وعلى الرغم من أن كتابات ماركس لم تعبر عن هذا الاتجاه إلا بصورة ضمنية؛ فقد كانت فيها بذور مؤكدة أمكن تنميتها فيما بعد. فعلى حين أن بعض الماركسيين يعتقدون أن كل مجتمع بشري ينبغي أن يمر بنفس المراحل المحددة، من البدائية إلى الرق ثم الإقطاع وبعده الرأسمالية، لينتهي إلى الاشتراكية، فإن كتابات ماركس ذاتها قد تضمنت ما يوحي لنا بتفسير مخالف، يساعد على كشف ما هو مميز لكل مجتمع، ولا ينظر إلى التاريخ نظرة تراكمية تؤدي فيها كل حضارة إلى ظهور حضارة أخرى تمر بنفس المراحل. ويتمثل هذا التفسير المخالف في تنبيه ماركس إلى ما أطلق عليه اسم «أسلوب الإنتاج الآسيوي»، الذي يدل على رغبته في فهم واقع الشعوب الآسيوية، وكثير من المجتمعات التي نطلق عليها اليوم اسم «العالم الثالث» دون الحاجة إلى وضعها في قوالب أوروبية، أو تأكيد انطباق مقولات التاريخ الأوروبي عليها بطريقة مبسطة موحدة الاتجاه. وما هذا إلا مثل واحد يدل على أن كتابات ماركس كانت تتضمن بالفعل بذورا لنظرة جديدة إلى الحتمية، مخالفة للحتمية المبسطة ذات الاتجاه الواحد، التي اعتاد الماركسيون اللاحقون أن ينسبوها إليه.
بقي أمامنا في هذا العرض الذي نقدمه لتفسير ألتوسير البنائي للماركسية سؤال أخير، هو: هل نجح هذا التفسير بالفعل في تجاوز كل العقبات التي تقف في وجه التفسير التقليدي للماركسية؟ وهل تمكن من أن يعبر، على نحو جامع، عن الماهية الأصلية لتفكير ماركس؟ من المؤكد أن ألتوسير مفكر قدير، متمكن من مادته ومن أسلوبه، وأن عمقه قد أفاد الماركسية كثيرا في إنقاذها من خطر «التسطيح» الذي تتعرض له على يد التفسيرات المفرطة في التبسيط. ولكن المشكلة في أمثال هذه التفسيرات المتعمقة هي أنها أحيانا تقوم بعملية «إسقاط» تضفي فيها أفكار المفسر ذاته على الفيلسوف الذي تفسره، كما أنها قد تضطر، من أجل الاحتفاظ بتماسكها الداخلي، إلى تجاهل بعض الحقائق الأساسية التي تقف عقبة في وجهها. ويبدو أن ألتوسير معرض للوقوع في أخطاء من هذين النوعين.
ولعل أول ما تجدر الإشارة إليه، في هذا الصدد، هو الاتجاه العام لتفسير ماركس عند ألتوسير. فهو يريد أن يثبت أن الإطار الذي وضعه ماركس لتفكيره كان جديدا كل الجدة. وربما كان من حقنا أن نتساءل عما إذا كانت مبادئ الماركسية ذاتها تسمح بوجود إطار جديد كل الجدة لدى أي مفكر؛ ذلك لأن هذا معناه أن يكون المفكر مختلفا عن كل السابقين غير متأثر بهم. فهل تعد هذه النظرة إلى تطور الفكر، التي تؤكد وجود حالات «انقطاع» حاسم فيه، وتنكر الاتصال التاريخي بالنسبة إلى هذه الحالات بعينها، وتقول بإمكان وجود بداية مطلقة في الفكر؟ هل تعد هذه النظرة متمشية مع وجهة النظر الماركسية ذاتها في تطور الفكر؟ أشك كثيرا في أن يكون الجواب عن هذا التساؤل بالإيجاب.
وفي سبيل تأكيد هذه البداية المطلقة، أنكر ألتوسير أن يكون ماركس قد تأثر، في مرحلة نضوجه، بالمقولات الفكرية الهيجلية. وتلك نقطة أخرى لا يمكن قبولها بسهولة، وكانت هي على وجه التحديد من أكثر النقاط التي اعترض عليها ماركسيون آخرون من نقد ألتوسير. ذلك لأن ألتوسير تجاهل هنا أن ماركس نفسه قد شهد في كتاباته بتأثير المنهج الديالكتيكي الهيجلي عليه، وبأنه قد اقتبسه بعد أن أعاده من وضعه المقلوب إلى وضع الاعتدال. كما تجاهل لغة ماركس التي ظلت هيجلية حتى كتاب «الأيديولوجية الألمانية» على الأقل، وتجاهل تأكيد ماركس أن هيجل هو الذي قدم إليه الأداة المنطقية التي تمكن بواسطتها من الانتقال من أبسط العلاقات وأقربها إلى الطابع المباشر - أي العلاقة بين شخصين في التعامل بسلعة معينة - إلى النقد العام للنظام الرأسمالي بأسره ، متبعا نفس المنهج الذي اتبعه هيجل في انتقاله من أبسط المفاهيم حتى أعقدها، في كتابي «المنطق» و«ظاهريات الروح». وتجاهل أخيرا كل ما قاله لينين بعد ذلك عن أهمية هيجل، واستحالة فهم ماركس دون دراسة منطق هيجل. والأمر الذي أتاح له هذا التجاهل هو تلك التفرقة التي وضعها بين ما عبر ماركس عنه صراحة وعن وعي، وما كان ماركس يعنيه بالفعل. فهو لا يكترث بالتصريحات الفعلية بقدر ما يهتم بالمعاني الضمنية التي لا تفهم إلا من خلال دراسة «النسق» الفكري لكتاباته وتحليل بنائها؛ بغية الوصول إلى دلالتها التي لا تظهر على السطح الخارجي. وهكذا كان ألتوسير يقلل، مثلا، من شأن تأكيد ماركس أنه قلب الجدل الهيجلي رأسا على عقب، ويصفه بأنه مجرد مجاز لفظي، وهي طريقة في التفسير يمكن أن تؤدي إلى أية نتائج يريدها المرء، ما دام لا يقيم وزنا لما يقوله المفكر نفسه. وأما عن شهادة لينين، فمن الملاحظ أن ألتوسير قد قام بنفس هذا العمل عن لينين نفسه في كتاب «لينين والفلسفة
Lénine et la philosophie »، أي إنه فسره تفسيرا «علميا» مبالغا فيه، وتجاهل الارتباط الوثيق بين البناء الشكلي والمضمون الفلسفي في كتاباته، كما تجاهل المضمون الثوري الذي ينبغي للمرء أن يعمل حسابه في كل قراءة لتلك الكتابات، إلى جانب ما فيها من شكل علمي خارجي.
13
والواقع أن حرص ألتوسير الشديد على كشف «البناء» العلمي المنضبط في كتابات ماركس، قد أدى به إلى السير في متعرجات الاستدلال الفلسفي، التي يتوه فيها القارئ معه دون أن يعرف كيف يعود إلى الواقع الذي بدأ منه. وفي خلال هذا المسار المتعرج، الذي ينبغي أن نعترف لألتوسير بالقدرة على سلوكه دون أن يفقد الخيط الجامع بين أطراف براهينه، وبالتمكن التام من أشد الاستدلالات تجريدا. في خلال ذلك يحس القارئ بأن النهاية شيء والبداية شيء آخر، وبأن البناء الشكلي للتفسير أخذ يطغى بالتدريج على المضمون الفكري، حتى يتحول الأمر في النهاية إلى مجرد الاستمتاع بالجمال الشكلي لهذا البناء مع نسيان الهدف الأصلي الذي كان ماركس يضعه نصب عينيه في كل ما كتب.
أما هذا الهدف الأصلي، فهو الإنسان أولا وأخيرا. ومهما قيل عن وجود بناء علمي موضوعي لا شأن له بالاعتبارات العاطفية الإنسانية عند ماركس (وكثير من هذا الذي يقال صحيح)؛ فإن كل بناء شيده ماركس كان له، في النهاية، هدف إنساني. صحيح أن ماركس قد استبعد الاعتبارات العاطفية من تفكيره، ولم يكن في مرحلته الناضجة يهتم بتحقيق صورة مثالية للإنسان بقدر ما كان يهتم بكشف القوانين العلمية الموضوعية للعلاقات الاجتماعية التي تعلو على الأشخاص. كل هذا صحيح، ولكن هذه الحجج «العلمية» كلها كانت تستهدف، آخر الأمر، القيام بثورة «إنسانية» تؤدي إلى إقامة علاقات اجتماعية يختفي فيها استغلال الإنسان للإنسان. ولو لم يتذكر المرء هذا الهدف النهائي للماركسية على الدوام، لكان - على حد تعبير أحد نقاد ألتوسير - كالمستجير من دجماطيقية النزعة الإنسانية، بدجماطيقية أخرى أفدح وأخطر، هي دجماطيقية الشكلية التجريدية.
14
والواقع أن ألتوسير كان على حق في محاولته تخليص فكر ماركس من التشويهات التي أصابته على يد أولئك الذين كان هدفهم الأوحد تحقيق غايات عملية وبرجماتية، بحيث نسبوا إليه نزعة إنسانية شبه مثالية؛ لكي يرضوا مجتمعا متشبعا بالأفكار والمبادئ الليبرالية، ويقربوا أفكاره إلى عقول الناس في مثل هذا المجتمع. وبهذا المعني كان تفسير ألتوسير نوعا من العودة إلى الأصالة بعد التشويهات ذات الأهداف العملية، التي لا تقيم وزنا كبيرا للمذهب في صورته النقية. ولا يملك المرء إلا أن يعترف بأن ألتوسير كان على حق - ولو بصورة جزئية - حين هاجم أولئك الذي انطلقوا، في تفسيرهم لماركس، من مفهوم مجرد للإنسان، وارتكزوا على مفاهيم مثل «الاغتراب» لم يحاولوا أن يربطوها بجذور اجتماعية ملموسة، وكان على حق حين أكد أن العلم الإنساني الذي شيده ماركس في «رأس المال» لم ينطلق من مفهوم الإنسان، حتى لو كان ذلك هو الإنسان الواقعي في علاقاته الإنتاجية المحددة، بل انطلق من تحليل بناء الإنتاج ومن فكرة الطبقات الاجتماعية، ومن القوانين الموضوعية للاقتصاد، التي توجد مستقلة عن وعي الإنسان بها ، بل وتتحكم في هذا الوعي.
صفحة غير معروفة