الباب الأول
### || الحروف وأسماء المقولات
الفصل الأول
حرف إن
(1) أما بعد فإن معنى ان الثبات والدوام والكمال والوثاقة في الوجود وفي العلم بالشيء. وموضوع إن وأن في جميع الألسنة بين. وهو في الفارسية كاف مكسورة حينا وكاف مفتوحة حينا. وأظهر من ذلك في اليونانية " ان " و" اون " ، وكلاهما تأكيد، إلا أن " اون " الثانية أشدتأكيدا، فإنه دليل على الأكمل والأثبت والأدوم. فلذلك يسمون الله ب " اون " ممدود الواو، وهم يخصون به الله، فإذا جعلوه لغير الله قالوها ب " ان " مقصورة. ولذلك تسمي الفلاسفة الوجود الكامل " إنية " الشيء - وهو بعينه ماهيته - ويقولون " وما إنية الشيء " يعنون ما وجوده الأكمل، وهو ماهيته. إلا في الإخبار فقط دون السؤال.
الفصل الثاني:
حرف متى
(2) وحرف " متى " يستعمل سؤالا عن الحادث من نسبته إلى الزمان المحدود المعلوم المنطبق عليه، وعن نهايتي ذلك الزمان المنطبقتين على نهايتي وجود ذلك الحادث - جسما كان ذلك أو غير جسم - بعد أن يكون متحركا أو ساكنا، أو في ساكن أو في متحرك. وليس بشيء من الموجودات يحتاج إلى زمان يلتئم به وجوده أو ليكون سببا لوجود موجود أصلا. فإن الزمان متى ما عارض باضطرار عن الحركة، وإنما هو عدة عدها العقل حتى يمحي به ويقدر وجود ما هو متحرك أو ساكن. وليس الحال فيه مثل الحال في المكان، فإن أنواع الأجسام محتاجة إلى الأمكنة ضرورة في الأشياء التي أحصاها من قبل.
الفصل الثالث:
المقولات
(3) والذي ينبغي أن يعلم أن أكثر الأشياء المطلوبة بهذه الحروف وما ينبغي أن يجاب به فيها فيسمي الفلاسفة باسم تلك الحروف أو باسم مشتق منها. وكل ما سبيله أن يجاب به في جواب حرف " متى " إذا استعمل يسمونه بلفظ ة متى. وما سبيله أن يجاب به عن سؤال " أين " يسمونه بلفظة أين.وما سبيله أن يجاب به في " كيف " يسمونه بلفظة كيف وبالكيفية. وكذلك ما سبيله أن يجاب به في " أي " بلفظة أي. وما يجاب به في " ما " يسمونه بلفظة ما والماهية. غير أنهم ليس يسمون ما سبياه أن يجاب به في حرف " هل " بلفظ هل، ولكن يسمونه إن الشيء.
(4) وكل معنى معقول تدل عليه لفظة ما يوصف به شيء من هذه المشار إليها فإنا نسميه مقولة. والمقولات بعضها يعرفنا ما هو هذا المشار إليه، وبعضها يعرفنا كم هو، وبعضها يعرفنا كيف هو، وبعضها يعرفنا أين هو، وبعضها يعرفنا متى هو أو كان أو يكون، وبعضها يعرفنا أنه مضاف، وبعضها أنه موضوع وأنه وضع ما، وبعضها أن له على سطحه شيئا ما يتغشاه، وبعضها أنه ينفعل، وبعضها أنه يفعل.
(5) وقد جرت العادة أن يسمى هذا المشار إليه المحسوس الذي لا يوصف به شيء أصلا إلا بطريق العرض وعلى غير المجرى الطبيعي، وما يعرف ما هو هذا المشار إليه، الجوهر على الإطلاق، كما يسمونه الذات على الإطلاق. ولأن معنى جوهر الشيء هو ذات الشيء وماهيته وجزء ماهيته، فالذي هو ذات في نفسه وليس هو ذاتا لشيء أصلا هو جوهر على الإطلاق، كما هو ذات على الإطلاق، من غير أن يضاف إلى شيء أو يقيد بشيء. وما يعرف ما هو هذا المشار إليه هو جوهر هذا المشار إليه. ولأنه ليس يحمل على شيء آخر، لأنه من كل جهاته جوهر لكل ما يحمل عليه. وأما سائر المحمولات على هذا المشار إليه، فإنه ليس واحد منها بجوهر له، وإن كان جوهر الشيء آخر، فلذلك هو جوهر بالإضافة وبتقييد، وعرض في المشار إليه.
صفحة ١
(6) والمقول فقد يعنى به ما كان ملفوظا به، كان دالا أوغير دال، فإن القول قد يعنى به على المعنى الأعم كل لفظ، كان دالا أو غير دال. وقد يعنى به ملفوظا به دالا، فإن القول قد يعنى به على المعنى الأخص كل لفظ دال، كان اسما أو كلمة أو أداة. وقد يعنى به مدلولا عليه بلفظ ما. وقد يعنى به محمولا على شيء ما. وقد يعنى به معقولا، فإن القول قد يدل على القول المركوز في النفس. وقد يعنى به محدودا، فإن الحدهو قول ما. وقد يعنى به مرسوما، فإن الرسم أيضا هو قول ما. وبهذه سميت المقولات مقولات، لأن كل واحد منها اجتمع فيه أن كان مدلولا عليه بلفظ، وكان محمولا على شيء ما مشار إليه محسوس - وكان أول معقول يحصل إنما يحصل معقول محسوس، وإن كانت توجد معقولات معقولات حاصلة لا محسوسات فذلك ليس بينا لنا منذ أول الأمر - ، وكانت أيضا مفردة والمفردة تتقدم المركبات.
الفصل الرابع:
المعقولات الثواني
(7) وأيضا فإن هذه المعقولات الكائنة في النفس عن المحسوسات إذا حصلت في النفس لحقها من حيث هي في النفس لواحق يصير بها بعضها جنسا، وبعضها نوعا، ومعرفا بعض ببعض. فإن المعنى الذي به صار جنسا أو نوعا - وهو أنه محمول على كثيرين - هو معنى يلحق المعقول منحيث هو في النفس. وكذلك الاضافات التي تلحقها من أن بعضها أخص من بعض أو أعم من بعض هي أيضا معان تلحقها من حيث هي في النفس. وكذلك تعريف بعضها ببعض هي أيضا أحوال وأمور تلحقها وهي في النفس. وكذلك قولنا فيها إنها " معلومة " وإنها " معقولة " هي اشياء تلحقها من حيث هي في النفس. وهذه التي تلحقها بعد أن تحصل في النفس هي أيضا أمور معقولة، لكنها ليست هي معقولة حاصلة في النفس على أنها مثالات محسوسات او تستند إلى محسوسات، أو معقولات أشياء خارج النفس، وهي تسمى المعقولات الثواني.
(8) وهي أيضا لايمتنع - إذا كانت معقولات - أن تعود عليها تلك الأحوال التي لحقت المعقولات الأول، فيلحقها ما يلحق الأول من أن تصير أيضا أنواعا وأجناسا ومعرفة بعضها ببعض وغير ذلك؛ حتى يصير العلم نفسه الذي هو لاحق للشيء إذا حصل في النفس أن يكون معلوما أيضا، والمعلوم أيضا نفسه يكون معلوما؛ ويصير المعقول معقولا أيضا، والمعقول أيضا معقولا والعلم الذي بمعنى العلم أيضا معلوما، وذلك لعلم آخر، وهكذا الى غير النهاية؛ حتى يكون للجنس أيضا جنس، ولذلك أيضا كذلك، إلى غير النهاية. وذلك على مثال ما توجد عليه الألفاظ التي توضع في الوضع الثاني، فإنها أيضا يلحقها ما يلحق الألفاظ التي في الوضع الأول من الإعراب. فيكون " الرفع " مثلا أيضا مرفوعا برفع، و" النصب " يكون أيضا منصوبا بنصب، ثم هكذا إلى غير النهاية.
(9) غير أن التي تمر إلى غير النهاية لما كانت كلها من نوع واحد صار حال الواحد منها هو حال الجميع وصار أي واحد منها أخذ هو بالحال التي يوجد عليها الآخر. فإذا كان ذلك كذلك فلا فرق بين الحال التي توجد للمعقول الأول وبين التي توجد للمعقول الثاني، كما لا فرق بين الرفع الذي يعرب به " زيد " و" الإنسان " الذي هو لفظ في الوضع الأول وبين الرفع الذي يعرب به لفظ الرفع الذي هو في الوضع الثاني، فالحال التي يكون عليها إعراب ما في الوضع الأول من الألفاظ، بتلك الحال يكون إعراب ما في الوضع الثاني منها.كذلك يوجد الأمر في المعقولات، فإنه بالحال التي توجد عليها المعقولات الأول في هذه اللواحق هي بعينها الحال التي توجد عليها المعقولات الثواني، فالذي يعمها من كل لا حق شيء واحد بعينه. فمعرفة ذلك الواحد هي معرفة الجميع، كانت متناهية أو غير متناهية، كما أن معرفة معنى " الإنسان " والذي يلحقه من حيث هو ذلك المعنى هي معرفة جميع الناس وجميع ما هو إنسان، كانوا متناهين أو غير متناهين.
صفحة ٢
(10) فإذن لا حجة تلحق من أن تكون غير متناهية، إذ كانت معرفتنا لواحد منها هي معرفة الجميع، إذ كنا إنما نعرف ما يعم الجميع الذي هو غير متناهي العدد. ولذلك صار سؤال أنطسثانس في حد الإنسان، وحد الحد، وحد حد الحد، الصائر إلى غير النهاية، غلطا، إذ كان ليس هناك نصير بالمعرفة إلى غير النهاية، ولا حاجة بنا إلى أن نعرف ما لا نهاية له، حتى إذا عجزنا عنإحصائه وعن معرفة كل واحد على حياله تكون المعرفة قد بطلت، إذ كان معنى الحد معنى واحدا بعينه كليا في جميع الحدود كانت متناهية أو غير متناهية - كما أن معنى رفع " الرفع " ورفع " زيد " هو بمعنى واحد عن كلي في هذين وفي رفع " رفع الرفع " الصائر إلى غير النهاية. وكذلك السؤال عن جنس الجنس، وجنس جنس الجنس، الصائر إلى غير النهاية. وعلى ذلك المثال علم العلم بأنه علم علم العلم، الصائر إلى غير النهاية. وكذلك السؤال عن الشبيه وهل هو شبيه شبيه آخر أو مغاير له، وهل معنى الغير غير لغير آخر أو شبيه به: فيكون الغير شبيها بما هو غير وكون الشبيه غيرا بما هو شبيه؛ أو يكون الغير غيرا لغير آخر وغير الغير بغير آخر - غيرا لكل واحد من الأمرين، وغيرا بغيرية غير من آخرين، وغير الغير هكذا، إلى غير النهاية. وكذلك شبيه الشبيه بشبيه آخر له شبيه أيضا بشبيهين آخرين، وذلك إلى غير النهاية. فهذه السؤالات كلها من جنس واحد، وإنما هي كلها في المعقولات الثواني. والجواب عنها كلها جواب واحد، وهو على مثال ما لخصناه في تلك الأخر.
الفصل الخامس:
الموضوعات الأولى للصنائع والعلوم
(11) وهذه المعقولات هي الأول بالإضافة إلى هذه الثانية كلها. والألفاظ الأول إنما توضع أولا للدلالة على هذه وعلى المركبات من هذه. وهذه هي الموضوعات الأول لصناعة المنطق والعلم الطبيعي والعلم المدني والتعاليم ولعلم ما بعد الطبيعة.
(12) فإنها من حيث هي مدلول عليها بألفاظ، ومن حيث هي كلية، ومن حيث هي محمولة وموضوعة، ومن حيث هي معرفة بعضها ببعض، ومن حيث هي مسؤول عنها، ومن حيث تؤخذ أجوبة في السؤال عنها، هي منطقية. فيأخذها وينظر في أصناف تركيب بعضها إلى بعض من حيث تلحقها هذه التي ذكرت وفي أحوال المركبات منها بعد أن تركبت. فإن المركبات منها إنما تصير آلات تسدد العقل نحو الصواب في المعقولات وتحرزه عن الخطأ في ما لا يؤمن أن يغلط فيه من المعقولات، إذا كانت المفردات التي منها ركبت مأخوذة بهذه الأحوال.
(13) وأما في سائر العلوم فإنما تؤخذ من حيث هي معقولات الأشياء الخارجة عن الذهن مجردة عن ألفاظها الدالة عليها ومن سائر ما يلحقها في الذهن من العوارض التي ذكرت. إلا أن الإنسان يضطر إلى أن يأخذها بتلك الأحوال ليصير بها إلى أن تحصل معلومة، وإذا حصلت معلومة أخذها حينئذ مجردة عنها. ويضطر إلى أخذها بتلك الأحوال، ويصير ما يطلب علمه منها نتائج بتلك الأحوال، حتى إذا فرغ من تعلمها أزيلت عنها تلك الأحوال، أو يجعل المقصد منها أن تؤخذ لا من جهة ما لها تلك الأحوال وإن كانت لا تنفك منها.
(14) وما تحتوي عليه المقولات بعضها كائن وموجود عن إرادة الإنسان وبعضها كائن لا عن إرادة الإنسان. فما كان منها كائنا عن إرادة الإنسان نظر فيه العلم المدني وما كان منها لا عن إرادة الإنسان نظر فيه العلم الطبيعي.
(15) وأما علم التعاليم فإنه إنما ينظر من هذه في أصناف ما هو كم وفيما كانت ماهيات تلك الأنواع من الكم توجب أن يوجد فيها من سائر المقولات بعد أن يجردها في ذهنه ويخلصها عن سائر الأشياء التي تلحقها وتعرض لها، سواء كانت تلك عن إرادة الإنسان أول عن إرادته. ولا ينظر من المقولات في المشار إليه المحسوس الذي لا يحمل على شيء أصلا ولا بوجه من الوجوه، ولا في ما هو هذا المشار إليه؛ ولا ينظر في أنواع الكم من حيث هي لاحقة وعارضة لهذا المشار إليه؛ ولا لماذا هو هذا المشار إليه؛ بل يأخذ تلك الأنواع في ذهنه مجردة عن هذا المشار إليه وعن ما هو المشار إليه.
صفحة ٣
(16) وأما العلم الطبيعي فإنه ينظر في جميع ما هو شيء شيء من هذا المشار إليه، وفي سائر المقولات التي توجب ماهية أنواع ما هو هذا المشار إليه أن توجد لها. وينظر أيضا فيما ينظر فيه التعاليم من حيث هي بهذه الحال، فإن جلها - بل جميعها - توجب ماهية أنواع ما هو هذا المشار إليه أن توجد لها. فالتعاليم ينظر فيها مخلصة عن جميع أنواع ما هو هذا المشار إليه، والعلم الطبيعي ينظر فيها من حيث هي أنواع ما هو هذا المشار إليه. والتعاليم يقتصر بين أسباب هذه على ماذا هو كل واحد منها، والعلم الطبيعي يعطي جميع أسباب كل ما ينظر فيه، فإنه يلتمس أن يعطي في كل واحد منها ماذا هو وعماذا هو وبماذا هو ولماذا هو. والتعاليم لا يأخذ في ماذا هو كل واحد مما يعطي ماهيته أمور ا خارجة عن المقولات أصلا. وأما العلم الطبيعي فإنه يعطي أيضا في أسبابه أمورا غيرها خارجة عن المقولات. فإنه يعطي في الأمكنة التي سبيله أن يعطي فيها الفاعل فاعلا غيره خارجا عن المقولات الفاعلة، أو يرقى إلى أن يعطي غاية الغاية، وغاية غاية الغاية، حتى يروم المصير إلى حصول الغايات والأغراض التي لها كون ما تشتمل عليه المقولات. فإذا التمس أن يعطي ما هو كل واحد من أجزاء أجزاء الماهية حتى يعطي أقصى ما يمكن أن يوجد في ماهياتها، هجم حينئذ على أسبابه معقولة خارجة عن المقولات وعلى أمور من أجزاء ماهيته هي خارجة عن المقولات، فهجم على أمور هي فاعلة خارجة عن المقولات وعلى أمور يعلم أنها غايات إلا أنها خارجة عن المقولات، إلا أنها أجزاء ماهية الأشياء مما في المقولات، وهي أجزاء بألتئامها وتركيب بعضها إلى بعض يكون ذلك الشيء الذي هو من المقولات. إلا أن تلك الأجزاء لم تكن موصوفة بشيء مفارق لأنها إذا كانت أجزاء ماهية الشيء الذي هو أحد ما في المقولات، كان في جملة ما هو في ذلك الشيء. فإنه إن كان ذلك الشيء هو المشار إليه، وكانت تلك الأشياء أجزاء ماهيته، كان غير خارج عما هو ذلك المشار إليه ولا مفارقا له، فيكون ذلك داخلا في المقولات. إلا أنها على كل حال تكون غير مفارقة للأش ي اء التي في المقولات، إذ كان جملة الشيء غير مفارق لتلك الجملة. وأما الفاعل والغاية فقد يكون خارج الشيء ومفارقا له. فإذا كان كذلك فقد أعطى أقصى ما به ماذا الشيء - أي ما هو غي مفارق للشيء الذي يلتمس إعطاء ماهيته من الأنواع التي في المقولات - وأقصى فاعل يكون مفارقا له، وكذلك أقصى غاية له. فالعلم الطبيعي يهجم إذن عند نظره في المقولات على أشياء خارجة عن المقولات غير مفارقة لها بل هي منها، وعلى أشياء خارجة عنها ومفارقة لها. فعند هذه يتناهى النظر الطبيعي.
(17) وينبغي بعد ذلك أن ينظر في الأشياء الخارجة عن المقولات بصناعة أخرى وهي علم ما بعد الطبيعيات. فإنها تنظر في تلك وتستقصي معرفتها وتنظر في ما تحتوي عليه المقولات من جهة ما تلك الأمور أسبابها - حتى في ما تحتوي عليه التعاليم منها والعلم المدني وما يشتمل عليه المدني من الصنائع العملية. وعند ذلك تتناهى العلوم النظرية.
صفحة ٤
(18) والمقولات هي أيضا موضوعة لصناعة الجدل والسوفسطائية، ولصناعة الخطابة ولصناعة الشعر، ثم للصنائع العملية. والمشار إليه الذي إليه تقاس المقولات كلها هو الموضوع للصنائع العملية. فبعضها يعطيه كمية ما، وبعضها يعطيه كيفية ما، وبعضها أينا ما، وبعضها وضعا ما، وبعضها إضافة ما، وبعضها يعطيه أن يكون في وقت ما، وبعضها يعطيه ما يتغشى سطحه، وبعضها أن يفعل، وبعضها أن ينفعل، وبعضها يعطيه اثنين من هذه، وبعضها ثلاثة من هذه، وبعضها أكثر من ذلك. فإنك إذا تأملت موضوع صناعة صناعة من الصنائع العملية وجدته شيئا ما مشارا إليه تقاس المقولات. إلا أن ما يتصور صاحب الصناعة في نفسه من ذلك هو نوعه، فإذا فعل فعل في مشار إليه يحمل عليه ذلك النوع حمل ما هو. فإن الصناعة التي في نفس إنسان إنسان إنما تلتئم من أنواع موضوعها ومن أنواع الأشياء التي تعطي ذلك الموضوع وتفعل فيه، فإذا فعلت فعلت في مشار إليه من النوع المعقول. وذلك بصناعة الخطابة وصناعة الشعر، وفيما يختصان به، دون السوفسطائية والجدل والفلسفة، فإن كل واحدة منهما إنما تتكلم وتخاطب حين ما تتكلم وتخاطب في المشار إليه من التي إليها تقاس المقولات وتعرف بأشياء مما في المقولات، وأما الخطابة فإنها تلتمس أن تقنع بأن فيه شيئا ما مما في المقولات، وأما الشعر فيلتمس أن يخيل بأن فيه شيئا ما مما في المقولات. وما في نفس الخطيب والشاعر من كل واحدة منهما فإنما يلتئم من نوع نوع من أنواع موضوعاتها، ومن نوع نوع من أنواع ما يلتمس الخطيب أن يقنع به أنه في الموضوع ويلتمس الشاعر أن يخيل به أنه في الموضوع. والخطابة إنما تلتئم من نوع ما فيه تقنع ومن نوع ما إياه تقنع، والشعر ياتئم من نوع ما فيه يخيل ومن نوع ما إياه يخيل. والفلسفة والجدل والسوفسطائية فإنها لا تعدو الأنواع ولا تنحط إلى المشار إليه.
الفصل السادس:
أسماء المقولات
(19) وينبغي لك إن أردت أن تعرف تلك المقولات أن تكون قد عرفت المتفقة أسماؤها؛ والمتواطئة أسماؤها؛ والمتوسطة بين المتفقة أسماؤها وبين المتواطئة أسماؤها - وهي التي تسمى باسم واحد وتنسب إلى أشياء مختلفة بشيء متشابه من غير أن تسمى تلك الأشياء التي تنسب إليها باسم هذه ومن غير أن يسمى ذلك الواحد باسم تلك الأشياء، والتي تسمى باسم واحد وتنسب إلى شيء واحد من غير أن يسمى ذلك الواحد باسم تلك الأشياء، والتي تسمى باسم واحد مشتق من اسم الشيء الذي إليه تنسب، مثل " الطبي " المشتق من اسم الطب، والتي تسمى باسم واحد هو بعينه اسم الشيء الذي إليه تنسب - وكل واحد من هذه إما متساو وإما متفاضل؛ ثم المتباينة أسماؤها؛ والمترادفة أسماؤها؛ والمشتقة أسماؤها.
(20) وينبغي أن تعلم أيضا الأسماء المتفقة أشكال ألفاظها والمتواطئة أشكال ألفاظها وترتاض في هذه أيضا، فإنها من المغلطات العظيمة التغليط. فمن ذلك ما شكله شكل مشتق ومعناه معنى مشتق، كقولنا " الرجل كرم " أي كريم. ومنه ما شكله شكل فعل ومصدر، ومعناه معنى مفعول، كقولنا " خلق الله " أي مخلوقه. ومنه ما شكله شكل ما يفعل ومعناه معنى ما ينفعل.ومنه ما شكله شكل مفعول ومعناه معنى فاعل، مثل " سميع عليم " أي عالم وسامع أو مستمع.
(21) ومما ينبغي أن تعلمه أن لفظا على شكل ما وبنية ما يكون دالا بنفسه على شيء ما بمعنى أو على معنى بحال ما، ثم يجعل ذلك اللفظ بعينه دالا على معنى آخر مجرد عن تلك الحال؛ فتكون بنيته بنية مشتق يدل في شيء ما على ما تدل عليه سائر المشتقات، ويستعمل بتلك البنية بعينها في الدلالة على معنى آخر مجرد عن كل ما تدل عليه سائر المشتقات.
صفحة ٥
(22) وإذا أخذت الأنواع التي تشتمل عليها مقولة مقولة من هذه المقولات ورتبت بأن يجعل الأخص فالأخص منها تحت الأعم فالأعم تنتهي الأنواع التي في كل واحد منها إلى جنس عال، وتكون عنده الأجناس عشرة على عدد المقولات. فأعلى جنس يوجد في الأنواع التي تعرفنا في مشار مشار إليه كم هو يسمى الكمية. وأعلى جنس يعم جميع الأنواع التي تعرفنا في مشار مشار إليه كيف هو يسمى الكيفية. وأعلى جنس يعم جميع الأنواع التي تعرفنا في مشار مشار إليه أين هو يسمى الأين. وكذلك يسمى أعلى جنس يعم جميع الأنواع التي تعرفنا في مشار مشار إليه متى هو أو كان أو يكون يسمى متى. وأعلى جنس يعم جميع الأنواع التي تعرفنا في مشار مشار إليه أنه مضاف يسمى الإضافة. وأعلى جنس يعم جميع الأنواع التي تعرفنا في مشار مشار إليه أنه على وضع ما أو موضوع وضعاما يسمى الوضع. وأعلى ما يعرف في مشار مشار إليه أن له ما يتغشى جسمه يسمى أن يكون له. وأعلى ما يعرف فيه أن يفعل يسمى أن يفعل. وأعلى ما يعرف فيه أن ينفعل يسمى أن ينفعل.
(23) وأسبق هذه كلها علما هو علم المشار إليه الذي حاله الحال التي وصفنا دون الباقية. فإنه هو الذي يدرك أولا بالحس. ثم هو بعينه يوجد موصوفا ببعض هذه التي ذكرت، مثل أنه هو " هذا الإنسان " وأنه هو " هذا الأبيض " وأنه هو " هذا الطويل " . فمتى أخذ كل موصوفا بسائر المقولات الأخر أخذ مدلولا عليه باسم مشتق. وإذا أخذ كل واحد من هذه الصفات من غير أن يقال فيه " هذا " كأن يقال " هذا الإنسان " أو " هذا الأبيض " - بأن يقال " الإنسان " و" الأبيض " ، انطوى فيه المشار إليه بالقوة. فيصير ذلك وما أشبهه هو أول المعقولات، وكل واحد منهاإنما ينطوي فيه مشار واحد بعينه في العدد، فيصير " الإنسان " و" الأبيض " و " الطويل " واحد بعينه، فتميز المقولات بعضها عن بعض هذا التميز.
(24) ثم بآخره يقع من النطق تميز آخر. وذلك أن توجد هذه المعاني الكثيرة من غير أن ينطوي في شيء منها هذا المشار إليه. فينزع الذهن هذه بعضها عن بعض ويفرد كل واحد منها على حياله، فيفرد معنى " البياض " على حدة ومعنى " الطول " على حدة ومعنى " العرض " على حدة، وكذلك الباقية مثل " القيام " و" القعود " وغير ذلك. وهذا شيء يخص العقل وينفرد به دون الحس. وهي أسبق إلى المعرفة من أن تكون منتزعة، ولكل واحد منها تقدم على الآخر بوجه ما. غير أن الألفاظ إن كانت إنما تدل عليها من حيث هي أحرى أن تكون معقولة ومن حيث لها تقدم في العقل فألفاظها الدالة عليها من حيث هي مفردة عن المشار إليه أقدم، ومع ذلك فإنها تدل عليها وهي منحازة بطبائعها وحدها ومن حيث هي أبسط وغير مركبة مع غيرها. وتكون ألفاظها الدالة عليها من حيث هي مع زيادة شيء ومن حيث هي أحرى أن تكون محسوسة، هي المتأخرة المأخوذة من الأول. فإن كانت ألفاظها سبقت عليها قبل أن تنتزع، فسميت بأشكال تدل عليها من حيث هي أصناف المشار إليه، فتلك الأسبق، وهذه متأخرة مأخوذة من تلك.
صفحة ٦
(25) ولكن كيف تمكن الإنسان أن يكون قد وقف حيث ما كانت في المشار إليه أنه معنى من المشار إليه حين علم أنه مركب من شيئين، لولا أنه علم كل واحد من المركبين على حياله ثم ركب. فمن هذا يجب أن تكون التسمية التي تدل على تركيب بتغير شكل متأخرة ومأخوذة عن لفظ ما علم وحده بسيطا بلا تركيب. فلذلك رأى القدماء أن هذه هي المشتقة وأن تلك هي المثالات الأول، لأنهم إنما يرون أن الألفاظ إنما أحدثت بعد أن عقلت الأشياء، وأن الألفاظ إنما تدل أولا على ما عليه الأمور في العقل من حيث هي معقولة ومتى حدث للعقل فيها فعل خاص، وأنه لا ينكر أن تكون الأشياء من قبل أن يحدث فيها للعقل فعل خاص ومن حيث كانت هي أقرب إلى المحسوس قد كان يدل عليها إما بإشارات وإما بحروف وإما بأصوات وزعقات، أو بألفاظ غير متأمل أمرها ولا مدبرة من أنحاء دلالاتها - فحينئذ إما أن لا تكون تلك ألفاظ وإما أن تكون غير كاملة، فإن الكاملة منها هي التي حصلت دالة عليها بعد أن صارت معقولة بفعل للعقل فيها خاص. فاذلك يجب أن تجعل الدالة عليها وهي مفردة مثالات أول، وباقيها مشتقة منها، مثل " الضرب " فإنه مثال أول، و" الضارب " و" يضرب " و" ضرب " و" سيضرب " و" مضروب " وأشباه ذلك مشتقة، وكذلك في غيرها.
(26) والمقولات التسع الباقية يدل على كل واحد منها باسمين، مشتق ومثال أول، وأسماؤه المشتقة كثيرة، مثل " عالم " و" معلوم " و" يعلم " و" علم " وغير ذلك مما له تصاريف. وأما المقولة الدالة على ما هو المشار إليه فإن أجناسها وأنواعها أسماء أكثرها مثالات أول ولا تصاريف لها أصلا، وفي بعضها ما شكل لفظه شكل مشتق وليس معناه مشتقا، مثل " الحي " . وأما فصولها التي تعرف بأجناسها فتلتئم منها حدودها، فإنها كلها يدل عليها بأسماء مشتقة. وكل ما يدل على ما هو المشار إليه فإن المشار إليه منطو فيه بالقوة. وكذلك الأسماء المشتقة الدالة على سائر المقولات فإن المشار إليه منطو فيهابالقوة. وذلك أن المثالات الأول الدالة على سائر المقولات المنتزعة تنطوي فيها أجناسها بالقوة مدلولا عليها بالمثالات الأول. وإذا أخذت مدلولا عليها بألفاظها المشتقة انطوت فيها أنواعها بالقوة مدلول عليها بألفاظها المشتقة وانطوى فيها مع ذلك المشار إليه بالقوة أيضا. إلا أن تلك تنطوي فيها على مثال ما ينطوي المشار إليه تحت كل ما يعرف منه ما هو. وأما أنواع المقولات الأخر فإن المشار إليه الذي هو تحت كل نوع منها لا يمكن أن نشير إليه إلا مع المشار إليه الأول، مثل " هذا البياض " ، فإنا نشير إليه وهو في هذا الثوب أو في هذا الحائط، لأنا نشير إلى الثوب أو إلى الحائط. إلا أن المشار إليه الأول لا يمكن أن نسميه باسم مشتق من اسم هذا البياض، إذ كان لا اسم له، ولكن يدل عليه بأن يقال " هو في موضوع لا على موضوع " . والمشار إليه الأول لا ينفك من مشار إليه هو في موضوع لا على موضوع، وإنما يوصف المشار إليه الذي لا في موضوع بنوع المشار إليه الذي هو في موضوع، إذ كان المدلول عليه باللفظ نوعه وليس هو بنفسه.
الفصل السابع:
أشكال الألفاظ وتصريفها
صفحة ٧
(27) وا لأ لفاظ الدالة على الذي يعرف ما هو كل واحد مما هو مشار إليه وليست في موضوع هي ألفاظ لا تصرف أصلا، أي لا تجعل لها كلم. والدالة على سائر المقولات الأخر متى أخذت من حيث ينطوي فيها المشار إليه بالقوة فلها أشكال، ومتى أخذت دالة عليها من حيث هي مفردة في النفس عن المشار إليه الذي في موضوع فلها أشكال أخر. وكثير من التي يدل عليها من حيث هي مفردة عن المشار إليه تجعل لها كلم . فإذا جعلت لها كلم وحصلت هذه المراتب الأربع من المعارف - أعني علم المشار إليه أولا، ثم أنه هذا الإنسان وهذا الأبيض، ثم الإنسان والأبيض، ثم الإنسان والبياض - ابتدأت التسمية حينئذ، إذ كانت النفس تتشوق إلى الدلالة على ما لا تفي الإشارة بالدلالة عليه. فإن الذي يشار إليه هو هذا الأبيض لا البياض ولا الأبيض على الإطلاق، وهذا الطويل لا الطول ولا الطويل على الإطلاق - ولكن الطويل والأبيض هو أقرب إلى المشار إليه من الطول والبياض.
( 28 ) فإذا انتزعت القوة الناطقة هذه الأشياء بعضها عن بعض، عادت فركبت بعضها إلى بعض ضروبا من التركيب تتحرى بها محاكاة ما هو خارج النفس من التركيب، فيصير لها بعضا إلى بعض تركيب القضايا فتحدث الموجبات والسوالب، وبعضها تركيب تقييد واشتراط، وبعضها تركيب اقتضاء مثل الأمر والنهي، وغير ذلك من أصناف التركيبات.
(29) فتحدث حينئذ ألفاظ وتقدر، ويقع تأمل لها وإصلاح، وان يتم المحاكاة بها للمعقولات، وتحدث به أصناف الألفاظ، ويدل بصنف صنف منها على صنف صنف من المعقولات، فتحصل الألفاظ الدالة أولا على ما في النفس. وما في النفس مثالات ومحاكاة للتي خارج النفس. وإنما قلنا " أولا " أن انفراد المعاني المعقولة بعضها عن بعض ليس يوجد خارج النفس وإنما يوجد في النفس خاصة. والألفاظ ينفرد بعضها عن بعض مدلولا بها على المعاني التي ينفرد في النفس بعضها عن بعض.
(30) والألفاظ هي أشبه بالمعقولات التي في النفس من أن تشبه التي خارج النفس. ولذلك أنكر خلق أن يكون كثير من التي تدل عليها الألفاظ موجودة أو صادقة، مثل " البياض " و" السواد " و" الطول " ، بل يزعمون أن الموجود هو " الأبيض " لا " البياض " و" الطويل " لا " الطول " . بل أنكر كثير منهم أيضا أن يكون " الأبيض " و" الإنسان " موجودا، بل الموجود - زعموا - هو " هذا الإنسان " و" هذا الأبيض " و" هذا الطويل " . بل أنكر أيضا كثير من الناس أن يكون ما يدل عليه المشار إليه ليس بكثير، فأبطلوا وجود المعقولات. غير أن هذه مخالفة المحسوس ومخالفة المعارف الأول وخروج عن الإنسانية. لأن في طباع الإنسان أن ينطق بألفاظ وفي طباعه أن يدل ويعلم، وأن تحصل الأشياء في ذهنه معقولة بالحال التي وصفت. وليس يمكن أن يكشف ما غلط فيه هؤلاء إلا أن توضع الناطقة والتعليم والتفهيم فيما بيننا وبينهم، وإلا لم يكن بيننا وبين النبات والحجارة فرق. فأما إذا وضعنا حيوانا وإنسانا، لم يكن بد من التعليم والتفهيم، بل تجعل ذلك بما شئت من الأمور بعد أن تكون مفهمة أو دالة من بعض لبعض. وإذا كان كذلك عادت المعقولات على ما رتبت.
(31) وظاهر أن التسمية إذا حصلت بالألفاظ وأصلحت على مر الدهور إلى آن أن تحصل الصناعة، وجد فيها ما هو مشتق وما هو غير مشتق، ووجد فيها ما يدل على معان منتزعة عن المشار إليه وعلى ما يدل على هذه المعاني بأعيانها من حيث المشار إليه موصوف بها - وهذا بعضه يدل على ما هو المشار إليه وبعضه يدل على غيره من المعقولات. والمعاني المنتزعة هي متأخرة بالزمان عنها من حيث يوصف بها المشار إليه ومن حيث ينطوي فيها بالقوة المشار إليه. وأما الألفاظ الدالة عليها، فإنه ينبغي أن تكون هناك ألفاظ مشكلة بأشكال تدل عليها من حيث هي منتزعة مفردة عن المشار إليه، وألفاظ أخر تدل عليها من حيث المشار إليه منطو فيها بالقوة.
صفحة ٨
(32) وقوم زعموا أن الألفاظ التي تدل عليها من حيث ينطوي فيها بالقوة المشار إليه ومن حيث المشار إليه موصوف بهابالقوة هي مشتقة من ألفاظها الدالة عليها من حيث هي منتزعة عن المشار إليه، وأن ألفاظها تلك هي المثالات الأول. وآخرون رأو اعكس ذلك. ولكل واحد من الفريقين موضع مقال. فإنها من حيث هي صفات المشار إليه والمشار إليه موصوف بها أحرى بأن تكون موجودة خارج النفس منها كلم - وهذه تسمى عند نحويي العرب " مصادر " وهي تصرف في الأزمان الثلاثة. وما كان من هذه تدل عليها من حيث ينطوي فيها المشار إليه الذي لا في موضوع فإنها كلها مشتقة. وقد توجد سائر المقولات منها ما ينطوي فيه المشار إليه الذي لا في موضوع وليس بمشتق من مصدر. فإذا أردنا أن نجعل له شكلا يقوم مقام المصدر، كان حينئذ المشكل بذلك الشكل أحرى أن يكون مأخوذا من اللفظ الذي ليس بمشتق من المصدر. وهذا بعينه نفعله في أسماء الأشياء التي تعرف في المشار إليه - من التي لا في الموضوع - ما هو، مثل " الإنسان " ، فإنا نقول " إنه إنسان ظاهر الإنسانية " و" رجل بين الرجولية " ، فيكون ذلك شبيها بقولنا " هو أبيض بين البياض " و" هو عالم تام العلم " ، فتكون " الإنسانية " مصدرا و" الرجولية " مصدرا أو قائما مقام المصدر. غير أنه بين أن مصدر المقولات الأخر إنما يدل عليها مفردة منتزعة من موضوعاتها التي تعرف منها ما هو خارج عن ذاتها.فإذا انتزعت عن تلك الموضوعات سائر المقولات في الذهن، بقيت الموضوعات موجودة معقولة، وكانت المفردة عنها معقولة مجردة بطبائعها وحدها غير مقترنة بغيرها.
(33) وينبغي أن ننظر في " الإنسانية " و" الرجولية " و" البنائية " وأشباه ذلك مما يجري مجرى المصادر، هل تدل على أشياء مفردة انتزعت عن موضوعات فأفردت عنها. فإن كانت كذلك، فما موضوع " الإنسانية " . فإن كان ذلك هو " الإنسان " فإن " الإنسان " إنما يدل على معنى انطوى فيه بالقوة موضوع. فمعنى " الإنسان " مركب من ذلك الموضوع ومن معنى ما من الموضوع لا يدل على ذاته، ويكون مجموعهما هو جملة معنى " الإنسان " - " حال البياض " من " الأبيض " - ، وتلك تكون حال كل ما يعرف من المشار إليه - الذي لا في الموضوع - ماهو. فيكون كل واحد منها مركبا من شيئين، أحدهما مثل " البياض " الآخر مثل الذي فيه " البياض " ، ومجموعهما " الأبيض " ، وهو مثل " الإنسان " . وكما أن " الأبيض " إنما ينطوي فيه موضوعه بالقوة، فياهل ترى " الإنسان " ينطوي فيه موضوعه بالقوة أيضا.
صفحة ٩
(34) وظاهر أن الموضوع غير المشار إليه الذي ينطوي في " الإنسان " بالقوة. لأن " الإنسان " هو معقول للمشار إليه ويعرف من المشار إليه ماهو، وأما هذا الموضوع فإن " الإنسان " يدل منه لا على ماهو. ونسبة هذا الموضوع من " الإنسان " كنسبة المشار إليه الذي لا في موضوع من " الأبيض " . ونسبة المشار إليه من " الإنسان " كنسبة المشار إليه الذي تحت " الأبيض " - وهو شخص " الأبيض " - مما هو أبيض، وهو الذي يعرف " الأبيض " منه ما هو بالفعل، إذ نقول إن " الإنسان " ينطوي فيه ذلك الموضوع بالفعل. ف " الإنسان " إذن مركب من شيئين بها قوامه. فبين أن الذي به قوام " الإنسان " والذي يدل عليه حده هو جنسه وفصله، أو شيئان أحدهما كالمادة والآخر كالصورة والخلقة؛ مثل " الأبيض " الذي " البياض " له مثل الصورة والفصل، والموضوع المشار إليه أو بعض أنواعه أو أجناسه كالمادة أو الجنس. غير أن " الأبيض " دلالته على " الأبيض " بالفعل ودلالته على الموضوع بالقوة، فهل " الإنسان " يدل على الذي هو له كالصورة أو كالفصل بالفعل ويدل على الذي هو كالمادة أو كالجنس بالقوة، أو دلالته عليهما بالفعل. فإن كان ذلك، ف " الإنسانية " التي منزلتها من " الإنسان " منزلة " البياض " من " الأبيض " ، ما هي منهما، هي المادة أو الصورة، أو هل هي الجنس أو الفصل. فإن كان " البياض " كالصورة أو الفصل، ف " الإنسانية " هي ماهيته التي هي الصورة أو الفصل مجردا دون المادة أو الجنس. فإذن " الإنسانية " هي إما مثل " الناطق " وحده وإما مثل " النطق " . فإذا كانت " الإنسانية " هي " النطق " مجردا عن " الناطق " ، و" الإنسان " هو " الناطق " ، ف " الناطق " ينطوي فيه " الحيوان بالقوة لا بالفعل. ف " الناطق " إذن لا يدل على ما هو " الإنسان " أكثر من أنه " حيوان " . فإذن أمثال هذه المصادر فيما تعرف ما هو المشار إليه إنما تصح دلالتها في كل ما كان منها مركبا إذا أفرد ما هو منه، مثل الصورة أو الفصل الذي لا يدل عليه باسم مشتق. وما لم يكن منقسما، وكان إما كالصورة لا في مادة أو مادة بلا صورة، فليس يمكن أن يجعل له مصدر. فإن جعل له مصدر كان ما يدل عليه المصدر والمشتق منه معنى واحدا لا غير. فقد تبين أيضا أن فصول ما يدل على ما هو هذا المشار إليه هي أيضا تعرف ما هو هذا الشيء.
(35) وعلى أن في سائر الألسنة سوى العربية مصادر ما تتصرف من الألفاظ وتجعل منها كلم على ضربين، ضرب مثل " العلم " في العربية وضرب مثل " الإنسانية " ، وبالجملة مثل مصادر ما لا يتصرف من الأشياء. فإن أهل " الإنسانية " ، وكذلك سائر الأسماء - مما تتصرف ومما لا تتصرف - يجعلون لها مصدر ا على هذه الجهة - أعني أنهم يقولون من المثلث " مثلثية " ومن المدور " مدورية " ومن الأبيض " أبيضية " ومن الأسود " أسودية " . على أنهم يقولون أيضا " التثليث " و" التدوير " و" البياض " و" السواد " .
صفحة ١٠
ف " الأبيضية " و" الأسودية " و" الظنية " و" العالمية " و" المثلثية " و" المدورية " هي أشبه ب " الإنسانية " و" الرجولية " من شبهها ب " العلم " و" السواد " و" البياض " . فإن " العلم " و" السواد " و" البياض " إنما تدل على معاني هذه مجردة مفردة عن كل موضوع وكل ما يقرن به في موضوعه. وأما " الأبيضية " و" الأسودية " فكأنها تدل على هذه المعاني من حيث هي في موضوعاتها ومن حيث هي غير مفارقة موضوعها. فلذلك قد تكون بهذا الشكل بعينه في تلك الألسنة الألفاظ المركبة، مثل " العبقسة " و" العبشمة " و" العبدرية " . وكذلك تدل هذه الأشكال على هذه المعاني من حيث هي متمكنة في موضوعها. فإن هذا هو الفرق بين " العالم " و" العالمية " في تلك الألسنة، فإن " العلم " قد يكون لما هو غير متمكن ولا يصير بعد صناعة ولا هو عسير الزوال، وأما " العالمية " فإنها تدل عليها من حيث هي متمكنة في موضوعاتها غير مفارقة. وأما مثل هذه المصادر فيشبه أن تكون مشتقة ومأخوذة من الأسماء. وهذه لا تتصرف بأنفسها في تلك الألسنة، ولكن إذا أرادوا أن يصرفوها جعلوا منها لفظة الفعل، فنقول " فعل العالمية " و" يستعمل العالمية " . فلذلك ينبغي أن نفهم من " الإنسانية " أنها تدل على شيء غير مفارق لموضوع ما.
(36) غير أن هذه المصادر تفارق الأسماء التي لم تشكل بهذه الأشكال في أن الأسماء ينطوي فيها معنى الوجود الذي هو الرابط الذي به يصير المحمول محمولا على موضوع. فلذلك نقول " زيد إنسان " ولا نقول " هو إنسانية " ، و" زيد عالم " ولا نقول " هو عالمية " . وأشكال الألفاظ الدالة على الوجود الذي هو الرابط تختلف فيما تعرف وفيما تعرف منه أشياء أخر، مثل كم وكيف وغير ذلك. فيكون الذي يعرف ما هو شكل ما والذي يعرف أنحاء أخر من التعريف شكلا آخر، فالشكل الذي لذلك لا يستعمل في هذا والذي لهذا لا يستعمل في ذلك. ولكن لما كانت الألفاظ إنما هي بالشريعة والوضع أمكن أن يخل بهذا القانون. فإنه ربما اتفق أن يكون اشتراك في الأشكال. فيكون شكل ما دالا في الأ كثر على الوجود الرابط في تعريف أنحاء أخر من التعريف لا من طريق ما هو يحيل أحيانا فيدل على ما هو، مثل " الحي " الذي يستعمل مكان " الحيوان " الذي هو جنس الإنسان. فإن اسم " الحي " وشكله مشتق وليس يعبر به معنى المشتق. ويكون شكل ما دالا في الأ كثر على الوجود الرابط فيما يعرف ما هو يحيل أحيانا فيدل على نحو آخر من التعريف. وقد تكون أحيانا ألفاظ أشكالها مصادر ومعانيها معاني المشتق، مثل " رجل كرم " . وقد يلحق في اليونانية شيء طريف، وهو أنه قد يكون اسم ما دالا على مقولة ونوع ما مجرد عن موضوعه، ولا يسمى الموضوع به من حيث يوجد له ذلك النوع باسم مشتق من اسم ذلك النوع، بل مشتق من اسم نوع آخر، مثل " الفضيلة " في اليوناني، فإن المكيف بها لا يقال فيه " فاضل " كما يقال في العربية، بل يقال " مجتهد " أو " حريص " .
الفصل الثامن:
النسبة
صفحة ١١
(37) النسبة يستعملها المهندسون من أصحاب التعاليم دالة في الأعظام على معنى هو نوع من الإضافة التي هي مقولة ما. فإنهم يحدون النيبة في الأعظام أنها " إضافة في القدر بين عظمين من جنس واحد " . ويعنون بقولهم " من جنس واحد " أن تكون إضافة بين سطحين أو خطين أو حجمين، لا أن تكون بين سطح وخط، وحجم وسطح، وحجم وخط. ويعنون بقولهم " في المقدار " المساواة والزيادة والنقص. فإن الإضافة في القدر على الإطلاق ليست هي غير هذه النسبة، وذلك أن تكون متساوية أوبعضها زائدا على بعض أو بعضها ناقصا عن بعض. ثم أصناف النسب عندهم على عدد أصناف المساواة أوالنقصانات أو الزيادات. والمساواة التي لها متشابهة وإن كانت في أجناس مختلفة، مثل أنه ساوى خط خطا كان الشبيه به في النسبة حجم يساوي حجما آخر أو سطح يساوي سطحا آخر. وإن كان خط زائدا على خط وهذا زائد على آخر، كانت نسبته بتلك الزيادة على حسب ما تحده صناعة، وهو أن تكون الزيادتان متساويتين معا على ما يحده المهندسون - يقولون في الأقدار المتناسية نسبة واحدة " إنها هي التي إذا أخذت للأول والثالث أضعاف متساوية، وللثاني والرابع أضعاف متساوية، كانت أضعاف الأول والثالث زائدتين معا على أضعاف الثاني والرابع أو ناقصتين عنهما معا أو متساويتين لهما معا " ، وسائر ما نجدهم يقولونه، فإنها كلها أنواع من الإضافة.
(38) وأصحاب العدد يجعلونها أيضا نوعا من الإضافة. فإنهم يقولون " إن النسبة في العدد هو أن يكون العدد جزءا أو أجزاء من عدد آخر " . وهذا نوع من أنواع الإضافة أخص من الذي يأخذه المهندسون. فإن النسبة التي يحدها المهندسون هو جنس يعم النسبة التي يحدها صاحب العدد. وذلك أن النسبة التي يحدها صاحب العدد منطقية، والنسبة التي يحدها المهندسون منها منطقية ومنها غير منطقية.
(39) والمنطقيون يجعلون النسبة أعم من الإضافة التي هي مقولة ما، فإنهم يجعلون الإضافة نسبة ما. وبالجملة كل شيئين ارتبطا بتوسط حرف من الحروف التي يسمونها حروف النسبة - مثل " من " و" عن " و" على " و" في " وسائر الحروف التي تشاكلها - يسمونها " المنسوبة بعضها إلى بعض " (ويسمون هذه حروف النسبة )، وكذلك المرتبطات بوصلة أخرى سوى الحروف - أي وصلة كانت. ويحصون في النسبة عدة مقولات، منها الإضافة ومقولة أين ومقولة متى ومقولة أن يكون له. وقوم يجعلون النسبة جنسا يعم هذه الأربعة. غير أنه ليس ينبغي أن تجعل جنسا ومقولة على أشياء كثيرة بتواطؤ، إذ كانت اللفظةتقال عليها بتقديم وتأخير. فإن متى متأخرة عن أين، فإن نسبة وجود الزمان هو أن ينفعل الجسم في أين ما فيحدث حينئذ الزمان الذي ينطبق على الشيء وينسب إليه لأجل انطباقه على وجوده، فهذه النسبة شبيهة بتلك النسبة - أعني نسبة الشيء إلى مكانه. وأن يكون له هو نسبة ما، غير أنها ليس تكون دون أن يكون أين ما؛ فإذا كان كذلك، كانت هذه النسبة متأخرة عن الوضع، والوضع متأخر عن الأين. فالنسبة يقال عليها بتقديم وتأخير. فالنسبة إنما تقال في أن يكون له لأجل وضع ذلك الشيء من شيء آخر في أين ما. فلذلك ليس ينبغي أن يقال إن لفظة النسبة يقال عليها بتواطؤ، بل باشتراك، أو بجهة متوسطة بين الاشتراك والتواطؤ، أو بتواطؤ ما . فالنسبة تقال باشتراك أو بجهة متوسطة على مقولة الإضافة وعلى مقولة أين وعلى مقولة متى وعلى مقولة أن يكون له. ثم يكون اسم النسبة مقولا على أنواع الإضافة التي يستعملها المهندسون. فيكون الاسم الأعم عند المنطقيين يستعمل على الخصوص عند المهندسين. فيكون الاسم الذي يقال على الجنس الذي هو بالإضافة يقال أيضا على بعض أنواعه، ويكون ذلك من جملة الأسماء التي تقال على العموم أحيانا وعلى الخصوص أحيانا. فإذا سئلنا عن حد النسبة أجبنا " الإضافة " ، ثم نرسم " أين " ، ثم نرسم " متى " ، ونرسم " أن يكون له " . فإذا سئلنا عن حد ما يعم هذه أجبنا بأنها ليس لها حد يعم هذه الأربعة.
صفحة ١٢
(40) على أن اسم الإضافة واسم النسبة يستعملها النحويون في
الدلالة على ما هو أخص من هذه كلها. وذلك أن المنسوب إلى بلد أو جنس أو عشيرة أو قبيلة يدل عليه عند أهل كل طائفة بألفاظ مشكلة بأشكال متشابهة ينتهي آخرها إما إلى حرف واحد - مثل ما في العربية والفارسية - أو إلى حروف بأعيانها، مثل ما في اليونانية. وكل اسم كان مشكلا بذلك الشكل فإنه دال عندهم على النسبة، وما عدا ذلك من الألفاظ التي ليست مشكلة بذلك الشكل فليست دالة على نسبة. فهم يخصون هذه خاصة باسم النسبة والمنسوب، وما عدا هذه لا يسمونها منسوبة ولا نسبة. وكذلك لأهل كل لغة أشكال في الألفاظ أو حروف يقرنوها بألفاظهم، فمتى كانت ألفاظهم مشكلة بتلك الأشكال أو كانت مقرونة بتلك الحروف قيل في معاني تلك الألفاظ من حيث هي مدلول عليها بتلك الألفاظ مشكلة بتلك الأشكال أو مقرونة بتلك الحروف إنها " مضافة " . والإضافة عندهم هي أن يدل على المعاني بألفاظها مشكلة بتلك الأشكال أو مقرونة بتلك الحروف، وما عدا ذلك يسمونها " مضافة " لا " إضافة " . وإذا تأملت معنى معنى من التي يدلون عليها بتلك الألفاظ وجدت بعضها تحت مقولة الإضافة وبعضها في سائر المقولات أنسب.
فهذه معاني النسب، ولا معنى لها غير هذه الإضافة.
الفصل التاسع:
الإضافة
(41) والمضافان ينسب كل واحد منهما إلى الآخر بمعنى واحد مشترك لهما يوجد معا لكل واحد منهما، مثل أن يكون المضافان آ وب، فإن ذلك المعنى المشترك إذا أخذ بحروف " آ إلى ب " نسب به حرف آ إلى ب، وإذا أخذ بحروف " ب إلى آ " نسب به حرف ب إلى آ، وذلك المعنى المشترك هو الذي هو إضافة، وبه يقال كل واحد منهما بالقياس إلى الآخر. وذلك المعنى الواحد هو الطريق الذي بين السطح وأرض الدار الذي إذا أخذ مبدؤه من السطح وانتهاؤه عند الأرض يسمى هبوطا، وإذا جعل مبدؤه من الأرض ومنتهاه السطح يسمى صعودا، وليس يختلف إن أخذ ما له في طرفيه فقط. وكذلك الإضافة، فإن المضافين هما طرفاها، فتؤخذ مرة من آ إلى ب ومرة من ب إلى آ.
صفحة ١٣
(42) وأنواع الإضافة منها ما لا اسم له أصلا، فيبقى المضافان لا اسم لهما من حيث يوجد لهما ذلك النوع من أنواع الإضافة، فيؤخذ اسماها اللذان يدلان على ذاتيهما لا من حيث هما مضافان، فيستعملان عند الإضافة، فلا يتبين معنى الإضافة فيهما. ومنهاما يوجد له اسم إذا أخذ لأحدهما، ولا يكون له اسم إذا أخذ للآخر، فيستعمل اسم ذلك الآخر الدال على ذاته عند الإضافة واسم الأول الدال عليه من حيث له ذلك النوع من أنواع الإضافة. ومنها ما يوجد له اسمان يدل كل واحد منهما على واحد من المضافين من حيث له ذلك النوع من أنواع الإضافة، فيؤخذ لهما عند إضافة كل واحد منهما إلى الآخر اسمه الدال عليه من حيث له ذلك النوع من أنواع الإضافة. فمن هذه ما اسماها متباينان - مثل " الأب " و" الابن " - ومنه ما اسماها مشتقان من شيء ما - مثل " المالك " و" المملوك " - ومنه ما اسم أحدهما مشتق من اسم آخر - مثل " العلم " والمعلوم " - ومنه ما اسماهما جميعا شيء واحد - مثل " الصديق " و" الصديق " و" الشريك " و" الشريك " . وكثير من التي لها اسمانقد يسامح المتكلم فيأخذ أحدهما أو كل واحد منهما بالقياس إلى الآخر ومنسوباإلى الآخر مدلولا عليهما باسميهما الدالين على مجرد ذاتيهما، من غير أن يؤخذ اسميهما الدالين عليهما من حيث لهما نوع الإضافة التي بها صار كل واحد منهما منسوبا إلى الآخر - كقولنا " ثور زيد " ، فإنه لا الثور ولا زيد يدل على نوع الإضافة التي لأجلها نسب الثور إلى زيد. بل إن قلنا " إن الثور المملوك زيد مالكه " كان " المملوك " و" المالك " هما اسماهما من حيث يوجد لهما ذلك النوع من الإضافة. و" زيد " هو اسمه الدال على ذات المضاف إليه، فلا يدل عليه من حيث له هذا النوع من الإضافة. ولو قلنا " فلان عبد لزيد مولاه " لكنا عبرنا عنهما باسميهما الدالين عليهما من حيث لهما هذا النوع من الإضافة. ومن المضاف ما يوجد للمتضايفين اللذين لهما جنسه اسم لكل واحد منهما من حيث يوجد لهما جنس الإضافة الذي لهما، ولا يوجد لهما اسم من حيث لهما نوع لذلك الجنس من الإضافة. مثل " العلم " و" المعلوم " ، فإن العلم علم للمعلوم والمعلوم معلوم للعلم، وأنواع العلم ليس يوجد لها اسم من حيث لها أنواع الإضافة التي العلم هو جنسها إلى أنواع المعلوم الذي هو جنسها، مثل " النحو " و" الخطابة " . فلذلك يمكن أن يقال " النحو نحو لشيء هو معلوم بالنحو " ، بل إذا أردنا أن نضيف النحو إلى شيء ما مما له إليه إضافة من المعلومات بالنحو أخذناه موصوفا بجنسه فقلنا " النحو علم للشيء الذي هو معلوم بالنحو " .
(43) فشريطة المضافين أن يكون كل واحد منهما أخذ مدلولا عليه باسمه الدال عليه من حيث له ذلك النوع من الإضافة.فلذلك قال أرسطوطاليس " إن المضافين هما اللذان الوجود لهما أنهما مضافان بنوع من أنواع الإضافة " . فلذلك إذا وجدنا شيئا منسوبا إلى شيء بحرف من حروف النسبة، أو كان شكلهما أو شكا أحدهما شكل مضاف في ذلك السان، فليس ينبغي أن يقال إنهما مضافان حتى يكون اسماهما دالين عليهما من حيث لهما ذلك النوع من الإضافة. فحينئذ ينبغي أن يقال إنهما مضافان.
صفحة ١٤
(44) وأما الجمهور والخطباء والشعراء فيتسامحون في العبارة ويجوزون فيها. فلذلك يجعلون لكل اثنين قيل أحدهما بالقياس إلى الآخر مضافين، كانا موجودين باسميهما الدالين عليهما من حيث لهما ذلك النوع من الإضافة، أو كانا موجودين باسميهما الدالين على ذاتيهما، أو كان أحدهما مأخوذا باسمه الدال عليه من حيث له الإضافة التي لهما والآخر مأخوذاباسمه الدال على ذاته. وبهذا يرسم المضاف أولا، إذ كان المضاف في بادئ الرأي هذا رسمه. فلذلك رسمه أرسطوطاليس في افتتاحه باب المضاف في كتاب " المقولات " بأن قال " يقال في الأشياء إنها من المضاف متى كانت ماهياتها تقال بالقياس إلى الآخر بنحو من أنحاء النسبة - أي نحو كان " ، أراد بقوله " ماهيتها " ما تدل عليه ألفاظها كيف كانت على العموم، كانت تدل عليها من حيث هي أنواع الإضافة التي لها، أو كان المدلول عليها بألفاظها ذواتها. فلذلك لما أمعن أرسطوطاليس في تلخيص معاني المضاف لزم عنها ما يبين بأن الرسم الأول ليس فيه كفاية في تحديد المضاف. فحينئذ خص المضاف بالرسم الآخر، فتم له معنى المضاف معنى واحدالحقه حد المضافات ولم يخل أصلا.
(45) فهذه هي المضافات وهذه هي الإضافة وهذه هي الأسماء التي ينبغي أن يحتفظ بها في المضاف والإضافة. وجميع ما تسمع نحويي العرب يقولون فيها إنها مضافة فإنها داخلة تحت المضاف الذي ذكرناه على الجهات التي عند الخطباء والشعراء وعلى الرسم الأول الذي رسم به أرسطوطاليس المضاف في كتابه في " المقولات " . غير أنها مضافات فرط المضيف أو تجوز أن يجعل إضافات بعضها إلى بعض إضافة معادلة، وليست هي على الرسم الأخير الذي رسم به أرسطوطاليس المضاف في ذلك الكتاب. وأنت فينبغي أن لا تسمي المضاف إلا ما كان داخلا تحت الرسم الأخير، وهي ما كانت إضافة أحدهما إلى الآخر إضافة معادلة.
الفصل العاشر:
الإضافة والنسبة
(46) وأما ما سبيله أن يجاب به في جواب " أين الشيء " فإنه إنما يجاب فيه أولا بالمكان مقرونا بحرف من حروف النسبة، وفي أكثر ذلك حرف في، مثل قولنا " أين زيد " فيقال " في البيت " أو " في السوق " . فإن الأسبق في فكر الإنسان من معاني هذه الحروف هو نسبة الشيء إلى المكان أو إلى مكانه الذي له خاصة أو لنوعه أو لجنسه. ويشبه أن تكون هذه الحروف إنما تنقل إلى سائر الأشياء متى تخيل فيها نسبة إلى المكان. والمكان لما كان محيطا ومطيفا بالشيء، والشيء المنسوب إلى المكان محاط بالمكان - فالمحيط محيط بالمحاط والمحاط محاط به بالمحيط - فالمكان بهذا المعنى من المضاف. وأيضا فإن أرسطوطاليس لما حد المكان في " السماع الطبيعي " قال فيه " إنه النهاية المحيط " . فقد جعل المحيط جزءا من حد المكان، وجعل ماهيته تكمل بأنه محيط، وإنيته ما به محيط، والمحيط محيط بالمحاط والمحاط به هو الذي في المكان. فإن كان معنى قولنا " في " أنه محاط، فقولنا " في " ههنا إنما يدل على مضاف. فيكون ما يجاب به في جواب " أين " من المضاف، فأين إذن من المضاف.
(47) غير أنه إن كان معنى قولنا " زيد في البيت " ليس نعني به أنه محاط بالبيت - وإن كان يلزم ضرورة أن يكون محاطا بحسب حد المكان - ، وكان قولنا " في البيت " ليس نعني به هذه النسبة بل نسبة أخرى لا تدخل في المضاف، كانت مقولة أين ليست من المضاف. ويعرض لها أن تكون من المضاف لا من جهة ما هي مقولة أين ومن حيث يجاب بها في جواب سؤال " أين " .ويكون معنى حرف في ههنا نسبة أخرى غير نسبة الإضافة. فإن كان يلحقها مع ذلك نسبة الإضافة، فتكون لها نسبتان إلى المكان، وتكون إحداهما هي التي يليق أن يجاب بها في جواب " أين " ، والأخرى تصير بها من المضاف.
صفحة ١٥
(48) غير أنه قد يقول قائل في مثل قولنا " ثور زيد " و" غلام زيد " ما الذي يمنع أن تكون لها نسبتان، يوجد في إحدى النسبتين اسم كل واحد منهما الدال على ذاته، ولا يكون ذلك من المضاف، ويكون من المضاف إذا أخذ رسم كل واحد منهما الدال عليه من حيث له نوع ما من أنواع الإضافة. فإن كان ليس كذلك، بل كان هذا وأمثاله مضافا سومح في العبارة عنه. فكيف لم يكن قولنا " زيد في البيت " مضافا سومح في العبارة عنه، ولو وفى عبارته لقيل " زيد المحاط به في البيت المحيط به " ، ولبان حينئذ أنه من المضاف. وإذا كان قولنا " هذا الثور لزيد " و" هذا الكلام لزيد " لم تجعل له نسبتان نسبة ليست بإضافة ونسبة مدلول عليها بقولنا " هذا الثور المملوك مملوك لزيد المالك له " ، فيكون المنسوب بتلك النسبة الأولى التي ليست بإضافة تلحقه الإضافة من جهة أخرى، بل يجعل أيضا قولنا " هذا الثور لزيد " من أول الأمر مضافا سومح في العبارة عنه اتكالا على ما في ضمير السامع، وأنه ليس يفهم منه إلا أنه ملك لزيد؛ فكيف لم يجعل أيضا قولنا " زيد في البيت " من أول الأمر مضافا سومح في العبارة عنه اتكالا على ما في ضمير السامع، وأنه ليس يفهم منه إلا أنه محاط بالبيت، فيكون معنى حرف في منذ أول الأمر معنى الإحاطة.
(49) فنقول أن هذا صحيح - أعني أن يكون زيد محاطا بالبيت والبيت محيطابزيد، وأنهما يكونان مضافين متى أخذ اهكذا. غير أن ما تقال عليه النسبة ضربان، ضرب هو معنى واحد مشترك بين اثنين هما طرفاه يؤخذ كل واحد منهما مبدءا والآخر منتهى. وأحيانا يجعل هذا مبدءا أو ذاك منتهى، فيقال هذا بين اثنين، بل هو من أحدهما إلى الآخر فقط. فيكون أحدهما هو المبدأ دون الآخر، وذلك المنتهى دون الأول، وليس يمكن أن يؤخذ الآخر مبدءا بذلك المعنى بعينه، بل إنما يقال الأول بالقياس إلى الثاني فقط. وهذا هو الذي يسمى على الخصوص النسبة، وذاك يخص باسم الإضافة. فهذا الضرب إنما يوصف به أحدهما فقط، ويوجد له وحده على أنه محمول عليه دون الآخر، وإن كان ذلك الآخر يحدث معه ويكون جزءا مما يكمل به المحمول. فإن قولنا " زيد هو أبو عمرو " ف " أبو " يحدث معه " عمرو " على أنه جزء محمول، وقولنا " عمرو ابن زيد " ف " ابن " يحدث معه زيد على أن جزء محمول، فيكون كل واحد منهما موضوعا حينا وجزء محمول حينا إذا أخذا مضافين. وقولنا " زيدفي البيت " فإن " البيت " جزء محمول، ولا يمكننا أن نجعل " زيدا " جزء المحمول على البيت بالمعنى الذي قلنا في زيد إنه " في البيت " ، بل إذا قلنا " البيت ملك زيد " كان " زيد " حينئذ جزء المحمول بمعنى غير الأول. وهذا هو الذي يعم الأين ومتى وأن يكون له.
(50) وهذان الصنفان هما صنفا النسبة على أنها اسم مشترك، ولم يشترط فيه ما يخص كل واحد منهما، بل أخذ على الإطلاق، وهو النسبة التي تعمكل واحد منهما وتعم الأين ومتى وله. وإنما يختلف باختلاف الأجناس التي إليها تقع النسبة. وليس بعضه تحت بعض، فإنه لا المكان تحت الزمان ولا الزمان تحت المكان ولا اللباس تحت واحد منهما. فإن اللباس جسم موضوع حول جسم تكون النسبة إليه، والمكان ليس بجسم بل هو بسيط جسم ونهايته، والزمان أبعد من اللباس. وليس ينبغي أن يشككنا ما نجد من أن كل واحد من هذه الأشياء المنسوبة قد يمكننا أن نجعله من باب المضاف بأن تلحقه الإضافة، فإن الإضافة تلحق كل ما سواه من المقولات.
الفصل الحادي عشر:
النسبة وعدد المقولات
صفحة ١٦
(51) وقوم أنكروا أن يكون لها وجود أصلا وكذلك لكل نسبة. ولذلك قال أرسطوطاليسفي أول كتابه في " العلم المدني " : فأما الإضافة فقد يظن أنها إنما هي شرع وجور فقط. وأرادوا بذلك لضعف وجودها. وآخرون ينكرون أن تكون من المعقولات الأول، بل يجعلونها من المعقولات الثواني. وأرسطوطاليس يعتقد أن كثيرا منها في المعقولات الأول، ولذلك جعلها في المقولات. وقد يوجد كثير منها في المعقولات الثواني حتى أنها ما يلحقها أن تصير إلى غير النهاية - مثل أن يقال " إضافة الإضافة " و" نسبة النسبة " و" نسبة نسبة النسبة " - فاستعملت، وانقطع بها عدم التناهي؛ على مثال ما يعمل في سائر المعقولات الثواني، إذ كانت تصير غير متناهية. فإن كل ارتباط وكل وصلة بين شيئين اثنين محسوسين أو معقولين إنما تكون بإضافة أو نسبة ما. ولذلك إذا كانت النسبة والذي توجد له النسبة شيئين اثنينمحسوسين بينهما صلة، لم يكن بد من أن تكون نسبة ما، وذلك هكذا إلى غير النهاية.
(52) ثم قال قوم إنه غير موجود من أول أمره، إذ كان يلزم وضعه ما يظن أنه محال، وهو الجريان إلى غير النهاية. غير أن هذا الضرب مما هو غير متناه لم يتبين ببرهان بأنه محال ولا هو بين بنفسه أنه محال. وآخرون قالوا إن الواحد نسبته للأول، وباقي تلك ليست لها نسبة ولا هناك لها نسب. وبعضهم قطعوها بقدر شيئين. وقد بينا نحن كيف الوجه في الجري إلى غير النهاية في المعقولات الثواني.
(53) وقوم يسمون أصناف النسب كلها إضافة، ويجعلونها جنس يعم مقولات النسب. فتصير المقولات عندهم سبعة: ما هو هذا المشار إليه الذي لا في موضوع ولا على موضوع، وكم هو، وكيف هو، وما يعرف فيه أنه يفعل، وما يعرف فيه أنه ينفعل، ووضعه، وإضافته إلى شيء ما. وآخرون ادخلوا وضعه في الإضافة وأنه مضاف، فصيروا المقولات ستة. والوضع بين أنه ليس بمضاف بما هو وضع، وإن كان قد يعرض له ويلحقه أن يضاف إلى شيء، كما قد يعرض أن يضاف الإنسان إلى شيء وكما يعرض أن يكون الخط مضافا. غير أن من الوضع ما هو وضع بذاته ومنه ماهو وضع مضاف - على مثال ما توجد عليه أنواع ما هو أين، يكون أينا بذاته وأينا بالإضافة - ، فحينئذ يكون وضعا عند شيء. وأما أن يكون الوضع وضعا لشيء على أنه وضع عرض لموضوع، وكان بهذا مضافا، فهو مثل البياض الذي هو للأبيض، فإن هذا يوجد لكل عرض موجود في موضوع؛ فهو بهذه الجهة مما قد لحقه أن يكون مضافا، لا من جهة ما هو وضع. والوضع وإن كانت ماهيته لا يمكن أن تكمل إلا بنوع من الإضافة - إذ كانت إنما توجد أجزاء الجسم محاذية لأجزاء من المكان محدودة، والمحاذاة إضافة ما، فقد صار جزء ماهية الوضع نوعا من أنواع الإضافة - فليس يجب من أجل ذلك أن يكون تحت مقولة الإضافة، كما أن كثيرا مما هو كم هو متصل أو منفصل، والمتصل والمنفصل بما هي كذلك فهما مضافان، وليس الخط بما هو خط مضافا ولا المصمت. وآخرون يرون في أن يفعل أنه إنما يقال بالإضافة إلى أن ينفعل، فتحصل عندهم المقولات خمسة. وهذا أيضا وإن كانت ماهيته أو جزء ماهيته نسبة أو إضافة - فإن معنى أن يفعل هو أن تتبدل على الجسم النسب التي بها أجزاء ما يفعل - فليس يلزم من ذلك أن يكون تحت المضاف، كما أن الذي ينفعل في كيف ليس تحت مقولة كيف ، ولا الذي ينفعل في كم داخل تحت مقولة كم، فإنه ليس تبدل النسب على ما يفعل حين ما يفعل إلا كتبدل الكيف على ما ينفعل حين ما ينفعل. وآخرون يظنون أن معنى أن يفعل وأن ينفعل هو الفاعل والمفعول، ولما كان هذان من المضاف ظنوا أن المقولتين جميعا من المضاف، فتكون المقولات عندهم أربعة. وأمر هذين بين أنهما ليسا بفاعل ومفعول، على ما لخصنا مرارا كثيرة. وآخرون ظنوا أنهما فعل وانفعال، وقد بينا في مواضع كثيرة أنهما ليسا كذلك.
صفحة ١٧
(54) وقوم يزعمون أن المقولات اثنتان، ما هو هذا المشار إليه،
وعرضه؛ ويسمون ما هو هذا المشار إليه " لاجوهر " . فجعلوا المقولات اثنتين، الجوهر والعرض. وبين أن الجوهر على الإطلاق هو الذي ليس في موضوع، والعرض معناه هو الذي في موضوع. فكأنه قال المقولات اثنتان، إحداهما ذات الموضوع، والأخرى ما عرف ما هو خارج عن ذاته. وهذانأيضا رسمان ترسم الجوهر والعرض. ولكن ليس معنى العرض جنسا يعم التسعة، ولكنه إضافة ما لكل واحدة من هذه المقولات إلى المشار إليه. زنحن فليسنسمي المقولة ما كان جنسا يعم أنواع كل واحدة منالتي نسبتها إلى مشار مشار إليه هذه النسبة والتي لها هذه الإضافةإلى المشار إليه. وليس شيء منها جنسا ولا طبيعة معقولة توضف بها تلك الأنواع - نعني من حيث لحقها أن كانت لها هذه الإضافة. وكذلك قولنا " ما عرف ما هو هذا المشار إليه " يدل أيضا على إضافة لحقت كل واحد من أنواع هذا المشار إليه وأجناس أنواعه، وكذلك قولنا " مقولة " تعم أيضا جميعها، لا على أنها جنس لها، لكن إما على أنها اسم مشترك يعمها وإما أن تكون دالة على الإضافة التي لحقتها على العموم، وليس واحد منهما جنسا لها، لا الاسم المشترك لها ولا العرض اللاحق لها على العموم.
(55) وقوم ظنوا أنه قد قصر في عدد المقولات، وذكروا أن التأليف يحتاج في أن يحصل إلى اجتماع أشياء، وأن توضع بعضها من بعض على ترتيب محدود، وأن يكون لها رباط تربط به، فهو شيء مركب من مقولات عدة. والاجتماع هو إضافة ما، فجنسه أن توضع بعضها من بعض على ترتيب وارتباط محدود، فهو داخل تحت الوضع، فليس ينبغي أن يوضع جنسا عاليا ما هو بين أنه داخل تحت واحدة من هذه. فالوضع جنسه وباقي تلك فصوله. فإن كان إنما يريد بالتأليف تأليف ما ليس بمشار إليه أصلا على الحال التي ذكرنا، فليس يدخل في شيء من المقولات. لأن كل واحد إنما يقال له " مقولة " بالإضافة إلى المشار إليه، وما لم يكن معرفا أصلا لمشار إليه على الصفة التي قلنا فليس بداخل في المقولات.
الفصل الثاني عشر:
العرض
(56) العرض عند جمهور العرب يقال على كل ما كان نافعا في هذه الحياة الدنيا فقط؛ أما ما كان نافعا في الحياة الآخرة فقط، أو نافعا مشتركا يستعمل لأجل الحياة في الدنيا ويستعمل لأجل الحياة في الآخرة، فإنه لا يسمى عرضا. وقد يقال أيضا على كل ما سوى الدراهم والدنانير وما قام مقامهما من فلوس ونحاس أو دراهم حديد مما استعمل مكان الدراهم والدنانير. وقد يقال أيضا على كل ما توافت أسبابه كونه أو فساده القريبة - فإنه يقال فيه إنه يعرض كذا - أو أنه قريب من أن يوجد أو يتلف لحضور سبب ما له قريب لوجوده أو تلفه، أو لتخريب كثير لوجوده أو تلفه، أو لتخريب له كثير. وقد يقال أيضا على كل ما يقال عليه العارض، وهو كل حادث سريع الزوال.
(57) وأما في الفلسفة فإن العرض يقال على كل صفة وصف بها أمر ما ولم تكن الصفة محمولا حمل على الموضوع، أو لم يكن المحمول داخلا في ماهيته. وهذان ضربان، أحدهما عرض ذاتي والثاني عرض غير ذاتي . والعرض الذاتي هو الذي يكون موضوعه ماهيته أو جزء ماهيته، أو توجب ماهية موضوعه أن يوجد له على النحو الذي توجب ماهية أمر ما أن يوجد له عرض ما. فإن ذلك العرض إذا حد أخذ ذلك الأمر في حد العرض. فما كان من الأعراض هكذا فإنه يقال إنه عرض ذاتي . وغير الذاتي هو الذي لا يدخل موضوعه في شيء من ماهيته، وما هية موضوعه لا توجب أن يوجد له ذلك العرض. فهذا هو معنى العرض في الفلسفة.
(58) واسم العرض إنما يدل على صفات حالها هذا الحال، ولا معنى له غير هذا. وهو المقابل للعرض الذي قد يوجد في الأمر حينا ولا يوجد حينا. والذي يمكن أن يوجد في الشيء وأن لا يوجد ليس هو معنى العرض. فإن اسم العرض ليس يدل على الشيء من حيث له هذه الحال - أعني أن يوجد حينا وأن لا يوجد حينا - ولكنه شيء لحق بوجود الشيء عرضا. فإن العرض قد يكون دائم الوجود وقد يكون غير دائم الوجود، وليس يسمى عرضا لدوام وجوده ولا لسرعة زواله، بل معنى أنه عرض هة أنه لا يكون داخلا في ماهية موضوعه.
صفحة ١٨
(59) وما بالعرض والموجود بالعرض غير قولنا العرض على الإطلاق. فإن الذي هو بالعرض في شيء أو له أو عنده أو معه أو به أو منسوبا إليه بجهة ما هو أن لا يكون ولا في ماهية واحدة منها ينسب إليه تلك النسبة. فإن كان في ماهية أحدها أن يوجد له أو لأن ينسب إليه تلك النسبة قيل فيه إنه بالذات لا بالعرض. والعرض يقابله ما هو الشيء على الإطلاق، فإن كان يحمل على الشيء حما ما هو ولا يحمل أصلا عليه ولا على شيء آخر حملا يعرف به ما هو خارج عن ذاته، فإنه مقابل ما هو عرض. وكذلك ما هو على موضوع فقط يقابل ما هو بوجه ما في موضوع. وأما الذي هو بالعرض فإنما يقابل ما هو بالذات.
(60) والعارض غير العرض وغير ما بالعرض. فإن العارض يقال على كيفيات ما توجد في شيء ما إذا كانت قليلة المكث فيه سريعة الزوال، مثل الغضب وغيره. فما كان منها في الأجسام سميت عوارض جسمانية، وما كان منها في النفس سميت عوارض نفسانية. ولا يكادون يقولون ذلك فيما عدا الكيفية من المقولات. وأما الجمهور فإنهم يسمون بهذا الاسم كل ما كان قليل المكث سريع الزوال من سائر المقولات التسع، ويسمون العوارض " انفعالات " أيضا، فالنفسانية منها " انفعالات نفسانية " ، والجسمانية " انفعالات جسمانية " . وقد يلحق كل ما يقال إنه عوارض أن يكون عرضا، إذ كانت كيفية ما، والكيفية لا تعرف من المشار إليه الذي لا في موضوع ما هو، بل كيفية خارجة عن ذاته. إلا أن معنى العارض فيه غير معنى العرض. وقد يلحق كثيرامما يقال فيه أنه عارض أن يكون موجودا في شيء بالعرض. فيكون معنى أنه بالعرض غير أنه عارض وغير معنى أنه عرض.
(61) وكل ما هو بالعرض في شيء ما فإنه موجود فيه على الأقل.
وكل ماهو بالذات لا بالعرض فهو إما دائم فيه وإما في أكثر الأوقات. فلذلك يقول أرسطوطاليس " الذي بالعرض هو الذي يوجد لا دائما ولا على الأ كثر " . وكثيرا ما يسمى الذي بالعرض على المسامحة والتجوز " العرض " . والذي يعرف من المحمولات ماهو هذا المشار إليه الذي لا في موضوع يسمى أيضا الجوهر على الإطلاق. فصار هذا المعنى من معاني الجوهر مقابلا لمعنى العرض. فتكون المحمولات على المشار إليه الذي لا في موضوع منها ما هو جوهر ومنها ما هو عرض. فالعرض يقال على المقولات التسع التي ليس بواحدة منها تعرف ماهو هذا المشار إليه الذي لا في موضوع.
الفصل الثالث عشر:
الجوهر
(62) والجوهر عند الجمهور يقال على الأشياء المعدنية والحجارية التي هي عندهم بالوضع والاعتبار نفيسة، وهي التي يتباهون في اقتنائها ويغالون في أثمانها، مثل اليواقيت واللؤلؤ وما أشبهها، فإن هذه ليس فيها بالطبع ولا بحسب رتبة الموجودات جلالة في الوجود ولا كمال تستأهل بها في الطبع الإجلال والصيانة. والإنسان أيضا يستفيد الجمال عند الناس والكرامة والجلالة والتعظيم في اقتنائها، لا الجمال الجسماني ولا الجمال النفساني، سوى الوضع والاعتبار فقط، وأن لها ألوانا يعجبون بها فقط ويستحسنون منظرها فقط، وأنها قليلة الوجود. فلذلك يقولون في من عندهم من الناس نفيس ذو فضائل عندهم " إنه جوهر من الجواهر " . وقد يقال أيضا الجواهر على الحجارة التي إذا سبكت وعولجت بالنار حصل عنها ذهب وفضة أو حديد أو نحاس، فهي بوجه ما من مواد وهذه هيولاتها.
صفحة ١٩
(63) وقد يستعملون اسم الجوهر في مثل قولنا " زيد جيد الجوهر " ، ويعنون به جيد الجنس وجيد الآباء وجيد الأمهات. فالجوهر يعنون به الأمة والشعب والقبيلة التي منهم آباؤه وأمهاته - وأكثر ذلك في الآباء - ، والجودة يعنون بهاالفضائل - فإنهم إذاكانوا ذوي فضائل قيل فيهم إنهم ذوواجودة. فإن آباءه وجنسه متى كانوا فاضلين قيل فيه إنه جيد الجوهر، ومتى كانوا ذوي نقص قيل فيه ردئ الجوهر. والجوهر ههنا إنما يعنون به الجنس والآباء والأمهات - فهم إما مادته وإما فاعلوه.فإن الإنسان إنما يظن به دائما أنه شبيه مادته وآبائه وجنسه. فإنه يظن أولا أنه يفطر في فطرته الإنسانية على فطر آبائه وجنسه النفسانية التي كانت لهم، وبحسب فطرته النفسانية تكون أفعالهالخلقية جيدة أو ردية. ثم أنه بعد ذلك يتأدب بما يراهم عليه من الآداب ويتخلق بما يراهم عليه من الأخلاق ويقتفي بهم في كل ما يعملونه، إذ كان لا يعرف غيرهم من أول أمره. ولأنه أيضا يثق بهم أكثر من ثقته بغيرهم. ولأنه أيضا يحتاج أن يسعى في حياته لما يسعى له جنسه. فمتى كان أولئك ذوي نقائص بالطبع والعادة تظن به النقائص التي كانت فيهم، ومتي كانوا ذوي فضائل بالطبع والعادة تظن به أيضا تلك الفضائل التي كانت فيهم. فإنما يلتمس بجودته ورداءته فضيلته ونقيصته لا غير، إما بالطبع وإما بالعادة.
(64) وكثيرا ما يقولون " فلان جيد الجوهر " ، يعنون به جيد الفطرة التي بها يفعل الأفعال الخلقية أو الصناعية، وبالجملة الأفعال الإرادية. فإن الإنسان إنما يفطر على أن تكون بعض الأفعال الإرادية أسهل عليه من بعض، فإذا خلا يفه نفسه منذ أول الأمر فعل الأفعال التي هي عليه أسهل. فإن كانت تلك أفعال جيدة قيل إنه بفطرته وطبعه جيد. فيحصل الأمر في هذا وفي ذلك الأول على الفطر التي يفطرالإنسان عليها من أن تكون الأفعال الجيدة عليه أسهل أو الردية أسهل، إما فطرة آبائه وعاداتهم وإما فطرته هو في نفسه.
(65) وبين أن فطرته التي بها يفعل هي التي منزلتها من الإنسان منزلة حدة السيف من السيف، وتلك هي التي تسمى الصورة. فإن فعل كل شيء إنما يصدر عن صورته إذا كانت في مادة تعاضد الصورة في الفعل الكائن عنها ( عن الصورة ). وبين أن ماهية الشيء الكاملة إنما هي بصورته إذا كانت في مادة ملائمة معاضدة على الفعل الكائن عنها. فإذن للمادة مدخل لا محالة في ماهيته. فإذن ماهيته بصورته في مادته التي إنما كونت لأجل صورته الكائنة لغاية ما. فإذا كان كذلك، فإن الفطرة التي كان الناس يعنون بقولهم " الجوهر " إنما هي ماهية الإنسان، كان ذلك جوهر زيد أو آبائه أو جنسه. وأيضا فإنهم يظنون أن آباءه وأمهاته وجنسه الأقدمين هم مواده التي منها كون، ويظنون أن مواد الشيء متى كانت جيدة كان الشيء جيدا، مثل مواد الحائط ومواد السرير. فإنهم يظنون أن الخشب إذا كان جيدا كان السرير جيدا، إذ تكون جودة الخشب سببا لجودة السرير، وإذا كان الحجارة واللبن والآجر والطين جيدا كان الحائط المبني منها أيضا جيدا، إذ كانت جودة تلك سببا لجودة الحائط. فعلى هذا المثال يرون في آباء الإنسان وأمهاته وأجداده وقبيلته وأمته وأهل بلده، فإن كثيرا من الناس يخيل إليهم أنهم مواد الإنسان الكائن عنهم أو فيهم. ومواد الشيء هي إما ماهيته وإما أجزاء ماهيته، فهم إذن إنما يعنون بالجوهر ههنا ماهيته أو ما به ما هيته. وقد يقولون " هذا الثوب جيد الجوهر " ، يعنون به سداه ولحمته من كتان أو قطن أو صوف، وتلك كلها مواد. فهم يعنون بالجوهر ههن أيضا مواد الثوب، ومواد الشيء إما ماهيته وإما أجزاء ماهيته؛ فإن قوما يرون أن ماهية الشيء بمادته فقط، وآخرون أنها بأجزاء ماهيته.
(66) فهذه هي المعاني التي يفال عليها الجوهر عند الجمهور. وهي كلها تنحصر في شيئين، أحدهما الحجارة التي في غاية النفاسة عندهم، والثاني ماهية الشيء وما به ماهيته وقوام ذاته - وما به قوام ذاته إما مادته وإما صورته وإما هما معا. ويكون الجوهر عندهم إما جوهرابإطلاق وإما جوهرالشيء ما.
صفحة ٢٠