(10) فإذن لا حجة تلحق من أن تكون غير متناهية، إذ كانت معرفتنا لواحد منها هي معرفة الجميع، إذ كنا إنما نعرف ما يعم الجميع الذي هو غير متناهي العدد. ولذلك صار سؤال أنطسثانس في حد الإنسان، وحد الحد، وحد حد الحد، الصائر إلى غير النهاية، غلطا، إذ كان ليس هناك نصير بالمعرفة إلى غير النهاية، ولا حاجة بنا إلى أن نعرف ما لا نهاية له، حتى إذا عجزنا عنإحصائه وعن معرفة كل واحد على حياله تكون المعرفة قد بطلت، إذ كان معنى الحد معنى واحدا بعينه كليا في جميع الحدود كانت متناهية أو غير متناهية - كما أن معنى رفع " الرفع " ورفع " زيد " هو بمعنى واحد عن كلي في هذين وفي رفع " رفع الرفع " الصائر إلى غير النهاية. وكذلك السؤال عن جنس الجنس، وجنس جنس الجنس، الصائر إلى غير النهاية. وعلى ذلك المثال علم العلم بأنه علم علم العلم، الصائر إلى غير النهاية. وكذلك السؤال عن الشبيه وهل هو شبيه شبيه آخر أو مغاير له، وهل معنى الغير غير لغير آخر أو شبيه به: فيكون الغير شبيها بما هو غير وكون الشبيه غيرا بما هو شبيه؛ أو يكون الغير غيرا لغير آخر وغير الغير بغير آخر - غيرا لكل واحد من الأمرين، وغيرا بغيرية غير من آخرين، وغير الغير هكذا، إلى غير النهاية. وكذلك شبيه الشبيه بشبيه آخر له شبيه أيضا بشبيهين آخرين، وذلك إلى غير النهاية. فهذه السؤالات كلها من جنس واحد، وإنما هي كلها في المعقولات الثواني. والجواب عنها كلها جواب واحد، وهو على مثال ما لخصناه في تلك الأخر.
الفصل الخامس:
الموضوعات الأولى للصنائع والعلوم
(11) وهذه المعقولات هي الأول بالإضافة إلى هذه الثانية كلها. والألفاظ الأول إنما توضع أولا للدلالة على هذه وعلى المركبات من هذه. وهذه هي الموضوعات الأول لصناعة المنطق والعلم الطبيعي والعلم المدني والتعاليم ولعلم ما بعد الطبيعة.
(12) فإنها من حيث هي مدلول عليها بألفاظ، ومن حيث هي كلية، ومن حيث هي محمولة وموضوعة، ومن حيث هي معرفة بعضها ببعض، ومن حيث هي مسؤول عنها، ومن حيث تؤخذ أجوبة في السؤال عنها، هي منطقية. فيأخذها وينظر في أصناف تركيب بعضها إلى بعض من حيث تلحقها هذه التي ذكرت وفي أحوال المركبات منها بعد أن تركبت. فإن المركبات منها إنما تصير آلات تسدد العقل نحو الصواب في المعقولات وتحرزه عن الخطأ في ما لا يؤمن أن يغلط فيه من المعقولات، إذا كانت المفردات التي منها ركبت مأخوذة بهذه الأحوال.
(13) وأما في سائر العلوم فإنما تؤخذ من حيث هي معقولات الأشياء الخارجة عن الذهن مجردة عن ألفاظها الدالة عليها ومن سائر ما يلحقها في الذهن من العوارض التي ذكرت. إلا أن الإنسان يضطر إلى أن يأخذها بتلك الأحوال ليصير بها إلى أن تحصل معلومة، وإذا حصلت معلومة أخذها حينئذ مجردة عنها. ويضطر إلى أخذها بتلك الأحوال، ويصير ما يطلب علمه منها نتائج بتلك الأحوال، حتى إذا فرغ من تعلمها أزيلت عنها تلك الأحوال، أو يجعل المقصد منها أن تؤخذ لا من جهة ما لها تلك الأحوال وإن كانت لا تنفك منها.
(14) وما تحتوي عليه المقولات بعضها كائن وموجود عن إرادة الإنسان وبعضها كائن لا عن إرادة الإنسان. فما كان منها كائنا عن إرادة الإنسان نظر فيه العلم المدني وما كان منها لا عن إرادة الإنسان نظر فيه العلم الطبيعي.
(15) وأما علم التعاليم فإنه إنما ينظر من هذه في أصناف ما هو كم وفيما كانت ماهيات تلك الأنواع من الكم توجب أن يوجد فيها من سائر المقولات بعد أن يجردها في ذهنه ويخلصها عن سائر الأشياء التي تلحقها وتعرض لها، سواء كانت تلك عن إرادة الإنسان أول عن إرادته. ولا ينظر من المقولات في المشار إليه المحسوس الذي لا يحمل على شيء أصلا ولا بوجه من الوجوه، ولا في ما هو هذا المشار إليه؛ ولا ينظر في أنواع الكم من حيث هي لاحقة وعارضة لهذا المشار إليه؛ ولا لماذا هو هذا المشار إليه؛ بل يأخذ تلك الأنواع في ذهنه مجردة عن هذا المشار إليه وعن ما هو المشار إليه.
صفحة ٣