ومن معجز نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم القرآن ، الذي لم تأت العرب بمثله حين تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، مع فصاحتهم وشدة معارضتهم له، وتكذيبهم واستخفافهم بحقه، فاستمر له ذلك مع كراهة العرب لما دعاهم إليه، وحدة شوكتهم، وكثرة عددهم، وامتناعهم في مملكتهم، فلم يمنعه ذلك من تكرير القول عليهم، وفيهم الفصاحة والبلاغة وكانوا يتفاخرون بها ويرونها من أشرف المناقب، وأفخم المآثر، فكفوا عن معارضته، وأمسكوا عن مجاوبته عجزا، وكانوا حراصا على توهين أمره، وإطفاء نوره، وتكذيبه في دعواه، ولم يمكنهم أن يأتوا بسورة على فحواه؛ لأن ذلك كان أيسر عليهم من القتال، وسفك الدماء وأخذ الأموال، فتعذر الإتيان بمثل القرآن على كافة العرب، فوجب بهذا أن القرآن ليس منه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا من إبداعه ، لأنه كان رجلا من العرب يتكلم بلغتهم، ولايجوز أن يتكلم رجل بلغة أهل إقليم بما يبلغ ألف ورقة أو أقل من ذلك، ثم يعجز أهل الإقليم عن معارضته بقدر ورقة واحدة، وإنما يظهر فضل الفاضل بالجمل دون التفاصيل، ألاترى أن من ليس في درجة امرء القيس والنابغة في الشعر، ولا في درجة قس بن ساعدة ، ولاسحبان بن وائل في الفصاحة قد يتأتى منه فصول تشبه كلام هؤلاء، ويلتبس على السامعين من العلماء حاله، حتى يظن أنه من كلامهم.
فثبت أن القرآن في نفسه آية معجزة، ودلالة غالبه قاهرة، وأن العرب عجزت عنه؛ لأن في القرآن من الفصاحة مالايتأتى من البشر بلوغها، وأن الله تعالى صرف هممهم عن المعارضة، وقهر طبائعهم ولزم دواعيهم عنه، فهو دلالة كافية، ومعجزة شافية، ولهذا قال الله تعالى: ?أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم? [العنكبوت: 51] ، وقال تعالى: ?قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا? [الإسراء: 88].
صفحة ٤٩