بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله الذي بين الأحكام، وهدى بشرعه الإسلام، وأوجب على الكافة الاهتداء بقوله رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، فقال تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر:7]، وقال تعالى: { وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى } [النجم:3،4].
أما بعد؛ فإن القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري أنشأ رسالة في تعجبه من علماء الزيدية، حيث كان منهم من يعتمد على الأحاديث النبوية في كتب حفاظ السنة الشرعية، فتوجه الجواب عليه بالحق الذي لا مزيد فيه، وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما
تعملون } [المائدة:8].
* * *
قال: " فإني أكثر التعجب ... " إلى آخره .
أقول: التعجب إنما يكون من الغريب النادر الشاذ، وأنت خالفت علماء الإسلام، فالتعجب من قولك أجدر.
قوله: " ما ذاك إلا لإرادة الله تعالى ".
أقول: وافق القاضي في الإرادة السلف.
صفحة ١
قوله:" فإذا كان المقصود هو الاعتقاد، مقتضى تلك الأدلة والعلم به زاغ عنها، وتبرى منها، ونسي ما كان فيها، وأعانهم على ذلك كثير من أصحابنا، بتكثير سوادهم، واعتقاد اعتقادهم، وما يتوهمه كثير منهم من أن صناعة علم الحديث وقوانينه وقواعده إنما عنى بها محدثوا الفقهاء دون أهل البيت -رضي الله عنهم أجمعين وشيعتهم- حين رأوا من المحدثين قعقعة من غير مطر، وجعجعة من دون / طحن، من غير تأمل لتلك القواعد، وشدة الخلاف من شيوخهم.
ومن أعظم ما يتطاولون به القدح بالإرسال، أو عدم نقد الرجال؛ فإن علوم الحديث التي هي عندهم أصوله، وكتب الجرح والتعديل التي هي قاعدته لا يرى فيها من المشايخ في تلك المقالات-التي يزعمونها-مسند إلا الشاذ الشارد، والقليل البارد.
وما لزم غيرهم فيما أصلت له لزم فيها لا اختصاص لبعض - بالشرط دون بعض...
حتى قال: ولم ينصف الفقيه العلامة محمد بن يحيى بهران بما ذكر في ديباجة كتابه تخريج " البحر" الذي سماه: "جواهر الأخبار" من قوله: "وقد آثرت رواية الكتب الستة على غيرها من كتب الأحاديث كجامع الأصول" .
ثم قال: وما شأن "جامع الأصول" إلا مثل "الانتصار"، و"الشفا"، وما التفرقة بين ذلك إلا أنهم يقولون: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وهؤلاء يقولون: " قال البخاري " !
فإن قالوا: قد عرف أن لها طرقا مسندة. قلنا: كذلك " أصول الأحكام"، و"الشفا" و"الانتصار" إليها طرق مسنده، وهم قد أسندوا.
وأما "أصول الأحكام"، فقد ذكر أصولها كلها بأسانيد "شرح التجريد"، وهو مختصر منه، فهذا أشد شرطا من البخاري ومسلم.
وأما "الشفا"، فقد صرح بأنه ما روى إلا ما صحت أسانيدها، وأما "الانتصار" فصرح الإمام شرف الدين بطرقه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام-.
ومع ذلك فإن معلقات البخاري معروفة.
صفحة ٢
ثم قال: وإن كان المرجع إلى الرجال؛ ففي كل من رجال الفريقين أقوال منها الحق ومنها الباطل، فقال يحيى بن معين في الشافعي: ليس بثقة، وأن أبا زرعه ضعف البخاري، وقالوا في مالك: روى عن جماعة يتكلم فيهم، وأن صاحب "الميزان" وغيره قد ضعف كثيرا من رجال البخاري ومسلم.
ثم قال: وهم لا يرتابون في القبول ولا الرد؛ لصحة المعنى وبطلانه، ولذلك صححوا أحاديث الجبر والتشبيه ونحوها مما يصادم كتاب الله تعالى في صريح القول.
أقول: إن في هذا ما لا يخفى من التساهل؛ إذ أهل الحديث من المسلمين وليس ما رووه يحل رده جميعا، إذ الواجب على كل مكلف الإنصاف من نفسه، ولا يحابي في دينه، بل الواجب قبول ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل حال، قال الله تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ويقول: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [النور:63].
ولا شك ولا ريب أن أكثر السنة في الأحكام وغيرها دائرة على المحدثين بالضرورة، ولو قلنا بمقالة القاضي بن سعد الدين للزم تعطيل الأحكام الشرعية بالمرة -والعياذ بالله- ولأدى ذلك إلى رد الأخبار الصحيحة المشهورة والمتواترة، وهذا لا يقول به من له أدنى بصيرة وإنصاف من نفسه، فالحق أحق أن يتبع، والله عند لسان كل قائل.
إن قيل: إن قد نقم السيد الهادي ابن إبراهيم الوزير بأشياء توافق القاضي صاحب هذه الرسالة، وذلك في كتاب السيد: " إزهاق التمويه" حيث قال، أول كتابه:
ومجتهد في ذم قوم أكارم
وقال: يقولون لا فضل لعلي فوق غيره.
وقال:
وإن ذكروا يوم الغدير تأولوا
وقال: وهم أنكروا حصر الإمامة في بني البتول.
وقال: وهم أبطلوا الإجماع من آل محمد.
وقال: وهم أنكروا لعن ابن هند وسبه.
وقال: وهم أنكروا إسناد يحيى وقاسم.
صفحة ٣
هذا مضمون ما اشتملت عليه رسالته فشرح هذا وبين أقواله وليس هذا لجميع العلماء بل هم مختلفون وأكثر الزيدية، وبعض المعتزلة، وبعض أهل الحديث، والسلف يفضلون عليا من غير رفض للمشايخ، وبعضهم يتوقف في التفضيل، وأما تأويل حديث الغدير فهو ظاهر عند جميع العلماء من المعتزلة والأشعرية والأكثر من الزيدية، ولكن دلالته خفية غير جلية، لأن لفظ "المولى" له وجوه كثيرة نحو ستة عشر وجها، فالمعتزلة، والأشعرية بنو على مقتضى التأويل، والزيدية بنو على أنه يقتضي أن النص خفي لاحتماله فلا قطع في دلالته كما حققه الإمام المهدي في "الغايات" وغيره وأما إنكار حصر الإمامة، فهو للمعتزلة والصالحية، والحرورية، والأشعرية، فهؤلاء قالوا: الإمامة في جميع قريش، وإن أهل البيت أولى وأحق، واستند الصالحية، والحروية، من الزيدية وغيرهم إلى نص لزيد بن علي في مجموعه الكبير بمثل ذلك لما سأله أبو خالد الواسطي عن منصب الإمامة؟ فقال: هي في جميع قريش إذا كان برا تقيا عالما فلا شك أن المسألة خلافية بين الناس، وأما إبطال إجماع آل محمد فالخلاف -أيضا- والإمام يحيى والإمام المهدي بنو أن دلالة الإجماع من حيث هي ظنية لإحتمال أدلته وأن الحجة إنما هي في الكتاب والسنة وهو ظاهر قول الهادي أيضا أول المنتخب.
وأما لعن ابن هند فعند العلماء كافة أنه لا يجب اللعن ولا تعبد المسلمون به، وعند كثير من العلماء أنه لا يجوز لعن المسلم المعين لمعصية لجواز حسن خاتمته بالتوبة أو نحوها، واللعن إنما هو لغير المعين كما قال تعالى: { ألا لعنة الله على الظالمين } [هود:18]، ومما يدل على ذلك قوله تعالى:
صفحة ٤
{ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } [آل عمران:128]، فإنها نزلت في الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلعنهم في قنوت الصلاة فامتنع - صلى الله عليه وسلم - وتركه فإذا كان هذا في الكفار فأولى في المسلمين. وقال تعالى: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } [البقرة:134].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموه). وأما إنكار إسناد يحيى وقاسم فلم ينكره أحد أصلا بل إذا جاء مسندا من طريقهم عمل به على الرأس والعين، وإنما أنكر المنكر المقاطيع والمراسيل بغير إسناد؛ إذ شرط الحديث الإسناد كما قرره المؤيد بالله وغيره من أهل الحديث لتزول الجهالة عن الراوي؛ لأن رواية المجهول لا تصح، وقد رجع السيد الهادي عن ذلك فإنه بعد أن رحل إلى مكة المشرفة فأسمع "جامع الأصول" على أن ضهيره وغيره، فلما عرف الحديث وطرقه وشروطه وعلومه رجع عن هذه الرسالة وحسن ظنه بالصحابة كما صرح به في كتاب آخر له.
وقوله: أعانه على ذلك كثير من أصحابنا.. إلى آخره .
أقول: ذلك منهم كان تبعا للدليل، ومراعاة للإنصاف، وعدم العصبية، وليس من اتبع السنة والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبتدعا إنما المبتدع الذي رد السنة النبوية فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي قوله: كثير من أصحابنا حجة عليه بأن أكثر الزيدية متبعون للسنة والحديث من الكتب المرونة، وأنه خالف أكثرهم، وخالف علماء الإسلام أجمع، وإنما يمنع الاحتجاج بالسنة النبوية الخوارج.
وقوله: وما يتوهمه كثير منهم من أن صناعة الحديث وقوانينه إنما عنى به محدثو الفقهاء ومن أهل البيت إلى آخره.
صفحة ٥
أقول: إن الحديث النبوي يجب قبوله من كل مسلم متبع للرسول - صلى الله عليه وسلم - لعموم قوله تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وليس علينا إن عملنا بما أمرنا الله تعالى من وجوب تلقي ما جاءنا من الأخبار الصحيحة من بأس، إنما الحجة على من رد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعله وراء ظهره، وقد كان أمير المؤمنين الخليفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حجة على القاضي لقبوله ما جاء من الأخبار عن غيره من الصحابة كما ذلك معلوم لمن عرف التواريخ والسير والأخبار، فكان الواجب على القاضي اتباعه والتسنن بسنته في هذا الأصل، ولا يخفى ما في اتباع السنة المتواترة وأن ردها إنما كان لمخالفي علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الخوارج والرافضة الذين ردوا كلما جاء من غير طريق الاثنى عشر أئمتهم، والاثنى عشر رضي الله عنهم ما رووا إلا اليسير من الحديث الذي قد دخل في رواية أهل السنة دون ما تفرد به الإمامية عنهم، فلا يقبل، إما لعدم الإسناد لهم أو لضعف الوسائط.
قوله: ومن أعظم ما يتطاولون به: القدح بالإرسال، وعدم نقد الرجال، مع أن كتب الجرح والتعديل وأصوله التي هي قاعدته لا يرى فيها عن المشايخ إلا الشاذ والنادر إلى آخر كلامه.
أقول: لو أنك قرأت كتب الحديث، ولقيت شيوخهم، وسألتهم، ورحلت إليهم، أو وقفت على مصنفاتهم؛ لرأيت الإسناد في نقلهم للجرح والتعديل مسطورا بينا ظاهرا، لكن قصرت الهمم لكثير من المحصلين وإلا فإن أصول كتب الجرح والتعديل مسنده بالرجال غير مجهول ككتاب أبي حاتم في الضعفاء، وابن حبان، وتاريخ البخاري الكبير، وتاريخ بغداد للخطيب، وتاريخ دمشق لابن عساكر، والضعفاء للعقيلي، والكامل لا بن عدي، والدار قطني وغيرهم من المحدثين ولله قول الشاعر:
صفحة ٦
فقل من يدعي للعلم معرفة ... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء وما زال الإسناد من المصنفين للتاريخ ظاهرا كابن الجوزي الحافظ فجميع كتبه في التواريخ والتراجم مسندة، وكذلك ابن كثير والذهبي في أكثر تاريخ النبلاء وتاريخ الإسلام وسائر من قبلهم لا سيما من كان من أهل الحديث، وإنما اقتصر المتأخرون على حذف الإسناد في مختصرات أمهات الحديث واكتفوا بالعزو إلى الأصول المسندة والإسناد مع ذلك ثابت؛ لأن المصنف لا يروي عن الأصول الأوله إلا بطريق الإسناد إلى المصنف والمصنفون لها مسندون لها، وأما مثل الميزان للذهبي وطبقات ابن حجر ونحوهما من المحذوفة الأسانيد التي اطلع عليها القاضي في مختصرات الأصول -والله المستعان- على أن المختصرين لذلك حذفوا الأسانيد لعدم الداعية للكذب في مثل الجرح والتعديل كداعيته في غير ذلك، ولأنه في الأغلب إنما يكون من أئمة العلم الذين يبعد عن مثلهم داعية الكذب أرادوا بالتعديل للرجال حراسة السنة وما يجب في ذلك من كمال عدالة الراوي وعدم جهالته كما هو الواجب في ما أراد بذلك الغيبة بل اتباع لنحو قوله تعالى: { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } [الحجرات:6].
إن قيل: إن السيد الهادي بن إبراهيم ذكر في كتابه إزهاق التمويه ترجيح تقليد أهل البيت على غيرهم.
قيل له: صحيح، ولكنه لم يخص أحدا منه دون أحد، بل رجح تقليد الحي على الميت.
صفحة ٧
ثم إن الإمام شرف الدين ذكر أن الفقهاء الأربعة وغيرهم متبعون لأئمة أهل البيت فقاتل الله المفرق بينهم كما في خطبة الأنمار, ثم إن أهل البيت كثيرون فإن سلفهم لهم مذاهب أخر غير مذاهب المتأخرين كما اشتمل عليه الجامع الكافي يعرف ذلك من طالعة، والمتأخرين من الأئمة أيضا مختلفون كالهادي، والقاسم، والمؤيد، والإمام يحيى وغيرهم كل له مسائل يستقل بها في ذلك، فترى سائر علماء الإسلام لا يخالفون إجماع أهل البيت في الغالب، والحديث أخذه سلف أهل البيت من طريق حفاظ الحديث بالضرورة كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وقوله: إن الفقيه العلامة محمد بن يحيى بهران آثر "جامع الأصول" على "الانتصار" و"الشفاء" إلى آخره.
أقول: إن الفقيه الحافظ محمد بن يحيى بهران -رحمه الله تعالى- تبع الإنصاف حيث قبل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما أن "جامع الأصول" شأنه شأن "الانتصار" و"الشفا" فالكل أحاديث نبوية ولكن أحاديث "جامع الأصول" معروفة الطرق والأسانيد لأجل عزو كل حديث إلى مخرجه والمخرج مسند له، بخلاف أحاديث "الانتصار" و"الشفا" فهي وإن كانت أصولها كتب الحديث لكن مجمل الطرق يحتاج العارف في تحصيلها إلى بحث طويل عن أصولها، ولأجل أن أحاديث الكتابين المذكورين قد علم أنها من كتب الحديث منقولة -كما سنبين إن شاء الله تعالى- كان ذلك وجه ترجح الفقيه رحمها لله تعالى ل"جامع الأصول" لقرب معرفة الطرق والأسانيد، فما في هذه من خلة عليه رحمه الله تعالى؛ وبهذا يزول الإشكال في قول القاضي: إن الفرق أن هذا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والآخر يقول: قال البخاري.
صفحة ٨
وأما أن "الشفا" و"الانتصار" و"أصول الأحكام" مسندة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فهذا شيء ما قال به أحد من علماء الزيدية ولا غيرهم، بل هم مصرحون أنهم ناقلون عن كتب الحديث على كثرتها مثل: "سنن أبي داود"، و"كتاب الطحاوي"، و"مسند ابن أبي شيبة"، كما يصرح به المؤيد بالله في "شرح التجريد"، وتمنى ما أسنده في بعضه مسندا بطرقهم التي نقلها عنهم، وليست إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصلا هذا معلوم، وقد صرح به الإمام يحيى بن حمزة صاحب "الانتصار" بأنه إذا تعارض حديث البخاري وغيره رجح البخاري، وكذلك ذكر مثل هذا الإمام المهدي أحمد بن يحيى في "معياره" وهما من أئمة الزيدية.
وأما دعوى أن الإمام شرف الدين أسند "الانتصار"، والإمام المؤيد بالله أسند "التجريد" إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهذه مباهته بينه إذ المعلوم أن ذلك لم يوجد في زمن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قطعا بالضرورة.
صفحة ٩
وإن أردت الأخبار المروية فيهما فكذلك ما رواهما كلها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنما أراد المسند لذلك كذلك إن ثبت لأجل فقه الإسلام من الخمسة الأركان كما أسنده الإمام شرف الدين أخذ ذلك ممن سبقه في وضع ذلك الإسناد ، إذ أول من وضعه القاضي عبد الله الدواري في أول "الديباج شرح اللمع" وهو مصرح بمثل ما ذكرناه من أنه؛ لأجل قواعد الفقه حيث قال ما لفظه: "فائدة في بيان ما نحن عليه من مذهب أهل البيت المتصل بزيد بن علي المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يتصل بذلك من طرق الشرع التي هي الإجماع القياسي والاجتهاد وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتروكه، وما يتشعب من ذلك قراءة الكتب المتداولة بين أيدينا هذا الزمان ككتاب "التجريد" وشرحه وتعليق القاضي زيد و"الإفادة" و"الزيادات" و"تعاليق الإفادة" و"المجموع" وتعليق ابن أبي الفوارس وغيرها، ولكنها وغيرها مما يرجع في الحكم والمعنى إليها" ثم سرد المسند الذي ذكره في شرح "التجريد" وقال بآخره ما لفظه: هذا سند فقه من أهل البيت على الجملة، وأصول الشريعة وقواعد كتبها وأبوابها.
فأما تعيين المسائل وتفاصيلها فإلى كل واحد منهم ما ينسب إليه، وإن كانوا في الحكم كالمتفقين في الأغلب، وهذه السنة سماع في بعض ذلك، وفي بعض ذلك مستنبط كونه كذلك، وبعضه منقول من كتب موضوعه فيها ذلك يغلب الظن على صحتها، والرواية كذلك بحسب الظن والعمل بحسبه قال به كثير من الأصوليين، واحتجوا بعمل الصحابة وروايتهم بحسب ما يوجد في كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى.
صفحة ١٠
فانظر أيها المنصف ما في هذا الكلام من الاضطراب الذي حاصله أنه إسناد لبعض دون بعض، ثم كون الإسناد راجع إلى أصل طرق الشرع التي هي الإجماع والاجتهاد والعمل بأفعاله وتروكه - صلى الله عليه وسلم - ، ثم فرع على هذا الأصل المذكور السند للكتب واجتهاد العلماء كونها راجعة إلى ذلك الأصل وهذا بالضرورة وليس بإسناد للأخبار قطعا، فظهر لك أن السند ليس هو حقيقته للمؤيد بالله، وإنما أصله للدواري المذكور اصطلحه بهذا الاعتبار فنقله من نقل إلى أول شرح "التجريد"، ونقله الإمام شرف الدين أيضا.
ثم إن الروايات في الكتابين شعره بذلك، ويؤكده أيضا ما يرويه عن أبي بكر المقري وهو من جملة الحفاظ ترجم له الذهبي في "التذكرة" وهو ممن أخذه عليه المؤيد بالله بغير واسطة وله مسند في الحديث على أن خطبة شرح "التجريد" إنما هي ملصقة، فالظاهر أنها ملصقة من غير المصنف بدليل أن خطبته الأصلية غيرها عقبها، بدليل أني وقفت على نسخة قديمة جدا ليس فيها هذه الخطبة الملصقة وإنما قيد الخطبة الأصلية الصغيرة خطبة الكتاب، والضرورة من أسانيده في كتابه _رحمه الله تعالى- تخالف ذلك؛ لأنه يذكر في كتابه أكثرها عن غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأن تلك الأحاديث إنما هي له بالنقل والرواية عن كتب الحديث: ك"سنن أبي داود" و"شرح الآثار" للطحاوي وكتاب أبي جعفر الجصاص الحنفي وعن أبي بكر المقري يرويه في كتابه كذلك، ومعلوم أنها ليست من طرق الهادي ضرورة، ثم إنها إذا كانت الخطبة من أصل الكتاب حمل عمومها وإطلاقها على الخصوص والتقييد بأن تلك لا في كتابه جميعا ما جاء من طرق أهل البيت ومن طرق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيزول الإشكال مع ذلك في "البحر" في أوائل كتاب النكاح تبعا لأصله "الانتصار" والله عند لسان كل قائل.
صفحة ١١
ولو قال كما قال به الأئمة في تأويل الحديث هذا بعد الاعتراف بصحته بأن المراد به من لا يستحق ذلك عند الغضب والسهو من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد بين ذلك من الحديث والآيات التي ذكر أن الله تعالى قد لعن الكفار، والمراد بها الابعاد ولا زكاة ورحمة بالضرورة، وخص - صلى الله عليه وسلم - من صدر إليه اللعن عند الغضب والسهو.
قال: وإن كثيرا من الأحاديث مخالف للكتاب ومضاد له.
أقول: إن هذا قول غير صحيح، فإن ما صح من الأحاديث له شواهد من الكتاب ظاهره لمن فهم الصحيح لا يخالف الكتاب في الأغلب، فالقائل بالعرض إن من أنصف وجد من شاهد ظاهر لأكثر الأخبار، أما الأخبار الصحيحة فالغالب بل الكل لها شواهد، وقد أشار البخاري في صحيحه، صدر كثير من الأبواب إليها، وكما ذكرناه قريبا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقوله: في جوابه على السيد الإمام محمد بن إبراهيم حيث قال: لو لم يحتج بما في كتب السنة لأدى إلى تعطيل علم الحديث، فقال صاحب الرسالة: ولعمري ما عليه من بأس إن كان علم الحديث معطلا باجتناب الكذب على الله ورسوله، وليت شعري أي فائدة وفضيلة في ذكر الكذب وهذا كلام صاحب الرسالة.
أقول: كيف أطلق الكذب على جميع كتب أهل الحديث مما أجمع أهل الإسلام على الاحتجاج بها إلا الخوارج والروافض؟! لأن الزيدية لا يرتضون مثل هذا .
إن قيل: إنه لم يأت في شرح "التجريد" من طرق أهل البيت متصل الإسناد إلا النزر اليسير. قيل له: المراد ما جاء الإسناد عن أحدهم وإن توسط فيه من غيرهم وكان إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مما جاء في جميع كتابه لا سيما والعنعنة تحتمل ذلك كما عرف في كتب الحديث.
صفحة ١٢
ومما يؤكده ما قلناه: إن المراد بذلك ما ذكرناه قول الزحيف أول كتابه "شرح البسامة" لما ذكر الإسناد لمصنفات الزيدية إلى القاضي جعفر عن الشيخ أحمد بن الحسن الكن فقال: هذا ذكر جميع مشايخه وعددهم إلى أن أول كل كتاب بإسناده إلى مصنفه، ثم المصنفين سردوا ذكر أصل طرقهم إلى أن أوصلوهم إلى الصحابة انتهى.
وهو يريد بأصل طرقهم الأحاديث المحتج بها والآثار، فمنها: المسند، ومنها: المرسل إلى الصحابة، بل الظاهر غير هذا، وهو الإسناد في أصل ملة الإسلام من التوحيد لله تعالى، والإقرار بالبعث، والنشور، والجنة، والنار كما هو كذلك للمنصور بالله ذكره في بعض دعواته للباطنية كما في الجزء الثاني من سيرته، وهذا لا يخالف فيه أحد فإنه إسناد كل مسلم من المسلمين على إن الإسناد بهذا الاعتبار قد أسنده جميع أهل المذهب كما ذكره أول شرح ابن أبي الحديد على "نهج البلاغة" فإنه أسند مذهب المعتزلة، والأشعرية، والإمامية، والزيدية، إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من جهة الأصل الجملي، وقد أسند كثير من أهل المذاهب أصل علمهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاعتبار الجملي، كما أسند بعض الشافعية إلى الشافعية ثم قال: والشافعي أخذ العلم عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وعن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
صفحة ١٣
ومع التنزل فالذي يظهر أن ذلك الإسناد إن ثبت للمؤيد بالله المتصل بمن ذكر إنما هو في "أماليه" وهي حديثه يسير في كراسة فقط مسنده من المؤيد بالله فيكون قد حالها إسناد آخر من تلك الطريق مع الطرق التي ذكرها، فأما جميع أحاديث شرح "التجريد" فمجازفة ظاهرة إذ هي بالضرورة لا تكون جميعا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قطعا، فثبت أن هذه الخطبة الجديدة التي ظهرت موضوعة ليست من المصنف، وقد ذكر مثلما ذكرته السيد الحسن بن أحمد الجلال والله أعلم. وما ذكروا أولا "الشفا" فإن المراد بما قال: إنما هو تصحيح السماع والإجازة فيما نقله من أمهاته إلى المصنفين، وليس المراد بالصحة التي أشار إليها الرجال كل حديث كما هو ظاهر كلامه، والرجال أكثرهم مجاهيل عنده في الأصول التي نقل منها ومقاطيع بلا شك ولا ريب، إذ نقله من شرح القاضي زيد و"الانتصار" وشرح "التجريد" مهذب الشافعية، والفائق للزمخشري، وما روى على هذا إلا ما صح له روايته يعني: عن هؤلاء الذي نقل من كتبهم، ورجال كل حديث مطوي لم نخص فيه ولم يعرفه، ولذلك تساهل في رواية الموضوع كحديث الضيافة لأهل الوبر وليست على أهل المدر؛ فإنه لم يروه غير القضاعي في الشهاب.
قال: الإمام القاسم بن محمد هو حديث موضوع مكذوب لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديث رواه في "الشفا" وكلما رواه فهو صحيح عنده وهو خلاف الإجماع فيما نص عليه ذلك، وكذلك حديث الجمعة الذي رواه أبو طالب في "أماليه" بإسناده و"الشفا" وذكر فيه أن الله تعالى افترض عليكم الجمعة يوم الجمعة فمن تركها وله إمام عادل أو جائر فلا بارك الله له في أمره.
الحديث فإنه ضعيف عند أهل الحديث؛ لأن في إسناده عبد الله بن محمد العدوي وهو منكر الحديث وليس بحجة والزيدية أيضا عندهم ضعيف؛ لأنه يخالف أصولهم بذكر تصحيح إمامه فلم يصح الحديث عند الكل، فحصل التناقض عند القاضي.
صفحة ١٤
ومن ذلك حديث: من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر فهذا عند أهل الحديث ضعيف، وجزم الإمام القاسم بن محمد بأنه موضوع. وقد رواه في "الشفا" و"الانتصار" و"البحر"؛ فيلزم ابن سعد الدين أن يكون صحيحا، وهو خلاف المعلوم فتتناقض قوله.
ومنها حديث: ليس منا من استنجى من الريح ولفظه عند ابن عساكر، والديلمي في "الفردوس" وصرح (من استنجا من الريح فليس منا) فهذا الحديث موضوع كما ذكره الإمام المهدي في "الغيث" وهو في "الانتصار" و"الشفا" وغير ذلك كثير يضيق سرده هنا مما يناقض قول القاضي ابن سعد الدين.
وروى أحمد بن سليمان في "أصول الأحكام" عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في كتاب الشهادة على الزنا أنه قال للتي أقرت عنده: "لعلك اغتصبت لعل زوجك من عدونا" فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من المحدثين أصلا غير المؤيد بالله في شرح "التجريد" رواه بلا إسناد، ثم إن معناه مشكل في قوله: "لعل زوجك من عدونا" لأنه لا يسقط الحد بذلك بالإجماع.
إن قال: العهدة على المصنف فيما روى فلا يجب البحث.
قيل له: هذا لم يقل به أحد من العلماء، والإمام المهدي عليه السلام وإن قال بذلك: فإنما أراد إذا لم يكن في الرجال مجهول، صرح به في "مقدمات البحر".
قال صاحب "الفصول": إنما يصح ذلك إذا علم أن المصنف لا يروى إلا عن عدل يعنى: قد بحث عن الرجال ونقدهم، ثم أرسل فيصح ذلك.
ومعلوم أن "الانتصار" و"أصول الأحكام" و"الشفا" وشرح "التجريد" لم ينقدوا الرجال كل فرد فردا -أصلا- كما هو ظاهر لا شك فيه، بل إنما يصح لهم السماع عن المصنف للكتب التي نقلوا منها تلك الأحاديث المجموعة فقط، فحينئذ عاد القول إلى وجوب البحث عن الرجال في مثل هذه الكتب التي لم يعرف شرطها قطعا، إذ رواية المجاهيل غير مقبولة إلا عند بعض الحنفية وهو خلاف قول الجمهور.
صفحة ١٥
قال الوالد شرف الدين رحمه الله تعالى في كتابه "شرح الغاية" ما لفظه: وأما المرسلات التي نجدها في كتب المتأخرين من أصحابنا وغيرهم، فإذا فتشنا عن أسانيدها وجدنا المجروح فيها كثيرا إلا أن يقال: مقبول خبر المجهول ولا قائل به على الإطلاق فإن أبا حنيفة لم يقل بقبوله مطلقا، بل إلى تابع التابعين لقوله - صلى الله عليه وسلم - : :خير القرون قرني..الحديث". انتهى
وقوله: إن في البخاري معلقات.
أقول: تلك المعلقات أسانيدها ظاهرة قد ألحقها حفاظ الحديث في الشروح وغيرها، بل منهم من أفرد لها كتبا مصنفه، وإنما عبر البخاري ومسلم بالصحة عن غيرها بإجماع من يعتد به كونه علم شرطهما وشدة بحثهما وحرصهما على رواية الصحيح مع بيان الأسانيد وترك مالم يصح هذا ظاهره. قال السيد محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه "القواعد" ما لفظه: إن علماء الزيدية من المتأخرين معتمدين على كتاب الإمام أحمد بن سليمان المعروف ب"أصول الأحكام" وقد صرح في خطبته في بعض النسخ أنه نقله من كتب مسموعة ومن كتب غير مسموعة، ثم لم يبين الحديث المسموع من غير المسموع ولم يميز هذا من هذا بعلامة ولا بنسبة كل منهما إلى موضعه، والقارئ فيه لا يحصل له سماع حديث واحد هذا غاية التساهل أن يكون كتاب الزيدية المعتمد في التحليل والتحريم المتداول في أيدي علمائهم وفضلائهم الثابتة عليه خطوطهم بصحة السماع لا يصح فيه سماع حديث واحد، بل كل حديث فيه يحتمل أنه مسموع وأنه غير مسموع.
وأعجب من هذا وأغرب! أن أحدا منهم ما نبه على هذا الإشكال ولا ذكره أبدا ليس ذلك إلا للتساهل في علم الحديث، وهذا الكتاب منقول من "المنتخب" و"الأحكام" وشرح القاضي زيد، وهذه هي المسموعة.
ومن كتاب الطحاوي، وكتاب محمد بن الحسن الشيباني، ومن كتاب المزني صاحب الشافعي، قال عن الشافعي بإسناده الصحيح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن صحيح البخاري قال: وهذه غير مسموعة صرح بذلك.
صفحة ١٦
واعلم أن هذا الكتاب عمدة الزيدية من غير نزاع منهم، ومنهم من ينقل مصنفوهم مثل الأمير الحسين وغيره ممن صنف في الحديث وأدلة الفقه، ولو كان قد سمع هذه الكتب لكان في هذا غاية التساهل؛ لأن قبول كلما روى الطحاوي ومحمد بن الحسن مشكل مع قول بعض الحنفية للمجهول.
ثم قوله في كتاب المزني: إنه عن الشافعي بإسناده الصحيح.
صفحة ١٧
لا يقوله أحد حتى الشافعية وليس للشافعي في كتاب صحيح، وإنما له مسند فيه الصحيح والضعيف وأسانيد الشافعي عند الشافعية غير صحاح، بل فيها الصحيح والضعيف وهذا مما يدل على أن علماء أصحابنا إذا قالوا: وروينا بالإسناد الصحيح فلا تثق به لأنهم يعتقدون أن معنى الصحة في الأحاديث وفي الإسناد وهو أن يقرئ على شيخ ثقة ولقد صرح بهذا المعنى الأمير حسين في كتاب "الشفا" وقد ذكر حديثين ثم قال: وليس لي سماع ولكنهما من كتاب "الفائق" للنسفي قال: وهو مشهور عن الشفعوية، يشير بذلك إلى قوتهما ثم كتب في الحاشية على هذا الكلام في بعض النسخ أنه صح له الفائق بعد ذلك السماع على بعض أهله ورأيت ذلك في نسخة في حي جدي المرتضى وهي معنا إلى الآن وهي مسموعة على الإمام محمد بن المطهر وقد كتب حي جدي المرتضي في هذا الموضوع المذكور وأنا به أيضا قد صح لي كتاب الفائق وقال الحديثان لسماعي لكتاب الفائق على مولانا محمد بن المطهر وما أعلم أحد جعل قراءة هذا الكتاب على الشيخ طريقا إلى صحته إلى آخر ما ذكره السيد محمد في قواعده مع ما في كتاب "الشفا" للأمير حسين من الأوهام الفاحشة الباطلة ما يستحى منه، فإنه ضبط في كتابه "الشفا" الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحنا من الإيمان"! بالحاء المهملة المكسورة، ثم نون يريد الخضاب بشجرة الحنا، وليس الحديث هكذا، فإنه تصحيف فاحش، فإنما هو الحيا بفتح الحاء المهملة ثم ياء مثناه من أسفل مفتوحة، وكذلك ضبط المجزرة في حديث النهي عن الصلاة في السبع المواطن فقال: بالخاء المعجمة ثم راء مضمومة، ثم ضبط لما ورد في بيعه السيف فقال: بضم القاف ثم نون ساكنة ثم ياء موحدة، وهذا التصحيف فاحش فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
صفحة ١٨
فحينئذ ظهر الفرق بين العزو إلى الأمهات الست كعزو "جامع الأصول" وغيره، وبين غيرها من الكتب المنقولة فاعرف ذلك فإنه أنه ما ترك الحديث النبوي ولا رده، فليس حاله كحال الخوارج، وإنما قال بأنه يؤخذ منه ما جاء في الكتب التي عدها مثل: "الشفاء"، و"الانتصار"، و"أصول الأحكام"، وشرح "التجريد"، لا سواها قيل له: الله تعالى قد ذم من يؤمن ببعض ويترك البعض من بنى إسرائيل قد قال كثير من العلماء الرد للسنة الصحيحة والمتواترة بل للحديث الواحد المتواتر والقرآن والرد لذلك لا يخفى ما فيه، وحاشا القاضي عن ذلك، فالواجب اتباع ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما صح أو تواتر مطلقا، ثم إن السيد محمد بن إبراهيم الوزير ذكر في كتابه الفصول ما لفظه: "ولا يشترط كون الراوي للحديث الإمام المنصوص عليه ولا كون الراوي من أهل البيت قال السيد صلاح في شرحه: أي أنه لا يخالف في هذه الصوة إلا الإمامية وهو باطل بالإجماع من الصحابة ومن بعدهم.
وقوله: ولا كون الراوي من أهل البيت لرجوع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خبر المقداد وهو ليس من أهل البيت، وللإجماع من الصحابة على خلاف ذلك. انتهى كلامه على أن قد بينا أن أهل هذه الكتب المعينة أصولها مأخوذة من كتب الحديث -كما شرحناه- فلم يكن العمل ببعضها أولى من بعض، بل في نقل أئمة الزيدية لحديثهم من كتب الحديث كما ذكرناه مزيد حجة في نقض قول القاضي أحمد بن سعد الدين كما ذكر كذا ظاهر.
وقوله: إذا كان المرجع إلى الرجال ففي رجال الفريقين ما هو الحق والباطل فقد قال يحيى بن معين في الشافعي: إنه ليس بثقة.
صفحة ١٩
أقول: الله المستعان! أما تضعيف يحيى بن معين للشافعي -رحمه الله تعالى- فهو جرح مطلق، والجرح المطلق غير مقبول عند أهل الحديث، ثم إن سلم قبوله: فإن الشافعي رحمه الله كان في ابتداء أمده لما كان بالعراق يروي عن مشايخ متكلم فيهم ليسوا بذاك في الحديث مثل: الرنحي، وإبراهيم بن أبي يحيى، فأخذ عنهم في رواية الحديث كما في مسند الشافعي فإن أكثر داير عليهما، وهم عند أهل الحديث ضعفاء، فلعل ابن معين أطلق عليه ذلك لأجل ما روى من تساهله في الرواية المسندة عن مثل هؤلاء أو نحو ذلك، وإلا فإن الشافعي -رحمه الله تعالى- من كبار العلماء الثقات والعلماء الأثبات، ثم أيضا: إن الخلاف إذا حصل في الجرح والتعديل، فإن العمل في ذلك على قول الأكثر من المعتبرين والرجوع إلى البحث عن أسباب الجرح والنظر، فلابد أن يظهر ما هو الصحيح من غير لمن عرف الحديث والعلم، وعلى هذا يجري شأن ما تكلم فيه شذوذ في جماعة من رجال الصحيحين وهم القليل مثل: عكرمة مولى ابن عباس، وهشام بن عروة، ومحمد بن إبراهيم التيمي هو راوي حديث: (إنما الأعمال بالنيات) وهو متلقى بالقبول بإجماع الأمة.
صفحة ٢٠