الإهداء
تمهيد
هلدرلين
الوطن
الطفل والصبي
الثائر
الوحيد
العاشق
العابد
الصامت
لوحة بحياة هلدرلين وأعماله وعصره
نصوص مختارة
من قصائده الأولى1
قصائد من مرحلة النضج
من أناشيد الليل
خبز ونبيذ1
المصادر
الإهداء
تمهيد
هلدرلين
الوطن
الطفل والصبي
الثائر
الوحيد
العاشق
العابد
الصامت
لوحة بحياة هلدرلين وأعماله وعصره
نصوص مختارة
من قصائده الأولى1
قصائد من مرحلة النضج
من أناشيد الليل
خبز ونبيذ1
المصادر
هلدرلين
هلدرلين
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الإهداء
إلى أستاذي الدكتور عبد الرحمن بدوي.
تحية التقدير، للرائد الكبير.
تمهيد
شعره صعب ...
وهو - كحياة صاحبه - يفيض بالألم والعذاب، وتحف به المخاطر والمتاعب والصعاب. هو كالطير الغريب الوحيد الذي يأتي من بلاد بعيدة ويسافر لبلاد مجهولة. وهو كالصوت الجليل المخيف الذي يعلن نبوءة الآلهة على لسان كاهن مذهول إلى إخوته من البشر الحيارى المذهولين. لكنه مع ذلك أو بسبب ذلك يلمس القلب ويهزه وينفذ إلى الأغوار. إنه ينقلك على الفور إلى الشاطئ البعيد، يبكيك شوقا إلى المثل العزيزة المستحيلة، يملؤك إحساسا بالبطولة والانكسار، بالنشوة والعذاب، بالانتصار والاستشهاد. ليس غريبا أن يسمى صاحبه «شاعر الشعر» و«شاعر الشعراء». وليس غريبا أن يتفق أهله وغير أهله على أنه من أعظم من أنشد الشعر في لغته وفي كل اللغات، ومن أعظم من تعذب به وجن بسببه. وكما تسكن جنيات البحر في الماء، سكن هذا الشاعر في نبع الشعر. لم يكتف بالشرب منه أو التطهر بمائه أو سقي الندامى والعطاش. بل سكن فيه طول حياته، حتى أصبحت الحياة عنده هي الشعر، والشعر هو الحياة.
لذلك كان الشعر بيته ولحده، نعمته ونقمته. كان قدره.
ذلك هو فريدريش هلدرلين (1770-1843م) الذي وهب الشعر كل شيء، فأعطاه كل شيء وأخذ منه كذلك كل شيء؛ أعطاه سره الخالص، وامتلك في مقابله كل حياته الواعية وغير الواعية، ثم هوى به في ليل الجنون الطويل فعاش نصف عمره الأخير في ظلامه. ولعله قد عرف أن الفن أشبه بإله أسطوري نهم للدماء، لا يرضى عن الضحية حتى يمتص آخر قطرة في عروقها ؛ عندئذ يمنحها البركة ويلقي عليها وشاح الخلود. وقد أخلص هلدرلين لفنه وخشع في محرابه وقدم حياته قربانا له. وأحس بفطرته النقية الورعة أن شجرة العبقرية تمد جذورها في أرض التعاسة والعذاب والمأساة، فلم تنم شجرته الطيبة حتى دفع الثمن بأكمله؛ تجاهله عصره، وانكسر قلبه، وضاع في المتاهة التي لا يرجع منها أحد.
كانت نفسه الحيية الوديعة تطل من نظرات عينيه الطيبتين الشاردتين اللامعتين ببريق غريب، كما كانت تطل من قسمات وجهه الجميل الرقيق، وكآبته ووحدته وعجزه عن التعامل مع الناس، وإخفاقه المستمر في الحب والحياة. ولكن هذه النفس الوديعة كانت تطوي في أعماقها شاعرية تتأجج بالشوق إلى مثال عال يبدو كالقمة المختفية وراء الغيوم، وتسعى لبعث الحياة في شرايين عالم أسطوري جميل كان يزهو في الزمن القديم بالآلهة والقديسين والأبطال الخالدين. وكانت هذه الشاعرية تنبع من حياة باطنية تائهة في رؤية دينية وأسطورية عميقة، مستغرقة في تجربة كونية محيطة بالقوانين الأبدية المتحكمة في النشوء والتغير والوجود، مستسلمة للقوى الإلهية المسيطرة على القدر؛ القدر الذي شاء له الوحدة والعذاب والجنون، ومع ذلك استسلم له في خشوع وانكسار، وظل يحييه في كل أشعاره وينتظره ويبشر بموكبه الرائع.
وهلدرلين شاعر متوحد ووحيد.
ولا نقصد بتوحده ووحدته أن نرسم له صورة رومانسية حالمة تنشر حولها ظلال الحزن؛ فهذا أبعد شيء عن بالنا وأبعد شيء عن الصواب. ألم يقل في مسرحيته التي سيأتي الحديث عنها إن التوحد هو الموت؟ ألم يقل إن الحالمين يندر ظهورهم في العهود الطيبة؟ ألم يضع الإنسان في قلب الشبكة التي تلتقي عندها خيوط الطبيعة والبشر والسماويين الخالدين؟ ألم يتغن «بالروح الذي يشارك فيه الجميع»، ويتحقق معه السلام بعد كل خصام، والانسجام والتجانس بعد كل نزاع وشقاق، ويرويه الإنسان بعرقه وجهده وجده ونشاطه؟ ألم يؤمن دائما بالفعل، وبأن الشعر يمكن في بعض الأوقات أن يهدي إلى الفعل، بل أن يصبح هو نفسه فعلا ويصبح الشاعر إذا اقتضى الأمر ودعت المحنة ثائرا «يحطم أوتاره التعيسة ويحقق ما كان يحلم به الفنانون»؟
نعم ! كان هلدرلين فردا وحيدا، وكذلك يكون كل فنان وينبغي أن يكون. ولكن الفنان الصادق يعرف أيضا أنه لن يكون فردا بحق إلا إذا كان فردا في مجتمع، ومن أجل مجتمع، يعطيه ويبذل له من نفسه، ويشقى لكي يسعد ويرقى. وها هو ذا هلدرلين يؤكد هذا المعنى في قصيدة له (شجر البلوط) فيقول: «كل واحد منكم عالم مستقل، أشبه بالنجوم في السماء، فعيشوا معا في اتحاد حر.»
هو إذا يريد أن يعيش الإنسان فردا في اتحاد حر أو جماعة حرة يقوم بين أعضائها حوار مشترك. وإذا كان قد اضطر أن يلوذ بوحدته فرارا من قسوة الحياة والمجتمع، فإنه لم يمجد تلك الوحدة التي تعني الانعزال والانطواء على الألم والمرارة. وإذا كنا نقول إنه وحيد فإن وحدته لا تعني انفراده في مواجهة قدره البائس فحسب، بل تعني كذلك تفرده بين شعراء بلده وعصره.
إن من الخطأ أن نحاول وضعه في تيار أو حركة أو مدرسة أدبية، لأنه سيخرج منها جميعا ويبقى ظاهرة فريدة في حياته وشعره جميعا. قد يضعه بعض النقاد ومؤرخي الأدب في الحركة الهيللينية الجديدة التي اتجهت للمحاكاة الخلاقة للروائع الإغريقية والمثل الإغريقية، وقد يضمه البعض للتراث الإنساني والديني (البروتستنتي) بوجه عام أو لنزعة التصوف والتطهر التي ازدهرت في منطقة «شفابن» التي نشأ فيها،
1
وقد يتحدث عنه البعض حديثهم عن شاعر كلاسيكي أو رومانتيكي بحسب نظرتهم إليه من جهة الأسلوب الرصين والشكل المحكم أو من جهة العاطفة الأسيانة والموقف المأساوي الحزين. وقد نضمه إلى طائفة كبيرة من الشعراء من مختلف البلاد والعصور، شاركهم الإيمان بوظيفة الشعر الدينية قبل كل وظيفة سواها. قد نفعل هذا كله، ولكن هلدرلين يظل شاعرا وحيدا وفريدا بكل معنى الكلمة .. بل إن كتب تاريخ الأدب نفسها لا تضعه مع الكلاسيكيين ولا الرومانتيكيين، وإنما تفرد له مكانا بينهما مع أديب آخر عذبه قدره وصارعه حتى سقط، وهو الكاتب المسرحي والقصصي العظيم هينريش فون كلايست.
ومن الصعب تفسير هذه الوحدة أو تحديد هذا التفرد. فهلدرلين شاعر اجتمعت في إنتاجه الخصائص القومية والأجنبية. لقد تأثر في صباه وشبابه الباكر بشعر «كاوبشتوك» (1724-1803م) الديني وعاطفته المتدفقة وعنايته بالبحور والأوزان القديمة. ثم تأثر بشعر «شيلر» (1759-1805م) الفلسفي والمثالي ولغته الخطابية العالية قبل أن يكتشف لغته وأنغامه الخاصة به. كما تأثر منذ صباه بالشعراء والكتاب الإغريق والرومان الذين درسهم وأحبهم وترجم عن بعضهم - مثل بندار وسوفوكليس وأوفيد وفرجيل وهوراس - وشعره يحقق التآلف التام بين العاطفية والروحانية وبين ما سماه «سكون الجمال»، بين الألم والجلال، والعذاب والأحكام، والرغبة في الإصلاح إلى حد الغضب والتمرد، والرؤية الغيبية المحلقة في آفاق السماويين والخالدين. وهو في هذا كله لا يجاريه شاعر ألماني آخر. فطبيعة موهبته الشعرية هي المسئولة عن تميزه ومأساته في آن واحد. لقد كان شاعرا وحسب، ولم يسمح له الشعر بأن يكون شيئا آخر أو يطمح إلى شيء آخر. ولذلك عاش للشعر وهلك بسببه. وليس من الممكن أن نفصل بين شعره وقدره. وليس من الممكن أيضا أن نفصله عن تطوره المذهل في غضون ست سنوات هي التي أتيحت له منذ بدأ يكتب شعره الناضج الواضح الصافي سنة 1797م إلى أن بدأ يغوص في لجة الجنون حوالي سنة 1804م، أي منذ أن أصبح على وعي كامل برسالته كشاعر «وسيط» بين الرب والبشر، واجبه أن يبلغهم وحيه الذي يهبط عليه، على نحو يذكرنا بما كان يفعله الكاهن في الديانات القديمة أو الشاعر بالمعنى العريق الأصيل (الفاتيس كما كان يسميه الرومان)
2
الذي يعبر كذلك عن الساحر والعراف والمتنبئ بالمستقبل ورائد القوم ولسانهم الناطق بوحي الأرباب والآباء.
ولد هلدرلين في العشرين من شهر مارس سنة 1770م في بلدة «لاوفن» الصغيرة على نهر النيكر. ومات أبوه الذي كان معلما في مدرسة الدير القائمة في هذه البلدة وهو طفل صغير، فتزوجت أمه عمدة مدينة «نورتنجن». ودخل المدرسة اللاتينية في هذه المدينة ثم انتقل منها إلى مدرسة الدير في بلدتي ماولبرون ودنكندورف. واستجاب لرغبة أمه الطيبة المسكينة - التي كان يشعر أنه مسئول عن بكائها الذي لا ينقطع، كما كان يحبها حبا يقرب من العبادة - فدخل معهد الوقف الديني الشهير في مدينة «توبنجن» ليدرس اللاهوت من سنة 1788م إلى سنة 1793م. واحتمل مرارة الحياة الخشنة الصارمة بين جدران هذا المعهد أو بالأحرى هذه الزنزانة اللاهوتية. ولكنه صمم بينه وبين نفسه على الهروب من أغلال اللاهوت والانصراف إلى موهبته الشعرية المتفتحة.
كان هلدرلين في الثامنة عشرة من عمره عندما دخل هذا المعهد. وكان في هذه الفترة متأثرا بشخصية شيلر وشعره الفلسفي، فكتب قصائده الغنائية التي وجهها إلى المثل الإنسانية (كالحقيقة والحرية والجمال والصداقة والحب والشباب والجسارة). ودخل «هيجل» (1770-1831م) المعهد نفسه في خريف ذلك العام (1788م) وأصبحا صديقين حميمين، وعاشا معا في حجرة واحدة من حجرات المعهد الرطبة المظلمة. ثم دخل «شيلنج» (1775-1854م) المعهد بعدهما بسنتين، وتعرف إليه الشاعر عن طريق هيجل. وكان شيلنج موضع إعجاب المعهد كله، لصغر سنه وعبقريته المبكرة. ولكن الشاعر لم يستطع أن يكسب صداقته الحقيقية أبدا؛ إذ كان الفيلسوف الصغير شديد الاعتزاز بنفسه، ميالا إلى النفور بطبعه. أما هيجل فكان أقرب إلى نفسه. فقد جمعت بينهما طباع وعادات وتقاليد غرسها الوطن الواحد فيهما، كما ألف بينهما الطموح الفكري الذي لا يعرف حدا يقف عنده. واشتركا معا في قراءة أفلاطون وروسو وشيلر وكانت ورسائل «ياكوبي» عن مذهب اسبينوزا، وهي التي تعلم منها هلدرلين الكلمة اليونانية القديمة «الواحد والكل»
3
التي أثرت على حياته كلها بعد ذلك وظلت شعاره المعبر عن حضور الإله في كل ما يتجلى لعينيه (وجدير بالذكر أنه سجلها في ألبوم هيجل الشخصي سنة 1791م)!
وإذا خرجنا من أسوار الدير الضيقة لنلقي نظرة على الحياة الفكرية والروحية في ألمانيا في ذلك الحين وجدنا هناك ثلاث قوى تطبع هذه الحياة بطابعها؛ بعث الروح الإغريقية ومحاكاة الروائع القديمة محاكاة خلاقة، وازدهار الحياة الأدبية والفلسفية في أواخر القرن الثامن عشر على يدي جوته وشيلر وكانت وهمبولت وهيردر وأدباء حركة «العصف والاندفاع»، والثورة الفرنسية التي أشرقت فجأة على القارة الأوروبية كأنها فجر الخلاص والأمل في الحرية وتقدم الإنسان، وأرسلت عليها عاصفة مدوية تنذر بالقضاء على ظلم الاستبداد. ولا شك أن شباب ذلك الجيل والأصدقاء الثلاثة قد تعلقت أبصارهم بهذه الأنوار الساطعة وهبت عليهم نسمات من هذه العاصفة الجارفة على حين كانوا يستذكرون دروس الفلسفة واللاهوت في حجراتهم البائسة.
كان شباب الجيل مؤمنين بأن الإنسانية والجمال متجسدان عند اليونان على صورة نموذجية، وكان هيجل وهلدرلين من أشدهم إيمانا بهذه الفكرة. لقد سبقهما فنكلمان؛ مؤرخ الفن القديم وباعث الروح اليونانية الجديدة ببحوثه وأفكاره وإخلاصه المثالي في الكشف عن خصائص تلك الروح
4
وآمنا مثله بأن أفلاطون هو المعبر الأصيل عن تلك النزعة الإنسانية، واشتركا في التحمس لهذه الروح وتزكية شعلتها في نفوس أقرانهما وأبناء جيلهما. وانطلق هيجل من فكرته العميقة عن القدر عند شعراء المأساة اليونانيين، ووجدها شيلنج متحققة في أساطيرهم ونظرتهم الطبيعية القائمة على وحدة الوجود. أما هلدرلين فقد سبر أغوارها ونفذ إلى صميم قلبها عندما اكتشف أنها تعتمد على صلة القرابة الحميمة بين الطبيعة والبشر والأبطال والآلهة الخالدين. كانت التجربة الإغريقية في نظره تعبيرا أصيلا عن علاقة الإنسان بالطبيعة، وكان فنهم تمجيدا للجمال الذي يقوم على هذه الوحدة الحيوية، واحتراما للعواطف العظيمة والانفعالات المقدسة .. وكانت طقوسهم وعاداتهم تخليدا للصداقة والرجولة والشوق إلى حياة بطولية رائعة. ولم يتخل هلدرلين أبدا عن هذه النظرة حتى بعد أن حاصره ليل الجنون، بل لقد زاده بؤس الحياة الاجتماعية شوقا إلى ذلك العالم المنهار.
أما الحركة الفلسفية فكانت قوة أخرى هزت عقول الشباب وقلوبهم. نادى كانت وشيلر وفيلهلم فون همبولت بالحرية والمثالية والكرامة والشخصية الإنسانية المتجانسة الخلاقة، وعبر عنها الكتاب والأدباء الذين ولدوا في السبعينيات من القرن الثامن عشر. وكان لكتابات شافتسبري (1671-1713م) وأشعار شيلر ورسائله الفلسفية والجمالية أثرها في النظر إلى العالم بوصفه كلا واحدا متصل الأجزاء، وهذا الإحساس بكلية العالم - إن صح هذا التعبير - هو الذي جعل هلدرلين يبحث طوال حياته عن الرموز الشعرية الصالحة للتعبير عن العلاقة الباطنة التي تربط الإله بالطبيعة الحية .. بالإنسان أو بالأحرى بطبيعته الإلهية النبيلة ..
أما القوة الروحية الأخيرة التي هزت أبناء ذلك الجيل فهي الثورة الفرنسية. أحسوا أنها فتحت لهم أبواب عصر جديد وفجر جديد. وهل كان من الممكن أن ينجوا من سحر أفكارها وهم يرزحون تحت نير الطغيان الحاكم في مدينة شتوتجارت وفي مدينتهم الصغيرة توبنجن؟ وأسس الطلبة ناديا سياسيا انضم إليه الأصدقاء الثلاثة. وعندما أعلنت الثورة الفرنسية في سنة 1793 أنها خلعت المسيحية عن عرشها ليبدأ عصر العقل احتفل الطلبة في «توبنجن» بغرس شجرة الحرية في ميدان السوق، وراحوا يغنون ويهللون ويرقصون حولها، بل إنهم فوجئوا ذات يوم بالدوق الحاكم يقف أمامهم في قاعة الطعام بالمعهد الديني ويلقي عليهم خطبة مملة غاضبة تنذرهم كل كلماتها بالويل والثبور بعد أن سمع عن أغنياتهم التي كتبوها عن الحرية وأناشيدهم التي رددوا فيها المرسيلييز! ومن يدري؟ فربما بلغت مسامعه إحدى القصائد التي تغنى فيها هلدرلين بالحرية و«بيوم الحصاد حين تحرز عصبة الأبطال النصر، وتقفر كراسي الطغاة ويتعفن عبيرهم».
لقد خيل إليه هو وأصدقاؤه أن ساعة الحرية قد دقت، وأن البطولة الإغريقية بعثت حية في أبطال الثورة الفرنسية. وانتظر الشباب من الثورة الفرنسية والفلسفة الكانتية والأدب الألماني أن يرتفعوا بالوجود الإنساني والعقل الإنساني. وبدا أن المثل الأعلى الذي دعا إليه ليسنج واتخذ أشكالا مختلفة في كتابات هيردر وجوته في شبابه ثم اتخذ أشكالا أخرى أكثر عمقا في مسرحية «إفيجينيا» لجوته ومسرحية دون كارلوس لشيلر؛ بدا أن هذا المثل الأعلى قد أوشك على التحقق. وارتفعت الأصوات في كل مكان منادية بالحرية والمثالية والنهوض بالإنسان والمجتمع. والتف الشباب حول «فشته» - زعيم الفلسفة المثالية ورائد موكب الحرية والقومية - في مدينة «يينا»، وأعلن ناقد الرومانتيكية فريد ريش شليجل من برلين تأييده للفلسفة الجديدة والثورة الفرنسية بوصفهما أبرز اتجاهين في حياة العصر. وظهر لكل إنسان أن الأدب والفكر هما الروضة الوحيدة المزدهرة وسط صحراء البؤس والظلم والإقطاع والاستبداد.
عاش هلدرلين بعد تخرجه من المعهد الديني في توبنجن عشر سنوات مليئة بالحرمان والسعي الخائب من بيت إلى بيت في سبيل لقمة العيش التي كان يشقى في الحصول عليها بالدروس الخصوصية؛ إذ كانت مهنة التعليم وتربية أبناء الأسر هي المهنة الوحيدة الباقية أمام المثقفين والأدباء البائسين الذين بخل عليهم الحظ برعاية ملك أو أمير. وحاول أن يستقل بنفسه ويتفرغ لرسالته وموهبته. وتوسط له شيلر عند السيدة «شارلوته فون كالب» التي كانت على صلة بالحياة الأدبية، ليعمل مربيا لأبنائها في بيتها ببلدة «فالترزهاوزن» (الواقعة في منطقة تورنجن بالقرب من مدينة «جوتا»). وهناك بدأ يكتب روايته «هيبريون» التي نشر شيلر شذرة منها في مجلته «تاليا». وأخفق في مهمته التربوية، وتأكد له إخفاقه في الحياة العملية عندما حاول بعد ذلك أن يستقر في مدينة «يينا» - كعبة المثالية في ذلك الحين - ويعمل مدرسا للفلسفة بجامعتها. وتبين له عجزه مرة أخرى عندما سعى للاتصال بفشته وجوته وهردر، فتجاهلوه ولم يستطيعوا تقدير موهبته حق قدرها. وشعر أن مثالية فشته وكلاسيكية عملاقي فيمار
5
أصبحت غريبة على روحه التي ارتفعت فوق حظوظ هذه الدنيا وتخلت عن كل طموح وعاشت للشعر وحده وفنيت فيه وحده. وأشفق شيلر عليه ورعاه رعاية إنسانية ثم بدأ يضيق به وانصرف عنه. ولا شك أن هذه التجربة كانت من أمر التجارب التي ذاقها في حياته؛ إذ كان شيلر موضع إعجابه واحترامه ومثله الأعلى. وعاد يجرب حظ المعلم الخصوصي البائس بعد أن أخفق في الاستقلال بنفسه والتفرغ الكامل لشعره. وقضى ما يقرب من ثلاث سنين في مدينة فرانكفورت في بيت رجل من رجال المال والبنوك يدعى جونتار. وهناك لقي من المهانة ما لا تحتمله نفسه الحساسة المتكبرة، ولكن القدر عوضه عن ذلك حين وهبه النعمة الوحيدة التي عرفها في حياته. فقد أحب سوزيته جونتار زوجة رجل البنوك والأعمال وبادلته السيدة الرقيقة حبه اليائس، ومدت يدها الحنون إلى روحه الغريقة في الكآبة والظلام. ووجد فيها مثال الإنسانية الجميلة الطاهرة التي جعلته يشعر أنه قريب من الروح الإلهي الخالد، لا بل يشعر أنه تجسد حيا فيها! إن الروح الإلهي لا يستطيع أن يؤمن به إلا الإلهيون كما سيقول في إحدى قصائده المتأخرة. ولقد تمثل له الروح الإلهي في الطبيعة والعناصر، والسماء والأثير، والأرض والنهر، كما تمثل له في «ديوتيما» التي يعيش الآن بقربها ويعبدها ويقدسها. كانت سوزيته هي «ديوتيما» نموذج الجمال والانسجام والحكمة الإغريقية الذي طالما داعب أحلامه وهو يكتب روايته الوحيدة أو يفكر فيها، بل كانت هي الروح الإغريقية نفسها التي طالما اشتاق إليها وانتظر ميلادها الجديد وتعزى بها عن محنة الظلم والفساد والاستبداد الذي انتشرت ظلماته من حوله. ولكنه اضطر أن يغادر البيت مهانا مدحورا، وافترق عن حبيبته التي لم تجد حيلة في الفراق فحبست حبها في صدرها الذي عشش فيه السل وافترس حياتها بعد ذلك بسنوات قليلة. وتعلقت عينه الباكية بتراث ذلك الشعب الذي أتاحت له طبيعته الحرة المتجانسة أن يتحد بالقوى الإلهية الغريبة على عصر يحيا ممزقا بين الطبيعة والروح، والواقع والمثال، والشعور والوعي، والموضوع والذات .. وكان شيلر قد ألم بنفس المشكلة في رسائله الجمالية وقصائده الفلسفية وحاول أن يتغلب عليها بالدعوة إلى التربية الجمالية التي تعيد للإنسان توازنه وانسجامه.
ولكن المشكلة أصبحت عند هلدرلين هي مأساة وجوده كله. وأصبح العالم الأسطوري الذي يحلم بإحيائه هو تجربته الكبرى، ورمز الطهر والقداسة التي يراها ماثلة في كل مظاهر الحياة والطبيعة. وصارت رسالة الشاعر في رأيه هي إعادة القوى الإلهية إلى الحياة عن طريق التغني «بالخالدين» ومناجاتهم بالكلمة الشاعرة. ولم تنفصل هذه التجربة عن تجربة الحزن العميق الذي أحسه وهو يعيش أسير قدر غريب على عالم الآلهة؛ قدر يحطمه ويقهره ويدنس قداسته. لقد حكم على الإنسان أن ينتزع من أحضان الكل الذي كان يحيا معه في سلام وألقى به في هاوية الوحدة والضياع، كما حكم على الشاعر أن يواجه محنته ومحنة عصره البعيد عن نور الخالدين وحكمتهم وجلالهم، وأن يتغنى بهذا العالم وينتظره ويذكر به البشر اللاهين عنه.
عاش هلدرلين من شهر أكتوبر سنة 1798م إلى شهر يونية سنة 1800م مع صديقه ورفيق دراسته الحميم إسحاق فون سنكلير في مدينة هومبورج القريبة من فرانكفورت. وأتم رواية «هيبريون» وبدأ العمل في مسرحية «موت أنبادوقليس»، وكتب عددا كبيرا من قصائده الغنائية الكبرى ومقالاته الفلسفية. وحاول أن يؤسس مجلة «أيدونا» لنشر المبادئ الإنسانية التي يؤمن بها ، ولكن المشروع مات قبل ولادته. وعاد يهيم في البلاد بحثا عن لقمة العيش فعمل فترة قصيرة في بلدة «هاوبتفيل» بسويسرا ثم هجرها وقام برحلته الأخيرة إلى مدينة «بوردو» الفرنسية ليتولى تعليم أبناء القنصل الألماني المقيم فيها. ولكنه لم يلبث أن ترك عمله في ظروف غامضة، وعبر الحدود على قدميه حتى وصل إلى وطنه وقد ظهرت عليه أمارات الاضطراب النفسي والعقلي ... ورجع إلى بلدته «نورتنجن» وعاش مع أمه حتى سنة 1804م، وهناك عكف على ترجمة مسرحيتي أوديب ملكا وأنتيجونا لسوفوكليس، وبعض قصائد «بندار» وأناشيده الأوليمبية والبيثية، وكتب مجموعة من أنضج أشعاره. وازداد عليه المرض فغادر بيت الأم وعاد يتنقل بين البلاد حتى استقر في مصحة الأمراض العقلية في مدينة «توبنجن». ولما تأكد الأطباء من خطورة مرضه ويئسوا من شفائه تسلمه النجار الطيب «تسيمر» وآواه في بيته فعاش فيه بقية عمره كالشبح الهادئ الهائم في ليل الجنون. وأقبل الموت فخلصه من حلمه أو من نومه الطويل في اليوم السابع من شهر يونيو سنة 1843م.
ظل هلدرلين يقول الشعر حتى بعد أن غاب عن الوعي والحياة ولم يعد يهزه شيء مما يجري حوله في عالم السياسة أو الأدب.
6
ولكنه لم يزد عن بضع قصائد قصيرة أو أبيات قليلة كتبها مرضاة لزواره المحبين أو المتطفلين، وكانت أشبه بالبروق المفاجئة أو الكلمات التي تند عن شفتي أخرس. أما قصائده الكبرى المتأخرة التي كتبها خلال صراعه مع المرض بين سنتي 1801م و1804م (كالعودة للوطن والتجوال ونهر الراين والاحتفال بالسلام والوحيد وباطموس وذكرى وإلى العذراء ... إلخ، وغيرها من القصائد التي ستجد مقتطفات منها في هذا الكتاب) فقد أخذت تحلق في أجواء بعيدة موغلة في الغموض والوحشة والظلام، وصارت كلماتها أشد وحدة وكتمانا مما كانت في قصائده السابقة، وطرقت معاني جديدة وصورا ورموزا كثيفة توشك أن تستعصي على الفهم. إنها الآن تأتي من بعد سحيق، وتعبر عما يتعذر التعبير عنه، وتحطم القواعد المنطقية والنحوية، وتميل إلى التركيز والانغلاق حتى تكاد الجملة أن تكون قوقعة مستقلة عن جاراتها، وتكاد الكلمة أن تحمل من المعاني أكثر مما تحتمل، وتتعمد أن تخفي وتكتم أكثر مما تعبر وتفصح. ويبدو أن هلدرلين في هذه الحالة العصيبة من حياته قد ازداد وعيا برسالته كشاعر عراف ملهم ومنشد وبشير ونذير، بالمعنى الأصيل الذي أشرت إليه من كلمة الشاعر. لقد ابتعد عن عذابه الذاتي، وأصبح شعره - إن جازت هذه الصفة! - شعرا «موضوعيا» يعبر عن قوى كونية وإلهية أكبر منه ومن قدره، واتحدت في رؤيته صورة شعبه بصورة الشعب اليوناني القديم، وتعانقت الروح الكلاسيكية والروح المسيحية، وديوتيما والعذراء، وديونيزيوس والمسيح، وآسيا وأوروبا. لم يعد في الحقيقة يكتب الشعر، بل صار الشعر - كما قال رامبو عن نفسه - يملى عليه وينطق بلسانه، كما أصبح كل ما يعنيه أن يقول كلمته، سواء سمعها الناس أو لم يسمعوها:
لأن كل السماويين يطلبون الضحايا،
وكلما توانى الناس عن تقديمها
لم ينتج عن ذلك خير أبدا؛
لقد خدمنا أمنا الأرض
وخدمنا - دون أن ندري - نور الشمس
7
في هذا الزمن الأخير،
أما أكثر ما يحبه الأب
الذي يدبر شأن جميع الكائنات
فهو أن نصون الحرف الثابت،
ونفسر (التراث) القائم تفسيرا حسنا.
هذا ما تحرص عليه الأغنية الألمانية.
8
ظهر الجزء الأول من رواية هلدرلين الوحيدة «هيبريون» أو الناسك في بلاد اليونان
9
في سنة 1797م. وقد وصفها بنفسه فقال إنها لوحة من الأفكار والمشاعر.
10
والحق أنه صدق في هذا الوصف الذي أطلقه عليها؛ فهي فقيرة في الأحداث، مفعمة بروح شاعرية فياضة بالأنغام العذبة المتألمة، ولغتها عاطفية ساحرة الإيقاع محكمة البناء، يشيع فيها لحن بكائي يجعلها قريبة من الصلوات والاعترافات والتراتيل الجنائزية. إنها تعبر عن سعادة إنسان استغرقته تجربة الحب والاتحاد بالطبيعة وشوقه اليائس للاتصال «بالكل» الإلهي. ولكن الواقع لا يلبث أن يصدمه في سعادته وشوقه، ويكشف له عن الهوة الفاصلة بين المثال والواقع والفكرة والفعل.
وبطل الرواية شاب يوناني يحيا في القرن الثامن عشر ويتطلع لإحياء ماضي شعبه. غير أنه يخفق إخفاقا مرا في بعث الإحساس بالعزة والنبل والجمال وغيرها من القيم الخالدة التي عرفها في تاريخه المجيد. وتدور الرواية في إطار تاريخي هو الثورة التي قام بها الشعب اليوناني في سنة 1770م للخلاص من نير الحكم التركي. ويحكي البطل الشاب هيبريون قصة حبه وكفاحه واتحاده بالطبيعة «الإلهية» في سلسلة من الرسائل الشاعرية إلى صديقه الألماني بيلارمين. فقد عاش في صباه في عالم أسطوري هداه إليه معلمه أداماس، وهو عالم زاخر بآلهة الإغريق وأبطالهم الذين أرخ لهم بلوتارك. وعثر على «ديوتيما» فوجد فيها مثال الجمال والحب والبراءة، بل وجد الروح الإلهي نفسه مجسما فيها. وتندلع نار الثورة فيهب البطل للكفاح مع الشعب المقهور لاسترداد حريته، ويشجعه صديقه «ألاباندا» ويقوي في نفسه الإيمان بالمستقبل السعيد. ولكن سرعان ما يخيب أمله في صديقه إذ يكتشف أنه عضو في جماعة سرية أفرادها أبعد ما يكونون عن تحقيق مثله وآماله. ويلجأ إلى جزيرة كالاوريا فيجد شفاءه في حبه لديوتيما الجميلة. وتدعوه الحبيبة لأداء واجبه نحو الوطن بعد رجوعه إلى صديقه القديم الذي يتأكد من نبله وتضحيته. وتقول له الحبيبة التي تشجعه على النضال في سبيل الحرية: «أنت الذي ستربي شعبنا.» وتفصل الثورة بين المحبين. وتذبل الحبيبة وتدفن حبها في صدرها قبل أن تدفنه معها في قبرها ... ويمضي هيبريون مع صديقه للكفاح في سبيل مملكة المثل الأعلى والحرية والجمال. وينتصر الثوار ويفتحون مدينة ميسيسترا أو إسبرطة القديمة. ويكتشف أن رفاق الثورة قد قتلوا ونهبوا ودمروا وأفسدوا بلا خلق أو ضمير. وتتبدد المثل في غبار المذبحة، وتسقط الأحلام الوردية تحت سنابك الخيل وجثث القتلى. ويعرف أن الفعل يلوث، وأن ساعة ميلاد الحياة الجديدة والإنسانية الجديد لم تدق بعد، وأن العصر الذي يعيش فيه لم يزل بعيدا عن «العصر الذهبي» الذي تزدهر فيه الحرية والوحدة والكرامة والجمال والسعادة. وينفض يده من الثورة والثوار. وينضم فترة من الزمن للأسطول الروسي الذي كان في حرب مع الأتراك ثم يهجر العمل فيه. ويبلغه نبأ وفاة حبيبته بعد صراعها مع المرض والحب اليائس، ويتحول في النهاية إلى التنسك في معبد الطبيعة، ويتجه إليها بكل كيانه، ويعانق الحياة الإلهية التي تطالعه في كل مظاهرها : «أنت أيتها الطبيعة .. هكذا فكرت في أمر إلهتك. لقد أفقت من حلم البشر، وأقول الآن أنت وحدك التي تحيين حقا، وكل ما افتعله المزعجون وتفننوا فيه يذوب كلآلئ الشمع في نار لهيبك ... إن الناس يسقطون كما تسقط عنك الثمار الفاسدة. دعيهم يسقطون وسوف يعودون إلى جذعك مرة ثانية، ودعيني يا شجرة الحياة أخضر على غصونك من جديد وأستنشق بعمق وسلام نسيم ذراك وفروعك وبراعمك النضرة، لأننا جميعا قد نمونا من البذرة الذهبية ...»
ومن الصعب أن نصور روعة اللوحات التي تصف الطبيعة في بلاد اليونان، أو رسائل الحب المتبادلة بين هيبريون وحبيبته ديوتيما، فهي نماذج خالدة في أدب الحب والمحبين. ويكفي أن نقرأ هذه العبارات التي تأتي في ختام الرواية معبرة عن رؤية الشاعر وفكره، شاهدة على السلام الذي استظل به في محنته، واطمأن إلى روحه الهادئ في أثناء حياته وبعد جنونه، وقوى في نفسه الأمل في الخلود والثقة في عودة الخالدين: «أيتها الروح! أيتها الروح! أنت يا جمال العالم! أيتها الصامدة! يا واهبة النشوة والبهجة والنعيم بشبابك الخالد! أنت حية وباقية، وما الموت وكل آلام البشر بالقياس إليك؟ آه! كثيرة هي الكلمات الجوفاء التي اخترعها هؤلاء المدهشون. فكل شيء يصدر عن الفرح وينتهي إلى السلام. وكل مظاهر الشذوذ والنشوز التي نراها في العالم أشبه بالخلافات التي تقع بين العشاق. إن الوفاء موجود في صميم الشقاق، وكل ما تفرق سيلتقي من جديد ...»
إن البطل الحقيقي في هذه الرواية هو الطبيعة المثالية التي تحاول أن تفرض نفسها على العالم كله، ولكنها تصاب بخيبة الأمل في الواقع فترجع إلى عالمها الباطن، أي إلى الفكر والشعر والحلم والانتصار. وهيبريون هو هلدرلين نفسه، بكل مثله وأشواقه إلى إنسانية أرقى وعصر أجمل، باتحاده بالطبيعة الإلهية مصدر كل أمومة وحياة، ودموعه التي لا تجف على ماض يتمنى لو يعود.
وقد كتبت الرواية بغير شك تحت تأثير «روسو» واتجاه الثقافة في ذلك الحين إلى «الباطن» وتربية الشخصية الفردية بالجمال والكمال. فقد كانت الشخصية هي أقصى سعادة ينالها أبناء الأرض كما عبر عن ذلك شيلر. وكان معظم الكتاب والشعراء يسجلون تجربتهم مع الحياة والحب والطبيعة والمجتمع على لسان بطل يتقلب بين النجاح والفشل والسعادة والشقاء .. وتوالت الروايات «التربوية» التي تتتبع حياة إنسان - شاب في أغلب الأحيان - في رحلته لمعرفة نفسه ومجتمعه وعالمه. ولذلك فإن «هيبريون» تعد حلقة في سلسلة هذه الروايات التي بدأها فيلاند بروايته «أجاتون» وكارل فيليب موريتس برواية «أنطون رايزر» وجوته برواية «فيلهلم ميستر» وجان باول «بهسبيروس» ونوفاليس بروايته التي لم تتم «هينريش فون أو فتردنجن»، وكلهم شباب يبحثون عن أنفسهم ومعنى وجودهم في الحب والفعل والحياة والمسرح والأدب والطبيعة.
أما مسرحية «موت أنبادوقليس» التي كتبها هلدرلين بين سنتي 1798م و1799م في مسرحية شعرية غنائية أو بالأحرى قصيدة درامية صاغها ثلاث مرات وظلت مع ذلك شذرة لم تتم.
ولم يقصد هلدرلين أن يضعها للمسرح، ولا يمكن أن نطبق عليها أصول المسرح وقواعده كما تصورها كتاب مثل لسينج، بل يجب أن ننظر إليها على أنها قصة نفس وحيدة في صراعها الباطن مع قدرها وأقدار عالية غير منظورة، بعيدا عن ضجيج الحياة اليومية وكل ما يأتي من العالم الخارجي. ولذلك فهي أبعد ما تكون عن دراما الحدث والمشاهد المتنوعة والمصائر والشخصيات والانفعالات المتطرفة كما نجدها مثلا عند شكسبير. وإذا بحثنا لها عن مكان في سياق التطور المسرحي فليكن مكانها مع الدراما النفسية بين مسرحيات سوفوكليس وراسين وجوته. لقد حاول هلدرلين أن يعبر فيها عن مرارة الإخفاق الذي أحسه شاعر أراد أن يبشر بعالم مثالي وتم له ما أراد، ولكن لم يفهمه أحد في عصره واضطهده مواطنوه وطردوه من مدينته.
صور هلدرلين تجربته الشخصية والشعرية في صورة ذلك الفيلسوف الطبيعي القديم الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد في مدينة أجريجنت عاصمة جزيرة صقلية، وروى عنه أنه اختار الموت بإلقاء نفسه في فوهة بركان إتنا . وهو شخصية عجيبة اختلط فيها الواقع التاريخي بالأسطورة والخرافة. كان فيما يروى عنه شاعرا وفيلسوفا وكاهنا وسياسيا وخطيبا وطبيبا وساحرا، كما كان مصلحا دعا إلى ديانة روحانية تكون أساسا لنظام الحكم والحياة. ويذكر عنه في تاريخ الفلسفة والعلم أنه قال بقوة الحب التي تؤلف بين أجزاء العالم، والعلاقة الحميمية التي تجمع الكائنات ونوع من تقمص الأرواح. وكلها آراء شديدة القرب من روح هلدرلين الذي جذبته شخصية هذا الفيلسوف العجيب .. ويقال أيضا إنه نشأ في أسرة نبيلة في مدينة أجريجنت وشارك في سقوط النظام الأرستقراطي الذي تولى الحكم لفترة قصيرة ثم أصبح زعيم الحزب الديمقراطي المنتصر، ورفض التاج الذي قدمه له أهالي صقلية، ثم اضطره خصومه بعد ذلك إلى مغادرة وطنه.
وجد هلدرلين في شخصية أنبادوقليس الرمز الحي المعبر عن رسالته التي شعر أنه مدعو لتبليغها. فهو شاعر وفيلسوف وساحر استطاع أن يسيطر على قوى الطبيعة ويكتشف أسرارها، وهو قائد متكبر شامخ أراد أن يصلح الأحوال في مدينته ويخلص أهلها من عبودية الكهنوت والتقاليد، ويهديهم إلى الاتحاد بالروح الإلهي الماثل في كل مظاهر الكون فرفضته المدينة وطاردته نظمها المستقرة واتهمه الكهنة بالغرور، وإذاعة أسرار الآلهة والتشبه بها ...
ويبدو أن هلدرلين كان يفكر في كتابة مسرحية عن سقراط وموته الذي اختاره بإرادته عندما جذبته شخصية أنبادوقليس بغموضها وسحرها وكبريائها وتضحيتها وزهدها. ويبدو أيضا أنه شغل بهذه المسرحية أثناء كتابة روايته هيبريون التي نقرأ فيها هذه السطور «بالأمس كنت هناك فوق بركان «إتنا» وخطر الصقلي العظيم على بالي، ذلك الذي سئم عد الساعات ودفعته صلته الحميمة بروح العالم وفرحته الجسورة بالحياة إلى إلقاء نفسه في اللهب الرائع ...»
والواقع أن البطل في الرواية والمسرحية شاعر، وكلاهما تسري فيه نغمة واحدة هي نغمة الشوق إلى الحياة والفعل والموت. وكلاهما ممزق بين المثال والواقع، واللامتناهي والمتناهي في طبيعته، والإحساس بشمول الوجود وتجانسه وشعوره بأنه «يحيا مع كل حي» والضرورة التي تدفعه للضياع والتشتت بين أفعال جزئية مخيبة للآمال. ويظل البطل الشاعر يصارع هذا التمزق حتى يدفعه الشوق للاتحاد بالطبيعة إلى الموت بإرادته ليرجع إلى هذه الطبيعة التي هي الأم والمنبع والأصل. وهكذا يقدم روحه وجسده قربانا للروح الإلهي الماثل في الكون، وكأنه مسيح وثني قديم أراد أن يكفر عن ذنوب الإغريق الذين أساءوا فهمه وسخروا منه وشهروا به وطردوه من مدينتهم. لقد أدرك أنبادوقليس كما أدرك هلدرلين أنه «لا بد أن يذهب من تكلمت الروح من خلاله»، وأن «الإلهي» لا بد أن يسقط بين البشر، لأن الإلهيين وحدهم هم القادرون على الإحساس به، ولأن هذا هو قدر الشاعر والبطل الملهم على أرض فقدت نعمة السماء ووسط أناس غاب عنهم نورها. ولذلك سلم الشاعران بهذا القدر، فسقط أنبادوقليس في جحيم البركان كما تسقط الفراشة في لهيب الشمعة، وغاص هلدرلين في ليل الجنون في صمت وكبرياء وهدوء ...
كان من نصيب هلدرلين أن يكون شاعرا عظيما ومنسيا في وقت واحد. لقد ظل مجهولا أو شبه مجهول حتى أوائل هذا القرن، عندما اكتشفه الباحثون قبل الحرب العالمية الأولى بقليل. وظل الناس يرددون الحديث عن مرضه وجنونه واكتئابه حتى التفتوا إلى قيمة شعره، وتوالت الدراسات عن عبقريته، ورأى البعض أنه مثال الشاعر «النبي» و«العراف» ومنشد الشعب ورسوله الملهم. وتحمس له الأدباء والنقاد من مختلف المدارس والاتجاهات ابتداء من الرومانتيكيين الذين أساءوا فهمه وتصوروا أن مأساة حياته وعذابه وجنونه تجعله واحدا منهم، حتى «هيدجر» فيلسوف الوجود المعاصر الذي أسرف في حبه واستخرج من أشعاره ما يؤيد فلسفته وسماه «شاعر الشاعر» والمعبر عن ماهيته وحقيقته الخالدة ... وتأثر به المتشائمون من أمثال نيتشه وليوباردي وشوبنهور، وذهب بعض المحدثين من أبناء وطنه إلى القول إنه أعظم عبقري نطق بلغتهم، ووصفوه بأنه نبي الأمة - وضحيتها في آن واحد - ومجدد الروح ورائد شعراء المستقبل.
ومهما يكن الرأي في هذه الأحكام فليس هناك شك في أن هلدرلين واحد من أعظم الشعراء في كل اللغات والعصور، وأنه جدير بالقراءة والفهم والحب. وليس هذا الكتاب إلا محاولة متواضعة لتأكيد بعض معاني الحب والتعاطف والإجلال التي يجب أن نوقظها في أنفسنا ونحن نواجه هذا الشعر وكل شعر أو فن عظيم.
احتفل العالم في شهر مارس سنة 1970م بذكرى مرور مائتي عام على ميلاد هلدرلين، كما احتفل في نفس الوقت بذكرى هيجل وبيتهوفن اللذين ولدا في نفس العام. وقد أردت بهذا الكتاب أن يكون محاولة متواضعة للوفاء بهذه الذكرى، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه للاتصال بروح الشعر الخالص، والقرب من نبعه النقي الأصيل، والالتزام برسالته ومسئوليته .. كما أردت في نفس الوقت أن يكون محاولة لتذكير شعرائنا برسالة الشعر والشاعر بالمعنى الخالد الذي فهمه القدماء من هذه الكلمة عندما نظروا إليه نظرتهم إلى العراف الملهم والمتنبئ والمبشر والنذير ورائد القوم وموقظهم من غفلة النعاس والضلال. وأول ما نتعلمه من هذا الشاعر أن الشعر الحقيقي فوق كل طموح إلى الشهرة والمنفعة، وأنه لا يعطي شيئا إلا لمن يعطيه كل شيء.
وأردت من الكتاب أيضا أن يكون تمهيدا لقراءة هذا الشاعر العسير؛ ولذلك أكثرت من النصوص بقدر الإمكان، وتناولت حياته وتجاربه من خلال شعره في مراحل تطوره المختلفة. ومع أنني لا أميل إلى الربط بين حياة الشاعر أو المفكر وإنتاجه، وأفضل العناية بالنص والتوفر على دراسته، فقد اضطررت إلى الخروج قليلا عن هذا المنهج، لأن هلدرلين من الشعراء القلائل الذين اتحدت حياتهم وفنهم على نحو يجعل من الصعب التمييز بينهما، بل يجعل من المستحيل الحديث عنهما، كأن الحياة شيء والفن شيء آخر. وكل ما أرجوه أن يخرج القارئ من هذا الكتاب بأن هذا الكلام ليس من باب الإنشاء ولا التحمس العاطفي.
ولم أقصد أيضا أن يكون الكتاب «بحثا» في شعر هلدرلين أو ظروف حياته بالمعنى المفهوم من تلك الكلمة. ورأيي في هذا بسيط، ففي ظني أننا لم نصل بعد إلى مرحلة البحث المتخصص الدقيق في إنتاج الأدباء والمفكرين الذين لا نكاد نعرف عنهم شيئا؛ إذ ينبغي علينا قبل ذلك أن نقرأ لهم ونترجم عنهم ونحاول أن نحبهم ونتعاطف معهم ونتعرف إلى إنتاجهم بقدر ما نستطيع .. وعسى أن تنجح هذه الصفحات في التعريف بهلدرلين أو تشجيع القارئ على قراءته والتعاطف معه والتعلم منه.
وأخيرا فقد اعتمدت على طبعة أعمال هلدرلين الكاملة التي صدرت عن دار النشر «إنزل» وعني بتحقيقها وترتيبها الأستاذ فريدريش بيسنر، كما اعتمدت اعتمادا كبيرا على كتاب الأستاذ ألريش هويسرمان عن حياة هلدرلين الذي ظهر في سلسلة «روفولت» التي قامت بنشره في سلسلة الكتب التي تصدرها عن أعلام الأدب والفن والفكر من مختلف البلاد والعصور بأقلام المتخصصين، مع عدد كبير من الصور والوثائق المتصلة بحياتهم وإنتاجهم .. وأحب أن أسجل اعترافي بفضل هذا الكتاب القيم علي؛ فقد سرت على نفس الخط الذي سار عليه، واهتديت به في كل ما قرأت لهلدرلين أو قرأته عنه في المراجع الأخرى التي استطعت التوصل إليها، وهي قليلة جدا إذا قيست بالمكتبة الضخمة التي صدرت عنه. ومن هذه المراجع كتاب فيلسوف العلوم الإنسانية «فيلهلم دلتاي» عن التجربة والشعر، وبه فصل قيم عن هلدرلين، وكتاب «هلدرلين، كتاب مطالعة لعصرنا» وقد صدر عن دار الشعب في فيمار ضمن السلسلة المعروفة بهذا الاسم وأشرف على نشره والتقديم له وشرح الكلمات والاصطلاحات الكلاسيكية فيه الأستاذان تيلي بيرجر ورودلف ليونهارد، إلى جانب تاريخ الأدب الألماني للأستاذ فريتز مارتيني، وروح عصر جوته للأستاذ كورف، والروح اليونانية وعصر جوته لأستاذي المرحوم فالترريم. وأود أن أنوه بالترجمة الإنجليزية الممتازة لعدد كبير من قصائد هلدرلين في مراحل تطوره المختلفة؛ وهي الترجمة النثرية الدقيقة التي قام بها الأستاذ «ميخائيل هامبورجر» ومهد لها بمقدمة قيمة عن حياة هلدرلين وشعره وظهرت سنة 1961م في سلسلة «بنجوين» المشهورة .. وقد استفدت منها فائدة لا تقدر في فهم كثير من غوامض النص الأصلي، وبخاصة في القصائد الكبرى المتأخرة مثل خبز ونبيذ، وباطموس والوحيد، والاحتفال بالربيع، وذكرى، وغيرها من القصائد التي ستجد مقتطفات منها على صفحات الكتاب، أو تجدها مع النصوص الكاملة التي انتقيتها لك. أما عن الترجمة فقد التزمت الدقة والإخلاص لروح النص وكلماته بقدر ما استطعت. ولست أدري هل أعتذر عن بعض الأبيات التي جاءت موزونة في سياق الكتاب، ومن بينها قصيدة كاملة فرضت نفسها فرضا، أم يغتفر لي الشعراء هذا التطفل غير المقصود .. ولكني أحب أن أطمئن القارئ إلى أنني توخيت الأمانة التامة في نقلها، ووضعت بين قوسين كل كلمة اضطررت لزيادتها سواء في هذه الأبيات أو ما عداها من النصوص، توضيحا للمعنى أو مراعاة لمقتضيات الأسلوب العربي.
ولا بد من الاعتراف أخيرا بأنني شغلت بهذا الكتاب في فترة أصبت فيها باليأس وخيبة الأمل في الحياة والناس. ولست أريد أن أشغل القارئ بحياتي الشخصية التي لا تهم أحدا، ولا أريد أيضا أن ألوم هلدرلين أو أحمله مسئولية هذه الكآبة التي تشع من حياته وأعماله، وإنما أسجل تجربة عشتها معه حتى كدت أن أتقمص روحه النقية الحزينة .. وأنا أعلم أن هذا شيء مكروه في الدراسات العلمية والموضوعية. ولكن عذري الوحيد أنني قصدت من الكتاب أن يكون تمهيدا متواضعا لقراءة هذا الشاعر الوحيد.
القاهرة في سبتمبر 1971م
عبد الغفار مكاوي
هلدرلين
الوطن
«وسأبقى ابنا للأرض، للحب خلقت وللألم.»
يقول سيد شعراء الألمان «جوته» في مقدمة دراساته وتعليقاته على ديوانه الشرقي: «من أراد أن يفهم الشاعر فليذهب إلى وطن الشاعر.» فكيف يبدو وطن شاعرهم العبقري المسكين هلدرلين؟ وكيف أثرت عليه طبيعة هذا الوطن، وسماؤه الصافية، وتلاله الوديعة، وغاباته الغامضة، وأنهاره الهادئة الحنون؟
لكلمة الوطن عند هلدرلين سحرها الغريب. فليس أرضا تقيدها الجمارك والحدود والحكومات، بل هو قوة وسر وحياة .. الفراق عنه وداع أسطوري، والعودة إليه عيد بهيج. هو الأرض التي يمشي فيها وحيدا، والحقل الذي تنمو فيه الكلمة «زهرة الفم»
1
كالزنبقة البرية، نقية وأبية، خشنة وبسيطة وبريئة من الخوف:
وما ينبغي لأحد
أن يلومني على جمال اللغة،
لغة الوطن،
كلما سرت، وأنا الغريب الوحيد،
إلى الحقل الذي تنمو فيه
الزنبقة البرية،
بلا خوف ...
2
والوطن كذلك مملكة مسحورة، أنغامه وعطوره لا تبارح ذاكرة الطفل. فإذا ما صحت صحا الوطن كله في خياله كأنما مسته عصا سحرية:
وأشواك الورد
والزيزفون الحلو يتضوع بالأريج ...
وهواء الوطن ليس كمثله هواء. إنه نسيم يهب من النهر الذي نشأ على ضفته، ويرف من جبال الألب التي تشرف عليه. ونهر الوطن هو صاحبه الوحيد ورفيق صباه وألعاب طفولته. ها هو ذا يخاطبه في أغنيته عن نهر «النيكار»:
3
في وديانك صحا قلبي على الحياة،
أمواجك لاعبتني،
وكل التلال الحبيبة التي تعرفك - أنت أيها المسافر الوحيد -
ليس بينها من هو غريب عنك.
فوق ذراها كان نسيم السماء
يحررني كثيرا من آلام العبودية،
ومن الوادي، كالحياة من كأس الفرح،
كانت تلمع الموجة الفضية الزرقاء.
ينابيع النهر كانت تسرع هابطة إليك،
ومعها قلبي أيضا، وأنت أخذتها معك،
إلى «الراين» الساكن المجيد؛
إلى مدنه وجزره المرحة.
والمدينة التي ولد فيها الشاعر بقعة مقدسة، يحج إليها بالكلمة في تقوى وخشوع:
مقدس عندي هو المكان، على الضفتين، وكذلك الصخر
الذي يرتفع مخضرا من بين الأمواج مع البيت والبستان.
هناك تلاقينا، آه أيها النور الحنون!
حيث أصابني لأول مرة أحد أشعتك
التي تلمس الفؤاد في الصميم.
قرية لاوفن على نهر النيكار (حفر يرجع لسنة 1800م).
في بلدة «لاوفن» الصغيرة، على ضفة نهر النيكار في منطقة «شفابن»، وفي دير قديم يسميه الفلاحون هناك «القرية الصغيرة»، ولد هلدرلين في العشرين من شهر مارس سنة 1770م ...
هناك كان وطنه المقدس الحبيب ...
عرف هلدرلين الوطن، وأحبه واشتاق دائما للرجوع إليه. ومع هذا فلم يعرف (قبل أن يصيبه الجنون على الأقل) مكانا يستريح إليه أو يقيم فيه. فهو دائما الغريب والمتجول الوحيد. لهذا تحمل كلماته التي يثني فيها على الوطن نغمة الكآبة والأنين. لقد أحب الوطن وصبر على الجراح العميقة من أجله وأعطاه كل ما يستطيع الإنسان أن يعطيه من قلبه وضميره. وظل هذا الوطن بالنسبة إليه عالما يفوح بالعطر ويموج بالسحر وترفرف عليه أجنحة الأساطير وأرواح الخالدين والأبطال. ولكنه لم يجد «البيت» الذي يهدأ تحت سقفه، ويشعر بالاطمئنان أمام موقده. شاء له القدر أن يبقى غريبا، قلقا، لا يكاد يستريح إلى مكان حتى يهجره إلى غيره. هو دائما التائه الذي يتردد نداؤه: إلى أين؟ وهو الغريب بلا وطن ولا سكن. يفتقد السعادة والزوجة والدفء والأمان. يفتقد الأرض الراسخة تحت قدميه. وتتكرر في شعره صورة الغريب الذي قدر عليه أن يقضي حياته بلا جذور، ويطارد كالوحش الجريح الذي لا يجد ظلا يأوي إليه ولا نبعا يبل فيه جراحه. وهو لهذا يتحسر على الحياة البعيدة كالحلم:
سعيد من يحب زوجته الطيبة في هدوء،
ويحيا أمام موقده في الوطن المجيد،
على أرض ثابتة تشع السماء
للرجل المطمئن بضوء جميل.
لأن روح المخلوق الفاني،
الذي يتجول مع ضوء النهار وحيدا
مسكينا فوق الأرض المقدسة؛
تنطفئ وتخبو
إن لم تمد جذورها في الأرض كالنبات.
هو المتجول الوحيد المسكين، يشعر أن روحه تنطفئ وتخبو، وأنه مهما تغنى بالأرض والوطن فسيبقى بلا وطن ولا بيت ولا حب. أكان هذا إحساسا منه بأن جذوة العقل ستنطفئ بعد توهج؟ أكان تنبؤا منه بليل الجنون الذي سيحاصره نصف حياته على الأرض؟
والكنز المقدس الذي يحمله الغريب في صدره ويحرص عليه ويرعاه هو كنز العذاب. والعذاب هدية السماء لكل من يجسر على اقتحام مملكة الشعر والحب. وجرح الحب المحروم يدمي قلبه ويبدد راحته، ويشرده في الآفاق، ينفي عنه الاطمئنان لشيء أو التعلق بإنسان. فإذا عاد يوما إلى وطنه أحس لأيام أو شهور قليلة كأنه يعود لنفسه. وإذا أبصر ضفاف نهره الغالي شعر من جديد بأنه «عذابه المقدس ممتد بلا ضفاف»:
مرحا يعود الملاح إلى وطنه على النهر الهادئ
من الجزر النائية حيث كان يجمع الحصاد،
هكذا كنت أعود لوطني.
لو أنني حصدت من الخيرات مثل ما حصدت من عذاب
أيتها الضفاف الغالية التي نمتني ذات يوم،
أتراك تسكنين عذاب الحب،
أتراك يا غابات شبابي
تعدينني بالهدوء لو رجعت من جديد؟
ثم يناجي الجدول الرطب، والنهر الذي يهدهد السفن كالأم التي تهدهد أطفالها في المهد، والجبال الحبيبة التي رعته ذات يوم، والأم والأشقاء الذين سيعانقونه ويقبلونه ويشفون قلبه. ثم يعود فيقول إنه يعلم أن عذاب قلبه ليس له شفاء، وأنه سيظل محروما من أغنية المهد التي يترنم بها الفانون للعزاء:
لأن الآلهة التي تعيرنا النار السماوية
تنعم كذلك علينا بالعذاب المقدس،
لذلك سأبقى ابنا للأرض،
خلق للحب والعذاب.
هكذا يصبح الوطن هو الأم التي تغني أغنية المهد، فتربي وترعى وتعانق وتشفي من الداء. وتكتسب الأم البعيدة كل ما في الأسطورة من عمق وسكون وجلال. بيد أنه يعلم أنه في صميم قلبه مطارد غريب، لا تستطيع أغنية المهد أن تعزيه عن حزنه ولا الأنغام أن تسكن ألمه ... إن حبه مطلق وبغير حدود. ومتى عرف الحب الحقيقي شفاء أو عزاء؟!
وشخص الشاعر يتوارى خلف هذه القوى الأسطورية (ومنها الوطن) التي يهديها أغنيته. وهو يكتم قدره أو يظهره في بعض الأحيان على استحياء. إنه فرح بلقاء الوطن والأم والبيت وأشجار الغابة، فرح بالشمس والنور في العيون، والوفاء في الأصوات والصدور، وطائر السلام الذي يرفرف على الذكريات القديمة. وهو من فرحته يتحول إلى طفل بريء طائش: «أتكلم في طيش. إنه الفرح!».
4
هذه النغمة البريئة الطاهرة، هذا الصوت البعيد عن جفاف العقل وإسراف العاطفة، هذا النقاء والصفاء هو أهم ما يميز شعر هلدرلين وحياته.
كان وهو صبي صغير يرى أمه كل يوم في ملابس الحداد، تذرف الدموع على أبيه الذي مات وهو صغير. ولم تفارقه الكآبة أبدا بعد ذلك، لم يفارقه الجد والعبوس، لم يفارقه العذاب: «الحياة تتغذى بالعذاب ...»
إنه يرى نفسه في مرآة أمه الحزينة. يعرف أن حزنها من حزنه، وحدادها من حداده، وأساها من أساه. بل إن الشفقة لتأخذه عليها فينصحها ألا تفنى في الألم ولا تستسلم له: «كوني أكثر مرحا يا أمي الحبيبة ...»
لكنه هو نفسه كان يفنى في الألم والعذاب كل الفناء. يكفي أن نقرأ هذه السطور من روايته الوحيدة «هيبريون» لنعرف مدى عمق جراحه: «أجل .. أجل! إن الألم جدير بأن يرقد على قلوب البشر ويكون أليفك، يا أيتها الطبيعة .. لأنه هو وحده الذي يقودنا من بهجة إلى بهجة، وليس لنا من رفيق سواه ...»
لكنه مع هذا حزن صابر، ساكن، مطمئن على صدر الإيمان، وجد حقيقته الأخيرة في الكلمة الخالدة التي قالها من قبل أوديب : «كل شيء حسن .. طيبة كل الأشياء.»
5
وهو حزن من لا يملك أن يخفف من أحزان غيره. فقد كانت أمه التقية الهادئة دائمة الاكتئاب، حتى بعد زواجها الثاني من عمدة مدينة نورتنجن المجاورة . وما أكثر ما فعل هلدرلين مرضاة لخاطرها! وما أكثر ما احتمل من آلام لكيلا يخيب أملها فيه أو يزيدها حزنا على حزن! وفي إنتاج كل أديب، بل في حياة كل رجل، بصمات لا تنكر من أمه. لكن الأم الحزينة تصبح بلمسة الفن صورة وشكلا وكيانا أسطوريا. إنها تتحول في يد الشاعر فتصبح هي الأرض والطبيعة والسماء. وتذوب تجربة الأمومة في تجربة الأرض والطبيعة، بحيث تصبح الأرض والطبيعة هي جسد الأم الحي. وتكتسب الأبيات التي يقولها عن الأرض الأم وشاحها الأسطوري الذي يكسو كل شعره ويلفه برداء السر والجلال. ويصبح الشاعر هو الكاهن الذي يقدم فروض العبادة للأم؛ يقدمها على استحياء، لأنه يقترب من صورتها كأنما يقترب من سر الغابة الأزلية:
مع ذلك، يا أيتها السماوية، مع ذلك
أريد أن أحتفي بك وما ينبغي لأحد
أن يلومني - وأنا الغريب - على جمال العبارة،
جمالها (المستمد) من الوطن،
لأنك نائية، خفية أنت،
في قبو الغابة الأزلية ...
الطفل والصبي
«رباني نغم يهمس في البرية، وتعلمت الحب، بين الأزهار.»
ذلك لأن أب الأرض يفرح أيضا
بأن الأطفال موجودون،
بهذا يبقى يقين الخير.
1
للطفل في قلب هلدرلين وشعره ونثره حب غريب وعميق. هو الزهرة التي تمد الجذور وتنشر العطور. هو الصورة الحية للأمل، واليقين المرئي للخير. هو الذي ينطوي على سر الأصل والمبدأ. فما أكثر ما يتجلى أعظم الكائنات في أصغرها! «إن أول صور الوحدة التي نحتفظ بها في عقولنا تظهر لنا من جديد في خلجات قلوبنا المسالمة وتعبر عن نفسها في وجه الطفل ...»
والطفل خالد:
إنه بكليته على طبيعته، ولهذا فهو جميل.
إن قهر القانون والقدر لا يلمسه،
الحرية في الطفل وحده،
فيه السلام، وهو لم ينشق على نفسه بعد.
2
الغنى كامن فيه، فؤاده لا يدري شيئا عن ضنك الحياة.
إنه خالد، لأنه لا يعرف شيئا عن الموت.
وليس في هذه الفكرة رجوع بالعاطفة إلى الوراء، بل فيها معرفة بحقيقة الطفولة التي تنمو مع الإنسان، وتعيش في أعماقه بعيدا عن الوعي والشعور. إنها تظهر فجأة عندما يتم اللقاء بين الإنسان والآلهة:
فهكذا تكون زيارة السماويين،
يسعى إليهم الأطفال،
تأتي السعادة مشرقة، تعشى الأعين.
وتشتد جسارة هذه الفكرة التي يأباها المنطق ولكن يقبلها الوجدان عندما يعود إليها الشاعر ليصف طفلا نائما؛ وما أكثر ما أحب هذه الصورة من كل قلبه:
بلا قدر يتنفس السماويون،
أشبه بالرضيع النائم،
أعفاء باقين
في البرعم الطيب،
تزدهر روحهم
إلى الأبد.
3
وترجع الصورة مرة أخرى في أنشودة تقية يتجه بها إلى العذراء:
وعندما يتفكر أحد بالمستقبل في الليلة المقدسة،
ويحمل هم الذين ينامون بلا هموم،
من أجل الأطفال المزدهرين؛
تأتين أنت باسمة، وتسألين
مم يخاف وأنت الملكة؟
4
لكن الحياة الإلهية لا تلف الأطفال في النوم وحده، بل تنسكب عليهم كذلك في اليقظة. انظر معي هذه الصورة التي يرسمها الشاعر في ختام روايته «هيبريون»: «أبصرت من عهد قريب صبيا راقدا على جانب الطريق. كانت الأم التي تسهر عليه قد نشرت فوقه بعناية وحنان غطاء يتيح له النوم في الظل ويقيه ضوء الشمس. غير أن الطفل لم يشأ أن يخلد للسكون فأزاح عنه الغطاء، ورأيته وهو يحاول النظر إلى الضوء الودود، ويعود للمحاولة مرة بعد مرة حتى آلمته عيناه وأطرق بوجهه إلى الأرض باكيا ...
قلت لنفسي: يا للولد المسكين! .. ليس غيره بأفضل منه، وكدت أنفض يدي من هذا التطفل الجريء، لكني لم أستطع، لم أجد أن ذلك يليق بي .. لا بد أن يخرج هذا السر العظيم، الذي تعطيني الحياة إياه أو يعطينيه الموت ...»
والصورة دقيقة مرسومة بعناية. جمع الشاعر في ملامحها كل الخطوط والألوان التي يرسم بها القدر وجه الطفل، فيصبح أسطورة يتغنى بها الشاعر في أناشيده. إن الأم تريد أن تنشر الغطاء على الطفل، تريد أن تحميه من وهج النور، لكن الطفل نفسه جزء من هذا النور؛ ولذلك فلا بد أن يحاول لقاءه، ولا بد أن يحييه ويبتسم له مهما آذى عينيه.
لنتجه الآن إلى طفولة هلدرلين وصباه. وسيدهشنا كل هذا النقاء، كل هذه البراءة التي ستحدد موقفه من الوجود، وتطبع تجربته المؤمنة الورعة الفياضة بالطاعة والاستسلام. ها هي ذي أبيات من قصيدة كتبها في السادسة عشرة من عمره، وكان يجلس مع صديق له يدعى كارل على شاطئ نهر «النيكار» ويعاين القداسة الماثلة في الطبيعة ويحس رجفتها في صدره:
يا كارل الطيب .. في تلك الأيام الجميلة
كنت أجلس معك على شاطئ النيكار.
كنا نشعر بالفرح ونحن نرى الموجة تلطم الشاطئ،
ونحفر الجداول في الرمال.
ثم وقفت أخيرا. كان النهر يجري
في بريق المساء .. إحساس مقدس
سرت رجفته في قلبي، وفجأة عزفت عن المزاح،
فجأة نهضت جادا وانصرفت عن لعب الصبا.
همست وأنا أرتجف: نريد أن نصلي.
ركعنا في خجل بين الأوراق والأشجار.
كان النقاء، كانت البراءة هي ما نطقت به قلوبنا الصبية ...
يا إلهي الرحيم .. كم كانت تلك الساعة رائعة الجمال!
كم هتف الصوت الهامس بك: يا أبانا!
وكم تعانق الصبيان ومدا الأيدي نحو السماء!
وكم احترق قلباهما وهما يقسمان على العودة للصلاة!
هلدرلين في الثامنة عشرة من عمره.
كل شيء في هذه القصيدة الساذجة الحلوة يشهد بعاطفة الإيمان الصادقة؛ الرعشة الإلهية التي تعرو الصبي، الانصراف عن لهو الصبا وألعابه إلى منبع الوجود وسره، عهد الوفاء للقسم المقدس وإخلاص النية من القلب الخاشع والنظرة التقية. وكلمات تتردد هنا في حياء لتعلن عن نفسها بعد ذلك في قصائده الكبرى: الجد والقداسة والحياء والنقاء والبراءة. والقلم الموهوب القادر على إضفاء اللون البارز على اللوحة كلها بعبارة واحدة:
كان النهر يجري
في بريق المساء.
عبارة تطلق الإحساس كله كما يطلق البرق الخاطف شرارات اللهب. لم يتعلمها الصبي من الكنيسة ولا من كتب الدين، بل تعلمها من اللقاء المباشر مع النور والنهر والعالم، فنطقت بها لغة القلب لا لغة الناس: «كان النقاء، كانت البراءة هي التي نطقت بها قلوبنا الصبية ...»
وهنا تكمن بذرة الخلاف العميق الذي أحسه هلدرلين طوال حياته مع الدين التقليدي في عصره، والصراع الذي عاناه من الكنيسة التي أرادت أن يؤمن بالوصايا والقوانين، في الوقت الذي راح يستمد فيه إيمانه بالله من لقائه مع الأرض والنور والزهرة والنسيم.
ويكفي أن نستمع إلى أغنية أنشدها الصبي في عيد السلام ...
إنه يصغي في يوم الراحة لسكون الزهور وخرير الجداول والينابيع. من بعيد يتردد صوت الجوقة من حناجر «الكبار» وهم يرتلون نشيد الصلاة في الكنيسة .. كان هذا النشيد يهدئ همومه وشكوكه. ومع ذلك فقد ظل فيه شيء غامض لم يستطع أن يفهمه أبدا ... لقد دخل الطفل بعد ذلك إلى الكنيسة، وأصبح قدره في أيدي الكهنة والقساوسة، وبقي سؤاله الحائر الأليم يتردد: «لماذا؟» .. لماذا كتب عليه أن يغشى الظلام عينيه ويسد الطريق على النظرة الحرة؟ لماذا قدر عليه أن يحرم من أفراح الأرض والسماء كأنما صارت الفرحة بمعجزاتهما إثما من الآثام؟ أليست روح الله كامنة في التحول الدائم والصيرورة التي لا يتوقف نهرها عن الجريان؟ ألا تتدفق من الينابيع الحية وتزدهر في الأزهار الساكنة؟ أمن الضروري أن تقيده الكنيسة والتقاليد في حين نجد الإيمان يهفو إليه بالحرية والحياة في الجداول والوردة والنور؟ لن يسكت هذا السؤال المعذب الذي نطق به الصبي في يوم عيد:
نحن أيضا قد عرفنا البهجة ذات يوم،
في ساعة الصباح عندما كانت «الورشة» هادئة
يوم العيد والزهور ساكنة،
كانت هي أيضا أنضر جمالا،
والينابيع الحية تدفقت مشرقة
5 ...
غير أنه يسمع صوت الجوقة المخيف يأتيه من بعيد .. إنه صوت المصلين في كنيسة القرية .. كان هذا الصوت في الماضي أشبه بالنبيذ المقدس. وكانت الكلمات الحبلى بالأسرار أقدم عهدا وأشد قوة، تنحدر من السماوات وتنمو في الصيف. وكانت تهدئ همومه وآلامه .. لكنه لا يدري ما الذي جرى له وجعل الشك يطبق عليه وهو الذي لم يكد يولد بعد:
لماذا نشرتم ليلا على عيني،
فلم أستطع أن أرى الأرض،
واستعصى علي أن أتنفسك
أيتها الأنسام الإلهية؟
6
وتعود النغمة الحزينة في أغنية أخرى (لعله أراد في البداية أن يضعها في روايته هيبريون ثم عدل عن رغبته). إن سطورها الأولى ترجع بنا إلى صباه، وتصور لنا صراخ البشر ورنين سياطهم من ناحية، كما ترسم لنا من ناحية أخرى صورة الطفل الذي يلعب في سلام مع الأزهار والأنسام، ويهب الإله لنجدته وينقذه من أيدي البشر ومما في أيديهم:
عندما كنت صبيا،
كان كثيرا ما ينقذني إله
من صرخات البشر وسياطهم،
هنالك كنت ألعب في طهر وأمان
مع أزهار البرية،
ونسمات السماء
كانت تلعب معي.
7
والشاعر يستعير لهذا اللعب الطيب الغني بالنعمة والخير صورة شعرية ساحرة يحن لها ويلجأ إليها في حب وشغف، صورة النبات الذي يمد ذراعيه للشمس:
وكما تفرح
قلوب النباتات،
عندما تمد إليك
أذرعها الرقيقة،
كذلك أفرحت قلبي
أيها الأب هليوس.
8
وكمثل أنديميون،
9
أصبحت حبيبك
أيها القمر المقدس.
إن الشاعر يستمد صوره بطبيعة الحال من كنز الأساطير اليونانية الذي لا يفنى. فالأب هو هليوس (الشمس)، وهو نفسه شبيه بأنديميون؛ ذلك الفتى الجميل الذي أنعم عليه زيوس كبير الآلهة بالنعاس الحلو والشباب الخالد وأمر القمر أن يزوره كل ليلة. والصبي غارق في هذا الحلم السعيد، كالزهرة الملفوفة في نومها العذب، المتفتحة مع ذلك لأفراح الشمس والقمر والآلهة.
ثم تنتهي هذه المقدمة الراقصة وتبلغ الأغنية ذروتها الأولى حين يقول الشاعر:
آه. أنتم أيتها الآلهة
الأوفياء الودودون.
ليتكم تعلمون
كم أحبتكم روحي!
من الروح الحيية الوديعة ينطلق هذا الاعتراف. لكنها لا تلبث أن تحول نظرها عن هذه الذروة العالية التي تحيط بها هالة السكون الإلهي العميق إلى منطقة بشرية يسودها العقل البارد الجاد:
صحيح أنني لم أكن في ذلك الحين
أناديكم بأسمائكم، وأنتم أيضا
لم تنادوني أبدا باسمي،
كما يتنادى البشر
وكأنهم يعرف بعضهم بعضا.
إلا أن هذه المعرفة العاقلة تخفي وراءها معرفة أليمة بالناس، وخيبة أمل في البشر. وتصل القصيدة إلى ذروتها الثانية حين تقول:
ومع ذلك فقد عرفتكم
بأفضل مما عرفت البشر.
فهمت سكون الأثير،
لكن لم أفهم أبدا كلمات الناس.
ومع ذلك فهناك عزاء عن هذا الألم القاسي، يجده الشاعر الوحيد عندما يتجه إلى السماء بحثا عن الخلاص، وعندما تلعب معه الأنسام ويسعده النور، كما يجده في أنغام الرياح الهامسة لأشجار البرية، وفي الأزهار التي علمته الحب:
رباني نغم
يهمس في البرية
وتعلمت الحب
بين الأزهار
إنه يتعلم من سكون الأثير ما يغنيه عن تعليم البشر، ويؤمن بأن التربية الحقيقية تأتي من الإنصات الخاشع لصوت البرية، وأن الطاعة الحقيقية لا تكون إلا لقوة تتنزل من أعلى. في هذا السكون ينمو الحنان. ويزدهر الحب، وتصبح الطبيعة هي المدرسة الخالدة. وليس عجيبا بعد هذا أن تنتهي القصيدة البسيطة المتواضعة نهاية كلها اعتزاز وكبرياء:
بين ذراعي الآلهة نموت وكبرت
فهو لم ينم بين أحضان الآلهة فحسب، بل ترعرع واشتد عوده وعرف سر العظمة الكامنة في نفسه ووجد ما يزهده في البشر ويغنيه عن صراخهم وسياطهم.
هكذا ترسم لنا القصيدة عالم الطفولة عند الشاعر .. وتصور ملامحه البارزة. صحيح أن ذكريات الطفولة هي الجذور التي تتفرع منها شجرة الوجود عند أي إنسان أو أي شاعر. ولكنها عند هلدرلين بوجه خاص بالغة الدلالة على كل أبعاد حياته المقبلة، وكل ملامح هذه الحياة ماثلة يمكن أن تقرأ في ملامح طفولته.
هنا نجد «النعاس» العبقري الشفاف، والقدرة على الاهتزاز مع أرجوحة الانسجام الكوني، بحيث يصبح الشعر «أكثر الأعمال براءة» وأشبه الأشياء بلعب الأطفال. وهنا نجد اللقاء المستمر مع الأم التي يدفعها الحنان إلى أن تسحب الغطاء على وجه الطفل، فيدفعه الشوق إلى النور للتحديق في الشمس التي تؤذي عينيه.
هنا الوفاء للتجربة الدينية الأصيلة التي تلمسها الروح في لقائها مع الأرض والنور والنسيم. وهنا الخشوع والإنصات لسماع أنغام الحقيقة، والشك المعذب الذي يساور الشاعر أينما وجد نفسه مع الناس. وهنا أخيرا كل معالم الدروب التي سنصحب فيها هذا الشاعر الوحيد لنتعرف على حياته وشعره.
علينا الآن أن نكمل الصورة ببعض الخطوط البارزة في لوحة صباه. فقد زار الشاعر المدرسة اللاتينية في مدينة نورتنجن، وقضى العام الأخير فيها مع صديق عمره الفيلسوف المثالي شيلنج الذي كان يصغره بخمس سنوات، والذي طالما حماه هلدرلين الرقيق من عبث الصغار به وسخريتهم من قصر قامته وغروره بنفسه.
وفي الرابعة عشرة تقدم الشاعر لامتحان تجريه منطقة «فبرتمبورج» وتختار الناجحين فيه لدخول إحدى مدارس الأديرة التي تؤهلهم ليكونوا من رجال الدين.
نجح هلدرلين في الامتحان ودخل في خريف سنة 1784م مدرسة «دنكندورف» التي تبعد عن نورتنجن بمسيرة ساعة ونصف ساعة، وتقع على مقربة من نهر النيكار. وقضى سنتين في هذا الدير الصغير الوحيد، الراقد كالناسك المعتزل بين جدران صخرية وعرة، وعلى كنيسته وأشجاره ودروبه وبستانه وبركته الصغيرة غلالة منسوجة من خيوط الأحلام والأساطير. ثم انتقل إلى مدرسة دير «ماولبرون» القديم الشهير الواقع وسط غابة مخيفة، ليقاسي فيه حياة صارمة متقشفة مليئة بالحرمان. ولنقرأ ما يقوله الشاعر عن تجربته فيه: «أود بالمناسبة أن أعترف بأن نصيبي من القهوة والسكر قد نفد وأنني كنت أشتاق أحيانا إلى طعام الإفطار عندما أستيقظ مبكرا من نومي، وكنت أعاني من آلام صداع شديد في رأسي. وقد تحاملت على نفسي أخيرا، وكانت معدتي خاوية، لأتناول الحساء الذي يمجه أشد الكادحين جوعا؛ عندئذ أصابني ألم بشع حتى أوشكت من غضبي أن أقذف الطبق عرض الحائط ...»
إذا أردنا أن نتحدث عن الشخصيات والعناصر الأدبية التي أثرت على هلدرلين في هذه الفترة، كان أولها هو تأثير ذلك الشاعر العبقري المتهور الذي قضى معظم حياته بين المنفى والزنزانة، وأطلقت الأغلال لسانه بشعر وطني مفعم بالعاطفة المتأججة والأنغام الشعبية الصادقة؛ هذا الشاعر هو كرستيان شوبارت (1739-1791م) الذي عرفه هلدرلين سنة 1789م، وقال إنه لقي منه الحنان الأبوي .. ولا شك أنه تأثر بحبه الفياض للوطن «القريب والبعيد»، ونزعته الدينية المؤمنة، ولكنه لم يسترح لنبرته العالية وصوته الجهير وعاطفته الصاخبة.
ولا بد أيضا أن يكون شاعرنا قد تأثر بأشعار «يونج»
10
الحزينة وأفكاره الليلية التي كانت شائعة في ذلك الحين، وبقراءته للأغنيات الحالمة الباكية المنسوبة إلى أوسيان
11 «الطيب الأعمى الذي تضج مغامراته في رأسي على الدوام». غير أن تأثره بالشاعر الألماني كلوبشتوك (1724-1803م) صاحب الملحمة الشعرية الكبرى «المسيح»، وبعاطفته الغنائية والدينية الصادقة، ولغته الغنية بالصور العميقة، ورؤاه المحلقة المعبرة عن تجربة دينية وشخصية خصبة، كان تأثرا حاسما على شعره وتفكيره، وإن اختلف الشكل بينهما اختلافا كبيرا. وظل كلوبشتوك المثل الأعلى الذي راح هلدرلين يتطلع إليه بإعجاب وإجلال حتى وهو في مرحلة نضجه المتأخرة. وانطبع بحسه الموسيقي الدقيق وعنايته بالصنعة الفنية المحكمة واهتمامه بالأوزان القديمة الفخمة، وتمسكه بالقواعد والقوانين الشعرية الصارمة في أغانيه الدينية والوطنية التي كان هلدرلين يفضلها على إنتاج المحدثين وأغانيهم العاطفية «المتعبة التحليق».
بيد أن تجربته العميقة بالطبيعة ربما كانت أبقى أثرا من كل الشعراء والأدباء الذين قرأ لهم في هذه الفترة من حياته. وقد أشرت من قبل إلى صلاته الخاشعة مع صديقه على ضفة نهر النيكار (كان النهر يجري في بريق المساء ...) ويمكن أن أشير أيضا إلى تجربته الروحية على شاطئ نهر الراين في منطقة «شباير»، وقد كانت تجربة لا تنسى. ولعل كلمات قليلة من مذكرات رحلاته التي كتبها لأمه وهو في الثامنة عشرة من عمره أن تكون كافية للتعبير عن إحساسه عند مشاهدة نهر الراين لأول مرة، وهو الإحساس الذي سيعبر عنه بعد ذلك في قصائده الكبرى عند منبع الدانوب، والراين والأستر: «نهر يزيد في اتساعه ثلاث مرات على نهر النيكار، وتظلل الغابات ضفتيه وهو ينحدر من مجراه الأعلى، ويمتد على مدى البصر امتدادا يوشك أن يصيب المرء بالإغماء والدوار، كان منظرا لن أنساه أبدا، أثر على نفسي أبلغ تأثير. وأخيرا أقبل الملاحون على الشاطئ، كانت المراكب التي يعبر بها الناس إلى الضفة الأخرى بحيث تتسع لعربتين بخيولهما كما تتسع لعدد كبير من العابرين ... ومرت نصف ساعة ووجدت نفسي على شاطئ الشباير ...»
كان أعز أصدقائه وأصفاهم وأقربهم إلى قلبه هو «إمانويل جوتلوب ناست» الذي يكبره بسنة واحدة. وكان هذا الصديق أشبه بالوعاء الذي يصب فيه همومه وعذابه وأسراره واعترافات روحه البريئة الساذجة. فهو يسر له ذات مرة أنه رأى قدره فجأة أمام عينيه، ووجد أنه يريد بعد إتمام دراسته في الجامعة أن يصبح ناسكا. وقد أعجبته الفكرة، ولكنه أخذ يناشد الصديق أن يخفي رسالته عن أعين الغرباء حتى لا يضحكوا عليه ويصفوه بالحمق والجنون .. بل إنه ليشك في قدرة الصديق على مشاركته هذا الإحساس فيقول: «يا عزيزي، إنك لا تكاد تعرفني ...»
هلدرلين في العشرين من عمره.
والواقع أن هذه الصداقة لم تكن من القوة بحيث يكتب لها الدوام. فقد بقيت على هامش قصة الحب الأولى في حياة شاعرنا، وتصادف أن كانت هذه الحبيبة من أقارب «ناست» من جهة أبيه، كان اسمها «لويزة ناست»؛ مخلوقة رقيقة، صافية، تقية القلب نقية الوجدان. أحبها هلدرلين - والحب الأول ناري عذب، حلو مر كما تقول «سافو»! - وكتب إليها رسائل قليلة وبادلته رسائله، وحملت كلتاهما أشواق القلوب التي يلمسها الحب لأول مرة، وأحزان العشاق ودموعهم التي يريقونها من أجل الحب نفسه لا من أجل الحبيب.
ولم تلبث الأيام أن كشفت عن بعد الشقة بين المحبين، بل عن غربة روحيهما وتنافر طبعهما .. كانت لويزة تحب بفطرة الأنثى الخالدة التي تبحث عن «الرجل» و«البيت» .. ولم يكن هلدرلين، الذي بدأت عبقريته تتفتح وتتدفق بالقلق والحيرة والعذاب، يدري ماذا يبحث عنه .. ولعله كان يتصور مثالا آخر للمرأة يتخيله الشعراء ويحوطونه بالغموض والأسرار، ولكنه يبعدهم دائما عن المرأة كما يبعد عنهم المرأة الواقعية بفطرتها .. وهكذا لم يكن بد من التحلل من هذا الرباط. وكتب إليها (في مارس سنة 1790م) بالقرار الذي صمم عليه .. فقد اختار أن يتحرر من هذا الحب، وإن اقترن هذا الاختيار بما يخجل الرجولة أو يعيبها. ولكنه لم ينس أن يقدم لها صداقته ووده، ويعدها على الرغم من كل شيء بإخلاصه ووفائه الأبدي!
الثائر
«نحن كذلك أغنياء بالأفكار فقراء في الأعمال.» «إنسان منطو على الدوام، عابس الملامح.»
1
هكذا صور هلدرلين نفسه فيما بعد، عندما أطبق عليه ليل الجنون المظلم ما يقرب من نصف حياته.
أخفق حبه الأول كما رأينا، وكتب إلى حبيبته الأولى رسالة فيها من العذاب بقدر ما فيها من الكبرياء .. ولكنه اضطر كذلك إلى تبرير تصرفه أمام أمه التي ظلت تتمنى له الراحة والدفء والاستقرار. فبعث إليها بسطور يقول فيها إنه صمم منذ سنوات على عدم الزواج. وسواء جاء هذا التصميم عن خيبته في الحب أو سوء حظه أو غيبة الظروف والفرص المواتية، فلا شك أنه كان يتفق مع طبيعته وينبع من إحساسه بنفسه، ولا شك أيضا أنه بقي وحيدا في رحلة الحياة والعذاب. ولعله كان يشعر شعورا قويا بالقدر المظلم الذي ينتظره، ويعتز بالهدف الذي رسمه له وحيه ووجدانه. ها هو ذا يستطرد في رسالته إلى أمه ويقول: «إن طبعي العجيب، وأهوائي المتقلبة، وميلي إلى المشروعات البعيدة، (ولأعترف لك بالحقيقة كاملة) وطموحي، كلها ملامح لا يمكن أن تمحى من الوجود بغير آثار خطيرة، وهي لا تجعلني أتوقع السعادة في الزواج الهادئ ...»
ولكنه لا يريد أن يزيد الأم حزنا على حزن، فيختم رسالته بقوله: «ومع هذا فقد يغير المستقبل ذلك.» ولم يغير المستقبل شيئا، لأن العبارة لم تكتب إلا رحمة بالأم.
والطموح الذي يذكره هلدرلين في هذه الرسالة بما يشبه الاعتذار يدل في الحقيقة على الصراع الذي كان يعانيه وهو يحس إرادته تتمرد على وجدانه، وروحه تصطدم بجدران الكآبة المتسلطة عليه. ولا بد أنه كان يريد التعبير عن هذا الصراع حين وصف طبعه بأنه عجيب، وحين قال عن نفسه في صباه المبكر إنه أحمق وطائش وهو قول لا يملك من يعرف الآن قصة حياته إلا أن يرتعش لسماعه وتختلج كل جارحة فيه.
كان عليه إذن أن يحتمل هذا الصراع طوال حياته، ويعيش هذا التوتر الذي جعله يتمزق بين التهور والاتزان، والتمرد المفاجئ والاستسلام المبكي. والذين التقوا به يحكون عن هدوئه وطيبته والسحر المنبعث من قسمات وجهه اللطيف، وقامته المديدة، وهندامه الجميل، وإشاراته المهذبة، وتعبيرات ملامحه التي تنم على النبل والسمو، ومشيته التي «تشبه مشية أبوللو في بهو المعبد» .. ولكن يبدو أن نعمة الهدوء التي تشع منه لم تكن إلا القشرة الناعمة التي تخفي وراءها جمرات الحزن واليأس. وهو نفسه يعبر عن هذا بكلام يختلف عما يقول رواته، وينضح بالشكوى من كآبته الملازمة؛ فهو في عين نفسه «أحمق»، و«لوح».
2
وهو يسأل: «أأنا وحدي هكذا؟ أأظل إلى الأبد، إلى الأبد أتصيد النزوات والأهواء؟ لقد قال عني الدير كله
3
إنني مصاب بكآبة من نوع خطير؟»
ويكتب إلى صديقه «نويفر» إنه أصبح عاجزا عن البهجة، ويتوسل إليه أن يسري عنه كلما اشتدت محنته، ولا ينسى وهو يرجوه الكتابة إليه عن أحواله أن يقول «ربما بعث هذا نورا يبدد ظلامي.» وتبلغ الشكوى ذروتها في كل كلمة من كلمات هذه العبارة: «... هكذا أجلس بين جدراني المظلمة، وأحسب كم أنا فقير من بهجة القلب فقر الشحاذين، وأعجب من زهدي وصدودي!» هنا نجد جدران السجن الذي يطويه والظلام الذي لا يقوى على الخلاص منه، والتفكير الذي لا ينقطع في فقره، والعجب الذي لا ينقضي من زهده وصده وتخليه. وما أشد المرارة والسخرية جميعا في هذه الكلمات!
لم يدخر هلدرلين وسعا في تعذيب نفسه، وتلك سمة المنطوين والمنعزلين المتوحدين. ولكننا نخطئ إن حاولنا تفسير ذلك تفسيرا نفسيا أو مرضيا. صحيح أنه وصف نفسه وهو في الثانية والعشرين من عمره بأنه شاعر مريض .. ولكنه قال عن نفسه كذلك إنه فقير كالشحاذ، وهو قول لا يستغرب من إنسان يسعى إلى الحقيقة ويكافح من أجلها، ويحتمل العذاب والحرمان والهوان في حجه إليها. إن الفقر هو زاد الباحث عن الحقيقة، والتجرد عصاه على الطريق. وبحثه عن الحقيقة بحث عن المطلق. ووجود هلدرلين كله تحرر وانطلاق من أشكال الحياة المألوفة، من التقاليد الدينية، من الأنظمة والمذاهب الفكرية، من المفاهيم الفنية الشائعة في بيئته .. وهو يبني حياته وشعره بعيدا عن كل التصورات المألوفة على عهده. ولا يركن إلى شيء أو إنسان حتى يتحرر منه ويفلت من أسره. وكأنه المسافر الغريب أبدا، قد يمد يده لعابر طريق، ولكن ليلتقط أنفاسه ويستأنف رحلته .. فإذا طال السلام والكلام، ووجد أن الغريب سيهدد حريته أو يعطل سفره، نبهه قدره أو وحيه، وأعاده من جديد إلى فقره. ستكون هذه اللقاءات العابرة في أواخر حياته هي المصائب والمحن التي تضفي عليه سمت الأنبياء وتجعل لأغانيه رنين الوحي الملهم من ربات الفن وآلهة الأوليمب. وستكون في سنوات شبابه أشبه بتكسر الأغلال على صوت الضحكات، ليخرج منها الشاب أشد حرية وجسارة.
استمع إليه وهو يعبر عن هذا في قصيدته عن نهر الراين:
لذلك كانت كلمته تهليلا.
إنه لا يحب، كسائر الأطفال،
أن يبكي في الأربطة،
فحيث يتسلل الشاطئان
المتعرجان على جانبيه،
ويلتفان من الظمأ حواليه، وهو غافل عنهما،
ويتشوقان إلى جذبه وحمايته، (تراه) يمزق الحيات وهو يضحك من بين أسنانه،
ويندفع بالفريسة، وإن لم يسارع
من هو أكبر منه بترويضه،
ويدعه ينمو كما ينمو البرق،
فإنه يضطر إلى شق الأرض،
وتفر الغابات مسحورة وراءه
وتنهار الجبال.
وكلمات القصيدة خشنة قاسية، ولكنها تعبر عن جموح الشباب وكبريائه .. فهناك الحيات الملتوية التي لا تجرؤ على مواجهته فتتسلل على جانبيه، وتحاول جاهدة أن تشده وتجذبه. إنها تريد أن تصيده، وهو الحر، وتشتاق أن تروي عطشها من صفائه .. فالراين هو الشاب الذي تستمد حياتها منه، بل هو «هرقل» الذي تذكر الأسطورة الإغريقية أنه مزق الحيات التي التفت حوله بذراعيه الجبارتين. وكأن هذا النهر القوي الرائق قد استحال قدرا من أقدار الطبيعة .. والفكاك من قيود القدر لا يتم بغير تضحية ومرارة وعذاب.
والكآبة بطبعها ملازمة للجمود وعدم الاكتراث .. وقد طالما شكا أصدقاء هلدرلين من فتوره معهم، وقطيعته لهم بغير سبب معروف. إن «إمانويل ناست» الذي جمعته به في صباه أواصر الود والمحبة، يكتب إليه في رسالة لا نعرف أنه كتب له رسالة أخرى بعدها: «لست أدري إن كان من الواجب علي أن أتعارك معك أو أتوسل إليك لتتعارك معي ... وداعا يا أخي العزيز .. البارد؟ .. وتأكد أن بقاء تلك الصداقة القديمة الدافئة أمر يتوقف عليك ...»
ولم تجد كل الآلام التي قاستها حبيبته الأولى «لويزة ناست» ولا كل العتاب الذي وجهته إليه من تغيير قراره بالبعد عنها. إن حبها لم يستطع أن يشبع شوقه إلى الحب الحقيقي الذي ستعبر عنه هذه الأبيات من قصيدته السابقة عن الراين:
من الذي بدأ
بإفساد أواصر الحب،
وجعل منها قيودا؟
والجواب عسير عن هذا السؤال، ولكنه يشير إلى جانب من طبيعته المظلمة الملغزة في نظر أصدقائه ومعارفه، ويعبر عن حيرته من نفسه التي لا تطمئن لشيء ولا تستطيع أن ترتبط بإنسان بحيث تعطيه وتضحي من أجله وتفنى فيه.
كان هلدرلين في هذه الأثناء قد انتقل إلى المعهد الديني في مدينة «توبنجن» فدخله في أكتوبر سنة 1788م. واستطاع بعد سنتين أن يحصل على شهادة الماجستير. وكانت دراسته الأولى في هذا المعهد تشمل المنطق والفلسفة العملية وما بعد الطبيعة، والتاريخ والرياضة والفيزياء واللغتين اليونانية والعبرية. ثم اتجه بعد إتمامها إلى اللاهوت الخالص فأخذ يتعلم الأصول والجدل وتفسير النصوص والأخلاق، وأصبح من حقه أن تصرف له كل يوم قنينة من النبيذ بشرط أن يدرس معها اللاهوت!
وكان هذا المعهد الديني في صرامته وجهامته أشبه بالدير، بل كان في الأصل أحد الأديرة الأوغسطينية الرابضة عند أقدام «الشلوسبرج». إن أسواره أشبه بأسوار السجون، وغرفه العتيقة الخشنة أشبه بالزنزانات الرطبة التي تنفذ إليها الريح والمطر والثلج. والطلبة يتكوم بعضهم بجانب بعض اتقاء للبرد؛ إذ لم تكن التدفئة تصل إلا لثلاث عشرة غرفة في المعهد كله، بحيث لم يكن الواحد منهم يستطيع أن يكتب خطابا بغير أن تلتهمه عين جاره .. وكان نظام التربية يقضي بالتجسس على الطلبة ومراقبتهم مراقبة شديدة، وكان هذا يثير ثائرة هلدرلين ويجرح شعوره بالفردية والكبرياء جرحا عميقا .. ومع ذلك فقد ظل يحتمل هذه الحياة القاسية ويصبر على قيودها ومكارهها، مستجيبا لتوسلات أمه المسكينة التي لولاها ما قضى في هذا الدير يوما واحدا. ها هو ذا يعبر عن سخطه على الوصاية المفروضة عليه فيقول:
لم أعد أطيق هذا!
أن تسير خطى الصبي أبدا أبدا،
خطاه القصيرة المحسوبة كل يوم
كالسجين المغلول، لا لم أعد أحتمل هذا!
كما يثور على كل طموح أكاديمي سخيف: «يستوي عندي أن تستقر كل ألقاب الماجستير والدكتوراه وكل ما يقترن بها من توقير واحترام في خرائب المورة.»
4
ولكن السخط يتجه قبل كل شيء إلى اللاهوت وأصحابه المتزمتين الذين يسميهم حفاري القبور في توبنجن!
المعهد الديني بمدينة توبنجن (من رسم الشاعر إدوارد موريكه).
وكانت هذه القيود والسدود هي التي ألهبت في نفس الجيل الجديد شعلة التحرر والانطلاق من أسر الأنظمة الجامدة، وجعلته يتطلع إلى فجر الحرية والشباب والمعرفة الحقة، ويطالب بنظرة جديدة للتاريخ وشكل جديد للدولة والدين. واستمد هؤلاء الشباب الشجاعة والأمل من شخصية إمبراطور النمسا العظيم يوسف الثاني الذي حاول أن يحقق حلم الدولة المطلقة المستنيرة التي تكاد تشبه حلم اليوتوبيا القديم؛ مما جعل الشاعر الكبير «كلوبشتوك» يعبر عن حلمه بيوتوبيا أكاديمية سماها «جمهورية العلماء الألمان» سرعان ما تبنى الشباب فكرتها والتفوا حولها.
وتسنى لهلدرلين واثنين من رفاقه في الدير - وهما نويفر وماجيناو - أن يجتمعوا على الحب العميق، حتى قال شاعرنا المنعزل عن صديقه «نويفر»: «لقد كان أول من علمني كيف أسعد بالصداقة سعادة حقيقية أصيلة.» كما استطاع هذا الصديق أن يكون على مدى سنوات طويلة نورا يشع بالأمل لروحه المعتمة الحائرة، وأن يتحكم في أهوائه ونزواته «وكل الأرواح الشريرة التي تسومه العذاب»، ويجد عنده الاتزان والمثابرة اللذين افتقدهما في نفسه، بمثل ما وجد التواضع والسخرية والمرح عند صديقه الآخر ماجيناو.
كان من عادتهم أن يجتمعوا كل يوم على زجاجة من الجعة أو النبيذ، وكراسة يقرأ منها كل منهم ما جادت به عليه ربات الفن والشعر .. وانضم إليهم الشاعر فريدريش ماتيسون (1761-1831م) الذي لم يكد يسمع أنشودة هلدرلين «إلى روح الجسارة» حتى ألقى بنفسه بين ذراعيه وراح يضمه بعنف إلى صدره ... كانت هذه الأنشودة - مثلها مثل سائر الأناشيد التي كتبها في هذه المرحلة من شبابه - قريبة في العاطفة والفكرة من روح شيلر. وكان شيلر هو الخبز اليومي على مائدة هؤلاء الأصدقاء .. فحديثهم عنه لا ينقطع، وإعجابهم بإنسانيته ونبله ومثاليته وشجاعته وطاقته الهائلة لا يقف عند حد .. وكان لشيلر في هذه المرحلة وفيما سيأتي من مراحل العمر أثر لا يقدر على حياة هلدرلين؛ فهو الذي تعاطف معه ولمس موهبته ووجهه في رفق إلى تدارك عيوبه، وهو الذي أمده بالثقة في نفسه، وساعده على التغلب على تردده والمضي إلى إتمام رسالته، ونصحه بالتمسك بالقيم الموضوعية، واستشراف الآمال البعيدة الجسورة، والبعد عن «الذاتية العنيفة» .. وكانت قصائده في هذه الفترة التي قضاها في توبنجن تعبر عن الجهد الذي يبذله في البناء والصنعة، ولكنها تفتقر إلى ذلك الشيء الذي يجعل الفن حياة، أعني الضرورة الباطنة التي تدفع للكتابة فكأنما يستجيب الإنسان لقدر لا فكاك منه، ويضع نفسه ودمه في كل حرف تخطه ريشته. غير أنها ظلت قصائد فخمة اللغة، موغلة في التحليق، شديدة التشتت، مغتصبة التعبيرات والصور، بعيدة عن النغمة الوديعة الهامسة المنكسرة التي تميز أجمل شعره وأبقاه. انظر إلى هذه المقطوعات من قصيدته إلى روح الجسارة أو شيطانها العبقري وستلمس مدى التعب والضنى الذي تكبده الشاعر في مثل هذه القصائد التي كتبها أيام شبابه في توبنجن:
من أنت؟ كالفريسة
يتمدد اللامحدود أمامك،
أنت أيها الرائع! عزف أوتاري
يهبط معك أيضا إلى بيت «بلوتو»
5
المظلم،
هكذا جرت المينادات
6
المترنحات على ضفاف أورتيجيا
7 - في حين راحت عاصفة الغناء تبدد السحاب -
إلى الأيكات والأخاديد وراء رب الكروم،
وقد أخذتهن اللذة العارمة. •••
قديما صحت لك، كما صحت لي، الشرارة الهادئة،
واشرأبت شعلة حرة صافية،
رحت تفور، وقد أسكرك الفرح الشاب،
مزهوا في ليل غاباتك،
وذراعك الغضة تلوح بالهراوة،
كما علمتك الشدة والبلوى،
وأخذت تتوعد أعداءك الأول الذين غنمت منهم
جلد الأسد الذي طوقت به كتفيك. •••
كم تحدت الطبيعة قوة الأبطال،
في الحرب الشابة الفتية!
آه! كم نسيت الروح نهاية الفانين،
وقد أسكرها النصر المبين!
أولئك الفتيان الأباة! الأمجاد الجسورون!
قيدوا النمر بالأغلال وهم فرحون،
وروضوا المحيط الملكي،
ومن حولهم ترقص الدلافين المبهورة. •••
كثيرا ما أسمع صليل أسلحتك،
أنت يا حامي
8
الجسورين.
وبهجة الإنصات إلى معجزات شعبك البطل،
تشد صدري المتعب من الحياة،
على أن الإقامة تطيب لك بين الآلهة الوادعين
9
حيث عالم الفنانين يبعث الجسارة في الحياة،
وحيث ينسج روح الشعر النبيل النقاب،
حول جلال الوجود غير المنظور. •••
روح الكون ومباهجه
10
حياها ابن ميون
11
مقتفيا آثارها المقدسة؛
وقفت الطبيعة الأزلية أمامه،
مفعمة بالجد وقد نزعت الغطاء،
ناداها بجسارة من أرض الأرواح المظلمة،
فظهرت الملكة التي لا اسم لها باسمة،
تصحبها جوقة الأفراح، ساحرة في رداء بشري. •••
ومع ذلك فقد كانت مفزعة، يا رب الجسورين!
كلمتك المقدسة، عندما ظهر المبشرون
بالنور الأبدي بين الليل والنعاس،
وأصمت شعلة الحقيقة الكذب والخداع؛
مثلما ينثر رب الرعود بروقه،
على الوديان الخائفة من ليالي الأنواء الشاهقة،
كذلك بينت للأجيال المنهارة،
سقطة العمالقة وفناء الشعوب. •••
وزنت بالقسطاس العادل المستقيم،
لما استبدلت بالسيف الرداء الطويل؛
12
تكلمت، فترنحوا، أولئك السارداناباليون،
13
إذ أسكرهم كأس غضبك الشديد،
عبثا حاول الظلام القديم بجهامة النمور
أن يخيف قضاءك الأمين
14
أنصت جادا لصوت البراءة الخفيض
وقدمت التضحيات لربة العدالة المقدسة.
15 •••
لا تتخل، يا روح الجسورين
يا من يلتف بدرع الآلهة،
لا تتخل عن البراءة أبدا!
تقدم واعمر قلوب الفتيان بلذة الانتصار!
آه لا تتوان. حذر، عاقب، انتصر!
وأيد جلال الحقيقة على الدوام،
حتى يخرج السلام الخالد - طفل السماء -
من مهد الزمن الحافل بالأسرار!
قصيدة محلقة في سماء الأساطير، مفعمة بجلال الروح اليوناني القديم وقداسته، مزدحمة بأسماء الآلهة والأبطال، معبرة عن جهد الشاعر في الصنعة والبناء. ومع ذلك فهي لا تخلو من كلمات رقيقة هامسة تلمع في ثناياها كما تلمع زهرات البرق وسط العواصف والأنواء. كلمات من لغة الشاعر التي تميزه عن غيره كالبراءة والسلام والطفل والصوت الهامس الخفيض، وكلها أوتار سيعزف عليها أناشيده وأغانيه المقبلة، لتلمس القلب بهدوئها وانكسارها ووداعتها وانطوائها على آلامها وجراحها.
لم يكد هلدرلين يغادر مدينة توبنجن حتى توارت هذه اللغة الفخمة المحلقة التي تكاد تغتصب الصور والكلمات. ها هو ذا يقول في شهر أبريل سنة 1794م عن قصيدة أخرى كتبها في تلك الفترة من حياته وسماها «قصيدة إلى القدر» قال: «لم أعد أقوى على احتمالها» ... لقد بدأت تسود أشعاره الأنغام النقية الرفافة التي تميزه حقا. كما بدأت تجربته الفكرية تتضح وتكتمل لتصبح رسالة شاعر يريد أن يربي ويتنبأ ويبشر بالطهر والقداسة والبراءة والجلال.
وبدأ إحساسه بسر عبقريته وقدره يلقي ظلالا حزينة على علاقته بالأصدقاء .. لقد فتحوا له الطريق إلى سر الصداقة نفسه، فما حاجته الآن إليهم؟ هكذا أخذوا ينتقلون إلى منطقة الظل، وما أكثر ما تلقى العبقرية من ظلال على حياة صاحبها وصلته بمن حوله من الأهل والأحباب .. وتراجع الصديقان ماجيناو ونويفر من حياته شيئا فشيئا حتى خرجا من دائرتها تماما. وأخذت الدائرة تضيق شيئا فشيئا على الشاعر نفسه قبل أن تطبق عليه في النهاية وتخنقه يد الجنون. وها هو ذا الأمر يتخذ الآن صورة أسطورية ويلتف في وشاح غيبي. إنه يقول عن علاقته بأصدقائه: «القدر يدفعنا للأمام ويدور بنا في دائرة، ونحن لا نملك الوقت الكافي للبقاء مع صديق، وكأننا أشبه بالفارس الذي انطلقت به الجياد.» لقد حملته العاصفة وبعدت به عن صديقيه. ربما عبر عن إعجابه بثبات صديقه: «ومع ذلك فأنت تملك الهدوء والاطمئنان .. وبودي أن أملكهما.» ولكنه يدرك أن قدره يطارده ويحكم عليه بالقلق الذي يتمكن من الشاعر الحق؛ ولذلك فسوف يتلفت حوله مع نهاية القرن فلا يجد أحدا من أصدقائه.
ولعل أبرز الأصدقاء وأنشطهم وأشدهم أثرا عليه في هذه الفترة من حياته هو جوتهولد فريدريش شتويدلين (1758-1796م) وكان بتربيته من رجال القانون، وبطبعه المكافح الهادئ صحفيا من أنصار الثورة الفرنسية والعاملين على نشر مبادئها في وطنه. إن هلدرلين يشكر اللحظة التي أتاحت له أن يلقى «هذا الرجل الرائع حقا»، وأن «يعثر على قلبه». استطاع هذا الصديق النبيل الذي كان يكبره باثنتي عشرة سنة أن يؤدي له خدمات جليلة. فقد نشر له عددا من قصائده التي كتبها خلال وجوده في توبنجن في الحولية التي أصدرها في سنتي 1792م و1793م، وعرفه في صيف سنة 1793م بالشاعر «ماتيسون» الذي سبقت الإشارة إليه، وسعى إلى لقائه بشيلر الذي كان لإنسانيته وفكره أعظم الأثر على حياته وتطوره. ولا بد أن هذه العبارة التي قالها في ذروة تحمسه للثورة الفرنسية قد كتبت تحت تأثير شتويدلين: «يجب علينا أن نضرب المثل للوطن وللعالم على أننا لم نخلق لكي يعبث بنا التعسف كما يشاء.» ولا بد أن كفاح هذا الصديق المثالي في سبيل الحرية، ودعوته للأصدقاء أن يعملوا في هدوء من أجل هذه القضية الكبرى، ثم اضطهاد الحكومة له وطرده من البلاد، ويأسه الذي أدى به إلى إلقاء نفسه في مياه الراين سنة 1796م ... لا بد أن هذا كله لم يعدم أثره القوي على وجدان هلدرلين ... بيد أنه ظل بعيدا عن الثائرين المتطرفين من شباب توبنجن وصخبهم ومظاهراتهم، على الرغم من إيمانه بقضية الحرية وتحمسه لها وعمله من أجلها. وكانت تجمعه بأحد هؤلاء الثائرين علاقة ود خالص حميم. وكان هذا الصديق - وهو كرستيان فريدريش هيلر (1769-1817م) شابا مرحا نقي السريرة صافي البصيرة، يؤمن بالحرية والسلام أعمق الإيمان، ويصون قلبه وعينيه من سحابات اليأس والأحزان. إن الشاعر يصفه في هذه الأبيات القليلة بقوله:
أخي، منحك رب الحب شرارة إلهية،
حسا رقيقا صافيا تتلمس به الروعة والجمال،
فؤادك يتوهج بالحرية الأبية وبراءة الأطفال ...
أخي، تعال وذق معي الكأس الساحرة.
ولكنه لم يشأ أن يشاركه عنفه وثورته مع غيره من الشباب في أسواق المدينة وشوارعها. لا لأنه كان بطبعه هادئا عاكفا على نفسه، بل لأن الانضمام إلى الجمعيات والاشتراك في المظاهرات كانا من أبغض الأشياء إليه.
وربما كانت أجمل الذكريات التي يحملها هلدرلين لصديقه هو قيامهما معا في صحبة صديق ثالث كان يدرس الطب (ميمنجر) برحلة للتعرف على سويسرا «بلد الحرية الإلهية» التي اجتمع فيها الكفاح الأبي مع السلام الرعوي الجميل.
تجول الأصدقاء الثلاثة في أنحاء سويسرا، وملئوا عيونهم بمباهجها ومجاليها، وكشفت البحوث الحديثة منذ حوالي عشر سنوات عن زيارتهم لواحد من أشهر رجالات العصر، وهو يوهان كاسبار لافاتر (1741-1801م) الكاتب الشاعر المتدين، مؤسس علم الطباع، وأحد رواد حركة العصف والاندفاع، المكافحين ضد الظلم والطغيان في بلاده، المتحمسين للثورة الفرنسية وصديق جوته وهردر وهامان. ولا بد أن هذه الزيارة تركت أثرا لا يمحى في نفس الشاعر وخياله، ولا بد أن العالم المرموق قد أدرك بإحساسه وثاقب بصره سر «النار المركزية» - فهكذا كان يسمي العبقرية! - التي تتوهج في كيان هلدرلين. ولا بد أنه استعان بنظرياته في علم الطباع فقرأ ملامح وجهه، وحسب أبعاد رأسه، وعرف أن هذا الشاب الوديع المنكسر الذي يقف أمامه شاعر حق، بل هو الشعر نفسه مجسدا في كيان إنسان مسكين. ومن يدري؟ فلعل هذه الزيارة أن تكون من بين الأسباب التي دفعته إلى كتابة قصيدة رائعة عن سويسرا أهداها إلى صديقه هيلر وحيا فيها بلد الحرية وأبطالها المقدسين، وتذكر رحلته إليها مع هذا الصديق الذي يقول له بعد الأبيات التي قرأتها منذ قليل:
هناك حيث يكسو شعاع المساء السحابة الغربية بالذهب،
هناك أرسل الطرف وأذرف دموع الشوق!
آه! هناك رحنا نتجول! وسرحت العين وتاهت
في المشاهد الرائعة من حولنا! - كم حاول الصدر أن يتسع
ليضم هذه السماء! .. كم التهبت الخدود
وقد رطبتها نسمات الصباح العذبة،
وتوارت زيوريخ بين الأغاني والأناشيد،
عن عيون الراحلين في القارب المنساب بهدوء!
يا سلام أركاديا
16 ...
أيها السلام العذب المجهول، وأنت أيتها البراءة القدسية،
كم تزدهر الفرحة النادرة في شعاعك.
لو أمكنني أن أنساك، يا بلد الحرية الإلهية،
لصرت أسعد حالا، فما أكثر ما يعروني الخجل اللاذع
والحزن، كلما تذكرتك وتذكرت المكافحين المقدسين.
آه! عبثا تبتسم لي السماء والأرض ابتسامة الحب السعيد،
عبثا تبسم عيون الإخوة المتطلعة إلي.
لكني مع ذلك لا أنساك! إني أنتظر وأرجو أن يأتي اليوم
الذي يتحول فيه الخجل والحزن إلى فعل يسعد الفؤاد.
كان هلدرلين إذن يشارك أصدقاءه وأبناء جيله حماسهم لمبادئ الثورة الفرنسية وسخطهم على المهانة والطغيان في بلادهم، وشوقهم إلى حكم جمهوري حر يخلصهم من المستبدين. ولكنه لم يكن من أنصار العنف والشغب وتحطيم النوافذ والأبواب والتماثيل .. كانوا جمهوريين بالجسد والحياة، وكان جمهوريا بالعقل والحقيقة .. صحيح أن حياته الأولى في مدينة توبنجن الحالمة الصغيرة لم تخل من تصرفات تنم عن النزق والطيش وقد تصل إلى حد المغامرة .. غير أن هذه الميول المتهورة بدأت تنطوي إلى الباطن شيئا فشيئا وتصبح جزءا من حلم أسطوري كبير يؤرق صاحبه بالحسرة والشوق إلى عالم الآلهة والأبطال والقديسين الخالدين. وبدأ الإحساس بهذا العالم والتنبؤ به والبكاء عليه يستولي على قلبه، وينأى به عن المشاغبين والمتظاهرين المؤمنين بالتحرك والفعل؛ مما جعله يقول في قصيدته الشهيرة «إلى الألمان» (1799م) إنه من أولئك الأغنياء في الفكر، الفقراء في الفعل ...
وهو في هذه القصيدة يعبر عن موجة من موجات الثورة الباطنة التي اندفعت به إلى شاطئ النضج والتحرر والطهر. إنه يناجي فيها «الروح الخلاق» و«العقل المربي» هذا الروح الخلاق المربي هو في الحقيقة روح الوطن الذي يدعوه أن يتجلى لأبنائه التائهين. وهو روح هادئ ساكن لا يكاد يظهر للشاعر حتى يخرس أشد أوتاره خفوتا. وهو يختلف عن ذلك «الجديد» المقبل بالصخب والعنف على أيدي الشباب المتحمس، الجديد الذي يحطم الآلات القديمة ويخنق العزف والغناء. إن الروح الخلاق سيظهر لأبنائه فتسكت الأوتار، وتستحيل الهمسات صمتا وصلاة، ويذوب النغم الهامس في فرحة الروح ... اقرأ معي بعض مقطوعات هذه القصيدة الهامة التي تبدأ بهذه الأبيات المشهورة:
لا تهزءوا أبدا بالطفل الذي تصور له السذاجة،
وهو فوق الحصان الخشبي أنه رائع وعظيم،
آه أيها الطيبون! نحن كذلك؛
فقراء في الفعل أغنياء بالأوهام!
ثم لا يلبث أن يسأل سؤالا يكشف عن شكه في قدرة الفكر وإيمانه به وبالحرف المكتوب في آن واحد:
ولكن هل يأتي الفعل، كما يأتي الشعاع من ثنايا السحب،
هل يأتي ناصعا وناضجا من الأفكار؟
هل تتبع الثمرة الكتابة الهادئة
كما (تفعل) الورقة المظلمة في البستان؟
ويرى الصمت المخيم على الشعب فيحس بوجدان الشاعر وقدرته على التنبؤ أنه الصمت الذي يؤذن بمقدم الإله:
والصمت الذي يخيم على الشعب، أيكون هو الاحتفال
الذي يسبق العيد؟ أم الخوف الذي ينبئ عن الإله؟
آه! خذوني إذن أيها الأحباب،
حتى أكفر عن (خطيئة) تجديفي.
ويتذكر رحلة عذابه في البحث عن هذا الإله أو هذا الروح، وضياعه بين الشك والحيرة والحنين:
ها أنا ذا كالجاهل أتخبط في التيه من زمن طويل طويل،
هنا في «مصنع» الروح المصور الخلاق،
لا أعرف إلا ما تزدهر براعمه
لكن لا أعرف فيم يفكر ويدبر.
ويعود إلى الإحساس الذي كان يشده على الدوام إلى هذا الروح، وهو إحساس عذب، لكنه ممزوج بالعذاب، إحساس المحب الذي ينتظر القادم ويستشرف ساعته، وإن كان لا يعرف حقيقة هذا الحب والانتظار والاستشراف:
والإحساس
17
عذب، غير أنه كذلك عذاب،
وقد عشت سنوات طوالا تساورني الريب والشكوك
في حب فان لا يفهم،
ويهزني التأثر أمامه على الدوام،
وهو الذي يقرب مني الفعل الثابت،
النابع من روحه المحبة، ويبتسم للإنسان الفاني،
حيث يغلبني التردد،
ويعين الأعماق الخالصة للحياة على النضوج.
ثم يعرف حقيقة دعائه ونجواه، ويدرك أن الروح الذي يبتهل إليه أن يظهر للفانين هو روح شعبه الذي سيركع أمامه ليسأله الصفح عن شكه وجحوده، ويقدم له صلاة الشكر والعرفان:
أيها الخلاق، متى يا روح شعبنا
متى تتجلى في كامل نورك يا روح الوطن؟
كي أركع أمامك في خشوع،
ويصمت في حضرتك أشد أوتاري خفوتا
وأشتاق أن أموت فرحان بين يديك،
خجلان كأني زهرة ليل
يا أيها النهار السماوي.
ويصبح كل الذين جمعتني بهم الشكوى والأحزان قديما،
وكل مدننا مشرقة ومفتوحة ومتيقظة ..
مفعمة بالنار الصافية
وتصبح جبال بلاد الألمان
هي جبال ربات الفنون،
كما كانت قديما جبال بندوس
18
وهليكون
19
وبارناس
20
الرائعة
وتتألق حولنا الفرحة الحرة الساطعة الناصعة،
تحت سماء الوطن الذهبية.
تلك هي الفرحة الحرة الصافية المنبعثة من أعماق الروح، الفرحة التي لن تتم حتى يتجلى الإله في سماء الوطن، ويشمل جباله ووديانه وأفئدة أبنائه الفانين بالطهر والبراءة والسكون .. وهي كذلك الفرحة التي تتألق بنور المحبة والصداقة التي جمعته بأصحابه المتحمسين لمبادئ العدل والحرية والمساواة التي بشرت بها الثورة الفرنسية الكبرى ...
صحيح أن هذه الصداقة بطبعها قصيرة العمر، محدودة إذا قيست بأعمار الأمم والشعوب:
حقا إن آجالنا محدودة،
ونحن نرى سنوات عمرنا ونحصيها،
ولكن هل قدر لعين بشر
أن ترى سنوات الشعوب؟
ولكن قصر الأجل لا يمنع الرؤية، وتعاسة الفناء لا تحول بيننا وبين الوقوف على الشاطئ والتطلع عبر حاضرنا المحدود، وترقب الموعودين الذين نأمل فيهم، وننتظر أن يدفئوا أيدينا بمحبتهم:
ومع أن روحك المشتاقة تحلق فوق عصرك،
فسوف تتوقف محزونا على الشاطئ البارد
مع أهلك ولن تعرفهم أبدا،
ولن تعرف أبناء المستقبل الموعودين،
أين، أين يمكنك أن تراهم،
حتى تدفئك يد الصديق من جديد،
وتستمع روح إلى ما تقول؟
فهل سيقدر له حقا أن يتدفأ بيد الصديق؟ هل يجد الروح التي تستمع للروح؟
لقد سبقت الإشارة إلى هذه الصداقة التي ألفت بينه وبين صاحبيه «نويفر» و«ماجيناو» أيام (التلمذة) في دير ماولبرون بمدينة توبنجن، ثم لم تلبث أن بهتت ورانت عليها الظلال. ولكن هذه الصداقة بلغت ذروتها في تلك الأيام مع رجلين آخرين ذاع صيتهما بعد ذلك وحفر اسمهما في سجل العبقرية، وهما الفيلسوفان هيجل وشيلنج. ولا بد أن نتكلم عنها الآن قبل أن تبهت هي الأخرى وترين عليها ظلال النسيان ...
بدأت هذه الصداقة الحميمية بين هلدرلين وهيجل وشيلنج في خريف سنة 1790م وانتهت سنة 1793م. صحيح أنها استمرت قائمة بينه وبين هيجل حتى نهاية القرن، ولكنها سرعان ما ذبلت بينه وبين شيلنج وحل محلها شيء أقرب إلى التباعد والتقدير والاحترام ...
والصداقة إحدى معجزات الوجود. قد نشهدها مرة في حياتنا فتهتدي الروح إلى صديق الروح الذي لا يفرقنا عنه إلا الجسد الآخر، وقد تنقضي الحياة فيحرمنا القدر من نعمتها النادرة. وقد شاء القدر أن ينعم الأصدقاء الثلاثة بهذه المعجزة وإن فرق بينهم بعد ذلك فسار كل في طريق؛ هلدرلين على طريق «الروح المزدهر»
21
مهما شابت خصلات الشعر، وهيجل على طريق «الروح المنطلق» الذي تنتهي عنده الأضداد ويتحقق السلام الأخير، وشيلنج على درب الفيلسوف المتصوف الذي يحلم «بكنيسة يوحنا» ...
ولقد كانت الصداقة بين هلدرلين وهيجل أشد عمقا وأطول عمرا من صداقته بشيلنج. ولم يكن السبب في ذلك هو أنهما من سن واحدة فحسب (كان شيلنج يصغرهما بأربع سنوات) بل لعله يرجع إلى اختلاف موهبتهما وطباعهما - والضد يسعى إلى ضده كما يقولون - كما يرجع إلى عاطفة الحب الحنون الجارف الذي يحمله كل منهما لصاحبه.
كان من قدر هذه الصداقة الحميمة - وفي كل صداقة عظيمة جانب من القدر! - أن تؤثر على روح العصر كله، كما أثرت على الحياة الشخصية والعقلية للشاعر والفيلسوف. كانت بالنسبة لهيجل أكثر الصداقات دفئا في شبابه. وكان هلدرلين يحس بالراحة والهناء كلما التقى بهيجل. وليس أجمل من تواضعه حين يعترف بذلك فيقول: «إنني أحب رجال العقل الهادئين؛ إذ يستطيع الإنسان أن يهتدي برأيهم كلما التبس عليه الأمر في علاقته بنفسه وبالعالم.»
وليس من المبالغة أن يقال من ناحية أخرى إن الأساس الوجودي في فلسفة هيجل لا يمكن أن يفهم إلا إذا فهمت صلته الشخصية بهلدرلين. أما هلدرلين نفسه فيعترف في رسالة له إلى هيجل بأنهما على يقين من استمرار صداقتهما إلى الأبد. ثم يقول في حسرة: «كثيرا ما كنت روحي الملهم؛ أشكرك جزيل الشكر. إني أشعر بهذا منذ فراقنا شعورا تاما .. لا زلت أتمنى أن أتعلم منك أشياء، وأخبرك في بعض الأحيان بأحوالي ... يجب علينا من حين إلى حين أن نتنبه إلى أن لكل منا عند صاحبه حقوقا واجبة ...»
وقد يدهش القارئ إذا عرف أن الفيلسوف الذي لا يكاد يقرأ له حتى يتصبب العرق على جبينه قد أهدى صديقه الشاعر قصيدة تحمل من الرقة والحنان والدفء ما يندر أن نجده في كتاباته المعقدة المخيفة .. استمع إليه وهو يقول:
أقبل المساء، السكون من حولي وفي وجداني
صورتك، أيها العزيز، تتمثل لي،
وأتصور بهجة الأيام الماضية،
لكنها سرعان ما تتوارى أمام آمال اللقاء العذبة،
ويرتسم في خيالي مشهد العناق الملتهب
الذي أشتاق إليه من زمن طويل؛
ثم أتخيل الأسئلة التي نتبادلها،
وتأمل كل منا لصاحبه في الخفاء،
وكيف غير الزمن من هيئته وملامحه وتفكيره،
وأتخيل متعة اليقين بأن عهد الوفاء القديم
لا زال أشد رسوخا ونضجا مما كان؛
عهد الوفاء الذي لم يختمه قسم،
بل نذرناه للحياة من أجل الحقيقة الحرة وحدها ...
أما صلة هلدرلين بشيلنج فكانت أكثر تعقيدا. صحيح أنها استمرت - في الظاهر على الأقل - فترة أطول من صلته بهيجل، كما كانت عميقة الجذور في حياة كل منهما، غير أن اعتداد شيلنج بنفسه من ناحية، وخجل هلدرلين الفطري وعكوفه على ذاته من ناحية أخرى، قد عملا على قطع أسباب الصداقة بينهما بعد انتهاء سنوات الطلب في توبنجن .. ويبدو أن شيلنج لم يستطع أن ينسى صديق شبابه كل النسيان. فهو يكتب في سنة 1795م إلى هيجل ويقول: «هلدرلين! ... إنني أصفح عن مزاجه المتقلب الذي لم يجعله يفكر فينا أبدا.» وهي كلمات تعبر بوضوح عن الإشفاق على الصديق المسكين، الصديق الذي تشده الوحدة دائما من أحضان أصحابه:
ما عاد صوت يتردد في القاعة من أجلك
أنت أيها الرائي المسكين! عينك المشوقة تنطفئ،
والنعاس يجرفك إلى الأعماق، فلا يذكرك أحد ولا يبكيك إنسان.
وقد تذكر هلدرلين صديقه فكتب إليه في سنة 1799 يرجوه أن يسهم في مشروع صحيفة أدبية كان يفكر في إصدارها. إلا أن شيلنج لم يرد على رسالته ولم يشارك في المشروع الخيالي الذي لم يعرف النور. ومن الظلم أن نتهمه بالجحود أو الجفاء، لأن مشاركته في ذلك المشروع الفاشل لم تكن لتقدم أو تؤخر. ويكفي أن نقول إنه تألم ألما لا حد له عندما بلغته أخبار المرض الأخير الذي أودى بعقله، وهو ما سنعرض له في فصل قادم.
سار الأصدقاء كل في طريقه كما قلت، لكنهم اشتركوا في نسيج واحد أو شبكة واحدة قدم لها كل منهم خيوطه. ويصعب أن نسمي هذا النسيج المشترك باسم محدد. ولكن لعلنا لا نجاوز الصواب كثيرا إذا سميناه «الفكر الديالكتيكي»، على الرغم مما في هذه الكلمة الأخيرة من رنين مخيف! أسهم كل منهم في هذا النسيج بالخيط الذي يميزه عن صاحبه؛ هلدرلين بالورع والخشوع المطلق، وشيلنج بالفكر الجسور الدقيق الحاد، وهيجل بالبناء الضخم والقدرة الخارقة على الاستدلال والتمحيص.
تأثر الثلاثة في مبدأ الأمر بلغة هردر (1744-1803م) المتدفقة ومنهجه العضوي الحي في التفكير، ثم شجعتهم فلسفة «فشته» المثالية المطلقة ونظريته الضخمة المتعسفة عن العلم (وكان يقصد به الفلسفة) وأمدتهم بالمران والقدرة على مواجهة الحياة على اختلاف صورها. وليس التفكير الديالكتيكي إلا مواجهة الحياة المتطورة المتغيرة من خلال التوتر بين قطبين متضادين؛ أي إدراك الصيرورة والتحول الناجم عن الصراع بين طرفين بحيث يتحقق الطرف أو المبدأ الثالث الذي يصالح بينهما ويتجاوزهما.
لم يكن هذا التفكير الديالكتيكي أو الجدلي منهجا طبقه الأصدقاء الثلاثة كل في مجاله، بقدر ما كان الفعل الفكري الأصيل الذي جمع بينهم. ومن طبيعة هذا الفكر المتغير المتطور تطور الحياة نفسها أن يفهم العقل أو الروح فهما تاريخيا. أي أنه لا يتم إلا في التاريخ، لأن التاريخ جوهره وقوامه.
يقول هلدرلين في قصيدته عن «عيد السلام»: «إن الروح العظيم يفض صورة الزمان.» ويقول هيجل: «إن الروح يشرح أو يفسر نفسه في التاريخ.» كما يطرق شيلنج نفس المعنى حين يقول: «كل لحظة خاصة من لحظات الزمان هي كشف عن جانب خاص من الله، يكون مطلقا في كل واحد منها.»
هكذا يفضي التوتر بين المرحلة الأولى (مرحلة الوجود الخالص البسيط الذي لم يتميز أو لم يتفتح بعد) والمرحلة الثانية (وهي مرحلة الوجود الذي يتفكر في ذاته ويتبلور على نفسه) إلى مرحلة ثالثة يتم فيها التصالح والسلام في الوجود. وهكذا أيضا نستطيع أن نتصور هذا الطريق بخطواته الثلاث التي سارها هيجل وشيلنج وهلدرلين كل على طريقته، بالتأمل أو الرؤية أو الشعر. ولا شك أن هذا تبسيط مخل بهذا الطريق المعقد المتنوع الذي لا حد لتعدد صوره ومستوياته. ولكن الذي يعنينا في هذا السياق هو أن الأصدقاء الثلاثة - كل على طريقته وبقدر طاقته وملكاته كما قلت - يشتركون في الغاية الأخيرة، وهي السلام الذي ينتهي عنده موكب الصراع، وتتحقق أمنية العقل والقلب.
ونعود فنسأل: كيف سيبدو هذا السلام السماوي الهادئ الجبار كما يسميه هلدرلين؟ وفي أي مكان أو زمان يفي بوعده ويبني بيته؟
سيقول الأصدقاء الثلاثة «في مملكة الله». وسيراها كل منهم على طريقته في الرؤية والتفكير ...
إن هلدرلين يكتب إلى هيجل في صيف سنة 1794م - وبعد تسعة شهور من وداعهما لمدينة توبنجن - فيذكره بكلمة السر التي افترقا عليها، ويؤكد له أنها ستجمعهما بعد كل تحول وتغير واغتراب. ولم تكن كلمة السر هذه سوى «مملكة الله». ولم تكن مملكة الله في تصورهم شيئا مجردا متعاليا غريبا عن الواقع، بل شيئا يستطيع كل واحد منهم أن يشارك فيه بجهده وإيمانه وحبه وأمله. ها هو ذا هيجل يصف هذه المملكة الإلهية الصغيرة فيقول إنها دائرة الحب والأفئدة التي تتنازل عن حقوقها الخاصة بعضها تجاه بعض فلا يجمع بينها غير الإيمان المشترك والأمل المشترك.
ويبحث الأصدقاء الثلاثة عن نواة هذه المملكة الإلهية فيجدونها في الفكرة التي قال بها قبلهم «لوثر» و«كانت» و«هردر» عن «الكنيسة غير المنظورة». ويتلقفون الفكرة ويتعمقونها كل من جانبه. ويكتب هيجل إلى شيلنج في سنة 1795م فيقول: «لتأت مملكة الله، ولنعمل بأيدينا على تحقيقها ولا ندعها تسترخي فارغة في حجرنا. ليبق العقل والحرية دائما قدرنا وكلمة السر بيننا، ولتكن الكنيسة غير المنظورة هي النقطة التي نلتقي عندها ...»
ومملكة الله هذه لا صلة لها بمملكة الأرض ودولتها ...
لقد كان هذا هو ظن تلامذة المسيح ومعاصريه .. ولكنه أعلنها قوية أمام «بيلاتوس» عندما قال إن مملكتي ليست من هذا العالم.
22
وهي كذلك لا تتصل بالكنيسة المنظورة ولا شأن لها بطقوس العبادة، لأنها من شأن العقل والقلب والحرية. ستأتي إذن مملكة الله، وسيشدو بها هلدرلين بعد ذلك في حماس وحنين لا نظير له في روايته «هيبريون» وسيقول إن الدولة لن تقيمها، بل سيمنحنا إياها ربيع الشعوب، وتدثرنا في سحابة ذهبية وتحملنا بعيدا فوق الموت والفناء. سنندهش ونصاب بالذهول، وسنسأل نحن التعساء الذين طالما اشتقنا إلى الربيع: أحقا أصبحت مملكة الله لنا؟
ولكن متى يتم هذا؟ عندما تبزغ الكنيسة الجديدة، حبيبة الزمان، أجمل بناته وأصغرها من بين الأشكال القديمة البالية، عندما يستيقظ الإحساس بالإله في قلب الإنسان فيعيد إليه الشعور بألوهيته وشبابه ونضارته. إن هلدرلين لا يستطيع أن يبشر بها، بل يعترف أنه لا يحس بها ولا يمكنه أن يتنبأ بموعدها ولكنه على يقين من أنها ستأتي . فالموت هو رسول الحياة. وما دمنا نرقد اليوم كالمرضى ونحس دبيب الموت في أجسامنا ونفوسنا، فهذا بشير باليقظة القريبة، بشير بالربيع الجديد:
لهذا أحتفل اليوم بالعيد، وفي المساء في ظل السكون
تزدهر الروح حولي ولو جلل شعري المشيب،
مع ذلك أنصحكم يا أصحابي أن تعدوا
المأدبة والغناء، والباقات الوفيرة والأنغام،
في مثل هذا الزمن وكأننا شباب خالدون.
23
إن هلدرلين يطالب أحبابه وبني وطنه وعصره بالسكون والهدوء. فالسكون هو شرط التجديد الروحي المأمول. وكلاهما موصول بالقدرة على الإنصات وحسن الاستماع لصوت الوجود الحق، أو صوت الخالدين السماويين الذين لا يفنون ولا يبخلون. ولا بد للاتحاد مع الخالدين أن نكون قادرين على الانسجام معهم، أي أن يتجانس الصوت البشري مع الصوت الإلهي في نغم واحد وسر واحد ... ولا بد أيضا أن نحسن الإنصات لندخل في الحوار الشجي، ومن لا يحسن الإنصات فلن يحسن إلا النزاع والخلاف:
فعندما تطلعوا في البداية بعضهم إلى بعض
بدأ الآخرون يقتربون،
عندئذ جلس رجالنا المتشوقون تحت شجرة الزيتون.
ولكن عندما تلامست ثيابهم
ولم يستطع واحد منهم
أن يسمع قول الآخر،
نشب بينهم نزاع
24 ...
ولكنهم لا يكادون يتبادلون «الكلمة» حتى يتم الصلح بينهم:
وتطلعوا إلى بعضهم لحظات،
ثم مدوا الأيدي بعضهم إلى بعض في حب.
وسرعان ما تبادلوا السلاح،
وكل ما في البيت من زاد طيب،
وتبادلوا الكلمة أيضا ...
وتبلغ المحبة ذروتها في «الحديث» والحوار. إنه روح الحياة وحياة الروح:
ليس حسنا
أن تستحوذ الخواطر الميتة
على المرء وتسلبه الروح.
لكن الحوار حسن وكذلك التعبير عن رأي القلب
25
وأفضل منه الاستماع
إلى الكثير عن أيام الحب
والأعمال التي تتم ..
ستتحقق مملكة الله على الأرض ويتحقق معها الروح الشامل عندما تتحد النغمة الوحيدة في النغم العام، ويذوب وفاء الفرد في تطور الكل ونمائه:
لتكن لغة الأحباب
هي لغة الأرض.
26
هنالك يزدهر الروح حولنا نحن البشر. وحين تأتي هذه الساعة تتسع شريعة المحبين فتصبح هي شريعة السلام:
أما الشرائع التي تصدق على المحبين،
وتحقق التوازن الجميل،
فستصدق على كل الكائنات
من الأرض إلى أعلى السماوات.
تلك هي مملكة الله التي سيأتي بها المستقبل. مملكة يحكمها الله، وتدبرها شريعة الحرية والحب والوفاء التي يخضع لها الخالدون .. وليست في نهاية الأمر إلا البوليس
27
أو المدينة المستقلة الحرة المزدهرة بالحضارة والكرامة والجمال ...
عبر هلدرلين عن هذه المملكة المقبلة بشعره المنبعث من القلب كما عبر عنها صديقاه بالتأمل المجرد أو بالحدس والرؤية.
ولكن مملكة الحق والخير والعدل لن تهبط من السماء، بل لا بد أن تنبع من إرادة الفرد، ولا بد أن يبنيها بجهده وعرقه وفكره .. لا بالثرثرة كما يتخيل الكثيرون ...
الوحيد
«لكن إلى أين أذهب؟»
كان لدى هلدرلين إحساس فريد بالنماء والنضوج. ويكاد المرء يصدق أنه كان يسمع «النمو وهو يفور»، وينصت للقوى التي تحرك الحياة من الجذور. إن الفنان قريب من مبدأ الخلق نفسه الذي «يجدد الأزمان»، وهو يحيا في جذور الوجود «حيث تدبر الطبيعة الأيام الآتية»، وحيث «تنمو الأعوام» وتمتزج الساعات والأيام. وقربه من الحركة المطلقة والقوى التي تسيرها هو الذي يعطيه الحق في التصرف في قوانين الزمان والمكان، وحرية المزج والتقريب بينها كما يقضي بذلك فكره ويوحي به شعره.
والشاعر يتمتع بهذه الحرية نفسها في تصوره للمكان. إنه يقول في إحدى قصائده المتأخرة التي لم تتم:
الغناء حر كالعصافير،
تطير وتتجول فرحة من بلد إلى بلد.
1
والشاعر القريب من مبدأ الوجود المطلق والنماء والتغير لن يكون الوطن عنده مكانا ضيقا تحده الحدود والسدود، بل حقلا تزدهر فيه قوى الحياة وتترعرع، وقلبا وبستانا وأرضا للحب والإلهام:
عسى الوطن لا يصبح مكانا ضيقا
بل هواء فحسب
2 ...
فالهواء هو عنصر الفنان المبدع الخلاق الذي لا يبدأ شيئا ولا يتمه إلا في ظل الحرية.
انهل نسمات الصباح
حتى تتفتح،
وسم ما يتمثل لعينيك.
3
فالانفتاح مغامرة من يريد أن يجرب كل شيء، ويعرف كل شيء، ويذوق كل شيء .. وعليه بعد ذلك أن يتعلم الشكر والعرفان لكل النعم المنبثة حوله أو فيه:
هذا ما عرفته. لأنكم، فيما أعلم،
أيها السماويون، يا من تحفظون كل شيء،
لم تقودوني أبدا في رفق على الطريق السوي،
كما يفعل المعلمون الفانون
4 (من أبناء البشر).
يقول السماويون، فليمتحن الإنسان كل شيء،
حتى يمكنه، بعد أن يشتد (عوده) بالغذاء،
أن يتعلم الشكر على كل شيء،
ويفهم حرية الانطلاق إلى حيث يشاء.
5
والانطلاق هنا بمعنى الانفتاح على كل جديد ممكن، والتهيؤ للسفر والتنقل والرحيل. وليست حرية الرحيل التي يتحدث عنها الشاعر شيئا هينا يمكنه أن يقوم به ببساطة على أي نحو شاء. إنما هو شيء يستلزم الفهم الدقيق، ويتطلب من الإنسان عناء التعلم الجاد.
قضى هلدرلين السنوات القصيرة التي تمتع فيها بقواه العقلية في سفر ورحيل لا ينقطع. ففي الرابعة عشرة من عمره غادر بيت أمه إلى بلدة دنكندورف، وفي السادسة عشرة انتقل إلى «ماولبرون»، وفي الثامنة عشرة إلى مدينة توبنجن، حيث استجاب لتوسلات أمه بدراسة اللاهوت، وعاش في مدرسة الدير خمس سنوات. وفرغ من دراسته فترك المدينة الصغيرة الحالمة على ضفة «النيكار» وأقام ما يقرب من العام في بلدة فالترزهاوزن ثم غادرها ليقيم ستة شهور في مدينة «يينا» التي كانت كعبة الفلسفة المثالية حينذاك. وفي ديسمبر سنة 1795م دخل بيت عائلة جونتار كمعلم خصوصي، ثم انتقل في خريف سنة 1798م إلى مدينة باد هومبورج. ولم تطل إقامته في هذه المدينة أكثر من سنتين، عاش بعدها ستة شهور في مدينة شتوتجارت. وفي سنة 1801م قام بزيارة قصيرة لبلدة «هاوبتفيل» لم تزد عن أربعة شهور ثم قضى بقية السنة في بلدة نورتنجن التي سبق ذكرها عند الكلام عن نشأته وصباه. وفي شتاء سنة 1802 سار على قدميه متجها إلى مدينة «بوردو» الفرنسية، ليعود منها في الصيف وقد اضطربت حالته العقلية والنفسية اضطرابا شديدا. ولجأ مرة أخرى في صيف سنة 1804 إلى مدينة «هومبورج» ولكن حالته ازدادت سوءا، فنقل في شهر سبتمبر سنة 1806م إلى مستشفى مدينة توبنجن. ومرت سنة أخرى قبل أن يسلم للنجار «تسيمر» الذي تولى رعايته. وبقي الشاعر الذي تخلى عنه ملاكه الحارس أو شيطانه الملهم ستا وثلاثين سنة - أي ما يزيد على نصف عمره - في نفس المكان فلم يغادره إلا إلى التراب.
لعل السطور السابقة قد أعطت القارئ صورة عن هذه الحياة القلقة التي لم تستطع أن تجد الأمن والهدوء في أي مكان. شاء الحظ أن يظل صاحبها دائما «على الطريق»، أن يقضي أيامه القليلة التي سبقت ليل جنونه الطويل بين السفر والتجوال بدون أن يهدأ في مكان أو يطمئن لإنسان . لذلك كان عليه أن يبدأ باستمرار، أن يواجه المطلق وحده. ولم يبق أمامه لكي يستمر في الحياة إلا أن يتجه للحياة نفسها ليستمد منها القدرة على التجدد والبقاء. ولذلك ظل «نبع الحياة» هو وطنه الوحيد، وظل الالتصاق «بجذر الوجود» والإنصات إلى دبيب القوى الكامنة النامية فيه هو ملاذه وملجأه، والفزع إلى الخالدين والسماويين والمقدسين عزاؤه ورسالته.
إنه يعبر عن تجارب هذه الحياة التي قضاها في الرحيل والتجوال - بالمعنى الظاهر والباطن معا - في واحدة من أجمل قصائده، وهي قصيدة «خيالية المساء» أو «فانتازيا المساء»،
6
التي تتشابك فيها تجربته الذاتية بالقلق والعذاب مع تجربة موضوعية أخرى بالقدر الأسطوري القديم:
الفلاح
7
يجلس هادئا في الظل أمام كوخه،
وينظر راضيا قنوعا إلى الموقد الذي يرسل الدخان.
ناقوس المساء يرحب بالمسافر الوحيد
8
وهو يدلف إلى القرية المسالمة.
والآن يعود الملاحون أيضا للميناء،
وتخفت في المدن البعيدة جلبة الأسواق.
في البستان الهادئ تتألق وجبة الطعام،
الذي سيشترك في تناوله الأصدقاء.
لكن إلى أين أذهب؟ إن البشر الفانين
يعيشون على الأجر والعمل، كل شيء يتقلب فرحا
بين الراحة والعناء، لكن لم لا تنام أبدا
هذه الشوكة المغروزة في صدري؟
في السماء يزدهر الربيع عند المساء؛
تتفتح الزهور بلا عدد ويبدو العالم الذهبي هادئا،
آه! خذيني إلى هناك أيتها السحب الأرجوانية!
وليذب هناك حبي وعذابي في النور والهواء!
لكن السحر يفر بعيدا
كأنما أفزعته ضراعتي الحمقاء؛
ينتشر الظلام وأظل وحيدا،
كما كنت دائما تحت السماء.
تعال أنت الآن أيها النعاس اللطيف!
القلب يسرف في رغباته، لكن شعلتك،
أيها الشباب القلق الحالم، ستنتهي إلى رماد!
أما الشيخوخة فستكون هادئة وصافية.
القصيدة كما ترى تبدأ بصور قليلة رحبة ترسم عالم المتجول الوحيد، وهو عالم أليف إلى نفسه وغريب عنها في آن واحد. وتتردد في المقطوعة الأولى كلمات أربع، أشبه بالأثقال التي توضع في كفة الميزان فلا يميل، كلمات تعبر عن الهدوء والقناعة وكرم الضيافة والسلام. ولكن القناعة والكرم هما المحوران اللذان تدور حولهما القصيدة بأسرها، فالقناعة تحمل أقصى ما يطمح إليه فكره ويقصر عنه أمله وهو الكمال والاكتفاء بالنفس، والكرم يصور العاطفة التي تعذبه وتؤرق وجدانه؛ إذ لا يجد المتجول الوحيد مكانا يطمئن إليه ويلقى فيه كرم الضيافة. أما الظل المنعش، وسحابة الدخان الرقيق، وأنغام النواقيس التي تدق في المساء فهي ترفرف على القصيدة كلها كحمامات السلام.
وتهتز القصيدة بالحركة عندما يدخل إليها الملاحون، ومهنتهم قريبة من مهنة الشاعر والفنان المتجول. إنهم يعودون أيضا إلى الميناء؛ إلى المدينة البعيدة. ومع أن العودة مقرونة بالفرح وتألق الضياء، إلا أن القلب لا يخطئ نغمة الألم المكتوم في كلمة الأصدقاء، لا لأن الشاعر سيسأل بعدها مباشرة سؤاله الأول والأخير الذي يعذب حياته: «لكن إلى أين أذهب؟»، بل لأن الصداقة بالقياس إليه - وهو الباحث الذي لا يهدأ عن المطلق - لم تكن في يوم من الأيام ولن تكون سوى فترة عابرة أو جزيرة منعزلة في خضم وحدته.
والشاعر لا يصرخ وهو يسأل سؤاله: «لكن إلى أين أذهب؟»، بل يهمس به في حياء وسكون. ويوشك السؤال أن يتوه في عالم يتقلب بين تعب العاملين وفرحتهم باللقاء، ورضاهم عن نصيبهم من الأجر والجزاء.
وسؤال الشاعر - على خلاف الرومانتيكيين من بعده - تمتزج فيه الشكوى بالإباء. فهو لا يتلذذ بجراحه ولا يستسلم لعذابه، بل سرعان ما يرفع بصره عنه ليتطلع إلى البريق الذي يشع من حوله، في ألق الربيع وازدهار الورود وألوان السحب الأرجوانية.
وتتضح الحدود الفاصلة بين الفكر والشعر؛ فالفكر يهيئ السؤال ولكنه يعجز عن الجواب المقنع، والشعر يخلق واقعه ولكنه يتجاوز السؤال إلى بعد آخر مختلف:
في السماء يزدهر الربيع عند المساء.
أي يحاول أن يقدم الجواب الشعري على السؤال الذي يعذب المطارد الوحيد. ومع ذلك فإن الواقع الآخر الذي يخلقه ليس إلا المظهر الساحر الذي «يبدو» للعين أو النور الذي لا يدري الشاعر كنهه ولا تستطيع عينه أن تتغلغل فيه:
العالم الذهبي يبدو هادئا.
وسرعان ما يتخفى السر مع أول رغبة حمقاء .. وتتحول اللغة إلى الاتزان والعقل، ويعترف الشاعر بكل آلامه:
ينتشر الظلام وأظل وحيدا،
كما كنت دائما تحت السماء.
ونقرأ المقطوعة الأخيرة فنحس بأن الواقع نسيج من الرضا والزهد والتسليم، وأن الشعلة التي تحولت إلى رماد لم تخب فيها جمرات الصدود والانكسار.
من الغريب أن يقضي الإنسان حياته في التنقل والتجوال. ولكن الأغرب منه أن يتم ذلك دائما في عز الشتاء.
لقد سافر الشاعر في ديسمبر سنة 1796م إلى فرانكفورت، وفي يناير سنة 1801م إلى هاوبتفيل، وفي يناير سنة 1802م - «في رحلة باردة طويلة» - إلى مدينة بوردو الفرنسية، أما رحلته الأولى - على ظهر عربة بريد كئيبة - فكانت في شهر ديسمبر سنة 1793م إلى فالترزهاوزن القريبة من مدينة ميننجن، عن طريق نورمبرج وارلانجن وبامبرج وكوبرج. كان الشاعر «شيلر» قد توسط له عند صديقته شارلوته فون كالب التي كانت على صلة طيبة بالحياة الأدبية ليعمل مربيا خاصا لابنها «فرنس» البالغ من العمر عشر سنوات. وكان هذا العمل بداية سلسلة من المحاولات الفاشلة لكسب قوته من إعطاء الدروس الخاصة. كما كان يفعل معظم الكتاب والشعراء البؤساء في ذلك الحين.
وتتضارب الأقوال حول الفترة التي قضاها هلدرلين في هذا العمل وانتهت بإعفائه منه بصورة مفاجئة، كما تختلف حول علاقته بهذه السيدة الغريبة الأطوار. كان من رأي الشاعر نفسه أن هذه السيدة - التي تكبره بتسع سنوات - امرأة نادرة لا نظير لها في اتساع أفقها وعمق شخصيتها ورقتها. وكانت السيدة نفسها امرأة متقلبة ملتهبة العاطفة تنتقل في سرعة خاطفة من حنان الأمومة إلى الغلظة والجفاء. ولقد استطاعت بفطرتها أن تحس بعذاب هلدرلين وتلمس آثار المحنة على كيانه الهش الرقيق. ولا نستطيع أن نجزم بشيء عن طبيعة العلاقة التي كانت بينها وبينه وخاض فيها كثير من الباحثين، ولكن لا بد أنها كانت شيئا أقرب إلى الصداقة العفيفة المترفعة، ولا بد أنها كانت تنطوي على شيء كثير من الإشفاق على الشاعر من حرفة التعليم التي لم يخلق لها، بل ورطه فيها أكل العيش، وأكل العيش مر كما نقول! ويكفي أن نقرأ الرسالة التي كتبتها إلى شيلر راجية أن يبحث للشاعر عن عمل آخر خفيف: «إن طيبتك تستطيع أن تفعل الكثير من أجله. حاول أن تبحث له عن أعمال خفيفة يمكن أن تيسر له معاشه بشكل سريع وتخلصه من الهموم التي قد تفيد فلسفته العملية، ولكنها لن تزيد الهدوء والاطمئنان في حياته. ليكن المجد والقناعة والثبات من نصيب هذا الإنسان القلق! إنها عجلة مسرعة في الدوران!»
ويبدو أن السيدة الذكية قد نفذت ببصرها الثاقب وراء حجب الغيب، ورأت العجلة المسرعة وهي تنقلب بصاحبها في ليل الجنون!
مهما يكن من شيء فقد أعفي هلدرلين في شهر يناير سنة 1795م من عمله، بعد الإخفاق في مهمته التربوية العسيرة. وكان قد انتقل مع تلميذه وربيبه إلى مدينة «يينا» في نوفمبر من السنة السابقة. وظل يعيش هناك بعد إعفائه من عمله إلى أن قرر فجأة أن يغادر المدينة، فتركها في أواخر شهر مايو وقفل راجعا إلى بلدته «نورتنجن».
بقي السر وراء هذا السفر المفاجئ محوطا بالغموض. وظلت الإشاعات تلاحق الشاعر الذي راح يشكو بعد ذلك في إحدى رسائله التي كتبها من مدينة فرانكفورت من علاقات نسائية نسبت إليه ظلما: «سيلاحقني الناس بأحكامهم القاسية حتى أخرج أخيرا من ألمانيا ...» وسواء أكان السبب في هذه الإشاعات والأحكام الظالمة هو جماله الرائع الذي عرف عنه في شبابه، أو حساسيته المريضة المرهفة، أو شعوره بالغربة في كل مكان يأوي إليه، فقد كانت كلمة واحدة تكفي لإثارة غضبه وحمله على الفرار بنفسه من بلد إلى بلد.
كان أقطاب الشعر والفكر الألمان يقيمون في ذلك الحين في مدينتي «فيمار» و«يينا». وكان كل هم شاعرنا القلق المتردد أن يتصل بهؤلاء الأعلام «ذوي القلوب الجريئة» علهم يبثون الشجاعة في قلبه ويعصمونه من الهروب إلى الزهد والانعزال. كان القرب منهم - على حد قوله - يسحقه ويسمو به في آن واحد. وكان يتمنى أن ينتزع نفسه من الضباب والنعاس الذي يخيم على حياته، ويوقظ الطاقات التي أوشكت أن تموت في صدره.
وكان شيلر في طليعة هذه الأرواح والقلوب الجريئة التي أثرت عليه تأثير السحر، وشدته إلى عالمها المثالي النبيل كأنها القدر. وكان موقفه منه هو موقف الإجلال والخوف الذي يجذبه إليه ويبعده عنه في وقت واحد، الإجلال لشخصيته القوية الواثقة، والخوف من أن تتحكم فيه وتسيطر عليه. ولذلك فهو يعترف بأنه لم يستطع أن يقترب منه بروح الصفاء والمرح، ولم يستطع كذلك أن يبتعد عن فلكه أو يخلص من تأثيره، ولو فعل لكانت سقطة لا يغتفرها لنفسه.
أقام هلدرلين ستة شهور في مدينة «يينا» وقدر له أن يحظى بعطف شيلر ورعايته. ولكنه ظل على الدوام يحس أنه لا يستحق هذه الرعاية الأبوية، حتى إنه كتب إلى أمه فقال إنه اعترف للرجل العظيم بدهشته من اهتمامه به! وتتكرر نفس الكلمات المنكسرة في بعض رسائله التي كان يكتبها لشيلر فيرجوه في إحداها أن يتعطف عليه بنظرة اهتمام أو يعترف في إحداها بأنه حاول بمختلف الوسائل أن يفوز منه بكلمات ودية قليلة ...
ووصل به الأمر في أحد الأيام - وكان في اليوم التالي على موعد مع شيلر - أن يقضي الليل مؤرقا والنهار معذبا لا يستطيع أن يجد نفسه أو يهتدي إلى فكرة.
ومهما يكن الأمر في شأن هذه العلاقة بين الشاعرين فلم تكن علاقة بين شريكين يقدر كل منهما عبقرية صاحبه - كما كانت مثلا بين شيلر وجوته - بل شابها إشفاق هلدرلين من تفوق «الرجل العظيم»، وكان ذلك في أغلب الظن من الأسباب التي دفعته إلى الفرار من المدينة والعودة إلى حياة التجوال.
والمؤكد أن شيلر قد عطف عليه من الناحية الإنسانية وحاول أن يعينه على مواجهة الحياة، ولكنه لم يستطع أن يقدر عبقريته حق قدرها ولم يتح له أن يسبر أغوارها ويدرك عمقها ...
أما عن جوته - عملاق الأدب وكعبة حجاج الفكر في فيمار - فقد كان لقاؤه الأول معه مصادفة لم تجلب معها إلا المرارة والانكسار .. ذهب هلدرلين لزيارة شيلر، ودخل من الباب فحياه الشاعر الإنسان ورحب به. وكان هناك زائر آخر سبقه إليه، ولكنه لم يفطن إلى وجوده، إذ لم تصدر عنه إشارة تدل عليه، ولم يفه بكلمة تكشف عن شخصيته. وقدمه شيلر إليه، كما نطق باسمه لهلدرلين، ولكن هذا لم يفهم اسمه، ولذلك حياه في برود، دون أن ينظر إليه؛ إذ كان لفرط ارتباكه مشغولا عنه بشيلر وحده.
وظل الغريب صامتا. وجاء شيلر بنسخة من مجلة «تاليا» التي كان يصدرها آنذاك فقدمها لهلدرلين، وكان قد نشر فيها قطعة من روايته الوحيدة «هيبريون» وقصيدته إلى القدر. ومد الغريب يده فتناول المجلة من على المائدة، وتصفحها لحظات دون أن يقول كلمة واحدة. وشعر هلدرلين أن وجهه يحمر ويزداد احمرارا. ونطق الغريب كلمات قليلة، كانت لعمقها كفيلة بأن تلفت شاعرنا إلى شخصية صاحبها.
الشاعر فريدريش شيلر.
وأقبل زائر آخر هو الرسام «ماير» الذي كان يعيش في مدينة فيمار. وأخذ الغريب يتحدث معه في شئون مختلفة، وبقي هلدرلين لا يفطن إلى شيء .. ثم انصرف بعد قليل، وسمع في نفس اليوم من نادي الأساتذة أن «جوته» نفسه هو الذي كان في زيارة شيلر!
هكذا يصف لنا هلدرلين هذا اللقاء الأول الذي تم بمحض الصدفة، وإن لم يكن للصدفة دخل في أن يظل هذان الكوكبان بعيدين يسبح كل منهما في فلكه. صحيح أنه يحدثنا في بعض رسائله إلى صديقيه نويفر وهيجل، عن لقاء آخر مع جوته كما يذكر هذا اللقاء بالشكر والعرفان ويقول بالحرف الواحد: «إن أجمل متعة نحظى بها في حياتنا هي أن نجد كل هذه الإنسانية مقترنة بكل هذه العظمة ... إنه هادئ، في نظرته سمو وجلال، وفيها كذلك حب، وهو في حديثه بسيط غاية البساطة ...» غير أن هذه الكلمات المخلصة لا تغير من الحقيقة شيئا .. والحقيقة هي أن الشاعرين الكبيرين لم يعرفا هلدرلين ولم يقدر لهما إدراك عبقريته. ربما كان المسئول عن هذا هو شخصيته القلقة المضطربة التي اعترف جوته بحيرته إزاءها، وربما كان السبب هو أنهما ظلا حبيسين في عالمهما الشامخ الواضح المحدد، فلم تتح لهما النظرة الحرة إليه. وكانت النتيجة أن اعتبره شيلر من أصحاب النزعة الذاتية المتطرفة، ووضعه جوته بين الشعراء الغنائيين الحالمين (وأوضح دليل على هذا أنه نصحه بالاتجاه إلى كتابة القصائد القصيرة، وهي نصيحة لا تتفق بحال مع طبيعة هلدرلين ونفسه الطويل)! ولعلهما في النهاية قد شعرا نحوه بشيء غير قليل من الخوف والإشفاق جعلهما عاجزين عن وضعه في إطار معروف أو قالب محدد.
ومن سوء الحظ أيضا أنه لم يقدر له أن يلتقي لقاء حقيقيا بالكاتب المؤرخ الفيلسوف هردر (1744-1803م) وكان مثل هذا اللقاء خليقا أن يكشف عن القرابة الروحية التي تجمع بينهما، والجذور الفكرية المشتركة التي تجعلهما يقفان من الوجود الحي النامي موقف الخشوع والورع. لقد ذهب هلدرلين إليه، واحتفى به «الرجل النبيل» حفاوة قلبية صادقة، تركت في نفسه أثرا لا ينسى. ومع ذلك فإن هذا اللقاء العابر لم يؤت الثمرة المرجوة، ولم يتح لذلك الكاتب المتدفق الواسع الأفق أن يعرف شاعرنا عن قرب أو يوجهه ويرعاه، وهو الذي يدين له عشرات الأدباء - ومنهم جوته نفسه - بفضل الرعاية والتوجيه.
ويتكرر هذا الإخفاق أيضا - ولكن في صورة أكثر اختلافا وأشد إثارة - في صلة هلدرلين بفيشته (1762-1814م)، وهو «روح مدينة يينا» في ذلك الحين. ولكن لعل السبب في هذا الإخفاق أن يكون كامنا في موقفه من الفلسفة لا من الفيلسوف.
كان صديقه «إمانويل نيتهامر» قد قدمه إلى كوكبة الفلاسفة الذين يشغلون المدينة بأخبارهم وأفكارهم. ويحدثنا هذا الصديق في مذكراته عن اجتماع ثلاثة من أقطاب الفكر والشعر في إحدى أمسيات الصيف في بيته. وكان الثلاثة هم فيشته وهلدرلين ونوفاليس الشاعر الرومانتيكي الرقيق الحزين (وكان في ذلك الحين في الثالثة والعشرين من عمره) .. ولسنا ندري ماذا تم في هذا اللقاء. ولكن إشارة واحدة من نيتهامر عن النصيحة التي وجهها إليه صديقه هلدرلين بأن يحمي نفسه من الأفكار المجردة، يمكن أن تلقي شيئا من الضوء على صلة شاعرنا بالفلسفة والفلاسفة.
اعترف هلدرلين بعد ذلك (وكان هذا في شهر يناير سنة 1799م) في سياق كلامه عن «صنعة الشعر العذبة» بأن الفلسفة قد أضنته إلى حد اليأس، ووصفها بأنها نوع من السخرة وأن الحياة معها أشبه بحياة الجندية! لقد أقبل عليها في صبر وعناد، ولكنها حرمته من الطمأنينة والسلام. وظل حائرا لا يدري السر في هذا حتى اكتشف أنها ابتعدت به عن ميله الحقيقي، وأنه كلما انصرف إليها شهق قلبه حنينا إلى «عمله الحبيب»، كما يحن الرعاة السويسريون أثناء فترة تجنيدهم إلى المراعي والسهول والقطعان .. ثم يسأل نفسه قائلا: لماذا أكون إذن كطفل مسالم طيب عندما أفرغ للإلهام العذب بدون أن يزعجني شيء، وأنصرف «إلى أشد الأعمال براءة»؟ .. لا عجب إذن أن يغضب المشتغلين بالفلسفة فيصفها بأنها طاغية، وأن يعلن ضيقه بها ويتمرد على قيودها وجبروتها!
ولعل المسئول عن هذه اللعنات التي صبها هلدرلين على رأس الفلسفة هو فيشته نفسه. لقد كان ظاهرة وحده. وكان بفكره وشخصه طاغية تجسد في هيئة إنسان. ولا نزاع في أنه يمثل قمة التفكير الاستنباطي الذي مهد له ديكارت، والذي راح يتأمل الواقع منطلقا من التجريد. [وجدير بالملاحظة أن هيجل لا ينتمي إلى هذا الخط، على الرغم من كل ما في فلسفته من تجريد، لأنه يضع الفكرة الواقعية المتحققة دائما نصب عينيه] .. وينظر هذا الفكر الاستنباطي إلى الواقع المتشابك - الذي تمتزج فيه الفكرة بالجسد بالإرادة بالإحساس بالقدر بغيرها من العناصر - نظرة أخلاقية خالصة .. [وكذلك كان الأمر أيضا عند «كانت»] .. أي أن هذه النظرة الكونية تعتبر أن الواقع بأكمله ليس إلا المادة التي تعين على تحقيق رسالة أخلاقية معينة. هذا وحده هو الذي يجعله «واقعا»، ولذلك فليس له وجود إلا حيث يصلح أن يكون جوابا على فعل [الذي يتم وفق مبادئ وأصول أخلاقية]. أي أن هناك جانبا يجرد من الواقع، وهو الجانب الذي يساعد على تأكيد «ذاتي عن طريق الفعل الذي أقوم به ». والغاية في نهاية الأمر هي تأكيد هذه الذات أو هذه الأنا.
ومن هنا بدت هذه الفلسفة أرستقراطية متعالية، جسورة ووحيدة. ومن هنا أيضا بلغ إعجاب هلدرلين بفشته وتحمسه لفلسفته أن قال في نوفمبر سنة 1794م إنه لا يعرف له نظيرا في عمقه وطاقته العقلية .. وهي عبارة يدهشنا أن يصرح بها أثناء وجوده في مدينة «يينا» بالقرب من شيلر الذي كان يؤمن بتفوقه الرائع ويخشاه في وقت واحد !
بيد أن هذه العبارة كانت بنت اللحظة. فلم يلبث بعد قليل أن أدرك آفة التسلط الكامنة في هذه الفلسفة المجردة، وإن تردد مع ذلك في توجيه النقد الصريح إليها. فها هو ذا يعترف لهيجل
9
بأنه اشتبه في مبدأ الأمر في جموده وتزمته (أو ما يعرف في لغة الفلسفة بالنزعة الدجماطيقية) وبدا له أن الفيلسوف يقف في مفترق الطرق. ولعل شبهة التزمت أن تكون من أقسى وأصدق ما يوجه إلى هذه الفلسفة المثالية المتطرفة التي تقوم في أساسها على أن «الأنا» هي التي تضع الواقع أو الوجود الخارجي. ومهما حاول فشته أن يدفع التهمة فإن المحاولة تستند إلى نفس الغرض الذي بنى عليه فلسفته!
مهما يكن من شيء فإن الحوار الفكري الجاد مع فشته لم يأت إلا بعد فترة طويلة في أواخر سنة 1799م عندما كتب هلدرلين مقاله الذي لم يتمه عن الدين. فقد حاول أن يرد على فلسفة فشته في المطلق، وفكرته في أن الذات هي التي تضع الوجود، أي أن الوجود الخارجي لا قيمة له إلا من جهة تأكيده لوجود الذات. أما فكرته عن الذات الأخرى أو «الأنت» التي اعتبرها «مجرد وسيط لتأدية وتوضيح واجباتي الأخلاقية» فقد رد عليها هلدرلين بفكرة أخرى مطلقة نابعة من تفكيره الإلهي العميق عن علاقة الأنا والأنت. ولا بد من باب الإنصاف أن يقال إن هذه الفكرة كانت جديدة كل الجدة في تاريخ الفلسفة، وأنها انتظرت أكثر من قرن ونصف قرن حتى تناولها الوجوديون في الزمن الحديث - وبخاصة هيدجر وسارتر - فتعمقوها إلى أبعد حد في فكرتهما عن «الوجود من أجل الآخرين» [وإن اختلفت هذه الفكرة بالطبع عن مثيلتها عند هلدرلين].
لننظر في كلمات هلدرلين التي عبر بها عن فكرته الفلسفية تعبيرا يلائم حقيقة حياته ووجدانه ... فإذا أراد الإنسان - في رأيه - أن يتحدث عن الألوهية وأن يصدر حديثه من القلب لا من الذاكرة «ولا بحكم الصنعة» فلن يستطيع بالرجوع إلى نفسه وحدها أو إلى الموضوعات الخارجية المحيطة به أن يتبين أن في هذا العالم شيئا أكبر من جهاز آلي سيار، وأن فيه روحا أو إلها، وإنما يمكنه أن يتبين هذا لو اتصل بما يحيط به اتصالا حيا مترفعا عن الحاجات الضرورية. من هنا يكون لكل إنسان إلهه الخاص به، بقدر ما تكون له دائرته الخاصة التي يعمل فيها، وبقدر ما يشترك عدد من الناس في دائرة واحدة يعملون فيها ويتعذبون بصورة إنسانية، أي بصورة تسمو على كل حاجة ضرورية، بقدر ما يشاركون في الألوهية. ثم يستطرد هلدرلين في مقاله الذي أشرت إليه عن الدين فيقول:
10
إنه لا ينبغي علينا أن ننسى أن الإنسان يستطيع أن يضع نفسه في موضع الآخر كما يستطيع أن يجعل الدائرة التي يحيا فيها «الغير» دائرة خاصة به، أي أنه لن يعجزه بالطبيعة أن يقر بطريقة الإحساس بالألوهية وتصورها على نحو ما تتأتى من العلاقات الخاصة التي تربطه بالعالم الذي يعيش فيه، بشرط ألا يكون هذا التصور وذلك الإحساس صادرين عن حياة متطرفة في العاطفة أو الغرور أو العبودية.
هكذا تبدأ تجربة الروح أو الإله على حدود الفرد. فحيث تنفتح هذه الحدود على القدر والكل والأنت تتم تجربة المطلق.
والواقع أن هذه الفكرة لا تختلف عن فكرة فشته إلا في الظلال الطفيفة التي تكسوها. فكلاهما يرى أن الإنسان لا يجرب واقعه إلا من خلال لقائه مع شريكه، أو مع الآخر كما تقول الفلسفة المعاصرة. غير أن نقطة البداية التي ينطلقان منها تختلف عند الفيلسوف عنها عند الشاعر.
فالفيلسوف يعنيه أن يصنع الإنسان نفسه عن طريق تحقيق «مجال طاقته» أو «دائرته» الخاصة به، أي إنه لا يشعر بتحقيق طاقاته وإمكانياته إلا من خلال الاصطدام بمجال آخر أو دائرة أخرى. إنه «يضع نفسه» - بالتعبير الشائع في المثالية الألمانية - عندما يقيم «الوضع المضاد» أو الضد المقابل له. أما الشاعر فينصب اهتمامه على اللقاء الذي يتم بين الأنا والأنت التي يضعها القدر في طريقه، بحيث يبرز «الثالث» أو المطلق الذي «يقوم بيني وبينك». وليس لنا أن نتوقع من الشاعر أن يتولى هذه الفكرة بالتحليل والتفصيل - فما خلق الشعراء لشيء من هذا - فذلك لا يتفق مع طبيعته وموهبته. ولذلك نجده يقف فجأة عند هذا الحد، في حين يمضي فشته مع فكرته على ترتيب دقيق حتى يصل بها إلى الغاية المرسومة لها في فلسفته وهي «الفعل».
على أن الشاعر لن يعدم فرصة أخرى تتيح له أن يعبر عن فكرته تعبيرا ملموسا. فهو يكتب إلى شقيقه في شهر نوفمبر سنة 1798م رسالة يقول فيها: «هكذا يجب علينا أن نقدم التضحية للألوهية التي تجمع بيني وبينك، فنحتفل باللطف والنقاء اللذين يتمثلان في حديثنا عنها بعضنا إلى بعض، كما نحتفل بالروح الأبدي الذي يربط بيننا ...»
وتعود هذه الصورة في رسالة متأخرة إلى صديقه بولندورف، بعد أن تغيرت قليلا واكتسبت شيئا من العمق: «أنا في حاجة إلى أنغامك النقية. إن الروح
11
التي تؤلف بين الأصدقاء، ونمو الفكرة في مجرى الحديث وعلى صفحات الرسائل المتبادلة بينهم؛ أمور لا يستغني عنها الفنانون. ولو لم يكن الأمر كذلك ما بقيت لنا فكرة، ولظلت ملكا للصورة المقدسة التي نكونها.»
والفكرة الأصلية هنا واضحة متميزة، على الرغم من غموض العبارة وبخلها، فالشاعر يكرر رأيه الذي عرفناه ويزيده قربا منا.
إنه يؤكد لنا أن تجربة المطلق (أو الروح التي تجمع بين الأصدقاء) ليست تجربة مجردة أو معلقة في الفراغ أو فوق السحاب، بل هي تجربة «بيني وبينك»، يمكن استخلاصها من الأحاديث العادية التي تدور بين الناس كل يوم. أما الصورة المقدسة التي نكونها بأنفسنا، كما تقول الكلمات الأخيرة في العبارة، فهي تشير إلى بعد أسطوري عميق وجديد. فلعلها تريد أننا نحن البشر نشارك في عمل المبدع الأعظم، ونسهم في جهود القوى الخلاقة وفي نسج «صورة الزمان التي يرسمها الروح الأكبر» على نحو ما تقول قصيدة «الاحتفال بالربيع» التي تحدثنا عنها في الصفحات السابقة. وواجبنا في هذه الحياة هو أن نقف من الخالق المدبر موقف الطاعة والخشوع، ونتأمل حكمته التي تتجلى في الطبيعة والروح على السواء.
كانت هذه هي منزلة هلدرلين من المثالية الألمانية، عرضنا لها بإيجاز شديد وتبسيط نرجو ألا يكون مخلا. ومع أننا لم نحاول أن نجعل منه فيلسوفا على الرغم منه، فلا يمكن الإغضاء من مكانته كشاعر مفكر، لأن الحدود الفاصلة بين الفكر والشعر دقيقة كالزجاج الشفاف، وهما في صميمهما متقاربان، يسكنان على قمة جبلين متجاورين وإن كانا منفصلين.
إن فكر هلدرلين فكر ملتزم بالمعنى الواسع الشامل لهذه الكلمة لا بمعناها الضيق الذي شاع في هذه الأيام. فبينما يحاول التفكير الاستنباطي أن ينطلق إلى نوع من التفكير الحر المجرد المطلق [وهو الهدف الذي لا يكاد يبلغه لأن الوعي أو الذات لا وجود لها بغير الموضوع] نجد أن تفكير هلدرلين يبتعد جهده عن مجال التجريد، ويلتزم على الدوام بالواقع المجسد المتحقق، كما يرتبط بتيار التحول والتغير والصيرورة في الحياة على اختلاف صورها وأشكالها وألوانها. إنه يصغي على الدوام لدقات قلب الحياة، ويرصد عمليات التغير والنمو التي تتم في تيارها الدافق. ليس من طبيعته أن يكون فكرا مغلقا أو نهائيا أو تاما في ذاته، لأنه في حالة نشوء مستمرة. ولا يهم صاحبه أن يقيم بناء من الأفكار، بقدر ما يهمه أن يتحرك حركة متصلة ويتغلغل فيما يحيط به من أسرار القدر والوجود، ويتتبع الخيوط التي يتألف منها نسيج الحياة. إنه فكر يعرف حدوده - وهذه هي أول خطوة على درب المتواضعين الخاشعين! - وهو لا يريد ولا يخطر على باله أن يبني مذهبا أو يشيد بناء يرتفع طبقة فوق طبقة، لأن هذا البناء لا يناسب طبيعة شاعر قلق لا يهدأ في مكان ولا يطمئن إلى شيء.
والطبيعة نفسها تتكفل بتحديد معالم الصورة التي ينبغي أن يتعلم منها الناس. إن الإله يتدثر بثوبه، يحجب وجهه عن فضول البشر، ويستر جلاله المهيب خلف غلالة الهواء والزمان، حتى يوشك أن يستعصي على صلوات الروح وضراعتها. أما الطبيعة فتنبسط أمام أعينهم كأوراق الشجر، وعليهم أن يحبوها ويتعلموا منها:
لأن الطبيعة مفتوحة من قديم الزمان
ليتعلموا منها، كالأوراق والخطوط والزوايا.
12
وهلدرلين يقف من هذه الطبيعة المعلمة موقف الطاعة والخشوع، ويستمد منها تفكيره المحكم الدقيق الذي يختبر كل فكرة بمقدار تحققها في صورة عيانية مرسومة بارزة المعالم. ولذلك فهو لا يحاول أن يعبر عن الروح بالتصورات المجردة، وإنما ينظر إليها بعين الشاعر فيرى سحرها المنثور على جسد الواقع:
لذلك أحتفل اليوم بالعيد،
وفي المساء عندما يسود السكون
تزدهر الروح حوالي ...
13
والروح يتغير ويتحول أمام بصره وقلبه، يحتفل الأحياء بعرسه الخالد، وينعم الشجعان في ظله بالنعاس الهادئ، ويفرح العشاق بالدفء والعناق، ويفزع الهائمون إلى ملجأ يؤويهم، ويمد الحيارى أيديهم إلى بعضهم البعض، ويرف الروح هامسا حول الأشجار المعتمة والأزهار المبتهجة بالنور:
هناك يحتفل البشر والآلهة بالعرس،
يحتفل به الأحياء جميعا،
ويهدأ القدر لحظة.
واللاجئون يلتمسون المأوى،
والشجعان (يلتمسون) عذب النعاس،
أما العشاق فهم
كما كانوا على الدوام،
مطمئنون في بيوتهم؛
حيث تبتهج الزهرة بالوهج الذي لا يضر
والأشجار المعتمة يرفرف الروح حولها ويهمس،
أما الحيارى القلقون فيتغيرون،
ويمدون الأيدي بعضهم إلى بعض مسرعين،
قبل أن يأفل النور الودود،
ويقبل الليل.
14
إن الشاعر لا يصور الروح بالأفكار المجردة، بل يلتمسها في الواقع الحي، بلغة مكثفة تعكس هذا الواقع «فإذا أراد أن يعبر عن الأمل أصبح عنده وهجا حيا ملموسا، وإذا صور السلام لم يلجأ للفكرة المجردة بل للحدث المحسوس الذي تشاهده العين ويهتز له القلب ...»
استمع إليه وهو يخاطب الخالدين في صياغته الأخيرة لقصيدة الاحتفال بالسلام:
الأنسام اللطيفة الأنفاس
تبشر بكم،
الوادي الذي يتصاعد منه الدخان،
والأرض التي لا تزال تدوي بالأنواء،
تعلن عنكم،
لكن الأمل يكسو الخدود بالاحمرار،
وأمام باب البيت
تجلس الأم مع طفلها،
وتتطلع للسلام.
ولقد نوه الشراح بالقرابة الروحية التي تجمع بين هلدرلين وبين المفكرين السابقين على سقراط. كان هؤلاء يفكرون في الطبيعة، ويحيون في قلب الأسطورة، ويدهشون لمعجزات الوجود الممتدة أمام أبصارهم. ولذلك كانوا مفكرين شاعريين، يعبرون عن انبهارهم بالوجود بلغة الصورة والرمز والخيال والأساطير. ولذلك أيضا كانوا هم الفجر الذي سبق ظهور الفلسفة بمعناها الدقيق. فإذا رأينا واحدا منهم وهو هيراقليطس يصور الروح أو العقل في صورة البرق الذي يلمع في السماء، فإن هلدرلين لا يبتعد عنه كثيرا حين يرسم التفكير على هيئة الأثير الرفاف، ويصور الحب بلون البنفسج الأزرق الذي يكسو الأرض:
النيران أسيرة بين الشطآن المعشبة،
وكذلك العناصر الأربعة ..
أما الأثير فيحيا في الأعالي في تفكير خالص.
وأما النور فهو فضي في الأيام الصافية،
والأرض زرقاء بلون البنفسج
علامة على الحب.
15
هكذا ينظر إلى الأشياء والأحداث بعين الشاعر، ويعبر عنها بلغة تصدق عليها كل الصدق، في جمل مكثفة واضحة محددة المعالم والأطراف، مغروسة في أعماق الرؤية الأسطورية بكل جلالها وقداستها. ولذلك تأتي هذه الأبيات بسيطة وبريئة وساذجة، أعني أنها بعيدة كل البعد عن الافتعال والصنعة والتجريب بهدف التجريب. ولذلك أيضا يقترب هذا الشعر من روح الفلسفة، وإن ابتعد عن نهجها المرتب ولغتها المجردة. صحيح أن هلدرلين قد اشتغل بالفلسفة واتصل بالفلاسفة، ولا شك أنه لم يخرج من ذلك صفر اليدين، ولكن طبيعته الشاعرة تمردت عليها، بل بلغ به السخط عليها أن وصفها بالطغيان واتهم أحد أعلامها بالتزمت، وضاق بفنونها الجدلية وحيلها النقدية وغرائبها الصورية أشد الضيق! وأعلن مقته للتفكير الميتافيزيقي المجرد الذي غلب على روح العصر، حتى يمكن أن نقول معه إن «عقول الهواء ذات الأجنحة الميتافيزيقية» كانت من أقوى الأسباب التي عجلت بفراره من مدينة «يينا». فقد كانت هذه المدينة أشبه بالحلبة التي يتصارع عليها الفلاسفة، والحياة فيها كالحياة في معسكر أو قشلاق. ولذلك فليس عجيبا أن يتسلل منها في جنح الليل، إذ كيف يعيش الراعي الطيب في معسكرات الجنود، وكيف يطيق الشاعر المسكين أن يحيا في حلبة يتصارع فيها المتلاكمون بالمذاهب والأفكار؟ .. وكيف لا يشعر المتجول القلق أنه غريب في المدينة، ووحيد أمام القصر الرائع الذي شيدته المثالية المجردة؟
العاشق
«لا بد أن أصل لهذا السر الأكبر، الذي يمنحني الحياة أو الموت!»
ديوتيما ...
هكذا أسماها قبل أن يلتقي بها ويجد فيها مثال الحب الذي طالما اشتاق إليه. ولا بد أنه تنبأ بإلهامه الصادق، بما سيكون لها على حياته وشعره من أثر عميق، فجعلها محور الصياغة الأولى لروايته الوحيدة التي تعرف بشباب هيبريون. فلما عرفها والتقى بها وقام بتعليم ابنها خلع عليها هذا الاسم الحبيب؛ فخلدها في تاريخ الأدب. ومن يدري؟ فربما كان حبه الجريح الكسير من أقوى الأسباب التي عجلت بانهياره إلى هاوية الجنون المظلم الطويل!
ولكن من أين أتى بهذا الاسم الساحر القديم؟ أكان استغراقه في الروح الإغريقية والأدب والأساطير والآلهة الإغريقية - وقد ترجم بعض أشعار بندار ومسرحيتي أوديب وأنتيجونا لسوفوكليس، وظل هذا العالم المقدس مثله الأعلى وغاية لحنينه وشوقه - هو الذي أوحى إليه باسم هذه العرافة الحكيمة؟
إن كل قراء الفلسفة المطلعين على محاورات أفلاطون يعرفون هذه الشخصية الرائعة الغامضة التي ترد في محاورة المأدبة. فهي الكاهنة التي يقف منها سقراط موقف التلميذ من الأستاذ .. وهي المرأة الوحيدة التي اختارها أفلاطون ليجري على لسانها رأيه في «الإيروس» أو الحب. وهي التي يعترف سقراط أيضا بأنها علمته معنى الحب الفلسفي وهدته إلى معارج الجمال المطلق والحكمة الحقة.
تلك هي ديوتيما القديمة. أما ديوتيما الحديثة فهي التي يهبها الشاعر قلبه وحياته، ويقف منها موقف سقراط من معلمته الغامضة، بل يزيد عليه فيركع كالعابد عند قدميها. سقراط وهلدرلين كلاهما تلميذ يتعلم من أستاذته الحب والحكمة. والفرق بينهما هو الفرق بين الفيلسوف الماكر الساخر المتسامح العجوز الأفطس الأنف، والشاعر القلق الوحيد الرائع في جماله وشبابه. والفرق بين المعلمتين هو كذلك الفرق بين عرافة وكاهنة تفتي بالقول الفصل بعد اختلاف الآراء في شأن الحب - ولا بد أنها كانت عجوزا حتى تؤتى هذه الحكمة - وبين شابة هادئة رقيقة تفيض عيناها وقلبها بالطيبة والحنان والفهم للشاعر الذي ألقت به المقادير في طريقها، وشاءت أن يعيش في بيتها، ويروي عطشه الأبدي من نبعها، ويغرق كذلك آخر الأمر فيه .. ولكنه قبل كل هذا يتعلم من حكمتها العذبة الحية، وهي التي لم تعمر أكثر من ثلاثة وثلاثين ربيعا .. ويجد كيانه القلق السكينة التي ينشدها في نظرة التلميذ المتطلع إلى معلمه: «دعنا نهدأ يا ولدي، ولنتعلم أبدا» ...
غير أنه لا يريد أن يتعلم شيئا بعينه. فهو الباحث المتعب عن المطلق، وهو الظامئ دوما إلى العلم الحق؛ إلى الحياة والحركة الدائمة والميلاد المتجدد والتيار الذي لا يتوقف عن التدفق والجريان: ... لا، لست أريد أن أكون شيئا،
إنما أريد أن أتعلم ...
أرادت الأقدار القاتمة الطيبة التي طالما رفع إليها أجمل صلواته، أن يصادف هذه المربية وأن تمد له يدها، لتربت على رأسه المتعب، وتشفي جرحه العنيد .. لكن إلى حين لن يطول:
لأنني تعلمت كيف يكون التبجيل الإلهي الهادئ
عندما شفت ديوتيما «جراح» وجداني ...
ولكن لنبدأ القصة من أولها ...
يبدو أن لقاء هلدرلين مع ديوتيما قد تم بالروح والوجدان قبل أن يناديها باسمها أو يتعرف على شخصها بفترة طويلة. لقد رأينا في الصفحات السابقة كيف كان يعاني مرارة الإخفاق في الحب، والخيبة مع المرأة التي قد تعطيه شيئا، ولكنها تبخل عليه بكل شيء، وقد يجد لديها المودة والعطف، ولكنه يفتقد فيها مثال الحب المطلق، الذي يتمنى أن يفنى فيه ويهبه كل حياته، كما يفتقد «السر الأكبر الذي يمنحه الحياة أو الموت» ... هكذا أخفق في حبه لإليزه ليبريت التي أعطاها أكثر مما أخذ منها، وضاق بهذا الحب الذي ظل طافيا على السطح حتى استطاع أن يتخلص منه وهو يشهق ويتنهد: «طوبى لي، إن خلصني رب طيب، خلص قلبي من هذا الحب ...»
1
ثم كانت علاقته بصديقة مجهولة عرفها في مدينة شتوتجارت، علاقة غلب عليها الحياء والهمس والكتمان. ويبدو أن هلدرلين قد عرف هذه الصديقة معرفة سريعة عابرة، ولكنها كانت كافية لتحريك أعماقه، إذ رف عليه منها نسيم الصفاء الذي ينتظره من الحب الخالص المرتسم في خياله. ها هو ذا يكتب إلى صديقه نويفر بعد أول لقاء له معها: «كان مسلكي معها غريبا شاذا. وكلما تذكرت كيف غفلت عن صحبتي لها في ساعة الوداع تمنيت لو أصفع جبهتي بيدي. ولكن أحلام طفولتي قد تبددت كما قلت لك. ولو أنها ضحكت على الشاعر المريض ضحكة مجلجلة لما كان من حقي أن أغضب. إلا أن روحها كانت أطيب وأرق من أن تفعل هذا. إلهي! سوف أكن لها الاحترام إلى الأبد. إن النبل والهدوء اللذين يملآن كيانها يخالفان ما أعرفه من المخلوقات التي أراها هنا أو في غير هذا المكان، والتي لا تحرص على شيء حرصها على جذب الأنظار إليها والزهو بفطنتها والاستغراق في ضحك لا تريد أن تكف عنه ...»
ثم يكتب إلى صديقه بعد ذلك بستة شهور أنه يشق عليه أن ينساها كما كان ينوي أن يفعل، وأنه توسل إليها في صوت هامس ألا تحرمه مودتها، ولم يزد على ذلك ولم يطلب سواه.
بيد أن علاقته بهذه الصديقة المجهولة ظلت كما قلت علاقة سريعة عابرة. لقد أثارت نفسه وحركت شوقه إلى الحب النقي، ولكن لم يتح لها أن تتغلغل في قلبه أو ترضي شوقه. ومع ذلك فقد استطاعت أن تبعث فيه ما لم تستطعه امرأة قبلها، وصورت له أنها تحقق مثال الجمال الكلاسيكي الذي عبر عنه فنكلمان - مؤرخ الفن الملهم المتيم بالروح اليونانية والجمال اليوناني
2 - بكلمته المشهورة «بساطة نبيلة وعظمة هادئة» ... وهو كذلك قد وجد عندها ما ينشده في المرأة من الجد؛ إذ كانت تختلف عن كل النساء اللاتي عرفهن، كما لمس منها الحنان والتفهم والعطف؛ فواتته الجرأة أن يطلب ودها، وهو ما لم يطلبه من امرأة أخرى قبلها.
غير أن هذه البذرة الطيبة لم تجد الظروف المواتية التي تجعل منها ثمرة ناضجة، وإن كانت على كل حال قد أفلحت في تمهيد الأرض لتلقي بذرة أخرى تؤتي الثمرة الحلوة المرة، وتجلب عليه نعمة الحب الكبرى ونقمته الكبرى في آن واحد.
بدأت أمواج الشوق والصفاء تغمر كيانه في هذه المرحلة من حياته، وأخذت تنثر رذاذها وزبدها على شاطئه الموحش، وتروي رمال عطشه القديم. واتجه فكره بطبيعة الحال إلى عالم اليونان ليستمد منه مادته، وبدأت التجربة الأولى في سلسلة تجاربه العديدة لصياغة روايته الوحيدة التي حملت عباراتها الغنائية المجنحة كل أشواق قلبه وعذاب فكره. ونشرت هذه الصياغة القصيرة التي تعرف بشذرة هيبريون في صيف سنة 1794م في مجلة «ثاليا» التي كان يصدرها الشاعر شيلر. ومن يقرأها اليوم يعرف ظمأ الأرض العطشى لأمطار الحب، وحنينها لعناق البذرة الطيبة القاسية. إن سطورها الأولى تتحدث عن البطل الشاب الذي راح يبحث عن الحقيقة، أي عن كل شيء، لأن كل ما عداها باطل وعدم. وهو لهذا يبغض أوساط الأمور كما يبغض الموت، فلا يستطيع أن يقنع بشيء إلا أن يكون «الكل» وإلا فهو عنده عدم. هذه الحقيقة الكاملة، هذا الكل، هو الذي يمكن أن يجد عنده «الراحة» .. أجل! الراحة التي تسعى إليها الروح الظامئة. ولكن من يقدر أن يعيد إلينا اللحن الذي تغنى به القلب في أيام الطفولة السعيدة المباركة؟ لقد فتش عنها حينا بين الإخوة والأصحاب، وبدا له أن فقره سيصبح ثروة عريضة لو وجد القلب الذي يتحد به، والحياة التي لا يحرمه منها فراق ولا خداع. ولكم احترق شوقا إلى ضحكة من القلب، وذاب حنينا إلى ظل من الحب. إلا أن الخيبة كانت دائما من نصيبه، وكل صداقة جديدة كانت تتركه فقيرا معدما كما كان، أشبه بصبي أعمى، حاول أن يبتاع اللؤلؤ من شحاذين أشد منه فقرا، وإن كانوا مزهوين بأسمالهم، غافلين عن الخرق التي تلف أجسامهم.
فإذا مضينا في قراءة هذه الشذرة وجدنا المشكلة الوجودية التي تعذبه على لسان هيبريون
3
تزداد حدة، والبحث عن المجهول يزداد ضراوة. إن العبارة التي تختتم بها الشذرة تقول: «لا بد أن يخرج هذا السر الأكبر .. السر الذي يمنحني الحياة أو الموت» .. فالروح الظمأى تفتش عن هذا السر؛ سر الحقيقة والوجود نفسه. وهي في طريقها إليه لا تعرف راحة ولا تدخر جهدا. ومع ذلك تقف آخر الأمر أمامه كأنها تقف أمام حبيبة تخفي وجهها وراء ألف قناع. ويمضي في سعيه إليها، ويصور له الوهم أو الأمل أنه سيجدها في كل ما يراه حوله، وأنها لن تلبث أن تبرز أمامه فجأة، من واد يختفي وراء الجبل، أو على سطح الماء في رحلة يقوم بها في قارب. ويظل واقفا أمام باب المجهول الموصد في وجهه. ويتخيل لحظة أن الباب يفتح، والمجهول يتقدم نحوه كأميرة جميلة وجليلة، ويحس أنه يتحد بكل ما يراه ويتلاشى فيه، حتى يوقظه رفيف الأغصان من حوله، ويدعوه أن يصحو من نومه أو من موته السعيد ...
بقي شاعرنا إذن على بؤسه وفقره، والفقر تجربته الأصيلة التي صحبت خطوات عمره وصبغت أنغام شعره. وعرف الكثيرين والكثيرات وظن أنهم أصدقاء وصديقات. ولكنه كان كالفراشة القلقة التي لا تعثر على الزهرة التي تشبع جوعها وتريحها من عناء السفر وتعب الرحلة. وكان يفرح بكل إنسان يظن أنه وجد فيه ضالته، ثم ينفض يديه منه ويلوذ بوحدته. وربما وجد فيهم شيئا مما يبحث عنه، ولكنه لم يجد أبدا ما يشتاق إليه. وليس غريبا أن يخيب أمله في الجميع، لأنه يريد المطلق، يريد «الكل» بينما كان كل واحد منهم يعطيه شيئا، أي لا يقدم له في الحقيقة أي شيء!
في هذا الفقر الموحش ظهرت ميليته (وهي في الشذرة التي نتحدث عنها الآن بديل ديوتيما في الرواية المكتملة). ظهرت في هيئة كاهنة الحب، رائعة ونقية ومقدسة. لا يكاد ينقصها من صفات العرافة القديمة الغامضة إلا الاسم. ها هو ذا يصف كيف ظهرت له أول مرة: «وسط هذا الشعور الأليم بوحدتي، بهذا الفؤاد الجريح المقفر من البهجة؛ ظهرت لي، وقفت أمامي حلوة مقدسة، كأنما هي كاهنة الحب، أو كأنها نسجت من النور والعطر فصارت روحا شفافة رقيقة، ترى عينها الواسعة المتوثبة بالحياة تستوي فوق ابتسامتها المفعمة بالهدوء والطيبة كأنها إله جليل يتربع على عرشه، وخصلات شعرها الذهبي تتموج في نسمات الربيع حول جبينها كالسحب الصغيرة التي تسبح في ضوء الصباح. ويعجز قلمه عن أن يعبر لصديقه «بلارمين» عما لا سبيل إلى التعبير عنه؛ عن رعشة قلبه، عن شعوره بأن عذاب حياته وليلها وفقرها وضنكها وفناءها قد زال في لحظة واحدة، لحظة أسمى وأسعد من كل اللحظات، لأنها لحظة الخلاص التي تعدل دهورا من حياتنا الرتيبة المجدبة ... لحظة تموت فيها أيامنا الأرضية، ويتوقف الزمن، وتبعث الروح، وتتحرر النفس من قيودها لتعود إلى أصلها ومنبعها .. لأنها لحظة الحب! لقد ظهرت في حياته وتمثلت له كما تتمثل ربة من ربات الأساطير، منسوجة من النور والعطر، طيبة كالسماء، جليلة كالآلهة، ذهبية الشعر كملكة ساحرة في حواديت الأطفال ...»
ويحس الشاعر البائس أن وجوده قد عثر على ضالته، وأن قوة الأبد أصبحت حقيقة، وأن الدهر قد تجمع في لحظة الخلاص. لم تكن «ميليته» هذه إنسانة بل قدرا تمثل له أبهى من كل خيالاته وأحلامه، فارتجف وعجز عن الكلام ... وشعر أن روحه هربت من جسده، وتحولت إلى ضراعة العابد الذي يتبتل لمعبود لا يكاد يدري شيئا عما يدور حوله! وتقف كاهنة الحب أمامه، وترتفع فوق كيانها الإنساني الفاني وتعلمه سر القدرة. وتتحدث إليه فتكشف عن عطفها الجارف عليه وإشفاقها العميق من الأحزان التي تعذب روحه. وتتمنى لو أمكنها أن تعيد إليه الطمأنينة المقدسة، والعيد الهادئ الذي يأتي من أغوار الروح، كما يأتي من كل شيء يلمسه أو يراه؛ من النور والنسيم والسماء والأغصان والأزهار ... أما العابد الخاشع فيقف كالأخرس، ويصمت فيه كل صوت أرضي، ويحس أن الطبيعة الإلهية التي تجلت له هي المجهول نفسه .. ويصل إليه صوتها ليعلمه حكمة الحب: «قل لقلبك من العبث أن يفتش الإنسان عن السلام في الخارج إذا كان لا يستطيع أن يمنحه لنفسه.» وتهديه إلى طريق الحب المطلق، وتفتح عينيه على اللحظة الوحيدة التي يمكن أن تنقذه وتداويه، وتوقظ فيه الشوق إلى الحب الذي عليه أن يبحث عنه ويجده بنفسه .. ويخفق قلبه الشاب ويزداد خفقانه، ويشعر أن عاطفة الحب الغامض، وهي أم كل عاطفة وكل حياة، لم تمت فيه بعد. ويدفعه الشوق إلى أحضان الطبيعة. ويجلس في مساء يوم من أيام الخريف الهادئة تحت أشجار الحور التي يهمس النسيم لأوراقها الجافة. ويوشك أن يسمع نداء الطبيعة صاعدا إليه من أعماق الأرض والبحر: لماذا لا تحبني أنا؟ ويزداد العالم قداسة في عينيه، ولكنه يزداد غموضا. ويترك وطنه ليفتش عن الحقيقة فيما وراء البحر .. ويقول لنفسه ما يقوله كل من يريد أن يبحث عنها بحق وصدق: لسنا شيئا. إن ما نبحث عنه هو كل شيء.
كتب هلدرلين هذه الشذرة قبل أن يلتقي بديوتيما بحوالي عام ونصف عام. والغريب أنه سجل فيها بإحساس الشاعر وإلهامه تجربته الحية مع هذه السيدة الطيبة الرائعة. ولا يهمنا إن كان قد رسم صورتها بوحي الشاعر وإلهامه أو استمدها من تلك الصديقة المجهولة التي لا نعرف عنها شيئا. فالمهم أن معظم ملامح هذه الصور قد تأكد صدقها وانطباقها على «الأصل»، وأن كاهنة الحب التي عرفها بلحمها ودمها قد فاقت كاهنة الحب الخيالية في الصدق والعمق والجد والجمال.
كتب هلدرلين الصياغة التالية لروايته أثناء إقامته القصيرة في مدينة «يينا» وسماها «شباب هيبريون».
4
وحلت «ديوتيما» في هذه الصياغة الجديدة محل «ميليته». ولم ينقض العام حتى التقى بديوتيما الحقيقية «سوزيته جونتار».
كانت زوجة أحد رجال البنوك الكبار، واسمه يعقوب فريدريش جونتار. وكان قد بدأ كرجل أعمال متواضع الحال ثم ظل يصعد على سلم المال حتى أصبح من أصحاب الملايين. وكانت الحياة في بيته هي حياة رجل الأعمال الذي لا ينسى مصالحه، والبرجوازي الذي لا يحرم نفسه من المتع التي يتيحها له حب الظهور.
فالحفلات الصاخبة لا يهدأ لها ضجيج، والضيوف على اختلاف طباعهم وسحن وجوههم يترددون على الأسرة طوال العام. إنهم - كما يصفهم هلدرلين في رسالة إلى أمه - مخلوقات كاريكاتورية مخيفة، يذهب الثراء بألبابهم كما يذهب النبيذ الجديد بعقول الفلاحين. وهم لا ينقطعون عن اللهو والصخب والمرح، ولكنه لهو غليظ وصخب مزعج ومرح مغرور. ولذلك فلا عجب أن يقف الشاعر منهم موقف الدهشة والذهول، وأن يتعلم الصمت والوجوم في حضورهم.
كان رجل الأعمال يفهم على حد قوله شيئا في شئون التجارة والمال، ولكنه يجهل كل شيء عن تربية الأطفال! ولذلك فقد سأل طبيب الأسرة «يوهان جوتفريد إيبل» أن يبحث له عن مرب يقوم على تعليم أبنائه. وكان الطبيب يعرف شاعرنا؛ فسعى لدى رجل المال ليلحقه بالعمل الذي تولاه في شهر يناير سنة 1796م. وسرعان ما اكتشف الشاعر أنه يشغل وظيفة رقيقة الحال، وأن من واجب المعلم المسكين ووظيفته أن يبقى دائما في الظل تحت سقف بيت لا يقيم وزنا إلا للمظهر والمال. صحيح أن من حقه أن يحضر الحفلات المختلفة التي تقام فيه، ولكن هذا شيء يسمح به من باب اللياقة وحدها. ولا بد أن يتذكر دائما أنه «هو العجلة الخامسة في العربة»، وأن المعلمين خدم أيضا، ولا يحق لهم أن يطالبوا بميزة خاصة لأنهم يؤجرون على عملهم. وليس هناك شك في أن هلدرلين - الذي نعرف عنه اعتزازه بنفسه على الرغم من بؤسه أو ربما بسببه - لم يكن ليتحمل هذا الهوان لو لم تكن هي هناك؛ كاهنة الحب ... الرقيقة الطيبة سوزيته جونتار!
كانت في نقائها وجمالها الشاعري الهادئ أشبه «بفينوس» في لوحات الرسام الإيطالي الشهير تيسيان (1490-1576م). وكان يشع من جسدها الناصع ووجهها اللطيف وعينيها الزرقاوين اللامعتين وشعرها الكستنائي وملامحها الناعمة الطيبة وشخصيتها الحنون العطوف؛ كانت تشع منها هالة من السحر الذي لا يقاوم، ولا يتصور إنسان لفرط جماله ونقائه وترفعه أنه يمكن أن يكون من هذا العالم .. كانت تحضر الحفلات التي يقيمها زوجها ولا تشارك فيها، وكانت كل عين تنظر إليها تدرك على الفور أنها أمام روح نبيلة مهذبة وقلب هادئ مفعم بالرحمة والخير. وكانت أجمل ما تكون وهي تداعب أولادها أو تجرب النغمات على أصابع معزفها .. هناك تبدو مشرقة طيبة مضحية حريصة على الواجب الأسمى، سعيدة به كل السعادة. وهناك يحلو للإنسان أن يقترب منها كما يقترب من نبع طاهر .. وكان حبها للموسيقى والغناء يفوق كل شيء. ولا بد أن وجود الشاعر في بيتها قد حرك شفتيها بعد صمت طويل. ولا بد أن هذا الغناء هو الذي ألهم هلدرلين هذه السطور من روايته «هيبريون»: «عندما كانت تغني، كان الإنسان يعرف فيها تلك المحبة الصامتة التي لا تميل بطبعها للكلام. هناك تتبدى تلك الأبية السماوية في جلالها وحسنها، هناك ترف الأغنية في معظم الأحيان متضرعة ودودا من الشفاه الرقيقة المتقدة، وتنبعث في أحيان أخرى كأنها وصية من وصايا الآلهة. وكم كان القلب يجيش في هذا الصوت الإلهي! وكم كانت العظمة والتواضع! كم كانت كل أفراح الحياة وأحزانها تبدو أجمل مما هي عليه في نبل هذه الأنغام وروعتها! لم نكن نحس بالبهجة ولا بالإعجاب، كنا نشعر بأن السلام يهبط علينا من السماء. ألف مرة قلت لها ولنفسي: أجمل الأشياء هو أقدسها. هكذا كان كل شيء فيها. وكما كان غناؤها، كذلك كانت حياتها ...»
سوزيته جونتار (ديوتيما).
لكن كل هذا الجمال يظل كملك عاري الرأس لا يكسوه إلا تاج العطف والحدب على آلام الناس. يظل نارا لا تضيء، شمسا لا تدفئ، سيفا قاسيا براقا يسلط علينا ويشعرنا بفنائنا وضعفنا وقدرنا الحزين .. هنالك لا يطلب الإنسان المتعة في حضن الأنثى، بل ينشد الأمان على صدر من أصبحت هي الأم والأخت والحبيبة التي تحنو وتفهم وتعلم. وهناك تبدو له كل همومه القديمة كحماقات الأطفال .. ويعجب لنفسه كيف عاش حتى هذه اللحظة تعيسا بلا أمل ولا حب ولا إيمان .. وينتفض كالنسر الذي تذكر جناحيه، ويشع نور الربيع على حياته المظلمة فتدب فيها الصحة والقوة والفرحة والشباب .. وهناك أخيرا يتوقف المطارد الغريب الذي طالما هام على وجهه ويفكر في المأوى والبيت .. إن لقاءه القدري يرفعه فوق سأم أيامه المكرورة، ينبت له جناحين يرفرفان في أعياد البهجة، يذيب كيانه الواحد في الكل الأكبر، يجعل قطرة اللحظة العابرة تتسع لبحر الزمن الأبدي .. «ربما أوفق إلى رسم لمحة واحدة من ملامح وجودها، ولكن لا بد أن أجد ساعة مواتية بعيدة عن كل إزعاج لكي يتاح لي الكتابة عنها ...» هكذا يكتب هلدرلين بعد دخوله بيت هذه الأسرة ببضعة شهور.
5
ثم لا يلبث بعد ذلك أن يكتب في روايته هذه العبارة: «أحسسنا أن كلا منا خلق للآخر، قبل أن يفطن أحدنا إلى ذلك.»
كانت سوزيته قد سمعت بهلدرلين قبل أن تلقاه بسنة واحدة. فقد أهداها صديقها السويسري الشاب «تسيرليدر» نسخة نقلها بخط يده من «شذرة هيبريون» التي نشرت في مجلة «ثاليا» التي يصدرها شيلر .. ولعل هذه الكلمات التي لا شك أنها قد قرأتها في الشذرة لم تكن وليدة الصدفة: «سوف أعثر عليها مرة أخرى، في أية مرحلة من مراحل الوجود الأبدي.»
ولم يكن من محض الصدفة أن يتحول الشاعر في قربها إلى خاشع ينصت، وتلميذ يتعلم. لقد التقى «هيبريون» «بديوتيما». لا بل إنه يعيش الآن في بيتها ويربي أبناءها .. ويكفي أن نستمع إلى هذه القصيدة
6
التي كتبها بعد فراقه لها لنرى كيف كان يتطهر من نبعها وينصت لصوتها:
7
اغربي، أيتها الشمس الجميلة، فما انتبهوا إليك إلا قليلا،
لم يقدروك، أيتها المقدسة،
لأنك أشرقت في هدوء
وبلا تعب على المتعبين. •••
أنت تغرب وتشرق لي في عطف ووداد،
وعيني تأنس إليك، أيها النور الرائع،
فقد تعلمت الإجلال الإلهي الهادئ
منذ أبرأت ديوتيما أوجاعي
أنت يا رسول السماء الحبيب، كم أنصت إليك!
إليك يا ديوتيما! وهذه العين
كم تطلعت إليك ثم إلى النهار الذهبي،
وهي متألقة ممتنة. هنالك بدا خرير الينابيع
أكثر حياة، وبراعم الأرض المظلمة
كأنما ترسل أنفاسها الحبيبة إلي،
والأثير المبتسم خلال السحب الفضية
ينحني ليمنحني بركته.
استطاعت ديوتيما أو سوزيته جونتار بطيبتها وانعطافها أن تطلق الطاقات الدفينة في وجدان الشاعر. كان قد عاش طويلا مع الأفكار الفلسفية المجردة، وكانت حياة أشبه بحياة الجنود في المعسكرات .. ولكن الحب النقي أعاده إلى نفسه الحقة؛ الحب الذي ينمو في ظل التقوى والخشوع والإنصات، الحب الذي يصبح الإله فيه حقيقة ماثلة للقلب والعين:
ألم يصبح قلبي مقدسا، مفعما بالحياة الجميلة،
منذ أن أحببت؟ لماذا كنتم تهتمون بي
عندما كنت أكثر غرورا وتوحشا،
وأغنى بالكلمات وأشد خواء؟
آه! الجمهور لا يعجبه إلا ما يروج في الأسواق
والعبد لا يحترم إلا [السيد ] الجبار؛
وليس يؤمن بالإله
إلا من كانوا بطبعهم إلهيين.
لا شك أن تأثير ديوتيما الجديدة لم يأت بمحض الصدفة. لقد كانت من العقل والوعي والذكاء بحيث تفهم هلدرلين وتمد له طوق النجاة. وقد استطاعت أن تتغلغل في سراديب روحه المعذبة، وتكتشف جرحه الذي ينتظر الشفاء والعزاء، وتدرك أنه جاء إليها «ممزق العواطف» من مدينة «يينا»، لينقذ نفسه بين ذراعيها. ولذلك فليس غريبا أن يقول على لسانها بعد فراقهما بوقت قصير: «بعث الفتى بين ذراعي،
وقد جاء وحيدا وحزينا
8
من بلاد بعيدة ...»
علمته ديوتيما إذن، ووقف منها موقف التلميذ الشاكر المطيع. حدث هذا بلا جهد أو عناء. فالكاهنة الطيبة تعرفه، وهي تستمد معرفتها به من قلبه. ولهذا تستطيع أن تنصت لصوت هذا القلب، وتستطيع أن تخلصه وتنقذه «حين تنصت لمد القلب وجزره» .. وهي تبذل أيضا كل ما في طاقتها لتنزع شوكة اليأس والشك المغروزة في هذا القلب: «هتفت قائلة: اسكت ولا تتهكم بقدرك، لا تتهكم بقلبك؛ لأنني أفهمه، وأفهمه خيرا منك.» أليست هذه الكلمات من «هيبريون» هي التعبير عن عقيدة الشاعر التي طالما رددها في شعره ونثره؟ «قلب الإنسان هو قدره!»
في هذا الجو المعطر بأريج الحنان عرف هلدرلين الراحة والاطمئنان، في ظل الشجرة الطيبة التي لا تبخل بشيء استطاع أن يصل إلى حقيقة نفسه. في هذه الحقيقة التقى البشر والخالدون، اجتمع المبدأ الأول والزمن المتغير. إنها وراء كل تصور، فوق كل تفكير، لأنها هي حقيقة الحب: «ما قيمة كل ما فعله الناس وفكروا فيه منذ آلاف السنين، بالقياس إلى لحظة حب واحدة؟ .. إن كل الدرجات على عتبة الحياة تؤدي إليها .. منها نأتي، وإليها نمضي ...»
هو الحب إذن! ليس هو «الجوع الذي تسمونه حبا»
9 .. بل هو رسول السماء الذي طالما انتظرناه. الحقيقة التي نكتشفها في العذاب، حين نكتشف أن للعذاب رسالة إلهية. استسلم الشاعر لقدره، أي لقلبه. وهو يعلم الآن أننا لا نستمع إلى الأغنية الإلهية التي تشدو بها الحياة ويترنم بها العالم حتى نكابد العذاب العميق. وهو يعلم أيضا أن كنه هذه الحقيقة هو المعرفة المطلقة بقوة الحياة. ها هو ذا يقول في موضع آخر من روايته: «ما يحيا لا يتبدد، يبقى حرا حتى في أعماق أشكال عبوديته، يظل واحدا ولو فرقته من أساسه، ولو مزقته حتى النخاع، وإن جوهره ليفلت ظافرا من بين يديك ...»
بقي أن نتتبع باختصار رحلة قدره مع ديوتيما، مع سوزيته جونتار.
يبدو أن هذا القدر لم يعلن عن نفسه إلا خلال سفرهما إلى مدينة دريبورج، هربا من وجه القوات الفرنسية الزاحفة. ويبدو أيضا أن المهاجرين الشابين قد عاشا أياما سعيدة حقا، وانطلقا معا في نزهات ذهبية. كانت سوزيته في صحبة أولادها. وكان معهما رجل آخر نبيل الروح، غارق إلى أذنيه في عبادة الحس والفن والجمال هو الكاتب الثائر فيلهلم هينزه (1746-1803م) الذي كان من أشد المعجبين بها (ويروى عنه أن نبأ وفاتها قد صدمه صدمة قوية أدت إلى إصابته بالشلل النصفي بعد موتها بخمسة أيام) - كان هذا الكاتب المعروف بمقالاته في الفن وقصصه ورواياته عن الفنانين، ودعوته للحب والمتعة ولذة الحس إلى حد الخروج على الأخلاق في سبيل الجمال - كان في ذلك الحين كهلا في الخمسين من عمره. ويظهر أن هلدرلين انجذب إلى شخصيته التي جمعت بين ثقافة العقل وبراءة الأطفال في وحدة نادرة جعلته يصفه بقوله: «إنه شيخ رائع. لم يسبق لي أن عثرت على هذه الثقافة الهائلة مع هذه البساطة التي تشبه سذاجة الأطفال.» كان هينزه في سنوات نضجه قد بدأ يولي الموسيقى جانبا كبيرا من اهتمامه الذي ظل حتى ذلك الحين مقصورا على الرسم والنحت. ويظهر أن لقاءه مع هلدرلين وسوزيته قد أكد صحة العبارة التي قالها قبل ذلك بسنوات قليلة حين وصف الموسيقى بأنها ساحر حقيقي يصور حياة النفوس والأرواح .. فقد كان الأصدقاء الذين يترددون على بيت جونتار يعرفون أن هلدرلين وسوزيته ثنائي جمعت الأنغام بين روحيهما إلى الحد الذي جعل بعض النفوس والألسنة الصغيرة تنشر حولهما الشائعات. كان الشاعر يعزف على البيان، فتجاوبه سيدة البيت بالغناء .. ومن يدري؟ فربما ترنمت في بعض الأحيان بأشعاره التي تنقلها إلى أثير الآلهة الخالدين، وتفعم روحها التقية بجلال الأساطير.
ولا بد أن «هينزه» قد أثر على هلدلين من ناحية أخرى. فالمعروف أنه كان في شبابه من أشد المتحمسين للثورة والثوار، ثم لم يلبث هذا الحماس أن خمدت شعلته؛ ليصبح الثائر القديم من أشد المتحمسين للحياة التي لا تكف عن التدفق والتغير والجريان. ولا بد أن هلدرلين كان واقعا تحت تأثير هينزه عندما كتب في أكتوبر سنة 1796م إلى شقيقه الأصغر الذي كان في ذلك الحين من أكبر المتحمسين للثورة: «ستجد عندما تراني أن حالة الثورة قد خفت عما كانت عليه من قبل .. لقد أصبحت الآن ألتزم الهدوء التام حول الأمور التي تجري حولنا ...» وشاء القدر أن يؤيد هذا الإحساس الجديد في نفس هلدرلين؛ إذ تلقى بعد كتابته لهذه السطور رسالة محزنة من الطبيب أيبل [صديق عائلة جونتار الذي توسط له في الالتحاق بوظيفته]، وكانت الرسالة التي وصلته من باريس تفيض حزنا على مصير الثورة الفرنسية وتعبر عن خيبة آماله وآمال الناس في الحرية والعدالة والإخاء ...
ورد عليه هلدرلين محاولا أن يصبره ويواسيه. فمن المؤلم حقا أن يودع الإنسان مكانا تصور أن كل أزهار البشرية وثمارها قد ازدهرت فيه، ومن المحزن أن يتوهم رؤية الحقيقة والعدل حيث لا وجود لهما، ويشعر أن قلبه أنبل من أن يحتمل الحياة في عصره. ولكن لا حيلة للإنسان في هذه الحالة إلا أن يعتصم بنفسه وبأصحابه القليلين، ويجد فيهما العالم الذي افتقده في الواقع، ويبقى على إيمانه بثورة مقبلة تغير إحساس الناس وطرائقهم في التصور والشعور .. فكلما نمت الدولة في هدوء ازداد حظها من العظمة والمجد واقتربت من النضج والكمال .. ومن الواضح أن هذه الأفكار تشهد بالتحول الذي طرأ على هلدرلين .. فهو الآن في بيت المحبوبة وتحت رعايتها أكثر هدوءا وأقدر على الإنصات والتعلم، وأقدر على تعهد البذرة الباطنة حتى تنضج في سلام وسكون. وهو الذي كان ثائرا متحمسا للجمهورية فأصبح «جمهوريا بالعقل والحقيقة» كما قال عنه أحد أصدقائه أو بالأحرى أحد الذين اتصل بهم أو اتصلوا به. ولا ريب أن هذا كله يشهد على التحول الخطير في تفكيره وإحساسه ورؤيته بعد لقائه بسوزيته، ولا ريب أيضا في أن «كاهنة الحب» الجديدة قد جعلت منه كاهنا طيبا وصبورا، يستطيع أن يلوذ بالحكمة إذا أعجزه أن يسعد بالحب!
يأتي على الفنان حين لا يطلب فيه من الناس إلا أن يتركوه في حاله، ولا ينغصوا عليه حياته ووحدته بالأقوال الصغيرة التي لا تصدر إلا عن نفوس صغيرة. لكن تجارب الفنانين والشعراء والأدباء والمفكرين تثبت دائما أن هذه الأمنية المتواضعة البسيطة طموح بعيد المنال ...
لم يترك الناس هلدرلين وسوزيته في حالهما، بل سرعان ما انتشرت حولهما الشائعات، وتطفلت الأعين، ولهجت الألسنة الصغيرة بما يصح وما لا يصح أن يقال. بدأ الناس يتحدثون، سواء منهم من كان يعيش مع عائلة جونتار أو من يتردد عليهم من الضيوف والأصدقاء. ولم تقف غربان الشائعات عند حدود فرانكفورت بل تجاوزتها إلى قلب العاصمة برلين. فها هو ذا أحد المترددين على بيت جونتار يصف في سنة 1799م اهتمام أهالي فرانكفورت بأخبار العاشقين المسكينين وهلعهم من الأخبار التي تصل إلى أسماعهم أو يتطوعون بإذاعتها عنهما: «لقد حرم علي أن أذكر اسمه هنا في فرانكفورت، حتى لا يصرخ الناس فزعا من أخباره، لمجرد أنه أحب امرأة واستلهم هذا الحب في كتابة روايته هيبريون» .. وها هو ذا صدى الشائعات المنتشرة عنهما في برلين يصل في صيف سنة 1797م إلى آذان الناس في فرانكفورت مع قول القائل: «العشاق يعيشون لأنفسهم وبأنفسهم، والعالم كله بالنسبة لهم ميت لا حياة فيه.»
وبدأت سحب الأزمة التي نشأت بين الزوجين تتجمع وتكفهر وتضيق الخناق على شاعرنا المسكين وحبيبته العفيفة الصابرة. كانت تعيش مع زوجها الغني الناجح في إطار العرف والتقاليد (وقد زف إليها وهي في السابعة عشرة من عمرها) وكانت بإحساسها وكيانها تحيا بعيدة عنه بعد الحمل الطيب الذي كتب عليه أن يعاشر الذئب القوي المعتد بنفسه، والقمر الشاحب الحالم عن الشمس الجبارة المنتصرة. ومع ذلك فهي تحتمل في صبر الملاك الطاهر، ولا تبخل على الناس بابتسامتها ونظرتها الطيبة الحنون. حتى إذا ذكر زوجها أو رأته قادما طافت بالنظرة والابتسامة سحابة حزن عميق. وها هو ذا أحد الزوار يقول عنها: «قطعة اللحم المقدد حين تجوع، الكلب الذي تربت عليه يداها، العصفور الذي تطعمه، وأنا حين أحكي لها ... نحن جميعا نتلقى منها نفس النظرة الودودة الطيبة التي لا تتعكر إلا إذا وقعت عيناها على زوجها أو سمعت اسمه.»
أما هلدرلين فكان دائم الشكوى من سوء معاملة الزوج وتحقيره له بسبب وبغير سبب. وبلغت إهانات الزوج للمربي الفقير ذروتها في شهر سبتمبر سنة 1798. ويبدو أنه قد دخل عليهما في لحظة من لحظات الانسجام الإلهي مع النغم والغناء أو مع التجاوب الرقيق مع الشعر .. هنالك قرر الحبيبان المحرومان أن ينفصلا على الفور عن بعضهما عن بعض، وأن يبقيا على نبل العلاقة التي تجمع بينهما بالفراق الأبي المتكبر ... وهكذا غادر هلدرلين الطفل الذي يربيه والأم التي يقدسها ويتبتل إليها بالحب المحروم والشعر الكسير ... وآثر أن يمضي إلى مدينة هومبورج القريبة ليعيش فيها عاما ونصف عام ...
لم يستطع الحبيبان صبرا على هذا الحرمان الذي يفوق كل قدرة على الاحتمال .. وبدآ يتراسلان في خطابات شحيحة مذعورة من الرقابة الغاشمة التي فرضها رجل المال والأعمال .. ومن الصعب أن نقول إنهما رضيا بهذا الحرمان أو احتملا هذا الفراق. فقد طالما عبرت كلماتهما عن حنين اللقاء، لكن اللقاء ظل بعيدا كأحلام الفقراء، وظل هذا السؤال الحزين يتردد بينهما في صور مختلفة: «يجب علينا الآن أن نتسول من القدر، وبألف وسيلة ووسيلة، دربا واحدا يجمع بيننا. ماذا عسى أن تكون حالنا لو اختفى كل منا بالنسبة لصاحبه؟» ...
وظل السؤال الأخرس يتردد كهتاف الغريق في الرسائل المتبادلة بينهما [ولا زالت رسائل سوزيته محفوظة إلى الآن، أما رسائل هلدرلين فلم يبق منها سوى ثلاث مسودات لم تصل إلى يديها ...]
ويكفي أن نقتبس شذرات قليلة من هذه الرسائل التي يعرفها العشاق المقهورون في كل زمان .. هذه بعض سطور كتبتها سوزيته إلى هلدرلين في شهر ديسمبر سنة 1798م: «إن لمست مني الهدوء والجفاف فلا تتشكك في، لأن النار تشتعل في أعماقي، ولا بد لي ولك أن نحفظ أنفسنا من الانفعال. إن الهم يمضي قليلا، غير أن الكآبة الحلوة الشافية تأتي دائما في الوقت المناسب من السماء وتصب نعمتها في القلب. لن أيئس أبدا من الطبيعة، ولو أحسست بالموت يتسلل إلى كياني فسوف أقول: إنها توقظني من جديد، ترد إلي كل مشاعري التي صنتها في وفاء، ولم يحرمني منها إلا ظلم القدر. ولكنها تنتصر، تنتزع لي من الموت حياة جديدة جميلة، فبذرة الحب ثابتة وعميقة الجذور في كياني.»
احتدم الصراع في نفس الحبيبين. وأصبح الفراق هو الحل الوحيد الذي فرض عليهما، وحاولا بكل طاقتهما على الزهد والحرمان والكبرياء أن يقبلاه. لكن ماذا في وسع الطائر أن يفعل وهو يرى قضبان الأسر تشيد حوله، قفص التقاليد يضيق الخناق عليه، يد الجلاد الشرعي تقص ريشه وتلوي رقبته وتخنق صوته؟ هل نلومه إذا صرخ ورفرف بجناحيه واستنجد بربة الحرية والحب من بطش الناس؟ ها هي ذي كاهنة الحب تجد نفسها وحيدة ذابلة، بلا معبد ولا إله ولا وثن ولا أتباع، بعيدة عن الإنسان الذي يمكنه أن يقف معها ويملأ وحشتها ويعطي معنى لوجودها. ومع ذلك فهي تحاول أن تمد إليه حبل العزاء عبر الجدران والأسوار، أن تطمئنه إلى لقاء الأرواح على الرغم من فراق الأجساد المحتوم، أن تحمل عنه عبء الاختيار الذي ليس منه بد: «لا تترك عبء القرار الثقيل يقع علي وحدي. إن ما تراه خيرا هو كذلك رأيي وإرادتي، وإذا اعتقدت أن من الخير أن نفترق فراقا تاما فلن أنكرك لهذا السبب. إن الوشائج الخفية بيننا سوف تظل مع ذلك قائمة. الحياة قصيرة. إنني أحس البرودة! هل من حقنا أن نستخف بها لأنها قصيرة؟ آه قل لي! أين نلتقي مرة أخرى؟ أيها الروح العزيز الحبيب! أين أجد الراحة؟ دعني أعرف واجبي وأنسى نفسي، وإذا كان هذا الواجب عسيرا فأعني على القيام به؛ ولكني ما زلت أجهله. الإبقاء على نفسي شيء لا أستغني عنه، ونسيان نفسي شيء آخر يتناقض معه، لأنني أشعر أن كل ما يمكن أن أقاوم به حبي إنما يدمرني ويفضي بي للهلاك. يا للحب من فن عسير! من ذا الذي يفهمه؟ من ذا الذي يفلت منه؟»
لم يعد إذن من الفراق بد. ويمضي الزمن فيثبت للحبيبين أن كل ألوان الزهد والصبر والحرمان والكبرياء ليست إلا أوهام عزاء. لقد استمرت الحبيبة تخدع نفسها بالجلد والاحتمال، حتى تبين لها قرب النهاية أن الحياة بغير الحبيب ذبول بطيء وموت محتوم. وها هي ذي تقول في إحدى رسائلها المتأخرة: «شعرت شعورا حيا أن حياتي من غيرك تذبل وتجف وتخطو للموت ببطء ...» ويرد عليها هلدرلين برسالة لم تبق منها إلا مسودتها، ويبدو أنه أشفق على المحبوبة من كآبتها السوداء فلم يتمها ولم يبعث بها إليها. ها هي ذي سطور قليلة منها، كل حرف فيها جرح ينزف ويئن: «لو أمكنني أن أرقد عند قدميك وأرعى موهبتي الفنية في هدوء وحرية، لاستطعت فيما أعتقد أن أعجل بتحقيق ذلك الهدف الذي يشتاق إليه قلبي المعذب المفجوع في أحلامي وفي وضح النهار، وكثيرا ما يحن إليه في يأس صامت .. انظري! هذا ما يجعلني أحيانا ألتزم الصمت المطبق، إذ لا بد أن أحمي نفسي من مثل هذه الأفكار. مرضك، رسالتك ... لقد وضح أمام عيني ... وكنت أتمنى لو أصبت بالعمى ... أنك لا زلت تعانين وتتألمين ... قولي لي، أيهما أفضل، أن نتكتم ما في قلبينا أم أن نعلنه ونبوح؟ .. لهذا تظلم الرؤية غالبا أمام أعيننا، فلا ندري من نحن ولا ما نملك، لا نكاد نعرف أنفسنا، هذا الصراع الأبدي وهذا التناقض الذي تحسينه في أعماقك لا بد أن يحكم عليك بالموت البطيء، وإذا لم يخفف الرب وطأته فلن يكون أمامي إلا الهلاك يأسا عليك وعلى نفسي، أو إغفال كل شيء إلاك والبحث معك عن طريق يريحنا من هذا الصراع. لقد خيل إلي أن في استطاعتنا أن نعيش على التجاهل وأنه قد يشد من عزمنا أن نودع الأمل إلى غير رجعة ...»
انقطعت سطور هذا الخطاب فجأة. ولعل الشاعر قد أحس أنه يخدع نفسه أيضا، ويحطم رأسه على جدار المستحيل. ولعله قد لجأ في هذه الفترة إلى الشعر [وهل يملك ملجأ غيره؟!]؛ فراح يؤلف أغنية ربما كانت أرق أغانيه التي كتبها في ذلك الحين وأكثرها يأسا وعذابا. ولكن أغنية الفراق لم تتم كما لم يتم الخطاب الذي قرأت بعض سطوره. وأنى لها أن تتم وسط هذا الصراع الذي ينهشه ويحرقه ؟ إليك أبيات الأغنية التي جعل عنوانها «في الحق أمضي كل يوم» ولم يستطع أن يكملها فترك مقطوعتها الثانية ناقصة:
أمضي كل الأيام على درب غير الدرب،
أحيانا للشجر الأخضر في الغابة، أحيانا للنبع،
للصخرة حيث الأزهار مفتحة الأكمام،
أنظر من فوق التل إلى السهل،
لكني لا أجدك أبدا يا حبي،
في أي مكان لا أجدك أبدا في النور،
تتطاير مني كلماتي تذروها الأنسام،
كلماتي الطيبة وكانت في ماضي الأيام ...
حقا كم أنت بعيد، ناء يا وجه النعمة!
يخبو نغم حياتك،
وأنا لا أملك أن أنصت ...
يا أيتها الألحان الساحرة الصوت،
يا من أفرغت على قلبي الراحة من نبع الخلد
ومن كف الأرباب العلويين
طال العهد وغاب، شب الولد وشاب.
حتى الأرض - وقد كانت تتبسم لي -
عابسة الوجه. •••
الآن أقول وداعا، عيشي في خير.
روحي كل نهار ترحل عنك، تعود إليك،
عيني تبكيك، تريق الدمع،
تتمنى يوما أن تصفو كي ترنو لك،
فتراك هناك وتهنأ بك ...
كل شيء إذن قد انقضى، واللقاء أبعد وأتعس من أشواق الشعراء المساكين. وإذا كان العاشق يتلفت بقلبه وعينيه إلى هناك حيث تقيم المحبوبة، فهو لا يستطيع أن يخدع قلبه ولا عينه عن بعد الشاطئ واستحالة اللقاء. ليقل إذن وداعا، ولتسقط الكلمة على أرض الواقع بعدما رنت في أنغام الشعر!
وهذا هو الذي حدث بالفعل!
فقد تم الوداع النهائي في شهر مايو سنة 1800م.
وحاول الحبيبان أن يؤجلا الفراق الأخير بالوهم والأمل، ولكنهما كانا يعلمان في قرارة نفسيهما أنه قدر لا مناص منه. ومع ذلك فهما يعلمان أيضا أن الفراق هو فراق الجسد، والحرمان هو حرمان العين أن ترى العين، واليد أن تسعد بلمس اليد، ولذلك فلا حيلة لهما إذا استمر القلب يحس بالقلب، وظلت الروح تهفو إلى الروح وتتشبث بأمل بعيد في مستقبل أبعد.
إن سوزيته تكتب إليه في إحدى رسائلها المتأخرة فتقول بعد أن استحكم اليأس من الحاضر، ولم يبق لأتقياء القلب إلا الثقة والانتظار: «عدني أنك لن ترجع مرة أخرى، وأنك سترحل من هنا بهدوء، لأنني إذا لم أعرف هذا فسوف أظل إلى الصباح ملازمة للنافذة وأنا في أفظع حالات القلق والتوتر، ولا مفر لنا في النهاية من أن نسترد الهدوء؛ لذلك دعنا نمض على طريقنا في ثقة واطمئنان، ولنحاول في صميم ألمنا أن نشعر بالسعادة، ولنتمن أن يدوم لنا هذا الألم طويلا طويلا لأننا نستمد منه إحساسنا بالنبل الكامل والقوة على احتمال قدرنا. وداعا! وداعا! ولتباركك السماء!»
واستجاب الشاعر لهذا الدعاء .. وبدأ يحس في نفسه قدرة جديدة على الرضا بالألم أو النظر إليه كقدر حقيقي لا مفر منه. ولذلك أصبح موقفه الجديد هو موقف التحمل والصمود، أي الانتقال إلى مرحلة أخرى من مراحل العذاب الهادئ الطويل، لا يستطيع الإنسان أن يبلغها حتى يصطدم كما قلت بآخر حدود الألم. هناك تسمو الذات فوق عذابها «الذاتي» وتتأمله كما يتأمل الخالق مخلوقه، في صمت وصبر وأسى لا يخلو من الشعور بالموت والفناء ...
وطبيعي أن يحلق الشاعر في مثل هذه المرحلة إلى أسمى ما يمكن أن يصل إليه جناحاه، وأن يبدع أبقى أعماله وأنقاها وأبعدها عن الشكوى والكآبة والأنين .. فقد وصل إلى مرحلة «موضوعية» - إن صح هذا التعبير - وانفصل عن ذاته أو ارتفع فوقها، وراح ينظر إليها من أعلى. وهل جوهر الفن إلا في هذا البعد أو الابتعاد عن موضوعه؟ وهل يستطيع الفنان أن يخلق فنا جديرا بهذا الاسم إذا ظل غارقا في حمى عواطفه وأشجانه وأحزانه؟ وهل يمكن أن يملك السخرية والدعابة الصافية، أو القدرة على التجربة المتجددة والرؤية الشاملة إذا لم يرتفع فوق مادته ليسيطر عليها لا لتسيطر عليه؟
لا أريد أن أستطرد في هذا الرأي الذي عبرت عنه في مجال آخر، وإنما أحب أن أنتقل منه إلى قصيدة أو بالأحرى «مرثية» من أجمل المرثيات التي كتبها هلدرلين وهو في قمة نضجه وشموخه بين سنتي 1799م و1800م. وعنوان المرثية نفسه وهو «نواح مينون على ديوتيما» يدل على روحها. فاسم «مينون» قد ورد كثيرا في التراث اليوناني، وهو بمعناه اللغوي يفيد الصبر والريث والتحمل والصمود. ولا بد أن نقف قليلا عند هذه القصيدة التي تحتل مكانة هامة في شعر هلدرلين وحياته على السواء، شأنها في هذا شأن المرثيات الأخرى الطويلة (كالخبز والنبيذ والعودة). ولن نستطيع بالطبع أن ننقل كل أبياتها،
10
بل سنكتفي بتقديم عدد قليل منها يفيدنا في الإحساس بموقف الصمود والصبر والأمل اليائس الذي انتهى إليه الشاعر بعد رحلة العذاب والحيرة الطويلة.
وأبدع ما في المقطوعة الأولى هي صورة الضياع على الدروب المختلفة، والقلق على القمة أو في الحضيض، والروح الهائم الذي يلتمس الراحة عبثا في كل مكان، أشبه بالحيوان الوحشي الذي فقد دفء العرين وأخذ يضل في الغابات، لا يدفئه النور ولا تعينه رطوبة الليل، ولا تشفي الأمواج ولا الرياح ولا الأعشاب جراحه: «في كل يوم أخرج من بيتي
11
وأواصل البحث عن شيء آخر،
سألتها جميعا، سألت كل الطرقات والدروب؛
هناك أزور القمم الرطبة، أزور الظلال جميعا والينابيع؛
الروح يهيم حائرا في صعود وهبوط ينشد الراحة،
كذلك يفر الوحش الجريح إلى الغابات،
بعد أن كان في الظهيرة يستريح آمنا في الظلام ...
لا دفء النور ولا رطوبة الليل تعين
وفي أمواج النهر يغمس جراحه عبثا ...
وكما أن الأرض تمد إليه العشب الشافي بغير طائل
وما من نسمة تهدئ دمه الفوار،
كذلك فيما يبدو، يا أحبابي، قد أصبح حالي
ما من أحد يمكنه أن يرفع عن جبهتي الحلم المحزن.»
وتغالبه خواطر الموت فيخاطب إلهته قائلا: لا يليق بك أن تمسكي الرجل المقهور وتقيديه وتأخذيه معك إلى ليل الموت المرعب، ليستمر هناك في البحث أو الدعاء أو العراك معك، أو يصبر على القيد المخيف الذي حكمت به عليه، أو يستمع مبتسما لأغنيتك الرهيبة. ثم يخاطب نفسه ويقول: إن كل الأمر كذلك فانسي كل أمل في النجاة واستسلمي للنوم بلا صوت. ولكنه يعود فيلمح شعاعا في الظلام، ويتذكر أن اليأس لن يستطيع الإطباق عليه فيقول لنفسه: «ومع ذلك فإن صوت الأمل يبعث في صدرك. ولن يمكنك يا نفسي أن تتعودي على الظلام ومملكة الظلام، ولذلك فأنت تحلمين وسط النوم الحديدي ! إنك لست وحيدة كما تتصورين، فهناك شيء حبيب يقترب منك على الرغم من بعده، ولا بد أن أبتسم وأعجب كيف أحس السعادة والنعمة وأنا في قلب العذاب ...»
ثم تعاوده صور الحب القديم وأيامه الذهبية التي أضاءت ظلام لياليه، ويتذكر الحدائق الجميلة والجبال المكسوة بحمرة الشفق، والدروب الصامتة التي تشهد كلها بالسعادة السماوية التي عرفها في شبابه، ويناجي النجوم التي طالما أطلت عليه وهو يسير مع محبوبته وأرسلت إليه نظراتها الحنون، ويسمي «أطفال الربيع الجميلة» من زهور وزنابق بأسمائها، فكم كانت كلها قريبة من قلبه، أنيسة إلى نفسه، وكم كانت صادقة ومشرقة وبديعة. غير أن الأيام تأتي وتذهب، والعام يطارد العام، والزمن يركض مسرعا فوق رءوس الفانين. ومع ذلك فالعيون التي باركها الحب ترى الأمر رؤية أخرى، والأحباب تكتب لهم حياة مختلفة. فهم جميعا قد توجوا الساعات والأيام وأعوام النجوم والبشر بالبهجة والفرح والجد، وهم جميعا أبناء الأثير الأصلاء وقد عاشوا من حولنا، يا ديوتيما، يجمعهم الحب الأبدي الحميم ...
لكن ديوتيما قد غابت عنه والبيت أصبح خرابا:
آه! أين أنت الآن يا حبيبة؟
أخذوا مني عيني، وقلبي فقدته معها.
لهذا أهيم هنا وهناك، وعلي أن أعيش
كما تعيش الظلال وكل شيء يبدو لي بلا معنى.
إنه يريد أن يحتفل، ولكن بأي شيء؟ يريد أن يقدم الشكر، لكن على أي شيء؟ ويريد أن يغني، ولكن لمن، وهو الآن وحيد محروم من كل نعمة إلهية؟ إن الألم الأخير يأكل كل ذكرى ويسلب الشفاه كل كلام، والحياة تتوقف والوجود يصبح كالعدم:
هذا هو ضعفي، أعرف أن اللعنة تشل عروقي
وتطرحني بعيدا كلما بدأت شيئا،
فأجلس بالنهار جامدا أخرس كالأطفال،
تنساب الدموع الباردة من عيني في أحيان كثيرة،
ونبات الحقل وشدو الطيور يعكر صفوي،
آه! والسماء باطلة جوفاء كجدران السجن،
معلقة فوق رأسي كأنها عبء ثقيل ...
ثم تتجه النفس إلى الحبيبة وتتعلق بها كما يتعلق الغريق بطوق النجاة. وينفتح لها أفق جديد. فطالما أشارت له الحبيبة إلى شيء آخر أكبر منها؛ شيء أعظم وأجمل:
ولكن أنت، يا من أشرت لي قديما وأنا على مفترق الطرق
عندما سقطت أمامك، وعزيتني بشيء أجمل،
أنت يا من علمتني بصمتك وأوحيت لي في هدوء
أن أرى العظمة وأغني للآلهة الصامتة،
أنت يا ابنة الآلهة ... هل تتجلين لي
وتحيينني كما كنت تفعلين، وهل تلهمينني الحياة والسلام من جديد؟
لقد تعلم منها الشاعر وما زال يريد أن يتعلم. وهو في حيرته ويأسه لا يدري لمن يتجه إن لم يتجه إليها. تحت ثقل الألم تحطمت قدرته على الشكر، أي قدرته على الصلاة، ولكنه لا يزال يأمل أن تهديه ديوتيما إلى منطقة الأمان التي يبدأ منها حياة أخرى جديدة، لا يزال يرجو أن تعيده لنور الباطن، لكهف الرضا وملجأ الشكر والصلاة، وما الصلاة عنده إلا الخلق وإبداع الشعر:
هكذا أريد، أيها السماويون، أن أشكر أيضا،
فتتنفس صلاة المنشد من صدر خفيف.
وكما كنت قديما أقف معها على قمة مشمسة،
يتحدث إلي من داخل المعبد إله يبعث في الحياة،
أنا أيضا أريد أن أعيش! ها هي ذي الأرض تخضر!
وينادي صوت مشجع من جبال أبوللو الفضية
كأنه ينساب من قيثارة مقدسة!
تعال! قد كان (الماضي) أشبه بالحلم. الأجنحة الدامية
شفيت من جراحها، وكل الآمال عادت للشباب.
كثير أن نعثر على شيء عظيم، ولم يزل أمامنا الكثير،
ومن أحب هذا الحب يسير، ولا بد أن يسير
على طريق الآلهة.
لم يصل الشاعر إلى هذه المرحلة بجهده، بل قدمت له هدية. إن الحياة دبت فيه بكلمة من الله، والشباب عاد إليه وجدد قلبه العجوز فهتف بفرحته لعودة الربيع واخضرار الأرض.
غير أن الفرحة بمعجزة الحياة والشباب والربيع توحي في نفس الوقت بأن فكرة الموت كانت تغرز شوكتها في قلبه. وقد يبدو أن عاطفة الحماس للحياة أبعد ما تكون عن عاطفة الموت. والحقيقة أن النقيضين أقرب مما نتصور. فما من قلب يهتف للحياة إلا وهو يحس بثقل الموت، وما من صوت يضحك إلا وهو منبعث من صميم المأساة، وما من فم يشدو للربيع إلا ويحس الرعشة من كآبة الشتاء!
والحق أن فكرة الموت كانت في ذلك الوقت جاثمة على صدر الحبيبين. وربما أشفقت «سوزيته» عليه من شبحها المظلم فتضرعت إليه قائلة في إحدى رسائلها في فبراير سنة 1800م: «أبق على نفسك من أجلي!» وربما أحس هلدرلين أنه كان قاسيا أكثر مما ينبغي عندما تنبأ بموت ديوتيما المحتوم في روايته هيبريون فكتب يقول لها: «اغفري لي موت ديوتيما ...» ولكن النبوءة كانت صحيحة.
فقد سارت الحبيبة على طريق القدر حتى بلغت نهايته. سارت عليه في رضا وهدوء وعلى شفتيها هذه الكلمة: «أفضل لي أن أموت ضحية الحب من أن أعيش بدونه.» وأسلمت أنفاسها الأخيرة في شهر يونيو سنة 1802م بعد أن زارها الضيف النحيل الشاحب الوجه الذي يحب الإقامة في صدور الشعراء والفنانين والعشاق .. كانت صديقتها الوحيدة «مارجريتا سومرنج» قد سبقتها إلى الموت في شهر يناير. ولا بد أنها شعرت بوحدتها الرهيبة بعد موتها، ورأت أن حياتها لم يعد لها معنى بعد أن أقفرت من الحبيبة والحبيب. لقد كتبت ذات يوم لهلدرلين: «شعرت بأن حياتي تذبل من غيرك وتموت ببطء.» وها هي ذي تذبل وتحترق بنار السل .. ويشتد عليها المرض في الأسبوعين الأخيرين من حياتها فتسلم الروح في مساء اليوم الثاني والعشرين من شهر يونيو سنة 1802م.
سوزيته جونتار (1769-1802م). قناع من صنع الفنان لاندولين أوماخت.
تزوج رجل المال والأعمال بعدها مرتين. ولكنه لم يعف الشاعر المسكين من شكوكه وإشاعاته التي بلغت ذروتها عندما اتهمه بأنه تسبب في موتها ، وأنه يعرف تماما على من يقع ذنبها .. أما الشاعر نفسه فقد سار على طريق العذاب بعد فراقه الطويل لحبيبته، ولم يعزه عنه قليلا إلا قدرته على الحب والشكر، أعني قدرته على الشعر .. وبدأت الكآبة المميتة تهاجمه؛ كانت نوعا من الانتحار البطيء الذي عبر عنه على لسان الفيلسوف اليوناني إمبادوقليس في
12
القصيدة والمسرحية اللتان كتبهما عنه بين سنتي 1798م و1800م.
وإمبادوقليس فيلسوف وطبيب وكاهن يوناني ولد حوالي سنة 482 أو 490 قبل الميلاد في مدينة أجريجنت عاصمة صقلية، ومات حوالي سنة 423 أو 430 بعد أن كاد أهلها يؤلهونه ثم طردوه منها أو اضطروه للفرار! نسجت حوله الأساطير والخرافات، والتف حوله التلاميذ والأتباع، ونسبوا له قدرة على التنبؤ بالغيب وقوى سحرية خارقة لا تنسب إلا للسحرة والأنبياء وأنصاف الآلهة. والمعروف أنه قال: إن اختلاط العناصر الأربعة وتنافرها هو أصل الأشياء، وإن الحب والكره هو مبدأ الوجود. والمعروف أيضا أنه بنى أفكاره على أساس نظرية بارميندز عن الوجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، ولا ينشأ من العدم ولا يفنى في العدم. كما اشتهر بقدرته على التأثير بالكلمة حتى قال عنه أرسطو إنه أبدع فن الخطابة .. ولكن القصة التي تروى عن موته هي التي خلدت اسمه وأوحت للشعراء بالكتابة عنه.
13
فيقال إنه ألقى بنفسه في فوهة بركان «إتنا» وترك حذاءه بجانبها ليكون أثرا يدل عليه .. هل كان ذلك الانتحار العجيب استجابة لنداء الأرض الأم، أم رغبة في الاتحاد بالطبيعة الإلهية، أم حيلة ماكرة يقصد منها تخليده ذكره؟
14 ... المهم أنه شغل هلدرلين فترة طويلة من حياته، وتمثل له بطلا مقدسا استجاب بجسارة لدعاء الأرض وضحى بحياته فوق سطحها ليجدها في أعماقها.
ولو قرأنا هذه الأبيات من قصيدة هلدرلين الأولى عنه:
أنت تبحث عن الحياة، تبحث عنها، وتنبثق وتلمع لك
نار إلهية من أعماق الأرض،
وأنت بالشوق الواجف
تلقي بنفسك في لهب «إتنا».
مع هذا فأنت عندي مقدس، مثل قوة الأرض
التي اختطفتك، أيها المقتول الجسور!
وكم تمنيت أن أتبع البطل إلى الأعماق
لولا أن الحب يمنعني.
لو قرأنا هذه الأبيات لرأينا أن الكآبة لم تكن بعد قد أحكمت حصارها حوله، فلا زال يتشبث بالحب، ولا زال يأمل في النجاة على يديه. ولكن «الموت البطيء» أو الكآبة السوداء كانت قد بدأت تهاجمه عندما راح يكتب مسرحيته أو مأساته «موت إمبادوقليس» التي صاغها في ثلاث صور مختلفة، تعبر كلها تعبيرا أسطوريا عن فكرة الانتحار.
وبعد أن كان هبوط الفيلسوف العراف في فوهة البركان تكفيرا عن ذنبه الذي اقترفه عندما وضع نفسه في مصاف الآلهة، أصبح في الصياغة المتأخرة تعبيرا عن شوق صوفي إلى رحم الأرض ، كما أصبح العراف هو البطل الذي يضحي بنفسه ويدمر سعادته ليرجع إلى حضن الأم وأصل الأشياء:
عندما ينوح الآن قلب الأرض
في وحدته الأليمة، وتنشر الأم المظلمة - وهي تذكر الاتحاد القديم -
ذراعها النارية للأثير،
ويأتي الحاكم
15
في هالة إشعاعه
هنالك نغوص في اللهب المقدس
علامة على قرابتنا له.
ولقد غاص هلدرلين في هاوية اللهب الأسود، وبدأت الكآبة المميتة تحاصره من كل ناحية، وتضطره للتسليم شيئا فشيئا. وبدأ جسده الرقيق يذبل ويشف بالتدريج حتى تحول في نظر الأصدقاء إلى شبح أو ظل يائس. أما الروح فحاولت أن تتشبث بذكرى الحب أو بشيطان الشعر ليحميها من السقوط. ولكنها كانت قد بدأت الرحلة المخيفة إلى الأعماق، كما بدأت ظلال عالم الجنون تلتف حولها يوما بعد يوم. كان الحب قد أصبح جرحا وحيدا ينزف دمه في صمت. والشعر الذي بلغ قمة نضجه في السنوات القليلة التي تلت وفاة الحبيبة لم يستطع أن يتماسك على الطريق الموحش بلا أمل ولا عزاء ولا صديق ...
العابد
«لكن حيث يكون الخطر تلوح كذلك سبل النجاة»
1
من الأدباء من يكتب «أدبا»، ومن الشعراء من يؤلف «شعرا» .. أما الأديب الحق «فيكتب» الأدب والشعر من خلاله، لأنه «وسيط» يملي عليه فيطيع، وينادي فيستجيب، ويؤمر فيمتثل للأمر الأعلى .. هذا النوع من الأدباء يعيش للأدب ولا يعيش منه أو عليه. إنه يتحد بحياته، وحياته تتحد به. الشعر عنده هو الشاعر، والشاعر هو الشعر. الشعر عنده رسالة، نبوءة ، تبشير وتحذير، عبادة وطاعة. ولهذا كان في كل شاعر حقيقي جزء من النبي .. فكلاهما يلهم ويوحى إليه، وكلاهما يبلغ ويعلن، وإن اختلف مصدر الوحي واختلفت طبيعة الرسالة.
وشعر هلدرلين صلاة وعبادة، شكر وعرفان، يفيض من نبع التقوى العميقة، والنقاء المحض. ولهذا فهو يعد نفسه من خدمه وعباده، ولا يجد حرجا في أن يكون عبدا له. بل يعتبر ذلك نعمة كبرى من نعم السماء. هكذا يقول عن نفسه في قصيدته إلى العذراء:
أيتها العذراء،
كثيرا ما تعذبت في سبيلك،
وفي سبيل ابنك،
منذ أن سمعت عنه
في شبابي الحلو؛
فليس الرائي وحده
بل كذلك العابدون
يخضعون معه لقدر واحد.
وهكذا يسمي نفسه «العبد» في قصيدة «باطموس» التي تعد من أجمل ما قاله في شعره الأخير الذي بلغ ذروة نضجه وكماله.
وتنقسم هذه المرحلة الأخيرة من حياة هلدرلين إلى قسمين؛ قضى أحدهما بين سنتي 1800م و1801م في شتوتجارت وهاوبتفيل ونورتنجن، وقضى الآخر بين سنتي 1802م و1806م في مدينة بوردو الفرنسية وفي مدينتي نورتنجن وهومبورج.
ودع حبيبته «ديوتيما» الوداع الأخير وذهب إلى بلدته نورتنجن. ولم يكد يقيم فيها عشرة أيام حتى اضطرته لقمة العيش إلى الرحيل. فهو مدرس خصوصي يتسول من أسرة إلى أسرة، وقدره البائس يدفعه للبحث عن بيت جديد يعمل فيه. ودخل هذه المرة بيت تاجر القماش «كرستيان لانداور» في مدينة شتوتجارت، وكان بيتا جميلا وجد فيه «الحب والوفرة والهدوء». ولم تمض أيام على وجوده فيه حتى أحس الراحة بعد طول السير على «درب ضيق»، وأكبر صاحبه الكريم المغرم بالأدب والفن، وفتح له قلبه حتى صار عنده «صديق الأصدقاء». وكان من حسن حظه أن يجد رب البيت من هواة الموسيقى والغناء، وأن تتاح له ساعات ذهبية يقضيها وسط الأنغام. كان كل هذا يدفعه إلى الإحساس العميق بالشكر والعرفان، كما يدفعه إلى المقارنة بين هذه الحياة التي يحياها في بيت غريب وبين حياته القلقة التي ختمت عليها الأقدار بالحرمان: ها هو ذا يعبر عن هذا حين يخاطب مضيفه بقوله:
تختلف حظوظ الناس من العيش
كما يختلف النور عن الظلمة،
أما أنت فتسكن في الوسط الذهبي.
ويعود في بداية شهر يونيو إلى وطنه في نورتنجن. ثم يمضي الصيف والخريف في صحبة أصدقائه في مدينة شتوتجارت. ولا ندري متى ولا كيف ترك بيت «لانداور» ولكن المهم أنه خرج منه وهو صديقه الحميم. وربما كان السبب في تركه هو إخفاقه المستمر في مهنة التعليم التي لم يخلق لها ولم تتفق في يوم من الأيام مع إحساسه بالكبرياء، وربما كان المسئول عن ذلك أيضا هو قلقه المستمر ورغبته الملحة في الوحدة والتجوال.
برج هلدرلين والبيت الذي عاش فيه بمدينة توبنجن على نهر النيكر.
وغادر وطنه من جديد بحثا عن لقمة العيش .. وذهب في شهر يناير سنة 1801م إلى مدينة هاوبتفيل (في سويسرا) ليلتحق بعمله عند عائلة «فون جونزنباخ» ويقضي ثلاثة أشهر في كنفها قبل أن يتأكد مرة أخرى من إخفاقه. وكان رب هذه الأسرة - كما يقول شاعرنا نفسه - رجلا مهيبا يبدو عليه أنه جرب كثيرا في حياته، وإن لم يمنعه هذا من الاحتفاظ ببراءته وبساطته. أما زوجته فكانت امرأة عملية نشيطة تعيش وتفكر كما يعيش التجار ويفكرون! وعلى الجملة فقد كان الرجل وزوجه كما يقول الشاعر أيضا في عبارة لا تخلو من الحدة والسخرية: «من أولئك المستقيمين الذين يشاركون الغرباء بالقدر الذي لا يضعف قلوبهم ...»
تبين للشاعر كما قلت أنه أخفق في مهمته التربوية، فعاد إلى أهله في «نورتنجن» مع بداية شهر أبريل سنة 1801م. وقضى بقية السنة في وطنه الصغير، عاكفا على كتابة أنضج أشعاره، ومن بينها المرثيات والأناشيد الكبرى. وحاول في أثناء ذلك بعض المحاولات التي باءت بالفشل. فقد دخل في روعه على ما يبدو أنه يستطيع أن يلقي محاضرات في الفلسفة أو الأدب في جامعة «يينا». وسعى إلى ذلك لدى المسئولين فأغلقوا الباب في وجهه! ولا شك أنهم أدوا له وللشعر نفسه خدمة لا يمكن أن تنسى. فقد استطاع في هذه المرحلة أن يجد نفسه ويبلغ قمة نضجه وعبقريته.
ولا شك أن الفيض الذي تدفق منه في هذه السنوات القليلة التي سبقت انحداره إلى هاوية الجنون (سنة 1806م) سيظل لغزا من ألغاز الخلق الفني، وأن قصائده الطويلة التي كتبها ستبقى من أجمل وأنقى ما تعتز به مملكة الشعر.
كان قد وجد نفسه واطمأن إليها وظهر أثر ذلك في قصيدته التي أشرنا إليها في الفصل السابق عن نواح مينون على ديوتيما. ويبدو أنه ازداد بعد ذلك عكوفا عليها وثقة بطاقاتها ورغبة في التعبير عنها. تدل على هذا سطور قليلة كتبها إلى صديقه «لانداور» في شهر فبراير سنة 1801م يقول فيها: «كلما زادت ثقة الإنسان في نفسه وتركيزه على حياته الفضلى، وكلما سهل عليه الخروج من أجواء مشاعره الجانبية والعودة إلى التحليق في جوه الأصيل، ازدادت عينه قدرة على الرؤية الواضحة الشاملة واستطاع أن يهب قلبه لكل سهل وعسير وعظيم ومحبب إليه في هذا العالم ...»
وهذه السطور القليلة تكشف عن «المعرفة» التي اطمأن إليها الشاعر في هذه المرحلة من حياته. فالحياة عنده «مدرسة» يتربى فيها ويتعلم منها وينمي مواهبه بالتأمل فيها والإخلاص لها والإقبال على خير ما فيها. أما العالم - وهو الكلمة التي تختم بها السطور السابقة - فهو الإمكانية الشاملة التي لا تحد ولا تنتهي، وهو منبع كل عظيم وحبيب إلى القلب. وأما الفعل الذي يحقق به نفسه ويستجيب لإرادة الخلق في طبيعته فهو توجيه انفعالاته ومشاعره من التشتت إلى التركيز، ومن العرضي إلى الثابت، ومن الظواهر المتعددة إلى الحقيقة الباقية. أبدا لن يتوصل إلى هذه الحقيقة - وهي في نهاية الأمر حقيقته هو - بالعقل والتفكير المجرد ولا بقسر عواطفه والضغط عليها، بل بالتحليق بجناحيه في «جوه» الأصيل، والاستجابة لصوته الباطن، وتلبية نداء الخلق، وهو في نهاية الأمر أيضا نداء القلب. وهذا النداء الآتي من الأعماق له رنين اللحن ووقع الغناء، وهو شيء لا يسمعه الإنسان ولا يستجيب له إلا إذا كان قادرا بفطرته على الانفعال باللحن والغناء .. أعني أن الخلق في ذاته عمل موسيقي يصدر عن طبيعة موسيقية. وربما كانت قصيدة «بلاد اليونان» التي صاغها في هذه المرحلة ثلاث مرات هي خير ما يعبر عن الجو النفسي الذي عاش فيه الشاعر في هذه الفترة التي لم تستمر، للأسف، طويلا. فهي تصور في صيغها الثلاث ما حاولت السطور السابقة أن تصوره فخانها التوفيق إلى حد كبير - وهو في الغالب يخون الناثر! - وتعبر عن الاطمئنان والثقة والراحة التي أحس بها هلدرلين وهو يرى أنضج قصائد عمره تفيض منه كما يفيض الماء من النبع. وليس أدل على هذا من أن القصيدة تعبر عن هذه الحالة مرة بالثقة والاطمئنان وأخرى بالفرح والسرور، كما ترسم لنا صورة الإنسان الوحيد الذي يسبح في جو الموسيقى والأساطير، بعد أن استقر على قمة طاقاته الفنية، وجمع شتات نفسه، ووجد الأمان في التجمع والتركيز، ولمس النغمة الخاصة به وحده. ومن فوق هذه القمة ترى العين رؤية مشرقة، ويتكشف أمامها العالم الواسع الممتد، وينفتح القلب لتجربة هذا العالم الرحيب. ولا شك أنه لم يصل إلى هذا الاطمئنان أو هذه السعادة بمحض الصدفة، بل جاهد في سبيلها وعانى من أجلها وتعب حتى ارتقى إليها. ولذلك فإن خير ما يوصف به هذا الشعور المطمئن السعيد هو الحرية. الحرية بأدق معانيها وأنبلها. الحرية التي يشقى الإنسان في السعي إليها ويغامر من أجلها ويقتحمها ويغزوها ... فهكذا تتطلب كل حرية حقيقية، لأنها لا تسقط أبدا في حجر الضعيف العاجز المتواكل. لنقرأ معا بعض أبيات «بلاد اليونان» في صيغتها الثالثة والأخيرة:
آه يا أصوات القدر، أنت يا دروب المتجول (الوحيد)
لأنه في زرقة المدرسة،
2
من بعيد، في ضجيج السماء
يرن جو
3
السحب المرح
وقد استراح لوجود الإله، وللرعد والبرق،
ورنينه أشبه بغناء الشحرور،
ونداءات كالاستشراف،
للخلود والأبطال؛
كثيرة هي الذكريات.
حيث تنغم الأرض
كأنها جلد العجل،
4
من بعد الخراف وإغواء القديسين - لأن العمل يتكون في البدء -
وتتبع القوانين العظيمة
التي تغني للمعرفة
5
والحنان
وتظهر بعد ذلك للسماء منشدة أناشيد السحب.
لأن صرة الأرض ثابتة.
إذ إن (ألسنة) اللهب والعناصر العامة
سجينة بين الشطآن المعشبة
أما في الأعالي فيحيا الأثير منصرفا للتفكير .
ولكن في الأيام الصافية،
يكون النور فضيا.
وكعلامة على الحب،
تكون الأرض زرقاء كالبنفسج.
البدء العظيم.
قد يصبح كذلك قليلا.
6
أما اليوم العادي فعجيب محبب للبشر
الرب يلبس رداء.
ويخفي وجهه عن [أسباب] المعرفة،
ويتفنن في تغطية الهواء.
والهواء والزمن،
يحجبان المخيف
حتى لا يفرط أحد في حبه بالصلوات،
أو [تحبه] النفس. لأن الطبيعة
مفتوحة [الأبواب] للتعلم [منها]
7
كالأوراق أو الخطوط والزوايا،
والشموس والأقمار أشد صفرة،
لكن في بعض الأوقات،
عندما تريد ثقافة الأرض القديمة أن تبرز،
وذلك في الحكايات، (الحكايات) التامة المحاربة بشجاعة
يسير الرب الأرض (وكأنما تسير) فوق الذرى.
بيد أنه يحد الخطى المعوجة،
أما طاقات النفس ووشائجها
فتتجمع كالنورات الذهبية،
حتى يؤثر الجمال
الساكن على الأرض
ويأنس أحد الأرواح
بعشرة البشر.
تبدأ القصيدة بالمتجول الوحيد الذي يجوب الدروب والآفاق، ويتعلم من زرقة السماء وصفاء السحاب كما يتعلم التلميذ من مدرسة، ويستثير ذكريات الماضي الجليل ويستشرف حكايات الأبطال الخالدين، ويتأمل قوانين الخلق الأزلية التي تغني لحن المعرفة والحنان، ويرى كيف يروض اللهب والعناصر المعربدة، فيخضع النهر للشطآن ويتجلى النور الفضي وتتطهر الأرض وتبزغ عروسا زرقاء بلون البنفسج، ويتلفت البشر لصوت الإله ومعجزة الوجود فإذا به يخفي وجهه المهيب عنهم، ويفتح لهم كتاب الطبيعة لعلهم أن يروا النور في انعكاساته ويدركوا سر الخلود من تاريخ الخالدين .. هذا المتجول الوحيد يستقر في نهاية الرحلة ويطمئن إلى نفسه ويلم أشتات طاقاته «حتى يؤثر الجمال أن يسكن على الأرض وتأنس الروح بعشرة البشر». لقد انتهت به الرحلة إذن إلى نفسه، وكأنه لم يضطرب بين معجزات الطبيعة والتاريخ ولم يشق في البحث عن السر الأكبر إلا لكي يعثر على هذه النفس الراقدة بين جنبيه! حتى إذا وجدها وجد معها الجمال على الأرض، والسعادة على وجوه الناس، وأحس أن كل شيء قد رد إليه حين استعاد الطمأنينة إلى قدرة الخلق والإبداع الكامنة في قلبه، أي استعاد حريته.
وهذه رسالة أخرى كتبها إلى نفس هذا الصديق (لانداور) تعبر عن الصراع الطويل الذي انتهى به إلى الحرية السعيدة المبدعة. فقد وقف يوما أمام جبال الألب الرائعة، وارتعش ذاهلا وهو يتأمل جلالها وهدوءها، ثم أفاق على أعياد الربيع من حوله، وشعر أن هذا الربيع قد أقام عيدا آخر في نفسه.
ولا بد من قراءة سطور قليلة من هذه الرسالة لنعرف أن هذا الربيع لم يكن كله غناء وجمالا ونورا بل امتزج فيه الغناء بالبكاء، والجمال بالعذاب، والنور بالظل: «ما زلت أقف مذهولا أمام جبال الألب التي تمتد على مسافة ساعات قليلة من حولي. الحق أنني لم أجرب مثل هذا الانطباع في حياتي. إنها أشبه بخرافة عجيبة من خرافات الشباب البطولي لأمنا الأرض - تذكرنا بالعماء القديم الذي خرج منه التكوين - على حين تطل من عل في هدوء، وفوق ثلوجها الزرقاء الصافية تسطع الشمس والنجوم ليلا ونهارا. يمكنك إذن أن تتصور حالي وأنا أنعم بكل العناصر في أوائل الربيع، وأمتع عيني بمشهد التلال والجداول والبحيرات من حولي، فهذا هو أول ربيع يأتي علي منذ ثلاث سنوات وأتذوقه بنفس حرة وأحاسيس حية منتعشة ...»
هي إذن رحلة صراع طويلة سبقت هذا الشعور الطيب بالسعادة والراحة والحرية. ولكنه شعور مهدد في كل لحظة. لأن النور فيه لا ينفصل عن الظل، والسعادة لا تخلو من الشقاء. فلا تكاد تمضي بضعة أسابيع على هذه الرسالة حتى نجد رسالة أخرى إلى نفس هذا الصديق يقول فيها: «... أحس منذ بضعة أسابيع أن رأسي يدور على نحو عجيب. آه! أنت أدرى بهذا، لأنك تطلع على نفسي حين أقول لك إن هذه المشكلة لا تنفك تلح علي كلما ثابرت على كتمانها؛ مشكلة أن لي قلبا وإن كنت لا أعرف هدفا لوجوده، وأنني لا أجد أحدا أبوح له بسري وأفضي إليه بما أجد. قل لي، أهذه الوحدة التي كتبت علي، نعمة أم نقمة؟»
ثم يواصل الشاعر حديث القلب إلى أن يقول هذه الكلمات: «اذكرني إن ذهبت إلى فرانكفورت.» ونحن نعرف لمن تهفو نفسه في فرانكفورت!
هو الصراع إذن بين نقيضين: بين ربيع الحرية التي يحس أنه يستريح على قمتها وبين محنة المتجول الوحيد الذي لا بيت له ولا وطن. ولقد باح للصديق بما يجد، ولمس حد المأساة التي ستصرعه في النهاية. ولكنه يكتب لأخيه [من أمه] فيحاول أن يكون أكثر تماسكا وتجردا، وإن لم يستطع مع ذلك أن يخفي عنه هول المأساة: «لقد تسلط علي الكفر بالحب الأبدي. وكان علي أن أستدرج إلى هذا الإيمان الخرافي المخيف بما هو في الواقع علامة على النفس والحب، فإذا أسيء فهمه أصبح علامة على موتها. صدقني أيها الحبيب! لقد كافحت حتى أصابني الإعياء المميت لكي أثبت الحياة العليا بالإيمان والرؤية. أجل! لقد كافحت وأنا أعاني من ألوان العذاب ما يفوق في النهاية كل ما تقوى إرادة الإنسان الحديدية على احتماله ...»
هكذا يفرق هلدرلين تفرقة صارمة بين سوء الفهم الذي يحيل الإيمان «بعلامة النفس والحب» إلى موت للحب الأبدي، وبين الحياة العليا في ظل الحرية التي يحققها هذا الحب الأبدي عن طريق الصراع الذي ينهك صاحبه إلى حد الموت. ولا بد أنه كان يتعذب بين هذين القطبين الأليمين عندما راح يكتب أروع قصائده وأناشيده في هذه السنوات القليلة التي كانت أنضج مراحل عمره.
ولا بد أن محنة الوجود وإرادة الخلق قد تعاونتا معا على تهيئة الشاعر لطاعة الشعر، ووضعه في خدمة روحه الملهم. ولا شك أن وجدانه الرقيق المعذب الباحث أبدا عن المطلق قد أصبح مسرحا لهذه الفورة الروحية النادرة. غير أنه لم يكد يشف وينفتح لاستقبال الحرية حتى بدأ يتفتت شيئا فشيئا تحت وطأة محنته الوجودية، ولم يكد ينضج الثمرات العذبة حتى ذبلت جذوره في الأرض العطشى إلى الحب والحنان .. كان عيد الربيع الذي تحمس له الشاعر هو عيد الكلمة. وقدم القربان في هذا العيد الخالد قبل أن يهجم عليه شتاء الصمت والمرض والجنون. وليس في مقدورنا أن نتناول في هذا المجال كل زهور هذا الربيع وفواكهه - وقد أربت على خمس مرثيات وتسع قصائد وأغنيات رائعة نشأت كلها في خلال سنتين عكف فيهما الشاعر على وحيه الملهم وانتزع من اللغة أقصى ما يمكن أن تعطيه - ولهذا سنكتفي بالإشارة إلى الأبيات الأولى من قصيدة واحدة تعد قمة هذه المرحلة وتاجها البديع، وهي قصيدة باطموس
8
التي أشرنا إليها على الصفحات السابقة. وليس من الممكن أيضا أن نقف عند أبيات هذه القصيدة الحافلة بالأسرار والألغاز التي تزخر بها أشعار هلدرلين في هذه المرحلة المتأخرة من حياته، بل يكفي أن نقرأها ونتركها تؤثر على قلوبنا ونقف أمامها كما نقف أمام ظاهرة معجزة تكاد تستعصي على التحليل. إن كل كلمة فيها تستريح في ذاتها، وتتجلى نقية طاهرة كأنها خلقت لأول مرة. وكل كلمة تحمل طاقة أكبر منها، ومعنى أبعد من السياق الذي وضعت فيه. ولذلك فهي تكاد تقف وحدها كما قلت، أشبه بنجوم القدر الذي يسير حياة الشاعر ومصيره وعبقريته. ومن العبث كما ذكرت أن نبحث عن معناها في الجملة أو السياق، إذ لا بد من البحث عنه في إنتاج الشاعر كله: «قريب
وعصي على الإدراك هو الإله.
لكن حيث يكون الخطر،
تلوح كذلك النجاة.
9
في العتمة تسكن النسور،
وبلا خوف يعبر أبناء الألب
فوق الهاوية،
على جسور خفيفة،
لهذا تتراكم حولنا
قمم الزمان، وأحب الأحباب
يسكنون قريبا،
منهكين فوق جبال متباعدة،
10
أعطنا إذن أيها الماء البريء،
أيتها الأجنحة أعطنا
أن نعبر إليها بحس عميق الوفاء
ثم نعود.
ليس في استطاعتنا كما قلت أن نقدر عظمة هذا الشعر إلا إذا وضعناه في سياق العمل الكامل، ونظرنا إليه كحجر في معبد ضخم، وهو أمر يخرج عن حدود هذا الكتاب الذي لا يريد إلا أن يكون تمهيدا لقراءة الشاعر والإلمام بمأساة حياته. ولعل هذه المرحلة المتأخرة من حياته أن تكون مفترق الطريق الخطر أو القمة الوحيدة التي بدأت عندها تتفتت وتنحدر إلى الهاوية. ولعله قد أحس بهذا فأخذ يتدبر مصيره ويفكر في قدر حياته وشعره على السواء. إن هذه العبارة الموجزة تصور علاقته بشعره أدق تصوير: «أردت أن أغني الغناء الخفيف، غير أنني لا أوفق أبدا إليه ...»
تمنى الشاعر أن يوفق إلى هذا الغناء الخفيف؛ الغناء المتحرر من ثقل قدره وظلام وجدانه. أراد أن يكون الشعر «عيد الكلمة»، أن يكون مرآة فرحته النقية العالية التي لا تعكرها قتامة قدره في الحب والحياة. وأراد أيضا أن يصل إلى هذه الفرحة نفسها، إلى هذه الخفة المطلقة، إذ كان الإحساس المطمئن في رأيه هو الإحساس المرح، وكانت خطوة الشجاع «الذي لا يخاف» تسير فوق «جسور خفيفة».
ولكنه لم يوفق إلى شيء من هذا. كان اليأس أكبر منه. ولعلنا نحمد الآن لهذا اليأس أن ألهمه أنضج شعره وأحفله بالمعاني والأسرار. ولم يكن هذا اليأس مجرد كآبة عبر عنها في شعره أو نفس بها عن كربه [فنحن نظلم الشعر والفن بوجه عام لو قصرناه على هذه المهمة!] بل كان قدرا مظلما مميتا صحب الشاعر في كل حياته وشعره. ونحن نظلم الشاعر أيضا لو حاولنا أن نفسر هذا القدر تفسيرا نفسيا أو مرضيا. فالعبارة التي أوردناها تبين كيف اتحد الشعر بالشاعر فلم يستطع أن ينفصل عنه، وكيف اتحد الشاعر بالشعر فلم يكتبه، بل عاشه وكانه، وخضع له وفني فيه فناء العبد في معبوده. لنستمع إليه وهو يتحدث إلى قوى السماء في ختام أغنيته الجميلة «عند منبع الدانوب»:
أنت أيتها الأرواح الطيبة، أنت أيضا موجودة هناك،
11
غالبا، عندما ترف السحابة المقدسة فوق إنسان
يصيبنا الذهول ولا ندري كيف نفسر معناها.
أما أنتم فتمزجون
12
أنفاسنا بالنكتار
13
وعندئذ نفرح في معظم الأحيان أو تفجؤنا الحيرة،
لكن إن أحببتم إنسانا حبا شديدا
فلن يجد الراحة حتى يصبح واحدا منكم.
لهذا، يا أيها الطيبون! التفوا حولي خفيفين
كي يتسنى لي أن أبقى، فلم يزل بي شوق للغناء.
14
أما الآن فتختم أغنيتي الطيبة النواحة
كأنها خرافة حب،
وكذلك انقضى شأني معها منذ البداية
بين الخجل والشحوب،
وكذلك ينقضي كل شيء.
والنزعة الصوفية الواضحة تغلب على هذه الأبيات. فالبشر الفانون لا يدرون كيف يفسرون ظهور السحابة المقدسة، بعد أن تاهوا في الأرض كالأيتام - كما تقول القصيدة نفسها في موضع آخر - وفقدوا الإحساس بالوفاء للبطولة والألوهية والقداسة. والحيرة تفاجئهم وتصيبهم الدهشة والذهول - ربما لأنهم لم يتوقعوا ظهور القداسة على الأرض أو لأنهم نسوها وفقدوا الصلة بها. ولهذا تضيع الأغنية من الشاعر كما ضاعت منه منذ بدأ يحاول الغناء. ولهذا أيضا يحس في نفسه حاجة للمزيد من الغناء على الرغم من انقطاع أغنيته، إذ لا تزال الأرواح الطيبة تناديه وتؤثر على حياة الإنسان لترده للطاعة والوفاء.
ولا يخفى على القارئ أن مثل هذا الشعر يصبح مستحيلا بغير الإيمان العميق. فهو مؤمن بأن الآلهة أو الخالدين أو الأرواح الطيبة تحب الإنسان حبا شديدا. ولقد عبرت عن حبها للشاعر نفسه بما احتمله في سبيلها من عذاب قاس انتهى به إلى التسليم. فكل شيء طيب وخير، والشاعر الذي فقد كل شيء حين فقد نعمة الحب لا يملك إلا الشكر؛ أي لا يملك إلا الشعر. والشعر هو سبيله الوحيد للتعبد والطاعة والوفاء ...
ولقد وهب هذا الشعر أو هذا الغناء الطيب الحزين كل حياته. فالشعر يجري في حياته جريان الدم في عروقه. ولكنه كذلك يمر وينقضي. والشاعر يقف على الشاطئ، يجرفه تيار النغم ويحس نحوه بالخجل والشحوب .. ربما لأنه عجز عن الغوص في تيار الحياة فقنع بتيار الشعر الذي راح ينشده بين النشوة والبكاء. ويمضي التيار، وتتساقط الدموع التي كان يدخرها للحب، ولا يبقى له غير هذا العزاء؛ وهكذا ينقضي كل شيء!
كانت محنته في قلبه. أراد «الغناء الخفيف» فأثقل قلبه بالحب المحروم، بمرارة الفقد والفراق وخيبة الأمل. لم يتعلق هذا الحب بشخص واحد ولا موضوع واحد، ولو اقتصر عليه لكان من السهل تعويضه أو التعزي عنه.
بدأ هذا الحب مع «مليته» في الشذرة أو الصياغة الأولى لروايته هيبريون، فكانت هي «الوحيدة». ثم أصبحت ديوتيما، في الخيال والواقع، هي «سلام السماء». وعبر ليل الحزن والمعرفة فتجاوز شخص الحبيبة ذات الأسماء المتعددة إلى المطلق. وتجسد هذا المطلق في أواخر حياته في شخص المسيح وعذابه وصعوده. وهنا أصبح المسيح هو «السلام المبارك» وهو «الوحيد»:
لكن الحب
يتعلق بواحد.
إذ إن الغناء
قد خرج في هذه المرة
من صميم القلب،
أريد أن أصلح الخطأ
حين أغني لآخرين.
أبدا لن أجد المقياس
كما أتمنى.
لكن إلها يعرف
متى يأتي الخير الذي أتمناه.
فالقلب متعلق الآن بحب واحد، أو هو يحاول هذا على الأقل. إنه يفور ويجيش في باطنه، ويريد لذلك أن يتعلق بموضوع واحد، ويجد الحد والمقياس العدل في الحب والشعر على السواء. وهو يعرف أنه طالما اضطرب وتمزق وتشتت، ولهذا يحاول أن يجد الحبيب الوحيد الذي يتشبث به كطفل يتيم يفتش عن جدار يمكنه أن يستند إليه ليبكي ويبكي. إذن فقد أخطأ وأذنب، وهو يعرف هذا ويعترف به.
لكني أعرف،
إنما هو ذنبي،
فيا شد ما أتعلق بك
أيها المسيح!
وجد الآن سيده ومعلمه. ولكن هل استراح؟ إن روحه ما زالت مترعة بالحزن، وكأن الآلهة قد آلت على نفسها أن تتركه في الحيرة والعذاب:
سيدي، مولاي
أنت يا معلمي!
لم بقيت بعيدا؟
ولما أبصرت الأبطال والآلهة
بين الأرواح القديمة
لم غبت عنهم؟
والآن روحي مفعمة بالكآبة،
وكأنكم، يا أيها السماويون،
قد آليتم على أنفسكم،
إن صليت لمعبود،
أن أفقد معبودا آخر.
غير أن هذه الحيرة نفسها، هذا الوهج الباطن والجيشان الدائم الذي أنساه الحد والمقياس هو نفسه الذي أعطاه القدرة على الغناء. صحيح أنه اشتاق «للغناء الخفيف» فلم يوفق إليه. ولكن متى استطاع الشعراء أن يغنوا بغير بكاء، ومن أين يأتيهم الشوق إلى الغناء الخفيف لولا الحزن الذي يثقل قلوبهم؟ المهم بعد كل شيء أنه غنى، وترك لنا في هذه الفترة القصيرة - بين سنتي 1800م و1801م - أغنيات باقية تعبر عن شكره وطاعته، أي عن تسليمه لقدر الحب والشعر.
سافر هلدرلين في اليوم العاشر من شهر ديسمبر سنة 1801م إلى مدينة «بوردو» ليواصل مهنته البائسة في تربية أبناء القنصل الألماني المقيم في ذلك الميناء الفرنسي على نهر الجارون. وقد أرسل قبل رحيله بأيام قليلة بضعة سطور إلى صديقه بولندورف تكشف كالبرق الخاطف عن رؤيته للقدر الذي يهيمن على حياته، وإحساسه بالموت الذي يتربص بطريقه: «كنت فيما مضى من الزمان أستطيع أن أفرح وأهلل لحقيقة جديدة، وأرى ما يمتد فوقنا وحولنا رؤية أفضل. أما الآن فإني أخشى أن تكون نهايتي كنهاية تنتالوس
15
العجوز الذي أعطته الآلهة أكثر مما يطيق أن يهضم. غير أني أفعل ما أستطيع، بقدر ما أستطيع، وحين أرى أنني سائر على الطريق الذي سيؤدي حتما إلى نفس المصير الذي سينتهي إليه غيري، أحس أن من الكفر والجنون أن يبحث الإنسان عن طريق مأمون من العثرات، وأن الموت لا يستعصي عليه شيء. والآن وداعا يا صديقي الحبيب! وإلى رسالة أخرى. قلبي الآن مفعم بالوداع.»
والسطور تكشف كما ترى عن حزن عميق فاجع يعبر عن رؤية الشاعر لقدره ومصيره، وإحساسه بأن الطريق العسير الذي يخطو عليه لا بد أن ينتهي به إلى نهاية محزنة فاجعة. هذه الرؤية أو هذه الرؤى القاتمة التي يتصورها شاعر - يتحقق فيه معنى الرائي أو العراف القديم - تعبر عن تنبئه بانهياره الوشيك. فالعذاب الذي يتحمله والحياة التي يحياها بلا حب ولا أمل إلا في ماض أسطوري ذهب ولن يعود، تفوقان في النهاية قدرة العقل البشري. ولا بد في النهاية أيضا أن تسوقاه إلى حافة التمزق والدمار.
ها هو ذا يتعذب ويتحمل، ويفنى في الشعر والخيال إلى الحد الذي يفقده الصلة بالأرض والواقع، ويحاول أن يحافظ على نقائه وبراءته وحقيقته وسط صحراء الرؤى المميتة، ويعبر عن هذا في أبيات من قصيدة «الوحيد» التي قرأنا جزءا منها على الصفحات السابقة:
صحراء زاخرة بالرؤى،
هائلة على الدوام،
وتغري بالموت،
بحيث يصبح البقاء
في الحقيقة البريئة
عذابا ...
وطبيعي أن تنضم صورة الموت إلى هذه الرؤى. فهو يغري الإنسان أو يغويه بالموت، والموت عند شاعرنا يرادف البعد عن الحقيقة والبراءة، أي التحلل من المطلق. ويبدو أن فكرة الموت كانت في هذه الفترة مسيطرة على عقل هلدرلين ووجدانه. ويكفي أن نعيد قراءة السطور السابقة لنرى أنه يذكره مرتين، مرة حين يقول إنه لا شيء يستعصي على الموت،
16
وأخرى بالفراق والوداع. ولا يمكن أن تبتعد رؤيا الموت عن شاعر ظل يصارع قدره حتى أنهكه وأهلكه، وظل يحيا حياته وعينه لا تكف عن التطلع إلى الصور الأولى والنماذج الخالدة للبطولة والقداسة والنقاء. ولا بد أنه عرف بوضوح ما يعترف به الآن في رسالته إلى صديقه؛ لا بد أنه عرف أن شبح الموت يحوم كنسور القدر القاتم فوق الرحلة العظيمة. وهل اختلف مصير الأبطال والشعراء العظام عن هذا المصير؟
سافر هلدرلين إلى «بوردو» عن طريق ستراسبورج وليون، ومعه جواز سفر يحدد شخصيته بأنه «أديب» .. وعبر طريقا موحشا تطل عليه أعالي جبال الأوفيرون المخيفة، وتعصف به الرياح، ويخيم عليه الليل البارد برودة الثلج .. وبجانبه مسدسه المحشو الذي يتحسسه باستمرار وهو يتقلب على فراشه الخشن .. ووصل إلى بوردو في الثامن والعشرين من شهر يناير سنة 1802م. وجاءت أول رسالة منه وكلماتها تحمل ذلك الرنين المعدني الذي نعرفه من أغنياته الطويلة المتأخرة. فقد عود نفسه على العيش الخشن واحتمل الدور المكتوب عليه. وجاءت رسالته التالية معبرة عن السكون الشامل الذي بدأ يطوي حياته، في لغة زجاجية تكشف على الرغم من سحرها وشفافيتها عن بوادر الجنون التي أخذت تظهر عليه. فهو يطلب من أحبائه أن يذكروه ويفكروا فيه بالقدر الذي لا يزعج حياتهم. وهو يصارحهم بأن مشاغله العديدة وغربته عن الوطن ومسافة البعد التي تفصله عنهم تجعله ضنينا بالكتابة إليهم. (وواضح أن هذا البعد لم يكن بعدا جغرافيا فحسب!).
ونحن نكاد نجهل كل شيء عن حياة هلدرلين في «بوردو». وكل ما نعلمه أنه نزل في بيت القنصل الألماني «دانييل كرستوف ماير» الذي كان يتاجر في النبيذ إلى جانب عمله الرسمي .. وكان رجلا أنيقا ذكيا، يعيش في بيت فخم بني على الطراز الكلاسيكي. وقد كتب هلدرلين إلى أمه عن هذا البيت فقال إنه يعيش فيه عيشة بالغة الأبهة والفخامة، ويتمنى لو كانت حياته أكثر بساطة وهدوءا .. ولا بد أنه استمتع مع ذلك بالطبيعة الحالمة التي كانت تحيط به، فعبر عن ذلك في قصيدته المشهورة «ذكرى» التي تزخر بذكرياته على ضفاف الجارون وبين حدائق «بوردو» وغاباتها. ولا بد من قراءة هذه القصيدة لنستطيع الإلمام بتفاصيل البيئة التي عاش فيها الشاعر وعرض مشاهدها وانطباعاتها في نفسه كما يعرض طفل مجموعة من الصور التي تسجل ألعابه الحلوة البريئة:
تهب ريح الشمال،
أحب الرياح إلى نفسي؛
لأنها تعد الملاحين
بالروح المشبوبة والرحلة الطيبة.
لكن اذهب الآن،
وحي «الجارون» الجميل،
وحدائق بوردو،
هناك حيث يمتد الطريق
على الشاطئ الوعر،
وينحدر الجدول
إلى أعماق النهر،
أما من فوقه
فيطل زوج نبيل
من أشجار البلوط والحور الفضية.
ما زلت أذكر هذا،
وكيف تحني الغابة
ذراها العريضة فوق الطاحونة،
أما في الغابة فتنمو شجرة تين.
أما في أيام الراحة
فتمشي النساء السمراوات هناك
على أرض من حرير،
في فصل الربيع
17
عندما يتساوى النهار والليل،
وفوق الممرات البطيئة
ترف الأنسام،
مثقلة بالأحلام الذهبية.
فلتمتد إلي يد
بالكأس العطرة
المترعة بنور مظلم؛
علي أجد الراحة.
ما أحلى النوم
تحت الظل!
ليس حسنا
أن تحيا بلا روح،
وتستحوذ عليك الخواطر الميتة.
لكن الحديث حسن،
والإفضاء برأي القلب،
والإنصات إلى الأخبار الكثيرة
عن أيام الحب،
وما تم من الأعمال.
لكن أين الأصحاب؟
أين بيلارمين
18
ورفاقه؟
أكثر الناس يمنعهم الخجل
من الذهاب إلى النبع،
لأن الثراء
يبدأ في البحر.
إنهم كالرسامين،
يجمعون جمال الأرض
ولا يزدرون الحرب المجنحة،
ولا الحياة لأعوام طويلة،
وحيدين تحت الشراع الجاف،
19
حيث لا تسطع أعياد المدينة في الليل،
ولا أنغام الأوتار ولا الرقص القومي.
أما الآن فقد ذهب الرجال
إلى الهنود،
هناك على القمة التي يرف حولها الهواء،
بين التلال التي تغطيها الكروم،
حيث ينحدر «الدوردوني»
20
وينسكب التيار عريضا كالبحر
مع الجارون الرائع.
لكن البحر يهب الذكرى ويستردها،
والحب كذلك يثبت أعيننا،
أما ما يبقى فيؤسسه الشعراء.
لم يكد هلدرلين يمضي أربعة شهور في «بوردو» حتى فكر في العودة إلى وطنه. ولم يكتف بالتفكير فأخرج في اليوم العاشر من شهر مايو (1802م) جواز سفر لرحلته. ولسنا ندري شيئا محددا عن سبب عودته المفاجئة. أكان هو الإخفاق من جديد في مهمته التربوية التي لم يخلق لها بطبيعته بل أجبرته عليها لقمة العيش المرة؟ أم ألوان أخرى من الذل التي لم يحتملها قلبه الجريح؟ أم ضيقه بالمسكن الفخم الذي جعله يحن للوحدة والبساطة والسكون؟ أم هي أخبار وصلته عن مرض حبيبته الطاهرة التي لم تنقطع عنه رسائلها على الرغم من الفراق الحاسم الأخير؟ لسنا ندري شيئا كما قلت. صحيح أن هناك من يفسر رحيله بأسباب تتصل بكرامته وكبريائه ويذهب إلى أنهم هناك في بوردو قد «فرضوا عليه بعض المطالب التي عجز عن الوفاء بها أو وجدها جارحة لشعوره»، ولكنها كما ترى فروض لم تتحقق حتى الآن. والمهم أنه عبر الحدود الألمانية الفرنسية عند مدينة كيل
21
في اليوم السابع من شهر يونيو على قدميه، ثم لم يلبث أن ظهر بعد ذلك بقليل في مدينة شتوتجارت، ولفت الأنظار بملامحه المرتبكة وغضبه العارم وحالته التي تنم عن الجنون واليأس الفظيع. وفهم منه الناس أن اللصوص سطوا عليه في الطريق، أو أنه أصيب بضربة شمس وهو يخترق الجنوب الفرنسي الحار. ولكن الكارثة كانت قد بدأت بالفعل. «من الكفر والجنون أن يبحث المرء عن طريق مأمون من كل العثرات.» هكذا كتب قبل بداية رحلته الكبرى إلى صديقه بولندورف. ولقد قرأنا سطورا من هذه الرسالة ورأينا كيف تقمصته روح الشاعر العراف الذي انكشفت له حجب الغيب في لمحة خاطفة. فقد تحدث فيها عن الجنون والموت. ولكنه حديث المؤمن الذي يعتقد أن من الكفر وجحود النعمة أن يرفض السير على طريق حددته له السماء من قبل. إن عليه أن يقطع هذا الطريق مهما انتهى به إلى الجنون أو الموت. بل إنه يعلم أن الجنون والموت ينتظرانه في نهايته. ولكن لا مفر من السير عليه، لأن هذا هو واجب الطاعة والخضوع الذي لا يوجد واجب أسمى منه. ولقد كتب يقول أيضا في هذا الخطاب إنه قد تعود على الحياة الخشنة وأصبح مستعدا لما يأتي به المستقبل. فهل معنى هذا أنه استعد للحادث العظيم والكارثة المخيفة؟ لا بد أنه أحس بهذا؛ فحديثه عن الموت في هذه الرسالة، وقوله إن قلبه مفعم بالفراق ، يدلان على أنه كان ينتظر شيئا أكبر من طاقته وقدرته .. ولكنه انتظار الرضا والاستسلام .. لقد ظهرت عليه بوادر الجنون الذي تمكن منه بعد ذلك بأربع سنوات. وتفتتت شخصيته مزقا متناثرة، وفقدت الوسط والمركز والرباط الذي يوحد بينها. تكسرت سفينة العبقرية على صخرة اليأس والجنون، وتحولت إلى حطام لا يستطيع أن يحمل فكرة أو عاطفة. أما الموت فقد أخطأه في هذه المرة وأصاب حبيبته .. ولكن هل أخطأه حقا وهو الذي فني فيها واتحد كيانه بكيانها؟
ماتت «سوزيته جونتار» في نفس الوقت الذي فقد فيه هلدرلين عقله أو كاد. انتهى صراعها القصير مع السل في الثاني والعشرين من شهر يونيو سنة 1802م. وظهر هلدرلين قبل ذلك بحوالي أسبوعين «بملامح مرتبكة» في مدينة شتوتجارت .. هل كانت هناك صلة بين الحادثين؟ وهل يمكننا أن نربط بينهما كما نربط بين السبب والنتيجة؟ إن مأساة الموت أو مأساة الجنون أكبر من أن ننظر إليها هذه النظرة العلمية أو شبه العلمية. إنها سر من أسرار الحياة تعجز الأسباب والنتائج عن إدراك حقيقته. وكل ما نملك حياله هو أن نشعر بما فيه من عذاب الإنسان وجرحه وانكساره. وماذا عسى أن تفعل الحجج والأسباب أمام القلب الذبيح والعقل الجريح؟ ماذا يملك العلم أمام السر؟ «كنا زهرة واحدة لا غير .. عاشت روحانا في كيان واحد ...» هكذا يقول هلدرلين في روايته هيبريون. فهل يدهشنا بعد هذا أن يكون الموت قد أصابه حين أصاب حبيبته؟ وهل كان الجنون الذي بدأت نيرانه تلتهم عقله إلا نوعا من الموت؟ وهل هذا الذي جرى له ولحبيبته إلا تحقيق الرؤيا التي رآها قبل ذلك بشهور معدودة؟ .. كان هلدرلين قد اتحد بالفكر والروح والشعور بحبيبته إلى حد الفناء الذي يعرفه شهداء العشق في كل العصور. وكل كلام عن هذا الاتحاد يفسده ويفقده معناه. وكل شرح يصبح ثرثرة سخيفة من النوع الذي تفوق فيه عصرنا إلى حد مخيف. لا بد إذن أن نحس به. وليس أمامنا إلا أن نفعل ذلك إن استطعنا، فهذا هو السبيل الوحيد للشعور بعذاب الإنسان خلف قناع الموت أو الجنون. ويكفي أن إحساس هلدرلين بفنائه في شخصية حبيبته قد وصل إلى تلك الدرجة التي يصفها علماء النفس كما يصفها المتصوفون في آخر الطريق. ويكفي أن الشاعر سئل عن «ديوتيما» وهو في الواحد والسبعين من عمره (أي وهو في قمة جنونه وقبل موته بسنتين) فقال: لقد أصابها الجنون.»
كان لقاء هلدرلين بالموت من وحي إلهامه كشاعر وهب حياته للشعر وحده. وقد يبدو هذا شيئا بعيدا عن العلم قريبا من الخرافة، ولكن لا بد من التسليم به ونحن إزاء شاعر كبير مثله .. وفي كل شاعر كبير شيء من العراف القديم الذي يحس بالغيب ويتنبأ بالقدر.
ومع ذلك فهناك من يقول إن للصدفة دورا في هذا اللقاء. وهناك من مؤرخي حياته من يرجح أن يكون قد تلقى رسالة من سوزيته أثناء وجوده في «بوردو» تخبره فيها بمرضها الأخير، وتودعه وداع من يشعر أن الموت قريب منه. ولقد قال بهذا الرأي شقيقه من أمه «كارل جوك» الذي أرخ لحياته. ثم تشكك الدارسون في هذا الرأي بحجة أن سوزيته لم تمرض بداء السل إلا عشرة أيام قبل موتها. ثم تبين بعد ذلك للباحثين أنها قاست من هذا الداء شهورا طويلة. ومهما يكن الأمر في هذه المسألة فقد أبلغ هلدرلين بوفاة حبيبته في الأيام الأولى من شهر يوليو سنة 1802م على لسان صديقه «إسحاق فون سنكلير» الذي قال له في خطابه إليه: «إنني أبكي وأنا أكتب إليك بهذا النبأ ...»
عاش هلدرلين السنتين التاليتين في تمزق وانهيار. وبدأ الموت البطيء يفترس عقله وقلبه، وينخر هيكله المحطم قبل حلول الكارثة الفظيعة. ومع ذلك فقد أتيح له في أيام أو ساعات قليلة أن يجمع نفسه ويلم شتات عبقريته. واستطاع في هذه الأيام والساعات النادرة أن يكتب أغنياته الأخيرة أو على الأصح ما بقي منها من شذرات لم تتم.
والمتأمل لهذه الأغنيات والترانيم يكتشف أن علاقة الشاعر بالشعر قد تغيرت عما كانت عليه. كنت تحس في أشعاره السابقة بأنه متحكم في مادته وصوره وأفكاره وأنغامه، وأن هناك «ذاتا» تنظم وترتب وتبني. أما الآن فأنت تحس أن هذه الذات قد فقدت السيطرة على مادتها وأن الصور والأشكال والخواطر والأنغام تتحكم فيها وتستغلها أداة للتعبير عن نفسها، بدلا من أن تتحكم هي فيها وتعبر بها. لقد أصبح الشاعر موضوعا لها - إن جاز أن نستعير هذه الكلمة من لغة الفلسفة - كما أصبح موضوعا لقوى أخرى أكبر منه تعمل عملها على نول القدر والوجود:
لأن قوى هائلة
تتجول فوق الأرض،
ويهيمن قدرها
على من يكابده ويراقبه،
كما يهيمن على قلب الشعور.
لأنه لا يقدر أن يحيط بكل شيء
إلا نصف إله أو إنسان، بحسب عذابه،
عندما ينصت وحده،
أو عندما يتحول هو نفسه،
إذ يحس خيول الرب من بعيد.
ولا يقتصر الأمر على تغير الذات وحيرتها وتفتتها، بل يتعداه إلى الموضوعات التي يطرقها الشاعر. فقد كانت الأغنيات أو الترانيم أو التراتيل
22
التي كتبها في المرحلة التي بلغ فيها ذروة نضجه الفني تدور حول مبدأ أعلى ينظم كل شيء ويرعاه رعاية الأب لأبنائه. وكانت موضوعاتها الرئيسية تدور حول شخصية هرقل أو المسيح أو حول الروح والكلمة. ثم تحولت في المرحلة المتأخرة التي نتحدث عنها إلى مبدأ أو قوة أخرى أسطورية ذات طابع أمومي. فهناك الهاوية المظلمة العميقة، وهناك المملكة الساكنة، المادونا أو العذراء المقدسة، وهناك الوطن. ونلمس في كل هذه الموضوعات روحا شفافة هامسة، تدير حديثا خافتا عذبا مع الأم الأولى؛ مع الأرض، ونحس فيها شيئا أشبه بعودة البطل إلى بيته ووطنه من غربة بعيدة. تقول أغنية «الوطن»، وهي إحدى هذه الشذرات التي ترك الشاعر بعض أبياتها ناقصة:
ولا أحد يدري
ثم ينقطع الكلام قبل أن يتصل بعد ذلك بقليل:
لكن دعيني أتجول،
وأقطف التوت البري،
كي أطفئ حبي لك،
على دروبك، يا أيتها الأرض
هنا حيث ...
وينقطع الكلام مرة أخرى ثم يقول:
وأشواك الورد،
والزيزفون الحلو ينشر عبيره
بجوار أشجار الزان،
في وقت الظهيرة
عندما يهمس النماء في حقل القمح المصفر الشاحب
للأعواد المستقيمة،
وتحني السنبلة عنقها جانبا
كما يفعل الخريف، أما الآن فتحت قبة السنديان العالي،
حيث أتفكر وأتطلع بسؤالي للسماء،
ترن في سمعي من بعيد دقات الناقوس
الأليفة إلى نفسي رنينا ذهبيا،
في الساعة التي يصحو فيها الطائر.
عندئذ يطيب كل شيء ...
ويلاحظ القارئ أن الجملة الأخيرة في القصيدة الزاخرة بالصور الحية الملموسة تعبر عن روح متدينة ترحب بكل شيء وتثني على كل شيء. ولن يغيب عنه أيضا أن مثل هذه الروح التقية المستسلمة لا تخلو من الإحساس بسلطان الموت. ولقد رأينا كيف عبر الشاعر عن هذا الإحساس القاتم المضيء في قصيدة الذكرى التي قرأناها على الصفحات السابقة أجمل تعبير وأصفاه حين قال:
فلتمتد إلي يد
بالكأس العطرة
المترعة بنور معتم
فلعلي أجد الراحة،
ما أجمل أن يحلو النوم
تحت الظل ...
يبدو أن وطأة الإحساس بالموت والفناء قد اشتدت على الشاعر في هذه السنوات التي تلت وفاة حبيبته فخنقت قدرته على الخلق أو كادت. ولذلك وجد متنفسه في ترجمته الرائعة لمسرحيتي سوفوكليس «أوديب» و«أنتيجونا» التي كان قد بدأها مع نهاية القرن. وهي ترجمة رائعة تعد من درر اللغة الألمانية، ولا يقلل من روعتها أنها بعيدة عن الترجمة الحرفية والعلمية الدقيقة، لأنها ستظل أثرا باقيا من آثار الترجمة الخلاقة التي لا يقدر عليها إلا الأدباء والشعراء الكبار. ولذلك جاءت أخطاؤها أخطاء رائعة، لأنها خرجت من يد شاعر كبير، ولأنها في مجموعها خلق جديد لا ترجمة حرفية دقيقة. وقد قدر لهذه الترجمة أن تجد ناشرا جريئا سخيا في كرمه ونبله، وهو «فريدريش فيلمانس» الذي لم يمنعه بؤس الشاعر وظلم الحياة الأدبية له من طبع ترجمته التي ظهرت في مدينة فرانكفورت سنة 1804م. والمجال لا يتسع لمناقشة هذه الترجمة الخالدة التي تعد جزءا لا يتجزأ من أدب هلدرلين وشخصيته وحنينه إلى عالم أسطوري جميل وجليل. ولعل الأيام أن تسعفني بالحديث عنها وعن أثر الفكر والأدب اليوناني على شاعرية هلدرلين وأسلوبه وخياله ومثاليته.
يبدو أن هلدرلين وصل في هذه الفترة من حياته إلى حال مؤلمة من الاختلاط والفوضى العقلية والنفسية. تشهد على هذا رسالة كتبها الفيلسوف «شيلنج» في الثانية والسبعين من عمره، وراح يتذكر فيها اللقاء المحزن الذي تم بينه وبين الشاعر المسكين في ربيع سنة 1803م. فقد سعى الشاعر إليه وعبر المسافات الطويلة على قدميه ليراه، وكأنما ساقته غريزته أو صداقته القديمة للفيلسوف الصوفي الكبير ... كان لقاء حزينا كما قلت، أقنع الفيلسوف العجوز بأن «هذه الآلة الموسيقية ذات الأوتار الرقيقة» قد اختلت إلى الأبد. كان شيلنج كلما عرض لفكرة أو شيء يتعلق بحياتهما الماضية وجد منه الجواب الصحيح، ثم لا يلبث الخيط أن ينقطع، ويضطرب كلام الشاعر ويغمغم بحديث لا يفهم. ومع ذلك فقد تأكد للفيلسوف - كما يشهد بنفسه - أنه أمام عبقري لم يفقد شيئا من فطرته النقية ولا رقته الأصيلة. ولقد لبث هلدرلين ستا وثلاثين ساعة في ضيافته فلم يصدر من سلوكه أو حديثه ما يناقض خلقه النبيل أو جوهره النقي الذي عرفه في شبابه الباكر
23 ...
أما صديقه القديم «إسحاق سينكلير» فقد أسرع لنجدته، وبذل أقصى جهده ليرد إليه إيمانه بنفسه وينقذه من الجنون الذي يتهدده. فقد جاء به في صيف سنة 1804م إلى مدينة هومبورج وسعى لدى أميرها الحاكم لتعيينه أمينا لمكتبته وتعهد أن يدفع راتبه من جيبه؛ لكي يوفر له الحياة التي تعينه على الخروج من محنته.
وكانت طريقة الحياة في بلاط الأمير «الناسك فريدريش» - كما لقب نفسه ذات مرة - شيئا غير مألوف في ذلك الحين. فقد كان في أعماقه رجلا زاهدا يؤثر العيش مع أفكاره النقية التقية على الحياة بين مشاغل السياسة والحكم. وكان كل من يقترب منه - كما يروي واعظ بلاطه بريدنشتين - يضطر إلى طاعته والثناء عليه، وكل من يراه ينحني أمام عظمته وهيبته. كان يشع من هيئته وملامحه ذلك السحر الآسر الذي ينم عن الانتصار على كل المشاعر المنحطة والانفعالات الدنيئة. وليس غريبا على مثل هذا الأمير الناسك أن يترك الحكم لزوجته الباهرة الجمال. أما ابنته «أوجستا» فكانت أشد منه حياء وانطواء. ويظهر أن لقاءها بالشاعر البائس الرقيق قد فجر في صدرها عاطفة عميقة لم تكاشفه بها أبدا. وقد شهدت في وصيتها بأن ظهوره في حياتها كان بمثابة الصحوة التي أيقظتها من سباتها وجعلتها تتطلع إلى وجود أسمى. ولكن جو التدين العميق الذي كانت تعيش فيه، وحرصها على التقوى والصلاح إلى حد التشدد قد جعلها تكتم عاطفتها وتقسو على مشاعرها. ومن يدري؟ فلعلها لو أبدت له شيئا من الاهتمام أو باحت له ببعض ما تجده نحوه لأعانته على الخروج من محنته. ولكن أمثال هذه المعجزات نادر في حياة الموهوبين المساكين؛ إذ يبدو أن دائرة تعاستهم لا بد أن تكتمل!
ويظهر أن هلدرلين قد لقي من عطف الأمير فوق ما كان يتوقع أو يتصور، فعبر عن شكره له في قصيدة أهداها إليه تعد من أروع قصائده إن لم تكن أروعها - وأصعبها أيضا - على الإطلاق، وهي قصيدة «باطموس» التي قدمت لك بعض مقاطعها.
أما عن حياته في بلاط أمير مقاطعة «هسن» الزاهد فلا نعرف عنها شيئا كثيرا. غير أن ظواهر الأمور وروايات الشهود توحي بأنها كانت حياة بائسة يلفها ظلام المحنة من كل ناحية. ومع ذلك فيبدو أنها لم تخل في أحلك لحظاتها ظلاما من آثار تدل على رقة الشاعر وفطرته النقية وصمته ووحدته المؤثرة. ولدينا رواية مشهورة سجلتها الكاتبة الرومانتيكية الرقيقة «بتينافون أرنيم» زوجة الشاعر الكاتب الرومانتيكي المشهور «أخيم فون أرنيم» عندما رأته وهي لم تكد تبلغ العشرين. والسطور القليلة التي كتبتها «بتنيا» تعبر عن روح هلدرلين وفكره أكثر مما تعبر عن حياته في ذلك الحين. وهي تشهد بأثره على نفسها، وتكاد تشهد أيضا بأثر شعره على كل من يقرؤه: «كل شيء إيقاع. قدر الإنسان كله إيقاع سماوي واحد، وكذلك فإن كل عمل فني إنما هو إيقاع واحد فريد، وكل شيء يرف أمام شفتي الرب الشاعريتين، وحيثما امتثل الروح الإنساني لهذا؛ نشأت تلك الأقدار الملهمة التي يتجلى فيها روح الفن ...»
ساءت حال هلدرلين وظهرت عليه علامات الجنون الواضح. وأسرع إليه الصديق الوفي سينكلير فنقله في شهر سبتمبر 1806م من هومبورج إلى مدينة توبنجن وأدخله المصحة ليعالج تحت إشراف الطبيب أوتنريت وتلميذه يوستينوس كيرنر. وكان يتردد عليه نجار ماهر «إرنست تسيمر» عرف في مدينة توبنجن بحبه للثقافة والأدب والشعر. ويبدو أن هذا النجار المثقف الطيب القلب كان يحب هلدرلين حبا دفعه إلى أن يأخذه إلى بيته في صيف سنة 1807م ليرعاه بنفسه. قال له الطبيب وهو يسلمه له إن المريض ميئوس من شفائه ولن يعيش أكثر من ثلاث سنوات .. فهل قدر هذا النجار الطيب أن المريض «الميئوس من شفائه» سيعيش في بيته وتحت رعايته ستا وثلاثين سنة أخرى قبل موته؟ أي نصف حياته الأخيرة الذي قضاه في ليل الجنون المقدس؟!
لا بد أن المريض المسكين قد أحس بهذا الليل الذي سيحاصره من كل جانب ويمنع عنه النور الحبيب. فها هو ذا في قمة يأسه ومرضه يكتب مجموعة من القصائد يسميها «أغنيات الليل (1803م)». وها هو ذا يناجي النور - وقد كان دائما عزاءه الوحيد وصاحبه الذي يسير دائما إلى جانبه وهو مستغرق في التفكير - ويسأله أين أنت؟ وإذ يغيب النور ولا يطل بوجهه من الخارج ولا من الباطن يجلس وحده في صمت وسكون وينتظر وينتظر ... لعل «المنقذ الحبيب» أن يلوح له من بعيد:
أين أنت أيها النور؟
القلب صحا من جديد، لكن الليل الجبار
يشدني بلا قلب على الدوام ...
الآن أجلس وحدي في سكون،
وتمتد بي الساعات، - ولأن السم بيننا -
تخلق أفكاري أشكالا
من الأرض الغضة ومن سحب الحب،
وأمد سمعي بعيدا
عل منقذا عطوفا يقبل نحوي.
24 •••
فهل جاء هذا المنقذ العطوف؟
هل أخلف وعده أم أتى كعادته في موعده؟!
الصامت
«الحياة موت، والموت أيضا حياة.» (عن مقطوعة نثرية كتبها في سنوات جنونه)
هلدرلين المسكين ...
هكذا سماه الناس من حوله .. وبهذا شهدت أقوالهم وذكرياتهم عنه.
قدر عليه أن يتوه ستة وثلاثين عاما في صحراء الجنون، أن يجرب الموت في الحياة والحياة في الموت .. حتى حن عليه فمنحه الخلاص الأخير في اليوم السابع من شهر يونيو سنة 1843م.
وتتفق أقوال الشهود في أمور كثيرة. فهم يجمعون على أن صاحب الوجه الآسر الجميل أصبح شبحا يتجول في بيت النجار الطيب كالحالم أو كالنائم أو كالميت. وكل الذين رأوه أو حاولوا التحدث إليه وجدوه لا يكف عن الكلام مع نفسه، وآلمهم حرصه على أن «يظل بعيدا عن كل إنسان يحاول الاقتراب منه».
وأفاض المعاصرون في الكلام عن جنون الشاعر ووحدته وهدوئه واستسلامه. وكتب اثنان
1
منهم سيرة حياته فزحموها بالوقائع والتفاصيل، وأكثروا من الحديث عن مظاهر المرض وأطواره. واختلط الحق بالباطل، والحقيقة بالخيال. وأصبح الشاعر العظيم «حالة» مرضية في تاريخ الأدب، حتى أنقذته البحوث الجادة في الخمسين سنة الأخيرة فقدرته واكتشفته وعرفت منزلته، وأوشكت أن تجعل منه (بعد جوته!) أكبر عبقرية نطقت بالشعر في تاريخ لغته وأمته .
هناك عدد لا بأس به من الصور والرسوم والنقوش البارزة من الشمع التي تعطينا فكرة عن مظهر الشاعر في محنته الطويلة. غير أن تقديرنا لموهبته وعبقريته أكبر من أن يجرفنا للحديث عن تفاصيل مرضه وعذابه. وإن كان هذا لا يمنع من تسجيل بعض الشواهد التي تدل على عبقريته الذابلة أكثر من دلالتها على مرضه أو شذوذه.
فنحن نخرج من تأمل صوره وذكريات معاصريه بإعجاب لا حد له بجبهته العالية المثقلة بالخواطر والهموم - وما أكثر مشروعاته الأدبية التي صرعها المرض وبقيت أشباحها تطارده - ولعل هذه الجبهة الشامخة أن تكون شاهدا على الثروة الفكرية الهائلة التي كانت تزدحم بها ذات يوم. أما عيناه المعبرتان فلم يمح الجنون شيئا من بريقهما وصفائهما، وإن أضفت عليهما الفجيعة هدوءا وانكسارا واستسلاما يجرح القلب. يقول أحد الشهود بعد أن رآه: «لم يسبق لي أن رأيت أجمل من هاتين العينين في وجه إنسان فان.» وليس هناك أصدق من هذه الكلمات تعبيرا عن مأساة الشاعر التي تجلت في نظرته الكسيرة الحائرة. لقد فقد كل قدرة على تجميع الفكر وتركيزه، فازدادت نظرته مع الزمن جمودا، وسبحت في تيه الغيب المظلم البعيد.
وعلى الرغم من إعيائه النفسي والجسدي، وتفكك أفكاره، وغموض كلامه، وعنائه في البحث عن الكلمة، وانصرافه الساعات الطويلة إلى تأمل السماء في الليالي القمرية من النافذة، فقد أعجب كل من رآه أو تحدث إليه بسمو فكره، ودهش لأصالة تعبيره ونقاء روحه، وأحس بوحدته العميقة المخيفة التي جعلت الاتصال به مستحيلا، وحبسته بين جدران وجدانه أشبه بالميت يرقد في تابوت، أو لؤلؤة نائمة في جوف محار أو صدفة.
راح الشاعر يتجول في ليل الجنون المظلم كمن يحلم حلما مخيفا ويسير في نومه بعيون مفتوحة. وكان جنونه الطويل أشبه بموت طويل. ويبدو أنه أسلم نفسه للموت قبل أن يأتي إليه ويأخذه، واتحد بالطبيعة الإلهية قبل أن يرجع إليها ويذوب فيها بجسده وروحه. ولعله قد عمل بوصية «إمبادوقليس» لأهل مدينته، في الفصل الثاني من مسرحيته عن موت هذا الفيلسوف الشاعر والساحر اليوناني القديم.
هلدرلين في الخامسة والخمسين من عمره (من رسم يوهان جورج شرينر).
وصمت الشاعر صمته الطويل عندما أحس - كما أحس إمبادوقليس - بأن الطبيعة الإلهية الحاضرة أبدا لا تحتاج للكلام. ولعله قد صمت عندما أحس أيضا أنه قال كل ما أرادت الروح أن تقوله على لسانه، وأعلن النبوءة التي أوحت بها الآلهة إليه: «لا بد أن يذهب من تكلمت الروح من خلاله ...» هكذا قال في مسرحيته. فهل كان مصيره عقابا له على الإفشاء بالسر المقدس كما كان مصير الحلاج،
2
أم كان جزاء له على صبره وشجاعته؟ هل أسرف في حبه للآلهة أم بالغ في التشبه بهم والتطلع إلى حياتهم الخالدة فحق عليه ما قاله هو نفسه على لسان الكاهن «هرموقراطيس» في حديثه عن عدوه إمبادوقليس:
3
لقد أحبته الآلهة حبا شديدا،
ومع ذلك فليس أول من ألقوه
من ذروة ثقتهم واعتزازهم
في ليل بهيم جامد الإحساس.
لأنه أسرف على نفسه في أوج سعادته،
فنسي الفارق بينهم وبينه،
ولم يشعر إلا بنفسه.
هذا ما كان من أمره
ولذلك عاقبته بالفراغ الذي لا حد له ...
ولكن هل أسرف هلدرلين في حبه للآلهة والطبيعة والأبطال الخالدين أم أسرفت هي في حبه؟ لقد تبتل لها وظل يقدم لها القربان تلو القربان، وظلت هي تطالبه بالمزيد من التضحية حتى لم يبق إلا عقله وحياته فلم يبخل بهما. فهل كانت هذه التضحية هي الثمن المحتوم الذي يفرضه الحب اللامتناهي؟ هل هذه هي نهاية الوفاء المطلق والإخلاص المطلق والعطاء إلى حد الفناء؟
مهما يكن من شيء فقد وجد نفسه وحيدا في النهاية.
وراح يتخبط في ظلام الجنون ويستغيث بالآلهة كما استغاث بطله الوحيد الطريد إمبادوقليس:
أأنا الآن وحدي تماما؟
وهل ينتشر ظلام الليل في وضح النهار؟
إن الذي رأى أبعد مما رأت عين إنسان فان،
والذي أصيب بالعمى يتخبط الآن هنا وهناك،
أين أنت يا آلهتي؟
أتتركينني كالشحاذ؟
هكذا كان صمته الطويل أجل وأعظم من كل كلام قاله.
كان السكون يتنفس من كيانه الجميل الذابل ومن كل ما حوله. ولم يخل هذا السكون من حزن غامر ينشر ظلاله الطيبة عليه. ولم يكن غريبا عليه وهو الذي صاحب السكون في كل شيء، وظل حتى في كلامه ورسائله إلى أمه ومعارفه حييا وصموتا وضنينا بالكلمة. لقد بقي في أتعس سنوات عمره من أولئك الذين وصفهم بقوله: «أغنياء في الفكر فقراء في العمل». وهذا السكون الذي التف حوله هو علامة الغنى والخصب والثراء. وإذا كان لم يخل من الحزن الفاجع الأليم - فأشد الأحزان فجيعة وألما هو أشدها سكونا وصمتا - فهو كذلك لم يخل من الشعور بالهدوء والطمأنينة والسلام. إن كل أشعاره التي قالها وهو في هاوية الجنون لا تخلو من الحديث عن هذا السلام والسعادة بتغير المواسم والفصول، ومعظمها يتحدث عن الربيع والخريف والصيف والشتاء، ويصفها كما تراها عين طفل يسعد بالصور الحية الملونة الملموسة ويلاعبها ويداعبها ويناجيها.
كتب عن الربيع وحده تسع قصائد، أما الصيف فقد كتب فيه خمسا، والخريف اثنتين، وبلغ مجموع ما كتبه عن الشتاء ست قصائد. وليس هذا الإحصاء بغير دلالة على وجدان الشاعر واتجاه فكره وشعوره في هذه المرحلة المظلمة من حياته. فقد فقدت نظرته كما فقدت حياته لونها الذاتي ونغمتها الخاصة المتوترة، وأصبحت رؤيته للظواهر والأشياء رؤية موضوعية هادئة. اقرأ مثلا إحدى قصائده التسع التي كتبها كما يقول المؤرخون في عيد ميلاده الأخير:
4
ربيع
عندما يأتي الربيع إلى الحياة قادما من الأعماق،
يتعجب البشر وتحلق من عقولهم كلمات جديدة،
يرجع الفرح من جديد،
وينطلق الشعر والغناء في زينة الأعياد.
تجد الحياة نفسها في انسجام الفصول،
كي تصحب الطبيعة والروح وجداننا على الدوام،
ويصبح الكمال واحدا في عقولنا.
هكذا تجد نفسها معظم الأشياء، وأغلبها يأتي من الطبيعة.
إن الشاعر يتجه بفكره إلى الطبيعة، والطبيعة تغلب على كل هذه القصائد المتأخرة، وكأنها هي التي تشعر وتفكر له بدلا من الذات الغائبة التائهة في ليل الجنون. ولهذا يندر أن تحس فيها بعذابه الشخصي، بقدر ما تحس بالنظام الكوني الذي يهيمن على كل شيء ويبارك كل شيء ويضفي عليه الراحة والسلام. ويظهر هذا في لغة الأصل التي تعجز الترجمة عن نقلها، فهي حريصة على تجانس الإيقاع في القافية والبريق الهادئ الذي يشع من الصور المتنوعة، والضوء الذي ينبعث من وجدان تقي لا يسأل ولا يشكو ولا يتشكك ... لقد دحض الربيع كل هموم الإنسان. وإحدى قصائد الربيع تعبر عن هذا حين تقول:
ينسى الإنسان هموم روحه،
أما الربيع فيزدهر، وتتألق بالبهاء معظم الأشياء،
الحقل الأخضر ممتد رائع،
حيث ينحدر الجدول في جماله الساطع.
الجبال المنتصبة تغطيها الأشجار،
والهواء بديع في الفضاء المفتوح،
الوادي الرحب ممتد في العالم،
والبرج والبيت مسنودان على التلال.
والغريب أن معظم هذه القصائد موقع بإمضاء اسم عجيب مجهول هو «سكاردانيللي الخاضع الذليل» ... ومعظمها يحمل تاريخا يدل على أن الشاعر فقد الوعي بالزمن. فبعضها يحمل تاريخا سابقا على مولد الشاعر أو لاحقا لوفاته .. بل إن إحدى قصائده عن الشتاء ترجع إلى الرابع والعشرين من شهر يناير سنة 1676م، أي قبل مولده بحوالي مائة سنة!
أما قصائده عن الشتاء فهي أكثر تعبيرا عن السكون الشامل الذي لف أيامه الأخيرة، والرضا الكامل الحزين الذي عبرت عنه كلمته الأخرى من قبل «طيبة كل الأشياء» ها هو ذا يقول في إحدى هذه القصائد:
تبدو السنة بكل مواسمها
أشبه بالحفل الفخم انتشرت فيه الأعياد ،
ويقبل الناس على النشاط بهدف جديد،
وهكذا تظهر العلامات في الكون وتكثر المعجزات.
وليس معنى هذا أن تناقضات النفس المعذبة قد اختفت من الوجود، بل معناه أنها استراحت على صدر الوجدان الهادئ المستسلم الذي صالح بينها وجمع أطرافها في «دائرة الكل». ها هي ذي قصيدة أخرى عن الشتاء تعكس هذا الإحساس الهادئ بالكون الأكبر:
الحقل مجدب، وعلى القمة البعيدة
لا تسطع إلا السماء الزرقاء، وكما تمضي الدروب
تظهر الطبيعة أشبه بكيان واحد،
النسيم منعش، والطبيعة لا يتوجها إلا النور.
دائرة الأرض تشاهد من السماء
طوال النهار، يحوطها الليل المنير،
عندما يظهر الزحام عاليا من (مواقع) النجوم
وتتجلى الحياة الرحبة الممتدة أغنى بالروح.
لم يعد الشاعر يعاني أو يتألم، بل هو الآن يشاهد ويتأمل من غربته البعيدة الهادئة. أصبحت عينه مرآة محايدة، وكل ما ينعكس عليها مظهر من مظاهر الوجود الكبير، وجزء من الدائرة التامة الشاملة. الطبيعة صارت أشبه بمسرح هائل، من ورائه الكواليس، ومن أمامه ستارة الغيب المجهول.
هلدرلين في الثانية والسبعين من عمره (من رسم لويزه كيلر).
وعلى الرغم من هذا السكون الشامل الذي خيم عليه فأطفأ سراج ذاته، وظلل كل أشعاره في هذه السنوات البائسة بالطمأنينة والرضا والسكون،تفاجئنا قصيدة واحدة انتفضت فيها الذات ونبشت جراح ماضيها وحاولت أن تستعيد أحلى ذكرياتها مع الحبيبة الغائبة تحت التراب. والقصيدة مكتوبة على لسان «ديوتيما» التي يبعث إلى نفسه رسالة على لسانها، وكأنما اتحدت ذاته بذاتها فصارا كيانا واحدا يتحدى المكان الغادر والزمن الظالم. وفي القصيدة عذوبة لا نظير لها، وفيها كذلك يأس لا نظير له. ولكنه اليأس الذي ارتفع فوق السخط والمرارة. لنقرأ القصيدة معا، فهي درة نادرة في كنز الشاعر، وجوهرة غالية بين نفائس شبابه وشيخوخته:
إن كنت لا تزال تعرفني من مسافة البعد
التي فرقت بيننا، وإن كان الماضي - أنت يا شريك أحزاني! -
لا يزال يحمل إليك بعض الخير
5
فأخبرني إذن، كيف تنتظرك الحبيبة،
في تلك الحدائق التي جمعت شملنا
بعد سنوات مظلمة ومخيفة؟
هنا على أنهار العالم الأقدس القديم.
لا بد أن أقول هذا، كانت نظراتك
تشرق بالخير، عندما التفت في مرح
إلى الآفاق البعيدة،
أنت أيها الإنسان المنطوي أبدا
بمنظرك العابس على الدوام. كم انسابت الساعات؟
وكم هدأت روحي عندما أيقنت
أنها لم تكن بعيدة عنك؟
أجل! لقد اعترفت بأنني لك.
حقا. كما تريد أن تذكرني بكل ما ألفت
وتدونه في رسائل (تبعثها إلي)
كذلك أجدني أبوح
بكل ما مضى.
أكان ربيعا؟ أكان صيفا؟
البلبل بغنائه العذب عاش مع الطيور،
التي لم تكن بعيدة في الآجام،
والأشجار أحاطتنا بشذاها.
الممرات المعبدة، والشجيرات الدانية، والرمال
التي خطونا عليها جعلت أزهار الزنبق
أو الخزامى والبنفسج والقرنفل
أكثر بهجة ورواء.
اخضر اللبلاب على الحيطان والجدران،
واخضر الظلام المبارك في الطرقات العالية.
كثيرا ما اختلفنا إلى هناك في المساء والصباح،
فتجاذبنا الحديث وتبادلنا النظرات في سرور.
بين ذراعي تجددت حياة الشاب،
الذي كان لا يزال وحيدا حين جاء من الحقول،
التي دلني عليها في حزن واكتئاب،
لكنه احتفظ بأسماء تلك الأماكن النادرة.
وبكل جميل يزدهر على الشطآن المباركة - وهو عزيز علي في أرض الوطن -
أو خفي لا يرى
إلا من بقعة عالية،
حيث يستطيع الإنسان أن يشاهد البحر
وإن لم يرد أن يكونه.
فلتقنع بهذا، وتذكر من لا تزال سعيدة،
لأن النهار الخلاب طلع علينا،
النهار الذي بدأ بالاعتراف أو ضغط اليدين،
ووحد بيننا. آه! ويل لي!
كانت أياما حلوة. لكن تبعتها
ظلمة غسق محزن.
ها أنت تؤكد أبدا يا حبي
أنك وحدك في هذا العالم
لكنك لا تدري شيئا عن هذا ...
وتنقطع القصيدة التي لم يتمها الشاعر. إن نغمة الشكوى والأنين تصل إلى الأسماع. وهي تحمل كل عذاب الذات وعجزها ويأسها. لكن هذه النغمة نادرة قصائده المتأخرة والعودة إلى الماضي البعيد توشك ألا تتكرر، اللهم إلا في قصيدة واحدة تفاجئنا بقلق وجودي غريب على الشاعر والعصر جميعا. إنها قصيدة واحدة كما قلت، سماها الشاعر «نعيم هذا العالم»، وتلفت فيها على غير عادته للوراء، وختمها بالاعتراف بسأمه وحنيه إلى الموت :
هذا العالم ذقت نعيمه،
انصرمت ساعات شبابي،
ما أبعدها! ما أبعدها!
أبريل بعيد، مايو، يوليو
أنا لا شيء، وحياتي
ما عادت تحلو في عيني.
بيد أن هذه النغمة تختفي فجأة كما ظهرت فجأة. وتغوص الذات المتألمة في بحر الوجود الذي يغسل آلامها، ويحل الوصف الخالص محل التوتر والقلق، وتضيع أصوات الشكوى بين أنغام الرضا والسلام والانسجام. وينشر السكون العميق خيمته على أيام الشاعر المسكين. ويصبح السؤال لا معنى له، لأن السلام دخل القلب ولن يخرج منه. السلام الذي طالما اشتاق إليه المتجول الوحيد في أرض الحب والشعر. وهو سلام قريب من الصمت والسكون، لأنه لا يعرف الشكوى ولا الأنين: ... هناك تعلوها شجرة الفاكهة المزدهرة،
ويستقر الشذا على الشجيرات البرية ،
حيث تتفتح أزهار البنفسج الخفية؛
غير أن المياه تتحدر قطرات،
ويسمع هناك همس ناعم طوال النهار،
أما الأماكن المحيطة
فتستريح وتصمت طوال العصر.
هلدرلين في شيخوخته (نحت بارز من الشمع أعده و. نويبرت ويوجد الآن في متحف شيلر القومي بمدينة مارباخ).
وجاء الموت ...
كان ذلك في ليلة السابع من يونيو سنة 1843م، بعد أن ظل يتأمل القمر كعادته ويتطلع إلى النجوم ساعات طويلة من نافذته .. مات في هدوء وسلام، كأنما يعتذر عن حياته وموته جميعا ولا يريد أن يزعج أحدا أو يلفت أحدا إليه. وخرج من العالم كما جاء إليه، ضيفا بائسا متعبا. وبدا لسنوات طويلة أن الدنيا لم تفطن لدخوله أو خروجه، كما لم تعبأ بحياته أو موته. ولكن الموت الرحيم يأتي دائما، وقد زاره في تلك الليلة المقمرة؛ فاستراح الشاعر وصمت صمته الأخير.
لوحة بحياة هلدرلين وأعماله وعصره
1770م
ولد يوهان كرستيان فريدريش هلدرلين في العشرين من شهر مارس في بلدة لاوفن الواقعة على نهر النيكار، وكان أبوه هينريش فريدريش هلدرلين معلما في مدرسة الدير في هذه البلدة ومديرا للأملاك التابعة للكنيسة، أما أمه فكانت تدعى يوهانا كرستيانا هاين.
1772م
وفاة أبيه في السادسة والثلاثين من عمره، مولد شقيقته هينريكه في الخامس عشر من شهر أغسطس، وقد تزوجت بعد ذلك من كرستيان برويلن الذي كان أستاذا في الدير الواقع بمدينة بلاوبويرن.
1774م
زواج أمه من «جوك» عمدة مدينة نورتنجن وعضو المجلس البلدي بها وانتقالها مع صغيريها إلى بيته.
1776م
مولد كارل جوك، شقيق هلدرلين لأمه، في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر في «نورتنجن».
1779م
وفاة زوج أمه في الثامن من شهر مارس على أثر إصابته بالتهاب رئوي. هلدرلين يدخل المدرسة اللاتينية في نورتنجن وتصر أمه وأسرته على أن يدرس اللاهوت ويصبح قسيسا.
1784م
دخوله مدرسة الدير الابتدائية ببلدة دنكندورف حيث يقضي فيها سنتين.
1786م
دخوله مدرسة الدير العليا في ماولبرون في الخريف وتعرفه على إمانويل ناست، وفرانز كارل هيمر، وكرستيان لدفيج بلفينجر الذين جمعته بهم صداقة حميمة، وقراءته لأعمال كلوبشتوك، وشوبارت، وشيلر الذين أعجب بهم في مطلع شبابه، وكان لروحهم المثالية والوطنية أكبر الأثر على قصائده الأولى. اطلاعه على مجموعة الأشعار العاطفية الحزينة التي قلدها «ماكفرسون» ونسبها إلى شاعر اسكتلندي خرافي يقال إنه عاش في القرن الثالث، وكان لها تأثير هائل على الأدب الألماني في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حتى اكتشف الأصل وترجم سنة 1807م.
1788 - 1789م
تكوين رابطة أدبية مع صديقيه لدفيج نويفر ورودلف ماجنا، وتبلغ ذروة نشاطها في سنة 1790م. زيارته لمدينة توبنجن وتأثره بشخصية شيلر وشعره. كتابة القصائد الغنائية المعروفة بقصائد توبنجن.
1789م
تعرفه على جوتهولد فريدريش شتويدلن الذي كان يلقب «بالكاهن الأعظم» لربات الفن في منطقة «شفابن»، ولقاؤه بالشاعر الوطني الثائر شوبارت (1739-1791م). بداية الثورة الفرنسية الكبرى في الرابع عشر من يوليو.
1790م
دخول امتحان «الماجستير» في شهر سبتمبر بمدينة توبنجن، ومواصلة الدراسة في المعهد الديني بها. تعرفه على إليزه ليبريت في الخريف من هذه السنة وقيامه برحلة قصيرة مع بعض أصدقائه إلى سويسرا حيث يزورون الكاتب والفيلسوف السويسري «لافاتر» (1741-1801م)، الذي أثر على الأدب الألماني في العصر المعروف بعصر الحساسية بإيمانه العميق وأسلوبه العاطفي المتوهج بالدفء والإنسانية، وكان صديقا حميما لجوته وهردر.
1791م
ظهور بعض قصائد هلدرلين لأول مرة في مجلة «نتيجة ربات الفنون» التي كان يصدرها شتويدلن، وإسهامه بالكتابة فيها في العدد السنوي التالي. خروج صديقيه نويفر وماجناو من المعهد الديني. وفاة الشاعر شوبارت في العاشر من أكتوبر بمدينة شتوتجارت.
1792م
لقاؤه في الصيف بالمجهولة «ذات الوجه النقي الجميل» التي لم يعرف الباحثون شيئا عنها حتى الآن!
1793م
خروجه في شهر سبتمبر من المعهد الديني الذي قاسى فيه ألوانا من الشظف والحرمان، وتوسط «شيلر» في البحث له عن وظيفة معلم خصوصي لابن السيدة شارلوته فون كالب التي كانت على صلة بالحياة الأدبية. اجتيازه امتحان شهادة اللاهوت في السادس من سبتمبر بمدينة شتوتجارت وسفره في العشرين من نفس الشهر إلى بلدة فالترسهاوزن الواقعة بالقرب من مدينة يينا وتسلمه العمل في بيت السيدة فون كالب.
1794م
فيلسوف المثالية الألمانية «فشته» يبدأ في شهر مايو محاضراته في جامعة «يينا». عودة الشاعر شيلر مع أسرته إلى «يينا»، وبداية صداقته الوطيدة مع الشاعر الأكبر جوته في صيف هذا العام. سفر هلدرلين في شهر نوفمبر مع تلميذه المزعج الذي أتعبته مهمة تربيته إلى مدينة يينا حيث يستمع إلى محاضرات فشته ويتردد على شيلر ويتعرف على جوته وهيردر. ظهور الجزء الذي كتبه من روايته «هيبريون» في مجلة «تاليا» التي كان شيلر يصدرها.
1795م
ظهور رواية جوته «فيلهلم ميستر» في شهر يناير، وتعد أهم حدث أدبي في أواخر القرن الثامن عشر. شيلر يصدر مجلته الجديدة «الهورن». هلدرلين يتخلى عن وظيفته التربوية ويغادر بيت السيدة شارلوته فون كالب في السادس عشر من يناير، ويقوم برحلة إلى مدينة ليبتسج في أواخر شهر مارس. وفاة روزينه شتويدلن عروس صديقه الحميم نويفر في الخامس والعشرين من أبريل. هروبه من مدينة يينا في أواخر شهر مايو وعودته إلى وطنه في «نورتنجن» حيث يقضي الصيف تعيسا وحيدا، ويقرر السفر إلى مدينة فرانكفورت على نهر الماين فيصل إليها في الثامن والعشرين من ديسمبر.
1796م
تضطره لقمة العيش إلى العودة للدروس الخصوصية ويعمل ابتداء من شهر يناير في بيت رجل المال والبنوك جونتار، ويخفق قلبه بحب ربة البيت سوزيته جونتار. سوزيته تغادر فرانكفورت مع أولادها بسبب ظروف الحرب مع جيوش نابليون وتسافر في صحبة هلدرلين والشاعر الكاتب «فيلهلم هنسه» إلى مدينة كاسيل ومنها إلى باد-دريبورج في منطقة فستفالين حيث يقيمون هناك حتى شهر أكتوبر. جوتهولد شتويدلين صديق هلدرلين يموت منتحرا في نهر الراين.
1797م
ظهور الجزء الأول من رواية هيبريون في أعياد الفصح عند الناشر كوتا. (أما الجزء الثاني فيظهر بعد ذلك في سنة 1799م). نشر قصيدته «المتجول» في شهر أغسطس في مجلة «الهورن». هلدرلين يزور جوته في الثاني والعشرين من شهر أغسطس في مدينة فرانكفورت، وتكشف هذه الزيارة الشكلية عن عجز جوته عن تقدير موهبته الشعرية.
1798م
يضطر في منتصف شهر سبتمبر لمغادرة بيت جونتار على أثر إهانة الزوج له، ويقيم في مدينة هومبورج ليظل قريبا من حبيبته سوزيته، وهناك يستضيفه صديقه إسحاق فون سنكلير ويرعاه. يبدأ العمل في مسرحيته الشعرية «موت أمبادوقليس» ويفكر في إصدار مجلة أدبية ويكتب بعض المقالات الفلسفية.
1799م
وصول صديقه بولندورف إلى مدينة هومبورج.
1800م
يعود في أوائل شهر يونيو إلى قريته ثم يقضي الصيف والخريف في صحبة أصدقائه في مدينة شتوتجارت.
1801م
عقد معاهدة السلام بين فرنسا والنمسا في مدينة لونافيل. هلدرلين يغادر قريته مرة أخرى في محاولة لكسب قوته خارج وطنه، فيعمل مدرسا خصوصيا لدى عائلة جونسنباخ في بلدة هاوبتفيل في سويسرا، ولكنه لا يكاد يقضي فيها أربعة شهور حتى يضطره الفشل للرجوع إلى بلدته «نورتنجن»، ويسعى للالتحاق بجامعة «يينا» للتدريس بها فيخفق أيضا في مسعاه. يكتب مرثياته وقصائده الكبرى. يبدأ رحلته الأخيرة إلى فرنسا في العاشر من ديسمبر.
1802م
يصل إلى مدينة «بوردو» في الثامن والعشرين من شهر يناير بعد رحلة شاقة على قدميه عبر جبال الأوفيرون ويعمل مدرسا خصوصيا ومربيا لأبناء القنصل الألماني دانييل ماير. ولكنه لا يلبث أن يتخلى عن عمله بعد شهور قليلة ويغادر المدينة في ظروف غامضة. ويصل في منتصف شهر يونيو إلى نورتنجن وقد ظهرت عليه آثار الاختلال العقلي الواضح. وفاة سوزيته جونتار في الثاني والعشرين من شهر يونيو بمدينة فرانكفورت. يسافر في الخريف إلى مؤتمر أمراء المقاطعات الألمانية المنعقد في مدينة ريجنسبورج.
1803م
حياته مع أمه في نورتنجن.
1804م
ظهور ترجمته لمسرحية أوديب ملكا عند الناشر فريدريش فيلمانس في فرانكفورت. يزداد عليه المرض ويعوده صديقه سينكلير ويأخذه معه إلى مدينة هومبورج حيث يعيش هناك سنتين.
1805م
وفاة الشاعر شيلر في التاسع من شهر مايو.
1806م
سينكلير يسلم صديقه لمستشفى أوتنريت بمدينة توبنجن بعد أن استفحل مرضه.
1807م
يتقدم النجار سيمر للمستشفى ويأخذ الشاعر الميئوس من شفائه إلى بيته في مدينة توبنجن ويتولى رعايته حتى يخلصه الموت من عذابه.
1815م
وفاة صديقه سينكلير في الثامن والعشرين من شهر أبريل بمدينة فيينا.
1826م
يقوم بعض شعراء منطقة شفابن وهم جوستاف شفاب ولدفيج أولاند ويوستينوس كيرنر بجمع قصائد هلدرلين ونشرها في أول طبعة كاملة.
1828م
وفاة أمه في السابع عشر من شهر فبراير.
1839م
وفاة صديق شبابه نويفر.
1843م
وفاة هلدرلين في اليوم السابع من شهر يونيو بمدينة توبنجن.
نصوص مختارة
من قصائده الأولى1
عزيمتي
2 (1787م)
أيها الأصدقاء! أيها الأصدقاء! يا من تخلصون لي الحب!
ما هذا الذي يكدر صفو نظراتي الوحيدة؟
ما الذي يكره قلبي المسكين
على هذا الهدوء المميت الذي تلفه سحب الليل؟
أهرب من ضغط أيديكم الرقيقة،
من القبلة الأخوية الطيبة الحنون.
ناشدتكم ألا تغضبوا علي، لأني أهرب منها!
انظروا في أعماق نفسي! اختبروها ثم احكموا!
أهو العطش الحار إلى كمال الرجولة؟
أهو الحرص الخفي على مكافأة الأضاحي؟
3
أهو الطموح الضعيف إلى تحليق بندار؟
أهو الكفاح للوصول إلى عظمة كلوبشتوك؟
4
آه أيها الأصدقاء. أي ركن في الأرض
يمكنه أن يخفيني، حتى أبكي هناك
وقد لفني الليل إلى الأبد؟ أنا لن أقوى أبدا
أن أطوف حول العالم وأحلق تحليق العظماء.
5
لكن لا! هيا اسلك درب المجد الرائع!
عاليا! عاليا! في الحلم المشبوب الجسور،
الذي يوصلك إليهم، وإذا يوما كتب علي
أن أتلعثم (في كلماتي) وأنا أحتضر، فانسوني أيها الصغار! (MEIN VORSATZ) (1787)
O Freunde! Freunde! die ihr so treu mich liebt!
Was trübet meine einsame Blicke so?
Was zwingt mein armes Herz in diese
Wolkenumnachtete Totenstille?
Ich fliehe euren zärtlichen Händedruck,
Den seelenvollen, seligen Bruderkuss.
O zürnt mir nicht, dass ich ihn fliehe!
Schaut mir in's Innerste! Prüft und richtet!-
Ists heisser Durst nach Männervollkommenheit?
Ists leises Geizen um Hekatombenlohn?
Ists schwacher Schwung nach Pindars Flug? ists
Kämpfendes Streben nach Klopstocksgrösse?
Ach Freunde! Welcher Winkel der Erde kann
Mich decken, dass ich ewig in Nacht gehüllt
Dort weine? Ich erreich ihn nie den
Weltenumeilenden Flug der Grossen.
Doch nein, hinan den herrlichen Ehrenpfad!
Hinan! hinan! im glühenden kühnen Traum
Sie zu erreichen; muss ich einst auch
Sterbend noch stammeln; vergesst mich, Kinder!
كبلر
6 (1789م)
روحي تسري بين النجوم،
تسبح فوق ساحات السماء
7
وتتفكر، دربي وحيد وجسور
يتطلب الخطوة الثابتة.
8
تجول بقوة كما يفعل البطل!
ارفع وجهك، لكن لا تسرف في الغرور،
فها هو ذا يقترب، انظر، ينحدر من الساحات العالية،
حيث يهلل الانتصار، ذلك الرجل
الذي قاد المفكر في ألبيون،
9 - رقيب السماء في منتصف الليل -
إلى ساحة التأمل العميق،
وتقدم بجسارة ليضيء (ظلمات) التيه،
حتى إن كبرياء «التيمز» الجليل،
نادته وهي تركع بالروح أمام قبره،
وتدعوه إلى ساحة الشرف العظيم:
10 «بدأت يا بن سويفيا»
حيث زاغ البصر آلاف السنين،
وها أنا ذا أتم ما بدأت،
فقد كنت، أيها (الرائد) المجيد، أول من أضاء المتاهة،
واستنزل الشعاع إلى (غياهب) الليل. «لتلتهم الشعلة التي تتأجج في الصدر
نخاع الحياة .. فسوف ألحق بك وأتم ما بدأت!
لأن الطريق الذي سلكت عظيم، جاد وعظيم،
يزدري الذهب، ويكافئ نفسه بنفسه.»
يا لبركة القاعة التي تزدحم بأجداث الأبطال!
11
هل وطني هو الذي وهبه الحياة؟ وهو من أثنى عليه التيمز؟
وأول من أرسل الشعاع إلى (ظلمات المتاهة)
وهدى الكواكب إلى القطب (البعيد).
هكذا أنسى رعود «هيكلا»
12
ولو كتب علي أن أسير على الأفاعي
لما هزتني الخيلاء لأنه نشأ على أرضك
يا سويفيا.
13
ولنا الشكر من ألبيون.
14
يا أم الأوفياء! يا سويفيا!
أنت أيتها الوديعة! الدهور تهلل لك،
ربيت رجالا نورانيين لا يحصرهم عد،
وفم الأجيال القادمة يحييك ويلهج باسمك. (KEPLER) (1789)
Unter den Sternen ergehet sich
Mein Geist, die Gefilde des Uranus
Uberhin schwebt er und sinnt; einsam ist
Und gewagt, ehernen Tritt heischet die Bahn.
Wandle mit Kraft, wie der Held, einher!
Erhebe die Miene! doch nicht zu stolz,
Denn es naht, siehe es naht, hoch herab
Von dem Gefild, wo der Triumph jubelt, der Mann,
Welcher den Denker in Albion,
Den Späher des Himmels um Mitternacht
Ins Gefild' tiefern Anschauns leitete,
Und voranleuchtend sich wagt' ins Labyrinth,
Dass der erhabenen Themse Stolz
Im Geiste sich beugend vor seinem Grab
Ins Gefild' würdigern Lohns nach ihm rief:
Du begannst, Suevias Sohn, wo es dem Blick
Aller Jahrtausende schwindelte;
Und ja! ich vollende, was du begannst,
Denn voran leuchtetest du, Herrlicher!
Im Labyrinth, Strahlen beschwurst du in die Nacht.
Möge verzehren des Lebens Mark
Die Flamm' in der Brust - ich ereile dich,
Ich vollend's! denn sie ist gross, ernst und gross,
Diene Bahn, höhnet des Golds, lohnet sich selbst.”
Wonne Walhallas! und ihn gebar
Mein Vaterland? ihn, den die Themse pries?
Der zuerst ins Labyrinth Strahlen schuf,
Und den Pfad, hin an den Pol, wies dem Gestirn.
Heklas Gedonner vergäss ich so,
Und, ging ich auf Ottern, ich bebte nicht
In dem Stolz, dass er aus dir, Suevia!
Sich erhub, unser der Dank Albions ist.
Mutter der Redlichen! Suevia!
Du stille! dir jaqchzen Äonen zu,
Du erzogst Männer des Lichts ohne Zahl,
Des Geschlechts Mund, das da kommt, huldiget dir!
قصائد من مرحلة النضج
أمبادوقليس (1797م)
أنت تفتش عن الحياة، تفتش عنها، ونار إلهية
تنبثق لأجلك من أعماق الأرض وتتألق، (ويغلبك) الشوق الجارف فتقذف نفسك
في لهيب «إتنا».
كم كان مجون الملكة يتمنى،
أن يذيب اللآلئ في النبيذ!
لو أنك، يا شاعر، لم تلق بثروتك
في الكأس المزبدة الفوارة!
لكنك عندي مقدس قداسة قوة الأرض،
التي انتزعتك، أيها القتيل الجسور!
ولكم أتمنى أن أتبع البطل إلى الأعماق،
لولا أن الحب يمنعني. (EMPEDOKLES) (1797)
Das Leben suchst du, suchst, und es quillt und glänzt
Ein göttlich Feuer tief aus der Erde dir,
Und du in schauderndem Verlangen
Wirfst dich hinab in des Ätna Flammen.
So schmelzt' im Weine Perlen der Übermut
Der Königin; und mochte sie! Hättest du
Nur deinen Reichtum nicht, o Dichter,
Hin in den gärenden Kelch geopfert!
Doch heilig bist du mir, wie der Erde Macht,
Die dich hinwegnahm, kühner Getöteter!
Und folgen möcht' ich in die Tiefe,
Hielte die Liebe mich nicht, dem Helden.
بونابرت (1797م)
1
الشعراء أوعية مقدسة
تحفظ فيها خمر الحياة،
وروح الأبطال.
لكن روح هذا الفتى،
هذا الفتى الخفيف،
2
ألم يضطر لتحطيم الوعاء
الذي أراد أن يحويه؟
3
فليتركه الشاعر ولا يقترب منه، (لأنه) يشبه روح الطبيعة،
والمادة التي من هذا النوع تجعل المعلم (الصناع) يصبح صبيا (مبتدئا).
إنه لا يستطيع أن يحيا ويبقى في القصيدة،
بل يحيا ويبقى في العالم. (BUONAPARTE)
Heilige Gefässe sind die Dichter,
Worin des Lebens Wein, der Geist
Der Helden sich aufbewahrt,
Aber der geist dieses Jünglings
Der schnelle, müsst' er es nicht zersprengen,
Wo es ihn fassen wollte, das Gefäss?
Der Dichter lass ihn unberührt wie den Geist der Natur,
An solchem Stoffe wird zum Knaben der Meister.
Er kann im Gedichte nicht leben und bleiben
Er lebt und bleibt in der Welt.
إلى ربات القدر
4 (1798م)
جدن علي بصيف واحد، يا ذوات الجبروت!
وخريف واحد لأغنيتي الناضجة
عل فؤادي يموت راضيا
بعد أن يشبع من الألحان العذاب.
الروح التي لم تنل حقها الإلهي في الحياة،
لن تجد الراحة أيضا في عالم الظلال؛
5
لكن لو حالفني التوفيق في إنشاء القصيد، - وهو الذي أقدسه ويهيم به الفؤاد -
فمرحبا بك إذن، يا سكون عالم الظلال!
سأكون راضيا، وإن لم يصحبني عزف أوتاري
في رحلتي إلى أعماق الحضيض،
عشت يوما كالآلهة، وهذا يكفيني. (AN DIE PARZEN)
Nur einen Sommer gönnt, ihr Gewaltigen!
Und einen Herbst zu reifem Gesange mir,
Dass williger mein Herz, vom süssen
Spiele gesättiget, dann mir sterbe!
Die Seele, der im Leben ihr göttlich Recht
Nicht ward, sie ruht auch drunten im Orkus nicht;
Doch ist mir einst das Heil'ge, das am
Herzen mir liegt, das Gedicht, gelungen,
Willkommen dann, o Stille der Schattenwelt!
Zufrieden bin ich, wenn auch mein Saitenspiel
Mich nicht hinabgeleitet; Einmal
Lebt' ich, wie Götter, und mehr bedarfs nicht.
ديوتيما (1798م)
تسكتين وتصبرين، وهم لا يفهمونك،
يا أيتها الحياة الغالية! تذبلين في صمت،
لأنك واحسرتاه، تبحثين عبثا بين البرابرة
عن أهلك في نور الشمس،
عن تلك الأرواح النبيلة الحنون، التي ما عاد لها وجود!
غير أن الزمن يسرع (الخطا). ولا زالت أغنيتي الفانية
ترى اليوم الذي تشبهك فيه، يا ديوتيما، وتسميك
بعد الآلهة ومع الأبطال. (DIOTIMA)
Du schweigst und duldest, und sie verstehn dich nicht,
Du heilig leben! Welkest hinweg und schweigst,
Denn ach! Vergebens bei Barbaren
Suchst du die Deinen im Sonnenlichte,
Die zärtlichgrossen Seelen, die nimmer sind!
Doch eilt die Zeit. Noch siehet mein sterblich Lied
Den Tag, der, Diotima! Nächst den
Göttern mit Helden dich nennt und dir gleicht.
دعاء بالغفران (1798م)
أيها الكائن المقدس! كثيرا ما أقلقت
راحتك الذهبية الإلهية، ومني تعلمت
بعض أحزان الحياة
شديدة العمق والخفاء.
آه! انسي ذاك، واغفري لي! فسوف أمضي
كما تمضي تلك السحب التي تغطي القمر الوديع،
أما أنت، أيها النور الحلو، فسوف تستريحين
ويسطع جمالك من جديد. (ABBITTE)
Heilig Wesen! gestört hab' ich die goldene
Götterruhe dir oft, und der geheimeren,
Tiefern Schmerzen des Lebens
Hast du manche gelernt von mir.
O vergiss es, vergib! gleich dem Gewölke dort
Vor dem friedlichen Mond, geh' ich dahin, und du
Ruhst und glänzest in deiner
Schöne wieder, du süsses Licht!
دورة الحياة
6 (1798م)
تطلعت روحي إلى السماء، غير أن الحب
جذبها (إلى الأرض) جذبا جميلا؛
والعذاب قهرها بقوة شديدة؛
هكذا أعبر قوس الحياة
وأعود إلى حيث جئت. (LEBENSLAUF)
Hoch auf strebte mein Geist, aber die Liebe zog
Schön ihn nieder; das Leid beugt ihn gewaltiger;
So durchlauf' ich des Lebens
Bogen und kehre, woher ich kam.
الذنب الذي لا يغتفر (1798م)
إن نسيتم أصدقاءكم، إن هزأتم بالفنان،
ونظرتم للعقل العميق نظرة السوقة والصغار،
فليغفر الله لكم، لكيلا تزعجوا أبدا
سلام المحبين. (DAS UNVERZEIHLICHE)
Wenn ihr Freunde vergesst, wenn ihr den Künstler höhnt,
Und den tieferen Fleiss klein und gemein versteht,
Gott vergibt es, doch stört nur
Nie den Frieden der Liebenden.
إلى شعراء الشباب (1798م)
أيها الإخوة الأعزاء! ربما نضج فننا عن قريب
بعدما اختمر، كالفتيان، وقتا طويلا،
وبلغ سكون الجمال،
المهم أن تكونوا أتقياء (بالروح) كما كان اليونان!
أحبوا الآلهة واعطفوا على الفانين !
7
اكرهوا نشوة السكر، كما تكرهون الصقيع!
لا تعظوا ولا تصفوا. وإذا أخافكم الأساتذة
8
فالتمسوا النصح من الطبيعة العظيمة. (AN DIE JUNGEN DICHTER)
Liebe Brüder! es reift unsere Kunst vielleicht,
Da, dem Jünglinge gleich, lange sie schon gegärt,
Bald zur Stille der Schönheit
Seid nur fromm, wie der Grieche war!
Liebt die Götter und denkt freundlich der Sterblichen!
Hasst den Rausch, wie den Frost! lehrt und beschreibet nicht!
Wenn der Meister euch ängstigt,
Fragt die grosse Natur um Rat.
إلى الألمان
9 (1798م)
لا تسخروا بالطفل الذي يتصور نفسه أشجع الفرسان
10
وهو على صهوة الحصان الخشبي (وفي يده) السوط واللجام،
لأنكم كذلك أيها الألمان
فقراء في الأفعال أغنياء بالأوهام
11
أم هل يأتي الفعل من الأفكار
كما يأتي الشعاع من السحاب؟
12
هل تدب الحياة في الكتب عن قريب؟
آه أيها الأحباب، خذوني إذن،
حتى أكفر عن خطيئتي وتجديفي. (AN DIE DEUTSCHEN)
Spottet ja nicht des Kinds, wenn es mit
Auf dem Rosse von Holz mutig und gross sich dünkt.
Denn, ihr Deutschen, auch ihr seid
Tatenarm und gedankenvoll.
Order kömmt, wie der Strahl aus dem Gewölke kömmt,
Aus Gedanken die Tat? Leben die Bücher bald?
O ihr Lieben! so nehmt mich,
Dass ich büsse die Lästerung!
سقراط وألكبياديس
13 (1798م) «لم، يا سقراط الأقدس،
تمجد هذا الفتى على الدوام؟ ألا تعرف شيئا أعظم منه؟
لم تتطلع عينك إليه في حب
كأنما تتطلع للآلهة؟»
من تفكر في أعماق الأشياء، أحب أوفرها حياة،
ومن نظر في العالم، فهم طموح الشباب.
وكثيرا ما ينحني الحكماء
للجميل في نهاية المطاف. (SOKRATES UND ALKIBIADES) “Warum huldigest du, heiliger Sokrates,
Diesem Jünglinge stets? kennest du Grössers nicht,
Warum siehet mit Liebe,
Wie auf Götter, dein Aug’ auf ihn?”
Wer das Tiefste gedacht, liebt das Lebendigste.
Hohe Tugend versteht, wer in die Welt geblickt,
Und es neigen die Weisen
Oft am Ende zu Schönem sich.
أغنية هيبريون إلى القدر
14 (1798م)
أنت تسيرين هناك في النور
على أرض ناعمة، يا أيتها الأرواح المباركة!
النسمات الإلهية الوضيئة،
تلمسكم لمسا خفيفا،
مثل أصابع العازفة
على الأوتار المقدسة.
بلا قدر، كالرضيع النائم
يتنفس الإلهيون؛
أعفاء مصونين
في البرعم الطيب.
15
تزدهر أرواحهم أبدا،
وعيونهم المباركة
تطل في هدوء
وصفاء خالد.
أما نحن فكتب علينا،
ألا نهدأ في موضع،
والبشر المعذبون
يتلاشون ويسقطون،
كالعميان من ساعة لأخرى،
كما تندفع المياه
على مر السنين
من صخرة لصخرة،
إلى الهاوية الغامضة. (HYPERIONS SCHICKSALSLIED)
Ihr wandelt droben im Licht
Auf weichem Boden, selige Genien!
Glänzende Götterlüfte
Rühren euch leicht,
Wie die Finger der Künstlerin
Heilige Saiten.
Schicksallos, wie der schlafende
Säugling, atmen die Himmlischen;
Keusch bewahrt
In bescheidener Knospe
Blühet ewig
Ihnen der Geist,
Und die seligen Augen
Blicken in stiller
Ewiger Klarheit.
Doch uns ist gegeben,
Auf keiner Stätte zu ruhn,
Es schwinden, es fallen
Die leidenden Menschen
Blindlings von einer
Stunde zur andern,
Wie Wasser von Klippe
Zu Klippe geworfen,
Jahrlang ins Ungewisse hinab.
خمسة إبيجرامات
16 (1799م)
إلى نفسه
17
تعلم الفن في الحياة، وتعلم الحياة في العمل الفني،
إن رأيت أحدهما رؤية صحيحة، فسوف ترى الآخر كذلك.
FUNF EPIGRAMME (Pros Heauton π P O
Σ
E A
Υ
T O N)
Lern im Leben die Kunst, im Kunstwerk lerne das Leben,
Siehst du das Eine recht, siehst du das andere auch.
سوفوكليس
كثيرون حاولوا عبثا أن يعبروا عن غاية الفرح تعبيرا فرحا
وأخيرا وجدته هنا في الحزن والنواح. (SOPHOKLES)
Viele versuchten umsonst das Freudigste freudig zu sagen
Hier spricht endlich es mir, hier der Trauer sich aus.
الشاعر الغاضب
لا تخافوا الشاعر عندما يغضب غضبه النبيل،
إن حرفه يقتل، ولكن روحه تحيي الأرواح. (DER ZÜRNENDE DICHTER)
Fürchtet den Dichter nicht, wenn er edel zürnet, sein Buchstab’
Tötet, aber es macht Geister lebendig der Geist.
العابثون
أتعبثون أبدا وتمزحون؟ لا مفر لكم من هذا يا أصحاب.
هذا شيء يحز في نفسي، إذ لا يضطر إليه إلا اليائسون. (DIE SCHERZHAFTEN)
Immer spielt ihr und scherzt? ihr müsst! o Freunde! mirgeht dies
In die Seele, denn dies müssen Verzweifelte nur.
جذور الشر كله
الاتحاد شيء إلهي وخير، ولكن كيف تسلط على عقول الناس
أنه لا وجود إلا «للواحد»، و«لشيء واحد»؟ (WURZEL ALLES UBELS)
Einig zu sein, ist göttlich und gut; woher ist die Sucht denn
Unter den Menschen, dass nur Einer und Eines nur sei?
روسو (1799م)
كم هي محدودة مدة أيامنا!
كنت ورأيت ودهشت، ولقد أقبل المساء،
نم الآن، حيث تعبر سنوات الشعوب
على بعد سحيق.
والبعض يرى أبعد من عصره
يهديه رب للأفق الرحيب،
18
أما أنت فتقف بأشواقك على الشاطئ،
أذى لمواطنيك، ظل، ولا تحبهم،
وأولئك الذين تسميهم، أولئك الموعودون،
أين هم القادمون الجدد، حتى تتدفأ بيد الصديق،
من أين يقبلون، حتى يتاح لك مرة واحدة
أن تجد من يسمعك، أيها القول الوحيد؟
القاعة لا يتردد فيها صوت، أيها المسكين،
وأنت كالأموات الذين لم يواروا التراب
تهيم على وجهك باحثا عن الراحة والهدوء
وما من أحد يدلك على الطريق المرسوم.
كن راضيا إذن! ... الشجرة تنمو
من تربة الوطن، لكن أذرعتها
العاشقة الشابة تتدلى،
وتحني رأسها وهي تنوح.
فيض الحياة، فيضها اللامتناهي،
الذي ...
19
حوله، ويخطف نوره الأبصار،
لن يناله أبدا. ومع ذلك فهو يحيا فيه
ويدفئه ويؤثر عليه، ومنه تنبثق الثمرة.
لقد عشت! ... وهامتك، هامتك أنت أيضا
تسعدها الشمس البعيدة
وأشعة أيام أجمل.
الرسل عثروا على قلبك.
سمعتهم، فهمت لغة الأغراب،
لمست
20
روحهم! والمشتاق كفته إشارة ،
ومن قديم الأزمان كانت الإشارات
هي لغة الآلهة.
وعجيب، كأن عقل الإنسان من قديم الأزل
قد عرف كل ما ينمو ويصير،
وأحاط بكنه الحياة ... ... ...
21
تبين الكمال في أول إشارة،
وطار روحه الجسور كما تطير النسور
ليسبق العواصف والأنواء،
معلنا عن آلهته القادمة ...
22 (ROUSSEAU)
Wie eng begrenzt ist unsere Tageszeit.
Du warst und sahst und stauntest, schon Abend ists,
Nun schlafe, wo unendlich ferne
Ziehen vorüber der Völker Jahre.
Und mancher siehet über die eigne Zeit
Ihm zeigt ein Gott ins Freie, doch sehnend stehst
Am Ufer du, ein Argernis den
Deinen, ein Schatten, und liebst sie nimmer,
Und jene, die du nennst, die Verheissenen,
Wo sind die Neuen, dass du an Freundeshand
Erwarmst, wo nahn sie, dass du einmal
Einsame Rede, vernehmlich seiest?
Klanglos ists, armer Mann, in der Halle dir,
Und gleich den Unbegrabenen, irrest du
Unstet und suchest Ruh und niemand
Weiss den beschiedenen Weg zu weisen.
Sei denn zufrieden!... der Baum entwächst
Dem heimatlichen Boden, aber es sinken ihm
Die liebenden, die jugendlichen
Arme, und trauernd neigt er sein Haupt.
Des Ledens UberfluB, des Unendliche,
Das um ihn ... und dämmert, er fasst es nie.
Doch lebts in ihm und gegenwärtig,
Wärmend und wirkend die Frucht entquillt ihm.
Du hast gelebt!... auch dir, auch dir
Erfreuet die ferne Sonne dein Haupt,
Und Strahlen aus der schönern Zeit. Es
Haben die Boten dein Herz gefunden.
Vernommen hast du sie, verstanden die Sprache der Fremdlinge,
Gedeutet ihre Seele! Dem Sehnenden war
Der Wink genug, und Winke sind
Von Alters her die Sprache der Götter.
Und wunderbar, als hatte von Anbeginn
Des Menschen Geist das Werden und Wirken all,
Des Lebens Weise schon erfahren
Kennt er im ersten Zeichen Vollendetes schon,
Und fliegt, der kühne Geist, wie Adler den
Gewittern, weissagend seinen
Kommenden Göttern voraus, ...
الحب
23 (1800م)
إن نسيتم أصحابكم، إن أسأتم إليهم جميعا، - أيها العارفون بالجميل - إن أسأتم إلى شعرائكم،
فليغفر الله لكم،
لكن حاولوا دائما أن تحترموا أرواح العشاق.
لأني أناشدكم أن تخبروني إن كانت الحياة
لا تزال حية فيمن عداهم، بينما الهم الوضيع يقهر الآن كل الأشياء؟
لهذا أيضا يتحرك الرب من زمن طويل
فوق رءوسنا بغير اكتراث
لكن مهما تكن السنة باردة وعاطلة من الغناء
في الفصل الموعود، فسوف تبزغ الأعشاب الخضراء
من الحقل الأبيض،
وسوف يتردد غناء طير وحيد،
عندما تتمدد الغابة شيئا فشيئا، ويترجرج النهر،
ويهب النسيم الناعم هامسا من الجنوب
24
في الساعة الملائمة ، (وعندما تظهر) علامة على الزمن الأفضل
الذي نؤمن به، فينمو الحب فريدا في قناعته،
فريدا في نبله وتقواه
فوق الأرض الصلدة الموحشة، (الحب) ابن الرب الذي خرج منه وحده.
25
بوركت، بوركت أيتها النبتة السماوية
ولتترعرعي في ظل أنشودتي،
عندما تغذوك قوى النكتار
26
الأثيري،
وينضجك الشعاع المبدع الخلاق.
ترعرعي وصيري غابة! صيري دنيا
أغني بالروح وبالأزهار! ولتكن لغة المحبين
هي لغة الوطن.
وليكن روحهم هو صوت الشعب! (DIE LIEBE)
Wenn ihr Freunde vergesst, wenn ihr die Euern all,
O ihr Dankbaren, sie euere Dichter schmäht,
Gott vergeb’ es, doch ehret
Nur die seele der Liebenden.
Denn, o saget, wo lebt menschliches Leben sonst,
Da die knechtische jetzt alles, die Sorge, zwingt?
Darum wandelt der Gott auch
Sorglos über dem Haupt uns längst.
Doch, wie immer das Jahr kalt und gesanglos ist,
Zur beschiedenen Zeit aber aus weissem Feld
Grüne Halme doch sprossen,
Oft ein einsamer Vogel singt,
Wenn sich mählich der Wald dehnet, der Strom sich regt,
Schon die mildere Luft leise von Mittag weht
Zur erlesenen Stunde:
So, ein Zeichen der schönern Zeit,
Die wir glauben, erwächst einzig genügsam nah,
Einzig edel und fromm über dem ehernen,
Wielden Boden die Liebe,
Gottes Tochter, von ihm allein.
Sei gesegnet, o sei, himmlische
Mit Gesange gepflegt, wenn des ätherischen
Nektars Kräfte dich nähren,
Und der schöpfrische Strahl dich reift.
Wachs’ und werde zum Wald! eine beseeltere,
Voll entblühende Welt! Sprache der Liebenden
Sei die Sprache des Landes,
Ihre Seele der Laut Volks!
دورة الحياة
27 (1800م)
أنت أيضا تطلعت لأمر أعظم، لكن الحب
يقهرنا جميعا، والعذاب أشد وطأة،
غير أن قوسنا لا يرجع عبثا
إلى حيث جاء!
يستوي الصعود والهبوط! أولا تغلب الاستقامة
على الليل المقدس الذي تدبر فيه الطبيعة الصامتة
ما يقبل من أيام؟ ألا يسود الحق (قاع) العالم السفلي
28
شديد الالتواء؟
هذه (هي الحقيقة) التي توصلت إليها. فأنتم أيها السماويون،
يا من تحفظون جميع المخلوقات، لم يسبق لكم - بقدر ما أعلم -
أن قدتم خطاي يوما من الأيام على الطريق المستقيم،
كما يفعل المعلمون من أبناء البشر الفانين.
فليختبر الإنسان كل شيء بنفسه، هذا ما يقوله السماويون،
كيما يتعلم - حين يشتد عوده بالغذاء -
أن يكون شكورا (عارفا بالجميل)،
29
ويفهم حرية الانطلاق
إلى حيث يشاء. (LEBENSLAUF)
Grössers wolltest auch du, aber die Liebe zwingt
All uns nieder, das Leid beuget gewaltiger,
Doch es kehret umsonst nicht
Unser Bogen, woher er kommt!
Aufwärts order hinab! herrschet in heil’ger Nacht,
Wo die stumme Natur werdende Tage sinnt,
Herrscht im schiefesten Orkus
Nicht ein Grades, ein Recht noch auch?
Dies erfuhr ich. Denn nie, sterblichen Meistern gleich,
Habt ihr Himmlischen, ihr Alleserhaltenden,
Dass ich wüsste, mit Vorsicht
Mich des ebenen Pfads geführt.
Alles prüfe der Mensch, sagen die Himmlischen,
Dass er, kräftig genährt, danken für alles lern’,
Und verstehe die Freiheit,
Aufzubre chen, wohin er will.
العودة للوطن (1800م)
أيتها النسمات الرقيقة! يا رسل إيطاليا!
وأنت وأشجار الحور (على شاطئيك) أيها النهر الحبيب.
ويا أيتها الجبال المتلاطمة كالأمواج!
أيتها القمم المشمسة جميعا، أهذه أنت من جديد؟
أيتها البقعة الهادئة! في الأحلام تجليت للمشتاق من بعيد
إثر يوم يائس حزين،
وأنت يا بيتي، ويا رفاق لعبي،
يا أشجار التل المألوفة منذ سنين!
كم من زمن فات على هذا! كم من زمن فات!
ذهبت راحة الطفل، وذهب الشباب والحب والمراح؛
أما أنت فلم تتغير يا وطني،
يا وطني المقدس الصبور.
ولأنهم يصبرون إذا صبرت، ويشاركونك الفرح
رحت تربي أبناءك أيضا يا وطني الغالي!
وتذكرهم حتى في الأحلام، وهم الجاحدون،
حين يهيمون على أوجههم ويضلون.
وإذا قرت النزوات الجامحة
في صدر الفتى المشبوب
وسكتت أمام القدر
سلم لك عن طيب خاطر .
وداعا إذن يا أيام الشباب، ويا درب الحب (المفروش) بالورود، ويا طرقات العابر جميعا،
وداعا! واستردي حياتي وباركيها
أنت يا سماء الوطن. (RUCKKEHR IN DIE HEIMAT)
Ihr milden Lüfte! Boten Italiens!
Und du mit deinen Pappeln, geliebter Strom!
Ihr wogenden Gebirg! o all ihr
Sonnigen Gipfel! so seid ihr’s wieder?
Du stiller Ort! In Träumen erschienst du fern
Nach hoffnungslosem Tage dem Sehnenden,
Und du mein Haus, und ihr Gespielen,
Bäume des Hügels, ihr wohlbekannten!
Wie lang ist’s, o wie lange! des Kindes Ruh’
Ist hin, und hin ist Jugend, und Lieb’ und Lust,
Doch du mein Vaterland! Du heilig-
Duldendes! siehe, du bist geblieben.
Und darum, dass sie dulden mit dir, mit dir
Sich freun, erziehst du, teures! die Deinen auch
Und mahnst in Träumen, wenn sie ferne
Schweifen und irren, die Ungetreuen.
Und wenn im heissen Busen dem Jünglinge
Die eigenmächt’gen Wünsche besänftiget
Und stille vor dem Schicksal sind, dann
Gibt der Geläuterte dir sch lieber!
Lebt wohl dann, Jugendtage, du Rosenpfad
Der Lieb’ und all ihr Pfade des Wanderers,
Lebt wohl! und nimm und segne du mein
Leben, o Himmel der Heimat, wieder!
المغني الأعمى (1801)
أين أنت، أيها الشاب اليافع الذي يوقظني دائما
في الفجر مع الندى،
30
أين أنت أيها النور!
القلب يقظان، لكن الليل ما فتئ يأسرني
ويقيدني بسحره المقدس.
كنت قديما أهوى الإنصات عند الغسق،
وكنت أنتظرك شغوفا على جانب التل، وما كان الانتظار عبثا!
أبدا لم تخدعني رسلك، أيها الحبيب، رسل الأنسام،
فقد كنت تأتي على الدوام،
وتنفث روحك في كل الموجودات، على الدرب المعهود
تدلف إلى (بستان) جمالك، أين أنت أيها النور!
القلب صحا من جديد، لكن الليل اللامتناهي
ما زال يأسرني ويعوق [خطاي].
قديما كنت أرى العرش
31
خضراء؛
وكانت الأزهار تنير لي (الطريق) كأني عيوني؛
ووجوه أحبابي المضيئة
لم تكن عني بعيدة
وفوق الغابات وحولها كنت أرى أجنحة السماء
وهي مسافرة، عندما كنت في أيام الشباب؛
وها أنا ذا الآن أجلس وحيدا صامتا،
من ساعة لأخرى وأفكاري
تصنع أشكالا من حبي وعذابي
في أيامي المضيئة لتبتهج بها،
وأمد سمعي بعيدا علي أرى
منقذا رحيما يقبل نحوي.
عندئذ أسمع أحيانا في وقت الظهيرة
صوت إله الرعد الرهيب عندما تقترب [خطاه]،
ويزلزل بيته وتدوي الأرض تحته،
ويردد الجبل صوت الرعود.
هناك أسمع المنقذ في الليل،
أسمع المخلص وهو يميت ويحيي،
رب الرعود المسرع من المغرب
إلى المشرق، وأنت يا أوتاري
ترددين صوته! أغنيتي تحيا معه،
وكما أن الغدير يطيع النهر،
كذلك أمضي وألاحق أفكاره
وأتابع الواثق بنفسه على طريق الحائرين.
إلى أين؟ إلى أين؟ أسمعك هنا وهناك
أيها الرائع المجيد! وحول الأرض تتردد الألحان.
أين ينتهي بك المسير؟ وماذا، ماذا فوق السحب؟
ويا ويلي ماذا يجري لي؟
أيها النهار! أيها النهار فوق السحب المتداعية!
مرحبا بك! عيني تتفتح لك.
آه يا نور الشباب! وآه أيتها النعمة!
النعمة القديمة التي تعود من جديد! لكنك يا أيها النبع
تنساب من الكأس المقدسة وروحك تزداد صفاء!
وأنت أيتها التربة الخضراء، يا مهد السلام!
وأنت يا بيت آبائي. ويا أيها الأحباب
الذين لقيتهم ذات يوم،
اقتربوا، تعالوا، حتى تصبح الفرحة من نصيبكم،
تعالوا جميعا، حتى يبارككم من يرى!
آه خذوها حتى أقوى على الاحتمال،
ارفعوا عبء الحياة المقدسة عن فؤادي. «رفع آريس
32
الهول المخيف عن عيني.» (سوفوكليس، مسرحية أجاكس الفصل الأول، البيت 706) (DER BLINDE SÄNGER)
Wo bist du, Jugendliches! das immer mich
Zur Stunde weckt des Morgens, wo bist du, Licht?
Das Herz ist wach, doch bannt und hält in
Heiligem Zauber die Nacht mich immer.
Sonst lauscht’ ich um die Dämmerung gern, sonst harrt’
Ich gerne dein am Hügel, und nie umsonst!
Nie täuschten mich, du Holdes, deine
Boten, die Lüfte, denn immer kamst du,
Kamst allbeseligend den gewohnten
Herein in deiner Schöne, wo bist du, Licht!
Das Herz ist wieder wach, doch bannt und
Hemmt die unendliche Nacht mich immer.
Mir grünten sonst die Lauben; es leuchteten
Die Blumen, wie die eigenen Augen, mir ;
Nicht ferne war das Angesicht der
Meinen und leuchtete mir, und droben
Und um die Wälder sah ich die Fittiche
Des Himmels wandern, da ich ein Jüngling war;
Nun sitz’ ich still allein, von einer
Stunde zur anderen, und Gestalten
Aus Lieb und Leid der helleren Tage schafft
Zur eignen Freude nun meim Gedanke sich,
Und ferne lausch’ ich hin, ob nicht ein
Freundlicher Retter villeicht mir komme.
Dann hör’ich oft die Stimme des Donnerers
Am Mittag, wenn der eherne nahe kommt,
Wenn ihm das Haus bebt und der Boden
Unter ihm drohnt und der Berg es nachhallt.
Den Retter hör’ ich dann in der Nacht, ich hör ’
Ihn tötend, den Befreier, belebend ihn,
Den Donnerer vom Untergang zum
Orient eilen, und ihm nach tönt ihr,
Ihm nach, ihr meine Saiten! es lebt mit ihm
Mein Lied, und wei die Quelle dem Strome folgt,
Wohin er denkt, so muss ich fort und
Folge dem Sicheren auf der Irrbahn.
Wohin? wohin? ich höre dich da und dort
Du Herrlicher! und rings um die Erde tönt’s.
Wo endest du? und was, was ist es
Uber den Wolken und o wie wird mir?
Tag! Tag! Du über stürzenden Wolken! sei
Willkommen mir! es blühet mein Auge dir.
O jugendlicht! o Glück! das alte
Wieder! doch geistiger rinnst du nieder
Du goldner Quell aus heiligem kelch! und du,
Du grüner Boden, friedliche Wieg’! und du,
Haus meiner Väter! und ihr Lieben,
Die mir begegneten einst, o nahet,
O kommt, dass euer, euer die Freude sei,
Ihr alle, dass euch segne der Sehende!
O nehmt, dass ich’s ertrage, mir das
Leben, das Göttliche mir vom Herzen.
من أناشيد الليل
كتب هلدرلين أناشيد الليل وهو على الحافة بين قمة نضجه وهاوية جنونه، حين بدأ يبحث لنفسه عن أسلوب شعري جديد ولغة شعرية جديدة، ويتخلص من البحور والأوزان الكلاسيكية التي تعلمها من ألكايوس وهوراس وغيرهما. وهي في جملتها قصائد ذات عنوان غامض غريب، تكتسب فيها الآلهة والأبطال معاني وأبعادا جديدة، وتزدحم بالصور الغريبة التي تأثرت بانطباعاته الحية في رحلته إلى الجنوب الدافئ، كما تزدحم بأبطال تحتاج الآلهة إليهم (لأن الآلهة - كما يقول في قصيدته الطويلة عن نهر الراين - لا تشعر من نفسها بشيء، ولهذا فهي في حاجة لمن يشاركها الشعور ويغني باسمها ...) وهكذا نجد سقراط بجانب المسيح، وديونيزيوس بجانب روسو. وتصل الألوهية إلى الوعي بنفسها من خلال البطل والشاعر، ولكن هذين يعرفان فداحة الثمن الذي لا بد أن يؤدياه في سبيل ذلك. وقد دفع إمبادوقليس وهيبريون وهلدرلين نفسه هذا الثمن الفادح، فقد طرد إمبادوقليس من بلده واختار الانتحار في فوهة بركان إتنا، ويئس هيبريون من الثورة الفاسدة ومن جدوى الفعل والواقع كله فتنسك كالكاهن الزاهد في محراب الطبيعة الأم، وعكف هلدرلين على نفسه في هذه المرحلة الخطرة من حياته وراح يتأمل قدره البائس في الأدب والحب والحياة. ولعل هذه الأبيات من قصيدته الطويلة التي لم يتمها - وهي قصيدة «منتصف الحياة» التي تجدها في هذه المجموعة - أن تكشف عن حالته الروحية والعقلية في ذلك الحين:
ويلي! أين أعثر على الأزهار
حين يأتي الشتاء؟
وأين أجد نور الشمس
وظلال الأرض؟
الجدران تقف صامتة باردة
وفي الريح ترفرف الأعلام ...
أناشيد الليل (1803م)
دموع
أيها الحب السماوي! أيها الحنون!
ليتني استطعت أن أنساك، ليتني يا بنات القدر،
يا أيتها الناريات الغارقات في الرماد والتراب
وكنتن قديما مقفرات موحشات، (ليتني أنساك) أيتها الجزر الحبيبة، يا عيون دنيا العجائب!
فقد أصبحت الآن همي الوحيد الفريد، (وكذلك) شواطئك التي يكفر فيها الحب - عابد الأوثان - عن خطاياه
لكنه لا يكفر عنها إلا للسماويين.
لأن المقدسين والأبطال الغاضبين
قد أدوا هناك فروض العبادة في أيام الجمال
وكانوا جميعا من الحامدين الشاكرين؛
والأشجار الكثيرة والمدن كانت ماثلة في ذلك المكان،
تراها العين أشبه برجل عاكف على التفكير؛
أما الآن فقد مات الأبطال، وجزر الحب
تشوهت أو كادت. لذلك لا عجب
أن يصبح الحب خداعا وسخفا في كل مكان.
أيتها الدموع الرقيقة، لا تطفئي نور عيني
كل الإطفاء، أبقي لي، أيتها الخوانة المتلصصة،
ذكرى واحدة تحيا بعدي
حتى أموت ميتة نبيلة. (TRÄNEN)
Himmlische Liebe! zärtliche! wenn ich dein
Vergässe, wenn ich, o ihr geschicklichen,
Ihr feug’gen, die voll Asche sind und
Wüst und vereinsamet ohnedies schon,
Ihr lieben Inseln, Augen der Wunderwelt!
Ihr nämlich geht nun einzig allein mich an,
Ihr Ufer, wo die abgöttische
Büsset, doch Himmlischen nur, die Liebe.
Denn allzudankbar haben die Heiligen
Gedienet dort in Tagen der Schönheit und
Die zorn’gen Helden; und viel Bäume
Sind, und die Städte daselbst gestanden,
Sichtbar, gleich einem sinnigen Mann; izt sind
Die Helden tot, die Inseln der Liebe sind
Enstellt fast. So muβ übervorteilt,
Albern doch überall sein die Liebe.
Ihr weichen Tränen, löschet das Augenlicht
Mir aber nicht ganz aus; ein Gedächtnis doch,
Damit ich edel sterbe, lasst ihr
Trügrischen, Diebischen, mir nachleben.
إلى الأمل
أيها الأمل! أيها الحبيب العطوف!
يا من لا تزور عن بيت الحزانى،
وتظل، أيها النبيل، تسعى بالخير
بين أبناء الفناء وقوى السماء،
أين أنت؟ عشت قليلا، لكن مسائي
ينفث أنفاسه الباردة. وها أنا ذا أجلس هنا في سكون
كالظلال، وقلبي المرتجف
ينعس في صدري محروما من الغناء.
في الوادي الأخضر، هناك حيث ينساب الغدير النضير
كل يوم من الجبل، وتتفتح (أغصان) الزعفران الفاتنة
في أحد أيام الخريف، هناك في ظل السكون
أريد أيها الجميل الرقيق
أن أفتش عنك، أو عندما تموج الحياة غير المنظورة
في البستان إذا انتصف الليل،
وتلمع فوقي النجوم المتفتحة (اليانعة)
هذه الأزهار الدائمة الفرحة،
هناك أطل يا بن الأثير
من حدائق أبيك! وإذا لم يقدر لك
أن تأتي على هيئة روح الأرض،
فأفزع قلبي، أفزعه برؤية أخرى. (AN DIE HOFFNUNG)
O Hoffnung! holde! gutiggeschäftige!
Die du das Haus der Trauernden nicht verschmähst,
Und gerne diened, Edle! zwischen
Sterblichen waltest und Himmelsmächten,
Wo bist du? wening lebt’ ich; doch atmet kalt
Mein Abend schon. Und stille, den Schatten gleich,
Bin ich schon hier; und schon gesanglos
Schlummert das schaudernde Herz im Busen.
Im grünen Tale, dort, wo der frische Quell
Vcm Berge täglich rauscht, und die liebliche
Zeitlose mir am Herbsttag aufblüht,
Dort, in der Stille, du Holde, will ich
Dich suchen, oder wenn in der Mitternacht
Das unsichtbare Leben im Haine wallt,
Und uber mir die immerfrohen
Blumen, die bluhenden Sterne, glänzen,
O du des Äthers Tochter! erscheine dann
Aus deines Vaters Gärten, and darfst du nicht
Ein Geist der Erde, kommen, schröck’, o
Schröcke mit anderem mut dar Herz mir.
عصور
يا مدائن الفرات!
يا حارات تدمر!
1
يا غابات الأعمدة في سهول الصحراء،
ما أنت؟
2
قممك وذراك
انتزعتها منك النار ودخان السماويين
لما اجتزت حدود الأنفاس؛
أما الآن فإني أجلس تحت السحب (من كل منها ينبعث سلام خاص)
في ظل أشجار البلوط المنسقة،
وعلى مرج (تمرح فيه) الأيائل
تبدو لي أرواح المباركين
غريبة وميتة. (LEBENSALTER)
Ihr Städte des Euphrats!
Ihr Gassen von
Ihr Säulenwälder in der Eb’ne der Wuste,
Was seid Ihr?
Euch hat die Kronen,
Dieweil ihr über die Grenze
Der Omenden seid gegangen,
Von Himmlischen der Rauchdampf und
Hinweg das Feuer genommen;
Jetzt aber sitz’ich unter Wolken (deren
Ein jedes eine Ruh’hat eigen) unter
Wohleingerichteten Eichen, auf
Der Heide des Rehs, und fremd
Erscheinen und gestorben mir
Der Seligen Geister.
منتصف الحياة
بالكمثرى الصفراء
والوردات البرية
يتدلى الشاطئ
في ماء بحيرة ،
أيتها البجعات الحلوة،
خمر القبلات أشاعت
فيك النشوة،
وغمست رءوسك
في الماء الطاهر
ويلي، لو جاء شتاء
أين سأقطف أزهاري
وألاقي نور الشمس
وظل الأرض؟
تبدو الجدران أمامي
باردة خرساء
والرايات
ترفرف في الريح. (HÄLFTE DES LEBENS)
Mit gelben Birnen hänget
Und voll mit wilden Rosen
Das Land in den See,
Ihr holden Schwäne,
Und trunken von Küssen
Tunkt ihr das Haupt
Ins heilignüchterne Wasser.
Weh mir, wo nehm’ ich, wenn
Es Winter ist, die Blumen, und wo
Den Sonnenschein
Und Schatten der Erde?
Die Mauern stehn
Sprachlos und kalt, im Winde
Klirren die Fahnen.
أشعار من مرحلة جنونه
3 (1805-1843م)
إلى تسيمر (1812م)
إن خطوط الحياة متنوعة
تنوع الدروب وحدود الجبال.
ما نحن هنا يمكن أن يكمله رب هناك
بالانسجام والثواب الأبدي والسلام. (AN ZIMMERN)
Die Linien des Lebens sind verschieden,
Wie Wege sind, und wie der Berge Grenzen,
Was hier wir sind, kann dort ein Gott ergänzen
Mit Harmonien und ewigem Lohn und Frieden.
إلى تسيمر
4 (حوالي سنة 1825م)
إذا كان الرجل طيبا وحكيما
قلت عنه: ما الذي يحتاج إليه؟
أهناك شيء يمكن أن يشبع روحه؟
هل ينمو على هذه الأرض عود من العشب أو كرمة ناضجة
يمكن أن تغذيه؟ إليك معنى هذا القول:
غالبا ما يكون الصديق هو الحبيبة، وفي أكثر الأحيان
يكون هو الفن. أيها الغالي، إني أصارحك بالحقيقة.
روحك هي روح دادالوس
5
والغابة ... (AN ZIMMERN)
Von einem Menschen sag ich, wenn der ist gut
Und weise, was bedarf er? Ist irgend eins
Das einer Seele gaüget? ist ein Halm, ist
Eine gereifteste Reb’ auf Erden
Gewachsen, die ihn nähre? Der Sinn ist des
Also. Ein Freund ist oft die Geliebte, viel
Die Kunst. O Teurer, dir sag ich die Wahrheit.
Dädalus Geist und des Walds ist deiner.
اقتناع
6 (1841م)
كمثل ما يغمر النهار البشر بضوئه
وبالنور الذي ينبثق من الأعالي،
ويؤلف بين الظواهر الغائمة،
كذلك الشأن مع المعرفة التي يسبر العقل أغوارها ... (UBERZEUGUNG)
Alswie der Tag die Menschen hell umscheinet,
Und mit dem Lichte, das den Höh’n entspringet,
Die dämmernden Erscheinungen vereinet,
Ist Wissen, welches tief der Geistigkeit gelinget.
خبز ونبيذ1
(إلى هينسه) (1800م)
1
المدينة يشملها الهدوء، الشارع المضاء أخلد للسكون،
والعربات المزدانة بالمشاعل تهدر على الطريق.
الرجال الذين شبعوا من مباهج النهار راجعون إلى بيوتهم ليرتاحوا،
ورأس مدبر يزن الربح والخسارة في بيته وهو راض؛
السوق المزدحم أقفر من الأعناب والأزهار،
ومن السلع التي صنعتها أيدي الناس.
لكن رنين الأوتار يسمع من بعيد وهو يرف آتيا من البساتين؛
ربما كان هناك عاشق يعزف ألحانه أو رجل وحيد
يتذكر شبابه وأصحابه البعيدين؛
والينابيع الرطبة لا تزال تتدفق وتنثر رذاذها على حوض الزهور الذي يفوح منه العبير.
في الهواء الشاحب الضوء تتردد أصداء الأجراس في هدوء،
وأحد الحراس ينبه للساعات ويهتف بالأرقام.
وتأتي الآن نسمة وتحرك ذرى الأشجار في البستان،
انظر! ها هو ذا القمر - وهو ظل أرضنا - يأتي أيضا على استحياء؛
ويأتي الليل الحالم الذي ترصعه النجوم ولا يعيرنا غير قليل من الاهتمام،
الليل المدهش الغريب بين البشر،
يتألق هناك في حزن وروعة فوق أعالي الجبال ...
2
عجيبة هي نعمة هذا الليل الجليل وما من أحد يدري
من أين ولا ما الذي يصيبه منه.
هكذا يحرك الكون وروح البشر المفعمة بالرجاء،
والحكماء أنفسهم لا يفهمون شيئا عن تدابيره،
فتلك هي مشيئة رب الأرباب الذي يؤثرك بالحب العظيم،
ولهذا فما يزال النهار الأريب أعز عليك من الليل.
لكن العين الصافية أيضا قد تحب ظلاله
وتعالج النوم لتستمتع به قبل أن تشتد حاجتها إليه،
وقد يحلو للرجل الوفي أن يتملى الليل في سرور،
بل قد يخلق بالناس أن يقدموا له الأكاليل والأناشيد،
لأنه مقدس لدى التائهين والأموات،
وإن بقي إلى الأبد ثابتا متحرر الفكر والروح.
لكن عليه أيضا أن يمنحنا النسيان والنشوة المقدسة؛
حتى نجد شيئا نتشبث به في لحظة التردد وفي غياهب الظلام،
وعليه أن يمنحنا الكلمة المتدفقة التي يهجرها النعاس
كما يهجر [جفون] العشاق،
ويهبنا الكأس المترعة والحياة الجسورة،
والتذكار المقدس أيضا لنقضي الليل ساهرين ...
3
كذلك نحاول عبثا أن نخفي القلوب في الصدور، ونحاول عبثا - من صبية ومعلمين متمرسين - أن نكبح جماح الإقدام،
فمن ذا الذي يمكنه أن يقف في وجهه، من ذا الذي يحرم علينا الابتهاج؟
والنار الإلهية أيضا تحفزنا بالليل والنهار على الانطلاق.
هيا إذن نطالع الأفق الرحيب،
2
ونلتمس (الحقيقة) التي تعبر عن نفوسنا،
3
مهما تكن بعيدة [الدار].
أمر واحد لا سبيل للشك فيه؛ وسواء أكان ذلك في وقت الظهيرة
أم امتد به الزمن إلى منتصف الليل، فهناك مقياس ثابت على الدوام،
يشارك فيه الجميع، وإن يكن كذلك لكل واحد نصيب مقسوم،
وكل منا يغدو ويروح إلى حيث يستطيع.
ولهذا قد يطيب للجنون المرح أن يسخر بالسخرية،
إذا تمكن في الليل المقدس فجأة من المنشدين.
تعال إذن إلى البرزخ!
4
حيث يهدر البحر الواسع بالقرب من البارناس
5
والثلج يلمع فوق صخور دلفي،
6
إلى بلاد الأوليمب،
7
وقمة كيثايرون،
8
هناك بين أشجار الصنوبر والشربين، بين الأعناب والكروم،
إلى حيث ترقد «طيبة» في الوادي
ويهدر «أزمينوس» في بلاد كادموس؛
9
فمن هناك أقبل الرب القادم وإليها يشير.
4
يا بلاد اليونان المباركة! أنت يا منزل السماويين أجمعين،
أحق ما سمعناه عنك في أيام الشباب؟
وعن بهو الاحتفالات، وأرضه كالمحيط، وموائده كالجبال،
وقد بني لغرض واحد من أقدم الأزمان؟!
لكن أين العروش؟ أين المعابد والأواني
التي كانت تملأ بالنكتار
10
لإسعاد الآلهة، وأين الغناء؟
أين، أين تتألق إذن نبوءات الوحي ذات المرمى البعيد؟ «دلفي» تغط في النعاس، وأين يتردد صوت القدر العظيم؟
أين ذلك الخفيف السريع! أين ينشق بصوت الرعد من السماوات الصافية
وهو يفيض بالسعادة الغامرة ويشرق لعيون الفانين؟
يا أبانا الأثير! هكذا هتفوا وطار النداء من لسان للسان
وتضاعف [رنينه] آلاف المرات، وما من أحد استطاع
أن يتحمل وحده عبء الحياة؛
وتوزع هذه الثروة فتدخل البهجة على النفوس، ويتبادلونها مع الأغراب،
فتنقلب إلى فرح وتهليل، وتنمو قوة الكلمة وهي مستسلمة للنعاس:
يا أبانا! أيها الأثير الصافي! وتنتشر أصداء الإشارة القديمة
التي ورثوها عن الآباء، وتهز وتخلق بقدر ما تستطيع.
فهكذا يجيء السماويون، ويصل نهارهم الذي يزلزل الأعماق
إلى البشر من عالم الظلام والظلال.
5
يأتون في مبدأ الأمر دون أن يفطن إليهم أحد، ويندفع نحوهم الأطفال،
ويقبل الحظ معهم، باهر الضياء يعشي الأبصار،
ويهابهم الإنسان ويوشك حتى نصف إله
ألا يعرف أسماء المقبلين عليه بالنعم والعطايا.
لكن شجاعتهم فائقة، ومباهجهم تملأ قلبه،
وهو لا يكاد يدري كيف يتصرف في ثروته،
فينشط للعمل، ويبذرها ويكاد يقدس أشياء مدنسة
باركتها لمسة يده في حمق وحنان.
يصبر السماويون على هذا بقدر ما يستطيعون،
ثم لا يلبثون أن يظهروا بأنفسهم، ويعتاد الناس،
الحظ الطيب والنهار ويألفون رؤية من تجلوا لهم
ومطالعة وجوه أولئك الذين دعوا من قديم الزمن باسم الواحد والكل،
وأفرغوا الاعتزاز والرضا في القلب الكتوم،
وكانوا وحدهم أول من أرضى الشوق ولبى الحاجات؛
هكذا الإنسان؛ حين تكون الثروة بين يديه،
ويؤثره الرب نفسه بالنعم والهدايا،
لا يفطن إليها ولا يراها.
عليه أولا أن يتحمل ويقاسي، لكنه الآن يسمي أعز الأحباب إلى نفسه،
ولا بد الآن أن تتفتح الكلمات التي تدل عليه كما تتفتح الأزهار.
6
وهو الآن يفكر جادا في إكرام الآلهة المباركين،
وكل شيء يرى من واجبه أن يتجه إليهم بأصدق الحمد والثناء.
لا ينبغي لشيء أن يرى النور إن لم يرض عنه الأعلون،
وغير خليق بالأثير كل سعي فارغ لاه.
لهذا تنهض الشعوب وتصطف صفوفا رائعة
11
لتقف وقفة أبية في حضرة السماويين
وتتنافس على المجد وتشيد المعابد والمدن الجميلة،
التي ترتفع عالية فوق الشواطئ والضفاف ...
ولكن أين هم؟ أين يزدهر أولئك الأغنياء عن التعريف، تيجان المهرجان؟
طيبة تذبل وأثينا؛ ألم تعد الأسلحة تصلصل في أوليمبيا،
ولا العربات الذهبية التي كانت تهدر في الألعاب،
وهل أصبحت سفن كورنثة عارية من الأكاليل؟
ولماذا صمتت أيضا المسارح القديمة المقدسة؟
لماذا لا يبتهج الرقص المكرس [للآلهة]؟
لماذا لا يطبع رب جبهة الرجل كما كان يفعل من قبل،
ولا يختم بخاتمة من أصابه بسهمه؟
12
أم هل جاء بنفسه وتقمص هيئة إنسان،
وأتم العيد السماوي وبالمواساة أنهاه؟
7
لكننا يا صديق قد أتينا جد متأخرين. صحيح أن الآلهة حية،
لكنها تحيا فوق رءوسنا، هناك في عالم مختلف.
هناك يعملون بغير حدود، ولا يبدو عليهم أنهم يحفلون كثيرا بوجودنا،
فهكذا يرأف السماويون بحالنا ويسبغون رحمتهم علينا.
13
إذ ليس في وسع إناء هش أن يحتويهم،
ولا يقدر الإنسان أن يحتمل كمالهم
14
إلا في بعض الأحيان.
لهذا كانت حياتنا حلما يطوف بهم. غير أن الحيرة
15
تعين،
كما يعين النعاس، والمحنة والليل يجعلاننا أقوياء،
حتى ينمو عدد كاف من الأبطال في المهد الحديدي،
وتصبح الأفئدة في قوتها شبيهة بالسماويين.
هنالك يأتون بصوت الرعود. ويبدو لي في هذه الأثناء
أن من الخير لي أن أنام
على أن أكون بغير صحاب دائم الانتظار كما هي حالي الآن،
ولست أدري عندئذ ماذا أفعل وأقول،
ولم الشعراء في الزمن الضنين؟
لكنهم، كما تقول، مثل كهنة رب الخمر المقدسين،
الذين سروا في الليل المقدس من بلد إلى بلد.
8
لأنهم لما صعدوا جميعا إلى السماء، وهم الذين أشاعوا السعادة في الحياة،
وكان ذلك من زمن يبدو لنا اليوم بعيدا،
ولما حول الأب وجهه عن البشر،
وبدأ الحداد - بحق - يخيم على الأرض،
ولما تجلى آخر الأمر روح هادئ
يحمل معه العزاء من السماء، وأعلن نهاية النهار ثم غاب،
تركت الجوقة السماوية وراءها بعض الهدايا، - علامة على أنها كانت هنا وسوف تعود -
وابتهجنا بهذه الهدايا كما فعل الناس من قبل،
إذ إن بهجة الروح قد زادت عظائم الأمور عظمة بين البشر،
وما زلنا نفتقر إلى الأقوياء القادرين
على التمتع بأسمى المباهج والأفراح،
وإن كان بعض العرفان بالجميل لا يزال يحيا في صمت وسكون.
الخبز ثمرة الأرض، ولكن النور يباركه،
ومن رب الرعود تأتي مسرة النبيذ.
لهذا يطيب لنا أن نتذكر السماويين،
الذين كانوا هنا ذات يوم وسوف يعودون
عندما يئين الأوان،
ولهذا يترنم المنشدون أيضا برب النبيذ،
ويبتهلون إليه بروح جاد،
ولا يبدو باطلا ذلك الحمد والثناء على [الرب] القديم.
9
أجل! ويقولون بحق إنه يصالح النهار مع الليل،
ويوجه حركة الكواكب أبد الدهر هبوطا وعلوا،
ويظل فرحا في كل الأوقات كأغصان شجرة الصنوبر المخضرة على الدوام
التي يحبها، وكالإكليل الذي انتقاه من أعواد اللبلاب
لأنه يدوم ويبلغ آثار الأرباب الغائبين أنفسهم
للجاحدين
16
الذين يعيشون في هاوية الظلام.
17
انظر! نحن الذين تنبأت بهم أنشودة القدماء عن أطفال الله،
نحن الذين صدقت عليهم، وإنها لثمرة بلاد الغرب.
18
تحققت في الإنسان على نحو عجيب ودقيق،
فليؤمن بها كل من ثبتت لديه! غير أن أمورا كثيرة تحدث،
ولا شيء منها يترك أثرا، لأننا نظل [قساة] بلا قلوب،
محض أشباه وظلال، حتى نعرف أبانا الأثير،
ويصبح ملكا لنا أجمعين.
لكن السوري، ابن الرب الأعلى،
19
يهبط في هذه الأثناء
إلى الظلال وهو يهز مشعله، ويراه الحكماء المباركون،
وتشرق الابتسامة في النفس السجينة،
ويذيب النور [الثلج المتجمد] فوق عيونهم.
20
ويحلم «التيتان»
21
بين ذراعي الأرض وينعم بالنعاس،
بل إن «سيربيروس»
22
الحسود يشرب وينام. (BROT UND WEIN) (AN HEINZE)
1
Rings um ruhet die Stadt; still wird die erleuchtete Gasse,
Und, mit Fackeln geschmückt, rauschen die Wagen hinweg.
Satt gehn heim von Freuden des Tags zu ruhen die Menschen,
Und gewinn und Verlust wäget ein sinniges Haupt
Wohlzufrieden zu Haus; leer steht von Trauben und Blumen,
Und von Werken der Hand ruht der geschäftige Markt.
Aber das Saitenspiel tönt fern aus Gärten; vielleicht, daß
Dort ein Liebendes spielt oder ein einsamer Mann
Ferner Freunde gedenkt und der Jugendzeit; und die Brunnen
Immerquillend und frisch rauschen an duftendem Beet.
Still in dämmriger Luft ertönen geläutete Glocken,
Und der Stunden gedenk rufet ein Wächter die Zahl.
Jetzt auch kommet ein Wehn und regt die Gipfel des Hains auf,
Sieh! und das Schattenbild unserer Erde, der Mond,
Kommet geheim nun auch; die Schwärmerische, die Nacht kommt,
Voll mit Sternen und wohl wenig bekümmert um uns,
Glänzt die Erstaunende dort, die Fremdlingin unter den Menschen,
Uber Gebirgeshöhn traurig und prächtig herauf.
2
Wunderbar ist die Gunst der Hocherhabnen und niemand
Weiss von wannen und was einem geschiehet von ihr.
So bewegt sie die Welt und die hoffende Seele der Menschen,
Selbst kein Weiser versteht, was sie bereitet, denn so
Will es der oberste Gott, der sehr dich liebet, und darum
Ist noch lieber, wie sie, dir der besonnene Tag.
Aber zuweilen liebt auch klares Auge dcn Schatten
Und versuchet zu Lust, eh’es die Not ist, den Schlaf,
Oder es blickt auch gern ein treuer Mann in die Nacht hin,
Ja, es ziemet sich, ihr Kranze zu weihn und Gesang,
Weil den Irrendcn sie geheiliget ist und den Totcn,
Selber aber besteht, ewig, in freiestem Geist.
Aber sie muss uns auch, dass in der zaudernden Weile,
Dass im Finstern für uns einiges Haltbare sei,
Uns die Vergessenheit und das Heiligtrunkene gönnen,
Gönnen das strömende Wort, das, wie die Liebcndcn, sei,
Schlummerlos und vollern Pokal und kühneres Leben,
Heilig Gedachtnis auch, wached zu bleiben bei Nacht.
3
Auch verbergen umsonst das Herz im Busen, umsonst nur
Halten den Mut noch wir, Meister und Knaben, denn wer
Möcht’ es hindern und wer möcht’ uns die Freude verbieten?
Göttliches Feuer auch Treibet, bei Tag und bei Nacht,
Aufzuberchen. So komm! daβ wir das Offene schauen,
Daβ ein Eigenes wir suchen, so weit es auch ist.
Fest bleibt Eins; es sei um Mittag oder es gehe
Bis in die Mitternacht, immer bestehet ein Maβ,
Allen gemein, doch jeglichem auch ist eignes beschieden,
Dahin gehet und kommt jeder, wohin er es kann.
Drum! und spotten des Spotts mag gern frohlockender Wahnsinn,
Wenn er in heiliger Nacht plötzlich die Sänger ergreift.
Drum an den Isthmos komm! dorthin, wo das offene Meer rauscht
Am Parnaβ und der Schnee delphische Felsen umglänzt,
Dort ins Land des Olymps, dort auf die Höhe Cithärons,
Unter die Fichten dort, unter die Trauben, von wo
Thebe drunten und Ismenos rauscht im Lande des Kadmos,
Dorther kommt und zurück deutet der kommende Gott.
4
Seliges Griechcnland! du Haus der Himmlischen alle,
Also ist wahr, was einst wir in der Jugcnd gehört?
Festlicher Saal! der Boden ist Meer! und Tische die Berge,
Wahrlich zu einzigem Brauche vor alters gebaut!
Aber die Thronen, wo? die Tempel, und wo die Gefässe,
Wo mit Nektar gefüllt, Göttern zu Lust der Gesang?
Wo, wo leuchten sie denn, die fernhintreffenden Sprüche?
Delphi schlummert und wo tönet das grosse Geschick?
Wo ist das schnelle? Wo brichts, allgegenwärtigen Glücks voll
Donnernd aus heiterer Luft über die Augen herein?
Vater Ather! so riefs und flog von Zunge zu Zunge,
Tausendfach, es ertrug keiner das Lebcn allein;
Ausgeteilet erfreut solch Gut und getauschet, mit Fremdcn,
Wirds ein Jubel, es wächst schlafend des Wortes Gewalt:
Vater! heiter! und hallt, so weit es gehet, das uralt
Zeichen, von Eltern geerbt, treffend und schaffend hinab.
Denn so kehren die Himmlischen ein, tiefschütternd gelangt so
Aus den Schatten herab unter die Menschen ihr Tag.
5
Unempfunden kommen sie erst, es streben entgegen
Ihnen die Kinder, zu hell kommet, zu blendend das Glück,
Und es scheut sich der Mensch, kaum weiβ zu sagen ein Halbgott
Wer mit Namen sie sind, die mit den Gaben ihm nahn.
Aber der Mut von ihnen ist gross, es füllen das Herz ihm
Ihre Freuden und kaum weiβ er zu brauchen das Gut,
Schafft, verschwendet und fast ward ihm Unheiliges heilig,
Das er mit segnender Hand törig und gütig berührt.
Möglichst dulden die Himmlischen dies; dann aber in Wahrheit
Kommen sie selbst, und gewohnt werden die Menschen der Glücks
Und des Tags und zu schaun die Offenbaren, das Antlitz
Derer, welche, schon längst Eines und Alles genannt,
Tief die verschwiegene Brust mit freier Genüge gefüllet,
Und zuerst und allein alles Verlangen beglückt;
So ist der Mensch; wenn da ist das Gut, und es sorget mit Gaben
Selber ein Gott für ihn, kennet und sieht er es nicht.
Tragen muss er, zuvor; nun aber nennt er sein Liebstes,
Nun, nun müssen dafür Worte, wie Blumen entstehn,
6
Und nun denkt er zu ehren in Ernst die seligen Götter,
Wirklich und wahrhaft muss alles verkünden ihr Lob.
Nichts darf schauen das Licht, was nicht den Hohen gefället,
Vor dcn Äther gebührt Müssigversuchendes nicht.
Drum in der Gegenwart der Himmlischen würdig zu stehen,
Richtcn in herrlichen Ordnungen Völker sich auf
Untereinander und baun die schonen Tempel und Städte
Fest und edel, sie gehn über Gestaden empor-
Aber wo sind sie? Wo blühn die Bekannten, die kronen des Festes?
Thebe welkt und Athen; rauschen die Woffen nicht mehr
In Olympia, nicht die goldnen Wagen des Kampfspiels,
Und bekränzen sich denn nimmer die Schiffe Korinths?
Warum schweigen auch sie, die alten heilgen Theater?
Warum freuet sich denn nicht der geweihete Tanz?
Warum zeichnet, wie sonst, die Stirne des Mannes ein Gott nicht,
Drückt den Stempel, wie sonst, nicht dem Getroffenen auf?
Oder er kam auch selbst und nahm des Menschen Gestalt an
Und vollendet’ und scholoss tröstend das himmlische Fest.
7
Aber Freund! wir kommen zu spät. Zwar leben die Götter,
Aber über dem Haupt droben in anderer Welt.
Endlos wirken sie da und scheinens wenig zu achten,
Ob wir leben, so sehr schonen die Himmlischen uns.
Denn nicht immer vermag ein schwaches Gefäβ sie zu fassen,
Nur zu Zeiten ertägt göttliche Fülle der Mensch.
Traum von ihnen ist drauf das Leben. Aber das Irrsal
Hilft, wie Schlummer, und stark machet die Not und die Nacht,
Bis dass Helden genug in der ehernen Wiege gewachsen,
Herzen an Kraft, wie sonst, ähnlich den Himmlischen sind.
Donnernd kommen sie drauf. Indessen dünket mir öfters
Besser zu schlafen, wie so ohne Genossen zu sein,
So zu harren, und was zu tun indes und zu sagen,
Weiss ich nicht, und wozu Dichter in dürftiger Zeit?
Aber sie sind, sagst du, wie des Weingotts heilige Priester,
Welche von Lande zu Land zogen in heiliger Nacht.
8
Nämlich, als vor einiger Zeit, uns dünket sie lange,
Aufwärts stiegen sie all, welche das Leben beglückt,
Als der Vater gewandt sein Angesicht von dcn Menschen,
Und das Trauern mit Recht über der Erde begann,
Als erschienen zuletzt ein stiller Genius, himmlisch
Trsteönd, welcher des Tags End verkündet’ und schwand,
Liess zum Zeichen, dass einst er da gewesen und wieder
Käme, der himmlische Chor einige Gaben zurück,
Derer menschlich, wir sonst, wir uns zu freucn vermöchten,
Denn zur Freude, mit Geist, wurde das Grössre zu gross
Unter den Mcnschcn und noch, noch fehlen die Starkcn zu höchsten
Freuden, aber es lebt stille noch einiger Dank.
Brot ist der Erde Frucht, doch ists vom Lichte gesegnet,
Und vom donnernden Gott kommet die Freude des Weins.
Darum denken wir auch dabei der Himmlischen, die sonst
Da gewesen und die kehren in richtiger Zeit,
Darum singen sie auch mit Ernst, die Sänger, den Weingott
Und nicht eitel erdacht tönet dem Alten dass Lob.
9
Ja! sie sagen mit Recht, er söhne den Tag mit der Nacht aus,
Führe des Himmels Gestirn ewig hinunter, hinauf,
Allzeit froh, wie das Laub der immergrünenden Fichte,
Das er Liebt, und der Kranz, den er von Efeu gewählt,
Weil er bleibet und selbst die Spur der entflohenen Götter
Götterlosen hinab unter das Finstere bringt.
Was der Alten Gesang von Kindern Gottes geweissagt,
Siehe! wir sind es, wir; Frucht von Hesperien ists!
Wunderbar und genau ists also an Menschen erfüllet,
Glaube, wer es geprüft! aber so vieles geschieht,
Keines wirket, denn wir sind herzlos, Schatten, bis unser
Vater Äther erkannt jeden und allen gehört.
Aber indessen kommt als Fackelschwinger des Höchsten
Sohn, der Syrier, unter die Schatten herab.
Selige Weise sehns; ein Lächeln aus der gefangnen
Seele leuchtet, dem Licht tauet ihr Auge noch auf.
Sanfter träumet und schläft in Armen der Erde der Titan,
Selbst der neidische, selbst Cerberus trinket und schläft.
المصادر
Hölderlin, Sämtliche Werke. Herausegegeben von Friedrich Beiss ner. Frankfurt/M, Insel-Verlag, 1961. 1343S.
Friedrich Hölderlin. In Selbstzeugnissen und Bilddokumenten dargestellt von ulrich Häussermann. Hamburg, Rowohlt, 1961. 175S.
Hölderlin. Ein Lesebuch für unsere Zeit. Von Tilly Bergner und Rudolf Leonhard. Weimar, Volksverlag, 1956. VIII 490S.
Dilthey, wilhelm. Das Erlebnis und die Dichtung. 14 Auflage, Göttingen, Vandenhoeck & Ruprecht. S. 242-317.
Martini, Fritz: Deutsche Literaturgeschichte, Neunte Auflage. Stuttgart, Alfred Krôner Verlag, 1958. S. 287-292.
Rehm, Walther: Griechentum und Goethezeit. Geschichte eines Glaubens. Dritte Auflage. Bern, A. Francke Verlag, 1952. S. 319-381
Hölderlin. Introduced and edited by Michael Hamburger. With plain prose translations of each poem. Penguin Books, 1961, P. XXVII, 269.
Heidegger, Martin: Erläuterungen zu Hölderlins Dichtung. Frankfurt am Main, V. Klostermann, 1951, 147S.
الدكتور عبد الرحمن بدوي؛ في الشعر الأوروبي المعاصر، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1965م، ص32-47.
عبد الغفار مكاوي؛ لم الشعراء في الزمن الضنين؟ بين القلب والعقل والشعر والفلسفة، مجلة الفكر المعاصر ، عدد سبتمبر 1971م، 65-80.
صفحة غير معروفة