أقول: أنه لا تناقض بين شرائع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أقواله: { وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى } [النجم:3،4] لكن القاضي كان عليه أن ينصف وإن يعاود النظر والبحث، فأول ما نقول له: أصلح الله شأنه احتجاجك بقوله تعالى: { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [محمد:38] المراد في صفة من الصفات التي سوقها عدم الاتفاق كالواجب من الزكاة ونحوها والإ لزم لو كان على الإطلاق أن يكون المستبدل جنسا آخر من غير بني آدم، وإن استلزم كان إما من الملائكة وهم معصومون بعصمة الله أو من المكلفين من هذا الجنس غيرهم سالمين من هذه الصفة لا من جميع الصفات؛ لأن السلامة من جميع الصفات التكليفية لا يكون إلا للمعصوم وبالإجماع أن التكليف لا عصمة إلا لمن شاء بدليل قوله تعالى: { ولا يزالون مختلفين*إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } [هود:118،119] وقوله تعالى: { فلو شاء لهداكم أجمعين } [الأنعام:149]، وقوله تعالى: { ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون } [الأنعام:112]، وقوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } [البقرة:253]، وقوله تعالى: { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } [فاطر:45] وفيها دليل على أن أحدا لا يسلم من ذنب إما صغيرة أو كبيرة، والآيات كثيرة والمعنى للكل: إن الله قد علم في سابق علمه أن هؤلاء الذين تحملوا الأمانة لا بد أن يختلفوا، فمنهم الطائع، ومنهم العاصي فخلق العباد بعد علمه تعالى بهذا فهم كما وصف تعالى فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أنهم لو لم يذنبوا -والمعلوم في علمه تعالى أنهم يذنبون في الواقع- لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم؛ لأنه يقال: قد علم من بني آدم الذنب من البعض والطاعة من بعض، وعلمه سابق لكل شيء بل علم الله تعالى أنه قد لا يسلم أحد من الصغائر والتأويل ولذلك وقع من بعض الأنبياء أشياء من الصغائر والنسيان -عليهم السلام-، وغفر الله لهم، وعلمه سابق لكل شيء، فلو لم يقع منهم الذنب ومحال عدم وقوعه ولو صغيرة أو غيبه أو نميمة مما يتساهل فيه كثير من الناس، أو نظرة لشهوة لأوجب الله الذي قد علم، ولفظ "لو" في اللغة يؤتى بها لامتناع الشيء لامتناع غيره فعدم ذنبهم محال، وإذا كان محالا فالقوم غيرهم وجودهم لا يكون؛ لأن وجودهم مقيد بعدم ذنب الأولين، وعدم ذنبهم غير حاصل فيكون وجودهم غير حاصل. قال السيد محمد بن عز الدين المفتي -رحمه الله تعالى- في شرح التكملة له: ويكون المراد بذلك الدلالة على سعة -رحمه الله تعالى- والتذلل لطلب غفرانه والوقوف في مقام العبودية من التواضع والقصور عن الوفاء بما يجب لمقام العلي الأعلى، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (ما عبدتك حق عبادتك) وذلك كله طاعة مراده للحكم جل وعلا قال أبو علي المعتزلي: الخبر هذا يحتمل معنيين أحدهما: أنه كان في معلومه أنه يخلقهم فلا بد أن يخلقهم فيذنبوا فيتوبوا لله فيغفر لهم ولم يرد أن يخلقهم ليذنبوا.
الثاني: أنه لا يقصد بخلقه لمن يعلم أنه يطيع، بل يخلق من يعلم أنه يعصي كما يخلق من يعلم أنه يطيع انتهى كلامه.
قال السيد محمد المذكور: وليس في هذا الحديث هذا وحديث العجب دلالة على إرادة الذنوب.
صفحة ٣٥