بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم يا من أطلع شمس الأصول في سماء قلوب العارفين وأظهر بها حقائق الأدلة لإفهام الناظرين، وأبرز بها أسرار الأحكام الشرعية لفحول العلماء المجتهدين، حتى أفضي بهم الحال من ضيق التقليد إلى فضاء اليقين، ونصلي ونسلم على محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الهادين المهتدين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد فهذه منظومة جليلة القدر عظيمة الخطر، في علم أصول الفقه من بها على ربي عز وجل سميتها (شمس الأصول) وقد أخذت في شرحها على وجه يروق للناظر ويبهج الخاطر، موضحا لمعاني أبياتها، ومبينا لغالب نكاتها آخذا من طرق الشروح أوسطها، ومن العبارات أحسنها وأضبطها، ولئن من الله علي بإتمام على هذا الجنس لأسمينه إن شاء الله (بطلعة الشمس) والله سبحانه وتعالى المأمول، أن يتلقاه وسائر أعمالي الصالحة بالقبول وأن يغفر لي ولإخواني ولجميع المسلمين سيئاتنا، وأن يقينا عثراتنا، فهو تعالى حسبنا ونعم الوكيل، وهذا أوان الشروع في شرح النظم المشار إليه .
قال المصنف مبتدئا بالبسملة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي قد أنزلا كتابه مفصلا ومجملا.
بحسب الحكمة في إنزاله فاستبق الأذهان في إجماله.
صفحة ٢
الحمد لله لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التبجيل سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل والشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الشاكر سواء كان ذاكرا باللسان أم اعتقادا ومحبة بالجنان أم عملا وخدمة بالأركان فمورد الحمد هو اللسان وغيره ومتعلقه النعمة وحدها فالحمد أعم متعلق وأخص مورد والشكر بالعكس والحمد عرفا فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الحامد أو غيره والشكر عرفا صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله فهو أخص مطلقا من الثلاثة قبله لاختصاص متعلقه بالله تعالى ولاعتبار شمول الآلات فيه والشكر اللغوي مساو للحمد العرفي وبين الحمدين عموم من وجه انهي غاية البيان، وال في الحمد أما للعهد وأما للجنس وأما للاستغراق، فالوجوه الثلاثة كلها محتملة هاهنا وكونها للاستغراق أوجه من الاحتمالين الأولين لأن المراد الثناء على الله تعالى على كل فرد من آثار الصفات وإذا جعلت للعهد فالمراد بها حمدا لله تعالى نفسه أو الحمد الذي أمر به تعالى خلقه أن يحمدوه به، وكونها للجنس ظاهر لأن المراد منه أن جملة الحمدلة لله تعالى فالفرق بين الاستغراق هو الحكم على الشيء مع النظر إلى فرد من أفراده وأن الجنس هو الحكم على الشيء مع قطع النظر عن فرد من أفراده (واختار) الزمخشري كون ال في الحمد للجنس ليتأتى له حمله على قاعدة مذهبه الفاسد وهو أنه للعباد حمدا حقيقيا على أفعالهم الخيرية، ونحن نقول أن خالق ذلك هو الله تعالى وأن الحمد عليه هو لله تعالى حقيقة وإنما يحمد العبد على اكتسابه لذلك وامتثاله فيه لأمر الشارع فالحمد للعبد حينئذ إنما هو لما جعل الله له من الثناء عليه بسبب امتثاله الأوامر فالحمد بجميع أفراده لله تعالى، وما بكم من نعمة فمن الله (فإن قيل) أنكم قد أثبتم للعبد حمدا على اكتسابه الخير وامتثاله الأوامر كما أن المعتزلة أثبتوا له حمدا على خلقه فعله الخيري فيلزمكم جعل ال في الحمد للجنس وهو الذي اختاره الزمخشري بعينه فما وجه النقد عليه (قلنا) أما أولا فلا يلزمان ظان تكون ال في الحمد للجنس لأنا*** نقول أن كل فعل في يستحق عليه الحمد فهو إنما كان بخلق الله وإرادته فالحمد عليه في الحقيقة إنما هو لله تعالى والزمخشري يأبى ذلك ويزعم أن الحمد الذي يستحقه العبد على خلقه فعله فلا يكون لله تعالى وإنما هو للعبد من دون ربه هذا على قاعدة مذهبه، وأما(ثانيا) فأنا لا نمنع أن تكون ال في الحمد للجنس بل نقول أنها محتملة له ولغيره وإنما اخترنا جعلها للاستغراق لما تقدم، وأما (ثالثا) فأنا لم نعب على الزمخشري نفس اختياره كون ال للجنس وإنما عبنا عليه الأمر الذي حمله على اختياره ذلك واللام في لله، إما للملك وإما للاختصاص وإما للاستحقاق، احتمالات ثلاث وجعلها للاختصاص هاهنا أظهر ويليه في الظهور الاستحقاق، وأضعفها الملكية لأن الغرض من هذا السياق إنما هو الثناء عليه تعالى بأنه مالك للحمد، والملكية أشد اختصاصا من الاختصاصية والاستحقاقية، فيكون جعلها للملك أولى من جعلها للاختصاص والاستحقاق، (قلنا) لا نسلم أن كون الملكية أشد اختصاصا من الآخرين يثبت أولوية حمل اللام على الملك هاهنا فإن الاختصاص والاستحقاق أظهر في مقام المدح من الملكية لأن الاختصاصية والاستحقاقية إنما يكونان لشيء في ذات المختص والمستحق، والملكية إنما تنصرف إلى الأفعال. وقوله: (الذي أنزلا إلخ) تقييد لحمل الناظم فإنه يومي إلى أن النعمة التي لأجلها كان هذا الحمد منه لمولاه هي إنزال الكتاب على هذه الهيئة المخصوصة فحمد الناظم في البيت إنما هو حمد مقيد وهو أفضل عندهم من الحمد المطلق، لأن الحمد المقيد في مقابلة النعمة فهو واجب والمطلق (خال) من تلك المقابلة فهو نفل(والإنزال) هو تحويل الشيء من أعلى إلى أسفل، والمراد بكتابه الله تعالى هو القرآن العظيم، وسيأتي تعريفه والمراد بإنزاله هو تحويله من اللوح المحفوظ أو مما أراد الله تعالى إلى بيت العزة إلى قلب نبينا عليه الصلاة والسلام، (قال السيوطي) اختلف في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال (أحدهما) وهو الأصح والأشهر أنه أنزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك منجما في عشرين سنة أو ثلاثة وعشرين أو خمسة وعشرين على حسب الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة، (القول الثاني) أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين في كل ليلة ما يقدر الله إنزاله في كل السنة ثم نزل بعد ذلك منجما في جميع السنة، (القول الثالث) أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات وبه قال الشعبي، قال ابن حجر في شرح البخاري: والأول هو الصحيح المعتمد قال وقد حكى الماوردي قولا رابعا، أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه في عشرين سنة، وهذا أيضا غريب، وقيل أن السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيم أمر وأمر من انزل عليه وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم ا لرسل لأشرف الأمم قد قرناه إليهم لننزله عليهم، (أقول) وينضم إلى هذه الحكمة حكمة أخرى وهي التخفيف من الله على هذه الأمة، حيث جعل تكليفهم شيئا فشيئا ولم يجعله جملة واحدة، وأنزل كتابهم منجما آية بعد آية، وسورة بعد سورة، ولم ينزله جملة واحدة كما كان ذلك في التوراة وأشباها من الكتب السماوية والسر في ذلك أن العبد إذا درج في مسالك الطاعة وعرج في مراقي التكليف شيئا بعد شيء كان ذلك أهون عليه تتوطن نفسه بالأسبق فالأسبق بخلاف ما لو حمل ذلك دفعة واحدة (والمفصل) المبين وهو ما اتضحت دلالته من خاص وعام وغي ذلك (والمجمل) هو الذي لم تتضح دلالته ولخفاء دلالته أسباب يأتي ذكرها في محله (وقوله بحسب الحكمة) أي بمقدار الحكمة التي اقتضت إجماله وتفصيله فإن الرب عز وجل حكيم فتقتضي حكمته تارة إنزال القرآن مجملا وتارة إنزاله مفصلا، ومعنى الحكمة ههنا نفي العبث عنه تعالى أي جميع أفعاله عز وجل إنما هي استعداد المكلف للامتثال فيثاب بنفس الاستعداد إن لم ينزل البيان والعمل به ويثاب عليهما عند ذلك، (وقوله فاستبق الأذهان) أي جهد كل واحد من أذهان العلماء أن يسبق صاحبه في معاني إجمال القرآن فتفاوتت في بيان إجماله بتفاوت مراتب المستبقين في ذلك فهذا يسبق ذهنه في إلى كذا، وسبب ذلك التفاوت إنما هو باعتبار ظهور البيان وخفائه فنهم من لا يعرف المجمل إلا بالبيان الظاهر ومنهم من يدرك معناه بالبيان الخفي على مراتب، وهناك يقع التفاوت فالأذهان جمع ذهن وهو الاستعداد التام لإدراك العلوم والمعارف بالفكر، وفي ذكر إنزال الكتاب وكونه مفصلا ومجملا إلخ براعة استهلال وهي أن يذكر المتكلم في طالعة كلامه ما يشعر بمقصوده، ولما أشار المصنف بتسابق الأذهان إلى تفاوت درجات المفسرين للقرآن واختلاف مذاهبهم في ذلك أخذ في تقسيمهم إلى محق بذلك التأويل وإلى مبطل فقال:
فسلكت عقول أهل الصدق بصادق الفكر سبيل الحق.
وسقطت إفهام أهل الجهل بوجهها على مهاوي البطل.
صفحة ٦
العقول جمع عقل وهو قوة يدرك بها الإنسان حقائق الأشياء، (قيل) محله الرأس، (وقيل) محله القلب سمي بذلك لأنه يعقل النفس عن شهواتها أي يمنعها من ذلك كما يمنع الناقة عقالها عن الذهاب حيث شاءت، (وأهل الصدق) هم أهل الحكم المطابق لما في الواقع من الأدلة الشرعية، (والصادق) من الفكر هو الذي يؤدي إلى الحكم المطابق لما في الواقع من الأدلة الشرعية، (والفكر) هو حركة النفس في المعقولات، وحركتها في المحسوسات تخييل، وفي إضافة صادق إلى الفكر، إضافة الصفة إلى موصوفها، والمعنى بالفكر الصادق، (وسبيل الحق) هو طريق الحكم هو في نفس الأمر أنه كذلك، (والسقوط) الوقوع من أعلى إلى أسفل، والسقوط على الشيء الوقوع عليه، (والإفهام) جمع فهم وهو تصور المعني من لفظ المخاطب، (والجهل) إما بسيط وهو عدم إدراك الشيء ممن من شأنه الإدراك، وإما مركب وهو إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه وهذا المعنى هو المراد في البيت، (والوهم) هو ما يقع في القلب ويسبق مع إرادة غيره، (والمهاوي) جمع مهواة، وهي ما بين الجبلين وقيل الحفرة، (والبطل) بضم الموحد، بمعنى البطلان، وهو الحكم المخالف لما في الواقع، (والمعنى) أن عقول أهل الصدق سلكت طريق الحق بالفكر الصادق، فانتهى بهم ذلك الطريق إلى أن أصابوا محل أوامر الله تعالى ونواهيه وأن أهل ا لجهل قد تصور لهم بسبب ما سبق إلى أفهامهم أشياء سقطوا بها في الباطل الذي هو كالمهاوي بجامع أن كلا منهما يهلك الواقع فيه، فالمهاوي تهلك جسمه وتفوته عاجلته، والباطل يهلك عقله ويفوته آجلته والله أعلم، ثم إن الناظم أخذ في بيان الشكر لما من الله عليه به، حيث جعله من الفريق الأول وهم من أهل الصدق فقال :
أحمده على الهدى مع نعمه وأستمد شكره من كرمه.
صفحة ٧
فقد تقدم معنى الحمد والشكر لغة واصطلاحا، والبحث هاهنا ه\عن كون الجملة في الحمد مضارعية وكونها فيما تقدم اسمية، فنقول إنما جئنا بنوعي الجملة لنحرز فائدتيهما، فإن الجملة الاسمية إنما تفيد الثبوت والدوام، والجملة المضارعية تفيد التجدد والحدوث فيكون في الجمع بين الجملتين، جمع بين الفائدتين وفيه التأسي بحديث الحمد لله أحمده، (والهدي) يطلق ويراد به التوحيد والتقديس، ويطلق على ما لا يعرف إلا من لسان الأنبياء من فعل أو م ترك، (والنعم) بكسر ا لنون جمع نعمة وهي الحالة التي يستلذ بها الإنسان، وهي إما دنيوية أو أخروية والأولى إما وهبية أو كسبية، والوهبية إما روحانية كنفخ الروح وما يتبعه، أو جسمانية كتخليق البدن وما يتبعه، والكسبية إما تخلية أو تحلية، واما الأخروية فهي مغفرة وما فرط منه وإثابته في مقعد صدق، (ومعنى استمد) أي أستزيد، أي أطلب زيادة شكره تعالى من كرمه، (والكرم) إفادة ما ينبغي لا لغرض فمن يهب المال لغرض جلبا للنفع وخلاصا عن الذم فليس بكريم، (والمعنى) أحمده سبحانه وتعالى على حصول الهدي لي مع تلك النعم التي صدرت منه إلى وأطلب منه زيادة شكره، أي أرغب أن ييسر لي الأسباب التي تعينني على أن أشكره على حصول ذلك الهدي وتلك النعم شكرا كثيرا، (واعلم) أن المصنف حمد الله تعالى هاهنا على حصول نعم له هي غير النعمة التي حمده عليها في أول الكلام، فيكون قد أدى بذلك فرضين، حيث أحدث لكل نعمة حمدا وهنا أبحاث، (أحدها) أن الهدي وإن كان من جملة النعم فهو أخص منها رتبة وأعلاها درجة، فكيف قال مع نعمة والظاهر أن ما بعد مع أشرف مما قبلها فإنك تقول الوزير مع السلطان ولا تعكس إلا لعارض فما وجه كلامه، (والجواب) عنه أنه لما كان الهدي من جنس النعم أعم منه، وأراد أن يخص الهدي بالذكر من بين سائر أفراد النعم ولم يتيسر له العطف، أضاف مع إلى النعم، وجعل النعم في حكم المقدم والهدي في حكم المؤخر، وإن تقدم فيكون ذلك كمن عطف خاصا على عام، فلا يستلزم أشر فيه النعم على الهدى، (وثانيها) لم عبر عن قوله وأشكره بقوله وأستمد شكره، (وجوابه) أن قوله وأستمد شكره من كرمه أبلغ من قوله وأشكره، لما فيه من طلب زيادة أساب الشكر منه تعالى، فكأنه نبه بذلك على عظم هذه النعم وكثرتها وعجز نفسه عن القيام بشكر بعضها فكيف بشكر جملتها، وفيه أيضا تنبيه على أن أفعال العبد كلها خلق الله تعالى، (ثالثها) ما وجه المناسبة بين قوله واستمد شكره وبين قوله من كرمه، (وجوابه) أن وجه المناسبة في ذلك ظاهر وهو ان الكرم صفة منها تستفاد المنافع، وزيادة الشكر من أكبر المنافع فناسب أن تضاف إلى الكرم ثم أنه لما فرغ من الثناء على الله تعالى بما هو له أهل له على تلك النعم التي بينها أخذ يؤدي ما أمر به في حق نبيه عليه الصلاة والسلام فقال:
مصليا على الرسول أحمدا أزكى صلاة وسلام أبدا.
صفحة ٩
مصليا حال من فاعل أحمد، أي ومسلما لكن حذف المعطوف بقرينة قوله أزكى صلاة وسلام، ففي البيت اكتفاء عل حد قوله تعالى: (سرابيل تقيكم الحر) أي والبرد، والصلاة إن نسبت إلى الله تعالى فهي رحمة مقرونة بتعظيم، وإن نسبت إلى الملائكة فهي الاستغفار، وإن نسبت إلى المكلفين من سائر الخلق فهي الدعاء، وهي شعار الأنبياء، فلا تقال لغيرهم إلا على سبيل التبعية، وقيل يدعى لغيرهم على سبيل الاستقلال أيضا، وقيل بالكراهية لغيرهم إلا على جهة التبعية، وهو الأوجه عندي، لأن التحريم محتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك فبقيت الإجازة، لكن لما أمر سبحانه وتعالى ظان يصلى على نبيه أخذا من هذه الأمر أن في الصلاة تعظيما ينبغي أن لا يشارك فيه نبيه إلا على جهة التبعية له، فأخذنا من ذلك الكراهية، وأيضا فلو كانت الصلاة غير جائزة لغير الأنبياء على جهة الاستقلال لما جازت لغيرهم على التبعية، وجوازها على جهة التبعية ثابت بالسنة والإجماع ، فلا وجه لإنكاره فثبت المدعي، وأيضا الملازمة بين جوازها لغير الأنبياء على جهة التبعية وبين جوازها لهم على جهة الاستقلال هي أنه لو كانت الصلاة من خصوصيات الأنبياء لما صح أن يشرك معهم فيها غيرهم، فلما أشرك فيها غيرهم بالسنة والإجماع، علمنا أنها جائزة لغيرهم مطلقا لكن كرهنا استقلال الغير بها لما تقدم، والصحيح الذي لا مرية فيه أنه صلى الله عليهم وسلم ينتفع بالدعاء له والصلاة عليه لقوله تعالى (وقل ربي زدني علما) ولحديث مسلم أنه كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (واجعل الحياة لي زيادة في كل خير) فلا عبرة من قال أنه لا ينتفع بذلك لأنه قد بلغ حد الكمال وملاحظة الانتفاع له تؤذن بنقصان كماله ونحن نقول أن كمال غيره تعالى قابل للزيادة، وطلب الزيادة لذلك الكمال لا يفيد نقصانه وإنما يفيد طلب انضمام كمال إلى كمال، فلم يزل كماله صلى الله عليه وسلم يترقى إلى غاية لا يعلمها إلا الله، (والسلام) التحية الإسلامية ويطلق على تجرد النفس من أحن الدارين، وقرن المصنف بين الصلاة والسلام ليمتثل الأمرين لا خروجا من الكراهية التي صرح بهما المتأخرون في أفراد أحدهما عن الآخر، حتى أن بعضهم استظهر حرمة أفراد أحدهما عن الآخر، والذي يظهر لي أنه لا تحريم ولا كراهية، وعطف التسليم على الصلاة في الآية لا يقتضي وجوب اقترانهما ولا كراهية أفراد أحدهما عن الآخر، وإنما يقتضي ثبوت الأمر بلا النوعين فالصلاة مأمور بها، والتسليم مأمور به، وعطف الأمر على الأمر لا يستلزم اقتران، ففعلهما في الامتثال فالمصلي بلا تسليم ممتثل للأمر بالصلاة، والمسلم بلا صلاة ممتثل للأمر بالتسليم والتراخي بين الامتثالين جائز، فظهر ما قررناه والله أعلم، (والرسول) إنسان أوحي إليه يشرع وأمر بتبليغه، ويسمى نبيا أيضا فإن لم يؤمر بتبليغه فهو نبي فقط، فكل رسول نبي ولا عكس، واختار التعبير بالرسول على التعبير بالنبي لما في الرسول من الخصوصية التي لم تكن في النبي، فالرسول أفضل من النبي اتفاقا وعبر في هذا الكتاب بالنبي لكثرة استعماله، وللإشارة بأنه يستحق الصلاة والسلام بصفة النبوة كما يستحقها بصفة الرسالة، (وأحمدا) عطف بيان للرسول أو بدل منه وهو علم على خاتم النبيين وسيد المرسلين لقوله تعالى: (ومبشر برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) ويسمى محمدا أيضا لقوله تعالى: (محمد رسول الله) وبه اشتهر في أهل الأرض، واشتهر في أهل السماء باسم أحمد، فهو صلى الله عليه وسلم أحد الأربعة الذين لهم اسمان، والثاني إدريس ويسمى أخنوخ، والثالث يعقوب ويسمى إسرائيل ومعناه صفي الله، والرابع عيسى ويسمى المسيح على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وإنما سمي بمحمد لكثرة حمد الناس له لكثرة خصاله المحمودة، كما روي في السير أنه قيل لجده عبد المطلب وقد سماه في سابع ولادته محمدا لم سميت ابنك محمدا وليس من أسماء آبائك ولا قومك، قال: رجوت أن يحمد في السماء والأرض، وقد حقق الله رجاءه كما سبق في علمه، وإنما آثر التعبير باسم أحمد مع ما ذكر في اسم محمد تنبيها على أن الاعتناء بما اعتنى به أهل السماء أهم (قوله أزكى صلاة وسلام) أي صلاة وسلاما زكيين، فأزكى اسم فاعل وهو صفة للصلاة ففيه إضافة الصفة إلى موصوفها، وانتصب أزكى على النيابة عن المصدر، وعنى كون الصلاة والسلام زكيين كونهما كثيرين إذ الزكاة لغة هي الزيادة والنمو، (وأبدا) ظرف لما يستقبل من الزكاة، والمراد به الدوام.
آله وصحبه ما استخرجا فكر من الدليل حكما أبلجا.
صفحة ١١
وآل الرجل عشيرته وآله صلى الله عليه وسلم، في مقام الدعاء كل مؤمن، وفي مقام تحريم الصدقة مؤمنوا بني هاشم وبني المطلب، (والصحب) اسم جمع لصاحب كركب وراكب، والصاحب بمعنى الصحابي هو من لقي النبي بعد البعثة مؤمنا به، وقيل من أطال الصحبة، وقيل مع الرواية عنه، فمن لقيه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، أو لقيه بعدها غير مؤمن به فليس بصحابي اتفاقا، والخلاف فيمن لقيه بعد البعثة وهو مؤمن به إذا لم تطل صبته أو طالت ولم يرو، (وقوله ما استخرجا إلخ) تأكيد للصلاة والسلام بما يناسب المقام، (والاستخراج) هو الاستنباط، (والفكر) حركة النفس في المعقولات، وعرفه بعضهم بأنه ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول، والدليل لغة: المرشد ويطلق على العلامة التي يتوصل بها إلى الشيء، وفي الاصطلاح: هو كل ما يعرف به المدلول حسيا كان أو شرعيا قطعيا كان أو غير قطعي، حتى سمي الحس والعقل والنص والقياس وخبر الواحد وظواهر النصوص كلها أدلة، والدليل والمرجح إن كان قطعيا كان تفسيرا، وإن كان ظنيا كان تأويلا، والحكم في اللغة: المنع والإتقان والفصل، وفي العرف إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا وإدراك وقوع النسبة، أولا: وقوها وهو الحكم النطقي، وفي اصطلاح أصحاب الأصول: أثر خطاب الله المتعلق بأفعال العباد بالاقتضاء والتخيير أو الوضع، وأبلجا اسم فاعل من بلج كتعب ومعناه الواضح مأخوذ من بلج الصبح إذا أسفر والله أعلم.
وبعد فالعلم بفن الفقه ... مندرج تحت أصول الفقه.
صفحة ١٢
(وبعد) الواو إما عاطفة والمعطوف حينئذ قصة على قصة، وإما نائبة عن إما، وإما بمعنى مهما يكن عند سيبويه، والمعنى مهما يكن من شيء بعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسوله فهو كذا وكذا، وبعد نقيض قبل وهي ظرف زمان كثيرا، ومكان قليلا، وقد يؤتى بها والواو التي قبلها أو مع إما للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، أي من غرض إلى آخر فلا تقع بين كلامين متحدين ولا أول الكلام ولا آخره، ويستحب الإتيان بها عند الانتقال، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبه ومكاتباته: أما بعد، وروى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم جمع كثير من الصحابة، وفي أول من تكلم بأما بعد أقوال جمعها فقال:
جرى الخلف أما بعد من كان بادئا بها خمس أقوال وداود أقرب.
وكانت له فصل الخطاب وبعده فقس فسبحان فكعب فيعرب.
صفحة ١٣
(وقوله فاعلم) أي فأقول أن العلم إلخ، فالفاء زائدة لتوهم أما أن قلنا أن الواو في وبعد عاطفة وجواب لأما إن قلنا أن الواو نائبة عنها والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه، ويطلق على الملكة وهي ا لكيفية الحاصلة في النفس من ممارسة القواعد، ويطلق على نفس القواعد وهو حقيقة في الإدراك ومجاز مشهور في الآخرين، أو حقيقة عرفية فيهما، وفن الفقه هو النوع المخصوص من العلوم وسيأتي تعريفه، وفي إضافة الفن إلى الفقه إضافة المسمى إلى اسمه، لأن الفقه اسم للفن المخصوص بما سيأتي ومندرج، أي منطو، وأصول الفقه علم على هذا الفن وسيأتي تعريفه أيضا، والمراد باندراج الفقه تحته هو: أن معرفة الفقه متوقفة على معرفة أصول الفقه فلا يتوصل أحد إلى معرفة الففه حتى يكون عارفا بأصول الفقه، ولذا قال صاحب الإيضاح رحمه ا لله تعالى: من لم يتحكم على الأصول قلما تتحصل عنده الفصول، وقال بعضهم: إنما منعهم من الوصول تضييع الأصول، فلما بطلوا تعطلوا، فإن قيل أن أصول الفقه إنما وضع في القرن الثالث وهو زمان تابعي التابعين، فالصدر الأول من الصحابة والتابعين كانوا أفقه ممن بعدهم فأين ذلك التوقف، (قلنا) إن الذي وضع في القرن الثالث إنما هو اصطلاحات الفن، فإنه كان معلوما للصحابة ومن بعدهم، فهم يقدمون الخاص على العام ويريدون المتشابه إلى المحكم وهكذا، وهذه الكيفية هي نفس أصول الفقه فاندف الإشكال، (نعم) وعلى طريقة الصدر الأول من الصحابة والتابعين قد جرى جل سلفنا من أهل عمان، فتراهم يحكمون بالخاص في موضع الخصوص وبالعام في موضع العموم وبالمطلق في موضع الإطلاق وبالمقيد في موضع التقييد، وهكذا من غير أن يذكروا نفس العبارات التي اصطلح عليها أهل الفن وربما ذكرها بعضهم كابن بركة، لكن لما كان الذكاء القوي والفطنة الواقدة للذين توصلوا بهما إلى وضع الأشياء في مواضعها معدومين في أهل زمانا تعذر عليهم الوصول إلى استنباط الأحكام من أدلتها إلا بعد معرفة اصطلاحات الفن وممارسته وقواعده وضبط علله وقوادحه إجمالا وتفصيلا، وقد رغب عن ذلك كثير من أهل زماننا لجهلهم بما فيه من التحقيق وصعوبة ما فيه من التدقيق، فقصارى متفقهم حفظ أقوال الفقهاء وغاية نباهة أحدهم رواية ما قاله النبهاء، لا يدرون غث الأقوال من ثمينها ولا خفيفها من رزينها، قد حسبوا في التقليد المضيق عن فضاء التحقيق وليتهم لما وقعوا هنالك، عرفوا منزلتهم بذلك ولم يدع أحدهم منزلة ابن عباس ويقول: هلموا أيها الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون ذهب العلم وأهلوه وبقي الجهل وبنوه.
لأنه قواعد منضبطة ... بها معاني أصله مرتبطة.
صفحة ١٤
هذا تعليل لقوله مندرج تحت أصول الفقه، (والقواعد) جمع قاعدة وهي قضية كلية منطبقة على جزئيات موضوعها وتسمى تلك الجزئيات فروعا واستخراجها منها تفريعا، كقولنا كل جماع فرق بينهما وبين الضابط أن القاعدة تجمع فروعا من أبواب شتى، والضابط يجمع فروعا من باب واحد، وقوله (منضبطة)أي محكمة في نفسها لا يتطرق عليها خلل فلا يخرج عنها شيء من جزئياتها إلا بدليل يخرجه عن حكمها، والضبط في اللغة هو الحفظ بحزم، (وقوله بها معاني إلخ) أي مرتبطة معاني أصل الفقه بهذه القواعد التي هي أصول الفقه فيها، متعلق بمرتبطة اسم فاعل من ارتبط المطاوع لربط يقال ربطته إذا شددته بالحبل ونحوه فارتبط أي طاوع لذلك، (والمعاني) هي الصور الذهنية من حيث أنه وضع بأزائها، الألفاظ والصور الحاصلة في العقل، فمن حيث أنها تقصد باللفظ سميت معنى، ومن حيث أنها تحصل من اللفظ في العقل سميت مفهوما، ومن حيث أنها مقول في جواب ما هو سميت ماهية، ومن حيث ثبوتها في الخارج سميت حقيقة، ومن حيث امتيازها الأغيار سميت هوية (انتهى) والضمير من أصله عائد إلى فن الفقه، (والأصل) في اللغة عبارة عن عما يفتقر إلى غيره، وفي الشرع عبارة عما ينبني عليه غيره، والمراد به هاهنا الأدلة الشرعية التي يستنبط منها الحكم ويبنى عليها الفقه، فإن معانيها متوقفة على معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الحكم منها فلا يحل لأحد أن يقضي بكل دليل منها على مدلوله حتى يعرف ناسخ الأدلة من منسوخها ومحكمها من متشابهها وخاصها وعامها ومطلقها من مقيدها وهكذا والله أعلم.
ولم أجد في فنه مع شرفه ... نظما يريك دره من صدفه.
صفحة ١٥
(فنه) أي نوعه، (وشرفه) فضله، (والنظم) في اللغة جمع اللؤلؤ في السلك، وفي الاصطلاح: تأليف الكلمات والجمل مترتبة، وفي اصطلاح أهل العروض: كلام موزون بوزن مخصوص على جهة مخصوصة، وهو المراد في البيت، (والدر) جمع درة وهي اللؤلؤة العظيمة، (والصدف) غشاؤها استعار الدر لقواعد الأصول، ورشح الاستعارة بذكر الصدف بعد أن استعاره للحالة التي صار بها أصول الفقه في حين الخفاء عن أفهام العوام، (والمعنى) أن هذا النوع من المعلوم وهو أصول الفقه مع فضله لم أجد فيه كلاما موزونا يبرز للناظر قواعده التي هي كالدر في حسنها وصفائها واشتهاء النفوس لها من حيز الخفاء الذي هو كالصدف الحاوي على الدرة فلا ترى إلا بعد كشفه، ولا يخفى أن في كلام الناظم نفي الشيء بإيجابه، فإنه لم يجد في هذا الفن نظما أصلا، لا أنه لم يجد نظما على تلك الهيئة المخصوصة فهو على حد قوله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا) والمراد نفي السؤال عنهم لا نفي الإلحاف الذي هو الإلحاح، (واعلم) أني بعدما شرعت في نظم هذه المنظومة سمعت بوجود منظومة في الفن فحرصت على تحصيلها، فوردت علي بعد أن انتهى بي النظم إلى ركن الاستدلال فنظرت فيها متأملا فإذا هي جامعة لمعان مفيدة وقواعد عديدة، أخذت من التطويل حظها قد ركب على مضاجع السهولة لفظها، سماها صاحبها: فائقة الفصول في نظم جوهر الأصول، لكن في بعض أبياتها أشياء تمجها الأسماع وتميل عنها الطباع، فأخذت في إتمام هذه المنظومة لخلوها عن تلك الخصلة المذمومة، ولما انفردت به دونها من الاختصار المفيد ولكونها على قواعد المذهب السديد والله أعلم وبه التوفيق.
وطالما قدمت رجلا طالبا ... نظامه ثم فررت هاربا.
ثم كررت بعد ما فررت ... وبمرادي فيه قد ظفرت.
(طال) بمعنى امتد، (وما) زائدة كافة لطال عن طلب الفاعل، وكذا قل وكثر فتقول قلما وكثر ما، ولا يحتاج الكل إلى فاعل، (وقدمت رجلا) تمثيل لحالة القدوم على الشيء، (وطالبا) بمعنى قاصدا، (والنظام) بمعنى النظم، (وفررت) بمعنى أسرعت الرجوع عن ذلك المطلوب لما رأيت من صعوبته مأخوذ من فر الفرس إذا أوسع الجولان للانعطاف، (وهاربا) حال مؤكدة لعاملها على حد (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، (وكررت) بمعنى رجعت إلى محاولة المطلوب، مأخوذ من كر الفارس إذا انعطف ثم عاد، (وظفرت) أي فزت به، (وحاصل) ما في البيتين أنه مثل حالته في قدومه على هذه النظم بحالة فارس جري الجنان قدم على أمر عظيم فاستعصب القدوم عليه ففر راجعا عنه لما رأى من صعوبته ثم حركته تلك الجراءة، وما تذكر من العواقب المحمودة في الإقدام، فكر بعد فراره فظفر بمطلوبه والكل تمثيل والله أعلم.
صفحة ١٦
فهاكه من منن الرحمن ... نظما حوى جواهر المعاني.
(فهاكه) أي خذه والضمير عائد إلى المراد في قوله وبمرادي فيه قد ظفرت، (والمنن) جمع منة بالكسر وهي النعمة، (ونظما) حال من الضمير المتصل بهاكه، وأما الكاف الذي فيه فهو للخطاب، (وحوى) بمعنى أحاط وجواهر المعاني حقائقها وما ينتفع به منها، (والمعنى) خذ هذا المراد الذي فزت بحصوله بعد إقدام وإحجام حال كونه كلاما موزونا قد انطوى على حقائق المعاني النافعة وذلك من نعم الموصل إلى خلقه أنواع النعم سبحانه وتعالى والله اعلم.
منطويا على طريقة السلف ... منقحا من كل نقد وزيف.
يقال انطوى على الشيء إذا احتوى عليه، (وطرقة السلف) هو مذهبهم الذي درجوا عليهم، وسلفك هو كل من تقمك من آبائك وقرابتك والمراد هاهنا أئمة الدين ومعنى (منقحا) مصفى، (والنقد) هو محل النظر في الشيء، مأخوذ من انتقد الدراهم إذا نظر إليها ليعرف جيدها من رديها، (والزيف) من الدراهم رديها والمراد به هاهنا المعنى الردي الذي لا يقبله أهل الفن شبهه الزيف من الدراهم بجامع الرد في كل منهما ثم استعار له اسمه ورشح الاستعارة بذكر النقد، (والمعنى) خذ هذا المراد الذي ظفرت به حال كونه نظما حاويا لحقائق المعاني ومنطويا على مذهب الأئمة، ومصفي من المواضع التي للأصوليين فيها النظر بالانتقاد، ومن الأشياء التي لا يقبلونها لرداءتها والله أعلم.
وقد رجوت الله أن يجعله وباقي أعمالي خالصا له.
صفحة ١٧
(الرجاء) في اللغة: الأمل، وفي الاصطلاح: تعلق القلب بحصول محبوب في المستقبل، والفرق بينه وبين الطمع أن الرجاء يكون بعد الأخذ في الأسباب، والمع أمل بلا سبب، أما قوله تعلى حكاية عن الخليل صلوات الله عليه: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) ففيه إطلاق الطمع على الرجاء تجوزا، وذلك أن الخليل عليه السلام قطع النظر عن حصول الأسباب الصادرة منه وجعل أمله الذي يؤمله أملا بلا تقدم سبب منه، (وقوله أن يجعله) أي يصيره، المراد (بباقي أعمالي) وهو ماعدا هذا النظم من أعماله الصالحة، (ومعنى خالصا له) خاليا من القصد به إلى غير رضاه، (والمعنى) أرجو من الله وتعالى أن يصير هذا النظم مع سائر أعمالي الصالحات خاليا من القصد به إلى غير رضاه، حقق الله رجاءه وأعطاه مناه إنه ولي كريم، وفي ذكر باقي براعة حسن الاختتام، وفي ذكر خالصا براعة حسن التخلص، فأما البراعة الأولى فمشعرة بتمام الخطبة، وأن هذا البيت هو باقي أبياتها، وأما البراعة الثانية ففيها الإشارة إلى الانتقال من الخطبة إلى المقصود، (مقدمة) نذكر فيها حد أصول الفقه وموضوعه وغايته فهي مقدمة للفن، أما مقدمة الكتاب فهي التي يذكر فيها أشياء يتوقف الفن عليها وأشياء لا يتوقف عليها، كمقدمة مختصر العدل للبدر الشماخي رحمه الله تعالى، (اعلم) أن لكل فن حدا يتصوره به طالبه وموضوعا يمتاز به عن سائر الفنون، وغاية وهي الثمرة التي يطلب لأجلها، (فأما) حد أصول الفقه فأشار إلى بيانه فقال:
حد أصول الفقه علم يقتدر على استنباط أحكام السور.
وسنة الرسول والإجماع كذلك القياس مع نزاع.
ومذهب الجمهور أهل العلم أن القياس مثبت للحكم.
وهو الصحيح لورود النص منبها عليه أو مستقصي.
صفحة ١٨
(اعلم) أن لأصول الفقه اعتبارين أحدهما علمي، والآخر إضافي وله بكل اعتبار تعريف، فأما تعريفه بالاعتبار الإضافي فسيأتي، وأما تعريفه بالاعتبار العلمي فهو ما ذكره المصنف بقوله: (حد أصول الفقه إلخ) وحاصله أن أصول الفقه في الاصطلاح: علم يقتدر به على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، فالمراد (بالعلم) هاهنا القواعد وهي أدلة الفقه الإجمالية كقولنا الخاص يفيد القطع في مدلوله، والعام يفيد الظن في مدلوله، والأمر للوجوب، والنهي للتحريم، وهكذا فخرج بذلك الأدلة التفصيلية نحو: أقيموا الصلاة، ولا تقروا الزنا، فإن هذه الأدلة أعني التفصيلية لا تسمى في الاصطلاح أصول الفقه، وإطلاق العلم على القواعد مجاز مشهور لا بأس بذكره في التعريف بل صرح بعضهم بأنه حقيقة شك البدر في كونه مجازا مشهورا، أو حقيقة عرفية، وعلى كل حال فلا بأس في أخذه في التعريف، ولما كان العلم بمعنى القواعد شاملا لكثير من الفنون احتيج إلى أن يميز العلم المطلوب بفصل لا يشاركه فيه غيره فقال: (يقتدر به على استنباط أحكام السور) إلخ، وهو معنى قولهم علم يقتدر به على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها فخرجت العلوم التي لا يقتدر بها على ذلك والمراد (بالأحكام الشرعية) هي الأحكام التكليفية، كالوجوب والندب والتحريم والكراهية والإباحة، وثمراتها كالصحة والفساد، والأحكام الوضعية كالرنية والعلية والشرطية، (والمراد) بأدلتها هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال، فأما الكتاب والسنة والإجماع فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنها تفيد الأحكام الشرعية إما قطعا وإما ظنا، إلا من شد من بعض مخالفينا في إنكار الإجماع أو إنكار حجيته على سيأتي بيانه في محله، وأما القياس والاستدلال فقد اختلف في ثبوت الحكم الشرعي بهما، اعلم أن الناس اختلفوا في ثبوت التعبد بالقياس على مذاهب الأصح منها ما عليه الجمهور من العلماء أن القياس الصحيح مثبت للحكم الشرعي فيما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة، فالقياس على هذا أحد أدلة الشرع، والدليل على أنه أحد أدلة الشرع وأنه مثبت للحكم الشرعي ما ورد من النص عنه صلى الله عليه وسلم في الإشارة إلى قياس شيء مجهول الحكم على معلوم الحكم، وذلك كما في حديث الخثعمية وقد سألته صلى الله عليه وسلم عن حجها عن أبيها فقال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ذلك مجزيا عنه فقد أشار صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى قياس دين الله تعالى على دين العباد، وذلك لما كان دين العباد عند المخاطب معلوم الحكم في هذه القضية، ودين الله غير معلوم الحكم في هذه القضية عند المخاطب، فأشار إليها بأن حكم الدينين واحد لاشتراكها في علة الحكم والله أعلم، ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن قبلة الصائم هل تفسد الصوم، أرأيت لو تمضمضت بالماء ثم مججته أكان ذلك مفسدا للصوم، فقد أشار صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى قياس قبلة الصائم لزوجته على تمضمضه بالماء، ومن ذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام، وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر، أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا، في هذا الحديث الإشارة إلى أن العلة المانعة من بيع الرطب بالتمر إنما هي نقصان الرطب إذا جف فتحصل الزيادة في التمر، فيحمل على الرطب كلما كان مثله قياسا أخذا من إشارة الحديث إلى ذلك، والظاهر من هذا الحديث أن الزيادة في أحد الجنسين المبيعين مطلقا من الربا وهو مذهب قومنا، أما أصحابنا فلا يرون ذلك من الربا، إذا كان ذلك يدا بيد، ولعلهم يقيدون إطلاق هذا الحديث بإشارة قوله تعالى: (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم إلى قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ففي هذه الآية الإشارة إلى أن الربا في النسيئة وبيان ذلك أنه لو لم يكن الربا في النسيئة لما احتيج إلى بيان حكم المفسر ببيع الربا وبقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الربا في النسيئة) والمسألة اجتهادية أشار إلى ذلك صاحب الإيضاح رحمه الله تعالى، وإن شدد فيها الإمام الكدمي رضوان الله عليه حتى عدها من أصولهم الفاسدة والله أعلم، فهذه الأحاديث كلها دالة على ثبوت الحكم بالقياس فيكون القياس بها دليلا شرعيا على أن الإجماع من الصحابة ورد في ثبوت القياس، وذلك أن الصحابة ما بين قائس وساكت، والساكت لا يسكت في مثل هذا الموضع إلا عن رضى، لأن القياس إذا لم يكن ثابتا بالشرع فإحداثه بدعة بها زيادة حكم شرعي والسكوت عن تغيير مثلها من غير تقية حرام قطعا، وما هنالك تقية فقطعنا أن السكوت عن الإنكار رضى فثبت المدعي والله أعلم، ولما فرغ من بيان حد أصول الفقه بالاعتبار العلمي شرع في بيان تعريفه بالمعنى الإضافي فقال:
فالأصل ما عليه غيره ابتنى ... وأصل وضعه لحسي البنا.
ونقلوه للدليل الواضح ... واستعملوه في المقال الراجح.
والفقه وضعا فهم ما به خفا ... واستعملوه علما وعرفا.
فقيل علم النفس ما لها وما ... يلزمها فعلا وتركا فاعلما.
فالعلم بالأخلاق والتوحيد ... قد خرجا عنه بذا التقييد.
صفحة ٢١
أصول الفقه من حيث المعنى الإضافي مركب من كلمتين أصول والثانية الفقه، فأما الأصول فهو جمع أصل، وهو في اللغة ما يبتني عليه غيره وأصله في المحسوسات، كأصل الجدار بمعنى أساسه، وأصل الشجرة أي جدارها، ثم نقل في الاصطلاح إلى الأدلة التي تبنى عليها الأحكام، كما يقال أن الأصل في كذا قوله تعالى أو قوله صلى الله عليه وسلم كذا، ويطلق الأصل أيضا على أصل القياس كما تقول أصل وفرع، وعلى مذهب العالم في بعض القواعد فإنهم يقولون أن فلانا بنى على أصله في مسألة كذا، أي على مذهبه فيها، وعلى ما يكون أصلا من أصول الشريعة، كالصلاة والزكاة فإنه يسمى أصلا في الاصطلاح، وكل هذه المعاني مشبهة بالمعنى اللغوي، (وأما الفقه) فهو في اللغة فهم الخطاب الذي فيه غموض، تقول فقهت معنى قولك زيد بليغ ولا تقول فقهت معنى قولك زيد بن عمرو، وذلك أن في الاتصاف بالبلاغة شروطا خفيفة، فصح أن يقال معها فقهت ذلك، ثم نقل من هذا المعنى واستعملوه علما على نوع مخصوص من العلم وعرفوا ذلك النوع بأنه علم النفس ما لها وما عليها فعلا وتركا فالمراد بالعلم هاهنا الملكة من ممارسة القواعد حتى صار المتصف بها متمكنا من معرفة ما للعبد وما عليه فعلا وتركا مستحضر الحكمة في الحال أو غافلا عنه، لكن إذا وردت عليه من ذلك الباب مسألة تمكن الجواب عنها، وصاحب هذه الصفة يسمى فقيها فيخرج بذلك من يعرف الأحكام بالتلقين ومن كان مقلدا لغيره، والمراد بقوله مالها هو ما أبيح ما أبيح لها فعلا، أو ندبت إلى فعله أو إلى تركه، والمراد بقوله ما عليها فعلا وتركا هو ما يلزمها فعله من نحو الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج إلى غير ذلك من الأفعال الواجبة وما يلزمها من تركه، من نحو أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر إلى غير ذلك مما يجب على العبد تركه وحاصله، إن الفقه هو العلم بأحكام فعل العبد عملا وتركا وإباحة ووجوبا، فيخرج العلم بالأحكام العلمية، كمسائل التوحيد، وهو علم يبحث فيه عن صفات الله تعالى الواجبة والجائزة في حقه والمستحيلة عليه، وعن أفعاله تعالى في الدنيا، كخلق العالم وفنائه وفي الآخرة كبعث الأجسام وتأبيد المكلف فيها، وعن حكمه فيها، كبعث الرسل وإنزال الكتب ومثوبة الطائع وعقوبة العاصي، ويخرج عنه أيضا العلم بالأخلاق، وهو علم يبحث فيه عن صفات العبد المحمود منها، كالإخلاص، والمذموم كالرياء، (فقول المصنف قد خرجا عنه بذا التقييد) أي علم التوحيد وعلم الأخلاق خرجا عن حد الفقه، حيث كان علما بحكم فعل العبد، وهذان العلمان كل منهما علم بغير حكم فعله، أما التوحيد فعلم بما ذكر من صفات الله تعالى وأفعاله، وقد كلفنا بعلم ما قامت به الحجة علينا من ذلك، فهو علم بحكم اعتقادنا، وأما العلم بالأخلاق فهو علم بما ذكر من صفات العبد، وقد أمرنا بالتحلي بالمحمود منها وبالتخلي عن المذموم منها، فهو علم بحكم صفات في العبد هي غير فعله، أما ما ترى من العلامات الظاهرة على المرائي والمتكبر والمعجب بنفسه، فهي ثمرات الصفات التي يبحث عنها علم الأخلاق لا نفس الصفات، والعلم بحكم هذه الثمرات داخل في الفقه، لأنهما أفعال، وهذا التعريف الذي ذكره المصنف مأخوذ من تعريف بعضهم الفقه بأنه معرفة النفس ما لها وما عليها عملا، وعرف غيره الفقه بأنه العلم الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، وعرفه بعضهم بغير ذلك، وقد أوردت على تعاريفهم هذه إيرادات وأجيب عنها بأجوبة نعرض عن ذكرها اختصارا والله أعلم، ثم إنه لما ذكر أصول الفقه باعتباريه العلمي والإضافي شرع في بيان موضوع أصول الفقه فقال:
وبحثه حيث الدليل أثبتا ... حكما وحيث الحكم منه ثبتا.
صفحة ٢٣
أي محل بحث أصول الفقه، بمعنى موضوعه هو الأدلة الشرعية من حيث إثباتها الأحكام الشرعية، والأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة الشرعية، فالدليل في قول المصنف إنما هو الدليل الشرعي، وال فيه للعهد الذهني، وكذا القول في الحكم، ولا بد من مراعاة حيثيته، إثبات الدليل للحكم وحيثية ثبوت الحكم من الدليل لأن البحث في هذا الفن إنما هو في أحوال الأدلة التي يثبت بها الحكم، وفي أحوال الأحكام التي تثبت بالأدلة لا في نفس الأدلة والأحكام كما هو ظاهر كلام صاحب الأحكام، حيث جعل موضوع أصول الفقه الأدلة والأحكام، ولا الأدلة نفسها كما هو ظاهر كلام بعضهم، حيث جعل موضوع أصول الفقه الأدلة الكلية السمعية، أما صاحب الأحكام فقد فاته قيد حيثيته الإثبات والثبوت، ولابد من اعتبارها لما علمت، وأما الآخر فقد فاته مع تلك الحيثية الركن الآخر من موضوع أصول الفقه، وهو أحوال الأحكام الشرعية، وأدخل في موضوع الأصول ما ليس منه وهو بعض الأدلة الإجمالية الكلية السمعية، فإن بعض الأدلة الإجمالية الكلية السمعية داخل في موضوع أصول الفقه لا جميعها، وذلك الداخل هو الأدلة هو الأدلة الشرعية، وبقيت أدلة سمعية غير شرعية كأدلة العربية في جميع فنونها، وإذا ظهر لك أن موضوع أصول الفقه هو ما ذكرناه من أنه الأدلة الشرعية من حيث إثباتها الأحكام الشرعية، والأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة الشرعية، فاعلم أنا قد وضعنا كتابنا هذا على قسمين، كل قسم منهما في ركن من أركان الموضوع، القسم الأول: الأدلة الشرعية باعتبار حيثية الإثبات، والقسم الثاني: في الحكام الشرعية باعتبار حيثية الثبوت أيضا، ولما كان بعض الأمور يتوقف عليها معرفة الفن، وبعضها يتوقف عليها معرفة الإثبات والثبوت، وضعنا للأول هذه المقدمة، ووضعنا للثاني خاتمة الكتاب، ولما كان كل مطلوب إنما يطلب لحصول فائدته، وهي غايته التي ينتهي الطالب إليها علمنا أنه لا بد من بيان فائدة هذا الفن ترغيبا للطالب فلذلك قلنا:
ومنتهاه من له قد علما ... يعرف حكم الله فيما حكما.
فينتهي إلى سعادة الأبد ... إلى مقام ليس بعده أمد.
صفحة ٢٤
أي غاية أصول الفقه التي ينتهي إليها العارف به هي أن من عرفه وأتقن قواعده، عرف حكم الله تعالى الذي حكم به على العباد من وجوب وندب وحظر وكراهية وإباحة، ويعرف محل كل واحد من هذه الخمسة، فيؤدي الواجب كما أمر، به ويسارع إلى المندوب حسب إمكانه، ويجتنب المحرم والمكروه، ويأتي ما احتاج إليه من المباحات ويرشد إلى ذلك من أمكنه إرشاد، فينتهي بذلك إلى سعادة الأبد وهي السعادة الأخروية، والمراد بها الفوز بنعيم ا لجنة المرتب على مغفرة الله تعالى، وفوق ذلك رضوان من الله أكبر، وهذا المقام مقام ليس بعه غاية لطالب الهداية، وبما ذكرته هاهنا من فائدة أصول الفقه، يظهر لك أشرفيته على غيره وأفضليته على ما عداه، أما الكلام فإنه وإن كان أفضل العلوم بلا خلاف، لأنه إنما يبحث عن صفات الله تعالى، وشرف العلم إنما هو بشرف الموضوع، فأفضليته على سائر الفنون إنما هي فضيلة باعتبار ما ذكر، وهذا أفضليته باعتبارات كثيرة، وكثير من العلوم كعلم العربية والنحو والصرف إنما هي طرق إلى معرفة هذا الفن، فنسبته إليها بهذا الاعتبار إنما هي كنسبة الثمر إلى الشجرة، لأنها إنما تطلب لأجله كما أن الشجرة إنما تغرس لأجل ثمرتها ولربما لم يحصل منها المطلوب فتجذ من أصلها، وأما نسبته إلى غير تلك الفنون كالمنطق والهندسة والحساب فهو أنه مباين لها ويستمد من ثلاثة فنون وهي: علم الكلام وعلم العربية وعلم الأحكام، أم الكلام فلتوقف الأدلة الكلية الشرعية على معرفة الباري تعالى وصدق المبلغ وذلك يتوقف على دلالة المعجزة، وأما العربية فلأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية، وأما الأحكام فالمراد تصورها ليمكن إثباتها ونفيها وإلا لزم الدور؟؟؟ (وحكم الله) تعالى فيه أن يندب تعلمه وتعليمه لدخوله تحت حديث (ما تصدق الناس من صدقة علم ينشر) وتحت حديث (وأجودكم بعدي رجل علم علما فنشر علمه يبعث يوم القيامة أمة وحده) وبتوقف معرفة أحكام الله تعالى عليه يزداد دينه وأفضليته، ولما ربما كان فرض كفاية فإنه يجب على كل أهل ناحية من الأرض أن يكون فيهم من يعلمهم أمر دينهم ويرجعون إليه في حل مشكلاتهم، ولا يكون بهذه الصفة إلا عالما بهذا الفن، ولا يشترط في كونه عالما به أن يكون عالما باصطلاحاته الجديدة وإنما يكفي في كونه عالما به أن يكون ذا ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام من أدلتها سواء عرف اسم ذلك الدليل أنه عام مثلا أم لم يعرفه، إذا كانت ملكته قوية على وضع الأدلة مواضعها وترجيح الراجح منها عند التعارض، (وقيل) أن أول من مهد قواعده على هذه الجهة المخصوصة الشافعي، كذا في حصول المأمول وغيره، وقد عرفت مما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين كانوا عالمين بكيفية الاستنباط، فيكون الواضع إنما مهد القواعد التي كانت معلومة عندهم فخيف عليها التشتت فضبطها الواضع بذلك التمهيد صونا لها من ذلك المحذور، (ومثال ذلك) أن العرب كانوا عالمين بوضع عربيتهم في مواضعها فلا يتطرق أحد من قبلها لحن إلا عابه عليه كثيرون، فلما ظهر الإسلام اختلط العرب بالعجم لما جعل الله من الألفة الإسلامية بينهم، فخيف على العربية أن تتلاشى بسبب ذلك، فوضع على بن أبي طالب بعض قواعدها ودفعه إلى الأسود الدؤلي وقال له انح هذا النحو، فوضع أبو الأسود علم النحو ضبطا للغة العرب، فكذلك فن الأصول والله أعلم.
{القسم الأول من الكتاب في الأدلة الشرعية وفيه خمسة أركان } لأن الأدلة الشرعية خمسة (أحدهما) الكتاب (ثانيها) السنة (ثالثها) الإجماع، (رابعها) القياس، (خامسها) الاستدلال وإن أنكر بعضهم كونه من الأدلة الشرعية فهو منها في غالب أنواعه، وإن كان بعضها ليس بدليل أصلا كما ستعرفه إن شاء الله تعالى، فوضع المصنف لكل واحد من هذه الأدلة ركنا يبحث فيه عن أحواله الخاصة به والمشتركة بينه وبين ما عداه، لما كان الكتاب هو الركن الأعظم في هذا الباب وأن مباحثه داخلة في غالب الفن وجب أن نقدمه على سائر الأركان فلذلك قلنا:
{ الركن الأول في مباحث الكتاب }
صفحة ٢٦
أما المباحث فهي جمع مبحث وهو محل البحث ويفسر بالقضايا إذ هي محل البحث الذي هو إثبات المحمول للموضوع، فمعنى مباحث: أدلة الفقه، القضايا المشتملة على إثبات أحوال أدلة الفقه لتلك الأدلة، وأما الكتاب فهو القرآن العظيم، وأصل الكتاب إنما هو اسم لكل مكتوب ثم نقل في عرف أهل الشرع إلى كتاب الله تعالى وغلب إطلاقه عليه فيما بينهم، كما غلب إطلاق الكتاب عند النحاة على كتاب سيبويه، وأصل القرآن مصدر قرأ الشيء إذا جمعه، ثم نقل إلى المجموع المعين من كلام الله تعالى، ولما كان القرآن أكثر استعمالا في كلام الله من الكتاب وأشهر إطلاقا وأكثر تداولا عرفوا الكتاب به فهو من التعريف اللفظي، وعرفوه بما يميزه في خاصة نفسه بأمور ذكر منها المصنف أشياء حيث قال:
أما الكتاب فهو نظم نزلا ... على نبينا وعنه نقلا.
تواترا وكان في إنزاله ... إعجاز من ناواه في أحواله.
صفحة ٢٧
عرف الكتاب والمراد به كتاب الله تعالى بأنه النظم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المنقول عنه تواترا، والحال أن (في إنزاله) إعجاز من أراد معارضته في شيء من أحواله، من نحو بلاغته الباهرة وتراكيبه الظاهرة وبراهينه القاهرة، فالمراد هو الكلام المؤلف وآثر التعبير به عن اللفظ لما في أصل النظم من الحسن ولما في أصل اللفظ معنى الطرح، وهو أي النظم جنس يشمل القرآن وغيره من كل كلام مؤلف، وما بعده فصل مخرج لغير الكتاب من هذا التعريف، فخرج بالمنزل على نبينا الأحاديث الغير المنزلة عليه صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تنزل نظما هكذا، وإنما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم معانيها، والكتب المنزلة على غيره صلى الله عليه وسلم كالتوراة والإنجيل، وخرج بالمنقول عنه تواترا، منسوخ التلاوة وما نقل عنه صلى الله عليه وسلم آحاد، فإنه ليس بقرآن ولا يعطى له حكم القرآن، وخرج بالقيد الأخير وهو الإعجاز الأحاديث الربانية على فرض نقلها تواترا، (واعلم) أن غرض الأصوليين من الكتاب إنما هو متعلق بالآية منه والآيتين وبالحرف الواحد ونحو ذلك لأن غرضهم منه هو إنما استنباط الحكم الشرعي من الدليل، ويكون ذلك الدليل آية ويكون حرفا، فهم يطلقون اسم الكتاب على المجموع من كتاب الله تعالى وعلى الآية وعلى الحرف منه، فاحتاجوا لتعريف منطبق على غرض الأصوليين فجمع بعضهم الإعجاز والإنزال على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والكتبة في المصاحف والنقل بالتواتر، واعتبر بعضهم الإنزال والإعجاز، لأن الكتابة والنقل ليس من اللوازم لتحقيق القرآن بدونهما في زمن النبي عليه السلام، واعتبر بعضهم الكتابة والإنزال والنقل، لأن المقصود تعريف القرآن لمن لم يشاهد الوحي ولم يدرك زمن النبوة وهم إنما يعرفونه بالنقل والكتابة في المصاحف ولا ينفك عنهما في زمانهم، فهما بالنسبة إليهم من بين اللوازم البينة وأوضحها دلالة على المقصود، ولما ألزم بعضهم الدور في تعريف الكتاب بالكتابة في المصاحف عدل المصنف عن ذكرها في تعريفه، فبقي تعريفه خاليا من الاعتراض، جامعا لصفات القرآن المختصة به الحاصلة في جميعه وفي بعضه، فحصل المقصود من ذلك، وهنا تنبيهات، (الأول) أن العادة قضت بتواتر القرآن جملة وتفصيلا، وقد أجمعت المحمدية على أن نقله كذلك تواترا، فالزائد فيه ما ليس منه، والناقص منه ما هو منه كافر لتضمنه تكذيب النبي فيما جاء به، حيث أخبر أن هذا من القرآن والنبي يقول بخلاف ذلك وأن هذا ليس من القرآن، والنبي يقول منه على أن القرآن محفوظ من الزيادة والنقصان لقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والمراد بالحفظ إنما هو الحفظ عن الزيادة فيه والنقصان منه، إذ لا يعقل للحفظ في العربية إلا معنيان (أحدهما) حفظه من التفويت بالنسيان، (وثانيهما) حفظه من الزيادة فيه والنقصان ولا يصح أن يكون المعنى الأول هو المراد من الآية، لأن القرآن غير محفوظ عنه ضرورة فتعين إرادة المعنى الثاني، لكن قد يمنع من الحكم بالاكفار على من زاد أو نقص فيه قوة شبهة الزائد أو الناقص، ومن هنا لم تكفر كل واحدة من الطائفتين الحنفية والشافعية الأخرى حيث أنكرت الحنفية أن تكون البسملة آية من كل سورة من القرآن، وأثبت ذلك الشافعية، والحق معنا معشر الإباضية أنها آية من كل سورة كتبت في أولها، لأنها من جملة الآيات المنقولة بالتواتر المكتوبة في المصاحف، (قال) صاحب المنهاج (فإن قلت) وكيف يحكم على بكفر من زاد في القرآن غير ما تواتر منه وأنكر كون بعض المتواتر قرآنا، وقد وردت الزيادة عن ابن مسعود في آية الكفارة، وروي عنه أن المعوذتين ليستا قرآنا وإنما هما معوذتان أنزلتا، وعن غيره أن الفاتحة ليست من القرآن، وعن حفصة أنه كان من القرآن (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) وعن ابن عمر أنه كان من القرآن (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) والظاهر من روى عنه ذلك كان يعتقد صحة ذلك ولم يسمع من أحد العلماء أكفار هؤلاء من الصحابة، فكيف قطعت بكفر من زاد ونقص، وهؤلاء زادوا ونقصوا ولم يكفروا، (قلت لا شك أن هذه لروايات عنهم أحادية وقد قطع بعض العلماء بإكذابها، وبعضهم تأولها وهي محتملة للتأويل، فكيف يحسن القطع بإكفار من رويت عنه مع ذلك، (التنبيه الثاني) قال ابن الحاجب وغيره: أن القراآت السبع متواترة قطعا، وقال آخرون بتواتر العشر أيضا واستثنوا من ذلك ما كان من قبيل الآداء كالمد والإمالة وتحقيق الهمزة وكالرفع والنصب والخفض والجزم، (قالوا) فإن هذه الأمور ونحوها يجوز أن تكون غير متواترة، أي لأنه لا يلزم من كونها آحادية عدم تواتر القرآن، (قال) صاحب المنهاج لكن الأقرب أنها في السبع والعشر متواترة لأنا إذا علمنا تواتر الألفاظ التي نقولها على التفصيل لزم تواتر كيفية تأديتهم تلك الألفاظ، لأن الحركات ونحوها بمنزلة الهيئات للألفاظ فلا يصح تواتر الألفاظ دون الهيئات ما لم يحصل من الناقل أمارة تقتضي أنه متيقن للفظ دون هيئته والله أعلم انتهى، (وأقول) أنه لا يلزم من تواتر اللفظ تواتر كيفية أدائه لجواز أن يحفظ بعض الناقلين اللفظ دون هيئة الأداء، وإذا احتمل وجود هذا المعنى في أحد من الناقلين احتمل وجوده في جميعهم فما لم يبين الناقل اللفظ وكيفية الأداء، فالمنقول المتحقق إنما هو اللفظ وكيفية الأداء أمر مظنون والله أعلم، وقال الزمخشري وغيره أن القراآت كلها أحادية (ورد) هذا القول بما حاصله أنه يلزم على جعل القراآت أحادية، أن يكون بعض القرآن أحاديا وهو باطل، لاقتضاء العادة وجوب التواتر في تفاصيل مثله، (وبيان ذلك) أنه يلزم في نحو قوله تعالى: (ملك ومالك يوم الدين) ونحو قوله تعالى: (فأبوا أن يضيفوهما) بتشديد الياء وتخفيفها إما أن يكون كلا القراءتين متواتر وهو المطلوب، وإما أن يكون كلاهما أحدهما متواتر دون الآخر، فالمتواتر منهما هو القرآن، وإما أن يكون كلاهما غير متواتر فليزم المحذور وهو كون بعض القرآن أحاديا (التنبيه الثالث) أجمع المسلمون أن من الأدلة السمعية ما هو قطعي الدلالة كالمحكم الذي لا يحتمل تأويلا ولا تخصيصا، ومنهما ما هو ظني الدلالة كالعام وخبر الآحاد ونحو ذلك، ثم نقض الفخر الرازي هذا الإجماع وزعم أنه ليس من الأدلة السمعية ما هو قطعي الدلالة، واحتج لذلك بأن هذه الأدلة للفظية متوقفة على معرفة على معرفة اللغة والنحو ورواية كل واحد من هذه الأشياء إنما هي رواية آحاد فلا تفيد إلا ظنا، والمتوقف على الظني أولى أن يكون ظنيا وهذا الزعم باطل، فأما أولا فأنا لا نسلم أن جميع ألفاظ الأدلة السمعية متوقفة على معرفة ما ذكره وإنما المتوقف على ذلك بعض ألفاظ الأدلة، وأما البعض الآخر فإنه إنما يعرف معناه بنفس سماع خطابه الخاص والعام، وأما ثانيا: فأنا لا نسلم أن رواية اللغة والنحو والصرف جميعها أحادية، بل نقول أن رواية كثير منها متواتر وذلك كالألفاظ التي لا تقبل التشكيك كالسماء والأرض والماء والنار ونحو ذلك، وأما ثالثا: فأن نقلة تلك العلوم عدد كثير لا يمكن تواطؤ مثلهم على الكذب عادة، فإذا اتفقت روايتهم في شيء من المواضع وجب أن يعطى ذلك الشيء حكم المتواتر، وقد اتفقت رواياتهم في كثير من ألفاظ القرآن، فلا يتم للفخر مطلوبه والله أعلم، ثم أن المصنف بعد ما ذكر أن المنقول بالتواتر على تلك الصفة المخصوصة هو القرآن شرع في بيان حكم المنقول بلا تواتر فقال:
فكل منقول بلا تواتر ... لم يعط حكمه بلا تناكر.
صفحة ٣٠
وإن يكن عملنا بما ندر ... من القراءات جوازه اشتهر .
فذاك مثل خبر الآحاد ... لأنه عن النبي الهادي.
صفحة ٣١
أي فكل منقول عنه صلى الله عليه وسلم نقلا لم يبلغ حد التواتر ولم يعط حكم ما نقل بالتواتر، فلا يسمى قرآنا ولا تثبت له أحكام القرآنية، من جواز قراءته في الصلاة وحرمة مس الجنب له ونحو ذلك، بلا خلاف بين المسلمين في ذلك، لكن يجب علينا العمل بالمنقول للغير المتواتر في المواضع التي لم يعارض فيها المتواتر، يوجب العمل دون العلم، فيجوز لنا العمل بالشاذ من القراءات بل يجب علينا ذلك في مواضع، وجواز عملنا بالشاذ من القراءات لا يستلزم أن يعطي لغير المتواتر حكم المتواتر، لأنا إنما ننزل الشاذ من القراءات منزلة خبر الآحاد، لأن كلا منهما مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكما أن خبر الآحاد يوجب عندنا العمل ولا يلزم أن يعطى له حكم المتواتر، فكذلك الشاذ من القراءات، وقال عطاء ومالك والشافعي والمحاملي وابن الحاجب: لا يجوز العمل بالشاذ من القراءات بخلاف خبر الآحاد (مثل ذلك) قراء ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات، (قلنا) أن العدالة توجب القبول فيتعين أن يكون المنقول خبر آحاد وقرآنا وإلا لزم تكذيب الناقل ولا قائل بكذب ابن مسعود، (قالوا) بجواز أن يكون مذهبا (قلنا) فيلزم إلا كفار وهو أعظم (قالوا) يصير خبرا مقطوعا بخطئه إذ روايته قرآنا خطأ فلا يعمل به (قلنا) مهما لم نظنه مكذوبا، وجب العمل بمقتضاه وإن أخطأ الناقل بوصفه بالقرآنية، (واعلم) أن الشاذ من القراءات ما هو وراء السبعة، وقال البغوي هو ما وراء العشرة فالسبعة هم نافع وأبو عمرو والكسائي وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة فهؤلاء السبعة، وأما الثلاثة الذين زادهم البغوي، فقال صاحب المنهاج هم: أبو يعقوب الخضري وأبو جعفر الطبري وأبي ابن خلف الجمحي، واعترضه غيره بأن القارئ المشهور الذي هو أحد العشرة هو أبو محمد بن هشام البزاز، قال وأما أبي بن خلف فهو الذي قتله محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد، (قال) صاحب المنهاج وكذلك عد بعض الناس من المتواتر قراءة ابن المرزبان خلف بن أحمد وقراءة هبة الله بن أحمد الطبري انتهى، (واعلم) أن اللفظ الدال على المعنى اعتبارات أربعة، الاعتبار الأول: من جهة وضع اللغة، الاعتبار الثاني: من حيث فهم المعنى منه ظهورا وخفاء، وذلك كالمجمل والمبين والمتشابه والمحكم، الاعتبار الثالث: من حيث استعمال اللفظ فيما وضع له وفي غير ما وضع له، وذلك الحقيقة والمجاز، الاعتبار الرابع: من حيث أخذ الحكم منه، وذلك هو الدال بعبارته والدال بإشارته والدال باقتضائه والدال بدلالته، لما كان الاعتبار الأول وهو الاعتبار الوضعي مشتملا على الخاص والعام والجمع المنكر والمشترك، وكان الخاص أخص الأربعة وضعا وأوضحها بيانا وأتمها فائدة وأقواها برهانا، قدم مبحثه على سائر مباحث هذا النوع فقال:
مبحث الخاص وأحكامه.
الخاص ما دل لمعنى مفرد ... كرجل ومائة في العدد.
ونحو زيد علما عيني ... ونحو إنسان وذا نوعي.
صفحة ٣٢