ولكن عندما يصل الأمر بهذا التفسير إلى رفع شعار «موت الإنسان» (بالمعنى المحدد في الفقرة السابقة)؛ فإن المرء لا يملك إلا أن يعد هذا تطرفا غير مشروع. فالقضية الكامنة من وراء هذا الشعار، وهي أن هناك تعارضا بين الاعتراف بالإنسان كنقطة بداية للبحث، وبين الوصول إلى الحقائق الموضوعية للمجتمع، هي ذاتها قضية مشكوك فيها إلى حد بعيد. وإذا كانت تلك الحقائق الموضوعية التي ركز عليها ألتوسير تفسيره هي البناء الطبقي وعلاقات الإنتاج وقوانينها اللاشخصية؛ فمن المهم أن نذكر أن عملية الإنتاج نفسها عملية إنسانية، بل هي التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات التي لا «تنتج» شيئا لكي تعيش. وتلك حقيقة أكدها ماركس نفسه. وخطورة هذا التطرف في التفسير تكمن في أنه يصور الأمر كما لو كانت في المجتمع قوى تعمل بذاتها، وبصورة تلقائية لها قوانينها الخاصة، على نحو مستقل عن الإنسان الذي هو في نهاية الأمر صانعها وسبب وجودها.
ولذلك نعتقد أن «ميلو
Milahu » كان على حق حين انتقد تطرف ألتوسير في إنكار النزعة الإنسانية بقوله: «إذا اعترفنا بأن الماركسية منظورا إليها على أنها تصور علمي لتطور المجتمع لم تكن نزعة إنسانية بمعني نظرية تستمد نقطة انطلاقها من الإنسان، وإذا سلمنا بأنها على عكس ذلك، هي الدراسة العلمية لتطور المجتمع في تحديداته الذاتية والموضوعية؛ فإنه يظل من الصحيح رغم ذلك أن هناك نزعة إنسانية ماركسية تعبر عن أماني الطبقات المضطهدة في صراعها من أجل التحرر. هذه النزعة الإنسانية ليست إضافة ذات طابع روحي تلصق أو تلحق بنظرية علمية، بل هي ترتكز نظريا على حقيقة واقعة، هي وجود أفراد من البشر يسلكون في العمل المنتج وفي صراع الطبقات بكل أشكاله، وفقا لشروط محددة لا تتوقف عليهم. وتترتب على سلوكهم هذا تغييرات على مستويات متعددة، سواء أكان سلوكهم واعيا أم لم يكن، وسواء أكانت هذه التغيرات متعمدة أم لم تكن. وهذه التغيرات بدورها تتخذ موضوعا لدراسات تجريبية وعينية، وفقا لمقولات المادية التاريخية؛ مما يؤدي إلى ظهور دراسة إنسانية علمية، لا يمكن أن تستمد مبادئها إلا من المادية الجدلية والمادية التاريخية مفهومتين بمعناهما الشامل.»
15
وهكذا يكون من الممكن التوفيق بين الاهتمام بالقوانين الموضوعية للمجتمع، والاهتمام بالإنسان. أما حين يصل الأمر عند ألتوسير إلى حد استبعاد مفاهيم أساسية عند ماركس، مثل مفهوم النزعة الإنسانية، والاغتراب و«البراكسيس» والنزعة التاريخية على أساس أنها كلها تمثل مرحلة «أيديولوجية» سابقة على الماركسية الناضجة، وعلى أساس أنها تشكل عقبة في وجه الفهم البنائي العقلاني للمجتمع؛ فإن هذا يعني أن صاحب هذا التفسير لا يتحدث عن ماركس الحقيقي بقدر ما يتحدث عن ماركس كما يتلاءم مع تفكير المفسر ذاته، أعني ماركس التجريدي الذي وضع الإنسان وواقعه العيني «بين قوسين»، واكتفى ببناء طاغ على الإنسان. ولتحقيق ذلك لجأ ألتوسير إلى التمييز بين ما قاله ماركس فعلا، وما كان يعنيه «حقيقة»، ولكن بصورة ضمنية. ومثل هذا التمييز بين التعبير الصريح للمفكر وبين «ما يقصده بالفعل» هو دائما محفوف بالخطر، يكون من الصعب معه وضع حد فاصل بين التفكير الأصلي للفيلسوف المراد تفسيره، وبين الاتجاهات الخاصة التي يريد المفسر، بناء على تكوينه الفكري الخاص أن ينسبها إليه. وبقدر ما يكون في مثل هذا التفسير من جدة ومن أصالة - وهي صفات تتوافر في ألتوسير بغير شك - فإنه يظل على الدوام معرضا للانحراف عن نقطة البداية التي انطلق منها، ولفقدان الطريق الموصل إلى حل للمشكلات التي بدأ بالتصدي لها.
خاتمة: البنائية والإنسان
لم يكن ألتوسير هو الفيلسوف البنائي الوحيد الذي وجهت إليه تهمة إنكار الإنسان من أجل تأكيد نسق أو بناء يعلو عليه ويتجاوزه؛ فواقع الأمر هو أن البنائية، في شتى اتجاهاتها، معرضة لهذا الاتهام، وبعض ممثليها لا ينكره ولا يجد فيه ما يدعوه إلى اتخاذ موقف الدفاع عن نفسه. وفي البنائية، كمذهب، اتجاه عام إلى تأكيد طغيان النسق على الإنسان، بحيث يعجز الإنسان عن التحكم في نشأته أو في غايته، ولا يتبقى أمامه إلا أن يدع ذلك النسق يسير في مجراه، ويحمله معه بين طياته. هذا الاتجاه إلى إخضاع دراسة الإنسان للمعقولية والموضوعية الكاملة هو الذي بدا، في نظر الكثيرين، مهددا للإنسان نفسه، بحيث تبلورت حوله كل الانتقادات التي وجهت إلى البنائية من شتى الاتجاهات.
ولعل أبرز العناصر التي انصب عليها هجوم نقاد البنائية، هو نظرتها السكونية
Statique
إلى الإنسان وإلى تاريخه. فعلى قدر نجاح البنائية في التعبير عن «التكوين الثابت» للإنسان، عبر العصور المختلفة، نجدها تخفق في تعليل التطور والتقدم، وتكاد تذهب إلى حد القول بأن الاعتقاد بالتقدم وهم، وبأن التحديات التاريخية سراب خداع. ويترتب على هذه النظرة السكونية، عجز البنائية عن تفسير «منشأ» البناءات التي تدور حولها أبحاثها، وعن تفسير كيفية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، أو من بناء إلى آخر. ففي أبحاث ستروس، التي استهدفت الوصول إلى التكوين الثابت للعقل من خلال الدراسة الأنثروبولوجية للحضارة، نعجز عن تعليل كيفية ظهور هذا العقل نفسه أو نشوئه، ويبدو وكأن هذا العقل كان «هناك» على الدوام، كما نعجز عن تفسير تحول هذا العقل إلى صورته الحديثة التي أنتجت العلم، وأنتجت البنائية ذاتها بوصفها مظهرا من مظاهر العلم. وفي تحليلات ألتوسير ينصب التأكيد على فهم العناصر المتزامنة
صفحة غير معروفة