» لا تنتج عن جهد الذات الفردية، بقدر ما تكون حصيلة تفاعلات بين الذات وبيئتها التي تدخل فيها عوامل اجتماعية وتاريخية.
8
بل إن كل معرفة إنما هي نوع من الإنتاج، يقوم به المجتمع مثلما يقوم بإنتاج الثروة، والنظام الذي يخضع له «الإنتاج» في الحالتين متشابه. ولا شك أن هذه النظرة إلى الفكر بوصفه ناتجا اجتماعيا خاضعا لشروط مشابهة لتلك التي تخضع لها النواتج الاجتماعية الأخرى تشكل فارقا أساسيا، ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار قبل أية محاولة للمقارنة بين فكر هيجل وماركس.
فإذا انتقلنا إلى مضمون فلسفة هيجل، وجدنا أن الرأي الشائع في هذا الصدد هو أن ماركس قد اقتبس الجدل الهيجلي على ما هو عليه، وإن كان قد جعله يعتدل بعد أن كان مقلوبا، واستخدمه في فهم الواقع المادي بعد أن كان يستخدم في تحديد مسار حركة الفكر. على أن ماركس قد افترق عن هيجل افتراقا تاما في تصوره لفكرة التناقض التي هي الفكرة المركزية في الجدل الهيجلي. فالحركة الجدلية تتم في الإطار الهيجلي، عن طريق السلب الذي يعرض علينا كما لو كان يتضمن قوة خفية تؤدي إلى التحريك. ويبدو أن في قلب الجدل الهيجلي إيمانا بنوع من الغائية الغامضة تتمثل في تلك الدينامية المنبعثة عن التناقض، والتي تدفع بالفكر إلى الأمام نحو مزيد من التعقيد، وتصل بهذا الفكر في النهاية إلى غايته المرسومة مقدما. وحين يقتبس الماركسيون التقليديون هذا التصور الهيجلي للجدل، ويطبقونه على مسار التاريخ، يصورون هذا المسار كما لو كان صراعا مستمرا بين الأبيض والأسود، يقوم فيه ملاك طاهر (هو المركب) بالتوفيق بينهما، مع إلحاق الهزيمة - جزئيا على الأقل - بالأسود. وهذا التبسيط هو ما يعترض عليه ألتوسير، ويراه تزييفا مثاليا لفكر ماركس.
والواقع أن ماركس، كما يفهمه ألتوسير، لم يكن مجرد ناقد لهيجل أو مصحح له، اكتفى باقتباس الجدل منه مع إيقافه على قدميه بدلا من رأسه، بل إنه أزال الزيف الهيجلي المثالي، وأعاد إلى الحقيقة طابعها المعقد المتشابك، ولم يكن استمرارا لهيجل، بل كانت مهمته الرئيسية هي تفنيده، وتبديد أساطيره. وهكذا لم تكن نقطة بداية ماركس هي الرغبة في إكمال مسار هيجل بعد تصحيحه، وإنما كانت هي «العودة إلى الوراء»، إلى التاريخ الحقيقي الذي شوهته الأيديولوجية الألمانية، وبخاصة عند هيجل، وإلى العناصر التي حرفت في مذهب هيجل. ومن هنا؛ فإن من الخطأ النظر إلى العلاقة بين ماركس وهيجل في ضوء فكرة «التجاوز والرفع
Aufhebung » الهيجلية؛ لأن ماركس لم يقوم أخطاء هيجل، وإنما بدد أوهامه، وعاد إلى الوراء من الوهم المتبدد إلى الواقع الذي لم يتنبه إليه هيجل، أي إلى الأسس العينية للحياة الاجتماعية، كما تتمثل في التاريخ والاقتصاد السياسي والاجتماع. فهو بالاختصار قد اقتحم أرضا جديدة، واستمد تفكيره من مصادر مغايرة لتلك التي انطلق منها هيجل.
ولو قارن المرء بين ما قام به هيجل بالنسبة إلى السابقين عليه، وما قام به ماركس بالنسبة إلى هيجل لأدرك الفرق بوضوح؛ فهيجل قد تجاوز بالفعل كلا من إسبينوزا وكانت «وفشته»، ولكن هذا كان تجاوزا ينطبق عليه لفظ
Aufhebung ؛ إذ إنه واصل السير في نفس طريق الفلسفة التأملية النظرية الذي سلكوه، واحتفظ بواحدية إسبينوزا وبالذات الفعالة عند كانت وفشته، مع تجاوزه للنظرة الأحادية الجانب عند كل منهم،
9
أما في حالة علاقة ماركس بهيجل فإن الأمر يختلف؛ إذ إنه اتخذ لنفسه منذ البداية طريقا مختلفا، وتخلى عن الوظيفة التأملية للفكر لكي يربط بينه وبين الممارسة العلمية ربطا أساسيا، وجعل للتفكير مهمة مغايرة لكل من سبقه، هي مهمة تغيير العالم، لا مجرد تفسيره، أي إنه بدلا من أن يرتفع بتأملات هيجل إلى مستوى أعلى قد فجر مذهبه من أساسه.
صفحة غير معروفة