(فنه) أي نوعه، (وشرفه) فضله، (والنظم) في اللغة جمع اللؤلؤ في السلك، وفي الاصطلاح: تأليف الكلمات والجمل مترتبة، وفي اصطلاح أهل العروض: كلام موزون بوزن مخصوص على جهة مخصوصة، وهو المراد في البيت، (والدر) جمع درة وهي اللؤلؤة العظيمة، (والصدف) غشاؤها استعار الدر لقواعد الأصول، ورشح الاستعارة بذكر الصدف بعد أن استعاره للحالة التي صار بها أصول الفقه في حين الخفاء عن أفهام العوام، (والمعنى) أن هذا النوع من المعلوم وهو أصول الفقه مع فضله لم أجد فيه كلاما موزونا يبرز للناظر قواعده التي هي كالدر في حسنها وصفائها واشتهاء النفوس لها من حيز الخفاء الذي هو كالصدف الحاوي على الدرة فلا ترى إلا بعد كشفه، ولا يخفى أن في كلام الناظم نفي الشيء بإيجابه، فإنه لم يجد في هذا الفن نظما أصلا، لا أنه لم يجد نظما على تلك الهيئة المخصوصة فهو على حد قوله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا) والمراد نفي السؤال عنهم لا نفي الإلحاف الذي هو الإلحاح، (واعلم) أني بعدما شرعت في نظم هذه المنظومة سمعت بوجود منظومة في الفن فحرصت على تحصيلها، فوردت علي بعد أن انتهى بي النظم إلى ركن الاستدلال فنظرت فيها متأملا فإذا هي جامعة لمعان مفيدة وقواعد عديدة، أخذت من التطويل حظها قد ركب على مضاجع السهولة لفظها، سماها صاحبها: فائقة الفصول في نظم جوهر الأصول، لكن في بعض أبياتها أشياء تمجها الأسماع وتميل عنها الطباع، فأخذت في إتمام هذه المنظومة لخلوها عن تلك الخصلة المذمومة، ولما انفردت به دونها من الاختصار المفيد ولكونها على قواعد المذهب السديد والله أعلم وبه التوفيق.
وطالما قدمت رجلا طالبا ... نظامه ثم فررت هاربا.
ثم كررت بعد ما فررت ... وبمرادي فيه قد ظفرت.
(طال) بمعنى امتد، (وما) زائدة كافة لطال عن طلب الفاعل، وكذا قل وكثر فتقول قلما وكثر ما، ولا يحتاج الكل إلى فاعل، (وقدمت رجلا) تمثيل لحالة القدوم على الشيء، (وطالبا) بمعنى قاصدا، (والنظام) بمعنى النظم، (وفررت) بمعنى أسرعت الرجوع عن ذلك المطلوب لما رأيت من صعوبته مأخوذ من فر الفرس إذا أوسع الجولان للانعطاف، (وهاربا) حال مؤكدة لعاملها على حد (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، (وكررت) بمعنى رجعت إلى محاولة المطلوب، مأخوذ من كر الفارس إذا انعطف ثم عاد، (وظفرت) أي فزت به، (وحاصل) ما في البيتين أنه مثل حالته في قدومه على هذه النظم بحالة فارس جري الجنان قدم على أمر عظيم فاستعصب القدوم عليه ففر راجعا عنه لما رأى من صعوبته ثم حركته تلك الجراءة، وما تذكر من العواقب المحمودة في الإقدام، فكر بعد فراره فظفر بمطلوبه والكل تمثيل والله أعلم.
صفحة ١٦