قلت: ولذلك لما تقدم في معنى الحديث ويريد هاهنا: أنه تعالى قد علم في سابق علمه أن من ابتلى بهذا التكليف، وخلق الدواعي والشهوات، والتمكين بالقوى والقدر، والتخلية لفعل الخير والشر؛ فإنه قد يقع منه العصيان في الجملة؛ ولكن الله تعالى قد جعل مع ذلك ما يمحوه من الاستغفار والتوبة، والله تعالى علم المطيع من العاصي؛ فإرادته تعالى ليست لفعل الذنب وكسب العبد؛ بل إرادته تعالى للتمكين منها ليميز الخبيث من الطيب وليتم التكليف؛ فإنه تعالى أراد التكليف بالتمكين من الطاعة والمعصية وجعل ما يمحوه من الاستغفار، فلو لم يقع ما علمه من ذلك -ومحال عدم وقوعه بالمرة- لخلق ما قد علمه -كما ذكرناه أولا- وهذا كله مبالغة في أن الله تعالى يغفر الذنب بالتوبة والاستغفار ويمحوه لئلا يحصل القنط من العاصي من رحمة الله تعالى، فإن القنط من الكبائر كما قال تعالى: { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } [الحجر:56] وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن لم يكن قد ركب الذنب العبد بعينه فقد عصى الله فيما سواه مما هو أعظم منه، وأيم الله إن لم يكن عصاه في الكبير وعصاه في الصغير، فدل كلامه رضي الله عنه أنه لا يخلو المكلف عن شيء من المعاصي -لا سيما الصغائر.
صفحة ٣٦