بسم الله الرحمن الرحيم
القول في بارى ارمينياس وهو القول في العبارة
الألفاظ الدالة
منها مفردة تدل على معان مفردة، ومنها مركبة تدل أيضا على معان مفردة، ومنها مركبة تدل على معان مركبة.
فالألفاظ الدالة على المعاني المفردة ثلاثة أجناس
اسم، وكلمة، وأداة.
فالاسم لفظ دال على معنى مفرد
يمكن أن يفهم بنفسه وحده، من غير أن يدل ببنيته، لا بالعرض، على الزمان المحصل الذي فيه ذلك المعنى.
والكلمة لفظ مفرد دال على معنى
يمكن أن يفهم بنفسه وحده، ويدل ببنيته، لا بالعرض، على الزمان المحصل الذي فيه ذلك المعنى.
والزمان المحصل هو المحدود بالماضي، والحاضر، والمستقبل.
والأداة لفظ يدل على معنى مفرد
لا يمكن أن يفهم بنفسه وحده، دون أن يقرن باسم، أو كلمة، مثل: من ، وعلى، وما أشبه ذلك.
فهذه الأجناس الثلاثة تشترك في أن كل واحد منها دال على معنى مفرد.
وقيل في الاسم إنه لفظ لينتظم المركب والمفرد.
فالمركب مثل: قيس عيلان. وعبد شمس.
والمفرد مثل: زيد، وعمرو.
وكلا هذين يدل على معنى مفرد.
واشترط في الاسم والكلمة أن المعنى المدلول عليه بهما شأنه أن يفهم وحده، لأنهما به يباينان الأداة، ويشتركان فيه.
وذلك بعينه اشترط إيجابه في حد الكلمة.
واشترط في حد الكلمة أن تكون دالة على الزمان، لا بالعرض، لأن كثيرا من الناس يظن أن كل اسم يدل أيضا على زمان، إذ كان كل شيء عندهم في زمان، مثل: الإنسان، الحيوان، لتخرج عنها الأشياء التي هي في زمان بالعرض، وهي التي إذا فهمت معانيها لم ينجر معها في الذهن الزمان ضرورة، مثل: الإنسان، والحيوان. وهذه وإن كان كل واحد منها في زمان، فأسماؤها ليست تدل على أزمنتها بالذات، بل إن كان ولا بد فالبالعرض، والكلمة فليست بالعرض تدل على الزمان، بل بالذات، وباضطرار. فإن الزمان لا يفارق الكلمة أصلا.
واشترط فيها أن تكون دلالتها على الزمان ببنيتها لتخرج عنها الألفاظ الدالة على أصناف الحركة، مثل: المشى، والعدو. فإن معاني هذه - إذا فهمت - انجر الزمان معها في الذهن ضرورة، وليس الزمان مقترنا بها إلا بالعرض، إذ كانت لا يمكن أن تفارق الزمان. وهذه وإن كان الزمان غير مفارق لها، فليست ألفاظها هي التي تفهم الزمان ببنيتها واشكالها، ولكن يلزم الزمان عند وجودها على أنه من خارج. كما أن القيام والقعود، وإن كانا لا يوجدان إلا في الإنسان والحيوان، فليست هذه الألفاظ بأشكالها دالة على الإنسان والحيوان، بل إن كان ذلك، فالبعرض. ولو كانت تدل بذاتها على الزمان المقترن بها، لكانت كل لفظة دلت على شيء، وكان يقترن إلى المعنى المدلول نعليه بتلك اللفظة أشياء أخر غيره، لدلت اللفظة - مع دلالتها على ذلك المعنى - على تلك الأشياء الأخر المقترنة إليه، ولكان يلزم في كثير من الألفاظ أن تدل على أشياء بلا نهاية.
واشترط فيه أنه دال على زمان محصل، لتخرج عنها الألفاظ الدالة من الأسماء على أزمنة فيها غير محصلة، مثل: السرعة والإبطاء، فإنهما يدلان على زمان - إذ كانت ماهيات هذه بالزمان - لكنه زمان غير محصل بالماضي، والمستقبل، والحاضر ثم اشترط فيه قولنا: (الزمان الذي فيه ذلك المعنى) لتخرج عنها الألفاظ الدالة على الأزمنة المحصلة أنفسها، مثل: اليوم، وأمس، وغد. فإن كل واحد منها يدل على زمان بعينه محصل، لا على معنى في ذلك الزمان، ولا على زمان ذلك الزمان.
والكلمة أيضا مع دلالاتها على زمان المعنى، تدل على موضوعه من غير تصريح، وتشارك في ذلك الأسماء المشتقة، مثل: الضارب، والشجاع، والفصيح. وتدل الكلمة أيضا بذاتها على وجود المعنى لشيء، فلذلك تكتفي بأنفسها في ارتباطها بالموضوع في القضية، وليس ذلك لأجل ما في بنيتها من الدلالة على الموضوع من غير تصريح. ولو كان لأجل ذلك، لكانت الأسماء المشتقة مكتفية بأنفسها في ارتباطها بالموضوع في القضايا، ولما احتاجت إلى كلمة وجوديةن: إما مظهرة في اللفظ، أو مضمرة.
فمن ذلك يجب أن تكون الكلمة، مع مشاركتها للأسماء المشتقة في الدلالة على الموضوع، لما استغنت في القضية عما احتاجت إليه الأسماء المشتقة من الروابط، أنها بنفس ببنيتها تدل أيضا على ما تدل عليه الكلم الوجودية المقرونة بالأسماء المحمولة.
صفحة ١
والاسم قد يكون محصلا، وقد يكون غير محصل. وإنما يصير غير محصل إذا قرن به حرف السلب وهو حرف (لا) فصار مجموعها في شكل لفظة واحدة. وذلك لا يكاد يوجد في لسان العرب إلا شاذا مولدا، كقولنا: (إنسان لا أحد)، و(درهم لا شيء).
وهذا الصنف من الأسماء كثير في سائر الألسنة، مثل: اليونانية، والسريانية، والفارسية، وغيرها، مثل: (لا إنسان)، و(لا عادل)، و(لا عالم)، و(لا بصير).
وليس ينبغي أن يظن به أنه قول لأجل أنه من لفظتين، فإن الأسماء غير المحصلة ليست تعد في الأقاويل عند الأمم الذين يستعملونها، بل أشكالها عندهم أشكال الألفاظ المفردة، وتجري مجراها، وتتصرف تصرفها.
ولا ينبغي أيضا أن يظن أنها سلب، لأجل اقتران حرف السلب بها، لأن دلالتها في الألسنة التي فيها هذه الأسماء دلالات الإيجاب، من قبل أنها تدل عندهم على أصناف العدم، مثل قولهم: (لا بصير) يدل عنهم على الأعمى، و(لا عالم) على الجاهل، و(لا عادل) على الجائر، وكذلك غيرها من الأسماء غير المحصلة.
والاسم قد يكون مائلا، وقد يكون مستقيما. وإنما يصير مائلا إذا جعل اسما لما هو بذاته مضاف إليه من الأمرين المتضايفين، كان دالا عليه من حيث هو مضاف، أو من حيث هو في مقولة أخرى.
وإنما اشترط فيه أن يكون إسما للمضاف بذاته، لأن من المضاف إليه ما يصير مضافا إليه بأن ترد عليه خالفته إضافة شيء ما إليه، كقولنا: (زيد له مال). فإن خالفة (له) ردت على زيد إضافة المال إليه فصيرته مضافا إليه، لكن لا بذاته. فلذلك ليس اسمه باسم مائل.
وقد جرت العادة في كل لسان أن تكون للاسم المضاف إليه علامة يعرف بها في ذلك اللسان أنه مضاف إليه، مثل أن يكون معربا بالإعراب الذي يخص في ذلك اللسان اسم المضاف إليه.
والألفاظ التي سبيلها أن تقترن بالأسماء المائلة: أما من الأدوات، فأدوات النسبة كلها، كقولنا: لزيد، وبزيد، ومن زيد، وفي زيد، وغيرها من أدوات النسبة. وأما من سائر الالفاظ، فألفاظ الإضافة، أسماء كانت، أو كلما، كقولنا: (مال زيد)، و(غلام زيد)، و(عبد زيد)، و(أبو زيد)، و(ضارب زيد)، و(مضروب زيد)، و(ضرب زيدا)، و(ضارب زيدا)، و(يضرب زيدا).
وربما أدخل معها بعض الأدوات للنسب أيضا، كقولنا: (مال لزيد)، و(عبد لزيد)، و(ضارب لزيد).
وينبغي أن تعلم أن ألفاظ الإضافات ليست هي المضافات
وألفاظ الإضافات هي مثل هذه التي ذكرنا، كقولنا: (ضارب زيد)، و(مضروب زيد)، و(مال زيد)، و(عبد زيد). وأما المضافات فهي التي لأجل هذه صارت مضافة، كقولنا: (عمرو ضارب زيد). والمضافات إذا قرنت بها، حصلت منها قضايا، كقولنا: (عمرو ضرب زيدا)، و(عمرو مولى زيد)، و(عمرو مع زيد).
ويصير الاسم مستقيما بأن يجرد من الاضافة، فلا يكون اسما للمضاف ولا للمضاف إليه، أو يكون اسم المضاف من الأمرين المتضايفين، سواء كان اسما له من حيث هو مضاف، أو من حيث هو في مقولة أخرى، أو أن يكون اسما للمضاف اليه لا بذاته، بل بأن تكون خالفة ما له أو لفظة أخرى ترد إليه إضافة شيء ما يعرف بها في ذلك اللسان أنه مستقيم، كقولنا: (زيد له مال) و(زيد أبوه عمرو)، و(زيد ضرب)، و(زيد امتحن بعمرو).
وقد جرت العادة في كل لسان أن يكون للاسم المستقيم علامة في اللفظ يعرف بها في ذلك اللسان أنه مستقيم، بأن يجعل له إعراب واحد يخصه: إما لجميعه، أو لأكثره. فالمستقيم المجرد من الإضافة، كقولنا: (الإنسان حيوان)، والذي هو إسم للمضاف، كقولنا: (زيد أبو عمرو). فزيد مستقيم، وعمرو ماثل. والمضاف إليه الذي ترد الخالفة عليه الإضافة، كقولنا: (زيد له مال)، والذي ترد إليه الإضافة بكلمة، كقولنا: (زيد ضرب).
وخاصة المائل أنه إذا أضيف إلى شيء من الكلم الوجودية لم تحصل منها قضية، ولم تصدق، ولم تكذب، كقولنا: (لزيد كان، أو يكون).
والمستقيم إذا قرنت به كلمة ما وجودية حصلت منها قضية، وصارت إما صادقة، وإما كاذبة، كقولنا: (زيد كان)، و(زيد وجد).
ووافق في اللسان العربى أن كان إعراب أكثر الأسماء المستقيمة الرفع، وإعراب أكثر الأسماء المائلة النصب، أو الخفض.
والمائلة تسمى الأسماء المصرفة.
صفحة ٢
والألفاظ التي تسمى الخوالف والكنايات فهي مثل: أنت، وأنا، وذلك، والهاء، والكاف، والتاء، وأشباه ذلك في العربية، وما قام مقامها في سائر الألسنة، تجري مجرى الأسماء في القضايا، كقولنا: (أنت تفعل)، و(أنا أفعل)، و(فعلت)، و(فعلت).
والكلمة أيضا قد تكون مستقيمة ومائلة. فالمائلة هي الدالة على الزمان الماضي، أو المستقبل. والمستقيمة هي الدالة على الزمان الحاضر.
والكلمة قد تكون محصلة، وقد تكون غير محصلة. وذلك لا يبين في لسان العرب. وذلك أن حرف (لا) إذ قرن بالكلمة دلت في لسان العرب على السلب. وأما في سائر الألسنة فإن الكلمة الغير المحصلة ليست سلبا، كما ليست الأسماء الغير المحصلة سوالب.
والكلم منها وجودية، ومنها غير وجودية. فالوجودية هي الكلمة التي تقرن بالاسم المحمول فتدل على ارتباطه بالموضوع ووجوده له، وعلى الزمان المحصل الذي فيه يوجد الاسمس المحمول للموضوع، كقولنا: (زيد كان عادلا)، (زيد يكون عادلا).
فمتى استعملت هذه الكلم روابط لم تكن محمولات بأنفسها، وإنما تستعمل محمولة ليصبح بها حمل غيرها. وربما استعملت محمولات بأنفسها فتحصل منها قضايا، كقولنا: (زيد وجد)، و(زيد كان)، إذا عنى به: حدث وجوده.
والاسم يكون موضوعا من غير أن يحتاج في ذلك إلى شيء يقرن به، ولا يكون محمولا دون أن تقرن به الكلمة الوجودية: إما في اللفظ، وإما في الضمير.
والكلمة تكون محمولة من غير أن تحتاج إلى أن تقرن بشيء، ولا تكون موضوعة دون أن يقرن بها بعض الصلات، كقولنا: الذي، وما جرى مجراه.
والأداة لا تكون خبرا، ولا مخبرا عنها وحدها، وإنما تكون جزءا لمحمول، أو جزءا لموضوع.
والألفاظ المركبة إنما تركب عن الأجناس الثلاثة التي أحصيناها.
والقول: لفظ مركب دال على جملة معنى، وجزؤه دال بذاته، لا بالعرض، على جزء ذلك المعنى. وإنما قيل فيه جزء دال على جزء المعنى ليفصل بينه وبين اللفظ المركب الذي يدل على معنى مفرد، كقولنا: (عبد الملك) الذي هو لقب لشخص. فإن جزءه لا يدل على جزء ذلك الشخص.
وقيل فيه إن جزءه لا يدل على جزء ذلك الشخص.
وقيل فيه إن جزءه دال بذاته لا بالعرض، ليفصل بينه وبين أن يكون لقب إنسان ما (عبد الملك)، ثم يكون ذلك الانسان عبدا لملك من الملوك، فيقال عليه ذلك الاسم من جهتين: احداهما أنه لقب له، والثانية أنه صفة ما فيه.
فمن حيث هو صفة يدل جزؤه على جزء المعنى، ومن حيث هو لقب فليس بذاته يدل جزؤه على جزء المعنى، بل بالعرض. فهو قول بذاته من جهة ما هو صفة، واما من جهة ما هو لقب فهو قول بالعرض. إذ قد اتفق فيه أن كان أيضا قولا. والقول منه تام، ومنه غير تام.
والقول التام أجناسه عند كثير من القدماء خمسة: جازم، وأمر، وتضرع، وطلبة، ونداء.
والقول الجازم هو الذي يصدق أو يكذب، وهو مركب من محمول وموضوع، والأربعة الباقية لا تصدق، ولا تكذب إلا بالعرض.
والأمر والتضرع والطلبة أشكالها في العربية واحدة، وإنما تختلف بحسب القائل والمقول له، فإنه إذا كان من رئيس إلى مرؤس كان أمرا، وإن كان من مرؤس إلى رئيس كان تضرعا. وإذا كان من المساوى إلى المساوى كان طلبة.
والنداء مشترك ويستعمل في الثلاثة الباقية. وكل واحد من تلك الثلاثة مركب من إسم وكلمة مستقبلة. والكلمة المستقبلة في النداء فإن العادة قد جرت فيها أن تكون مضمرة.
وتلك الكلمة هي مثل: اصغ، واسمع، وما قام مقامهما، ولم يصرح بها لبيانها، وأنها تكاد أن تكون واحدة لا تتبدل، فكأنه إنما صرح من جزىء النداء بالذي يتبدل منهما. وكل واحد من الباقية يقرن بالكلمة التي فيها حرف (لا) فيصير كل واحد منهما ضربين متقابلين. أم االجازم فيصير إيجابا وسلبا، والأمر يصير أمرا ونهيا. وكذلك التضرع والطلبة. إلا أن هذين ليس لكل واحد من متقابليه اسم يخصه في اللسان العربي . فأما النداء فليست الكلمة المضمرة فيه إلا مقولة بإيجاب من قبل أنه ليس ينادي أحد لئلا يسمع أو لا يصغى. وأما الأمر والنهي فليس لهما في اللسان العربي اسم يجمعهما، فاضطررنا إلى أن نسميهما جميعا باسم أحدهما وهو الأمر.
والقول غير التام
هو كل قول أمكن أن يكون جزءا لأحد هذه الخمسة.
صفحة ٣
وقوم يزعمون أن التي ليست منها جازمة قد تكون كاذبة، أو صادقة. وزعموا أنها إنما تكون صادقة متى قصدنا بالأمر أو بغيره من الأقاويل الباقية من الأربعة أن يفعل الذي يخاطب ما هو ممكن في نفسه، أو ممكن له أن يفعل، وتكون كاذبة متى قصد أن يفعل ما ليس بممكن.
وليس الأمر على ما قالوا. وذلك أن هذه متى بقيت أشكالها على حالتها لم تصدق، ولم تكذب. ولكن هذه قد يمكن أن تتبدل أشكالها إلى أشكال الجازمة، فيقوم المفهوم عنها بعد التبديل مقام ما يفهم من أشكالها الأول. فحينئذ تصير صادقة، أو كاذبة. فإن قولنا: (يا زيد، ينبغي أن تقبل) هو جازم يقوم مقام قولنا: (يا زيد، أقبل) وهو أمر.
فمن قبل ذلك ظن بها أنها تصدق، أو تكذب، إذ كانت قوتها بوجه ما قوة الجازمة. فهي إذا لا تصدق، ولا تكذب، إلا بالعرض، أو بالقوة، لا ببنيتها وشكلها.
وأما القول الجازم فإنه صادق أو كاذب ببنيته وبذاته، لا بالعرض.
والأسماء: منها مستعارة، ومنها منقولة، ومنها مشتركة، ومنها ما يقال بتواطؤ، ومنها ما يقال على الشيء بعموم وخصوص، ومنها ما هي متباينة، ومنها ما هي مترادفة، ومنها ما هي مشتقة.
فالاسم الذي يقال على الشيء باستعارة، هو أن يكون اسما ما دالا على ذات شيء راتبا عليه دائما من أول ما وضع، فيلقب به في الحين بع الحين شيء آخر لمواصلته للأول بنحو ما من أنحاء المواصلة، أى نحو كان، من غير أن يجعل راتبا للثاني، دالا على ذاته.
والاسم المنقول: هو أن يؤخذ اسم مشهور كان منذ أول ما وضع دالا على ذات شيء ما، فيجعل بعد ذلك اسما دالا على ذات شيء آخر، ويبقى مشتركا بين الثاني والأول في غابر الزمان. وذلك إنما يكون في الأشياء التي تستنبط في الصنائع التي تنشأ، فلا يتفق في شيء منها أن يكون قبل ذلك مشهورا عند الجمهور، فلا يكون له عندهم اسم لأجل ذلك، فينقل المستنبط لها إليها أسماء الأشياء المشهورة الشبيهة بها، ويتحرك في ذلك اسم ما عنده أقرب شبها به.
والاسم الذي يقال باشتراك: هو الذي يقال من أول ما وضع على أمور كثيرة، من غير أن يدل على معنى واحد يعمها، أو اسم واحد يقال من أول ما وضع على أمور كثيرة، وحد كل واحد منها - المساوية دلالاته لدلالة ذلك الاسم عليه - غير حد الآخر.
والاسم الذي يقال بتواطؤ: هو الاسم الواحد الذي يقال من أول ما وضع على أشياء كثيرة، ويدل على معنى واحد يعمها، أو الذي يقال على أمور كثيرة، وحد كل منها - المساوية دلالاته لدلالة ذلك الاسم عليه - هو بعينه حد الآخر.
والفرق بين المنقول والمشترك: أن المشترك إنما وقع الاشتراك فيه منذ أول ما وضع من غير أن يكون أحدهما أسبق في الزمان بذلك الاسم. والمنقول هو الذي سبق به أحدهما في الزمان، ثم لقب به الثاني، واشترك فيه بينهما بعد ذلك.
والاسم المشترك: منه ما يقال على أشياء كثيرة بأن اتفق ذلك فيها اتفاقا، مثل اسم العين الذي يقال على العضو الذي به يبصر، وعلى ينبوع الماء. ومنه ما يقال على شيئين لأجل مشابهة أحدهما الآخر، لا في المعنى الذي دل عليه ذلك الاسم من أحدهما، بل في عرض ما، مثل: الإنسان وممة الفرس يقال عليها جميعا حيوان.
واسم الحيوان يدل من أحدهما على جسم متغذ حساس، ومن الثاني على أن شكله شكل متغذ حساس، فنأخذها على ذلك فقط. ومنه ما يقال على أمور لها نسب متشابهة إلى أشياء مختلفة، مثل: أساس الحائط، وقلب الحيوان، وطرف الطريق. فإن كل واحد منها يسمى مبدأ، لأن نسبة أساس الحائط إلى الحائط في التكون كنسبة قلب الحيوان إلى الحيوان، إذ كان كل واحد منها أول شيء يتكون من الجسم الذي هو فيه. ومنه ما يقال على أمور كثيرة تنسب إلى غاية واحدة، كقولنا: رجل حربي، وفرس حربي، وسلاح حربي، وكلام حربي، ودفتر حربي.
فالحرب هي الغاية من هذه: فإن الرجل هو المستعد للحرب، والفرس والسلاح هما اللذان يستعملان في الحرب، والكلام يحث به على الحرب، والدفتر يتعلم منه كيف الحرب، أو تنسب إلى فاعل واحد، كقولنا: دفتر طبي، وعلاج طبى، وآلة طبية. فإن الطب هو الفاعل لهذه، والمستعمل لها؛ أو تنسب إلى شيء واحد، لا على أن ذلك الشيء غاية لها جميعا ولا فاعل لها جميعا، لكن تنسب إلى شيء واحد - ذلك الشيء الواحد - نسبا مختلفة، كقولنا: عنب خمرى، ولون خمرى، فالخمر هو شيء واحد ينسب هذان إليه نسبتين مختلفتين.
صفحة ٤
فالعنب ينسب إلى الخمر على أن الخمر غايته، واللون على أنه شبيه بلون الخمر.
والإسم الذي يقال بعموم وخصوص هو أن يكون اسما لجنس تحته أنواع: ويكون ذلك الاسم بعينه لقبا لبعض أنواع ذلك الجنس، بما هو ذلك النوع.
فذلك الاسم يقال على ذلك النوع من جهتين مختلفتين: إحداهما على العموم من حيث يشارك به سائر الأنواع القسيمة له، إذ كان اسم الجنس يقال على جميع أنواعه، والثانية بخصوص، وذلك إذا استعمل لقبا له، دالا على ذاته من حيث هو ذلك النوع.
والأسماء المتباينة هي الأسماء الكثيرة التي يدل كل واحد منها على غير ما يدل عليه الآخر، أو التي يكون الحد المساوى لكل واحد منها غير الحد المساوى للآخر.
والأسماء المترادفة هي الأسماء الكثيرة التي تقال على شيء واحد، وحده بحسب كل واحد منها واحد بعينه، أو الأسماء التي يكون الحد المساوى لكل واحد منها هو بعينه حد الآخر.
والاسم المشتق هو أن يؤخذ هو أن يؤخذ الاسم الدال على شيء ما مجردا عن كل ما يمكن أن يقترن به من خارج فيغير تغييرا يدل التغيير على اقتران ذلك الشيء بموضوع لم يصرح به ما هو. فاسمه الدال على ذاته مجردا من موضوع هو المثال الأول، واسمه الغير الدال بالتغيير على موضوع لم يصرح به هو اسمه المشتق من المثال الأول.
وتغييره يكون إما بأن يغير شكله، وهو أن يبدل ترتيب بعض حروفه، أو يبدل بعض حركاته، وإما بأن يزاد فيه حروف، أو ينقص منه حروف، أو أن يغير بجميع هذه الأنحاء، وذلك مثل اسم القيام فإنه دال على ذات القيام مجردا دون الشيء الذي فيه القيام، فغير بأن بدل ترتيب بعض حروفه، وغير حركات بعضها، فتبدل شكله فصار منه قولنا: القائم، فدل على أن القيام مقترن بموضوع لم يصرح به. وذلك أن هذه التغايير تدل في كثير من الأشياء على ما يدل عليه قولنا: (ذو). فإنه لا فرق بين أن نقول: (قائم) وبين أن نقول: (ذو قيام).
فالأسماء المستعارة لا تستعمل في شيء من العلوم، ولا في الجدل، بل في الخطابة، والشعر.
والأسماء المنقولة تستعمل في العلوم وفي سائر الصنائع. وإنما تكون أسماء للأمور التي يختص بمعرفتها أهل الصنائع. ومتى استعمل في العلوم أمور مشهورة لها أسماء مشهورة، فإنه ينبغي لأهل العلوم وسائر أهل الصنائع أن يتركوا أسماءها في صنائعهم على ما هي عليه عند الجمهور. والأسماء المنقولة كثيرا ما تستعمل في الصنائع التي إليها نقلت مشتركة، مثل اسم الجوهر، فإنه منقول إلى العلوم النظرية، ويستعمل فيها باشتراك، وكذلك الطبيعة، وكثير غيرها من الأسماء.
والتي تقال باشتراك فقد يضطر إلى استعمالها في الصنائع كلها. ومتى استعمل منها شيء، فينبغي أن يخص المستعلم له جميع المعانى التي تحته ثم يعرف أنه إنما أراد من بينها معنى كذا وكذا، دون سائرها. فإنه ان لم يفعل ذلك، أمكن أن يفهم السامع غير الذي أراده القائل، فيغلط.
وكذلك ينبغي أن يفعل في الأسماء المنقولة لئلا يغلط الوارد على الصناعة، المبتدىء لتعملها، فيظن أنه إنما أريد بها في تلك الصناعة ما قد تعود أن يفهمه عنها قبل شروعه في الصناعة.
والأجناس العالية العشرة لها أسماء متباينة، وهي أسماؤها التي يخص واحد واحد منها واحدا واحدا من العشرة، مثل الجوهر، والكمية، والكيفية، وغير ذلك. ولها. ولها أسماء مترادفة يعم كل واحد منها جميعها، وهي: الموجود، والشيء، والأمر، والواحد. فإن كل واحد منها يسمى جميع هذه الأسماء. وكل واحد من هذه الأسماء يقال على جميعها باشتراك. وهو من اصناف الاسم المشترك فيما يقال بترتيب وتناسب.
فإن الموجود يقال على الجوهر أولا، ثم على كل واحد من سائر المقولات، إذ كان الجوهر، كما تقد، مستغنيا بنفسه في الوجود عن الأعراض، إذ كانت الأعراض تتبدل عليه، ولا ينقص وجوده زوال ما يزول عنه منها.
ووجود كل واحد من الأعراض في الجوهر، والجوهر إذ بطل، بطل العرض الذي قوامه به.
ثم كل ما كان من باقي المقولات وجوده في الجوهر لا يتوسط عرض آخر من غير أن يكون تابعا في وجوده لمقولة أخرى سبق وجودها وجوده في الجوهر، كان أولى باسم الموجود.
ثم لك ما كان منها وجوده في الجوهر بتوسط أشياء أقل، كان أولى باسم الموجود من الذي وجوده في الجوهر بتوسط أشياء أكثر.
صفحة ٥
وكذلك كل واحد من الأسماء التي تعمها وأسماء الأجناس المتباينة إذا قيل كل واحد منها على أنواع ذلك الجنس وعلى أشخاص أنواعه على أنه اسم لذلك الجنس فإنه يقال عليها بتواطؤ.
وكذلك اسم كل نوع إذا قيل على أشخاصه على أنه اسم لذلك النوع، فإنه يقال عليها بتواطؤ.
وأجناس الأعراض وأنواعها إذا أخذت من حيث هي في الجوهر، أو حملت على الجوهر، أخذت بأسمائها المشتقة. ومتى أخذ كل واحد منها متوهما على انفراده، ومحمولا على ما تحته من نوع، أو شخص، لم يؤخذ اسمه مشتقا، وذلك مثل قولنا: اللون ، فإنه متى أخذ متوهما وحده دون موضوعه الذي هو فيه، ودون الجوهر، أو على أنه جنس محمول على نوعه، قيل إنه لون. ومتى أخذ على أنه في الجوهر، قيل فيه إنه ملون. فيكون اللون اسمه من حيث هو على موضوع، والملون اسمه من حيث هو في موضوع.
وإذا كانت الأعراض وجودها وقوامها أنها في موضوعات، وكانت أسماؤها المشتقة تدل عليها من حيث قوامها في موضوع، وكان هذا معنى العرض فيها، فبين أن أسماءهما المشتقة أدل عليها، من حيث هي أعراض، من أسمائها التي هي غير مشتقة.
وأما أجناس الجوهر وأنواعه فإن أكثرها يدل عليها بأسماء هي مثالات أول، مثل: الإنسان، والفرس، والشجرة، والنبات، والجسم، والجوهر.
وفي بعضها يتفق في بعض الألسنة أن يكون شكله شكل اسم مشتق من غير أن يكون معناه معنى المشتق، إذ ينقصه من شرائط المشتق أن يكون التغيير الذي فيه دالا على موضوع به قوامه، ولم يصرح به.
وليس شيء من أنواع الجوهر قوامه في موضوع.
والفصول كلها - من حيث هي فصول - تدل عليها الأسماء المشتقة، كانت فصول الجوهر، أو فصول المقولات الآخر.
والاسم المحمول في كل قضية حملية ينبغي أن يكون مقولا بتواطؤ، وكذلك الاسم الموضوع. وكذلك الكلمة، وكل جزء من أجزاء القول.
وإذا كان الموضوع في القضية اسما مشتركا لم تكن القضية واحدة، بل تكون عدتها على عدة المعاني التي يقال عليها ذلك الاسم، فتكون تلك المعاني موضوعات كثيرة يحمل محمول واحد.
وإذا كان المحمول اسما مشتركا، فإن عدد القضايا على عدد المعاني التي يقال عليها الاسم المحمول.
وكذلك إن كانا جميعا مشتركى الاسم.
والقضية التي محمولها أسماء مترادفة فإن تلك الأسماء كلها محمول واحد. وكذلك القضية التي موضوعها أسماء مترادفة، فإنه موضوع واحد. وكذلك إن كان كل واحد من جزئيها أسماء مترادفة، فإنها قضية واحدة، محمولها واحد، وموضوعها واحد.
والقضية الحملية إنما تكون واحدة إذا كان محمولها واحدا بالمعنى، لا بالاسم، وموضوعها واحدا أيضا في المعنى، لا في الاسم. وتكون كثيرة، بأن تكون محمولاتها معاني كثيرة، أو موضوعاتها معاني كثيرة.
والمعنى الواحد: إما أن يكون شخصا، وإما أن يكون كليا. والمعنى الكلى يكون واحدا إما بأن يكون غير منقسم في القول بأن تدل عليه لفظة مفردة، وإما بأن يكون مركبان من معان قيد بعضها ببعض، وتدل عليها ألفاظ مركبة تركيب تقييد . فإن التقييد يجعل جملتها معنى واحدا، كقولنا: (زيد كاتب مجيد)، (زيد إنسان أبيض)، (الثلاثة عدد فرد)، (العدد الزوج ينقسم بقسمين متساويين).
والمعاني التي يقيد بعضها ببعض ضربان: ضرب يكون بعضه لبعض بالذات، بأن يكون في طباع أحدهما أو كليهما أن يقيد أحدهما بالآخر، كقولنا: (العدد الزوج)، و(الحي الناطق)، و(الخط المستقيم). وذلك أن الزوج هو للعدد من جهة ما هو عدد. وكذلك الناطق للحي، والمستقيم للخط.
وضرب يكون بعضه لبعض بالعرض، كقولنا
(الكاتب الأبيض)، و(الطبيب البناء) فإن البياض ليس للكاتب من جهة كنايته، ولا البناية للطبيب من جهة طبه، بل اتفق ذلك اتفاقا.
وأحرى أن يكون واحدا من المقيدات ما كان بعضه لبعض بالذات؛ والذي بعضه لبعض بالعرض فهو دون الأول في أن يكون واحدا.
وأي هذين الضربين كان محمول القضية كان محمولا واحدا، وكذلك إن كان موضوعا لها.
والقضية الشرطية تكون واحدة إذا كانت من حميلتين، كل واحد منها حملية واحدة، وربطتا بشريطة واحدة.
صفحة ٦
وإذا بدل ترتيب أجزاء القضية في القول، فقدم الموضوع وأخر المحمول، أو قدم المحمول وأخر الموضوع، بعد أن يبقى الموضوع موضوعا، والمحمول محمولا، لم تتغير القضية فتصير غير الأولى، ولا أيضا يكون ذلك عكسها، مثل قولنا: (زيد قام)، و(قام زيد).
بل العكس أو القلب أن يصير الموضوع محمولا والمحمول موضوعا. فإن قولنا: (زيد قائم)، و(قائم زيد) ليس بقلب، ولا عكس. بل القلب والعكس أن يقال: (زيد قائم)، و(القائم زيد).
والأسماء غير المحصلة ليست تدل على السلب، بل إنما تدل على أصناف العدم، كقولنا: (زيد لا عالم)، فإنه يدل ى ما يدل عليه قولنا: (زيد جاهل). وهذا بين في الألسنة التي تستعمل فيها الأسماء غير المحصلة. فأي عدم كان له اسم محصل فقرن باسم ملكته حرف (لا) فجعل منه اسما غير محصل، صارت قوته قوة اسم ذلك العدم في الدلالة، كقولنا: (لا بصير)، فإنه كقولنا: (أعمى). وأي عدم لم يكن له اسم جعل اسمه الاسم غير المحصل المعمول من اسم ملكته .
والقضية التي محمولها اسم غير محصل قضية موجبة، وليست بسالبة.
والفرق بينها وبين السلب: أن السلب هو أعم صدقا من غير المحصل.
لأن السلب يشتمل على رفع الشيء عما شأنه أن يوجد فيه، وعما ليس شأنه أن يوجد فيه. والاسم غير المحصل هو رفع الشيء عما شأنه أن يوجد فيه. فإن قولنا: (ليس بعالم) هو سلب، ويصدق على الحائط، وعلى الإنسان الجاهل، وعلى الطفل. وقولنا: (لا عالم) مثل قولنا: (جاهل)، فإنه ليس يقال في الحائط إنه جاهل، فليس يقال فيه إنه لا عالم.
وإذا كان أيضا لا يصدق (الجاهل) على الإنسان في كل أوقاته)، وذلك حين ما يكون طفلا، لم يصدق عليه أيضا في ذلك الوقت أنه (لا عالم).
وقد جرت العادة في الألسنة التي تستعمل فيها - في القضايا التي محمولاتها أسماء - الكلم الوجودية مصرحا بها أن يوضع حرف السلب في الشخصية والمهملة مع الكلم الوجودية، كقولنا: (زيد ليس يوجد عالما)، و(الإنسان ليس يوجد عالما).
وإذا كانت السالبة ذات سور، وضع حرف السلب مع السور، لا مع الكلمة الوجودية، كقولنا: (ليس كل إنسان يوجد أبيض).
وعلامة السوالب
في تلك الألسنة أن يكون حرف السلب فيما ليس فيه سور أصلا ولا جهة مع الكلم الوجودية.
وأما في ذوات الأسوار فمع السور.
فإذا لم يكن حرف السلب مع الوجودية، فيما ليس فيها سور ولا جهة، ولا مع السور أو الجهة فيما له سور أو جهة، كانت القضية حينئذ عندهم موجبة، كان محمولها اسما محصلا، أو اسما غير محصل.
وكل قضية كان محمولها اسما محصلا دالا على ملكة ما فإنها القضية البسيطة، وإن كان محمولها اسما محصلا دالا على عدم سميت قضية عدمية، وإن كان محمولها اسما غير محصل سميت قضية معدولة، سالبة كانت كانت هذه كلها أو موجبة، فقولنا: (زيد يوجد عالما) موجبة بسيطة، وقولنا: (زيد يوجد جاهلا) موجبة عدمية، يقابلها قولنا: (زيد ليس يوجد جاهلا) وهي سالبة عدمية. وقولنا: (زيد يوجد لا عالما) موجبة معدولة، يقابلها قولنا: (زيد ليس يوجد لا عالما) وهي سالبة معدولة.
ويبين تناسب البسيطة والمعدولة إذا وضعت حذاء العين في شكل ذي أربعة أضلاع. ولتكن أولا في الشخصيات.
زيد يوجد عالما ... زيد ليس يوجد عالما
زيد ليس يوجد جاهلا ... زيد يوجد جاهلا
زيد ليس يوجد عالما ... زيد يوجد لا عالما
ولهذه القضايا وضعان: وضع على الأضلاع، ووضع على الأقطار. وينبغي أن يقاييس بينها في الوضعين جميعا، ويعلم تناسبها في الصدق والكذب. أما تناسب ما هي منها موضوعة على الضلع في عرض الصفح فإنها كلها متقابلات ما.
وقد عرفت أحوالها في الكتاب الذي قبل هذا. وأما تناسب ما هي على الضلع في طول الصفح فإن الموجبة البسيطة إنما يصدق محمولها على موضوعها في وقت ما يوجد فيه المحمول فقط. والسالبة العدمية التي تحتها تصدق على ذلك الموضوع حين ما يوجد فيه الملكة، وحين ما لا يمكن أن تكون فيه تلك الملكة، فإن زيدا يصدق عليه أنه ليس بجاهل في حال علمه وهو كهل وفي حال طفولته.
صفحة ٧
فالسالبة العدمية التي تحت الموجبة البسيطة أكثر صدقا من الموجبة البسيطة. وحال السالبة المعدولة من الموجبة البسيطة في الصدق كحال السالبة العدمية منها.
فإن السالبة العدمية إذا كانت أكثر صدقا من الموجبة البسيطة، كانت السالبة المعدولة أيضا أكثر صدقا من الموجبة البسيطة. والسالبة البسيطة كقولنا: (زيد ليس يوجد عالما) تصدق على زيد حين ما يكون طفلا، وحين ما يكون كهلا غير عالم. والموجبة العدمية إنما تصدق عليه من حاليه عند الكهولة إذا كان غير عالم. فالموجبة العدمية التي تحت السالبة البسيطة أخص صدقا من السالبة البسيطة. وحال الموجبة المعدولة عند السالبة البسيطة في الصدق كحال الموجبة العدمية عند السالبة البسيطة. وأما حالها في الكذب فإنا إذا أخذنا المحمول وهو العالم كاذبا على زيد في الحالين: في الطفولة والكهولة، فإن الموجبة البسيطة تكذب على زيد في حال كهولته، إذا كان غير عالم، وفي حال طفولته. والسالبة العدمية التي تحته إنما تكذب على زيد في حال كهولته فقط، فتصير أخص كذبا من الموجبة البسيطة. وحال السالبة المعدولة عند الموجبة البسيطة في الكذب أيضا هذه الحال. وكذلك متى أخذنا السالبة البسيطة كاذبة، وجدناها تكذب على زيد عند كهولته فقط في الوقت الذي يصدق عليه فيه أنه عالم. والموجبة العدمية التي تحتها تكذب عليه في الطفولة والكهولة جميعا، فتكون الموجبة العدمية أعم كذبا من السالبة البسيطة. وحال الموجبة المعدولة من السالبة البسيطة في الكذب هذه الحال. فإذا حال المعدولتين عند البسيطتين في الصدق والكذب كحال العدميتين عند البسيطتين.
وأما التي منها على القطر فإن الموجبة البسيطة والموجبة العدمية قد تكذبان جميعا على الطفل. ولكن إذا كان أحدهما صادقا، كان الآخر كاذبا ضرورة.
والسالبة البسيطة والسالبة العدمية
تصدقان جميعا على الطفل، ولكن أي حين كذب أحدهما، صدق الآخر. لأن السالبة البسيطة هاهنا - إذا كذبت - صدق نقيضها، فتكذب لأجل ذلك الموجبة العدمية المقاطرة لها، فتصدق إذا ضرورة السالبة العدمية المقابلة لها - وبمثل هذا يتبين أن السالبة العدمية إذا كذبت صدقت السالبة البسيطة المقاطرة لها. وحال كل واحدة من المعدولتين عند البسيطة المقاطرة لها كحال العدمية التي فوقها من تلك البسيطة بعينها. وليس حال البسيطتين عند المعدولتين كحال العدميتين عند المعدولتين، لأن العدميتين مساويتان للمعدولتين. والبسيطتان: إما اعم من العدمتين، وإما أخص. وكذلك يكون تناسبها، إذ كانت القضايا الموضوعة متضادة، إذا أخذت على الأضلاع.
وإذا أخذت متقاطرة كانت الموجبتان منها حالهما حال ما تقدم. وأما السالبتان فليس يلزم إذا كذبت إحداهما أن تصدق الأخرى. لأن البسيطة منهما لما كانت إذا كذبت لم يلزم ضرورة أن تصدق مقابلتها إذا كانت متضادين في المادة الممكنة، لم يلزم لزم في الذي قبله، كقولنا:
كل إنسان يوجد عالما ... ولا إنسان واحد يوجد عالما
ولا إنسان واحد يوجد جاهلا ... كل إنسان يوجد جاهلا
ولا إنسان واحد لا عالما ... كل إنسان يوجد لا عالما
فيؤخذ الإنسان ههنا مرة على الأطفال، ومرة على الكهول، ثم يقاييس بينهما؛ فيوجد الحال فيها كالحال التي وصفنا.
وإذا كانت مهملة، كقولنا "
الإنسان يوجد عالما ... الإنسان ليس يوجد عالما
الإنسان ليس يوجد جاهلا ... الإنسان يوجد جاهلا
الإنسان ليس يوجد لا عالما ... الإنسان يوجد لا عالما
أو كانت ما تحت المضادتين، كقولنا:
إنسان ما يوجد عالما ... ليس كل إنسان يوجد عالما
ليس كل إنسان يوجد جاهلا ... إنسان ما يوجد جاهلا
ليس كل إنسان يوجد لا عالما ... إنسان ما يوجد لا عالما
فإن تناسب ما على الأضلاع منها على مثال تناسب الشخصية والمتضادة.
صفحة ٨
وأما التي على القطر فليس تناسبهما تناسب تلك. لأن هذه إذا كانت المقابلات فيها معملة وجزئية وكانت هذه يمكن أن تصدق معا لم يمتنع أن تصدق معا الموجبة البسيطة والموجبة العدمية اللتان على أحد القطرين، وكذلك السالبة البسيطة والسالبة العدمية اللتان على القطر الآخر. فتكون حال كل معدولة من البسيطة التي تقاطرها هذه الحال. وأما قولنا:
كل إنسان يوجد عالما ... ليس كل إنسان يوجد عالما
ليس كل إنسان يوجد جاهلا ... كل إنسان يوجد جاهلا
ليس كل إنسان يوجد لا عالما ... كل إنسان يوجد عالما
فإن تناسب ما على الأضلاع منها هو مثل ما تقدم.
وأما المتقاطرة منها فإن الموجية العدمية والموجبة البسيطة قد تكذبان: إما على الأطفال، وإما على الكهول، لأن قوتهما قوة المتضادتين في هذه المادة، وهي ممكنة. وأما إذا كان موضوعاهما غير موجودين، فعند ذلك تصدق معا السالبة العدمية المتقاطرتان. ولكن إذا صدقت إحدى الموجبتين المتقاطرتين، أيهما اتفق، كذبت الأخرى لا محالة. وكانت تلك حال نقيضتيهما المتقاطرتين. وإذا كذبت احدى السالبتين المتقاطرتين صدق نقيضهما لا محالة وهو احدى الموجبتين المتقاطرتين، فتكذب لأجل ذلك الموجبة المقاطرة لها، فيكون نقيضها صادقا. فلذلك إذا كذبت احدى السالبتين المتقاطرتين صدقت الأخرى لا محالة. وإذا أخذت احداهما صادقة، لم يلزم ضرورة أن تكذب الأخرى، بل يمكن ان تصدقا معا.
وقولنا:
إنسان ما يوجد عالما ... ولا إنسان واحد يوجد عالما
ولا إنسان واحد يوجد جاهلا ... إنسان ما يوجد جاهلا
ولا إنسان واحد يوجد لا عالما ... إنسان ما يوجد لا عالما
تناسب ما على الأضلاع منها هو مثل ما تقدم.
وأما المتقاطرة منها فإن الموجبتين المتقاطرتين قد تكذبان على الأطفال، وعندها يصدق نقيضاهما المتقاطران، وقد تصدق الموجبتان أيضا على الكهول، لأنهما جزئيتان، وعندها تكذب السالبتان المتقاطرتين اللتان هما نقيضتاهما. وحال كل واحدة من المعدولتين عند البسيطة المقاطرة لها كحال العدمية التي فوق تلك المعدولة عند تلك البسيطة بعينها.
فهذه معاني الأسماء غير المحصلة في الأشياء التي لها عدم. وهذه نسبة المعدولات إلى البسائط في القضايا الممكنة.
وقد تستعمل الأسماء المحصلة على معان
هي أعم من هذه التي ذكرناها، وذلك أنه قد يجعل معناه رفع الشيء عن موضوع، شأنه في وقت ما، أو شأن نوعه، أو شأن جنسه أن يوجد له ذلك الشيء. وعلى هذه الجهة يقال في المرأة والصبى إنه (لا ملتح) وفي الفرس إنه ( لا ناطق)، فيقام ذلك مقام عدم الشيء، وتجعل القضية التي محمولها اسم غير محصل دال على هذا المعنى موجية معدولة أيضا، ويفرق بينها وبين السلب بأن يجعل السلب رفع الشيء عن أي موضوع اتفق، محدودا كان أو غير محدود، موجودا كان أو غير موجود، ويجعل لفظها لفظ المعدولات التي في القضايا الممكنة، كقولنا: (الحيوان إما ناطق وإما لا ناطق). فإن: (لا ناطق) ليس بسلب، ولكنه اسم غير محصل. ويستعمل أيضا على جهة أعم من هذه وهو رفع الشيء عن موضوع يؤخذ موجودا، وغن لم يكن من شأن.
الشيء المرفوع أن يوجد في ذلك الموضوع. ويفرق بينه وبين سلب ذلك الشيء بأن يكون سلبه رفعه عن أي أمر اتفق، موجودا كان أو غير موجود.
وعلى هذه الجهة يوصف الله عزوجل بالأسماء غير المحصلة.
وعلى هذه الجهة قال أرسطوطاليس في السماءإنها لا خفيفة ولا ثقيلة. فإن هذا القول إيجاب معدول، وليس بسلب.
فهذه ثلثة معان للأسماء المحصلة: فالأول معناه معنى العدم، والثاني أعم منه: وهو رفع الشيء عن أمر موجود، شأن الشيء الذي رفع هنه أن يوجد فيه أو في نوعه، أو في جنسه، إما باضطرار، وإما بإمكان، كقولنا: (عدد لا زوج) فإنه إيجاب معدول، وهو رفع الزوج عما شأنه، أو شأن بعضه، أن يكون باضطرار زوجا. والثالث أعم من هذا أيضا: وهو رفع الشيء عن أمر ما موجود، وإن لم يكن من شأن الشيء أن يوجد فيه، لا في بعضه، ولا في كله، كقولنا في الإله: إنه لا مائت، ولا بال.
صفحة ٩
وأي أمر حمل عليه اسم غير محصل فينبغي أن يؤخذ ذلك الأمر موجودا.
وأي أمر كان موجودا، وسلب عنه شيء، كانت قوة ذلك السلب قوة إيجاب معدول. فلا فرق في العبارة بين أن يجعل سلبا، أو إيجابا معدولا.
فإن اتفق في أمر ما موجود أن يسلب عنه شيء، ويكون موقعه في القول موقعا يمنع به القول أن يصير قياسا، مثل أن يقع في مكانه المقدمة الصغرى في الشكل الأول مثلا، فإن لنا أن نغير ذلك فنجعل لفظه لفظ إيجاب معدول، فيصحح القياس حينئذ.
فعلى هذه الجهة متى اتفق أن سألنا عن سقراط، وهو موجود: (هل هو حكيم؟)، فكان الجواب الصادق السلب، فإن لنا أن نأخذ أن سقراط لا حكيم، وإن كان مقصد المجيب السلب، لأن قوة السلب من الأمر الموجود قوة الإيجاب المعدول.
وإن كان الجواب بحرف (لا) عن المسئلة عن سقراط: (هل هو حكيم)، وسقراط غير موجود، فليس لنا أن نجعله معدولا بأن نقول: (سقراط لا حكيم)، بل نجعله سلبا، بأن نقول: (ليس سقراط حكيما)، أو (سقراط ليس يوجد حكيما).
وهذا الذي قلناه هو بحسب المعنى الأعم، وهو أصل عظيم الغناء في العلوم، وإغفاله عظيم المضرة، فينبغي أن نعني به، ونرتاض فيه.
وفي الألفاظ - التي تؤخذ أجزاء القضايا - ألفاظ تسمى الجهات.
والجهة هي اللفظة التي تقرن بمحمول القضية فتدل على كيفية وجود محمولها لموضوعها، وهي مثل قولنا: (ممكن)، و(ضروري)، و(محتمل)، و(ممتنع)، و(واجب)، و(قبيح)، (جميل)، و(ينبغي)، و(يجب)، و(يحتمل)، و(يمكن)، و(يمتنع)، وما أشبه ذلك.
وقد يكون ذلك في الثنائية، كقولنا: (زيد ينبغي أن يتكلم)، و(زيد يمكن أن يمشي)، و(القمر باضطرار ينكسف).
وقد يكون ذلك في الثلاثية، كقولنا: (زيد ينبغي أن يكون عادلا)، (عمرو ممكن أن يصير عالما)، و(القمر باضطرار يوجد منكسفا).
والقضايا التي تكون فيها جهات تسمى ذوات الجهات. وقد تكون منها موجبات وسوالب. والسلب إنما يحدث فيها: أما في الشخصية والمهملة منها فمتى رتب حرف السلب مع الجهة، وأما في ذوات الأسوار فمع السور، كقولنا: (زيد ينبغي أن يتكلم). سلبه المقابل له: (زيد ليس ينبغي أن يتكلم)، وقولنا (زيد ممكن أن يصير عالما) سلبه: (زيد ليس بممكن ان يصير عالما). وقولنا: (الإنسان يمكن أن يوجد عادلا)، سلبه: (الإنسان ليس يمكن أن يوجد عادلا).
وأما في ذوات الأسوار فإن قولنا: (كل إنسان يمكن أن يمشي)، يناقضه: (ليس كل إنسان يمكن أن يمشي)، ويضاده: (ولا إنسان واحد يمكن أن يمشي).
وكذلك في الثلاثية: فإن قولنا: (كل إنسان يمكن أن يوجد عادلا)، يناقضه: (ليس كل إنسان يمكن أن يوجد عادلا)، ويضاده قولنا: (ولا إنسان واحد يمكن أن يوجد عادلا).
وقد يكون في ذوات الجهة قضايا بسيطة ومعدولات. فالموجبة البسيطة في الشخصية والمهملة منها تكون بأن لا يرتب حرف السلب لا مع المحمول، ولا مع الكلمة الوجودية، ولا مع الجهة. وتحدث السالبة البسيطة بأن يرتب حرف السلب مع الجهة فقط. وتحدث الموجبة المعدولة في الثلاثية بأحد ثلاثة أنحاء: إما بأن يرتب حرف السلب مع المحمول فقط، وإما مع الكلمة الوجودية فقط، وإما معهما جميعا. ولا يرتب مع الجهة.
ويحدث في الثنائية بأن يرتب حرف السلب مع المحمول فقط.
ومثالات ذلك: أما في الثلاثية، فكقولنا: (زيد ينبغي أن يوجد لا عالما)، (زيد ينبغي أن لا يوجد عالما) (زيد ينبغي أن لا يوجد لا عالما). والثنائية، فكقولنا: (زيد ينبغي أن لا يمشي)
والسوالب المعدولة المقابلة لكل واحد من هذه الأنحاء
تحدث بأن يرتب في كل ضرب منها حرف السلب مع الجهة.
أما في الثنائية، فإن قولنا: (زيد يمكن أن لا يمشي) يقابله: (زيد ليس يمكن أن لا يمشي).
وأما في الثلاثية، فقولنا: (زيد يمكن أن يوجد لا عالما)، يقابله: (زيد ليس يمكن أن يوجد لا عالما). وقولنا (زيد يمكن أن لا يوجد عالما)، يقابله: (زيد ليس يمكن أن لا يوجد لا عالما).
وكذلك في القضايا المهملة ذوات الجهات.
وأما في ذوات الأسوار فإن الموجية البسيطة تحدث بأن لا يقرن حرف السلب لا بالسور، ولا بالمحمول، ولا بالكلمة الوجودية، ولا بالجهة.
صفحة ١٠
والسالبة البسيطة تحدث بأن يقرن حرف السلب بالسور، كقولنا: (كل إنسان يمكن أن يمشي)، يناقضه قولنا: (ليس كل إنسان يمكن أن يمشي)، ويضاده قولنا: (ولا إنسان واحد يمكن ان يمشي). وقولنا: (كل إنسان يمكن أن يوجد ماشيا، يناقضه قولنا: (ليس كل إنسان يمكن أن يوجد ماشيا)، ويضاده قولنا: (ولا إنسان واحد يمكن أن يوجد ماشيا).
والموجبة المعدولة تحدث: أما في الثنائية ذوات الأسوار فبأن يرتب حرف السلب مع المحمول فقط، دون السور. والسالبة تحدث بأن يرتب حرف السلب مع المحمول، ومع السور، كقولنا: (كل إنسان يمكن لا يمشي) يناقضه: (ليس كل إنسان يمكن ألا يمشي) ويضاده: (ولا إنسان واحد يمكن ألا يمشي).
والموجبة المعدولة الثلاثية في ذوات الأسوار تكون على ثلاثة أنحاء، على مثال ما سلف في المهملة والشخصية: إما بأن يكون حرف السلب مع المحمول، أو مع الكلمة الوجودية، أو معهما جميعا.
والسالبة تحدث بأن يرتب في كل واحد من الأنحاء
حرف السلب مع السور
فإن قولنا: (كل إنسان يمكن أن يوجد لا عادلا) يناقضه قولنا: (ليس كل إنسان يمكن ان يوجد لا عادلا)، ويضاده قولنا: (ولا إنسان واحد يمكن أن يوجد لا عادلا). وقولنا: (يمكن الا يوجد عادلا)، يناقضه قولنا: (ليس كل إنسان يمكن ألا يوجد عادلا)،ن ويضاده قولنا: (ولا إنسان واحد يمكن ألا يوجد عادلا). وقولنا: (كل إنسان يمكن ألا يوجد لا عادلا) يناقضه قولنا: (ليس كل إنسان يمكن الا يوجد لا عادلا)، ويضاده قولنا: (ولا إنسان واحد يمكن ألا يوجد لا عادلا).
وهذه أيضا حال القضايا التي تقرن بها جهة الاضطرار، ولا فرق بينها في شيء إلا بأن يبدل مكان الممكن قولنا باضطرار.
وكذلك الحال في سائر الجهات.
والجهات الأول ثلاث الضروري، والممكن، والمطلق.
فإن هذه الثلاث هي التي تدل على فصول الاول. فالضروري هو
الدائم الوجود الذي لم يزل، ولا يزال، ولا يمكن ألا يوجد، ولا في وقت من الأوقات. والممكن هو ما ليس بموجود الآن، ويتهيأ في أي وقت اتفق من المستقبل أن يوجد، والا يوجد والمطلق هو ما كان من طبيعة الممكن، وحصل الآن موجودا، بعد أن كان ممكنا أن يوجد، وألا يوجد، وممكن أيضا ألا يوجد في المستقبل.
فالقضايا ذوات الجهات الأول ثلاث: ضرورية، وممكنة، ومطلقة.
فالقضية التي مادتها ضرورية غير التي هي في جهتها ضرورية. فالتي مادتها ضرورية هي التي محمولها لا يمكن أن يفارق موضوعها أصلا، ولا في وقت من الأوقات، كقولنا: (كل ثلاثة عدد فرد). وأما التي مادتها ممكنة فهي التي محمولها غير موجود الآن في موضوعها، ويتهيأ في المستقبل أن يوجد فيه، والا يوجد، كقولنا: (زيد سيكون عالما). والتي جهتها ضرورية هي التي تقرن بها لفظة الاضطرار، كيف كانت مادتها: ضرورية كانت، أو ممكنة المادة، وقولنا: كل ثلاثة فهي باضطرار عدد فرد)، اضطراري في الأمرين جميعا: في الجهة، والمادة جميعا. وكذلك التي جهتها ممكنة هي التي تقرن بها لفظة الممكن، كيف ما كانت مادتها. فإن قولنا: (كل ثلاثة ممكن أن تكون عددا فردا)، هي ممكنة في الجهة، اضطرارية في المادة. وقولنا: (زيد ممكن أن يمشي) هي ممكنة في الأمرين جميعا.
والمطلقة قد جرت العادة فيها أن تجعل علامتها حذف الجهات كلها، وألا يصرح فيها، لا بالإمكان، ولا باضطرار. وجعلوا حذف الجهات كلها كالجهة لها.
وهذا هو الذي يذهب إلهي الإسكندر، ويصحح أنه رأى أرسطوطاليس في المطلقة. وكأن حذف الجهات كلها يدل به أنه لا اضطراري، ولا ممكن. وجعل رفع الأمرين دالا على أنه كالمتوسط بين الطرفين اللذين قد رفعا. وهو في الحقيقة متوسط بين الممكن، وبين الضروري. فإنه قد أخذ من كل واحد منهما بقسط.
صفحة ١١
وذلك أنه قد اجتمع فيه أنه موجود بالفعل، وهو من طبيعة الممكن، إذا كان فيما تقدم ممكنا أن يوجد وألا يوجد، وهو أيضا في المستقبل ممكن ألا يوجد. فبأنه موجود بالفعل شارك الضروري، وبأنه من طبيعة الممكن وممكن أيضا ألا يوجد في المستقبل شارك الممكن، كقولنا: (زيد قاعد)، و(عمرو يمشى)، و(الإنسان عادل)، واشباه هذه القضايا. والقضية قد تكون مطلقة في مادتها، وجهتها، كقولنا: (كل إنسان عادل). وقد تكون مادتها مطلقة، وجهتها ممكنة، أو اضطرارية، كقولنا فيما هو أبيض الآن أنه ممكن أن يكون أبيض، أو باضطرار هو أبيض. وقد تكون مادتها اضطرارية، ولا يصرح بها، لا باضطرار، ولا بإمكان، فتكون مطلقة في جهتها، اضطرارية في مادتها، كقولنا: (كل ثلاثة فهو عدد فرد).
والمطلقة قد تسمى الوجودية. وسميت مطلقة إذ كانت لا يشترط فيها جهات أصلا. وسميت وجودية لأنها تدل على الوجود غير مشترط فيه، لا باضطرار، ولا بإمكان. فالوجودية والمطلقة كاسمين مترادفين. والموجبات والسوالب في الاضطرارية، والمكن والبسيطة فيهما والمعدولة والمهملة، وفي ذوات الأسوار على مثال ما تقدم.
فسالبة الممكن غير السالبة الممكنة. فإن سالبة الممكن هي التي تسلب الإمكان وتوجب الوجود، كقولنا: (كل إنسان لا يمكن أن يوجد عالما).
والسالبة الممكن هي التي توجب الإمكان وتسلب الوجود، كقولنا: كل إنسان ممكن أن لا يوجد عادلا).
وكذلك سالبة الاضطرار غير السالبة الاضطرارية. فإن سالبة الاضطرار هي التي تسلب الاضطرار وتوجب الوجود، كقولنا: (زيد ليس باضطرار يوجد عادلا) والسالبة الاضطرارية هي التي توجب الاضطرار وتسلب الوجود، كقولنا: (الثلاثة باضطرار ليس توجد زوجا).
وكل متناقضين فإنهما كما قيل يقتسمان الصدق والكذب. غير أن المتناقضين في التي مادتها اضطرارية، وفي المطلقة التي كانت فيما سلف والتي هي الآن موجودة تقتسمان الصدق والكذب على التحصيل في أنفسهما. فإن الصادق منهما هو أحدهما على التحصيل دون الآخر، والكاذب هو الآخرون الأول. وكثير منها يعلم أن الصدق في هذا الواحد مشار إليه، والكذب في الآخر مشار إليه. وكثير منها لا يعمل أن الصدق في هذا مشار إليه دون الآخر. غير أن الذي نجهل نحن صدقه هو في نفسه حاصل على الصدق وإن لم نعلمه نحن، وما نجهل كذبه هو حاصل في نفسه على الكذب، وإن لم نعلمه نحن.
وأما الأمور الممكن المستقبلة كقولنا
(زيد غدا يسير إلى السوق)، و(زيد غدا لا يسير إلى السوق) فإنهما متناقضان، ويقتسمان الصدق والكذب لكن على غير التحصيل في أنفسهما. فإنه لا يمكن أن يكون الصدق محصلا في أحدهما مشارا إليه، والكذب في الآخر مشارا إليه. حتى لا يمكن فيما يوجدن صادقا منهما أن يكون كاذبا، وفيما يوجد كاذبا منهما أن يكون صادقا. لكن هما في أنفسهما - كما هما عندنا - في عدم التحصيل.
وأما المتناقضات في الاضطرارية والمطلقة
صفحة ١٢
التي حصل وجودها بالفعل فيما سلف والتي هي موجودة الآن، فإن التي يجهل منها ليس حالها في عدم التحصيل في أنفسها مثل حالها عندنا. فإن كثيرا من المجهولات التي صدقها على غير التحصيل عندنا يتغير حالها عندنا فيصير صدقها محصلا بعد أن كان عندنا غير محصل الصدق، وذلك إذا علمناها بعد الجهل، ويكون ذلك من غير أن تكون هي في أنفسها تغيرت من لا وجود إلى وجود، أو تكون قد تبدلت عليها حال أخرى. وأما الأمور الممكنة فإن المتناقضات التي نجهلها منها والتي صدقها على غير التحصيل عندنا لا تصير صدقا عندنا أصلا ولا في وقت من الأوقات معلومة، ولا يتحصل عندنا أن الصدق في هذا المشار إليه منهما دون الآخر، ما لم يتغير فيصير موجودا بالفعل بعد أن كان ممكنا. وإنما يكون ممكنا مادام معدوما. فإن المتناقضة الممكنة مجهولة بالطبع، لا بالإضافة إلينا. والمتناقضة الضرورية التي نجهلها نحن، فهي مجهولة بالاضافة إلينا، لا بالطبع، فإنا إنما نجهل الصادق منهما لعجز طباعنا عن إدراكه، وهو في نفسه حاصل على أحد الأمرين، محصلا، معرضا للادراك غير ممتنع من جهته أن يدرك. وأما الممكنة فإنها مجهولة عندنا، لا لعجزنا نحن عن ادراكها، بل لأنها في طبيعتها ممتنعة عن أن تدرك. ولأن الممكن بطبعه مجهول، صرنا نسمي المتناقضات الاضطرارية المجهولة عندنا ممكنة أيضا. فإنا نقول فيها ما دامت مجهولة لدينا إنها ممكنة أن تكون كذا، والا تكون، وإنما نعني أنها ممكنة عندنا وفي علمنا، لا أنها في أنفسها ممكنة في طباعها. فلا فرق في الاضطرارية بين قولنا: إنه ممكن، وبين قولنا: إنه مجهول. فإن قولنا: (ممكن أن يكون كذا وألا يكون) في أمثال هذه الأشياء معناه مجهول عندنا: هل هو كذا، أو كذا. والإمكان في الاضطرارية إنما يرتفع بعلمنا بها من غير أن تتغير هي في أنفسها بأن تصير موجودة بعد كانت غير موجودة، وبأن تتغير من العدم إلى الوجود، وعند ذلك تصير معرضة للعلم، ولأن يتحصل عندنا الصادق منها، وتدخل في حد الأشياء المجهولة من الاضطرارية. فإذا علمناه، ارتفع الإمكان عنها من الجهتين، من جهتها هي بتغيرها من العدم إلى الوجود، ومن جهتنا نحن بتغيرنا من الجهل بها إلى العلم بها.
وأما في الاضطرارية فإن الإمكان فيها إنما يرتفع بتغيرنا نحن من الجهل إلى العلم.
فلذلك ليس ينبغي لأجل اشتراك الاسم في الممكن، أن يظن بما هو ممكن في طبيعته أنه هو الممكن عندنا، بمعنى أنه مجهول عندنا، كما ظن ذلك جاليونس الطبيب، على ما قاله في كتابه الذي سماه: البرهان.
والمتناقضان في الممكن، إن كانا يقتسمان الصدق والكذب
صفحة ١٣
على التحصيل في أنفسهما، لزم أن يوجد ضرورة ذلك الذي منها صادق في نفسه على التحصيل، وألا يوجد الآخر ضرورة، إذ كان في نفسه كاذبا على التحصيل، فلا يكون شيء من الأشياء في نفسه وبطبيعته ممكنا، فترتفع الأشياء الارادية، والاختيار، والأفعال الكائنة عن الروية، وأخذ الأهبة في استعجال خير ينتظر ودفع شر يتوقع، وترتفع أيضا المواتاة التي في الأمور والصناعية لأن يكون الشيء بحال والا يكون، مثل تأتي الشمع لأن يلين. فإن هذا التأني في الشمع من نفس فطرته وطبعه لا في وقت من المستقبل دون وقت، بل بالإضافة إلى جميع الأوقات في المستقبل. وكذلك تأتي كل ذي صناعة لأن يفعل فعل تلك الصناعة ليس بالإضافة في المستقبل إلى وقت دون وقت، بل في كل وقت، مثل البناء والنجار والحائك والطبيب والفلاح وغيرهم. فإن صدق المتناقضات في الممكن على التحصيل، وكذبا على التحصيل، ارتفعت أيضا استعدادات الصنائع للأفعال الكائنة عنها، واستعدادات موضوعاتها لأن تقبل ما تفيها الصنائع، وترتفع أيضا استعدادات الأمور الطبيعية للشيء وضده، وأن لا يكون شيء أصلا قابلا لأي الضدين اتفق، وتكون الأشياء في وقت ما متعاصية ممتنعة على الله جل ثناؤه حتى لا يمكنه أن يغيرها من لا وجود إلى وجود، ومن وجود إلى وجود، في كل وقت، ولا في أي وقت أراد ذلك إن كان طباعها تجري عندهم مجرى ما تكون أوقات لا وجوده محدودة، حتى لا يتأخر بنفس طبيعته وجوده عن الوقت الذي فيه وجد، ويمتنع بطبيعته قبل ذلك من الوجود، على مثال ما يقال في الكسوفات. وهذه الأشياء كلها محالة وغير ممكنة وشنعة. فإذا المتناقضات في التي هي ممكنة في طبيعتها إنما تقتسم الصدق والكذب لا على التحصيل في أنفسها.
والضروري يقال باشتراك الاسم على ثلاثة أنحاء: أحدها الموجود الدائم الوجود الذي لم يزل ولا يزال، والثاني: الموجود في الموضوع مادام موضوعه موجودا، مثل الزرقة في العين والفطوسة في الأنف؛ والثالث: الموجود في موضوع والمركوز في موضوع مادام هو موجودا، أي مادام زيد قاعدا. وكذلك زيد الموجود مادام موجودا. والاضطراري الحقيقى هو الأول.
والمطلق أيضا يقال باشتراك الاسم على هذه المعاني الثلاثة
غير أن المطلق الحقيقي هو الذي يقال على المعنين الأخير، وهو المعنى الثاني والثالث، وهو بالجملة الموجود بالفعل مادام موجودا، أو مدام موضوعه موجودا.
والممكن أيضا يقال باشتراك الاسم على أربعة معان. فالثلاثة منها هي التي يقال عليها الاضطراري، والمطلق. والرابع من معاني الممكن هو ما كان غير موجود الآن، ويتهيأ في أي وقت اتفق من المستقبل أن يوجد، والا يوجد. غير أن الممكن الحقيقى هو المعنى الرابع من معانيه.
صفحة ١٤