تزداد حدة، والبحث عن المجهول يزداد ضراوة. إن العبارة التي تختتم بها الشذرة تقول: «لا بد أن يخرج هذا السر الأكبر .. السر الذي يمنحني الحياة أو الموت» .. فالروح الظمأى تفتش عن هذا السر؛ سر الحقيقة والوجود نفسه. وهي في طريقها إليه لا تعرف راحة ولا تدخر جهدا. ومع ذلك تقف آخر الأمر أمامه كأنها تقف أمام حبيبة تخفي وجهها وراء ألف قناع. ويمضي في سعيه إليها، ويصور له الوهم أو الأمل أنه سيجدها في كل ما يراه حوله، وأنها لن تلبث أن تبرز أمامه فجأة، من واد يختفي وراء الجبل، أو على سطح الماء في رحلة يقوم بها في قارب. ويظل واقفا أمام باب المجهول الموصد في وجهه. ويتخيل لحظة أن الباب يفتح، والمجهول يتقدم نحوه كأميرة جميلة وجليلة، ويحس أنه يتحد بكل ما يراه ويتلاشى فيه، حتى يوقظه رفيف الأغصان من حوله، ويدعوه أن يصحو من نومه أو من موته السعيد ...
بقي شاعرنا إذن على بؤسه وفقره، والفقر تجربته الأصيلة التي صحبت خطوات عمره وصبغت أنغام شعره. وعرف الكثيرين والكثيرات وظن أنهم أصدقاء وصديقات. ولكنه كان كالفراشة القلقة التي لا تعثر على الزهرة التي تشبع جوعها وتريحها من عناء السفر وتعب الرحلة. وكان يفرح بكل إنسان يظن أنه وجد فيه ضالته، ثم ينفض يديه منه ويلوذ بوحدته. وربما وجد فيهم شيئا مما يبحث عنه، ولكنه لم يجد أبدا ما يشتاق إليه. وليس غريبا أن يخيب أمله في الجميع، لأنه يريد المطلق، يريد «الكل» بينما كان كل واحد منهم يعطيه شيئا، أي لا يقدم له في الحقيقة أي شيء!
في هذا الفقر الموحش ظهرت ميليته (وهي في الشذرة التي نتحدث عنها الآن بديل ديوتيما في الرواية المكتملة). ظهرت في هيئة كاهنة الحب، رائعة ونقية ومقدسة. لا يكاد ينقصها من صفات العرافة القديمة الغامضة إلا الاسم. ها هو ذا يصف كيف ظهرت له أول مرة: «وسط هذا الشعور الأليم بوحدتي، بهذا الفؤاد الجريح المقفر من البهجة؛ ظهرت لي، وقفت أمامي حلوة مقدسة، كأنما هي كاهنة الحب، أو كأنها نسجت من النور والعطر فصارت روحا شفافة رقيقة، ترى عينها الواسعة المتوثبة بالحياة تستوي فوق ابتسامتها المفعمة بالهدوء والطيبة كأنها إله جليل يتربع على عرشه، وخصلات شعرها الذهبي تتموج في نسمات الربيع حول جبينها كالسحب الصغيرة التي تسبح في ضوء الصباح. ويعجز قلمه عن أن يعبر لصديقه «بلارمين» عما لا سبيل إلى التعبير عنه؛ عن رعشة قلبه، عن شعوره بأن عذاب حياته وليلها وفقرها وضنكها وفناءها قد زال في لحظة واحدة، لحظة أسمى وأسعد من كل اللحظات، لأنها لحظة الخلاص التي تعدل دهورا من حياتنا الرتيبة المجدبة ... لحظة تموت فيها أيامنا الأرضية، ويتوقف الزمن، وتبعث الروح، وتتحرر النفس من قيودها لتعود إلى أصلها ومنبعها .. لأنها لحظة الحب! لقد ظهرت في حياته وتمثلت له كما تتمثل ربة من ربات الأساطير، منسوجة من النور والعطر، طيبة كالسماء، جليلة كالآلهة، ذهبية الشعر كملكة ساحرة في حواديت الأطفال ...»
ويحس الشاعر البائس أن وجوده قد عثر على ضالته، وأن قوة الأبد أصبحت حقيقة، وأن الدهر قد تجمع في لحظة الخلاص. لم تكن «ميليته» هذه إنسانة بل قدرا تمثل له أبهى من كل خيالاته وأحلامه، فارتجف وعجز عن الكلام ... وشعر أن روحه هربت من جسده، وتحولت إلى ضراعة العابد الذي يتبتل لمعبود لا يكاد يدري شيئا عما يدور حوله! وتقف كاهنة الحب أمامه، وترتفع فوق كيانها الإنساني الفاني وتعلمه سر القدرة. وتتحدث إليه فتكشف عن عطفها الجارف عليه وإشفاقها العميق من الأحزان التي تعذب روحه. وتتمنى لو أمكنها أن تعيد إليه الطمأنينة المقدسة، والعيد الهادئ الذي يأتي من أغوار الروح، كما يأتي من كل شيء يلمسه أو يراه؛ من النور والنسيم والسماء والأغصان والأزهار ... أما العابد الخاشع فيقف كالأخرس، ويصمت فيه كل صوت أرضي، ويحس أن الطبيعة الإلهية التي تجلت له هي المجهول نفسه .. ويصل إليه صوتها ليعلمه حكمة الحب: «قل لقلبك من العبث أن يفتش الإنسان عن السلام في الخارج إذا كان لا يستطيع أن يمنحه لنفسه.» وتهديه إلى طريق الحب المطلق، وتفتح عينيه على اللحظة الوحيدة التي يمكن أن تنقذه وتداويه، وتوقظ فيه الشوق إلى الحب الذي عليه أن يبحث عنه ويجده بنفسه .. ويخفق قلبه الشاب ويزداد خفقانه، ويشعر أن عاطفة الحب الغامض، وهي أم كل عاطفة وكل حياة، لم تمت فيه بعد. ويدفعه الشوق إلى أحضان الطبيعة. ويجلس في مساء يوم من أيام الخريف الهادئة تحت أشجار الحور التي يهمس النسيم لأوراقها الجافة. ويوشك أن يسمع نداء الطبيعة صاعدا إليه من أعماق الأرض والبحر: لماذا لا تحبني أنا؟ ويزداد العالم قداسة في عينيه، ولكنه يزداد غموضا. ويترك وطنه ليفتش عن الحقيقة فيما وراء البحر .. ويقول لنفسه ما يقوله كل من يريد أن يبحث عنها بحق وصدق: لسنا شيئا. إن ما نبحث عنه هو كل شيء.
كتب هلدرلين هذه الشذرة قبل أن يلتقي بديوتيما بحوالي عام ونصف عام. والغريب أنه سجل فيها بإحساس الشاعر وإلهامه تجربته الحية مع هذه السيدة الطيبة الرائعة. ولا يهمنا إن كان قد رسم صورتها بوحي الشاعر وإلهامه أو استمدها من تلك الصديقة المجهولة التي لا نعرف عنها شيئا. فالمهم أن معظم ملامح هذه الصور قد تأكد صدقها وانطباقها على «الأصل»، وأن كاهنة الحب التي عرفها بلحمها ودمها قد فاقت كاهنة الحب الخيالية في الصدق والعمق والجد والجمال.
كتب هلدرلين الصياغة التالية لروايته أثناء إقامته القصيرة في مدينة «يينا» وسماها «شباب هيبريون».
4
وحلت «ديوتيما» في هذه الصياغة الجديدة محل «ميليته». ولم ينقض العام حتى التقى بديوتيما الحقيقية «سوزيته جونتار».
كانت زوجة أحد رجال البنوك الكبار، واسمه يعقوب فريدريش جونتار. وكان قد بدأ كرجل أعمال متواضع الحال ثم ظل يصعد على سلم المال حتى أصبح من أصحاب الملايين. وكانت الحياة في بيته هي حياة رجل الأعمال الذي لا ينسى مصالحه، والبرجوازي الذي لا يحرم نفسه من المتع التي يتيحها له حب الظهور.
فالحفلات الصاخبة لا يهدأ لها ضجيج، والضيوف على اختلاف طباعهم وسحن وجوههم يترددون على الأسرة طوال العام. إنهم - كما يصفهم هلدرلين في رسالة إلى أمه - مخلوقات كاريكاتورية مخيفة، يذهب الثراء بألبابهم كما يذهب النبيذ الجديد بعقول الفلاحين. وهم لا ينقطعون عن اللهو والصخب والمرح، ولكنه لهو غليظ وصخب مزعج ومرح مغرور. ولذلك فلا عجب أن يقف الشاعر منهم موقف الدهشة والذهول، وأن يتعلم الصمت والوجوم في حضورهم.
صفحة غير معروفة