Fichte » وتجاهل الانقلاب الإبستمولوجي الذي قام به ماركس وانجلز، وجعل التحول الاجتماعي راجعا إلى أسباب إنسانية تجريدية ولم يعط إلا أهمية ثانوية لمقولات المادية التاريخية والديالكتيك الموضوعي. وإذا كانت الماركسية قد كسبت، بمحاولة جارودي هذه، صداقة بعض التيارات التي كانت تعاديها، كالوجودية والشخصانية، أو اتخذت صورة متقاربة معها، فإنها قد خسرت قدرا غير قليل من طابعها النضالي، وقدرتها على نقد الأيديولوجيات المضادة لها، وفقدت جانبا كبيرا من طابعها العلمي الموضوعي.
ويمكن القول إن أعمال ألتوسير كانت، في جانبها الأهم، رد فعل على هذا الاتجاه إلى إذابة الماركسية في رخاوة النزعة الإنسانية (ولهذا وصفناها من قبل بأنها رد فعل على رد فعل) وكانت سعيا إلى العودة بها إلى صلابة النزعة العلمية
Scientificité
وعودة إلى تأكيد مقولاتها المادية المستمدة من كتب مثل «الأيديولوجية الألمانية» «ورأس المال»، وإبرازا لطابعها المتميز الذي يرتكز على أسس لا يمكن الجمع بينها وبين تلك التي تقوم عليها الفلسفات البورجوازية. ففلسفته هي بمعنى معين: نوع من «السلفية» المتقشفة الصارمة، التي ترجع إلى المنبع وتنبذ التحريفات. ولكنها تقوم في الوقت ذاته بحركة مزدوجة؛ فهي في رجوعها إلى المنبع لا تكتفي بلعبة الاقتباس والاستشهاد بالنصوص، وهي اللعبة التي يندفع إليها كثير من الماركسيين؛ إما عن عجز منهم عن التفكير المستقل، وإما عن تقصير في متابعة تيارات الفكر التي أعقبت ظهور المؤلفات الأساسية للماركسية، وإما نتيجة الانشغال بالكفاح السياسي، ورغبة في خدمة الاعتبارات العلمية والكفاحية قبل أية اعتبارات أخرى. بل إن ألتوسير يعود إلى الأصول مزودا بكل انجازات الفكر والعلم المعاصر، ويستخدم في فهم النصوص أحدث أدوات التحليل الفكري التي عرفت في النصف الثاني من القرن العشرين، وخاصة تلك التي تحققت في العلوم الإنسانية التي امتد إليها تأثير العلم الطبيعي، كعلم اللغويات المرتكز على فكرة البناء، والتحليل النفسي الجديد المتأثر بهذه الفكرة نفسها، مما أتاح إلقاء ضوء جديد على موضوعه من زوايا حديثة متعددة. وهكذا يمثل تفكيره عودة إلى المنبع وقفزة إلى الأمام في آن واحد. وهو فضلا عن ذلك لا يتجاهل المشكلات السياسية التي تشغل الماركسيين في الوقت الحاضر. وكل ما في الأمر أنه يؤكد الحاجة إلى منهج يتمشى مع الاتجاه الأساسي لماركس، ويتيح لنا معرفة الواقع بطريقة علمية. فهو ينظر إلى الماركسية بوصفها علما يأخذ هو على عاتقه صياغة قوانينه الأساسية، وعن طريق هذه القوانين يمكن التصدي للمشكلات التي تواجه الإنسان المعاصر بثقة، والإتيان بحلول أصيلة لها.
على أن من الخطأ أن ننظر إلى هذه العودة إلى المنبع على أنها مجرد شرح وإيضاح لفكر ماركس. فمرحلة الشرح قد تم تجاوزها منذ وقت طويل، بل لقد أصبحت كثرة الشروح المباشرة وتكرارها الممل مشكلة من المشكلات التي تواجه الفكر الماركسي. وكان من الضروري أن تأتي بعد ذلك مرحلة تقديم ذلك الفكر بطريقة منهجية جديدة، وإعادة تفسيره في ضوء المعرفة الجديدة التي تم اكتسابها في ميادين متعددة. بل إن نصيب الفكر المبتكر الخلاق في أعمال ألتوسير لا يقل عن نصيب الكتابات الأصلية التي يقوم بتفسيرها. فإذا تذكر المرء ذلك المستوى الهابط الذي قدمت به الماركسية في كثير من الشروح المباشرة، التي امتلأت بالدعايات الساذجة، وسطحت تفكير الفيلسوف نفسه، أمكنه أن يقدر أهمية العمل الذي قام به ألتوسير، الذي بعث حياة جديدة في الفكر الماركسي، و«أثبت أن المفكر يستطيع أن يكون ماركسيا وخلاقا في الوقت ذاته.»
7
ولقد كانت نقطة البداية الطبيعة في هذا الخلق الجديد للماركسية، هي نقد الاتجاهات السائدة في تفسير الماركسية، لا في عصره فقط، بل منذ أن ظهر ذلك المذهب؛ ذلك لأن هناك تفسيرا شائعا، له سمات محددة لا يكاد يشك فيها أحد، وهو تفسير تفقد فيه الماركسية أصالتها، وتتحول إلى مجرد امتداد للهيجلية. هذا التفسير هو الذي أخذ ألتوسير على عاتقه مهمة نقده، بعد أن أطلق عليه اسم «الماركسية السوقية أو العامية
marxisme vulgaire » فعلى أي نحو انتقد ألتوسير هذا التفسير الشائع؟
في التفسير الشائع للماركسية تأكيد مفرط لتأثير هيجل في ماركس. فالماركسية تصور على أنها فرع من شجرة متعددة الأغصان، هي الهيجلية التي سارت امتداداتها، من بعدها، في اتجاهات اليمين والوسط واليسار. وهذا الأصل الهيجلي هو مصدر الخطأ الأكبر في الفهم الشائع؛ إذ إنه يؤدي إلى إغفال جوانب أخرى لم تكن هي التي تميزت بها هذه الفلسفة، ولم تكن هي موضع الجدة والأصالة فيها.
والواقع أن نظرة ماركس إلى الفكر تؤدي - منذ البداية - إلى افتراق طريقه عن هيجل على نحو حاسم؛ فماركس لم يعرف ذلك الفكر المكتفي بنفسه، الذي هو أبرز السمات عند هيجل. وإذا كان الفكر والواقع عند هيجل يمتزجان في بوتقة واحدة؛ فإن هذا الامتزاج يتم عن طريق إضفاء الصبغة الفكرية على الواقع. وحين يقول هيجل إن «كل واقع معقول ، وكل معقول واقع»، فإن أساس قوله هذا هو طريقته الخاصة في إضفاء الطابع الفكري على الواقع، بحيث يكون الفكر هو الطرف الثابت، والواقع هو الطرف الذي يتشكل وفقا للفكر، والذي لا نفهمه إلا من حيث هو تعبير عن مقولات فكرية. أما في حالة ماركس؛ فإن نقطة البداية مختلفة اختلافا جذريا؛ إذ إن التفكير عنده نوع من الإنتاج أو الإحداث، والفكر «ممارسة نظرية
صفحة غير معروفة