ملخص
مقدمة
ما هي البنائية؟
الأسس الفلسفية للبنائية عند ليفي ستروس
ميشيل فوكو وبناء العقل الحديث
البنائية والماركسية
خاتمة: البنائية والإنسان
ملاحظات
أهم المراجع
ملخص
صفحة غير معروفة
مقدمة
ما هي البنائية؟
الأسس الفلسفية للبنائية عند ليفي ستروس
ميشيل فوكو وبناء العقل الحديث
البنائية والماركسية
خاتمة: البنائية والإنسان
ملاحظات
أهم المراجع
الجذور الفلسفية للبنائية
الجذور الفلسفية للبنائية
صفحة غير معروفة
تأليف
فؤاد زكريا
ملخص
يبدأ البحث بتأكيد أن البنائية، من حيث هي منهج، قديمة العهد، أما من حيث هي مذهب فكري شامل فهي ظاهرة حديثة، ومع ذلك فمن الوجهة الفلسفية الخالصة يمكن تتبع جذورها الفلسفية إلى أصول من أهمها فلسفة «كانت» التي كانت بدورها تبحث عن نسق «قبلي» تنظم إطاره التجربة ويتألف من صور أو قوالب ذات طبيعة ذهنية. وتشكل البنائية حلقة في تلك السلسلة الطويلة من المحاولات التي تهدف إلى جعل دراسة الإنسان علما دقيقا، ومن ثم كان النموذج اللغوي يقوم فيها بدور أساسي.
وأهم ما يميز البنائية، فلسفيا، هو محاربتها للنزعة التجريبية من جهة، وللنزعة التاريخية من جهة أخرى. فهي تذهب إلى أن العقل ينمو نموا عضويا، بحيث تظل فيه صور هي أشبه بالنواة الثابتة، وإن كنا نزيدها على الدوام توسيعا وتعميقا. وعن طريق اكتشاف عناصر الثبات هذه تعتقد البنائية أنها انتقلت بدراسة الإنسان ومجتمعاته إلى مرحلة العلم المنضبط.
ويعرض البحث بعد ذلك للأسس الفلسفية للبنائية عند عدد من ممثليها الرئيسيين: (1) ليفي ستروس
يظهر الأساس الفلسفي لتفكير ستروس في تأكيده تدخل الذهن البشري في تشكيل كل نواتج ثقافته، وجمعه بين مجموعات متغايرة من الظواهر ضمن إطار أو بناء واحد، هو أساس كل المظاهر الخارجية للنظم الاجتماعية. وهذا الطابع الفلسفي هو أساس الانتقادات التي وجهها إليه علماء الأنثروبولوجيا، حين اتهموه بأنه كان دجماطيقيا يخرج البناءات عن مجرى الزمان. كما أن هذا هو أصل المعركة المشهورة بين ستروس وبين سارتر والوجودية بوجه عام. (2) ميشيل فوكو
في كتاب «الكلمات والأشياء» يحاول فوكو أن يبحث بطريقة غير تاريخية عن البناء المميز لكل مرحلة من مراحل الفكر الأوروبي الحديث ، منذ عصر النهضة حتى اليوم. وهو يتعسف في تحديد هذا البناء الذي يراه ثابتا إلى حد إغفال كثير من العناصر الأساسية التي يستحيل فهم العصر بدونها. (3) الماركسيون
يستعرض البحث محاولة إيجاد مركب بين البنائية والماركسية عند «لوسيان سيباج»، وهي المحاولة التي ارتكزت على أساس اهتمام ماركس بالبحث عن أطر «كلية» تتجاوز نطاق العوامل الاقتصادية التي اقتصرت عليها الماركسية التقليدية؛ ولذلك أنكر «سيباج» السببية المطلقة للعامل الاقتصادي، ووضعه في إطار أوسع منه.
والمحاولة الأهم هي التي قام بها «لوي ألتوسير»، الذي أراد أن يعيد إلى الماركسية انضباطها العلمي، ويؤكد استقلالها عن هيجل وعن التراث الفلسفي السابق كله، ويجعل محورها بناء اجتماعيا اقتصاديا يكون الإنسان ذاته جزءا منه. وهو يستعيض عن السببية التقليدية بين البناء الأدنى والأعلى، بسببية معقدة متعددة الجوانب. وقد انتقدت هذه المحاولة بسبب تفسيرها المتعسف للماركسية من خلال منظور واحد، هو المنظور العلمي الدقيق وحده، وتجاهلها المفرط للإنسان.
صفحة غير معروفة
وفي خاتمة البحث تنتقد البنائية ككل لهذا السبب نفسه، أي تجاهل الإنسان، وتجاهل التاريخ والتطور، وإن كان «بياجيه» و«سيباج» يذهبان إلى تأكيد إمكان التوفيق بينها وبين النزعة التاريخية عن طريق تحديد أدق لمعنى «الإنسان» الذي تركز عليه البنائية أبحاثها. وينتهي البحث بتأكيد أن هذا الدفاع غير مقنع تماما، وأن البنائية لم تعمل حسابا لعوامل الحركة والتغير والفاعلية؛ لأنها ركزت على الإنسان في حالته «السكونية» حين يكون «مفعولا» لا «فاعلا».
مقدمة
بلغت البنائية من حيث هي اتجاه فكري وفلسفي، ذروتها في السنوات الأخيرة من الستينيات في هذا القرن، وكان من الشائع في أوساط المثقفين أن ينظر إليها على أنها «مذهب فلسفي». ومن سمات المذهب الفلسفي، أيا كان، أنه يسعى بقدر إمكانه إلى الشمول، ويستهدف تقديم تفسير موحد لمجموعة كبيرة من المشكلات الفكرية، ويضم مجالات معرفية متعددة في إطار نظرة واحدة إلى العالم وإلى طبيعة الأشياء. وبالفعل وصل المد البنائي، في فترة الذروة هذه، إلى ميادين شديدة التنوع. ففي مجال اللغويات كان جاكوبسون
Jakobson
وشومسكي
Chomsky
يقودان حركة نشطة اتخذ منها الكثيرون نموذجا ومثالا يحتذى في ميادين أخرى. وفي ميدان التحليل النفسي كان «لاكان
Lacan » يشد انتباه معاصريه بنظرته الجديدة إلى هذا العلم الذي كان يبدو، قبل نشر بحوثه، في حالة ركود نسبي. وفي النقد الأدبي كان «بارت
R. Barthes » يفتتح عهدا جديدا في تفسير النصوص على أساس بنائي، وفي الميدان الفلسفي كان مفكر ميال إلى المحافظة مثل «فوكو
Foucault » يبهر جماهير المثقفين برؤيته الجديدة في كتابه المشهور «الكلمات والأشياء
صفحة غير معروفة
Les Mots et les Choses »، على حين أن مفكرا ماركسيا أصيلا هو «ألتوسير
Althusser » كان يعيد قراءة الأصول الكبرى للفلسفة الماركسية، وخاصة كتاب «رأس المال» ذاته، من خلال تفسير بنائي مبتكر. وقبل هؤلاء جميعا، كان «ليفي ستروس
Lévi-Strauss » يواصل جهوده الرائدة التي كان قد بدأها قبل هذا التاريخ بما يقرب من عشرين عاما، والتي استطاع بفضلها أن يجعل للبنائية مكانة بارزة على خريطة المذاهب الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أن ميدان تخصصه كان علما اجتماعيا وليس فلسفيا، هو الأنثروبولوجيا.
على أن هذا الانتشار الذي جعل من البنائية مذهبا فلسفيا شاملا، ما يقرب من عشر سنوات، لا ينبغي أن يخفي عنا حقيقة هامة، هي أن البنائية لم تصبح مذهبا فلسفيا إلا لأن المتخصصين قد تنبهوا في ذلك الوقت بالذات إلى الإمكانات الخصبة التي تكمن في فكرة «البناء». أما الفكرة ذاتها، وأما مبدأ التفكير من خلال «بناءات»، فكان معروفا قبل ذلك بوقت طويل. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول إن البنائية هي قبل كل شيء «منهج» في التفكير، وبهذا المعنى كانت موجودة منذ عهد بعيد، ولكنها لم تصبح «مذهبا» فلسفيا إلا بعد أن تنبه بعض المفكرين، بطريقة واعية، إلى أهمية هذا المنهج، وحددوا معالمه بوضوح بعد أن كان يطبق بطريقة ضمنية دون وعي بكافة أبعاده. وكانت نتيجة الحماسة التي تملكتهم حينما اكتشفوا هذه الطريقة في التفكير، أن جعلوا منها «مذهبا» شاملا يقدم تفسيرا للمشكلات التي تواجه العقل في ميادين شديدة التباين. ومعنى ذلك أن البنائية من حيث هي منهج، قديمة العهد، أما من حيث هي مذهب شامل، فهي ظاهرة حديثة في الفكر المعاصر.
ولكن على أي أساس نقول إن البنائية، من حيث هي منهج، كانت معروفة ومطبقة منذ وقت طويل؟ ذلك لأن مجرد تطبيق نموذج رياضي على موضوع علمي معين، هو في ذاته نوع من البنائية. «فإذا أدركنا أن العلم الحديث، منذ القرن السابع عشر، لم يتمكن من تحقيق إنجازاته الضخمة إلا بفضل تطبيق النموذج الرياضي على الظواهر الطبيعية، كان في استطاعتنا أن نحكم بأن هذا العلم كان منذ بدايته «بنائيا»؛ لأنه استهدف الاهتداء إلى «البناء» الكامن وراء الظواهر الطبيعية، وعبر عن هذا البناء بلغة رياضية. بل إن كل علم لا بد أن يكون له من البنائية نصيب؛ لأن دراسته تنصب على بحث أنساق من العلاقات والروابط بين الظواهر.»
1
ويؤيد بياجيه - عالم النفس المشهور - الرأي القائل إن البنائية في صميمها منهج قبل أن تكون مذهبا؛ ذلك لأنها أسلوب فني متخصص (
Technical )، وتقتضي التزامات عقلية معينة، وتؤمن بالتقدم المتدرج. ولقد كان للمنهج الذي تمثله البنائية تاريخ طويل يشكل جزءا من تاريخ العلوم، غير أن سماتها لم تكتشف إلا في وقت متأخر؛ وذلك لأسباب منها صعوبة المنهج البنائي وتعقده، واتجاه العقل البشري إلى أن يتجاهل في البداية مفاهيم الاعتماد المتبادل بين الظواهر، والكل النسقي الذي تشكله، مكتفيا بتفسيرات مبسطة موحدة الاتجاه. هذا فضلا عن أن البناءات الكامنة وراء الظواهر لا تظهر للملاحظة المباشرة، بل توجد على مستويات لا يتم التوصل إليها إلا بتجريد مضاعف، أو على حد تعبيره، بتجريد «صور الصور
Forms of Forms ».
2
صفحة غير معروفة
على أنه، إذا كان للبنائية، بوصفها منهجا، مثل هذا التاريخ الطويل؛ فإن ظهورها الذي يبدو على شكل انبثاق مفاجئ، والذي اتخذ صورة مذهب فكري متكامل، قد ارتبط بظروف تاريخية معينة، كان لها تأثيرها في الفلسفة الفرنسية بالذات؛ إذ إن أول البنائيين وأهمهم كانوا من الفرنسيين. فبعد الحرب العالمية الثانية، كان إنتاج سارتر الغزير في ميادين الفلسفة والرواية والمسرحية والمقال السياسي هو المسيطر على الجو الثقافي الفرنسي، بل إنه تعدى نطاق هذا الجو الثقافي حتى أصبح «أسلوبا» خاصا للحياة يتميز به عدد كبير من الشبان الفرنسيين في مظهرهم وملبسهم ومناقشاتهم، هم «الوجوديون» الذين كانوا من المعالم الفرنسية المميزة في ذلك الحين. ولم تظهر قوة فكرية أخرى تتحدى آراء سارتر في الحرية «المحكوم بها» على الإنسان إلا في الماركسية، التي ركزت أبحاثها على قوانين التحول التاريخي، وأكدت حتمية الصراع الطبقي. ولم يمض وقت طويل حتى سعى سارتر نفسه إلى إزالة التعارض الحاد بينه وبين الماركسية، حتى وصل به الأمر إلى حد إعلان أن الماركسية لا يمكن تجاوزها، وأن فلسفته بالتالي تتخذ لنفسها موقعا «داخل» الماركسية. هذا على الرغم من أن حركة التقارب لم تكن متبادلة من الطرفين؛ لأن الماركسية ظلت تهاجم النزعة الذاتية والمثالية في الوجودية، وتصفها بأنها نموذج واضح للأيديولوجية البورجوازية.
في هذا الجو ظهرت البنائية لكي تدخل طرفا ثالثا في الصراع الفكري الذي سيطر على الثقافة الفرنسية في الستينيات، فأضافت وقودا جديدا إلى لهيب المعارك الدائرة بين المثقفين، وكان لظهورها دوي كبير، لا لأنها أتت باتجاه جديد فحسب؛ بل أيضا لأن التقابل بين الوجودية والماركسية، كما قلنا من قبل، كانت قد خفت حدته، وكان لا بد من ظهور خصم جديد يثير المعركة الفكرية مرة أخرى.
على أن البنائية كانت لها جذور فلسفية أقدم كثيرا من العصر الذي ظهرت فيه. وأهم هذه الجذور، في اعتقادي، هو فلسفة كانت؛ فالبنائية - مثل فلسفة كانت - تبحث عن الأساس الشامل، اللازماني، الذي ترتكز عليه مظاهر التجربة، وتؤكد وجود نسق أساسي ترتكز عليه كل المظاهر الخارجية للتاريخ، وهذا النسق سابق على الأنظمة البشرية، بحيث تستند إليه تلك الأنظمة زمانيا ومكانيا، أي إن هذا النسق «قبلي
a priori » بمعنى مشابه لما نجده عند كانت. ولقد ظهر لدى البنائيين - على اختلاف اتجاه تخصصاتهم - ميل واضح إلى فكرة النسق الشامل، ووضع أطر أو قوالب أساسية تندرج ضمنها الكثرة الموجودة في الواقع، بل إن هذه الأطر والقوالب لها عندهم طبيعة عقلية، حتى لو اتخذت مظاهرها أشد الصور حسية. كذلك تدعو البنائية بدورها إلى نوع من الثورة الكبرنيكية مماثل لذلك الذي دعا إليه كانت؛ إذ تؤكد أهمية العلاقات الداخلية والنسق الكامن في كل معرفة علمية، وتسعى إلى تجاوز المظهر الذي تبدو عليه المعرفة من أجل النفاذ إلى تركيبها الباطن. وهي بدورها تترفع على النظرة التجريبية، وتؤكد أن تقدم المعرفة لا يتم عن طريق وقائع تجريبية يضاف بعضها إلى البعض، وإنما يتم عن طريق إعادة النظر في قوالب أو صور أو عمليات موجودة بالفعل، ولكنها تتخذ مظهرا جديدا في كل عصر. وأخيرا فإن البنائية تتشابه مع فلسفة كانت في نقطة أساسية، هي أنها بدورها تستهدف أن تجعل من دراسة الإنسان موضوعا لعلم دقيق، وتحاول أن تهتدي إلى السر الذي جعل العلوم الأخرى تسير في طريق العلم الراسخ؛ لكي تطبقه على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإن كان التركيز عند كانت ينصب على العلوم الرياضية والطبيعية، على حين أنه كان في حالة البنائيين ينصب على علوم أخرى، أهمها علم اللغة.
والواقع أن علم اللغة كان مصدرا من أهم مصادر البنائية، وهو مصدر كان معترفا به صراحة في كتابات البنائيين، على حين أن تأثير فلسفة «كانت» في تفكيرهم كان ضمنيا في أغلب الأحيان. ولهذا الارتباط بين البنائية وبين اللغويات مبررات قوية؛ إذ لا يوجد «بناء» بالمعنى الصحيح إلا لما هو لغوي، وجميع المجالات المعروفة لا يصبح لها بناء إلا حين تتخذ طابعا لغويا.
3
وفضلا عن ذلك فإن للغة بالذات ميزات خاصة جعلت النموذج اللغوي يحتل مكانة خاصة في تفكير البنائيين؛ ذلك لأن اللغويين، منذ أيام العالم السويسري المشهور «دي سوسير»
Ferdinand de Saussure
في أوائل القرن العشرين، درسوا عناصر اللغة والسمات المميزة لعلاقاتها بوصفها انساقا لا عقة لها بالعالم الذي تعبر عنه أو تدل عليه. فكانوا بذلك يطرحون مشكلات بنائية خالصة، ويضربون مثلا يحتذى للعلوم الإنسانية الأخرى التي لم تكن قد وصلت بعد إلى مرحلة الاستقلال عن مضموناتها، واكتشاف تركيباتها الخالصة،
4
صفحة غير معروفة
أي إن نجاح اللغويات - وهي قبل كل شيء علم إنساني - في بلوغ مرتبة العلم المنضبط كان عاملا مشجعا للباحثين في الميادين الأخرى للدراسات الإنسانية والاجتماعية على الاقتداء بهذا العلم الناجح في منهجه، وفي الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه. ولقد عبر ليفي ستروس عن هذه العلاقة بين اللغويات وسائر العلوم الإنسانية تعبيرا صريحا واضحا: «إننا (يقصد علماء الأنثروبولوجيا) نجد أنفسنا، إزاء علماء اللغة، في وضع حرج؛ فطوال سنوات متعددة كنا نشتغل معهم جنبا إلى جنب، وفجأة يبدو لنا أن اللغويين لم يعودوا معنا، وإنما انتقلوا إلى الجانب الآخر من ذلك الحاجز الذي يفصل العلوم الطبيعية الدقيقة عن العلوم الإنسانية والاجتماعية، والذي ظل الناس يعتقدون طويلا باستحالة عبوره. وهكذا أخذ اللغويون ... يشتغلون بتلك الطريقة المنضبطة التي تعودنا أن نعترف باستسلام أنها وقف على العلوم الطبيعية وحدها، مما ولد في نفوسنا قدرا من الأسى، وكثيرا من الحسد، إذا أردنا أن نكون صرحاء. فنحن نود أن نتعلم من اللغويين سر نجاحهم. فهلا يمكننا أن نطبق بدورنا على المجال المعقد لدراساتنا - كمجال القرابة، والتنظيم الاجتماعي، والدين والفلكلور، والأدب؛ تلك المناهج المنضبطة التي يتحقق عالم اللغة في كل يوم من فعاليتها؟»
5
ويهمنا في هذا النص - الذي يذكرنا إلى حد بعيد بما قاله كانت في معرض المقارنة بين الفلسفة والعلوم الرياضية والطبيعية في مقدمة كتاب «نقد العقل الخالص» - أن البنائيين الذين كان ليفي ستروس رائدهم بغير نزاع، ليسوا من أولئك الذين يبحثون للعلوم الاجتماعية والإنسانية عن منهج خاص بها، مرتبط بطبيعة الظاهرة التي تتناولها هذه العلوم، وهي الإنسان. وإنما هم يؤمنون بأن «العلم» - سواء أكان طبيعيا أم إنسانيا - له منهج واحد، وأن ما يصلح لإحدى الفئتين يصلح بعد تعديلات بسيطة للفئة الأخرى، وأن العلوم التي تبحث في الإنسان تستطيع أن تمسك بطوق النجاة الذي ينقذها من عواصف التخبط والتناقض واللامعقولية إذا طبقت نفس المنهج الذي جرب بنجاح في العلوم الدقيقة، وأن لديها في علم اللغة نموذجا رائعا لعلم إنساني تمكن من اللحاق بركب العلوم المنضبطة. تلك هي وجهة النظر التي ينطلق منها البنائيون، وهي تعبر عن فلسفة خاصة بهم، يمكن أن توجد فلسفة أخرى بديلة لها، هل تلك التي ترفض هدف الدقة والانضباط للعلوم الإنسانية أصلا، وتؤكد أن هذه العلوم تقدر على أمور ولا تقدر على أمور أخرى، وأن لها سماتها الخاصة التي لا تجعل من محاكاتها لمناهج العلوم الدقيقة أمرا مرغوبا فيه. وبعبارة أخرى، فإن البنائية قد اختارت لنفسها طريقا معينا تسير فيه نحو هدف الدقة العلمية عند دراستها للإنسان، وهي تستعين أساسا بالنموذج اللغوي من أجل تحقيق هذا الهدف. وقد لا نجد لدى بعض من يتبعون المنهج البنائي اهتماما كبيرا بالنموذج اللغوي، كما هي الحال عند بياجيه، الذي بنى أبحاثه على نماذج منطقية، ولكن الاتجاه الغالب لديهم هو أن يتخذوا من تلك البناءات الشكلية للتركيب اللغوي في عمومه، بغض النظر عن تركيب أية لغة بعينها وبغض النظر عن كل الدلالات اللغوية الخاصة، نموذجا يمكن أن يقتدي به الباحثون في مختلف مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ونستطيع أن نختم هذه المقدمة التاريخية بالقول إن البنائية في أساسها نظرية في العلم (
epistémologie ) تؤكد أهمية النموذج أو البناء في كل معرفة علمية، وتجعل للعلاقات الداخلية والنسق الباطن قيمة كبرى في اكتساب أي علم. ولكن الحماسة الفياضة التي أثارتها هذه النظرية في فترة تاريخية معينة، هي فترة الستينيات المتأخرة، وربما أوائل السبعينيات أدت بالبعض إلى أن يعاملوها كما لو كانت انقلابا فلسفيا شاملا، وثورة فكرية جديدة تجعل من الذات مجرد حامل للبناءات، ومن التاريخ مجرد تعاقب لصور تظل في أساسها ثابتة، وإن اختلفت مظاهرها التاريخية. على أن هذا التوسع في فهم البنائية قد أدى في تلك الفترة بالذات، إلى بعض التشويه في صورتها، وإلى إقحام عناصر دخيلة عليها، عندما أصبحت هي «الموضة» الشائعة، وعوملت على أنها أيديولوجية جديدة كاملة، وطبقت على ميادين قد لا يكون المنهج البنائي صالحا لها أصلا. وهذا تطرف نجده في كل مذهب يبهر الناس بجدته وخروجه عن المألوف، ولكنه لا يصح أن يتخذ أساسا للحكم على هذه الحركة الفكرية المثمرة.
ما هي البنائية؟
حينما أراد «بياجيه» أن يقدم تعريفا للبنائية في مستهل كتابه الذي خصصه لعرض هذا الاتجاه الفكري في جوانبه المختلفة، كان من رأيه أن من الضروري التفرقة بين الاتجاهات النقدية التي يسير فيها كل شكل خاص من أشكال البنائية، يطبق على ميدان محدد من ميادين معرفة الإنسان، وبين المثل الأعلى الذي تستهدفه فكرة البنائية مهما تعددت أشكالها؛ أي إنه كان يفرق بين التعريف السلبي للبنائية، من خلال بحث «ما تنقده»، والتعريف الإيجابي الذي يحدد «ما تهدف إليه». وكان يعتقد أن الأخذ بالأسلوب الأول يمكن أن يوقعنا في التعدد والتشتت؛ لأن البنائية لها أضداد يختلفون تبعا للميدان الذي تبحثه. فما تعارضه البنائية في ميدان الرياضيات مختلف عما تعارضه في ميدان علم النفس أو الأنثروبولوجيا أو اللغويات. ومن ثم فإن الأفضل، في رأيه، ألا نعرف البنائية من خلال اتجاهاتها النقدية، بل ينبغي أن نبحث عن المثل الأعلى المشترك بين جميع ضروب البنائية. وهذا المثل الأعلى في رأيه، هو السعي إلى تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بنفسها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية، ومحاولة الوصول إلى السمات التي تشترك فيها كل البناءات التي نتوصل إليها بوجه عام.
1
هذا المثل الأعلى المشترك موجود بالفعل في كل أشكال البنائية، ولكنه في رأينا لا يوصل إلى الكثير. وربما كان الطريق الآخر، أعني التعريف بالسلب، أمرا لا مفر منه من أجل تكوين فهم مبدئي سليم للبنائية؛ ذلك لأن هذا الاتجاه لم يظهر في فراغ، لكي يدعو إلى مثل أعلى في المعقولية يكون فيه كل نسق يكونه العلم مكتفيا بذاته، وقادرا على تنظيم ذاته دون إقحام عناصر خارجية، بل إنه كان في الأصل دعوة إلى التخلي عن أساليب مضادة في البحث العلمي، وكان يرتكز على فلسفة خاصة لا يمكن فهمها إلا في ضوء النقد الذي وجهته إلى الفلسفات المضادة لها. ولقد كان البنائيون، منذ البداية، يخوضون معارك حامية ضد خصوم أقوياء لهم مواقع ثابتة في أرض الفلسفة والتفكير العلمي، ومن هنا كان مما يفيد في تقديم إيضاح أولي للبنائية أن نحددها من خلال المعارك التي خاضتها، ومن خلال الأفكار المضادة التي سعت إلى محاربتها. ومما يؤيد صحة هذا الاتجاه أن بياجيه نفسه، حين قدم تعريفا أوليا للبنائية، مرتكزا على مثلها الأعلى «الإيجابي»، اضطر عند شرحه لعناصر هذا التعريف إلى إيضاحها من خلال أضدادها، أي إنه عاد مرة أخرى إلى تعريف البنائية من خلال «ما تعارضه»، لا من خلال «ما تسعى إليه».
على أية حال؛ فإننا لا نستطيع أن نغفل التحديد الإيجابي لمعنى البنائية. وكل ما في الأمر أن هذا التحديد ينبغي أن يستخلص، في رأينا، في مرحلة تالية. فالطريقة المثلى في إيضاح معنى البنائية هي أن نبدأ بتحديد هذا المعنى من خلال الاتجاهات التي ظهرت البنائية لكي تنقذها. أما الأهداف الإيجابية للبنائية؛ فسوف تعرض بالتفصيل عندما نتحدث عن الأسس الفلسفية لهذا المذهب في الميادين المختلفة لمعرفة الإنسان، وسيكون من السهل عندئذ استخلاص العناصر المشتركة بين أشكال البنائية في كل هذه الميادين: (1) البنائية والنزعة التجريبية
صفحة غير معروفة
في الفلسفة الفرنسية بأسرها، منذ عهد ديكارت، اتجاه إلى الإقلال من شأن النزعة التجريبية، وتأكيد دور العقل الذي يسبق التجربة - سواء أكانت هذه الأسبقية منطقية أم زمنية - ويضفي عليها اتجاها وهدفا ومعنى. ومنذ أن أكد ديكارت أهمية النموذج الرياضي في المعرفة البشرية، وأكد فرانسيس بيكن، في نفس العصر تقريبا، أهمية الملاحظة والرصد الدقيق للوقائع، تحددت معالم اتجاهين متضادين، أحدهما يؤكد دور العقل في المعرفة، والثاني يركز على أهمية التجربة. وصحيح أن العلم قد استطاع منذ وقت مبكر، بل منذ عهد هذين الفيلسوفين ذاتهما، أن يتجاوز التضاد بين النزعة العقلية والنزعة التجريبية، وذلك حين قدم جاليليو نماذج رائعة لكشوف علمية تعتمد على ملاحظات وتجارب دقيقة من جهة، وعلى فروض عقلية وصياغات رياضية من جهة أخرى. ولكن هذا التضاد ظل يقوم بدور أساسي في الفكر الفلسفي، وما زال له تأثيره عند المشتغلين بالعلوم الإنسانية حتى اليوم.
ومن أهم السمات التي نستطيع أن نلمحها عند البنائيين، مواصلتهم السير في هذا الاتجاه العقلي المعادي للنزعة التجريبية، وسعيهم إلى تفسير التجربة من خلال مبادئ عقلية، بدلا من إرجاع مبادئ العقل إلى مكتسبات تجريبية. ومما يدل على تأصل هذا العداء للتجريبية في تفكيرهم، أننا نجده عند مفكرين بنائيين تفصل بين اتجاهاتهما العقلية مسافات هائلة، وأعني بهما الأنثروبولوجي ليفي ستروس، والباحث لوي ألتوسير
Louis Althusser
فمن الأسس المنهجية التي ترتكز عليها أبحاث ستروس في الأنثروبولوجيا، أنه لا يستهدف بمنهجه البنائي الاهتداء إلى عادات متشابهة وسط عدد هائل من الملاحظات الأنثروبولوجية التي يتم إجراؤها في ثقافات متباينة، كما كان يفعل الأنثروبولوجي الإنجليزي الكبير فريزر
Frazer
مثلا، بل يؤكد أن ما هو مشترك بين الثقافات لا يهتدي إليه بوضوح على مستوى الملاحظة، وإنما على مستوى البناء العقلي. فالبناء هو الذي يشكل العنصر الكلي الشامل في الثقافة البشرية. وهذا البناء خفي، لا يوجد على السطح الخارجي للظواهر أبدا، وإنما يكتشف عقليا. وهكذا يستهدف التحليل البنائي، في ميدان الأنثروبولوجيا، الوصول إلى نوع من الجدول الرياضي أو المصفوفة الجبرية التي تعبر عن كل التحولات والتجمعات الممكنة في «الذهن البشري» اللاشعوري، ومن ثم كان هناك نوع من الازدراء في تعامل البنائية مع «الظواهر الأمبيريقية». «وطوال كتابات ستروس يتكرر مرارا هذا التفضيل للتجريد العام على الواقعة التجريبية».
2
وهكذا يؤكد ستروس الطبيعة المستقلة للذهن البشري على نحو يكاد يبدو معه فيلسوفا مثاليا. فهو يتكلم كما لو كان لدى الذهن (
L’esprit humain ) استقلال خاص يجعله يمارس عمله بطريقة لا تعتمد على أي فرد أو جماعة إنسانية بعينها. وهو يذهب إلى حد أن يقول في واحد من كتبه: «إننا لا ندعي بيان الطريقة التي يفكر بها الناس في الأساطير، وإنما نبين كيف تفكر الأساطير في ذاتها من خلال الناس، ودون وعي منهم.» فهل يعني ذلك أن ليفي ستروس مفكر مثالي يجعل للذهن أولوية مطلقة على الظواهر؟ إنه هو ذاته ينفي بشدة كونه مثاليا، ويرى أن كل ما يدافع عنه هو القول بوجود طبيعة ثابتة للذهن البشري، لا تتأثر بتغير الأفراد والمجتمعات، وتعبر عن نفسها من خلال نواتج الإنسان الثقافية، كالأساطير. فالعقل البشري لديه مبادئ ثابتة، أشبه بمبادئ علم الجبر، يظهر تأثيرها في كل رسالة ينقلها إلينا أي موضوع ثقافي أنتجه الإنسان، وتعبر عن وجود «آليات» موحدة يعمل بها العقل البشري أينما كان.
فإذا انتقلنا إلى الطرف البعيد عن ليفي ستروس في البنائية، وأعني به الفيلسوف الماركسي ألتوسير، وجدناه بدوره يشترك مع ستروس - برغم كل ما بينهما من اختلافات أيديولوجية عميقة الجذور - في نقد المذهب التجريبي، والنظر إلى الحقيقة على أنها معيار لذاتها، دون حاجة إلى تحقيق تجريبي خارجي. ففي نظر التجريبية تكون المعرفة تجريدا من الواقع؛ أي إن الواقع نفسه يتضمن المعرفة ويخفيها وسط عناصر أخرى متداخلة تحجبها عنا. وكل ما علينا هو أن نطرح هذه العناصر جانبا لنجلو وجه الحقيقة الذي يشتمل عليه الواقع بالفعل؛ أي إن المعرفة عند التجريبيين هي عملية «طرح» نستبعد فيها الزوائد؛ لكي نكشف ماهية الحقيقة. ومعنى ذلك أن التجربة المباشرة فيها أكثر مما هو مطلوب للوصول إلى الحقيقة. وعلى عكس ذلك يرى ألتوسير أن هذه التجربة المباشرة تتضمن «أقل» مما هو مطلوب لبلوغ الحقيقة؛ فنحن لا نحذف أو نختصر منها لكي نصل إلى الحقيقة، وإنما «نضيف» إليها؛ إذ إن من سمات التجربة المباشرة ألا تكون مكتفية بذاتها، ومن سمات العقل الإنساني ألا يكون مجرد شاهد سلبي يسجل حقيقة موجودة بأكملها خارجه.
صفحة غير معروفة
ولا يكتفي ألتوسير بهذا النقد للتجريبية، بل إنه يذهب خطوة أبعد من ذلك، فيقول إن عملية المعرفة تحدث كلها في الفكر، وأن الممارسة النظرية تتضمن في ذاتها معايير علمية النتائج التي يتم الوصول إليها في العلوم المختلفة، أي إن العلوم عندما تبلغ قدرا معينا من النمو، لا تكون أبدا بحاجة إلى ذلك التحقيق التجريبي الذي يربط بين قضاياها وبين واقع خارجي، والذي يقال إنه معيار الصدق في القضايا.
3
والمثل الذي يضربه ألتوسير للتدليل على ذلك هو الرياضيات، التي لا تحتاج إلى تحقيق خارجي للتدليل على صحة قضاياها. ويعمم ألتوسير ما ينطبق في حالة الرياضيات على بقية العلوم، بحيث يجعل معيار الصدق في المعرفة كلها معيارا داخليا، هو التماسك والاتساق، ويكون مقر الحقيقة عنده داخل الذهن
intramental
فحسب، أما الالتجاء إلى التجربة فهو «برجماتية» يرفضها بازدراء وترفع.
وهكذا نرى إلى أي حد يظل ألتوسير، في هذه المسألة بالذات، ديكارتيا مخلصا: وذلك أولا بسبب نزعته القبلية
a-priorisme
الواضحة، وجعله الحقيقة معيارا لذاتها، وتأكيده أن التجربة هي التي تكتسب مشروعيتها من حقيقة موجودة قبلها، بعكس ما يقول به التجريبيون من أن الحقيقة هي التي تكتسب مشروعيتها من تجربة سابقة عليها. وهو فضلا عن ذلك ديكارتي صميم حين يدلل على هذا كله بما يحدث في الرياضيات، ولا يكتفي بذلك، بل يواصل اتجاه ديكارت في اتخاذه من الرياضيات نموذجا لكل معرفة بشرية. على أن ألتوسير يعرض نفسه هنا لنفس النقد الذي طالما وجه إلى ديكارت. وأعني به أن ما يصدق على الرياضيات لا يتعين أن يصدق على بقية العلوم، وأنه إذا كانت العلوم الرياضية تكتفي بمعيار الاتساق الشكلي وتستمد حقيقتها كلها من داخل الذهن، فإن هناك علوما أخرى كثيرة تحتم الخروج عن الذهن، وتحيلنا إلى الواقع، ولا تجد غضاضة في الاستعانة بالتجربة من أجل تصحيح النظرية، ومن أجل أن تتمكن من التمييز بوضوح بين ما هو واقع فعلي، وما هو مجرد إمكان ذهني.
وعلى أية حال، فها نحن أولاء نرى ليفي ستروس وألتوسير يتفقان معا على توجيه نقد شديد إلى النزعة التجريبية، ويضعان معيارا لصدق المعرفة تحتل فيه التجربة - على أحسن الفروض - المرتبة الثانية بعد الجهد العقلي. وقد يبدو هذا متعارضا مع ما اعترف به ليفي ستروس ذاته من أن الوصول إلى البناء أمر يحتاج إلى مقارنة وتحليل دقيق لعدد من الأمثلة المدروسة، وما أكده من أن الباحث يلقى مشقة كبيرة حتى يتوصل إلى النسق أو التركيب الباطن للظاهرة التي يدرسها. ولكن حقيقة الأمر أنه ليس ثمة تعارض بين الموقفين؛ فالجهد الذي كان يبذله ستروس لا ينصب على دراسة الوقائع الخارجية بقدر ما ينصب على التفكير العقلي فيها. ومن المعترف به، كما سنرى فيما بعد، أن ستروس لم يكن من أولئك العلماء الأنثروبولوجيين الذين يقضون حياتهم في ملاحظة الجماعات البدائية، وتسجيل عاداتها وطرائق حياتها ... إلخ. بل كان الجهد «الميداني» الذي بذله ضئيلا بالقياس إلى غيره من العلماء في هذا الميدان نفسه. أما الجهد الأكبر فكان في عملية التحليل الفكري الداخلي لتلك المادة غير المتسعة التي جمعها من «الميدان» ذاته. ومع ذلك، وبالرغم من المشقة العقلية الكبرى التي كان يعانيها في مقارنة الأمثلة المختلفة والجمع بين ظواهر شديدة التباعد من أجل التوصل إلى «البناء» الكامن فيها؛ فقد كان يؤكد دائما أن البناء موجود في الواقع بمعنى ما، وليس مجرد تركيب عقلي نقوم به للتسهيل أو التوضيح، أو تقريب الظواهر إلى الأذهان. وهكذا يجمع البناء قدرا غير قليل من صفات القانون العلمي؛ فكل منهما يكشف عن ثبات من وراء التغير، وكل منهما يرد الكثرة الظاهرية إلى وحدة، وكل منهما عقلي في طريقة اكتشافه، وواقعي في وجوده خارج الذهن الخالص. ولكن البناء أهم من القانون العلمي؛ لأن هذا الأخير يلخص فئة معينة من الظواهر، على حين أن الأول يجمع بين فئات متباينة ومتباعدة، يستطيع العقل أن يكتشف فيها كلها بناء واحدا.
وتبقى الكلمة الأخيرة، بعد هذا كله، للعقل. فبالرغم من تأكيد ستروس وجود البناء في الظواهر ذاتها، وبالرغم من إصراره على أنه ليس مجرد تركيب أو نموذج ذهني نبسط به الوقائع؛ لكي يسهل علينا فهمها، فإن البناء ما كان يمكن أن يوجد في ظواهر على هذا القدر من التباعد (كوجود بناء واحد لنظام القرابة في مجتمع بدائي، وللنسق اللغوي في هذا المجتمع) لو لم يكن راجعا إلى تركيب الذهن البشري ذاته، ولو لم تكن مبادئ العقل واحدة في كل هذه المجالات، ولو لم تكن العملية التي يصوغ بها عقلنا نواتجه المتباينة عملية واحدة في صميمها؛ فالبناء موجود في الواقع بالفعل، ولكنه موجود فيه؛ لأن هذا الواقع - في مجال الظواهر الإنسانية - نتاج لذهن بشري يعمل دائما، وفي كل الميادين، بطريقة واحدة. ولهذا كانت البنائية تحارب النزعة التجريبية، وترفض كل تفسيراتها لطبيعة المعرفة وعلاقتها بالواقع.
صفحة غير معروفة
ومن النتائج الهامة لموقف المعارضة الذي وقفته البنائية من النزعة التجريبية، رفضها التام للنظرة التجريبية إلى علاقة الجزء بالكل. فالتجريبيون يرون أن الأطراف في أية علاقة سابقون على العلاقة ذاتها، أي إن تجمع الأطراف هو الذي يضفي على العلاقة طابعها الخاص. ويستحيل تصور هذه العلاقة مستقلة عن الأطراف الداخلين فيها، على حين أن كلا من هذه الأطراف له استقلاله الخاص، ويمكن تصوره بمعزل عن العلاقة التي يدخل فيها، أي إن العلاقات كلها، في رأي النزعة التجريبية، خارجية. أما البنائيون فيرون أن العلاقة ليست مجرد مجموع لعناصر مستقلة قائمة بذاتها، بل إن هذه العناصر تخضع لقوانين تتحكم في بناء العلاقة التي تجمعها. وهذه القوانين تضفي على البناء سمات كلية تتميز عن سمات عناصره مأخوذة على حدة، كما تتميز عن مجموع هذه العناصر. ويضرب بياجيه مثلا لهذه الصفة بالأعداد الصحيحة في الحساب، فهذه الأعداد لا توجد بمعزل عن بعضها البعض، ولم يكتشف كل منها مستقلا بتعاقب عشوائي، بل إنها لا تظهر إلا في ترتيب معين، وهذا الترتيب يرتبط بسمات «بنائية» تختلف عن سمات الأرقام المنفردة.
4
وهكذا تنقد البنائية المبدأ الشائع بين التجريبيين، الذي يجعل أطراف العلاقة مستقلين عن العلاقة ذاتها، ويؤكد أن هؤلاء الأطراف أشبه ب «الذرات» القائمة بذاتها، والتي لا تتغير طبيعتها بدخولها في أية علاقة (وهو المعروف بمبدأ الذرية التجريبية). ولكن هل يعني هذا النقد أن البنائية تنحاز إلى الرأي المضاد، الذي عرفناه في النظرية الجشطلتية في علم النفس، والذي يؤكد أولوية الكل على الأجزاء، ويجعل منه أكثر من مجرد تجميع لعناصر مستقلة؟ الواقع أن هذا القول بأسبقية الكل يقربنا إلى حد ما من فكرة البناء، غير أن مفهوم البناء ينطوي على ما هو أكثر من تغليب الكل على الأجزاء، واتخاذ الموقف المضاد - بطريقة آلية - للموقف التجريبي. فالبنائية لا تكتفي بأن تضع الكل في البداية، دون أن تحدد خصائصه وسماته الداخلية، بل إن أهم المشكلات في نظرها هي العلاقات الداخلية بين العناصر. فهي تركز بحثها على العمليات الطبيعية أو المنطقية التي يتكون بها الكل، والقوانين المتحكمة في تركيبه،
5
وتتجاوز بذلك الموقف الجشطلتي الذي يكتفي بافتراض أولوية الكل دون مزيد من التحليل لتركيبه الباطن. (2) البنائية والنزعة التاريخية
ربما كان التضاد الأهم، الذي تتحدد به طبيعة البنائية بمزيد من الوضوح، هو تضادها مع النزعة التاريخية
historicisme ، إذ إن الجدل الأكبر الذي أثاره البنائيون كان موجها ضد أنصار النزعة التاريخية، والقوة الدافعة الأولى للتيار البنائي كانت الرغبة في مراجعة التفسير التاريخي مراجعة جذرية، ومن هنا كان فهم موقف البنائية من النزعة التاريخية أساسيا في تحديد سماتها.
فقد كان من الشائع، في القرن التاسع عشر بوجه خاص، تفسير كل الظواهر من خلال التاريخ، فالسابق هو الذي يتحكم دائما في اللاحق، والمنشأ الأول لأي ظاهرة، ثم مسارها التالي، أساسي في فهم طبيعتها الحالية. ولقد اتفق على هذه النقطة مفكرون كانوا يختلفون فيما بينهم في مسائل أساسية؛ إذ قدم إلينا دارون تفسيرا لتطور الأحياء من منظور تاريخي، وعمم «سبنسر» نظرية دارون من المجال البيولوجي إلى جميع المجالات الاجتماعية والروحية والعلمية والمادية. واتخذ «نيتشه» من فكرة التاريخ أساسا لفلسفة كاملة تؤمن بأن للأخلاق والمعرفة والقيم (حتى المنطقية منها) تاريخا، وبأن حاضر هذه المعاني لا يفهم إلا من خلال ماضيها، وبأن الإنسان كائن تاريخي في صميمه. وطبق ماركس فكرة التاريخ على العلاقات الإنتاجية بين البشر في مراحلها المختلفة، فقدم إلينا نظرية في «المادية التاريخية» تجمع بين تأكيد الشروط المادية (والاقتصادية بوجه خاص) لتطور المجتمعات البشرية، وبين إعطاء أهمية كبرى للعامل التاريخي في هذا التطور. بل يمكن القول، من وجهة نظر معينة، إن العلوم الطبيعية ذاتها كانت تضفي على الفكرة الرئيسية فيها، وهي فكرة السببية، طابعا تاريخيا أو زمنيا؛ لأن السبب كان ينظر إليه على أنه «السابق المتكرر أو الدائم». والتقطت علوم إنسانية كثيرة فكرة التفسير التاريخي، فأصبح من الضروري، من أجل فهم أية ظاهرة تنتمي إلى مجال الحياة الإنسانية، الرجوع إلى سوابقها الماضية، وأصبح النقاد الفنيون والأدبيون يفسرون عمل الكاتب من خلال تاريخ حياته، ويبنون نظرتهم إلى الفنان على وقائع نفسية أو اجتماعية أو سياسية لها كلها موقع محدد في «التاريخ»، أي إن التاريخ أصبح متغلغلا في كل شيء.
ولم يقف هذا التيار التاريخي الطاغي عند حدود القرن التاسع عشر، بل كانت له امتدادات قوية في القرن العشرين، وتمثل ذلك في عودة ظهور فكرة «التقدم» التي ترجع إلى القرن الثامن عشر، وتأكيد وجود اتصال واستمرار تاريخي بين الظواهر؛ فالحاضر كامن في الماضي، والمستقبل كامن في الحاضر. وهناك خط متصل من التقدم، يمتد من أقدم العصور حتى اليوم، وبفضله يتحقق انتصار الروح في هذا العصر؛ لأن كل عصر وإن كان موجودا في حالة «كمون» في العصر الذي سبقه، يضيف جديدا إلى حصيلة التجارب البشرية، ويسهم في دفعها إلى الأمام؛ ولذلك فإن أعلى المستويات التي تصل إليها الروح البشرية ستكون في المستقبل.
ولقد ظهرت محاولات متعددة للحيلولة دون انتشار هذه النزعة التاريخية الطاغية، كان من أشهرها محاولة «باشلار
صفحة غير معروفة
G. Bachelard » الذي أنكر وجود خط متصل من التقدم في المعرفة العلمية، وذهب إلى أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء وعقبات تقف في وجه المعرفة بقدر ما هو تاريخ إنجازات ناجحة. بل إن الماركسية ذاتها، برغم ارتباطها القوي بالنزعة التاريخية، تنطوي على الفكرة القائلة بوجود نقاط انقطاع وانفصام في التاريخ البشري. وفضلا عن ذلك؛ فليس من الضروري أن يكون الأساس الذي يبنى عليه التفسير سابقا، من الوجهة الزمنية. فهناك غايات معينة تستهدف المستقبل، وتكون - في المجال الإنساني - نوعا خاصا من العلية تتطلع إلى الأمام، لا إلى الخلف. وهذه مسألة ظهرت في الماركسية التي يرتكز جانب كبير من دعوتها الأيديولوجية على نوع من العلية المتطلعة إلى المستقبل، هي تحقيق مجتمع بلا طبقات.
ولكن البنائية كانت هي التي أوقفت، بطريقة حاسمة، هذا التيار الطاغي للنزعة التاريخية، أو على الأقل قضت على ادعائها احتكار القدرة على تفسير الظواهر البشرية؛ فقد استعاضت البنائية عن النظرة الشائعة إلى تقدم الروح الإنسانية، وهي النظرة التي تمثل هذا التقدم على أنه تراكم تدريجي لمكتسبات يضاف الجديد منها إلى القديم إضافة خارجية، بتصور آخر تكون فيه الأفكار الجديدة مجرد توسيع لأفكار سبق ظهورها من قبل، وإن كانت قد اتسمت في البدء بالبساطة والبدائية. فالعقل الإنساني لا يسير في طريقه بطريقة جيولوجية، إذا جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير؛ أي إنه لا يضيف طبقة من المعرفة فوق طبقة أخرى، وإنما يسير بطريقة عضوية، يعيد فيها تمثل القديم بطريقة أصعب وأعقد، ويحتفظ فيها ببنائه القديم، وإن كان يدرك خلال تطوره أن هذا البناء، الذي كان يعد صحيحا صحة مطلقة في وقت مضى، لا يمثل إلا جانبا من الحقيقة، هو ذلك الجانب الذي كان عقلنا يستطيع بلوغه في ذلك الوقت.
وفي وسعنا أن نربط بين معارضة البنائية للنزعة التجريبية ومعارضتها للنزعة التاريخية، في هذه النقطة بالذات، فنقول إن تصور التقدم البشري بأنه تراكم تدريجي لمكتسبات تتجدد على الدوام، وهو التصور المميز للنزعة التاريخية، ينطوي على وجه من أوجه النزعة التجريبية؛ إذ يصبح التقدم عندئذ حصيلة وقائع تجريبية تضاف كل منها إلى الأخرى مكونة طبقات متراكمة بعضها فوق بعض. وفي مقابل ذلك، ترفض البنائية كلا من النزعتين التاريخية والتجريبية؛ إذ تستعيض عن التصور السابق بتصور آخر يظل فيه العقل البشري متضمنا صورا أو قوالب أو عمليات ثابتة، وإن كنا لا نكف عن إعادة النظر فيها، وعن توسيعها وتعقيدها، أي إن كل تقدم يظل محتفظا بالنواة المركزية، مع إعادة تفسيره لها وفقا لمقتضيات العصر. وهكذا يمكن القول إن نوع التقدم الذي تعترف به البنائية هو ذلك الذي يرى أن طريق المستقبل يمر بالماضي، وأن الوصول إلى الغد يتم من خلال مراجعة ما تم بالأمس. فالبذور القديمة موجودة دائما، وكل ما نفعله هو أننا ننميها بطريقة جديدة.
والواقع أن كثيرا من الباحثين في تطور الحضارات قد اعترفوا بهذا المبدأ الذي تنادي به البنائية حتى قبل أن تعبر البنائية عن نفسها بوصفها مذهبا فكريا متميزا. فمنذ وقت بعيد لاحظ مؤرخو الحضارة أن كثيرا من ضروب التفكير العلمي والإبداع التكنولوجي التي عرفها العصر الحديث، ليست إضافة مطلقة لشيء لم يكن موجودا من قبل، بل هي تنمية لبذرة سبق ظهورها في عصور ماضية. وهكذا عرفنا، من تاريخ العلم والفلسفة، أن نظرية التطور كما ظهرت في القرن التاسع عشر إنما هي صياغة جديدة لفكرة نستطيع أن نعدها من البذور الثابتة في العقل البشري، نبتت عند أناكسيمندر في القرن السادس ق. م. وربما قبل ذلك أيضا، واتخذت أشكالا متعددة، إلى أن صيغت بالطريقة الحاسمة على يد دارون. ومثل هذا يقال عن فكرة الذرة التي بدأت من عهد ديمقريطس، واكتسبت أشكالا متباينة عند فلاسفة الإسلام وفلاسفة الغرب في العصور القديمة والوسطى والحديثة، إلى أن اتخذت شكلها العلمي في العهد القريب. وحين اخترعت أوربا البارود، كان الجميع يعلمون أن الصين قد استخدمته من قبل. وحين توصل «جيمس واط» إلى الطاقة التجارية، تنبه الكثيرون إلى أن المخترع الروماني «هيرو
Hero » قد عرف هذه الطاقة من قبل، وإلى أن ليوناردو دافنشي وضع تصميما لآلة تحركها طاقة البخار. وهكذا عرف الباحثون في تاريخ الأفكار وفي تاريخ الحضارات مئات الأمثلة التي تثبت أن مسار التقدم البشري يتخذ شكل تنمية وتطوير لمبدأ قديم يكاد يكون ثابتا، لا شكل إضافات خارجية جديدة كل الجدة. وأدركوا أن التصورات الأساسية التي نفهم بها عالمنا الحالي كانت موجودة من قبل، وإن كنا قد نميناها وعقدناها. وعرفوا أن طريق العقل البشري لا يمثل انتقالا من الظلام إلى النور، ومن الجهل إلى المعرفة، ولا يسير في خط مستقيم، كذلك الذي يقول به دعاة التقدم المستمر.
ومن السهل أن ندرك وجود فارق واضح بين هذا الموقف الذي اتخذته البنائية من فكرة التاريخ والتطور، وبين الموقف الذي ساد بوجه خاص في الأوساط الفلسفية الفرنسية في أوائل القرن العشرين، والذي يؤكد أن العصور اللاحقة تتجاوز تصورات العصور السابقة، بل تتخلى عنها نهائيا. وقد تمثل هذا الموقف الأخير في الفكرة التي اتخذ منها عالم الاجتماع الفرنسي «ليفي بريل
Lévi-Bruhl » محورا لأبحاثه، أعني فكرة وجود عقلية «قبل المنطقية
Mentalité pré-logique » لدى البدائيين، كما تمثلت في فكرة «مراحل العقل» عند ليون برنشفيج
Léon Brunscchvicg ، التي ينتقل فيها العقل العلمي الإنساني من مرحلة «الطفولة» إلى مرحلة النضج. هذه الأفكار تفترض انتقالا من الجهل التام إلى المعرفة الكاملة، وتصور تاريخ العقل البشري بأنه صعود مستمر إلى أعلى دون وجود أي عنصر مشترك بين القديم والجديد. وهذا ما ترفضه البنائية؛ لأنها تؤكد مفهوم «التوازي»
6
صفحة غير معروفة
بين التصورات القديمة والجديدة. فالعقل البشري ينمو في كل الأحوال عن طريق تعميق التفسيرات التي يقدمها للطبيعة، وتحويلها من مرحلة التقيد بالمظاهر الخارجية إلى مرحلة كشف القوانين الكامنة، ولكن أساس هذه التفسيرات يظل واحدا، والعناصر الأساسية باقية، والمقولة الأساسية في فهم التاريخ هي مقولة التوازي لا مقولة المسار الخطي الصاعد.
ولقد أورد «سيباج
Sebag »
7
مثلا للفرق بين المنهج التاريخي والمنهج البنائي، مستمدا من دراسة لجورج دوميزيل
G. Dumezil
في مجال علم الأديان المقارن؛ فقد انتهى «دوميزيل» إلى أن كل دين من أديان الشعوب الهند-أوروبية يتضمن تقسيما ثلاثيا لموضوع العقيدة، وأن هذا التقسيم يتمثل لدى الجميع، وإن تفاوتت صوره واختلف في مدى وضوحه ونقائه. وهكذا نكتشف، من وراء تباين الآلهة والشعائر ووظائف العقيدة في كل حالة، تقسيما ثلاثيا واحدا يظل على ما هو عليه مهما تنوعت الحضارات. وعلى العكس من ذلك؛ فإن النظرة التاريخية إلى هذا الموضوع ذاته تستخلص كل شكل من أشكال الألوهية من الواقع الديني الخاص بكل شعب على حدة؛ ولذلك لا تتوصل إلا إلى دلالات جزئية، وتضيع منها التشابهات البنائية الموجودة وراء السطح الظاهري لتعدد العقائد. والواقع أن النظرة التاريخية إذا توصلت إلى أي نوع من البناء، فهي إنما تتوصل إليه بعد دراسة مضنية للجزئيات وللأمثلة الفردية، ولن تستطيع رغم ذلك أن تتوصل إلى بناء أساسي. ولذلك تعكس البنائية الآية، فتضع التغيرات التاريخية الجزئية في «إطار البناء الثابت»، وتفسرها من خلاله؛ فالتاريخ يدور في إطار البناء، ويفسر بواسطته، لا العكس. والعملية التاريخية الخلاقة لا تفهم إلا من خلال البناء الذي ظل موجودا طوال ألوف السنين. ولذلك يمكن تشبيه العلاقة بين البناء والعمليات التاريخية العينية التي تدور في إطاره، والتي تضفي الحياة على البناء اللاواعي، وتنقله إلى مجال الوجود الفعلي - يمكن تشبيهها بالعلاقة بين «الشفرة
Code » والرسائل المختلفة التي نحصل عليها بعد معرفة هذه الشفرة.
ولقد تأثر علم التاريخ بهذه الحركة الجديدة التي بدأت بها البنائية عهدا جديدا، فظهرت مدرسة تاريخية تركز جهدها على كشف عناصر الثبات في المسار التاريخي، وعلى كشف المعالم العامة للحضارات التي تمتص في داخلها الأحداث وتصبغها بصبغتها الخاصة، بدلا من أن تتشكل بالأحداث وتسير في تيارها. ولكن ظهر أيضا رد فعل مضاد بين مؤرخين رأوا في هذه النظرة البنائية هدما لكل ما هو أساسي في التاريخ؛ ذلك لأن البنائيين يركزون على فكرة انعدام التغير
invariance . أما بالنسبة إلى المؤرخ؛ فهناك على الدوام مؤثرات وتناقضات داخلية، تتجه دائما إلى إحداث توازن جديد. فالتحليل التاريخي يؤكد فكرة الحركة، وهو نقيض السكون الذي يؤكده التحليل البنائي. ولذلك يرى أنصار هذا الاتجاه المعارض للبنائية
صفحة غير معروفة
8
أن التاريخ يرفض الأبنية الثابتة، بل إن الزمان يحمل في طياته كل بناء، ويغيره. وقد يكون هذا التغيير بطيئا، كما في حالة البناءات العقلية والمنطقية، التي لا تتغير خلال التاريخ إلا ببطء شديد. وقد يكون سريعا، كما في حالة الأوضاع الاقتصادية أو البناء القانوني لمجتمع ما. ولكن كل بناء يظهر ثم يذبل ويختفي، وعلى المؤرخ أن يدرس كيف يتم الانتقال من بناء إلى آخر، في ضوء اختلاف الإيقاع الذي تتطور به البناءات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية.
على أننا لا نود أن نختتم هذا الجزء، الذي نعرض فيه لموقف البنائية من النزعة التاريخية، دون أن ننبه إلى ثلاث مسائل هامة ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار في صدد النزاع المشهور بين البنائية والتاريخية: (1)
أن البنائية تستطيع أن تجد وسيلة للتوفيق بين نزوعها إلى الثبات ونزوع المؤرخ إلى الحركة والتغيير؛ وذلك عن طريق التفرقة بين الإطار العام والمضمون الداخلي في كل حدث تاريخي. فمضمون الأحداث التاريخية، والمادة المحتواة فيها، هو الذي يختلف تبعا للعصور والمجتمعات، ولكن هذا المضمون المتغير يكشف عن تنظيم يظل على ما هو عليه مهما اختلفت السياقات الاجتماعية والتاريخية؛ أي إن ما يسري عليه التطور والتغير، وما يخضع للتفسير التاريخي، هو المضمون والمادة الداخلية، أما التنظيم والبناء فهو فوق التاريخ. وعلى هذا النحو تستطيع البنائية أن تقدم إرضاء جزئيا على الأقل للمؤرخ الذي لا يمكنه أن يتصور علمه بدون فكرة التغير والحركة المستمرة. فهي لا تنكر التاريخ، وإنما تحصر تأثيره في إضافات وتنوعات تطرأ على إطار ثابت، على حين أن المؤرخ يؤكد أن كل شيء متحول، وأن أي بناء لا بد أن يسير في تيار التاريخ المتدفق. (2)
على أن البنائية لم تكن تهدف أساسا إلى معارضة المؤرخين حين أعلنت معارضتها للنزعة التاريخية؛ ذلك لأنها كانت تحارب هذه النزعة في مجالات العلوم الإنسانية الأخرى، قبل أن تحاربها في مجال التاريخ ذاته. وهدفها الأساسي كان رفض التفسير الذي انتشر زمنا طويلا، والذي يرجع الظواهر الإنسانية إلى منشئها وتطورها فحسب، ويعجز عن كشف عناصر الثبات فيها. ومن هنا كان ميدانها المفضل - وهو الميدان الذي تستمد منه الحركة البنائية وحيها الأول - هو ميدان اللغويات، الذي حرص رائده «دي سوسير» على أن يكشف فيه بعدا لا يمت إلى التاريخ بصلة. فقد ميز «دي سوسير»
9
بين محورين أساسيين في دراسة اللغة: محور التزامن
Simultanéité
الذي يختص بالعلاقات بين التراكيب اللغوية، دون أية إشارة إلى الزمان، ومحور التعاقب
Successivité
صفحة غير معروفة
الذي تبحث فيه ظواهر المحور الأول، لا من حيث هي موجودة معا في وقت واحد، بل من حيث هي متطورة متغيرة. ومن هنا قسم الدراسات اللغوية إلى «سكونية
statique » أو تزامنية
Synchronique
وهي المتعلقة بالتركيب الثابت للمعاني والرموز، وتطورية
évolutive
أو تعاقبية
diachronique
وتتعلق بما يطرأ على التراكيب والعلاقات اللغوية من تطورات. وعلى الرغم من أن «دي سوسير» لم يتجاهل المحور الثاني الذي يتضمن فكرة الزمان والتاريخ، فإنه أدخله في سياق أوسع، وكان أكثر اهتماما بالمحور الأول، أي بالبحث في الثوابت اللغوية التي تعبر عن بناءات لا يؤثر عليها التطور؛ لأنها جزء من التركيب الأصلي لمفهوم «اللغة» بوصفها وسيلة للتعبير الرمزي عن المعاني. وبالمثل كان ميدان «الأثنولوجيا
Ethnologie »
10
صفحة غير معروفة
ميدانا آخر مفضلا لدى البنائيين؛ لأنه يتعلق بشعوب بدائية، أعني بما يمكن أن يوصف بأنه شعوب بلا تاريخ، ما دام التطور يكاد يكون غير ملحوظ بين هذه الجماعات. ومن هنا كان نجاح البنائية في كشف الأنساق الثابتة في هذا الميدان، وعجزها عن تطبيق منهجها هذا على الجماعات البشرية الحديثة التي هي مجتمعات موجودة «في التاريخ». ففي الشعوب البدائية تحل الأسطورة محل التاريخ. ومن سمات الأسطورة أن التعاقب الزمني لا يؤدي فيها وظيفة ذات بال، بل إن الأسطورة ذاتها إذا طرأ عليها تطور خلال الزمان، فإن القديم فيها يتعايش مع الحديث كما تتعايش حفريتان تنتميان إلى عصور مختلفة؛ ولذلك كان الميدان المفضل للبحث في المبادئ الأساسية للعقل الإنساني، عند البنائية، هو الأساطير البدائية الساكنة، المعبرة عن العقل في ثباته وفي سماته الجذرية. (3)
والواقع أن البنائية، في معارضتها للنزعة التاريخية، قد استهدفت إحداث تغيير منهجي حاسم في العلوم الإنسانية. ويمكن القول إن هذا التغيير يماثل، من وجهة نظرها الخاصة، ذلك الانقلاب الأساسي الذي طرأ على العلوم الطبيعية حين تخلت في أوائل العصر الحديث عن الطريقة الكيفية في فهم ظواهر العالم الطبيعي، واستعاضت عنها بالطريقة الكمية. فهناك أوجه شبه متعددة بين الهدف الذي تسعى البنائية إلى تحقيقه في ميدان دراسة الإنسان، وذلك الذي حققته العلوم الطبيعية في تلك المرحلة الانتقالية الحاسمة من تاريخها: (أ)
ففي كلتا الحالتين كان الانتقال ثوريا، يمثل التحول من مرحلة «ما قبل العلمية» في دراسة الظواهر، إلى المرحلة العلمية الدقيقة. ولقد كان من أهم أوجه النقد التي وجهها البنائيون إلى المنهج التاريخي في دراسة الإنسان، التجاؤه إلى تعبيرات غامضة وعبارات إنشائية مطاطة، وعجزه عن التعبير عن الظواهر التي يتركها كلها تنساب في مجرى التاريخ، دون أن نتمكن من إيقاف هذا السيل المتدفق من أجل دراسته بطريقة علمية منضبطة. (ب)
وفي كلتا الحالتين كان العلم يسعى إلى تجاوز المظهر الخارجي للظواهر، والنفاذ إلى حقيقة أو ماهية أعمق منها، تظل ثابتة مهما طرأ على الظواهر من تغيرات. ولا شك أن هناك شبها قويا بين المعادلات الرياضية التي أصبحت قوانين الطبيعة تصاغ فيها بعد انتقال العلوم الطبيعية إلى مرحلة التعبير الكمي عن الظواهر، وبين البناءات التي تظل ثابتة من وراء الأشكال المتعددة التي تتحقق من خلالها في المجتمعات المختلفة. وفي كلتا الحالتين يحتاج الوصول إلى الثوابت، من وراء المتغيرات الظاهرية، إلى نفس القدر من الجهد العقلي والقدرة على التجريد. (ج)
بل إننا نستطيع أن نهتدي إلى وجه شبه مباشر بين الحالتين، يتمثل في التجاء البنائية إلى نماذج رياضية - قد تكون جبرية، وقد تكون هندسية - من أجل التعبير عن الأنساق الثابتة التي يتم التوصل إليها. ومعنى ذلك أن البنائية تحقق، بطريق مباشر، الانتقال إلى أسلوب التعبير الكمي في ميدان الدراسات الإنسانية، وهو الانتقال الذي حدث بالفعل في العلوم الطبيعية منذ أربعة قرون. (د)
وأخيرا ففي كلتا الحالتين تتخذ الحقيقة طابعا لازمانيا. فللقانون العلمي الرياضي أزليته الخاصة، بمعنى أنه يعبر عن حقيقة ضرورية. وبالمثل يتسم البناء، في ميدان العلوم الإنسانية بالأزلية، لا لأنه يعبر عن حقيقة مجهولة المصدر، تظل ثابتة على مر الزمان؛ بل لأن فيه ضرورة تماثل ضرورة القانون الرياضي. ومن هنا كان في وسعنا أن نقول إن التساؤل عن المصدر الذي يأتي منه البناء هو، بمعنى معين، تساؤل ساذج؛ إذ إننا في حالة القانون العلمي الرياضي لا نتساءل عن مصدر المعادلة الرياضية، أو عن المصدر الذي فرض على الطبيعة تنظيما رياضيا ثابتا، وجعل لها قوانين ثابتة من وراء مظاهرها المتغيرة؛ ففي كلتا الحالتين ترجع الأزلية إلى الضرورة المنطقية قبل كل شيء.
وفي ضوء هذه الملاحظات نستطيع أن نفهم على نحو أفضل طبيعة الصراع المشهور الذي قام بين البنائية والنزعة التاريخية، وندرك الهدف الفلسفي والمنهجي الذي دفع البنائية إلى رفض المنهج التاريخي بصورته التقليدية.
وبعد هذا العرض العام لسمات البنائية، من خلال الاتجاهات الرئيسية التي تعارضها، نستطيع أن ننتقل إلى معالجة الأسس الفلسفية لهذا الاتجاه الفكري الهام عند ممثليه الرئيسيين.
ولا جدال في أن هذه المعالجة التفصيلية ستزيد من وضوح السمات العامة التي اهتدينا إليها من قبل، وتضفي عليها مزيدا من التحدد والدقة المكتسبة من تطبيقها على مذاهب فكرية محددة المعالم.
الأسس الفلسفية للبنائية عند ليفي ستروس
صفحة غير معروفة
قد يبدو لأول وهلة أن الميدان الذي اختاره ليفي ستروس، وهو ميدان الأثنولوجيا والأنثروبولوجيا، أي دراسة الشعوب والحضارات القديمة، ينتمي إلى العلوم الاجتماعية الخالصة، ومن ثم فهو خارج عن نطاق بحثنا هذا، الذي ينصب على الأسس «الفلسفية» للبنائية. ومن المؤكد أن المصادر التي أثرت على اتجاه ليفي ستروس الفكري كانت متعددة، وبعضها بعيد عن ميدان الفلسفة، ومع ذلك فسوف نحاول أن نثبت في هذا القسم من بحثنا أن ستروس كان فيلسوفا بقدر ما كان عالما أنثروبولوجيا، وأنه صبغ دراسته الاجتماعية بصبغة فلسفية لا تخطئها العين، وحول المؤثرات غير الفلسفية إلى الاتجاه الفلسفي، وكان هذا الطابع الذي يميزه عن سائر علماء الأنثروبولوجيا هو مصدر قوته وعمقه وطرافته، ولكنه كان في الوقت ذاته هو العامل الذي أدى إلى توجيه الانتقادات إليه من كلا الطرفين؛ لأن الفلاسفة لم يقتنعوا بأسسه الفلسفية، على حين أن الأنثروبولوجيين لم يجدوه عالما أنثروبولوجيا بما فيه الكفاية.
لقد كان ليفي ستروس متفقا مع علم النفس عند فرويد في مواضع كثيرة، أدت إلى القول بأن آراء فرويد كانت مصدرا من المصادر التي استقى منها ستروس تفكيره. ففي كتاباته يظهر بوضوح إيمانه بفكرة وجود أساس لا شعوري عميق في الإنسان، إلى جانب شعوره الواعي. ولقد كان مثل فرويد يؤمن بوجود جانبين؛ أحدهما طبيعي، والآخر نتاج للثقافة، في الإنسان. والجانب الأول هو الذي أطلق عليه فرويد اسم ال
Id ، وتترجم عادة بكلمة: «هي»، بينما الأنا، أي الجانب الثاني، يمثل تأثير الثقافة، بالمعنى الشامل، في الإنسان. وكان ستروس يعتقد، كما اعتقد فرويد، أن الأسطورة نوع من الحلم الجماعي في المجتمعات البدائية، وهو حلم له لغته الرمزية الخاصة، القابلة للتفسير. وهذا التفسير كفيل بالكشف عن المعاني الخفية للأسطورة، واستخلاص المبادئ الأساسية لتفكير الإنسان البدائي من خلالها، ولكن هذه المبادئ التي توجد بطريقة لا واعية في ظاهرة جماعية، هي الأسطورة البدائية، ليست مقتصرة على البدائيين وحدهم، بل إنها في واقع الأمر تصدق على كل العقول البشرية على نحو شامل. فالمبادئ الأساسية التي نتوصل إليها عندئذ، تؤثر في عقولنا مثلما تؤثر في عقول سكان جزر المحيط الهادئ من البدائيين، وهي تشكل نوعا من المنطق الكلي الشامل، الذي يتمثل لدى هؤلاء البدائيين بصورة نقية خالصة، قبل أن نضيف إليه نحن منطقنا الخاص، الذي تقتضيه الظروف المعقدة لحياة الإنسان الحديث.
على أن البنائية قد تجاوزت مدرسة التحليل النفسي في نقطتين:
الأولى:
هي أن مدرسة التحليل النفسي أرجعت الأساطير والهفوات والأحلام إلى مجال اللامعقول والعشوائي، ورأت أنها تعبر عن الذهن الإنساني في عفويته وتلقائيته غير الموجهة. أما البنائية فرأت أن هذه النواتج الذهنية هي نشاط موجه نحو تحقيق أهداف معينة، وأن لها منطقها الخاص الذي يسري على مجال محدد، ويختلف عن المنطق الشامل الذي تحاول الحضارة الحديثة أن تتوصل إليه، ولكنه يظل مع ذلك منطقا له دقته وانضباطه في مجاله الخاص.
أما النقطة الثانية:
فهي أن البنائية تلغي المركز المميز للحالة الحاضرة، أو للباحث نفسه، بالقياس إلى الحالة الماضية التي كان يعيشها البدائيون؛ ففي التحليل النفسي نجد المحلل يحتل مركزا مميزا بالنسبة إلى الشخص الذي يحلله، ويعد نفسه مختلفا عنه، ما دام قادرا على كشف أبعاد أعمق من تلك التي يرويها المريض عن تجاربه العفوية. أما في البنائية، وفي اتجاهها التحليلي عند لاكان
Lacan ، فإن المحلل نفسه لا يعتبر نفسه سليما وسويا بالقياس إلى من يحلله، ولا يتخذ منه أي موقف متميز.
ولكن، إذا استثنينا هذه الفوارق البسيطة، فمن المؤكد أن حركة التحليل النفسي كان لها تأثيرها المباشر في البنائية؛ وذلك لأنها قدمت إليها مبدأ أساسيا في فهم الإنسان، هو أننا إذا أردنا أن نعرف العقل الإنساني في جذوره وأصوله الأولى، التي لا تزال تمارس تأثيرها فينا حتى اليوم - وإن كنا قد أضفنا إليها تعقيدات لا حصر لها - فلنحلل ذلك «اللاشعور الجماعي» للإنسانية كما يتمثل في أساطير البدائيين.
صفحة غير معروفة
هكذا قدم علم النفس الفرويدي لستروس الهدف العام لأبحاثه، ولكن أداة البحث قد أتت إليه من مصدر مختلف، هو علم اللغويات. ففي الأربعينيات من هذا القرن، حين كان ليفي ستروس في أميركا، التقى بباحث مشهور في علم اللغويات هو «جاكوبسون
Jakobson »، وتأثر إلى حد بعيد بطريقته في البحث عن بناءات لغوية تظل ثابتة مهما اختلفت اللغات المنفردة. ولما كانت اللغة تعبيرا عن النشاط الرمزي للإنسان، فلا بد أن هذه البناءات الثابتة تعبر عن مبادئ أساسية للعقل البشري، تنعكس على مجالات نشاطه الأخرى. ومن هنا جاءت فكرة المزج بين البحث في اللغويات والبحث الأنثروبولوجي، وتفسير الظواهر الاجتماعية عند البدائيين على أساس النموذج اللغوي الثابت. وهذا معناه تجاهل العامل التاريخي، وتأكيد فكرة القبلية
a-priorisme ، أي وجود صور وقوالب لا تخضع لتأثير الزمان، ولا شأن لها بعوامل التطور، وهو نفس الاتجاه الذي أكده جاكوبسون في مجال اللغويات.
إن اللغة، كما هو معروف، هي العنصر الأساسي في «التفكير»؛ لأننا لا نستطيع التفكير في أي شيء ما لم نقسم العالم المحيط بنا إلى فئات أو أصناف أو مقولات
catégories
ونعبر عن هذه الفئات برموز أو ألفاظ. ولو بحثنا في نظم القرابة العائلية مثلا
La parenté
لوجدنا أن سلوك الإنسان في مجال القرابة يتوقف إلى حد بعيد على تعبيراته في الحديث عن علاقات القرابة؛ فالمرء يدرك علاقة «أبناء العم أو الخال» عن وعي إذا وجد في اللغة لفظا يعبر عن ابن العم أو الخال. وعند مستوى معين تتيح اللغة للإنسان أن يتصل بغيره ويكون علاقات اجتماعية، بحيث يصبح من الممكن المقارنة بين نظم القرابة عند البدائيين، التي يتم فيها تبادل النساء، ونظم اللغة التي يتم فيها تبادل الألفاظ، ونستطيع عندئذ أن ننظر إلى قواعد الزواج ونظم القرابة على أنها نوع من اللغة، أي مجموعة من العمليات التي تستهدف تحقيق نوع معين من الاتصال
communication
بين الأفراد والجماعات.
صفحة غير معروفة
1
ففي كلتا الحالتين يتم تبادل «رسالة» معينة، وتوصيلها من طرف إلى الآخر؛ إما النساء اللائي يتبادلن بين العشائر أو الأسر، وإما الألفاظ التي تتداول بين الأفراد، ومن هنا كان من الممكن بحث الحالتين على أنهما تعبيران عن ظاهرة واحدة، لها نفس الهيكل أو البناء الأساسي.
وهكذا كان للبحوث اللغوية دور عظيم الأهمية في تحديد الاتجاه الذي سارت فيه بنائية ليفي ستروس، وفي صبغ أبحاثه الأنثروبولوجية بطابعها المميز. ولكن هل يعني هذا أن العوامل الفلسفية لم يكن لها تأثير في تفكيره؟ الواقع أن هذه العوامل كانت بالغة الأهمية في حالة ستروس على وجه التحديد، وهي التي تميزه عن سائر الأنثروبولوجيين. وكل ما في الأمر أن الاهتداء إليها يحتاج إلى جهد خاص، سنحاول القيام به، تاركين جانبا تأثير العامل اللغوي، على أهميته، لأنه خارج عن النطاق الأساسي لهذا البحث.
ولنبدأ بأن نلاحظ أن تكوين ليفي ستروس وتعليمه كان فلسفيا وقانونيا، وأنه لم يتجه إلى البحث الأنثروبولوجي إلا في مرحلة متأخرة نسبيا، ومن هنا كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التكوين الفلسفي على منهجه في البحث الأنثروبولوجي، حتى إن أحد الباحثين قال عنه إنه «كان يتصرف دائما كما لو كان داعية يدافع عن قضية، لا عالما يبحث عن الحقيقة الفعلية.»
2
على أن اهتمام ستروس المتأخر بالبحث الأنثروبولوجي لا ينبغي أن يعد تحولا عن الأصل الفلسفي الذي بدأ منه؛ ذلك لأن هذا الميدان بالذات يمكن أن يقدم مادة خصبة للتفكير الفلسفي، إذا كان الباحث قد تدرب على هذا التفكير بما فيه الكفاية. فمن الممكن أن نقول، من وجهة نظر معينة، إن دراسة الثقافات القديمة لها أهمية فلسفية كبرى؛ إذ تخرجنا من الحيز الضيق للثقافة التي نعيش فيها، وتقدم إلينا أنماطا فكرية مغايرة لتلك التي اعتدناها. وصحيح أن هذه الأنماط البدائية - في رأي ستروس - لا تختلف «في جوهرها» عن تلك التي نستخدمها اليوم، ولكن المهم أنها تدرس هنا في إطار مغاير لذلك الذي ألفناه في حضارتنا الحديثة. وهكذا يجد الأنثروبولوجي مجالا خصبا لتطبيق واختبار فكرة النسبية التي طالما سعى الفلاسفة إلى فهمها، ويتيح له ميدان دراسته فرصة عظيمة لإلقاء نظرة «موضوعية» على الفكر الإنساني الذي نسينا أصوله وعجزنا عن اختبار جذوره العميقة المتأصلة فينا دون وعي منا. وعلى حين أن الفيلسوف يعجز، في الأحوال العادية، عن الخروج عن الإطار الفكري لحضارته؛ لأن هذا الإطار الفكري هو الذي يتكلم فيه، ومن خلاله؛ فإن الدراسة الأنثروبولوجية تتيح له مجالا فريدا لتأمل مبادئه الفكرية «من الخارج»، في بساطتها ونقائها الأول .
وفضلا عن ذلك، فإن ستروس لم يكن من أولئك الأنثروبولوجيين الذين يتوقف اهتمامهم عند حدود ثقافة بدائية معينة، يعايشها بعمق، ويحلل ما لاحظه عنها في مؤلفات تفصيلية فيها كثير من الوصف وبعض التفسير، كما هي الحال عند مالينوفسكي
Malinowski
مثلا، فقد كانت دراسة الثقافات القديمة عنده وسيلة لغاية أوسع، هي الوصول إلى المبادئ الأساسية ل «الذهن البشري»، ولم تكن التفاصيل الأنثروبولوجية في نظره سوى أداة تساعده على الوصول إلى حقائق تصدق على هذا الذهن في عمومه، لا في شكل خاص من أشكاله؛ ولذلك لم يحاول ستروس أن يعايش ثقافة بعينها، ويقضي بين أهلها سنوات طويلة، ويندمج في حياتها اليومية فترة طويلة، كما فعل غيره من الأنثروبولوجيين المحترفين، بل إنه كان يقوم بدراسات ميدانية سريعة إلى حد ما، إذا قيست بما قام به غيره. ولم يكن يستقر في مكان واحد طويلا، وإنما كان يدرس ثقافة هذا المكان بالقدر الذي يساعده على تحقيق هدفه الأصلي، الذي هو في صميمه هدف فلسفي. وهكذا يمكن القول، من وجهة نظر معينة، إن بحثه في الأنثروبولوجيا لم يكن غاية في ذاته، بل كان وسيلة لغاية معينة هي في صميمها غاية فلسفية. وبقدر ما كان هذا الأسلوب في البحث مميزا له عن غيره من علماء الأنثروبولوجيا، ومن ثم سببا من أسباب شهرته بينهم، فقد كان في الوقت ذاته هو المحور الذي دارت حوله الانتقادات التي وجهت إليه، سواء من جانب علماء الأنثروبولوجيا ومن جانب الفلاسفة. وتلك، على أية حال، مسألة سنعرض لها فيما بعد بالتفصيل.
لقد كانت الفلسفة، منذ بداية عهدها، ترفض المظهر الخارجي للعالم، وحين انبثق منها العلم الطبيعي أخذ بدوره يبحث عن حقيقة لا تقدمها إلينا المظاهر المباشرة، وأخذ بالتدريج يكون لنفسه عالما خاصا به، مؤلفا من كيانات عقلية ورياضية، لا نستطيع أن نجد لها وجودا في عالم المظاهر، وإن كانت مع ذلك قادرة على أن تجعل هذا العالم مفهوما ومعقولا. وكانت مهمة ليفي ستروس هي أن يطبق هذا الشرط الذي أتاح للعلم الطبيعي إحراز أكبر قدر من التقدم على العلوم الإنسانية؛ لكي يجعلها بدورها علوما تتجاوز نطاق المظهر الخارجي للأشياء، ولا تندمج في ظواهر العالم أو في الظواهر الإنسانية، وإنما تبحث عن حقيقة عميقة وراء مظاهرها البادية.
صفحة غير معروفة
ولنذكر أنه كان في هذا الصدد يفرق بين العلوم الإنسانية، التي تستهدف الفهم النظري وحده، ولا تفترق مهمتها عن مهمة العلوم الطبيعية أو العلوم المنضبطة، وبين العلوم الاجتماعية، التي يمكن أن يكون لها دور عملي؛ لأن هدفها هو التغيير، وهو شيء لم يحاول ليفي ستروس أن يحققه في كتاباته، بل حرص على أن يظل بعيدا عن الميدان العملي وعن محاولات التغيير؛ فهو يسعى إلى الفهم فحسب. وقد عبر عن هذه التفرقة بقوله: «لقد استعارت العلوم الإنسانية من العلوم المنضبطة والطبيعية درسا هو ضرورة التخلي عن المظاهر
apparences
إذا أراد المرء فهم العالم، على حين أن العلوم الاجتماعية قد استخلصت درسا موازيا، هو ضرورة قبول المرء للعالم إذا أراد تغييره.» وربما بدا المصطلح الذي يستخدمه ستروس في هذا الصدد غريبا إلى حد ما؛ إذ إن من الشائع أن يستخدم لفظ «العلوم الإنسانية» لمجموعة العلوم التي تقبل مظهر العالم وتعترف بالظواهر الإنسانية على ما هي عليه. على حين أن لفظ «العلوم الاجتماعية» أكثر انطباقا على تلك العلوم الهادفة إلى الانضباط والدقة، والتي تسعى إلى الاقتراب من مناهج العلوم الطبيعية، ومن ثم ترفض الشكل الظاهري للموضوعات التي تبحثها، وتسعى إلى حقيقة خافية من وراء المظاهر، تعبر عنها - في الغالب - بقوانين رياضية. ولكن ستروس آثر أن يعكس الآية، ويجعل الانضباط في جانب العلوم الإنسانية. وعلى أية حال فالمسألة تسمية فحسب، ومن المعروف أن تعبيري «العلوم الاجتماعية» و «العلوم الإنسانية» ما زالا موضوع خلاف بين المشتغلين في هذا الميدان، ولم يستقر الرأي نهائيا على مسميات ثابتة تحدد نطاق كل منهما حتى اليوم.
والذي يهمنا في هذا الأمر هو أن ستروس بالرغم من تأكيده هدف «الانضباط» في العلوم الإنسانية، كان فيلسوفا في رفضه للطابع الذي تتبدى عليه الأشياء، وسعيه إلى حقيقة أعمق من هذا المظهر . ولنذكر في هذا الصدد أن «كانت» بدوره كان يضع نصب عينيه هدف العلم «المنضبط»، ويستهدف تحقيقه في مجال الفلسفة ذاتها، التي أراد منها أن تبحث عن عوامل الانضباط في علمي الطبيعة والرياضة وتطبقها في ميدانها الخاص. وهكذا يمكن القول إن «كانت» أراد أن يجعل من الفلسفة «علما إنسانيا» بالمعنى الذي حدده ستروس.
بل إن تفاصيل الانتقال من مظهر العالم إلى الحقيقة العلمية متشابهة فيما بين «كانت» وستروس؛ ذلك لأن ستروس بدوره يرى أن ما نعرفه عن العالم الخارجي ندركه من خلال حواسنا، أي إننا نضفي على الظواهر التي ندركها سمات معينة، ترجع إلى الطريقة التي تعمل بها حواسنا، وإلى الترتيب الخاص الذي يرتب به ذهننا المنبهات الحسية ويفسرها. ومن أهم سمات عملية الترتيب هذه تفتيت المتصل الزماني والمكاني المحيط بنا إلى قطاعات منفصلة، بحيث نرى في الطبيعة أشياء مصنفة في فئات، ونجعل الزمان مؤلفا من حوادث منفصلة متعاقبة. وما يحدث في حياتنا الاجتماعية، وفي ثقافتنا، هو انعكاس لما يحدث في إدراكنا للعالم المحسوس؛ إذ إننا نجزئ نواتج ثقافتنا ونرتبها بنفس الطريقة التي نجزئ بها نواتج الطبيعة ونرتبها، ونكون منها «بناء» مماثلا للبناء الذي ننظم به إدراكنا للعالم. وكما تحدث كانت عن مقولات ذهنية تكون قوالب لا بد أن يصاغ فيها كل ما ندركه عن العالم، ثم طبق هذه المقولات، في الجزء الخاص ب «جدل العقل الخالص» من كتابه المشهور «نقد العقل الخالص»، على نواتج الفكر الميتافيزيقي والتأملي البحت، فجعل منها ما يشبه «البناءات» التي تنقل من مجالها الأصلي إلى مجال مغاير، فكذلك فعل ليفي ستروس حين أكد أننا عندما نضع نظما اجتماعية أو نقوم بشعائر، نحاكي طريقة إدراكنا للطبيعة، ونحول النموذج الذي ندرك عليه الطبيعة إلى المجال الثقافي، بحيث يكون بناؤهما مشتركا. وهذا أمر مفهوم؛ لأن الذهن البشري هو الفعال في الحالتين، ولا بد من وجود نقاط تشابه أساسية في طريقة ممارسته نشاطه في كل مجال من المجالات.
ولكن، مثلما أن تأكيد «كانت» لفاعلية الذهن البشري لم يؤد به إلى أن يكون مثاليا على طريقة باركلي، فكذلك كان ستروس بعيدا كل البعد عن هذا النوع من المثالية؛ فهو يعترف بأن للطبيعة وجودا حقيقيا خارج الذهن البشري، ولا يجعل وجودها متوقفا على إدراكنا الذهني لها. «ولكن فهمنا للطبيعة تتحكم فيه كثيرا طبيعة ذلك الجهاز الذي نفهمها به. وهكذا فإن فكرة ستروس هي أننا إذا لاحظنا الطريقة التي نفهم بها الطبيعة، وتأملنا خصائص التصنيفات، التي نستخدمها وطريقة تعاملنا مع المقولات الناتجة عن هذه التصنيفات، أمكننا أن نستدل على حقائق أساسية عن آلية التفكير.»
3
وإذا عرفنا آلية التفكير البشري، أمكننا أن ندرك نواحي التشابه الأساسية في الثقافات المختلفة التي تشترك في أنها كلها نواتج لذهن يعمل بطريقة واحدة.
وإذن، فلم يكن ليفي ستروس مثاليا بنفس الطريقة التي كان بها باركلي مثاليا، ولكن مثاليته «كانتية» إلى حد بعيد، فهو بدوره يؤكد تدخل الذهن في كل شيء، ويتمسك بفكرة الترابط الوثيق بين كل الظواهر، التي تجمع بينها آلية ذهنية واحدة. وتنفذ هذه النظرة الكانتية إلى صميم عمله الأنثروبولوجي، فيسعى إلى كشف العلاقات الباطنة بين مختلف مظاهر الحياة في المجتمع البدائي. ويرى أن السلوك اليومي للناس في هذا المجتمع، وطريقة تشييدهم لمساكنهم، وأداءهم لشعائرهم وطقوسهم الروحية، وتنظيمهم لعلاقات القرابة بينهم، كل هذه تكشف عن بناء واحد قد يجد العالم الأنثروبولوجي صعوبة كبرى في الوصول إليه؛ لأنه بناء لا شعوري، لا يدرك عن وعي ولا يوجد على السطح الظاهر، ولكنه لن يعجز عن ذلك إذا كان مسلحا بالمنهج السليم.
أما هذا المنهج السليم فأهم ما فيه هو تأكيد أولوية البناء على مظاهره الخارجية، أو ما يمكن أن يسمى - بلغة كانت - بالقبلية
صفحة غير معروفة
a priorisme ؛ ففي استطاعتنا أن نفهم النواتج الثقافية على أساس البناء الواحد الذي ترتكز عليه، أما إذا بدأنا بهذه النواتج ذاتها، ولم نحاول أن نردها إلى أساس سابق؛ فلن نصل إلى أي فهم متعمق، ومن هنا كان انتقاد ستروس للنزعة الوظيفية عند «مالينوفسكي».
هذه الوظيفية كانت تتجلى - على سبيل المثال - في تفسير مالينوفسكي لظاهرة قيام قبائل معينة بتسمية نفسها بأسماء حيوانات؛ إذ كان يرى أن هذا راجع إلى الفائدة المكتسبة من هذه الحيوانات في الحياة اليومية لتلك القبائل، أو إلى أنها كانت تعتمد عليها في مأكلها، وغير ذلك من التفسيرات الوظيفية التي رفضها ليفي ستروس من أساسها. فالبناء سابق على مظاهره، وليست هذه الأفعال الجزئية هي التي تفسر البناء، بل إن البناء هو الذي يفسرها. وقد عبر ستروس عن هذه الفكرة بوضوح حين قال: «في الأنثروبولوجيا ... لا تكون المقارنة هي التي يرتكز عليها الحكم العام، بل إن العكس هو الصحيح. فإذا كان من الصحيح - وهو ما نؤمن به فعلا - أن النشاط اللاواعي للذهن قوامه فرض أشكال على مضمون، وإذا كانت هذه الأشكال في أساسها واحدة بالنسبة إلى جميع الأذهان، تستوي في ذلك القديمة والحديثة البدائية والمتحضرة، وهو ما تدل عليه دراسة الوظيفة الرمزية كما تعبر عنها اللغة، فإنه يكفي المرء عندئذ أن يدرك البناء اللاواعي الكامن من وراء كل نظام اجتماعي
institution
وكل عرف؛ لكي يتوصل إلى مبدأ للتفسير يسري على كل النظم والأعراف الأخرى، شريطة أن نمضي في التحليل بما فيه الكفاية بطبيعة الحال.»
4
هكذا تكتسب لغة ستروس صبغة «كانتية» واضحة، ويصبح تفسير هذه الظواهر من خلال البناء «شرطا لإمكان» هذه الظواهر، أي إن البناءات هي التي تفرض على الظواهر المتباينة والكثيرة تنظيمها وترتيبها الخاص، بل هي التي تجعلها ممكنة. ولقد كان هذا التشابه الواضح مع مذهب كانت هو الذي دعا الفيلسوف «ريكير
Ricoeur » إلى أن يصف بنائية ستروس بأنها «مذهب كانتي بدون ذات ترنسندنتالية»
5
صحيح أن زوال الذات الترنسندنتالية يعني فقدان عنصر أساسي في مذهب كانت؛ لأن هذه الذات، بما لديها من صور الحساسية ومقولات الفهم، هي التي تعطي العالم مظهره القابل للمعرفة، ولكن يظل من الصحيح أيضا أن بناءات ليفي ستروس، وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية التي تفترضها مقدما، مشابهة للصور الذهنية التي هي بمثابة القوالب لكل موضوع نعرفه في العالم، كما قال بها كانت، وإن هذا التشابه يصل إلى حد لا يمكن تجاهله.
على أن هذه النزعة الفلسفية الواضحة لدى ليفي ستروس، إذا كانت تضفي مزيدا من العمق على أعماله الأنثروبولوجية، وتصبغها بطابع فريد لا نجد له نظيرا بين غيره من المشتغلين في هذا الميدان، فقد كانت هي ذاتها السبب الأكبر في النقد الذي تعرض له. ومما يلفت النظر أن هذا النقد لم يأت من جانب المشتغلين بالأنثروبولوجيا وحدهم؛ فعلى حين أن هؤلاء لم يقتنعوا بالاتجاه الفلسفي الواضح في كتابات ستروس العلمية، نجد أن الفلاسفة بدورهم قد دخلوا معه في حوار حاد وجهوا فيه انتقاداتهم إلى الركائز الأساسية لتفكيره، وإلى الأهداف التي يتجه إليها عمله العلمي بوجه عام. وسوف نبحث كلا من اتجاهي النقد هذين، العلمي والفلسفي، على حدة.
صفحة غير معروفة