدح العلماء للحكام الفسقة كفران مبين. والمثل العالى لشيوخ الأزهر القائمين بحق الله ورسوله نأخذه من مسلك الشيخ "محمد عبده ". فعندما كان عبيد الولاء للأتراك يخونون الإسلام ويساندون الظلم، انضم هذا الشيخ الجليل إلى الشعب مطالبا بدستور يقيد سلطة الحكم الفردى ويضغطها فى حدود ما شرع الله. وقاد الثورة التى اشتعلت لذلك ولاقى من جرائها ما لاقى. وإننا لنقرأ ما كتب الشيخ "محمد عبده " فى نقد الأوضاع المعاصرة، ثم نقرأ ما يهرف به مخرفة الشيوخ فى وصف أحوالنا الحاضرة فنجد العجب العجاب، ونحس أننا هبطنا من القمة إلى القاع. وفى شهر يونيو سنة 1902 أقيمت بعض الاحتفالات لمناسبة الذكرى المئوية على تأسيس محمد على الدولة المصرية، فكتب الشيخ "محمد عبده " فى الجزء الخامس من المجلد الخامس من المنار الصادر فى 7 يونيه سنة 1902 تحت عنوان "آثار محمد على فى مصر": لغط الناس هذه الأيام فى محمد على... وما له من الآثار فى مصر والأفضال على أهلها، وأكثرت الجرائد من الخوض فى ذلك، والله أعلم ماذا بعث المادح على الإطراء، وماذا حمل القادح على الهجاء . غير أنه لم يبحث! باحث فى حالة مصر التى وجدها عليها محمد على وما كانت تصير البلاد إليه لو بقيت، وما نشأ من محوها واستبدال غيرها بها على يد ص _023 محمد على.. أقول الآن شيئا فى ذلك ينتفع به من عساه أن ينتفع.. ويندفع به من الوهم ما ربما يندفع.. ما الذى صنعه محمد على؟ لم يستطع أن يحيى. ولكن استطاع أن يميت. كان معظم قوة الجيش معه.. وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا وأعانه على الخصم الزائل، فيمحقه وهكذا حتى إذا سحقت الأحزاب القوية، وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة. فلم يدع فيها رأسا يستقر فيه ضمير "أنا"... واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارا حتى فسد بأس الأهلين وزالت ملكة الشجاعة فيهم. وأجهز على ما بقى فى البلاد من حياة فى أنفس بعض أفرادها فلم يبق فى البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه. أخذ يرفع الأسافل.. ويعليهم فى البلاد والقرى كأنه يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم (!) حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق فى البلاد إلا آلات له يستعملها فى جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأى وعزيمة واستقلال نفس. ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده بعد إقطاعات كانت لأمراء عدة. ماذا صنع بعد ذلك؟ اشرأبت نفسه لأن يكون ملكا غير تابع للسلطان العثمانى، فجعل من العدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوربيين، فأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم فى الامتياز، حتى صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكا من الملوك فى بلادنا، يفعل ما يشاء ولا يسئل عما يفعل، وصغرت نفوس الأهالي بين أيدى الأجانب بقوة الحاكم، وتمتع الأجنبى بحقوق الوطنى التى حرم منها، وانقلب الوطنى غريبا فى داره غير مطمئن فى قراره فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان.. ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة.. وذل سامهم الأجنبى إياه ليصل إلى ما يريده منهم.. غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة. لا يستحى بعض الأحداث من أن يقول: إن محمد على جعل من جدران سلطانه بناء من الدين.. أى دين كان دعامة للسلطان محمد على؟ دين التحصيل؟ دين الكرباج..؟ دين من لا دين له إلا ما يهواه ويريده..؟ وإلا فليقل لنا أحد من الناس.. أى عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامى الجليل؟ ص _024
لا أظن أن أحدا يرتاب- بعد عرض تاريخ محمد على- على بصيرته أن هذا الرجل كان تاجرا زارعا، وجنديا باسلا، ومستبدا ماهرا، ولكنه كان لمصر قاهرا.. ولحياتها الحقيقية معدما.. وكل ما نراه الآن فيها مما يسمى حياة فهو من أثر غيره، متعنا الله بخيره، وحمانا من شره، والسلام. * * * شرق جديد: توزعت أطماع الاستعمار أكثر أمم الشرق، وسقطت شعوبه فريسة سهلة أو غنيمة باردة فى مخالب الغرب الحديث، وتفتحت أعيننا- نحن أبناء الجيل الحاضر- فإذا بميزان العالم يميل عن مستواه العادل، وإذا بكفتنا تطيش فى نواح شتى، وإذا بالمغانم تتجه إليهم سيلا دافقا، والمغارم تتجه إلينا موجا خانقا، حتى وهم جمهور كبير من أبنائنا أننا خلقنا لنكون فى المنزلة الثانية أبدا وأن منزلة الشرق من الغرب هى منزلة التابع من المتبوع. وهذا خطأ واضح يهدمه التاريخ من أساسه. والذين وقعوا فيه معذورون لأن عمر الإنسان قصير إلى جانب عمر الدنيا، وما يشهده من حوادثها ليس إلا فصلا ضئيلا من رواية طويلة الفصول، ضاربة فى أغوار الماضى البعيد، وقد شهد النظارة فى هذا العصر فصلا أخذ الغرب فيه بخناق الشرق، وجثم على صدره وارتفعت الستارة أمامهم عن هذا المشهد المثير، وتكررت صوره لأعينهم المذهولة بروعة المفاجأة، فحسبوا أن الرواية كلها هذا الفصل الواحد، وأن التاريخ كله هذه الحقبة الميتة، وأن الشرق كله هذا المشهد المخزى ، وأن الغرب كله هذا الخصم المتوثب العنيف. ولو أعدنا عرض الشريط التاريخى لبضعة قرون خلت لوجدنا وراء سواحل "المانش "
صفحة ٢٣
قبائل السكسون الإنجليز يشتغلون بصيد السمك ولوجدنا تحتهم قليلا قبائل الغالة الفرنسيين يشتغلون بمطاردة الخنازير، ولوجدنا الشرق فى هذه الآونة يموج بمظاهر العمران البشرى الحافل بالنشاط والمقدرة. ولسنا نبغى من سوق هذا الكلام إلا أن نبدد الخرافة الشائعة من جراء قيام الغرب الآن بدور الحاكم، والشرق بدور المحكوم، فما كان من طبيعة هذا أن يحكم ولا من طبيعة هذا أن يحكم. ولكنها أسباب النهوض والتعثر تجتمع هنا وهناك فتؤدى نتائجها الحاسمة، وقد مر على الغرب حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، وعانت شعوبه ص _025 من ضوائق الاستعمار الداخلى والخارجى مثل ما نعانى الآن أو أشد، ودخلت فى أطوار من التجارب المرة حتى حصلت على ما حصلت عليه من حريات وحقوق!. وها نحن أولاء نستأنف سعينا اللاغب، لا لنذل الغرب كما استذلنا! بل لنبنى عالما جديدا من الأمم المتكافئة فى دمائها وحقوقها، والمتساوية فى سيادتها وكرامتها.. وسيأبى تجار الحروب وطغاة الاستعمار أن يخضعوا لهذا المنطق الحكيم.. ويستكثرون علينا أن نعيش فى بلادنا أحرارا، ثم يستخدمون وسائل التفوق التى أتيحت لهم لردنا إلى الوراء كلما خطونا إلى الأمام. والطريقة الوحيدة التى يتعين علينا الأخذ بها، أن نوسع آفاق اليقظة العقلية والاجتماعية عندنا، حتى لا يجد الاستعمار لنفسه مكانا بيننا، فإن الاستعمار يقوم على عملية حسابية يسيرة، إذا كانت أرباحه من بلد ما أكثر من خسائره بقى فيه، وإذا كانت خسائره أكثر من أرباحه فر منه!! ويوم تصاب الأمم الغربية بنكسة اقتصادية من بقائها فى الشرق تنسحب منه فى لمح البصر. وخامات الشرق الوفيرة، ومنابعه البكر، وتجارته الواسعة، نكبتها الغفوة العقلية والفوضى الاجتماعية فشلت أيدى أهلها من الانتفاع بها، وحولت مجراها الغنى ليصب بعيدا عنها. وعسكرت جيوش الاحتلال لتمنع بوادر الصحو المادى والأدبى من أن تمهد للوطنيين طريق العودة إلى حكم بلادهم ومنع اللصوصية العالمية من ابتزاز مواردها!. وعلينا أن نستميت- إذا شئنا الحياة- فى التمسك بهذه اليقظة العقلية والاجتماعية، وفى إلحاق ما يمكن إلحاقه من الخسائر المادية والأدبية بالمعتدين على حاضرنا ومستقبلنا، وبهذا يقصر أجل الاستعمار الغاشم. ويتقلص ظله إلى الأبد من أوطاننا. إن المستعمرين إذا ضحكوا فى بلادنا كثيرا وبكوا قليلا، فلن يخرجوا أبدا، أما إذا تجشموا من الضحايا وتكبدوا من الخسائر ما يجعلهم يبكون كثيرا ويضحكون قليلا، فسينزحون عند أول فرصة سانحة. وكيف السبيل إلى ذلك؟ أهى المظاهرات الهازلة، أو الثورات الفاشلة؟ كلا!. الأمر أعمق من ذلك وأخطر فإن أحوال الشرق النفسية والاجتماعية والاقتصادية والحكومية تحتاج إلى تغيير شامل لتتم اليقظة التى أشرنا إليها آنفا. وليس هذا التغيير سهلا فإن الأيدى الحمراء وحدها هى التى تصنعه! الأيدى التى عناها الشاعر يوم قال: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق ص _026
صفحة ٢٦
* من سنن الحياة: رب زارع لحاصد فى هذه الحياة!. وعندما يمعن المرء النظر فى أحداث التاريخ يروعه مقدار ما يترك السابقون لللاحقين، وما يجنى الأخلاف من أعمال الأسلاف، يستوى فى ذلك الخير والشر والماديات والمعنويات، ويبدو أن الإنسان يولد وهو يحمل أثقالا من تبعات آبائه، كما يولد ليقتطف الكثير من ثمرات جهودهم ونتائج أعمالهم. هناك رجال يستشهدون فى الدعوة إلى الله ومحاربة الفتنة، ويحوطون غرس الإيمان فى هذه الدنيا بسياج من عظامهم ودمائهم. وهناك أحفاد يوجدون ليرثوا الإيمان سهلا لا ينغصه اضطهاد ولا يطارده إلحاد!. وهناك أبطال جاهدوا الظلم طوال حياتهم، وخطوا بأنفسهم مصارع الجبارين، وحفروا بأيديهم قبور المتكبرين، ولم يدع لهم هذا الجهاد المتواصل فرصة يستريحون فيها ساعة فى نهار. وهناك لهؤلاء أولاد ورثوا الوطن محررا، والعدل مقررا، والدنيا مقبلة لا مدبرة، والمستقبل باسما لا غائما!. وكم من طغاة أذلوا الشعوب وداسوا حقوقها. فلما استيقظت الشعوب لتؤدبهم.. لم تجدهم لأنهم بادوا ووجدت مكانهم أبناءهم.. فقتلتهم بمظالم الآباء ومظالمهم المنتظرة ! تلك طبيعة الحياة فرضت على الناس فرضا. وليت كل من زرع بنفسه حصد بنفسه، ولكن سنة الوجود على غير ما نهوى، والتركات التى يزجيها الأولون للآخرين تبقى فى أعناق من يطوقونها ما داموا راضين بها مقيمين عليها، ألم تر أن القرآن عئر اليهود المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم بما اقترف أجدادهم المعاصرون لموسى؟. فمن استطاع الفكاك من مخلفات السابقين الآثمة فلا يتكاسل عن النجدة... ومن استطاع الانتفاع بآثارهم الطيبة فهو خير ساقه القدر إليه ، وقبيح أن يكون المرء ممن عناهم الشاعر الحكيم: رب بان لهادم، وجموع لمشت، ومحسن لمخس ص _027
صفحة ٢٧
* الأسباب والمسببات؟ جمهور المسلمين يرتاب فى هذه الحقيقة المقررة ارتيابا شديدا، حقيقة ارتباط الأسباب بالمسببات ووقوع النتائج عقب انتظام المقدمات، وتصور العامة يتسع لإدراك أن أسباب الهزيمة قد تتوافر كلها ثم لا تقع الهزيمة! وأن النصر قد يتم هكذا اتفاقا من غير دواع سابقة!. وحجتهم فى ذلك أن الأمور بإرادة الله، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ومعنى هذا الكلام فى هذا السياق أن إرادة الله وقدرته تتعلقان بالمستحيل! ولم يقل بهذا عاقل ولا نطق بهذا عالم من علماء المسلمين. إن عموم الإرادة مخصوص بما يوافق الحكمة وإطلاق المشيئة مقيد بما وضع الله لهذا العالم من أنظمة وقوانين، ومن العبث أن نطالب السماء بين الحين والحين أن تفعل ما لا يجوز فعله أو تتدخل فى شئون العالم بما يحيل نظمه فوضى واتساقه اختلالا. وعلينا أن نعرف للأمور مداخلها الصحيحة وأن نأتى البيوت من أبوابها، وقد جعل الله عز وجل لإرادته العليا مفاتيح معينة ثم ألقاها بين أيدى الإنسان، فمن أراد النبات فمفاتحه الزراعة، ومن أراد النسل فمفاتحه الزواج. وهكذا يوجد لكل هدف منشود سبب مقصود. وقد تكون للغاية الواحدة عدة طرق، فيجب الأخذ بها جميعا، إذ يكون السبب الموصل من اقترانها كلها. وقد تكون النتيجة المطلوبة قائمة على جملة أسباب بعضها فى يدنا فلابد من فعله، وبعضها خارج عن طوقنا فهو متروك لله، كتقلبات الجو مثلا للزراعة، وما أشبه ذلك. إن ارتباط الأسباب بالمسببات حقيقة، يعتبر إغفالها حمقا فى التفكير، وخطلا فى التدبير. وقد تأخر المسلمون فى ميادين شتى لأنهم لم يفقهوا هذه الحقيقة التى ترتكز عليها شئون الحياة ويدور محورها أبدا. وقد ذكر القرآن كلمة الأسباب حين أراد النتائج إشعارا بالتلازم الثابت بين الأمرين فقال: (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب). ص _028
صفحة ٢٨
ومعنى الآية: جاء فى الرد على المشركين حين استكثروا الرسالة على النبى محمد صلى الله عليه وسلم ، وتعاظمهم أن تتخطاهم العناية- وفيهم السادة والقادة- إلى الرجل الخالى من سطوة الحكم وثروة الغنى. فقال القرآن لهم: إن استطعتم الاغتصاب من خزائن الرحمة، أو التحكم فى آفاق الملكوت، لتحولوا النبوة منه إليكم فافعلوا: (أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب * أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب). أى الموصلة إلى ما يشهون من تقسيم رحمة الله، ولذا جاء فى آية أخرى: (أهم يقسمون رحمة ربك) وهذا التعبير الدقيق حاكم فى أن الأسباب لا تنفك عن نتائجها. * * * * . رجال المبادئ: من الناس من إذا نزل به ضيم لم يعرف لنفسه عملا إلا مدافعة هذا الضيم بكافة ما بيده من وسائل، لا يبالى أتجدى هذه الوسائل أم لا تجدى؟ أينتصر بعدها أم يهزم؟ أيقول الناس عنه عاقل أم متهور؟ فهو إما أن يحيا كما يشاء أو.. لا.. فالموت مستقر حسن لمن فاته فى الدنيا المستقر الحسن. ويمثل نفسية هؤلاء الرجال قول الشاعر: سأغسل عنى العار بالسيف جالبا على قضاء الله ما كان جالبا وأذهل عن دارى وأجعل هدمها لعرضى من باقى المذمة حاجبا! ثم يقول هذا الفارس الأبى مبينا عن أسلوب الأحرار فى مواجهة الشدائد واستقتالهم فى رد العدوان وقمع الطغيان: إذا هم لم تردع عزيمة همه ولم يأت ما يأتى من الأمر هائبا إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر فى رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا ص _029 وهناك رجال من صنف آخر، يقيسون نتائج عملهم بمقدار ما يتمخض عنه من ربح أو خسارة، ويفكر قبل الاشتباك فى أية معركة، هل سترجح كفتها له أو تدور دائرتها عليه؟ ثم يتخذ بعد قراره بالهجوم أو الفرار وبمقارعة الموت الرضوخ للعار. وانظر إلى الشعر السابق من نفس جياشة بالإقدام كيف نبع؟ ثم انظر إلى شعر آخر يصور نفسية أخرى: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسى بأشقر مزبد وشممت ريح الموت من تلقائهم فى مأزق والخيل لم تتبدد وعلمت أنى إن أقاتل واحدا أقتل ولا يضرر عدوى مشهدى فصددت عنهم والأحبة دونهم طمعا لهم بلقاء يوم مرصد! وقد أحسن الشاعر فى الاعتذار عن فراره، ولكن أترى هذا منطق أنسى بن النضر حين ضمه موقف فى غزوة أحد كموقف هذا المقاتل؟ فلما شم ريح الموت لم يدر بخلده هذا المنطق! بل قال: إني أشم ريح الجنة من وراء أحد !! ومات مقبلا لا مدبرا، مفتخرا لا معتذرا.. وما أحوج المسلمين إلى رجال من الصنف الأول يحيون للمبادئ وحدها، وتأوى الفضائل العليا من نفوسهم إلى ركن ركين. إن فخار الإنسانية فى تاريخها الطويل بمثل هؤلاء الرجال الذين لا تلتوى طباعهم مع سياسة المنفعة، ولا يطيقوا السير مع ألاعيب السياسات وما تنطوى عليه من مكر واحتيال. ص _030 * إلغاء المعاهدات.. على ضوء الشريعة الإسلامية ا- ما حكم الله فى قوم بيننا وبينهم عهد نبذوه ونقضوه، هل يجوز لنا أن ننبذ عهدهم؟ 2- ما حكم الله فيمن يتجسس لحساب العدو، أو يعاونه معاونة مادية أو أدبية، هل يجب قتله؟ 3- إذا قامت حرب بيننا وبين عدو دخل أرضنا، هل الجهاد فرض عين على كل مواطن ذكر، أو أنثى، أو مسلم أو غيره؟ 4- إذا كان فى هذه الحالة معنا قوم معاهدون وشككنا فى نواياهم، هل فى القبض عليهم تعد لحدود الله؟ محمد أبو الحسن نوفل (مدرس بمدرسة دسوق) * * * * إن وفاء الإسلام بالعهود بلغ حدا من الدقة والسمو لم تعرفه إلى اليوم أرقى المؤسسات الدولية، وأحدث الدساتير العالمية. ولسنا الآن بصدد سوق الدلائل الشاهدة لذلك، ولكن مسلك الإسلام فى معاملة أعدائه يتضمن صورا من الوفاء الكريم يجب أن ننوه بها وأن نواجه وجوه المكابرين بما يترقرق فيها من سماحة ونبل.. كان اليهود لا يرون للعقود والمعاهدات حرمة إذا أبرمت بينهم وبين مخالفيهم فى الدين، ويستبيحون أكل الحقوق المقررة لغيرهم، لا لشيء إلا لأنهم ليسوا بيهود، فأنكر الإسلام هذه المعاملة الخسيسة، وشرع الوفاء العام للناس جميعا، لا فرق بين ملة وملة: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين). وسار الإسلام على هذه القاعدة وهو يتعقب الرذائل، ويطهر الأرض من الظلم والفسوق والعصيان. فلما أعلن على النفاق حربا شعواء، واستثار همم المسلمين ليقاتلوا المنافقين- وهم جبهة واحدة- وعندما أوصى بأن لا تأخذهم هوادة فى منابذتهم بالخصومة ومصارحتهم بالبغضاء، قال: ص _031 (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا). ثم كشف عن خبيئة نفوسهم وحقيقة موقفهم من الدعوة إلى الله، ورغبتهم الكامنة فى أن تطوى الأرض ظلمات الكفر والضلال. وعلى بينة من هذه النيات الخبيثة قال: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا). (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم). بل إن الإسلام يؤخر التناصر الثابت بحق الأخوة المشترك فى الدين، ويقدم عليه المعاهدات المعقودة، ولو مع قوم كافرين! وفى هذا يقول الله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير). ويبدو أن هذه المعاملة الفاضلة القائمة على رعاية العهود والمبالغة فى احترامها بدأت من جانب واحد فقط، أما الجانب الآخر فقد أظهر الموافقة والقبول، وأضمر التربص والكيد، ريثما تواتيه الفرصة المناسبة ليعلن غدره ويوقع مكره. فهو يستمسك بالوفاء ما دام ضعيفا، ويحرص عليه ما ظل يستفيد منه، فإذا أحس بالدفء والقوة تحرك ليلدغ، وبسط يده وفمه بالأذى. وقد ظل المسلمون الأولون حينا من الدهر يتعلقون بمثاليتهم، ويحاولون الإبقاء على عهودهم مع مخالفيهم فى الدين، من اليهود والنصارى والمشركين، بيد أن هذه المحاولات ضاعت سدى، فقد نقض يهود المدينة معاهدتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ظنوا الفرصة سنحت للقضاء على المسلمين فى معركة الأحزاب كما نقض المشركون عهد "الحديبية "مع أن بنوده كانت لمصلحتهم. ص _032 وعدا بعض أمراء الشام على رسول للنبى صلى الله عليه وسلم فقتلوه! واستبان من اطراد الحوادث أن المسلمين يعاملون رجالا من نوع لا شرف لديه ولا وفاء، فأصبح لزاما عليهم أن يعدلوا مسلكهم، وأن يحسموا عهودا لم يحترمها منذ أبرمت إلا طرف واحد ! وفى ضوء هذه الملابسات نزلت سورة براءة، وفيها تسمع دمدمة الآيات ومن ورائها قعقعة السلاح: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين). وفى هذه السورة أعلن- فى جلاء- أن المعاهدات السابقة قد ألغيت، وأن ألاعيب المشركين الكثيرة قد وضع لها حد أخير! والإنسان يستمع إلى الآيات التى تضمنت "حيثيات " هذا الإلغاء، فيجد فيها دلائل الغضب من مسالك المشركين النابية، وتقريعا شديدا على مخالفاتهم الماضية، ونصا حاسما على أن الوفاء لا موضع له إلا مع أهل الوفاء فحسب، ومن ثم قيد القرآن هذا النقض العام ليوفر الأمن والسلام مع من حسنت سيرتهم، وصدقت كلمتهم، فقال : (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين). ثم تفيض الآيات فى سرد أسباب النقض وضرورات الإلغاء التى أنهت هذه المعاهدات فتقول: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون). ص _0 ص ثم يؤكد مشاعر الحقد المضطرمة فى هذه النفوس الغادرة: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون). ويرسم القرآن بعد ذلك الطريق لمعاملة أمثال أولئك القوم، فيضرب السيئة بالسيئة، ويعالج الغدر بالقصاص: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون). وفى تحريض المسلمين على قتال هؤلاء الناكثين لتطهر الأرض من رجسهم،وتخلص الحياة من عبثهم، يقول الله: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ). إن الإسلام على قدر تنويهه بالمواثيق، وتشديده فى المحافظة عليها، يصب نقمته على المتلاعبين بها والمستغلين لها، ويعتبرهم دواب تضرب بالسياط، لا بشرا يقادون " من ضمائرهم، ويأمر أن تكال الضربات لهم على نحو يثير الرعب فى غيرهم، حتى يكون التنكيل بهم عبرة لمن يلهو لهوهم ويحنث حنثهم: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون * فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين). وقد قررت الحكومة المصرية أن تلغى معاهدة سنة 1936 للأسباب التى جعلت المسلمين الأوائل يلغون معاهداتهم مع اليهود والمشركين، بل الأمر فى حالتنا أشد نكرا ص _034 وأبعد أثرا فالمعاهدة المنقوضة اليوم لا تعدو فى حقيقتها أن تكون ميثاقا يعطى اللص الحق فى سكنى البيت الذى سطا عليه، والتجول فى غرفاته وردهاته كيف يشاء، فهى معاهدة باطلة أصلا، وتحليل الحرام لا يقره دين ولا عقل! وقد احتل الإنجليز هذا الوادى لسلب خيراته، ونهب أقواته، وتعويق نهضته، ووأد حريته. ومنذ سبعين سنة وأهله يسعون حثيثا لاسترجاع حقوقهم المغصوبة، وقد خضبوا بالدم كل خطوة استطاعوا أن يثبوها إلى الأمام! ذلك أن الإنجليز كانوا يبذلون جهودا متتابعة للدفع بالبلاد إلى الوراء حتى تتخلف عن ركب الحضارة، وتحيا على ما يشتهى أولئك الإنجليز حياة الرقيق الأذلين فى بلد لا يرفع رأسه، ولا يكرم نفسه! فكيف تضفى على هذه الحال الشائنة صفة قانونية؟ وكيف يقوم تشريع لحماية السلع المسروقة وتسخير الأم الحرة؟ ثم كيف يتوقع أن يستكين الإسلام لهذا الضيم؟ أو يرضى أبناؤه بهذه السبة؟؟ إن الجهاد إلى الرمق الأخير فريضة ماضية إلى قيام الساعة حتى يقذف بهؤلاء الإنجليز إلى الأمواج التى رمت بهم على شواطئنا أو يلقوا المصير الذى يلقاه كل معتد استهوته المغامرات الطائشة، فدفع روحه فيها ثمنا! وقد بين القرآن الكريم أن موالاة المعتدين وإيثار صداقتهم والشذوذ عن رأى (الجماعة) فى كفاحهم، وتقديم أى لون من ألوان المساعدة لهم، أو التجسس لحسابهم، والعمل لمصلحتهم، أو السعى لمصالحتهم.. بين القرآن أن ذلك كله ارتداد عن الإسلام ومروق من الملة، وفى هذا يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة). وهذا القول تصوير صادق لدعاة الهزيمة، وأولى الريبة فى مستقبل كل كفاح يدور بين الحق والباطل، فتخوفهم من الهزيمة يبيح لهم الاتصال بالعدو ليأمنوا على أنفسهم، ويؤمنوا على حياتهم، وقد اتفقت قوانين العالم كله على عد هذا المسلك خيانة عظمى، وجعلت العقوبة له القتل. ص _035
صفحة ٣٥
وكذلك صنع الإسلام، وصح عن النبى صلى الله عليه وسلم في أنه أمر بقتل المرتدين والجواسيس. والمسلمون فى هذا الزمن مقبلون على عصر طويل من التضحيات والمغارم لينظفوا الوطن الإسلامى الكبير من بقايا الجاهلية الحديثة التى انحدرت إلى ديارهم ونكست ألويتهم، ولا ريب أن ذلك يتقاضانا من تساند القوى وتراص الصفوف جهدا شاقآ، فأيما محاولة لإحداث ثغرة، أو إيقاع فرقة يستفيد منها عدو الله وعدونا، فهى جريمة نكراء فى حق (الجماعة)، وكفران بالله ورسوله. والحكم بالقتل فى هذه الحالات لا ينطوى على شىء من القسوة، بل هو استئصال لشأفة الخونة، وتأمين لظهور المجاهدين، وثأر لشرف الإسلام وكرامة المسلمين. لقد تحددت الأوضاع بيننا وبين خصومنا، فهناك غرب صليبى مسلح اقتحم البلاد، واستذل العباد، وهنا شرق إسلامى أعلن فى حزم أنه لن يقبل الدنية، أو يخضع للهوان، فحق على كل مسلم أن ينزل على منطق الإيمان الذى رسمه القرآن : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم). فكيف والإنجليز وقرناؤهم من المستعمرين هم قتلة الآباء والأبناء ومشردو الإخوان والعشيرة؟ إن موالاتهم جرم مضاعف يستتبع عقوبة مزدوجة، ومن ثم فالكاتب الذى يعطف عليهم بكلمة، والعامل الذى يؤدى لهم خدمة، والفلاح الذى يسدى إليهم نفعا، والحاكم الذى يتيح لهم عونا.. كل أولئك منسلخ من تعاليم الدين، مندرج فى غمار المرتدين والمنافقين! والنفير مع كتائب الجهاد إذا فصلت عن البلاد وضربت فى سبيل الله تبغي إصلاح فاسد، أو تأديب معتد، أو قمع مستبد، يعد فى نظر الإسلام واجبا كفائيا تقوم به الأمة فى جملتها ولا يرتبط بواحد معين من بنيها.. وقد أباح الإسلام أن يخرج النسوة المسلمات مع الجيش المسلم إذا شئن التطوع فى هذا الغرض النبيل. ص _036
صفحة ٣٦
أخرج مسلم فى صحيحه عن أم عطية رضى الله عنها قالت: "غزوت مع النبى صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم فى رحالهم، أصنع الطعام، وأداوى الجرحى، وأقوم على المرضى". وأرسل ابن عباس إلى نجدة بن عامر الحرورى يقول له: "كتبت تسألنى: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما سهم فلم يضرب لهن أى أنه كان يعطيهن مكافات على عملهن دون السهم الذى فرض للمجاهدين من الرجال. وتطوع الجنسين فى هذا الضرب من القتال ليس بواجب عينى، ولكن الجنسين معا يجب عليهما الاشتراك فى مقاتلة العدو وبذل كل ما لديهما من طاقة إذا أغار هذا العدو على البلاد وتهدد كيانها واستباح حماها. وقد نص الفقهاء عامة، على أن الدفاع فى هذه الحالات فى عنق كل فرد، رجل أو امرأة، سيد أو خادم، كبير أو صغير! على أن فنون القتال التى تمخض عنها هذا الجيل، وما طرأ على العلاقة بين الرجل والمرأة!من اضطراب أحدثته حضارة الغرب- التى لا دين لها- يجعلنا نحدد الدائرة التى يمكن للمرأة المسلمة أن تجاهد فيها لنصرة دينها وحماية وطنها، وخصوصا فى جو لا تقام فيه حدود الله، ولا تصان فيه أعراض الأسر، ولا تشل فيه أيدى الفسقة! وعندى أنه- إلى أن يسود الحكم الإسلامى- ينبغى أن تخلف المرأة رجلها بخير، فإن كان زوجا طمأنته على أداء واجبه، أو كان ابنا أو أخا حرضته على النهوض بمقتضيات الرجولة الحقة والإيمان الصحيح... وهذا حسبها من جهاد فى هذه الأيام الكالحات... فإذا فقدت عزيزا عليها فى ميدان التضحية والفداء ثم صبرت واحتسبت، فهى شريكتة فى المثوبة وحسن العقبى عند الله. ثم إن لدينا "ألوفا" من الشباب "العاطلين "! فحتى تستنفد أغراض الجهاد هذا العدد الضخم من الشباب القوى الفارغ نفكر فى استجلاب النساء لرد الأعداء! أما المعاهدون الذين يساكنوننا هذا الوطن، ويشاطروننا مصائبه وأفراحه، فإن حقوقهم المقررة لا موضع لخدشها ولا للتحدث فيها، والوفاء لهم من أسباب النصر المنشود! أخرج الإمام مالك عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: ما ختر قوم بالعهد إلا سلط الله تعالى عليهم العدو! ص _037
صفحة ٣٧
وأخرج أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقة أو كلفة فوق طاقته، أو أخذ منة شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجة يوم القيامة". وأخرج البخارى فى صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال: لي سول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، إن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما". وفى رواية النسائى: "من قتل قتيلا من أهل الذمة... ". ونحن نلفت النظر إلى أن المستعمرين من إنجليز وأمريكان وفرنسيين هم أبعد الناس عن عيسى وتعاليمه، وأكفر الناس بإنجيله ووصاياه! ولكنهم عندما يغزون بلادنا تتملكهم فجأة حمى التعصب الصليبى القديم، ثم يزعمون أنهم يحمون القلة الدينية فى بلادنا ضد ما يفترونه من عدوان محتمل!! وهذه صفاقة لا تستغرب من لصوص وفدوا للقتل والفساد فى الأرض! ولا يساويها فى القحة إلا أن يرسلوا جنودهم محتلين ثم يطالبوننا بحماية أرواحهم... كأن القافلة السائرة مسئولة أن تحمى أرواح من يقطع عليها الطريق!! ولقد أصبحت حماية الممتلكات الأجنبية والأقليات الدينية خرافة سمجة من خرافات الاستعمار المفضوح! فإن بلاد الإسلام ليست البلاد التى تصادر فيها عقيدة، أو تستباص! فيها حرمة! وقد حدث فى إبان اشتباكنا مع اليهود فى فلسطين أن بعض اليهود القاطنين بمصر ظهرت عليهم أعراض الخيانة، وحاولوا أن يطعنوا من الخلف وطنا طالما أواهم وأحسن إليهم، وقد اعتقل كثير من أولئك الغادرين، وإذا كنا أخطأنا فى شىء، فهو أننا تركنا أولئك يفلتون إلى إسرائيل ليحملوا السلاح يوما فى وجوهنا.. وأيا ما كان الأمر، فإن المسلم الذى يهدد قضايا بلاده العامة يضرب على يده، وتصادر حريته، فغيره من أهل الكتاب لن يقل عنه، وليس فى حبس هؤلاء وأولئك تعد على حدود الله . ص _038
صفحة ٣٨
* غصن باسق فى شجرة الخلود فى وحشة الليل، وسورة الغدر، ويقظة الجريمة، كان الباطل بما طبع عليه من غرور، وما جبل عليه من قسوة، وما مرد عليه من لؤم، كان مستخفيا ينساب فى أحياء القاهرة الغافلة يجمع سلاحه، ويبث عيونه، ويسوق أذنابه من الكبار والصغار ويعد عدته لكى يغتال حسن البنا.. مرشد الإخوان المسلمين. وليس قتل الصديقين والصالحين فى هذه الدنيا بالأمر الصعب! إن القدر أذن بأن يعدو الرعاع قديما على أنبياء الله، فذبحوا وهم يحملون أعباء الدعوة، أفكثير على في تلقفوا هذه الأعباء قبل أن تسقط على الأرض أن يردوا هذا المورد؟ ومن طلب عظيما خاطر بعظيمته. ومن هوان الدنيا على الله أن ترك كلاب المترفين فيها تشبع من المترفين، وأن ترك حملة الوحى فيها يهونون... مع الوحى! لا بأس. سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم آتنى أفضل ما أتيته عبادك الصالحين!!. فقال له: "إذن يعقر جوادك ويراق دمك "، حتى الجواد يقتل مع صاحبه... لقد أصابه من الشهادة مسها القانى! ولو كان مربوطا بعربة بضاعة لعاش دهرا. وكذلك أبى ربك أن يسترجع إليه المختارين من عباده- بعد ما أدوا رسالتهم فى الحياة- وهم وافرون آمنون، نعم أبى أن يتركوا هذه الحياة سالمين من طعناتها الفاجرة. وجراحاتها الغادرة. فمزق علج من المجوس أحشاء عمر. وعدا مأفون غر على حياة علي. وقتل يزيد الماجن سبط الرسول الحسين. وتآمرت دولة الأوغاد على قتل حسن البنا. ولن تزال سلسلة الشهداء تطول حلقة حلقة ما بقى فى الدنيا صراع بين الضياء والظلام. عفاء على دار رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج كدأب على فى المواطن قبله أبى حسن والغصن من حيث يخرج لقد قتل حسن البنا يوم قتل والعالم كله أهون شىء فى ناظريه! ص _039 ماذا خرقت الرصاصات الأثيمة من بدن هذا الرجل؟ خرقت جسدا أضنته العبادة الخاشعة، وبراه طول القيام والسجود. خرقت جسدا غبرته الأسفار المتواصلة فى سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة إلى أقاصى البلاد، رحلات طالما عرفته المنابر فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم ألوفا ألوفا فى ساحة الإسلام! لقد عاد القرآن غضا طريا على لسانه. وبدت وراثة النبوة ظاهرة فى شمائله. ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت فى سفحها أمواج المادية الطاغية. وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذى أفعم قلبه حبا للإسلام واستمساكا به. وعرفت "أوروبا" البغى أى خطر على بقائها فى الشرق إذا بقى هذا الرجل الجليل. فأوحت إلى زبانيتها... فإذا الإخوان فى المعتقلات. وإذا إمامهم شهيد مدرج! فى دمه الزكى! ماذا خرقت الرصاصات من جسد هذا الرجل؟ خرقت العفاف الأبى المستكبر على الشهوات، المستعلى على نزوات الشباب الجامحة. لقد عاش على ظهر الأرض أربعين عاما لم يبت فى فراشه الوثير منها إلا ليالى معدودة، ولم تره أسرته فيها إلا لحظات محدودة. والعمر كله بعد ذلك سياحة لإرساء دعائم الربانية، وتوطيد أركان الإسلام، فى عصر غفل فيه المسلمون، واستيقظ فيه الاستعمار، ومن ورائه التعصب الصليبى ، والعدوان الصهيونى ، والسيل الأ حمر! فكان حسن البنا العملاق الذى ناوش أولئك جميعا حتى أقض مضاجعهم. وهدد فى هذه الديار أمانيهم. لقد عرفت التجرد للمبدأ فى حياة هذا الرجل. وعرفت التمسك به إلى الرمق الأخير فى مماته. وعرفت خسة الغدر يوم قدم رفات الشهيد هدية للمترفين والناعمين. قدم- من قبل- دم على مهرا لامرأة. عجبا لهذه الدنيا وتبا لكبرائها! وارحمتاه لضحايا الإيمان فى كل عصر ومصر! أكذلك يقتل الراشد المرشد؟؟ ص _040 ودعا أيها الحفيان ذاك الشخص إن الوداع أيسر زاد واغسلاه بالدمع إن كان طهرا وادفناه بين الحشا والفؤاد وخذا الأكفان من ورق المصحف كبرا عن أنفس الأبراد أسف غير نافع واجتهاد لا يؤدى إلى غناء اجتهاد * * * * الفدائيون: "إن أغبط آوليائى عندى لمؤمن خفيف الحاذ ، ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر، وكان غامضا فى الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك".. ثم نقر- النبى صلى الله عليه وسلم- بيده فقال: "عجلت منيته، قلت بواكيه ، قل تراثه". هذا الحديث وصف جليل لرجال الدعوات الذين يعيشون لها ويفنون فيها، الرجال الذين يظهرون فى آفاق الحياة كما تظهر الشهب المنقضة فى جنح الظلام، ما أن تلتمع حتى تنطفئ! إنها فى سرعتها الخاطفة- وهى تشق إهاب الليل- تستنفد حياتها وحرارتها فى انطلاقها وحركتها. وكذلك رجال الدعوات يذيبون قواهم وشبابهم فى أداء رسالتهم ويسكبون دمائهم ويحرقون أعصابهم لتتألق بها الرسالات التى يعملون لها... فتتحول بهم إلى سيل جارف ويتحولون بعدها إلى رفات هامد، هذا سبيل الفدائية المحفور فى تاريخ البشر منذ الأزل. وقد كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الفدائى الأول لدعوته الكبيرة، خوف فى الله ما لم يخف أحد، وأوذى فى الله ما لم يؤذ أحد، ووقف مشاعره وجهوده وآماله وأحزانه وأفراحه على إنجاح رسالته، ثم سل من هذه الدنيا كما تسل الشعرة من العجين، فلم يمسسه شىء من كبرها أو جاهها أو راحتها، بل لقد سرت عدوى هذه التضحية إلى أسرته فلم ترث منه شيئا إلا البلاء والتشريد. وإن هذا النبى الكريم ليحدثنا أن أغبط أوليائه عنده أقربهم إلى مسلكه وأشبههم به فى تفديته وتضحيته: خفة فى تكاليف المعيشة، وزهادة فى ترف الحياة. إدمان على الصلاة، وجنوح إلى العبادة، ونزوع إلى الإخلاص، ورغبة عن الشهوة، واحتقار ص _041 للمظاهر. إقبال على العمل وإيثار للخفى منه على الظاهر المكشوف، وصبر على لأواء الحياة حتى تنقضى. هذه معالم العيش الذى يجب أن ينكمش فى حدوده الفدائيون. ما لهم وللمطامع والملذات؟ ما لهم وللرياء وحب الظهور؟ إن الجندى المجهول يرى فى الغموض والبساطة أفضل جو يعمل فيه وينتج. فإذا بدا فى الأفق ما يريب وأحس بالخطر على رسالته طارإلى أداء واجبه لا يلوى على شىء.. ولذا نقر النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث نقرات. وإن القلب ليخفق إجلالا، وإن الرأس لينحنى إكبارا مع هذه الدقات الواعية المحصية. عجلت منيته! يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول! هكذا مضت سنة الرجولة تعلم ذويها ألا نكوص ولا إحجام! قلت بواكيه..! ولم يقله البكاء على أولئك النفر الكرام من حملة الدعوات؟ ألئن الجهاد غربهم عن أوطانهم فماتوا بعيدا عن الأقربين ، كسيد الشهداء حمزة؟ سمع الرسول صلى الله عليه وسلم الباكين بعد غزوة أحد على ذويهم فقال: "لكن حمزة لا بواكى له" أم لأن البكاء عليهم كان جريمة يقذف بمرتكبيها فى ظلمات السجون، كما حدث فى مصرع الشهيد حسن البنا ؟ أم لأن رجال الإسلام كرههم عبيد الحياة فهم لا يحسون لفقدهم أسفا؟! قلى يكون ذلك، أو يكون الأمر أخفى مما نعلم. قل تراثه..! وهل لأصحاب المثل وأصحاب المبادئ العالية تراث يخلفونه؟ إنهم وما ملكوا وقود دعواتهم. وفداء أفكارهم. يا حملة المشاعل وسط العواصف الهوج. هذا هو النهج.. فاسلكوه. ص _042 * مناسر اللصوصية العالمية غاظنى أن تعترف الأمم المتحدة بإسرائيل فور إنشائها. وغاظنى أن تصر على إهدار حق العرب برغم تفانيهم فى استرداده. إن هذه المؤسسة العالمية لا شرف لها. - والناس يعرفون عن دول أوروبا أنها أقصت كل أثارة للشرف والخلق فى علاقاتها السياسية بأم الشرق. وأن الحضارة الغربية قد أسقطت جملة مكانة الضمير الإنسانى ، سواء فيما يدور بينها من منازعات أم فيما يدور بينها وبين غيرها من مشاكل وخصومات. والسياسة الأوروبية هى صاحبة مبدأ "الويل للمغلوب " ومبدأ "الغاية تبرر الواسطة " ومبدأ "المعاهدات قصاصات ورق ". ونحن نعرف أن إنجلترا حلفت بشرفها سبعين مرة وحنثت كذلك سبعين مرة! ونعرف أن إنجلترا فى ذلك تمثل النفسية العامة لدول الغرب، فليست خيرا ولا شرا من فرنسا أو إيطاليا... أو أمريكا!! بيد أن الأمر فى نظرنا قد وصل إلى حد يستحق التسجيل فقد تخون المرأة شرفها، وتقترف إثمها، فى تستر وخفاء، فتكون فى تسترها واستخفائها معترفة بأن للفضيلة منزلة تلزم رعايتها، ولو من الناحية الشكلية. أما إذا فتحت محلا للدعارة واشتغلت به مومسا فمعنى ذلك أنها قد باعت نفسها للشيطان! والدول الأوروبية التى لوثت تاريخ العالم بغدرها وخيانتها قد مضت فى طريق شائنة، وفى المؤسسات التى أقامتها لتنظيم العلائق العامة تحولت الجلسات والمفاوضات إلى أسواق تباع فيها الذمم. بل تحولت إلى مزايدات علنية خسيسة تقدم فيها الأصوات لمن يدفع أكبر ثمن. أمس باعت الهند صوتها بمليون طن من الحبوب قدمتها لها أمريكا. وأول من أمس باعت الدول اللاتينية أصواتها لليهود بثمن بخس. ومنذ أيام أصدرت محكمة العدل الدولية حكما لصالح إنجلترا فى قضية لا يجوز أن تنظرها لأنها ليست من اختصاصها، والمضحك أن هذه المؤسسات التى تديرها دول ص _043 أوروبا للدعارة السياسية لا تزال تحمل الأسماء والعناوين واللافتات التى تمثل كل ألوان الغش التجارى. فالتخريب بالجملة اسمه استعمار. والدول التى يراد أكلها توضع تحت الوصاية. والأحكام الجائرة المضللة تستصدر من محكمة العدل، والمجلس الذى جبن لشدة خوفه أن يقول كلمة حق فى وجه ظالم اسمه مجلس الأمن، والأمم التى تتهاوش تهاوش الكلاب المسعورة تسمى الأمم المتحدة. ولا غرو فالحضارة الأوروبية متخصصة فى هذا اللون من الكذب. وقد سقطت همتها الخلقية فبدلا من أن تجاهد هواها اعتبرت الهوى شريعة وسارت بإيعاز من وساوسه إلى ما تشتهى... وهى تريد أن تسير الدنيا كلها معها فى هذا المضمار الملوث. إن هذه المؤسسات العالمية أصبحت لا رجاء فيها لأوسع الناس أملا. فلنهجرها إلى غير رجعة، ولنبذل جهودنا لإصلاح أحوالنا في بلادنا نفسها وتحويلها إلى ميادين للكفاح ضد الاحتلال الداخلى والخارجى جميعا. فهذا وحده طريق الكادحين الناجحين. أما السمسرة الدبلوماسية فى "بورصة" مجلس الأمن فعمل باطل ابتدعه اليهود ليلعبوا بالفضائل ويقامروا بمستقبل الشعوب. ص _044 ذكريات من الريف غريب.. أبيت فين؟ سرى إلى نفسى الهدوء الخيم على أرجاء القرية الموشكة على الجوع، فانسابت أفكارى فى مجراها العميق هادئة هى الأخرى. وأحس رفيقى بأن حبل الصمت قد طال أكثر مما ينبغى فسألنى بلطف: ماذا بك؟ فأجبته باسما: لا شىء غير أن المرء إذا انتقل من الضجيج المضاعف فى المدينة إلى السكون المضاعف فى القرية، شعر كأنه يهبط فى هاوية من الصمت لا قرارلها، ثم ألست ترى هذه الآفاق المغبرة تستقبل المساء القادم البطىء؟ إن هذه الغبرة نضحت على القرية من المتربة التى تعيش فيها أبدا. قال لى صديقى- محاولا الفرار بى من هذه الأفكار الكئيبة-: دعك من هذه الخيالات، ولا تنس أن فلانا ينتظر حيث تواعدنا على اللقاء جميعا عند شاطئ "النيل ". إن مجلسنا هناك حافل بالأحاديث الشائقة وإن كانت أرضه مفروشة بالحشائش الجافة وحدها! ويممنا شطر المجلس العتيد، وإذا بالطريق إليه يعترضها مستنقع راكد من هذه المستنقعات التى يصنعها رشح الفيضان، وتتخلف فيها مياه المطر، فتوقفت كارها واستأنفت صمتى الأول، ثم أرسلت الطرف إلى الشاطئ الآخر للبحيرة الضحلة، ودرت به حول حدودها، ولكنى لم أتبين من معالمها إلا القليل، إنه ليل أشد سوادا من أفئدة المجرمين توارت فى طياته هذه الدور المبعثرة بما ضمت من إنسان وحيوان، وكأنها ألفت وحشته المريبة، فما تخلعها عن جدرانها البالية فى ليل أو نهار، وقرع أدنى صوت غناء ينبعث من بعيد، غناء صبية يسمرون ويلعبون غير أن ألحان غنائهم كانت تشق حجاب الليل، وتخترق صمته كما يشق الخنجر الحاد الأديم الحى. واختلج فؤادى اختلاجا عنيفا، إذ كانت نبرات غنائهم تكتنفها الكآبة وتغزو المشاعر بمزيج من الحسرة والتفجع! ما هذا؟. وأعرت انتباهى للصدى المتماوج مع هبات النسيم على صفحة المستنقع واستطاعت أذناى أن تلتقطا من أبيات المقطوعة التى يغنيها الأطفال هذا البيت الحزين: ص _045 ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت فين؟ قلت لرفيقى فى لهفة: ما هذا الكلام يا أخى؟ من هذا الغريب؟ وما هذا المبيت؟ وما الذى جمع الأولاد على هذا النشيد الحزين؟ قال صاحبى- وقد سره أن يجد مجالأ للحديث يطرد به وطأة الصمت-: إن هذا الغناء نشيد القرية الدائم، ومرتلوه هم الصبية الفعلة من الفلاحين الفقراء، إنهم يرحلون إلى التفاتيش الكبرى بالمئات للعمل فيها، وهم يتزودون لهذه الترحيلات المضنية مما ثقل حمله ورخص ثمنه خبز جاف وجبن وملح، فإذا ملئوا بطونهم من هذه الأطعمة، كرعوا من قنوات الرى ما تفيض به من الماء العكر، حتى إذا آواهم الليل وجدوا فى إسطبلات الخيل متسعا يضم أجسامهم المتعبة، وهم بين مهاد الغبراء ولحاف الأجواء يطلقون حناجرهم بما سمعت من غناء. فى حين كان صاحبى يتكلم عاد الصدى السارى يقرع آذانى، بل يقرع أبواب قلبى، ويثير كوامن الحنان والأسى فيه! الغناء الكئيب يناجى الليل مرة أخرى: ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت فين؟ حيران! ما بارتاح يوم والراحة تيجى منين؟ فقلت- وأنا أهمس إلى نفسى-: يا أولادى لستم غرباء، إنه وطن آبائكم وأجدادكم، ومن حقكم أن تبيتوا فيه ناعمين. لعن الله من ظلمكم وجعل طفولتكم تنبت فى هذا الهوان!. إن أمثالكم يحيون وادعين فى أمم الأرض الأخرى لا تشردهم إلا الحروب والغارات الطارئة. أما أنتم فمشردون أطفالا ومشردون رجالا! فى غير حرب ولا ضرب، إلا حرب الأوضاع الظالمة وضرب المجتمع الغشوم! فقال رفيقى- ولعله استحمقنى-: بماذا تهمس؟ فأسرعت إلى إجابته: لا شىء. واستطردت: وكيف يعودون من هذه الترحيلة؟ فقال: أتذكر الأوبئة التى تصيب الدواجن فى البيوت والدواب فى الحقول؟ إن هذه من تلك. طعام حقير وعمل من قبل الشروق إلى ما بعد الغروب، وأسواط المراقبين القاسين تلهب ظهر من يتوانى فى أداء الواجب، بل قد تلسع المشتغل حتى لا يفكر فى الكسل! وأجور ضئيلة يأكل نصفها السماسرة. وأيام متطاولة على هذا النحو العصيب مما يجعل الأولاد المحرومين من أحضان آبائهم يشعرون بالغربة، فهم يبتون الليل شكواهم الصارخة، ثم يعودون ص _046
صفحة ٤٦
إما إلي القبور واما إلي الدور . فإذا ساورتهم أحداث الماضى فى حاضرهم المنكود نزعوا إلى الغناء، كما سمعت. فقلت: كم يجنح هذا الشعب إلى الغناء الحزين ينفس فيه عن آلامه المكظومة، وكم سمعت أبناء الوجهين القبلى والبحرى يطلقون حناجرهم زرافات ووحدانا، يطلبون لدى "المجهول " ما لم يجدوه لدى "الواقع " لكنهم لا يجدون شيئا! إلا إذا كان هؤلاء الأطفال الغرباء فى وطنهم قد وجدوا المبيت الذى يلتمسون! وعادت أمواج الظلام تحمل غناء المظلومين المتواثبين على شاطئ المستنقع: ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت فين؟ ياما أرخص الإنسان يتهان ورا قرشين ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت فين؟ وأمى وأبوى الاثنين يبكوا بدمع العين ص _047 2 أديان مستغفلة قال صاحبى فى ضيق: أحسب أن المجلس الذى ينتظرنا قد التأم الآن شمله، ولعلنا وحدنا الذين تأخرنا. وإذا كان حضرة العمدة لن يطيل عتابنا، فإن فضيلة الشيخ المأذون سيحاسبنا على خلف الموعد. وعلى ذكر الشيخ هل تعرف أنى سمعته أمس يقول: إن الغناء حرام! فقلت مقاطعا: قبحك الله وقبحه! وهل سألتك عن رأيه فى شىء؟ خذ بنا أقرب الطرق إلى ما نبغى... وسرنا نذرع الطريق بخطوات فساح، واسترسل الصديق المخلص يقص على ما أجهل من أحوال البلد وأخبار أهله، فلما قاربنا غايتنا طالعتنا دقات طبل مزعج، وضوضاء مبهمة مختلطة، ونظرت إلى صاحبى فرأيت علائم الكدر مرسومة على وجهه وهو يتمتم: هذه حفلة زار ستؤذينا بضجتها! فقلت له: فى بيت من هذه الحفلة؟ قال: فى بيت فلان! قلت: يا عجبا! إن فلانا هذا رجل عاقل فماذا دهاه؟. قال: إنه مات من زمان! وقد مات ابنه منذ عدة أشهر. مسكين هذا الابن المنكود الحظ! لقد ذهب لأول مرة فى حياته مع ترحيلة من هذه "التراحيل " التى يتغرب فيها الأطفال صغارا، ثم عاد منها فلم يقض مع أمه عدة أسابيع حتى سمعنا نبأ وفاته.- فقلت: وبقيت الأم الثكلى وحدها؟- قال: نعم! وعرفت فى قرارة نفسى سر الزار فى هذا البيت المنكوب: إن أعصاب الزوجة تصدعت لفقد زوجها. فلما شب ولدها عن الطوق، وبدأ يحمل تكاليف المعيشة، ويسعى ليعول نفسه وأمه، بدأت الأم يعاودها الأمل فى الحياة! و!إذا بهذا الأمل ينطفئ، ويثوى فى مقبرة ضمت رفات ولدها بعد رفات بعلها، فاعتراها من تواصل الأحزان، وضنك المعايش، ما جعلها تتشنج وتترنح، فلم يعرف أقرباؤها إلا موسيقى الزار، يداوون بها المرأة التى خالطها الشيطان، وما مسها فى الحقيقة إلا شيطان المآسى والكربات. لعنه الله... مشيت مطرق الرأس، وئيد الخطا، ثم صحوت على صوت رفيقى يقول: إن الشيخ مأذون الشرع أفتى بأن الزار حرام، وسيحدثك كثيرا فى المجلس عن مضار هذه البدعة. فقلت له- وقد صممت على شىء-: اسمع، لن أستطيع الوفاء بموعد الليلة. فاذهب واعتذر عنى لحضرة العمدة ولحضرة الشيخ مأذون الشرع ولسائر الرفاق!. ص _048
صفحة ٤٨
وفى صبيحة الغد، أرسل إلى العمدة يستنبئنى لم تخلفت؟. ويدعوننى إلى تناول الغداء مع رفاق الأمس على مائدته الكريمة. وفى الموعد المحدد كنت تجاه مائدة حافلة، ترف عليها بشاشة النعمة، وتنعقد فوقها روائح شتى من الأطباق المنضودة، والأطعمة الممدودة، وعلى أطراف الخوان أزهار ورياحين تعبث بها أصابع الرجال الجالسين فى قلة اكتراث، المتهيئين للأكل والثرثرة فحسب. فلما ضمنى المجلس العابث بمرحه، الصاخب بضحكه، استشعرت التناقض الواضح، بين ما رأيت وما أرى، وتذكرت الأسى الشائع فى جو القرية، والصارخ بمعانى الحرمان فى حياة أولئك الفلاحين المساكين، وبرز أمام عينى شبح الشقاء الجاثم فى صدورهم، فأعدت النظر إلى الوجوه المبعثرة حولى، ورأيت أسارير منفرجة، وملامح طافحة بالبشر، ثم قال العمدة بلهجته الآمرة: يا ولد، افتح الراديو، نريد أن نسمع. وإن كان الشيخ المأذون سيتضايق لأنه يكره الغناء! فأرسل المأذون جشاء طويلا ثم قال: إن الشرع الشريف هو الذى ينهى عنه أليس كذلك يا.. وقبل أن يوجه الحديث إلى كان المستمعون الكرام وعلى رأسهم صاحب الحفلة المضياف يتبادلون الضحك العالى، وهم يكرعون من أنس المجلس، ومتاع الحياة، وصفاء العيش، ما يستطيعون من ذلك كله!! وصوت الراديو ينطلق فى الجو السكران بما فيه ومن فيه قائلا: اوع تزعل ثانية صحتك بالدنيا! وأحس "مأذون الشرع " بالحرج، فقال لى مستنجدا: أليس كذلك؟ أنت ممثل الدين بيننا فتكلم باسم الدين. فقلت ساخرا: كان للدين سفراء يمثلونه عند رجال الدنيا. أما اليوم فعند رجال الدنيا أقوام يمثلون باسم الدين! لكنهم للأسف يمثلون أدوارا هازلة! فقال الرجل: إنى أسأل عن حكم الشرع الشريف. فقلت: تسأل عن حكمه فى أشياء قد. تخدش أظافره. أما الأشياء التى تدق عنقه وتستأصل من الأفئدة جذوره، فلا تسأل عنها، ولا يسأل عنها أحد! وهذه الفوضى الاجتماعية التى طغت على بلادنا، وعبثت فيها بكل المقررات الدينية والعقلية، وطحنت قلوب الجماهير المعذبة، ألا يستفتى فيها الدين يوما ما ليقول حكمه الحق؟ ثم قمت فى غضب وأغلقت الراديو، فحبست صوت المرح المهتاج عن القوم المرحين، وتبرم العمدة بهذه الحركة وضاق المأذون بما سبقها من كلام، فانصرفت وفى مشاعرى غليان مكتوم. ص _049
صفحة ٤٩