[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
بالله تعالى أستعين وأتوكل. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
الحمدلله الذي جعل العقول سرجا للمتوسمين، وحججا قاطعة للملحدين، وعصما متينة للمتمسكين، وقسما مبينة للمكلفين، تخبو لها الأنوار الساطعة، وتربو بها الأقطار الواسعة، تهدي الناظر بها طرائق النعمة، وتؤدي إلى المشاور بها شرائف الحكمة، ومن أجل تلك الفوائد، معرفة بارئها القديم الواحد، التي عجزت عن اقتناص كنهه بفحصها، ورجعت خاسئة في اقتماص من حرصها.
ولما اتصل بنا كلام في التوحيد للإمام الباسل، السيد الفاضل، أبي الحسين يحيى بن الحسين وصله الله بأسنى الكرامات، وأحله من الجنة أعلى الدرجات، تأملناه ناظرين، وتبيناه مستبصرين؛ فرأيناه مشتملا على جملة من التوحيد، محتملا لشرحها بكلام مديد، يسهل منه ماتوعر على المتعلم، ويحصل ماتعذر علمه على المتفهم، فيستغني بها الموحد المفتقر، ويقتني علمها إلى علمه المستكثر، لأن الكتب المبسوطة في علم التوحيد كثيرة، والرتب المشروطة فيها كبيرة، ولم نر تخليته من الشرح صوابا، ولاتعريته من المدح مثابا، فتوخينا فيه القصد، وأبلينا فيه الجهد، مستعينين بالله على تحصيل المراد فيه، ومتوكلين عليه للإصابة في معانيه، وسائلين فيه الصلاة على سيدنا محمد الوجيه، وعلى علي والأئمة من بنيه..
صفحة ٢٢
[شرح كتاب البالغ المدرك]
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام:
(يجب على البالغ المدرك).
قوله: (يجب) أي يلزم المكلف المخاطب بالتكليف. والإلزام هو: الإيجاب، لذلك يقال: أوجب عليه القاضي كذا وكذا، إذا حكم عليه بحكم. وقطع وفرض بمعنى واحد. والمعنى: أوجب الله على البالغ. ودخل الألف واللام لاستغراق الجنس، وتوجه الخطاب إلى البالغ والبالغة، ومن حقيقة اللفظ إذا ورد في شيء استغراق جنسه، حتى يدل دليل على التبعيض، فيقتصر على ذلك. قال الله عز وجل: ?يا أيها الناس اتقوا ربكم? [النساء:1] ، دخل في ذلك من عرف بالإنسانية بهذا اللفظ، ولولا أمر من الله سبحانه خص فيه العقلاء لكان ذلك كذلك.
لأن العربية التي نزل القرآن بها، تنقسم في أصول الفقه على ثلاثة أوجه، لايخرج شيء من الكلام المفيد عنها:
أحدها: الأمر.
الثاني: النهي.
الثالث: الخبر.
وماعدا ذلك من الأقسام راجع في المعنى إلى هذه الوجوه، لأن الوعد والوعيد، والقسم والجحود، والنفي والإثبات وماشاكل ذلك راجع إلى الخبر، لكنه يوصف بماذكرنا لزيادة فائدة، أو لضرب من الاختصاص، وأما السؤال والطلب والدعاء، فإنه وماشاكله يرجع في المعنى إلى الأمر والنهي.
صفحة ٢٣
وأما الاستخبار، فهو طلب من المخبر أن يخبر ويعرف، فهو إذا داخل في الأمر، والخبر هو كل جملة من الكلام يصح فيها الصدق والكذب، فإن كان مخبره على مايتناوله كان صدقا، وإن لم يكن على مايتناوله كان كذبا.
وصيغة الأمر هو قول القائل لغيره: إفعل. ولايكون الخبر خبرا إلا بالإرادة ، وكذلك الأمر، وهي إرادة إحداثه خبرا عما يتناوله.
وقد قلنا في أصول الفقه: إن الأمر إنما يكون أمرا بإرادة من المأمور به فقط ، وماعداها من الإرادات يحتاج إليه لا ليكون أمرا، لأن إرادة إحداث الأمر مما يشارك الأمر فيه غيره من الأفعال، ثم إرادة كونه أمرا لمن هو أمر له مما يشارك الأمر فيه النهي، فليس الذي قلناه مخالفا لماحكيناه.
ومن ذلك: وجبت الشمس، ووجب الجدار. ووجب الحق، أي: وقع وحق، وانتفت الشبهة بحقيقة المشاهدة، التي هي أجلا وأولى.
وقوله: (المدرك): الذي أدرك الحد الذي يتبين به عن سواه، وله في الفقه ثلاث علامات، ليس هاهنا موضع ذكر عللها، وهي في شرح أصول الفقه مذكورة، ليس في الكلام لها معنى يدخل، وإنما هو مدرك وقت تلزم فيه الأحكام، وهي كلمة لغوية، وهي وقت الصلاح والشبيبة ، ولذلك قيل: أدركت الثمرة، إذا صلحت.
(على): من حروف الصفات.
(في بلاد الكفر وغيرها).
(في): من حروف الجر.
صفحة ٢٤
(والبلاد): جمع بلد وهو المصر الذي يعمل فيه أهله، والكلام راجع على أهل المصر، وقد يطلق الكلام على المجاز في اللغة جمادا كان أو حيوانا على المجاز.
وأرض الكفر هي أرض الشرك الظاهر فيها، وأرض الإسلام هي أرضه الظاهر فيها، ولاثالث يعلم عقلا، لظهور الأحكام هنالك، والأرض واحدة على الجملة.
وقوله: (وغيرها) هي ماخالف حكمها حكم ماسواها ، فاقتضى التغاير حكما.
(أن ينظر إلى هذه الأعاجيب).
لم يقل عليه السلام: يجب عليه أولا أن يريد النظر ، لأن النظر لايكون إلا بإرادة من الناظر، وذلك يؤدي إلى مالايتناهى ، والنظر هو المراد، لأن حقيقة المريد أن يختص بحال؛ لاختصاصه بها يصح أن يقع منه الفعل، على بعض الوجوه.
واعلم أن الإرادة لاتصح أن تتعلق على طريق التفصيل إلا بمراد واحد، ولايصح أن يقال إنها تعلقت بمرادين، أحدهما المراد، والثاني نفسها، لأن هذا يستحيل فيها، وكذلك القول في الكراهة.
والنظر، هو: التفكر في الأدلة الذي يقع عليه الثواب والعقاب ، على تقسيم في النظر من جهة اللغة، فمنه: المشاهدة للأجسام، ومنه الانتظار، ومنه التفكر، وهو الذي يعتمد عليه في هذا الباب أهل العدل والتوحيد.
(إلى) من حروف الجر والصفات.
(هذه): إشارة إلى شخص موجود مدرك محدود.
صفحة ٢٥
(الأعاجيب): جمع لشيء يعجب منه المتفكر في الخلق العجيب والصنعة المحكمة المتقنة، لمن تفكر ونظر نظرا صحيحا، ولايلزم في ذلك قول من زعم أن الناظر طالب لشيء لم يحصل ، وهذا يستحيل في هذا الباب.
ثم قال: (المختلفات، المدركات بالحواس، من السماء والأرض، ومابث فيهما من الحيوان، المجتلبة إلى أنفسها المنافع، النافرة عن المضار، أنها محدثة لظهور الإحداث فيها).
يشتمل هذا الكلام على أن الجسم لايخلو من الأكوان، وهي أعراض يوجد عليها، لا بقاء لها كالأجسام، فمنها: الألوان، والروائح ، والتأليف، والرطوبات، والاعتقادات، والقدر، والعجز، والكلام، والشهوات، والنفور، والحرارات، والبرودات، والفناء، والحياة، والموت، والاعتمادات ، والشبع، والجوع، والعطش، والري، والبشر، والشهوة، ترجع إلى القادرين، وبعضها من فعل رب العالمين، بل به يقال، وكذلك للمتعلمين، ليعرفوا هذه الأحوال، ويتيقنوها في الاعتقاد والمقال، فرقا بين الأجسام والأعراض، وحدها أنها تعرض في الوجود، ولايجب لها من الحكم في اللبث مايجب للأجسام، ولايصح أن تنتفي من الجسم مع وجوده. والكلام في هذا الباب يتعلق بالأسماء دون المعاني، فاقتضى أن نسهل فيه.
وجملة مايجب أن نحصل في ذلك أن الأعراض ثلاثة أضرب فمنها: مايختص المحل، ومنها مايختص بالحي ، ومنها ماينافي المحال، ولاتتعلق بحي ولامحل ، ذكر أنها تختلف في أنفسها، وتدرك في أسها بالحواس، خلافا لبعض أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم من العوام.
وكان الصاحب الجليل أبو القاسم إسماعيل بن عباد يقول: إذا اختلط الأسود بالأبيض رئي كأنه أغبر.
صفحة ٢٦
قال أبو هاشم : إن الجسم الأسود لو خالف غيره لمافيه من السواد، وفي غيره من البياض، لوجب إذا صار هو أبيض بعد كونه أسود أن يخالف نفسه، ولو وجب إذا اتفقا في اللون واختلفا في الطعم أن يكونا متفقين مختلفين وذلك فاسد.
والذي قاله عليه السلام أشهر في المشاهدة، وأبين لمن ترك طريق المعاندة.
وقوله: (المجتلبة إلى أنفسها المنافع، النافرة عن المضار): يعني الحيوانات، وظهور الإحداث هو عجيب الصنعة في الحيوان، ومايطرأ عليه وعلى الجماد من الزيادة والنقصان، وهل ينظر الناظر إلى الشيء وهو عالم به أو جاهل له، وإنما يولد له النظر العلم بأحوال المنظور ونفي الجهل به، وبصانعه القدير، ولابد أن يكون المكلف عالما بما كلف على جملة أو تفصيل، ليميزه الله عن غيره، وإلا لم يحسن تكليفه، فصار تعريفه بما كلف بمنزلة الإقدار عليه، والتمكين منه، في أنه لابد منه، وإلا قبح التكليف، ولا يخلو من وجهين: إما أن يضطره أو يدله عليه، فلابد من حصول أحد الوجهين أو كليهما في كل ما نراه حسنا، وقد علمنا باضطرار أن الظلم قبيح، وكلفنا بالامتناع منه، وأن شكر النعمة واجب، ورد الوديعة كمثل ، وكلفنا الإقدام عليها، وعرفنا مالنا من الفضل بالأخبار، فدلنا على فعله.
فأما ما عرفناه بالاستدلال مما يتعلق بفعل ما كلفناه بتفصيل كثير مما ذكرنا جملته، وسائر الشرائع، وما يعلم قبحه وحسنه ووجوبه من جهة العقل والشرع وتفصيل ذلك يكثر، وما أوردناه من الجملة يكفي فيه محصول الأدلة والبيان، مما يمكن المكلف عند التفكر فيه أن يتوصل به إلى المعرفة بما دخل تحتها التكليف.
صفحة ٢٧
واللطف من الله واجب لابد منه؛ لأنه تعالى إذا قصد بالتكليف تعريض المكلف للثواب، وعلم أنه لايتعرض الموصول إليه إلا عند أمر لولاه كان لايتعرض، فلو لم يفعله لنقص ذلك الغرض الذي له كلف، كما أن أحدنا لو كان غرضه من زيد إذا دعاه إلى طعامه أن يحضر فيأكل طعامه، أنه لايختار ذلك إلا عند اللطف في المسألة، فلو لم يفعله لنقص ذلك الغرض الذي دعاه إلى طعامه، ويحل بإخلاله بذلك محل أن يمنعه من نفس تناول الطعام، وكذلك لو لم يفعل تعالى اللطف الذي ذكرنا، بمنزلة ألا يمكن العبد مما كلفه في قبح التكليف.
وبهذه الجملة أبطل قول الدهرية والملحدة الذين يضيفون صنع هذه العجائب إلى الطبع، وإلى الكوكب، وثبت أن فاعلا لهذه الأعاجيب قادر قديم، واحد عالم لايشبهها.
واعلم أن الملحدة والدهرية على فرقتين: فرقة نفت الصانع نفيا محضا ولم تثبت للعالم ربا، وقد حكى الله تعالى قول هذه الفرقة، فقال سبحانه: ?ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر..? الآية [الجاثية:24].
وفرقة ثانية أثبتت الصانع، وزعمت أنه فاعل فيما لم يزل، وأن العالم ظهر منه كظهور ضياء الشمس من الشمس، وحر النار من النار، وهذا هو المحكي عن قوم من الفلاسفة، والدلائل التي قدمناها تبطل هذا كله.
(معترفة بالعجز على أنفسها، أنها لم تصنع أنفسها، ولم تشاهد صنعتها، وتعجز أن تصنع مثلها، وتعجز أن تصنع ضدها).
صفحة ٢٨
اعترافها بالعجز هو: شهاداتها على أنفسها أنها تعجز عن تحسين ما استقبحت من صورها، ولاتمتنع عن الزيادة والنقصان في أنفسها، ولاتملك لها ضرا ولانفعا في جميع أمورها، ولاموتا ولاحياة ولانشورا، فثبت أن صانعها غير لها متقدم عليها، وكيف شاهد صنعته معدوم؟ هذا مالا تختلج فيه الوهوم، ومن عجز عن تحسين ما قبح منه عنده كيف يصنع مثله أو ضده، تشهد بذلك العقول.
(فلما شهدت العقول على أن هذا هكذا، ثبت أن لها مدبرا حكيما دبرها، ومعتمدا اعتمدها، وقاصدا قصدها، ليس له شبيه ولامثيل).
تعالى من أوجد في المكلفين عقولا تشهد له بالأزلية، عند من استشهدها من البرية، فلما صحت مفعوله، استدل بها على فاعلها، ومتى علم الشيء استغني عن الدلالة عليه، وعلم العقول بالصانع من جهة الصنعة في حكمتها وتدبيرها وتصويرها، واعتمادها، وقصدها، تشهد بحكيم مقدر، وقديم مدبر، قصدها واعتمدها، لاتشبهه ولايشبهها، كمارأينا في الشاهد أن كل صانع لايشبه صنعته، ولا الكاتب كتابته، وقد ثبت أن العالم كالبيت، أرض وسماء، وسقف مرفوع ، ومهاد موضوع، النجوم في السماء كالقناديل في السقف، والنيرات كالشمعتين، والأرض كقرار البيت والفراش الممهود، ومافيها من النبات كالفواكه المعدة، وما فيها من الرياحين وأنواع الأنوار والزهرات، وأماكنها من الأرض كالروضة من البيت ، وما فيها من معادن الذهب والفضة كالخزائن المخزونة في البيت، والإنسان فيها كأرباب اليبوت الذين إليهم تدبيرها وسياستها، فيجب أن يكون حال السماء والأرض في الحدوث واستحالة القدم، كالبيت الذي يشاهد في مفازة أو برية إن لم نشاهد له فاعلا ولابانيا في أنا لانشك في حدوثه، وتجدده، وكونه مبنيا بنيان قادر.
صفحة ٢٩
وحدوث الحركات الفلكية بين لأنه لابد لها من أول، وما كان له أول فله آخر، ويستحيل أن تكون له أزلية، ومتى استحال قدم الحركات، استحال قدم المتحركات؛ لأنه لاجسم إلا متحرك أو ساكن، وحقيقة التحرك هو الانتقال من جهة إلى جهة، وهذا لايكون إلا متجددا حادثا، وحقيقة الساكن لبثه لا للنفس مع جواز انتقاله من موضعه، وقد نبه القرآن على ذلك، قال الله سبحانه: ?أو لم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج? [ق: 6]. ضربنا للمتعلم هذا مثلا ليقرب إلى فهمه معرفة حدوث العالم، وكررنا بهذا القول على البراهمة في نفي الرسالة.
ومن هيأ دعوة في بيت بناه وهو حكيم أليس يبث دعاته إلى حضور مأدبته وسنبين الكلام عليهم في غير هذا الموضع إن شاء الله تعالى.
فإذا ثبت حدوث السماء والأرض وما بينهما من الأجسام والأعراض بما ذكرنا من الأدلة، وجب أن يكون لها محدث قديم، قادر، لأن الكتابة يستحيل حدوثها من غير كاتب حي قادر، يتولى كتابة ذلك، فيجب مثل ذلك في حدوث العالم.
(إذ المثل جائز عليه ماجاز على مثله، من الانتقال والزوال ، والعجز، والزيادة، والنقصان).
وقد تقدم شرح هذه الجملة فلامعنى لإعادتها.
(وأن بإحداثه إياها له المنة عليها) بالبقاء ، وكيف لاتكون المنة للمالك على المملوك، وقد شاهدنا ذلك في السوقة والملوك، أعظم المنن خلق الإنسان بشرا سويا، ورزقه إياه بكرة وعشيا، وتعريضه للثواب العظيم الجسيم، وتحذيره من العذاب الأليم، بعد إزاحة العلة والسلامة، وتردد الدواعي والاستقامة، ولطف من الله سبحانه بنصب الأدلة؛ لأن الغرض بالأدلة الوصول بها إلى المعارف.
صفحة ٣٠
واعلم أن في زيادة الأدلة ما يجوز أن يكون لطفا لمن قد استدل، دون من لم يستدل ولم يعرف، من حيث يعلم من حاله أن تأثيره إنما يكون فيه دون العارض عن الأدلة ، فهذا بمنزلة ما عرفناه من حال العالم العارف، أنه يتمكن من أن يعرف عند ذلك من الشبه وحلها ، والأسئلة وجوابها، وما يكون مؤكدا لدلالتها التي استدل بها، ما يجوز أن يعرفه غيره، وعند ذلك متى فكر فيما ذكرنا زاد ذلك في بصيرته، والشرح لصدره، من حيث ثبت في العلوم أن بعضها يتعلق ببعض، ولذلك نجد العالم المبرز أعلم بالمسألة الواحدة من غيره، وإن كان ذلك الغير قد عرفها، من حيث علم هذا من سائر ما يتصل بها، ويتعلق علمها به مالا يعرفها ذاك، وهذا ظاهر.
فإذا صحت هذه الجملة لم يمتنع أن يخص تعالى المؤمن المهتدي بهذا الوجه من اللطف، لأنه لايصح كونه لطفا إلا له دون غيره، ولايوجب ذلك أن يكون تعالى مانعا غيره من التمكين، أو من فعل ما كلف.
واعلم أنه قد يدخل في هذا الباب ما يورده تعالى على المكلف من الخواطر والتنبيه.
(إذ كانت الرغبة منها في البقاء، ونفورها عن الفناء دالة على المنة عليها ببقائها).
صفحة ٣١
هذا الكلام راجع إلى الحيوان العاقل المكلف، ولايدخل فيه النافر من الحيوان غير المكلف، لعلة نذكرها في مجموع نكت هذا الكتاب وعيونه المستخرجة في غيره، لغرض أفردناه نذكره فيما بعد إن شاء الله، لأن الرغبة في البقاء لاتكون إلا مع كمال النعماء، وهي خلقة الله للعبد حيا لينفعه ، والمنفعة الحسنة إذا قصد فاعلها وجه الإحسان فهي نعمة، منها مايكون لذة أو مؤديا إلى لذة، وربما كان سرورا أو مؤديا إلى سرور، وربما كان دفعا لمضار وغموم أو مؤديا إليها، وربما كان تمكينا من هذه الأمور، وربما كان مصححا لها، فجميع ذلك يدخل في باب النعم، وكذلك الآلات، والقدر، والعقل، تعد نعما؛ لأنها تمكن من النعم، وكذلك يعد التكليف نعمة؛ لأنه يمكن من النعم العظيمة، ولذلك تعد الحياة والشهوة نعمة؛ لأنهما يصححان التنعم، ولذلك يعد المأكول وغيره من المدركات، نعمة لأنها لذة ومتلذذ بها، فجميع أنواع النعم لاتخرج عما ذكرنا، وإنما شرطنا أن تكون منفعة؛ لأن ما خرج عنه لايكون من النعم، لأنه إذا كان قبيحا أو مضرة إذا كان من فعل العباد، والنظر في هذه الأسباب واجب على الجملة.
وإنما قال عليه السلام: إن النظر واجب على الناظر في معرفة الله تعالى، ولو لم يعلم وجوبها عليه قبل أن يفعلها؛ لأنه لو علم وجوبها عليه لكان قد علمها، والعلم بالمعرفة نقيض لماهي معرفة له، فكان يعود الحال في النظر إلى أنه يجب على من قد عرف الله تعالى نقيض سقوط وجوب النظر؛ لأن الغرض بوجوبه أن يوصل به إلى هذه المعرفة بإيجاب النظر.
فإن قيل: أليس من قولكم: إنه تعالى لايجوز أن يكلف فعلا إلا والمكلف يميزه من غيره، وإلا اقتضى التلبيس، وإذا لم يصح ذلك في المعرفة، فهلا قلتم فيها: إنها ضرورة، أو قلتم فيها: إنها واقعة بالطبع، أو قلتم: إن العبد لايقدر عليها، كما قاله من خالفكم في هذا الباب.
صفحة ٣٢
قيل له: قد ثبت أن الواحد منا يقدر عليه، وعلى المعرفة من حيث تقع بحسب أحواله، فكما يجب كون الحركات فعله، فكذلك النظر؛ ولأنه إذا قدر على الجهل والاعتقاد المبتدأ فيجب أن يقدر على المعرفة؛ لأنها الاعتقاد إذا وقع على وجه، والنظر يولد المعرفة، ويثبت أن القادر على السبب قادر على المسبب، وفي هذا كلام.
وكذلك النفور من الحي القادر كما قلنا أولا عن الفناء، والفناء هنا كلمة مجاز عند أهل العدل والتوحيد، دالة على الممتن عليها ببقائها، وكذلك البقاء مجاز لاعلى الحقيقة، دلت على الممتن عليها أوضح دلالة، وأرجح مقالة، وإن كانت غير ناطقة بذلك، بل الحكمة فيها تشهد، والنعمة التي عليها تتجدد، ترى وتوجد.
(وأن الممتن عليها ببقائها هو المنعم عليها بإحداثه إياها).
كما قد شرطنا أن خلقه تعالى للمكلف حيا لينفعه، وبينا وجه المنافع، أنه نعمه ليوصله بذلك إلى سني النعم، ويجنبه عن محذور النقم، جل الله تعالى العالم بمصالح عبيده، والقائم بأسباب وعده ووعيده.
(فإذا علم البالغ المدرك أن هذا هكذا، وجب عليه أن يشكر المنعم، فإذا علم أن شكر المنعم عليه واجب، كان عليه أن يشكر المنعم عليه، وشكر المنعم عليه هو الطاعة له).
وقد بين عليه السلام أن شكر المنعم هو الطاعة له، وهذه جملة لاتخرج عن ثلاثة وجوه، وهي: اعتقاد، وقول، وفعل، مع الإصابة والاجتهاد.
صفحة ٣٣
والاعتقاد : من أفعال القلوب، وهو مقدم على سائر الأفعال، وليس يعترض على ذلك قول من يزعم أن النية غير العقد، فإنه يحتاج للعقد إلى نية ، وذلك محال عندنا، وهو مأخوذ من: عقدت ونويت في اللغة اصطلاحا، وله في الكتاب مسرح ، وفي اللغة مساغ، لأن بالعقول تدرك غوامض العلوم، وحقائق الأشياء، والمجتهد في ذلك مصيب.
وقد قيل: إن الحق عند الله في واحد، من أخطأه هلك. وفي الاجتهادين إذا اختلفا كلام ليس هذا موضعه، وإنما غرضنا شرح ما قاله يحيى بن الحسين عليه السلام، في هذا الكتاب مذهبا وتعليلا، ولايلزم قول من قال: إن الشكر على الشكر واجب.
وقد قال البستي في ذلك:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة.... علي بها في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله.... وإن طالت الأيام واتصل العمر
وشكر الله على أربعة أوجه: بالقلب، واللسان، والجوارح، تشترك في ذلك باجتناب المعاصي وأداء الفرائض ، والفاسق لايكون شاكرا.
صفحة ٣٤
وروي عن بعض الصالحين أنه سئل عن الشكر فقال: « الا تستعين بنعمة من نعمه على معاصيه ».
فمن واجبات القلوب تعظيم الله، وذلك على قواعد مختلفة، ومعنى التعظيم أن تشعر القلب أن يكون الله أعظم عندك من كل شيء، وعلى حسب الأمور الموجبة للتعظيم، حتى يملأ القلب، فمن موجبات التعظيم: صفات الله تعالى العظمى وأسماؤه الحسنى، مثل كونه تعالى الأول لا أول لوجوده، وكل موجود مفتقر إلى قدرته، ولولا قدرته لم يوجد موجود؛ لأن كل موجود إما أن يكون من فعله تعالى، أو من فعل عبيده. وكذلك كونه قادرا لذاته ، على ما تقدم ذكره. ومن الأمور الموجبة للتعظيم التفكر في أفعاله، وضروب خلقه، ولهذا أمر الله تعالى عباده بالتفكر، مثل قوله تعالى: ?قل انظروا ماذا في السموات والأرض? [يونس: 101] إلى غير ذلك من الآيات.
وروي عن المسيح عليه السلام أنه سئل فقيل له: ياروح الله من أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولاهم يحزنون؟ فقال: « الذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها ».
وهذا إنما يكون بالتفكر في حقائق الأمور، والنظر في أدلة الله تعالى التي ركبها في العقول، وبعث بها الأنبياء والرسل.
وروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « إن في جسد ابن آدم بضعة إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، ألا وهي القلب ».
وروي عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « قوام المرء عقله، ولادين لمن لاعقل له، ولاعقل لمن لادين له ». يعني: لمن لم يعرف مقتضى العقول في الديانات.
صفحة ٣٥
وروى الزهري عن جميع بن حارثة الأنصاري، عن عمه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: « إنما يدرك الخير كله بالعقل، ولادين لمن لاعقل له ».
وروي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « ماتم دين إنسان قط حتى يتم عقله ».
وروى زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « ما اكتسب أحد قط مثل فضل العقل، يهدي صاحبه إلى هدى، ويرده عن ردى، وما تم إيمان رجل ولا استقام دينه حتى يكمل عقله ».
وروى نافع ، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « لاتعجبوا بإسلام امرء حتى تعرفوا كنه عقله ».
وروى معاوية بن قرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « الناس يعملون ويعطون أجورهم على قدر عقولهم ».
وروي عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « إن الرجل يكون من أهل الصلاة والصوم والزكاة والحج، ومايجزى به يوم القيامة إلا بقدر عقله ».
وروى الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: « لكل شيء معدن، ومعدن التقوى قلوب العارفين ) ).
صفحة ٣٦
فهذه الأخبار كلها تدل على أن الدرجة العظمى والمنزلة الكبرى في الدين والتقوى للعلماء العارفين ، الذين يعرفون الحقائق، ويعملون بها ولايبلغ العاقل درجة العقلاء في الدين إلا بمعرفة واجبات القلوب على التحقيق، ومعرفة أحكام الله تعالى في كل فعل وترك، والعلم بما يفعل كيف يفعل وعلى أي وجه يفعل، وما يترك كيف يترك؟ وعلى أي وجه يترك؟ ومتى يكون العبد معظما لله تعالى، خائفا من عقابه وراجيا لثوابه؟
كما قال عليه السلام: (وفي ذلك إيجاب الثواب والعقاب، ويعرف مراتب التوبة). ومتى يعظم الندم ويقوى العزم، وهذا لايتم إلا بمعرفة من العقليات والشرعيات، وما يرجع إلى هذين الفنين.
واعلم أنه دعانا إلى ذكر هذه الأخبار بنقل العامة وإن كان قد نقلها عندنا من نثق به من أئمتنا عليهم السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومشائخ أهل العدل والتوحيد إنكار فقهائهم حجج العقول، والرجوع إليها في متشابه القرآن والأخبار، مثل داود الأصبهاني حيث يقول: بل على العقل والعقول ومن تابعه من الحشوية، وقد قال فيه ابن دريد إلا أن كانت النسخة أعجمية، لم تثبت الأبيات :
قال داود ذو الرقاعة والجهل.... بأن العقول ليست بحجة
ولعمري لعقله ذلك ال.... عقل فما أن يصاب فيه محجة
صفحة ٣٧
ثم أصحابه يعومون عوما.... في ضلال وفي عمى وسط لجه وعلى هذا طائفة من أصحاب الحديث وعوام المتفقهة، ينكرون الاستدلال بالأدلة العقلية، فأراد الله تعالى بإنزال هذه الآية أن يكشف لنا عن حاجتنا إلى الفزع إلى العقل، ولهذا قوله: ?يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم..? الآية [الحج: 1] ، على أن المراد به العقلاء دون المجانين؛ لأن العقل دل على أن المجنون لايكون مكلفا، إن كان الحكم الذي يدل عليه الظاهر حكما شرعيا عرف به المراد باستدلال شرعي، من قياس، أو إجماع، أو خبر وارد، وكذلك حكم الخبرين والقياسين إذا تنافيا في الحكم الشرعي؛ عرف المراد منهما بضرب من الاستدلال، فإن تساويا من الوجوه كلها جاز ذلك عندنا ، وكان العالم مخيرا يأخذ أيهما شاء.
ولهذا قال بعض مشائخنا بالتخيير بين المسح للرجل، واستيعابها غسلا، وذهب إلى جميع ذلك الناصر للحق عليه السلام. وبين إفراد الإقامة وبين تثنيتها. وبين رفع اليدين في تكبيرة الإحرام وتسكينهما. وذهب الهادي عليه السلام إلى تسكينهما. وبين الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والمخافتة. ولايخطأ من فعل بأحدهما.
وقد جمع بعض أصحابنا بين المسح والغسل، وبين الرفع والتسكين، بأن يرفع يديه ثم يرسلهما، ثم يلحق التكبيرة بعد أن يرسلهما.
ولايجوز إذا كان الحكم عقليا التخيير، ومن أصول الدين في التوحيد والعدل، ولابد من أن يكون المراد أحدهما ويجب الرجوع إلى ما فى العقل، وربما كان دليل موجب العلم من أدلة الشرع كالإجماع، وما شاكله، في أن المراد أحدهما.
وقد ذكرنا فيما تقدم أن التكليف على أربعة أضرب، ولم نستوف الكلام فيه وهذا موضع استيفاء بسطه للمتعلم، والورع المتفهم.
صفحة ٣٨
فمن ذلك التكليف في فعل شيء يجب فعله، وهذا على ثلاثة أقسام: قد يكون من أفعال القلوب مثل العلم بالله تعالى، وبأنبيائه، وسائر أصول الدين. وكالعلم بما يحتاج المكلف إليه من الفرائض والسنن. وقد يكون من أفعال اللسان كإظهار الشهادتين، فإن إظهارهما واجب، والتفوه بهما فرض مرة واحدة، وما زاد على ذلك لايلزم ولايجب، إلا عند خوف الاتهام في الشبهة عند من يقول بوجوبه. وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد يجب باللسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند شروط تحصل، نذكرها:
أول شيء: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، وفروض الكفايات هو الذي إذا قام به واحد سقط عن الباقين، مثل الصلاة على الميت ودفنه، وسد الثغور، والجهاد، وصلاة العيدين عند جماعة من الفقهاء ، وتعلم الفقه للفتيا، والجلوس لتعليم الناس معالم الدين.
وهما واجبان على قدر الطاقة، إذا كان المعروف المتروك فرضا، فإن كان نفلا كان الأمر به نفلا. وكل من رأى منكرا يرتكب، أو فرضا يترك، وجب عليه أن يكره ذلك بقلبه كراهة شديدة، ويظهر ذلك من نفسه إن لم يكن معلوما منه، ويأمر تارك الفرض بالقيام به، ومرتكب القبيح بالانتهاء عنه، فإن لم يتم المراد بالملاينة، وإلا خاشنه، فإن تم بالمخاشنة، وإلا أخذ بالنهي عنه فعلا.
وشروطه: أن يعلم أن المتروك فرض، وليس من مسائل الاجتهاد التي يختلف الفقهاء فيها، وأن يعلم أن المرتكب قبيح، وليس من مسائل الاجتهاد.
ومنها: أن يعلم أن لنهيه تأثيرا أويغلب في ظنه.
ومنها: أن يعلم أن نهيه لايؤدي إلى فساد أكثر مما ارتكب.
صفحة ٣٩
والدليل على وجوبه قوله تعالى: ?ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون? [آل عمران: 104] ، وقال تعالى: ?كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون? [المائدة: 79] ، وقال تعالى: ?وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان? [المائدة: 2].
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خبر مشهور: « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإنكار ».
وليس على من رأى مجتهدا يعمل بمسألة من مسائل الاجتهاد أن ينكر عليه في ذلك.
(فلما تصرمت أعمار المطيعين ولم يثابوا، وتقضت آجال العاصين ولم يعاقبوا).
(تصرمت): انقطعت أعمارهم، هذا مأخوذ من التعمير والعمارة، والمعنى: وقعت الفرقة بين الروح والجسد إلى الوقت الذي يوافي الله بينهما، وهو قوله عز وجل: ?وإذا النفوس زوجت? [التكوير: 7] ، وقد روي في ذلك أخبار ليس هذا موضع ذكرها.
(أعمار المطيعين): هم الذين عملوا بطاعة الله عز وجل، اعتقادا، وقولا، وفعلا، على ما شرطنا من قبل ، حتى جاءهم الموت وهم على ذلك مستقيمون.
وقد روى المؤيد بالله رحمة الله عليه، عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: « من كان آخر كلامه لاإله إلا الله دخل الجنة ». ولابد على هذا أن يكون للاعتقاد أجر، وللأفعال أجر من جنس قول: لاإله إلا الله.
(ولم يثابوا): الثواب هو الجزاء على الفعل الحسن، وهو الإيمان، وهو اسم لجميع الواجبات والطاعات، يعبر به عن ذلك وإن اختلف المطيعون لله بأحوالهم، وهو يزيد وينقص، من حيث كانت الواجبات تزيد وتنقص.
صفحة ٤٠
فإن قيل: أفيجوز أن يبلغ ثواب بعض المطيعين أن يكون مكفرا لعقاب بعض الكبائر؟
قيل له: قد ورد الشرع بما يدل على أن ذلك لايصح، من حيث علق به تعالى الحد، على وجه الجزاء والنكال، فلم يخص مكلفا من مكلف، وكان يجوز من جهة العقل خلاف ذلك، ولو عمر العمر الطويل لقد كان يجوز في ثوابه أن يزيد على قدر عقاب هذه الكبيرة، لكنه قد ثبت بما ذكرنا أنه تعالى لايبقي أحد من هذا القدر من المدة ، وهذا كما نقول: إن المؤمن لو عمر عمرا طويلا لبلغ قدر ثوابه قدر ثواب الأنبياء صلوات الله عليهم لكن الدلالة قد دلت على خلاف ذلك من حاله.
(وتقضت آجال العاصين ولم يعاقبوا)، العقاب: هو جزاء على فعل المعصية ، وهو القبيح، وهو اسم لترك الواجبات واستباحة المحظورات، وإن اختلف العصاة في أحوالهم قولا وفعلا.
فإن قيل: أفيجوز أن يدخل العاصي النار بذنب واحد يختم به عملا صالحا، ويكون ذلك منه مع انقطاع العمر والخروج من الدنيا للموت، وإن عمل أعمال المؤمنين قبل هذا الذنب الواحد في عمره؟
اعلم أن شيوخ العدل اختلفوا في عقاب الكفار والعصاة، هل يجب من طريق الحكمة، أم لا؟ فعند شيوخنا أن ذلك لايحسن ولايجب، بل يجوز من الله سبحانه أن يغفر، لأن الغفران حقه، وهذا قبل ورود الشرع، فأما الآن فقد استقر الشرع . وقد أجمع المسلمون على تعذيب أهل الكبائر، وتخليدهم في النار، واختلفوا في الفساق.
وأما عند الهادي عليه السلام فلا خلاف بين من يروي عنه من اليحيوية والقاسمية p> في تخليدهم في النار، وإحباط أعمالهم بذنب واحد.
صفحة ٤١