التي حصل وجودها بالفعل فيما سلف والتي هي موجودة الآن، فإن التي يجهل منها ليس حالها في عدم التحصيل في أنفسها مثل حالها عندنا. فإن كثيرا من المجهولات التي صدقها على غير التحصيل عندنا يتغير حالها عندنا فيصير صدقها محصلا بعد أن كان عندنا غير محصل الصدق، وذلك إذا علمناها بعد الجهل، ويكون ذلك من غير أن تكون هي في أنفسها تغيرت من لا وجود إلى وجود، أو تكون قد تبدلت عليها حال أخرى. وأما الأمور الممكنة فإن المتناقضات التي نجهلها منها والتي صدقها على غير التحصيل عندنا لا تصير صدقا عندنا أصلا ولا في وقت من الأوقات معلومة، ولا يتحصل عندنا أن الصدق في هذا المشار إليه منهما دون الآخر، ما لم يتغير فيصير موجودا بالفعل بعد أن كان ممكنا. وإنما يكون ممكنا مادام معدوما. فإن المتناقضة الممكنة مجهولة بالطبع، لا بالإضافة إلينا. والمتناقضة الضرورية التي نجهلها نحن، فهي مجهولة بالاضافة إلينا، لا بالطبع، فإنا إنما نجهل الصادق منهما لعجز طباعنا عن إدراكه، وهو في نفسه حاصل على أحد الأمرين، محصلا، معرضا للادراك غير ممتنع من جهته أن يدرك. وأما الممكنة فإنها مجهولة عندنا، لا لعجزنا نحن عن ادراكها، بل لأنها في طبيعتها ممتنعة عن أن تدرك. ولأن الممكن بطبعه مجهول، صرنا نسمي المتناقضات الاضطرارية المجهولة عندنا ممكنة أيضا. فإنا نقول فيها ما دامت مجهولة لدينا إنها ممكنة أن تكون كذا، والا تكون، وإنما نعني أنها ممكنة عندنا وفي علمنا، لا أنها في أنفسها ممكنة في طباعها. فلا فرق في الاضطرارية بين قولنا: إنه ممكن، وبين قولنا: إنه مجهول. فإن قولنا: (ممكن أن يكون كذا وألا يكون) في أمثال هذه الأشياء معناه مجهول عندنا: هل هو كذا، أو كذا. والإمكان في الاضطرارية إنما يرتفع بعلمنا بها من غير أن تتغير هي في أنفسها بأن تصير موجودة بعد كانت غير موجودة، وبأن تتغير من العدم إلى الوجود، وعند ذلك تصير معرضة للعلم، ولأن يتحصل عندنا الصادق منها، وتدخل في حد الأشياء المجهولة من الاضطرارية. فإذا علمناه، ارتفع الإمكان عنها من الجهتين، من جهتها هي بتغيرها من العدم إلى الوجود، ومن جهتنا نحن بتغيرنا من الجهل بها إلى العلم بها.
وأما في الاضطرارية فإن الإمكان فيها إنما يرتفع بتغيرنا نحن من الجهل إلى العلم.
فلذلك ليس ينبغي لأجل اشتراك الاسم في الممكن، أن يظن بما هو ممكن في طبيعته أنه هو الممكن عندنا، بمعنى أنه مجهول عندنا، كما ظن ذلك جاليونس الطبيب، على ما قاله في كتابه الذي سماه: البرهان.
والمتناقضان في الممكن، إن كانا يقتسمان الصدق والكذب
صفحة ١٣