وجرت الانتخابات وألف عدلي باشا يكن الوزارة الائتلافية الأولى وجلس سعد باشا في رياسة مجلس النواب، وفي أوائل أبريل سنة 1927 استقال عدلي باشا فألف ثروت باشا وزارته الثانية، وبقي سعد باشا في منصبه رئيسا للنواب، وكانت إنجلترا يومئذ قد أرادت - متأثرة بآراء مندوبها السامي اللورد جورج لويد - التحرش بالحكومة المصرية؛ فخلقت ما سمي أزمة الجيش، وبعثت بأساطيلها إلى الإسكندرية ولم يعرف أحد قط مطالبها على وجه التحديد، فاستطاع ثروت باشا بمهارته وكياسته أن يقضي على هذه الأزمة من غير أن تصل إنجلترا من مطالبها إلى أكثر من منح أحد الموظفين الإنجليز بوزارة الحربية المصرية رتبة الباشوية.
حدث بعد ذلك أن سافر جلالة الملك فؤاد إلى أوربا مدعوا إلى زيارات رسمية بإنجلترا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا، وبعد شيء من التردد استصحب جلالته رئيس وزارته ثروت باشا في رحلته، فانتهز ثروت فرصة وجوده بإنجلترا وفاتح وزير خارجيتها السير أوستن تشمبرلن في أمر أزمة الجيش وتحدث إليه فيما إذا كان مستطاعا الوصول إلى حل المسائل المعلقة بين الدولتين اتقاء أزمات أخرى.
وقد انتهت هذه المحادثات إلى مشروع لم يقبل في مصر ولكنه مهد السبيل الصحيح إلى الاتفاق النهائي، وربما كان ممكنا تعديله بما يمهد لقبوله لو أن سعد باشا زغلول بقي حيا إلى حين انتهاء ثروت من محادثاته، لكنه توفي في أثنائها في 23 أغسطس سنة 1927، ولم يخلفه من حنكته التجارب السياسية ما حنكت هذا الزعيم، وطلب إلى ثروت باشا أن يحل مجلس النواب وأن يجري انتخابات يعرض فيها المشروع الذي وصل إليه على البلاد، فأبى لأنه رأى أحزاب مصر كلها لا تقبل المشروع، ولأنه من ناحية أخرى خشي إذا حل المجلس ألا يعود، واستقال من الوزارة ونشر يوم استقالته كتابا أخضر عن مفاوضاته.
ويدل هذا الكتاب والمذكرات التي اشتمل عليها على ضخامة المجهود الذي بذله ثروت في أثناء قيامه بالمفاوضات منفردا ضخامة لم يعرف لها حتى اليوم في حياة سياسي مصري نظير، ويدل كذلك على مقدرة وذكاء وكفاية وتضلع بالسياسة العالمية قل أن يكون لها مثيل، ثم يدل على صحة ما رواه عنه السير أوستن تشمبرلن لأحد أصدقائه إذ قال: «أتاح لي اتصالي في جمعية الأمم بأكثر وزراء الخارجية في الدول المختلفة أن أقدرهم جميعا، وما أحسب واحدا منهم يفوق ثروت مهارة وقوة حجة وحسن بيان.»
وفي الكتاب الأخضر المذكور - إلى جانب هذا كله - اتجاه جديد في سياسة ثروت يرمي إلى ربط الاتفاق بين مصر وإنجلترا بقضية السلام في العالم، ويجعل لذلك من الرجل سياسيا عالميا لا سياسيا قوميا وكفى، فقد أبدى وزير الخارجية البريطانية من التشدد في بعض الأمور ما رأى ثروت باشا معه أن المناقشة أصبحت غير مجدية، وأن مقامه في لندرة للوصول إلى الغاية التي ينشدها لم يبق له محل.
وكان أمامه إذ ذاك أن يعلن ذلك إلى قومه في عبارة قوية أخاذة، وأن يعود محاطا بهالة من الجلال والإعجاب، لكن ذلك ليس يتفق مع طريقته في التفكير ولا هو يقرب الغاية التي ينشدها ولا يؤيد السلام الذي يسعى لتأييده؛ لذلك لجأ إلى الحكمة ينادي داعيها في نفس الوزير الإنجليزي، حتى إذا لم يجب هذا الداعي وأصر على تشدده كان مسئولا أمام العالم كله وكان مخالفا في خطته مع مصر كمفتاح بلاد الشرق الخطة التي اتبعتها الدول الأوربية فيما بينها لتأييد السلام، فبعث بخطاب فيه من البراعة السياسية، ومن الحرص على كرامته وكرامة بلاده، ومن تحميل مناظره تبعة عدم النجاح، ما يشهد به نصه إذ قال:
عزيزي صاحب السعادة
من أطيب الأشياء إلى نفسي أن أعرب لسعادتكم قبل مغادرتي لندرة عن عظيم شكري لما لقيته لديكم من حسن الاستقبال، وإن أنس لا أنس نزعة الود التي ما برحتم تصدرون عنها في محادثاتنا ولا ما أبديتموه على الدوام من صادق الرغبة في التماس أسباب التوفيق بين البلدين.
ولقد كان يسعدني أن أرى مساعيكم المجيدة في تثبيت أركان الصداقة بين القطرين تكلل بالنجاح، كما أنه يؤلمني أن يخفق كل ما بذل من الجهود في هذا السبيل، تلك الجهود التي لم تجعل - حتى اللحظة الأخيرة - مجالا للشك في حسن ختام محادثاتنا في هذا الشأن.
ولا أزال أرجو - إذ أنادي منكم داعي الحكمة وألتجئ إلى صادق شعوركم وصحيح إنصافكم - أن تدركوا الغاية التي تعملون لها، وأن تضموا إلى إكليل «لوكارنو» إكليل الاتفاق بين إنجلترا ومصر.
نامعلوم صفحہ