على أن هذا لا يعني أن ماركس قد انفصل بفكره عن هيجل من أول عهده بالتأليف؛ فهناك قدر من الصواب في الرأي القائل إنه قد بدأ هيجليا، ولكن المهم أن نفرق بين الفترة التي كان فيها ماركس دائرا في فلك «الإشكال الهيجلي
la problématique hegelienne » وتلك التي أصبح له فيها إطاره الفكري الخاص، الذي يتسم بالانضباط العلمي، وتنطبق عليه المقولات البنائية؛ لذلك يقسم ألتوسير تفكير ماركس إلى مراحل: مرحلة الشباب (1840-1844م) ومرحلة الانفصال أو الاعتزال
Coupure
10 (1845م) ومرحلة النضج (1845-1857م وما بعدها). ففي المرحلة الأولى، التي يمكن تسميتها بالمرحلة الأنثروبولوجية، كان اهتمام ماركس منصبا على الإنسان، وكان متأثرا بفويرباخ عندما جعل هدفه هو أن يحقق للإنسان ماهيته الأصيلة، ومتأثرا بهيجل في مصطلحاته وطريقته التأملية في تقديم الحجج وحديثه كفيلسوف تجريدي. أما بعد «الاعتزال»؛ فقد أصبح يعد المرحلة السابقة مرحلة «أيديولوجية»، وأخذ يبحث لنفسه عن مصطلحه الخاص، وازداد اهتماما «بالطابع العلمي» للفكر بدلا من طابعه الأيديولوجي، وأصبح مدار بحثه تحليل بنية النظام الاقتصادي والاجتماعي، بعد أن كان تحقيق ماهية الإنسان.
في هذه المرحلة لم ينفصل ماركس، في الواقع، عن هيجل فحسب، بل إنه انفصل عن التراث الفلسفي السابق كله. وتلك نقطة يؤكدها ألتوسير بقوة؛ إذ إن من أهم القضايا التي يلح عليها، في تفسيره الخاص للماركسية، أن تفكير ماركس الناضج كان يتسم بالجدة الكاملة، وكان يمثل انقطاعا أساسيا
rupture
بالنسبة إلى كل ما سبقه. فما هي السمة المميزة لتفكير ماركس في هذه المرحلة الرئيسية، مرحلة الجدة والاستقلال عن التراث الفلسفي السابق؟
لكي يتسنى لنا الإجابة عن هذا السؤال، ينبغي علينا أن نلقي الضوء على لفظ محوري في لغة ألتوسير، استخدمناه منذ قليل دون إيضاح لمعناه، وهو لفظ
problématique (مستخدما بوصفه اسما، لا صفة). ففي رأي ألتوسير أن كل مذهب فكري له إشكاله الخاص، أو على الأصح، إطاره الإشكالي المميز، الذي تدور في نطاقه كل تفاصيله وجزئياته، بل إن كل أيديولوجية ينبغي أن تفهم على أنها تؤلف كلا تجمعه وحدة باطنة، هي وحدة ذلك الإطار الإشكالي أو التساؤلي الذي تتصدى للإجابة عنه، والذي تنفرد به عن غيرها، ويشكل البؤرة المركزية المميزة لتكوينها النظري.
11
صفحة غير معروفة