يبدو أن لقاء هلدرلين مع ديوتيما قد تم بالروح والوجدان قبل أن يناديها باسمها أو يتعرف على شخصها بفترة طويلة. لقد رأينا في الصفحات السابقة كيف كان يعاني مرارة الإخفاق في الحب، والخيبة مع المرأة التي قد تعطيه شيئا، ولكنها تبخل عليه بكل شيء، وقد يجد لديها المودة والعطف، ولكنه يفتقد فيها مثال الحب المطلق، الذي يتمنى أن يفنى فيه ويهبه كل حياته، كما يفتقد «السر الأكبر الذي يمنحه الحياة أو الموت» ... هكذا أخفق في حبه لإليزه ليبريت التي أعطاها أكثر مما أخذ منها، وضاق بهذا الحب الذي ظل طافيا على السطح حتى استطاع أن يتخلص منه وهو يشهق ويتنهد: «طوبى لي، إن خلصني رب طيب، خلص قلبي من هذا الحب ...»
1
ثم كانت علاقته بصديقة مجهولة عرفها في مدينة شتوتجارت، علاقة غلب عليها الحياء والهمس والكتمان. ويبدو أن هلدرلين قد عرف هذه الصديقة معرفة سريعة عابرة، ولكنها كانت كافية لتحريك أعماقه، إذ رف عليه منها نسيم الصفاء الذي ينتظره من الحب الخالص المرتسم في خياله. ها هو ذا يكتب إلى صديقه نويفر بعد أول لقاء له معها: «كان مسلكي معها غريبا شاذا. وكلما تذكرت كيف غفلت عن صحبتي لها في ساعة الوداع تمنيت لو أصفع جبهتي بيدي. ولكن أحلام طفولتي قد تبددت كما قلت لك. ولو أنها ضحكت على الشاعر المريض ضحكة مجلجلة لما كان من حقي أن أغضب. إلا أن روحها كانت أطيب وأرق من أن تفعل هذا. إلهي! سوف أكن لها الاحترام إلى الأبد. إن النبل والهدوء اللذين يملآن كيانها يخالفان ما أعرفه من المخلوقات التي أراها هنا أو في غير هذا المكان، والتي لا تحرص على شيء حرصها على جذب الأنظار إليها والزهو بفطنتها والاستغراق في ضحك لا تريد أن تكف عنه ...»
ثم يكتب إلى صديقه بعد ذلك بستة شهور أنه يشق عليه أن ينساها كما كان ينوي أن يفعل، وأنه توسل إليها في صوت هامس ألا تحرمه مودتها، ولم يزد على ذلك ولم يطلب سواه.
بيد أن علاقته بهذه الصديقة المجهولة ظلت كما قلت علاقة سريعة عابرة. لقد أثارت نفسه وحركت شوقه إلى الحب النقي، ولكن لم يتح لها أن تتغلغل في قلبه أو ترضي شوقه. ومع ذلك فقد استطاعت أن تبعث فيه ما لم تستطعه امرأة قبلها، وصورت له أنها تحقق مثال الجمال الكلاسيكي الذي عبر عنه فنكلمان - مؤرخ الفن الملهم المتيم بالروح اليونانية والجمال اليوناني
2 - بكلمته المشهورة «بساطة نبيلة وعظمة هادئة» ... وهو كذلك قد وجد عندها ما ينشده في المرأة من الجد؛ إذ كانت تختلف عن كل النساء اللاتي عرفهن، كما لمس منها الحنان والتفهم والعطف؛ فواتته الجرأة أن يطلب ودها، وهو ما لم يطلبه من امرأة أخرى قبلها.
غير أن هذه البذرة الطيبة لم تجد الظروف المواتية التي تجعل منها ثمرة ناضجة، وإن كانت على كل حال قد أفلحت في تمهيد الأرض لتلقي بذرة أخرى تؤتي الثمرة الحلوة المرة، وتجلب عليه نعمة الحب الكبرى ونقمته الكبرى في آن واحد.
بدأت أمواج الشوق والصفاء تغمر كيانه في هذه المرحلة من حياته، وأخذت تنثر رذاذها وزبدها على شاطئه الموحش، وتروي رمال عطشه القديم. واتجه فكره بطبيعة الحال إلى عالم اليونان ليستمد منه مادته، وبدأت التجربة الأولى في سلسلة تجاربه العديدة لصياغة روايته الوحيدة التي حملت عباراتها الغنائية المجنحة كل أشواق قلبه وعذاب فكره. ونشرت هذه الصياغة القصيرة التي تعرف بشذرة هيبريون في صيف سنة 1794م في مجلة «ثاليا» التي كان يصدرها الشاعر شيلر. ومن يقرأها اليوم يعرف ظمأ الأرض العطشى لأمطار الحب، وحنينها لعناق البذرة الطيبة القاسية. إن سطورها الأولى تتحدث عن البطل الشاب الذي راح يبحث عن الحقيقة، أي عن كل شيء، لأن كل ما عداها باطل وعدم. وهو لهذا يبغض أوساط الأمور كما يبغض الموت، فلا يستطيع أن يقنع بشيء إلا أن يكون «الكل» وإلا فهو عنده عدم. هذه الحقيقة الكاملة، هذا الكل، هو الذي يمكن أن يجد عنده «الراحة» .. أجل! الراحة التي تسعى إليها الروح الظامئة. ولكن من يقدر أن يعيد إلينا اللحن الذي تغنى به القلب في أيام الطفولة السعيدة المباركة؟ لقد فتش عنها حينا بين الإخوة والأصحاب، وبدا له أن فقره سيصبح ثروة عريضة لو وجد القلب الذي يتحد به، والحياة التي لا يحرمه منها فراق ولا خداع. ولكم احترق شوقا إلى ضحكة من القلب، وذاب حنينا إلى ظل من الحب. إلا أن الخيبة كانت دائما من نصيبه، وكل صداقة جديدة كانت تتركه فقيرا معدما كما كان، أشبه بصبي أعمى، حاول أن يبتاع اللؤلؤ من شحاذين أشد منه فقرا، وإن كانوا مزهوين بأسمالهم، غافلين عن الخرق التي تلف أجسامهم.
فإذا مضينا في قراءة هذه الشذرة وجدنا المشكلة الوجودية التي تعذبه على لسان هيبريون
3
صفحة غير معروفة