إهداء
مقدمة
القسم الأول: تراجم مصرية
كليوباترة
الخديو الأول إسماعيل باشا
الخديو توفيق باشا
محمد قدري باشا
بطرس باشا غالي
مصطفى كامل باشا
قاسم بك أمين
نامعلوم صفحہ
إسماعيل باشا صبري
محمود باشا سليمان
عبد الخالق ثروت باشا
القسم الثاني: تراجم غربية
بتهوفن
هبوليت أدولف تين
وليم شكسبير
برسي بيش شلي
إهداء
مقدمة
نامعلوم صفحہ
القسم الأول: تراجم مصرية
كليوباترة
الخديو الأول إسماعيل باشا
الخديو توفيق باشا
محمد قدري باشا
بطرس باشا غالي
مصطفى كامل باشا
قاسم بك أمين
إسماعيل باشا صبري
محمود باشا سليمان
نامعلوم صفحہ
عبد الخالق ثروت باشا
القسم الثاني: تراجم غربية
بتهوفن
هبوليت أدولف تين
وليم شكسبير
برسي بيش شلي
تراجم مصرية وغربية
تراجم مصرية وغربية
تأليف
محمد حسين هيكل
نامعلوم صفحہ
إهداء
إلى صديقي
الدكتور حافظ عفيفي باشا
تقديرا لما كان لصداقته من فضل في إقدامي على كتابة كثير من فصول هذا الكتاب.
هيكل
مقدمة
يحتوي هذا الكتاب على نوعين من التراجم؛ فأما أولهما فيتناول تراجم مصرية لرجال هذا العصر الأخير منذ ولاية الخديو إسماعيل باشا الحكم إلى وقتنا الحاضر، خلا ترجمة لكليوباترة كتبت قبل أن تكتب هذه التراجم جميعا، أما سائر التراجم المصرية فنشرت في «السياسة الأسبوعية» حين كانت تنشر فيها فصول رجال التاريخ الحديث في مصر، اللهم إلا ترجمة محمود سليمان باشا فقد كتبت لمناسبة وفاته، وترجمة عبد الخالق ثروت باشا فقد كتبت ولم تنشر في غير هذا الكتاب، وربما كانت الترجمة لرجل كثروت باشا عاش بين أظهرنا وكان له دور في حياة مصر في أثناء وجودنا، مما يتعذر أداؤه بما تقضي به الدقة التاريخية وما توجبه من تمحيص ونقد، وكنت أنا شاعرا كل الشعور بهذه الدقة في أثناء كتابتي هذه الترجمة، لكني إنما تخطيت هذه الاعتبارات لأني أردت أن أضع أمام القارئ صورة - ولو تقريبية - لحياة مصر السياسية في هذا العصر الأخير، وما دمت قد بدأت هذه الصورة منذ عصر إسماعيل باشا الخديو فقد رأيت واجبا إتمامها إلى آخر عصرنا الحاضر، ثم ما دمت بدأتها بترجمة بعض من كان لهم في حياة مصر السياسية أثر ظاهر فمن حق ثروت باشا أن يكون ختام هذه السلسلة من عظماء الرجال الذين تناولت، على أني رأيت أن أقف في ترجمته عند الوقائع الثابتة وأن أتجنب المغامرة في الفروض والظنون، حتى لا يتعرض ما أكتب عنه لنقد يفسده وإن أمكن أن يظهر فيه نقص كثير.
فأما النوع الثاني فيتناول ترجمة بتهوفن، وتين، وشكسبير، وشلي، من كبار رجال الغرب، وهؤلاء إنما ترجمت لهم لمناسبات خاصة، ولأني أحببتهم منذ زمان طويل حبا جما، فلما كانت مناسبات كمرور مائة عام على موت بتهوفن أو على مولد تين أو نحوهما من المناسبات، رأيت واجبا علي لهذا الحب الذي أضمر لأولئك الرجال حبا يعادل ما أفدت من آثارهم وما حققت لي من معاني السرور بها والطرب لها - أن أثبت صورة هذا الحب بإثبات صورة من حياتهم هي الصورة الممتلئة بها نفسي منهم.
ولم يكن الاسم الذي وضعته للكتاب هو الذي دار من أول الأمر بخاطري، فإن كلمة «تراجم» تقتضي تناول جوانب حياة المترجم له بتدقيق وتوسع أكثر مما عالجت أنا في هذه الرسائل، فأنا لم أتناول - أغلب الأمر - إلا ما اعتقدته الناحية الغالبة في حياة الشخص، والتي كان لها فيه الأثر البالغ، وأنا قد تناولت هذه الناحية في إيجاز جعلني أختار في نفسي اسما للكتاب تؤديه الكلمتان الإنجليزيتان (Biographical Sketches) ، على أني بعد البحث مع أصحابي لم أهتد لعبارة عربية سائغة لأن تكون عنوانا للكتاب تؤدي هاتين الكلمتين أداء دقيقا، وفكرت وقتا في أن أجعل عنوانه (من صحف التاريخ)، وأشار علي صديق بأن أجعل العنوان (ملامح)، ثم انتهيت إلى هذا العنوان الذي ظهر الكتاب به، فإذا كان فيه شيء من الادعاء فليس الذنب في ذلك ذنبي، وإنما هو العجز عن أن أجد المقابل الصالح للصورة المضبوطة التي تعبر تعبيرا صادقا عما في الكتاب.
وكم وددت لو أني استطعت أن أجعل الكتاب كله تراجم مصرية صرفة، بل لو استطعت أن أظهره في عدة أجزاء تصل التراجم فيها بين عصور مصر المختلفة منذ عهد الفراعنة إلى وقتنا الحاضر، فما أشك في أن كتابا كهذا يمكن أن يكشف من تاريخ مصر عن صلة عصورها بعضها ببعض وعن جهود المصريين المتصلة منذ أول التاريخ إلى عصرنا الحاضر في سبيل الحق والحرية والعرفان، على أني أعترف بأن عملا كهذا مما لا يطيقه شخص وحده، ومما لا أطيق أنا بنوع خاص، فإنني لم أتخصص في التاريخ ولم تمل بي حياتي العملية نحوه إلا بمقدار، ثم إن تاريخ مصر في مختلف عصورها ما يزال مبعثرا في أطواء الكتب القديمة، لم يعن أحد، ولم تعن الجامعة المصرية نفسها، بالكشف عنه كشفا علميا صحيحا وبتدوينه على طريقة تجعله عذبا سائغ المورد لمن يشاء أن يصل إلى الحقائق فيه من غير أن تصده الطريقة السيئة أو اللغة المضطربة أو القصد السيئ، وإذا كنت قد وقفت على تاريخ مصر بشيء من الدقة في العصور الأخيرة فذلك حين كتابة رسالتي للدكتوراه في القانون عن «دين مصر العام»، فقد اضطرني ذلك إلى الانقطاع لدراسة التاريخ الحديث منذ عهد والي مصر سعيد باشا والإكباب على هذه الدراسة شهورا متوالية وتدوين الملاحظات، والوقوف عند الأشخاص الذين كان لهم في حياة مصر السياسية في أثناء هذا العصر الأخير دور خاص، ولا يزال كثير مما وقفت عليه في أثناء مطالعاتي ثم لم تقتض حاجة رسالتي تدوينه بها عالقا بذهني ممثلا أمام خيالي صورة مصر منذ أيام محمد علي، وصور الكثيرين ممن لعبوا دورا خاصا في حياتها، فأما قاسم أمين فقد عنيت بقراءة كتبه وكل ما كتب عنه مذ كنت في مدرسة الحقوق بمصر، فتكونت في نفسي منه فكرة أحسبها دقيقة غاية الدقة، وأتاح لي اشتغالي بشئون مصر السياسية في السنوات الأخيرة أن أضبط صور من ترجمت لهم من هؤلاء جهد ما واتتني به الطاقة.
نامعلوم صفحہ
وإن كتابا كالذي أشرت إليه حاويا تراجم أكابر رجال مصر في عصورها المختلفة منذ الفراعنة إلى اليوم، يكون لا ريب جليل الأثر في تكوين صورة تاريخية لهذا الوادي الجميل الذي نعيش فيه، صورة تظهر اتصال الحياة على ضفاف نهره المبارك منذ أقدم الأزمان إلى وقتنا الحاضر، ثم إن مثل هذا الكتاب ليدل دلالة كبرى على بطلان الصورة الزائفة التي يضعها مؤرخو الغرب لتاريخ مصر، فالواقع أن تاريخ بلادنا لم يصغه حتى اليوم مؤرخ منصف على طريقة علمية صحيحة، اللهم إلا ما تعلق ببعض جوانب العصر الفرعوني من عصوره، فأما ما بعد ذلك من عصور فقد شوهه الساسة الأجانب لمآربهم الخاصة منذ القدم: شوهه العرب الذين خلفوا الرومان في مصر، كما شوهه نابليون حين قدومه بالحملة الفرنسية في آخر القرن الثامن عشر، ثم كان لكتاب الإنجليز بعد ذلك النصيب الأوفى من تشويهه تشويها قائما على ذلك الأساس الاستعماري من أن شعب مصر قد ظل محكوما منذ انتهى عهد الفراعنة بأمم أجنبية عن مصر، بالفرس، ثم اليونان، ثم الرومان، ثم العرب، ثم الترك، ثم الإنجليز، وشعب هذا شأنه - فيما يدعون - لا يعرف لنفسه عليه كرامة يضحي في سبيلها ولا يقدر للعزة القومية معنى يثور من أجل تحقيقه، وما يزال هذا التاريخ هو - مع الكثير من الأسف - التاريخ الرسمي الذي درس لنا ويدرس اليوم لأبنائنا، هذا، على أن التاريخ الصحيح والتراجم الحقة تنادي بكذب هذه الصورة من حياة مصر على تعاقب الأزمان وببطلانها.
ولست واثقا من أن تمكنني الفرص من الرجوع إلى تواريخ هذه العصور القديمة وإلى تراجم الرجال الذين عاشوا فيها لأثبت حينئذ في شيء من التفصيل أن تاريخ مصر جدير بأن يفخر المصريون به أكثر مما يفخر غيرهم من أبناء أية أمة أخرى بتاريخها؛ لذلك أسارع فأنتهز فرصة نشر هذا الكتاب المشتمل على تراجم بعض رجال مصر في العصر الأخير، وعلى ترجمة كيلوباترة خاتمة عهد البطالسة في مصر، لأبين زيف الصورة التي يصورها الساسة الاستعماريون، ولأظهر للقارئ في كلمات موجزة كيف دل ما تداول على مصر من ألوان الحكم على أن شعبها أعرق الشعوب حرصا على قوميته وأكثرها تضحية في سبيل الحق والحرية والعرفان.
على أني قبل أن أعالج هذا البيان أود أن أثبت للحقيقة أن بعض الذين أرخوا مصر من أهل الأمم المختلفة كانوا حسني النية، ولكنهم خدعوا بتمويه الساسة، وما أشك في أنهم متى اطلعوا على هذه المقدمة الوجيزة سيعودون إلى الحق يقررونه وسيعترفون لمصر بمكانتها التاريخية السامية.
ولعل ما خدع به هؤلاء المؤرخون الحسنو النية هو ما تواضع عليه الكتاب من تبويب تاريخ مصر عصورا أطلقت عليها أسماء أمم غير مصرية، فمن بعد العصر الفرعوني يذكرون عصر الفرس، ثم العصر اليوناني، ثم العصر الروماني، ثم العصر الإسلامي أو عصر العرب، ثم عصر الترك، ثم العصر الأخير عصر الاحتلال الإنجليزي، وتبويب التاريخ على هذه الصورة من شأنه أن يدعو إلى الخطأ وسوء التقدير من جانب من لا يكلفون أنفسهم مؤونة البحث في التفاصيل بشيء من الدقة، والواقع أن هذا التبويب خاطئ في أكثر مناحيه، وإذا كان صحيحا أن الحكام الذين تولوا أمر مصر في عصور مختلفة لم يكونوا من أصل مصري صميم فلن يغير ذلك من خطأ المؤرخين وادعائهم خضوع مصر لأمم أجنبية عنها، إلا إذا اعتبرنا قيام ملك كملك الإنجليز على رأس أكبر إمبراطورية في الوقت الحاضر - مع أنه من أصل غير إنجليزي - دليلا على أن إنجلترا والإمبراطورية البريطانية كلها خاضعة للأمة التي يرجع إليها دم مليكها، وهذا لغو من القول، كما أن ادعاء خضوع مصر لأمم أجنبية عنها هي التي يرجع إليها أصل حكامها لغو مثله، وليس هذا المثل الذي ضربنا بالمثل الفرد، فنابليون إمبراطور فرنسا كان من كورسيكا، أي كان أقرب للإيطالية منه للفرنسية، وأكثر الملوك الباقين على عروش أوربا اليوم من دماء غير دماء الشعوب التي ملكتهم عليها، وليست هذه الشعوب لذلك أقل حرية واستقلالا وعظمة مما كانت مصر في أكثر العصور التي تعاقبت عليها.
ولنعد الآن إلى تاريخ مصر نفسه، فالكل يعترف لمصر الفراعنة بأنها كانت أمة عزيزة الجانب مضيئة الحضارة على نحو لا يمكن أن تتسرب إليه الشبهة مع قيام الآثار القديمة شاهدة به محدثة عنه بأقوى عبارة وأفصح لهجة، مع هذا فقد منيت مصر الفراعنة بغزو الرعاة الهكسوس إياها مدة استمرت نحو تسعين سنة، حتى استرد المصريون تاج بلادهم سنة 1580 قبل الميلاد، وظلت مصر من بعد ذلك متحكمة في البلاد المجاورة لها ممتدة السلطان على حوض البحر الأبيض المتوسط، وفيه روما واليونان، إلى أوائل القرن السابع قبل الميلاد، هنالك كانت الحضارة الإنسانية على ضفتي النيل قد بلغت من الرقي والترف ما تشهد به الآثار التي ترى أعيننا شيئا منه.
وهنالك بدأت آشور، ومن بعدها فارس، تفكر في غزو مصر، ومع غلبهم إياها ودخولهم عاصمة ملكها غير مرة فإنهم لم يستطيعوا الاستقرار بها وتولي الحكم فيها إلا فترات قصيرة انتهت في سنة 332 قبل الميلاد.
قبيل هذا التاريخ نشأ في شمال اليونان فليب المقدوني وخلفه من بعده الإسكندر الأكبر، وكانت الطبيعة قد وهبتهما - ووهبت الابن بنوع خاص - من المقدرة في القيادة الحربية ما يدخل في باب المعجزات، وحيث يظهر في الناس نصف إله في الحرب أو في الدين أو في السياسة ترى العالم كله يتطلع معجبا مسحورا، وقد دوخ الإسكندر روما وآشور والفرس ووصل إلى الهند، ولم تكن أمة من الأمم تستطيع مقاومته، أما أمم أوربا الغربية والشمالية فكانت في تلك الأيام في حال من الهمجية أشبه بحال أواسط أفريقيا اليوم مما يجعلها نكرة على التاريخ، ولا يجعل لأية مقارنة بينها وبين غيرها محل، وجاء الإسكندر إلى الشام ففتحت أمامه مصر أبوابها في سنة 332 التي أشرنا إليها؛ لأنها رأت فيه مدوخ الفرس، وكانت بينها وبين الفرس عداوة أشد العداوة، وبقيت مصر في حكم الإسكندر، وإن شئت في حكم اليونان تسع سنوات، إذ مات الإسكندر في سنة 323ق.م ثم اختلف قواده من بعده فيما بينهم، وكان بطليموس بن لاجوس من أقدرهم ومن أعرفهم بمصر وأشدهم حبا لها.
وإذا كانت مصر بحاجة إلى رجل ذي مواهب حربية ممتازة يستطيع أن يصد بقواها عدوان من يحاول الاعتداء عليها، فقد اطمأنت إلى بقاء بطليموس مستقلا بها مستقلة هي به، وحدث ما أراد المصريون من ذلك، فإن هذا البطل من قواد الإسكندر جعل الإسكندرية قاعدة له ومنها حارب الآشوريين والفرس وحارب اليونان أنفسهم، ووطد لمصر سلطانا أعاد لها ولحضارتها عز الفراعنة الذي اضطرب وتزعزع خلال القرون الثلاثة التي سبقت ولايته عرش إيزيس وأوزوريس.
ومع أن بطليموس الأول هذا كان أشد حرصا على طقوس الديانة اليونانية التي نشأ فيها فإن ابنه بطليموس الثاني كان مصريا في دينه مصريا في عاداته مصريا في دمه، ولا عجب، فمصر - بعزلتها عن العالم لما يحيط بها من البحر في شمالها والصحارى في سائر جهاتها - هي عالم وحده تخلق الناس فيها خلقا وتسكب في عروقهم دماء تجري فيها روح النيل وقوة سلطانه؛ ولذلك كان كل الذين أقاموا بمصر إما تمثلتهم مصر فأصبحوا مصريين، أو لفظتهم فلم يطيقوا ولم يطق أخلافهم من بعدهم بها مقاما.
وبلغ من حب بطليموس الثاني مصر وحب مصر إياه أن أصبحت الإسكندرية عاصمة العالم كله حضارة وعلما وإيمانا، وإن اجتمعت فيها فلسفة اليونان المادية بفلسفة مصر الروحية، ثم نشأت منهما فلسفة مصرية خاصة هي فلسفة مدرسة الإسكندرية، وكانت مصر هي سيدة البحار في ذلك العصر، فكانت سياستها موضع النظر والتأويل في روما واليونان وآشور والفرس وسائر بلاد العالم المعروف حينئذ، وتعاقب البطالسة حتى كليوباترة في حكم مصر ثلاثة قرون متوالية، تعاقب البطالسة على عرش مصر بإرادة شعب مصر مستقلين به مستقلا هو بهم قائمين باسمه ناشرين على ربوع العالم المعروف يومئذ لواءه، فهل يكون نعت هذا العصر من تاريخ مصر بالعصر اليوناني معناه خضوع الشعب المصري لأمة أخرى؟ أو يكون ذلك التصوير باطلا البطلان كله لأن شعوب العالم ومنها الشعب اليوناني هو الذي خضع لمصر في كل تلك القرون الثلاثة، وكان يرى في الإسكندرية عاصمة الدنيا كلها؟
نامعلوم صفحہ
وفي أواخر عهد البطالسة بدأ نجم روما يعلو في سماء السياسة العالمية، وبدأت روما تطمع في التغلب على مصر بعد أن كانت تخطب ودها وتخشى غضبها، وكما وهبت الأقدار الإسكندر المقدوني المقدرة الحربية التي استطاع بها أن يتغلب على كل شعوب العالم المعروف يومئذ، كذلك وهبت هذه الأقدار مثل تلك المقدرة يوليوس قيصر صاحب عرش روما، فلقد ظفرت جيوش قيصر بالشعوب كلها ورفت راية روما على اليونان والشام، وامتدت غزواتها إلى ناحية آشور، ثم سارت شمالا وغربا فأخضعت السكسون في ألمانيا والفرنسيين في بلاد (الجول) وأخضعت أهل الجزيرة البريطانية لحكم قيصر، فإذا كانت هذه الأقدار قد عصفت بمصر فلم تكن مصر لذلك متفردة بالخضوع دون غيرها من أمم العالم، وصحيح أن حكم روما لمصر عن طريق حاكم تبعث به إليها ظل متتابعا قرونا عدة، لكن الصحيح كذلك أن هذا الحاكم كان يجد أكثر الأمر أشد العنت في حكم البلاد، وكان يتعرض للثورات المتوالية تقوم عليه وتضطر روما معها للاحتماء بالإسكندرية أحيانا تاركة داخلية البلاد يحكمها أهلها، وتتمكن أحيانا أخرى من قمع هذه الثورات والتغلب عليها وإخضاع مصر لنير روما قهرا عنها.
والمؤرخون جميعا متفقون تمام الاتفاق على أن السكينة والأمن لم يسودا مصر طول هذا الذي يسمونه العهد الروماني، فإن روما كانت - كما كانت بيزانس من بعدها - دائمة الوجل من ناحية مصر من خشية أن ينقطع عنها مدد الغلال التي كانت مصر تبعث بها غذاء لأهل عاصمة العالم في ذلك الحين، ولم تكن أسباب الاضطراب يومئذ مقصورة على الناحية السياسية، بل خلق المصريون منها في سائر النواحي ما ارتبكت روما معه وما اضطرت بسببه لارتكاب الفظائع التي لا يزال تاريخها ملطخا بها، من هذه الأسباب السبب الديني؛ فقد كان الدين المصري القديم بعد اختلاطه بالتعاليم اليونانية قد قصر عن أن يلهم الشعب ما يلهم كل دين من طمأنينة النفس وسعة الأمل، وكانت المسيحية الوليدة في روما قد بدأت تنتقل إلى مصر رويدا رويدا، وكان الطبيعي أن يلقى الدين الجديد في مصر قبولا حسنا، فقد كان اليهود في مصر كثيري العدد جدا، وكانت الديانة اليهودية تتصل في كثير بالديانة الفرعونية القديمة أن كان موسى مصريا تلقى الطقوس أيام شبابه على كهنة إيزيس، وكان الاضطهاد الروماني مما جعل الناس أشد إقبالا على دين يدعو إلى الإخاء والسلام والتسامح، ويعد الجنة المحروم والبائس والمظلوم، على أن خلافا في الرأي الديني ما لبث أن نشأ في مصر بين المتشبعين من قبل بتعاليم الفلسفة اليونانية والآخذين بروحية الديانة المصرية القديمة، وكم أثار هذا الانقسام الديني من خلاف! وكم اتخذ سببا خفيا للثورة على روما ومحاربتها والتغلب في بعض الأحايين على ولاتها وحكامها واستقلال أهل مصر بالحكم في مختلف ولاياتها.
وكذلك نرى أن مصر قد تمثلت البطالسة وهضمتهم طبيعتها فأصبحوا مصريين كسائر المصريين وإن كانوا من أصل يوناني، فأما الرومانيون الذين أرادوا الاحتفاظ برومانيتهم وحكم مصر على غير إرادة أهلها، فقد ظلوا تناهضهم عناصر الحياة في مصر حتى انجلوا عنها كارهين، وكذلك كانت دورات التاريخ في مصر دائما؛ فمن خضع لحكم الطبيعة المصرية القوية في تمثلها من ينزل ربوعها كان له أن يطمع في نعيمها وأن يستريح إلى خيرها ورخائها، ومن حاول محاربة هذه الطبيعة المصرية كانت عليه حربا عوانا، لكنها لا تلجأ في حربها إلى العواصف الاجتماعية التي تثور فجأة مرة بعد أخرى، كلا! بل هي تلجأ في الناحية السياسية والاجتماعية إلى مثل ما تلجأ إليه الطبيعة المصرية من شمس وهواء ونهر وأرض ورمال، هذه الطبيعة لا تعصف بشيء أجنبي عنها ولكنها تظل حتى تبليه وتفنيه.
وانتهى حكم الرومان وعقبه العصر الإسلامي لتكتب مصر خلاله صحف مجد في تاريخها كأمة مستقلة ناهضة بأعباء الحضارة في العالم على نحو ما كانت مصر الفراعنة، تاركة من آثار ذلك مثل ما تركوا مما لا يزال شهيدا على العظمة والجلال وتقدم المدنية وارتقاء آثارها من علم وفن إلى أبعد حدود الارتقاء، فقد نهض العرب منذ أوائل القرن السابع الميلادي نهضة روحية بفضل الإسلام أعقبتها نهضة حربية قوية متأثرة بها لا تقل في اندفاعها اكتساحا لغيرها من الأمم عن نهضة الإسكندر في اليونان وقيصر في روما.
ولم تقف مصر في وجه تيار هذه النهضة أن شامت في الدين الجديد جدة روحية كانت تشعر بالحاجة إليها شعورا عميقا، فإن المسيحية - على أنها دين فضل وجمال - قد خالطت طقوسها صور من الزهد والتقشف والانقطاع بما لا يتفق مع طبيعة وادي النيل الدائم الصفو الدائم الابتسام، وهذا التنافر بين ابتسام الوادي وعبوس التقشف، جعل دعاة المسيحية في مصر يبالغون في ميلهم إلى جانب الانقطاع والزهد، ويفضلون العيش في صوامع خشنة فوق رمال الصحراء المحرقة، وذلك لفرط خوفهم من زخرف الوادي وغضارة نعيمه، وبالرغم من قيام طائفة من المصريين المسيحيين تحاول التوفيق بين تعاليم دين عيسى وفيض النيل ببركاته فإن دعاة الزهد والتقشف كانوا أصحاب الغلب.
فلما أذن مؤذن المسلمين بأن التقرب إلى الله لا يصد عن المتاع بالدنيا ونعيمها، دخل المصريون في دين الله أفواجا، وآوت مصر من العرب حملة هذا الدين وحماته كل من تستطيع أن تؤويه، ولم يكن ذلك عجبا في أرض الأنبياء، ولا هو كان عجبا في عصر لم تكن الفكرة القومية فيه قد نمت النمو الذي نعرف اليوم، فالأماكن المقدسة في مكة والمدينة كانت معتبرة في نظر المسلمين جميعا عاصمة المملكة الإسلامية كما كان الخلفاء الراشدون، ثم أمراء المؤمنين من بعد، معتبرين كلمة الله على الأرض تجب لهم على كل مسلم الطاعة المطلقة.
لكن غريزة القومية كانت قوية في مصر بسبب عزلة مصر عما جاورها، يفصل بينها وبين كل جار من البحار أو الصحارى ما لا يسهل اجتيازه؛ لذلك لم تلبث خلافة الراشدين أن انتهت وأن قام يزيد بن معاوية أميرا للمؤمنين خلفا لأبيه حتى بدأت نذر الانتقاض على السلطة المركزية تبدو في مصر برغم أنها كانت حلقة وسطى في سلسلة الفتوحات الإسلامية المستمرة المتوالية ذاهبة إلى الغرب حتى تصل إلى مراكش كي يغزو موسى بن نصير الأندلس منها متخطيا جبل طارق، ولم يكد حكم بغداد وسلطان الدولة العباسية يستقر ويطمئن حتى بدأت مصر تقوم مستقلة استقلالا ناجزا صحيحا: استقلت أول أمرها حين قامت الأسرة الطولونية بالحكم فيها، ونازع الإخشيديون الطولونيين وغلبوهم واستقلوا بعرش مصر، ثم جاء الفاطميون من ناحية المغرب فأجلوا الإخشيديين وأسسوا بمصر دولتهم بفضل قائدهم جوهر الصقلي الذي أنشأ القاهرة، واعتلى الأيوبيون العرش من بعد الفاطميين.
وفي هذه القرون المتوالية كانت مصر مستقلة بشئونها بالغة في أحيان كثيرة المكانة الأولى بين الأمم الإسلامية صاحبة الغلب على أمم العالم جميعا، ولن ينسى أحد من ذلك فضلها العظيم في الناحية العلمية والأدبية، فقد كان الجامع الأزهر منذ أنشأه الفاطميون الجامعة الإسلامية الأولى، سواء كان ذلك في أول عهد الفاطميين حين كانت التعاليم الشيعية تلقى من فوق منابره، أو كان في العهد السني الذي جعل له حتى عصرنا الحاضر المقام الأول بين الجامعات الدينية الإسلامية.
ثم لن ينسى أحد كذلك ما كان لمصر من مجد وفخار في الحروب الصليبية حين تألبت أوربا تريد أن تغلب المسلمين على أمرهم في الأماكن المقدسة بفلسطين، وتضع يدها عليها باسم الصليب؛ فقد كانت الجيوش المصرية المظفرة هي التي صدت أكبر الغارات وأشدها هولا. واسم صلاح الدين الأيوبي باق على الزمان بقاء الزمان كلما ذكرت تلك الحروب، وهزيمة لويس التاسع في المنصورة وسجنه بها باق كذلك شهيد على مجيد فعال مصر في صد الغارة الصليبية.
وكان هذا كله والدولة العباسية ببغداد لا تزال باقية ولا يزال لها اسم دولة الخلافة مما أدى بطائفة من المؤرخين للوقوع في الخطأ واعتبارهم هذه القرون المتوالية على مصر، وهى متمتعة باستقلالها مقيمة من صروح الحضارة والعلم ما فاق كل ما عرفت بغداد، بعض ما توالى على مصر من ظلم وما ناء به أهلها من مهانة وذل.
نامعلوم صفحہ
وليس بي حاجة إلى العود للقول بأن قيام أفراد من دم غير مصري على عرش مصر لا يدل على أن مصر كانت تابعة لأمة أخرى؛ فالملوك في أكثر الأمم وفي مختلف عصور التاريخ لم يكونوا أكثر الأمر من أهل تلك الأمم إذا أنت تقصيت أصل مولدهم، لكنهم وقد عظموا بها كما عظم بمصر ملوك مصر فقد نسبوا إليها على حين يصر المؤرخون على نسبة ملوك مصر لبلاد غير مصر، والغلو في ذلك إلى حد القول بأن مصر وملوكها كانوا تابعين لدولة أخرى، وهم يقولون: ألم يتول أحمد بن طولون أمر مصر من قبل العباسيين وإن استقل من بعد بها؟ إذا فمصر ولاية عباسية، والحقيقة أن الخلافة الإسلامية في تلك العصور كانت قد انحلت عنها الصبغة الزمنية وبقيت لها السلطة الروحية وحدها، فكانت تبعية كثير من الدول الإسلامية لها شبيهة كل الشبه بتبعية الدول المسيحية لبابا روما، واستقلال الأمم وسيادتها لا شأن لها بالسلطان الروحي، وإنما مرجع أمرهما إلى السلطان الزمني، فما دام في عاصمة مملكة من الممالك كل أمر هذه المملكة الزمني فليكن لها من الاتصال الروحي بمكة أو بدمشق أو ببغداد أو بروما ما تشاء، فلن يغير ذلك قليلا ولا كثيرا من أنها أمة كاملة الاستقلال، والأمر الذي لا ريبة فيه أن الخلافة الإسلامية انحلت عنها السلطة الزمنية انحلالا فعليا من بعد خلافة المأمون ومنذ بدأ المعتصم يضطرب في حكم الدولة العربية وحدها، هذا إلى أن أولئك الذين حكموا مصر من طولونيين وإخشيديين وفاطميين وأيوبيين كان شأنهم شأن طوائف تماثلهم في أكثر بلاد أوربا حضارة ورقيا، طوائف جاءت إلى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وغير هذه من الدول من بلاد أخرى في بعض الغزوات، وكانت في ركاب الغازي ثم اندمجت من بعد ذلك في الشعب، وظل لها مع ذلك من تاريخها ما يحفظ لها في نظام الطوائف أقرب مكان من العرش، فهي أبدا تتطلع إلى مقامه وكثيرا ما تصل إلى ارتقائه.
واستمر حكم الدول الطولونية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية بمصر من سنة 868 إلى سنة 1250، ومن بعد هذا التاريخ ازداد انحلال السلطان الروحي للخلافة وزالت الدولة العباسية نفسها من بغداد، واستولى التتار على أكثر ممتلكاتها الآسيوية، أما مصر فقد استمرت تخطو إلى الأمام خطوات واسعة في سبيل التقدم والحضارة، وكان المماليك هم الذين حلوا محل الدولة الأيوبية في الحكم، والمماليك هم بعض هذه الطوائف التي أشرنا إليها والتي تجيء في ركاب الغزاة، ثم تصل في كثير من الأحيان إلى عرش البلاد بإقرار أهل البلاد أنفسهم، وهؤلاء المماليك كانوا قد جاءوا إلى مصر في بلاط حكامها الذين سبقوهم والأيوبيين منهم بنوع خاص.
اشتراهم هؤلاء الحكام ليكونوا في حاشيتهم وفي جيوشهم وليكون لهم من نسائهم الجميلات سراري وموالي، ومن شأن هؤلاء أن يكونوا أكثر من كل الناس وقوفا على أسرار ذوي العرش ومعرفة ببواطن أمورهم وأسباب قوتهم وضعفهم، فكان طبيعيا بعد إذ كثروا في مصر كثرة جعلت منهم جيشا جرارا أن يخلفوا الأيوبيين في ملكهم، لكنهم - كالأيوبيين وأكثر من الأيوبيين - كانوا مستقلين بمصر وكانت مصر مستقلة بهم تمام الاستقلال غير خاضعة لحكم أية دولة أخرى، بل لقد كانت في عهدهم عزيزة الجناب مرهوبة الجانب من كل دول البحر المتوسط التي كانت وحدها المعتبرة ذات حضارة معترف بها في العالم كله، وبلغت من ذلك أن أصبحت القاهرة مقر الخلافة الإسلامية ممثلة في العباسيين الذين انقرضوا ملوكا، فلم يبق للخلافة منهم إلا شبح ذابل أراد الظاهر بيبرس أن يخلع عليه رواء من قوة مصر ومجدها بأن يسكن الخليفة العباسي في عاصمة ملكه، ولم يكن الظاهر في هذا دعيا ولا مغرورا، فقد بلغت مصر في عهد المماليك البحرية والبرجية من الرفعة شأوا عظيما حتى كانت صاحبة الإملاء على السياسة الدولية في ذلك العصر، ولم يقف أمرها في عظمتها عند السلطان الحربي، بل كان لها أكثر من سلطان علمي وأدبي معترف به، كما كانت مركز الدائرة من حركة التجارة العالمية، وكمثل من سلطان مصر الأدبي أضع تحت نظر القارئ الفقرة الآتية من كتاب الأستاذ عبد الرحمن بك الرافعي «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر» قال:
ظلت الآداب العربية إلى عهد السلاطين البحرية والبرجية الشراكسة حافظة مكانتها التي كانت لها من قبل، وإليهم يرجع الفضل في إنقاذ آداب العربية من غزوات المغول التي كادت تقضي على العلوم والآداب العربية في الشرق، فكانت مصر ملجأ للناطقين بالضاد ممن فروا أمام التتار في العراق وفارس وسوريا وخراسان، وبقيت لغة حكومتها عربية في عهد تينك الدولتين، واستظلت العلوم والآداب العربية بحماية الملوك والسلاطين في مصر، ونبغ فيها طائفة من فطاحل الشعراء والأدباء والعلماء، كالبوصيري صاحب البردة، والسراج الوراق، وابن نباتة المصري ، والقلقشندي صاحب صبح الأعشى، والأبشيهي صاحب المستطرف، وابن منظور صاحب لسان العرب، وابن هشام النحوي العظيم الذي يقال فيه إنه أنحى من سيبويه، وابن عبد الظاهر، والنواجي - نسبة إلى نواج إحدى قرى مديرية الغربية - صاحب حلبة الكميت، والقسطلاني المحدث المشهور، وشمس الدين السخاوي صاحب الضوء اللامع، وابن خلكان المؤرخ المشهور صاحب وفيات الأعيان، والصفدي صاحب الوافي، وابن حجر المؤرخ إمام الحفاظ والمحدثين في زمانه، والعيني المؤرخ والمحدث، وابن وصيف شاه، وابن دقماق، والمقريزي صاحب الخطط، والمكين بن العميد، وأبو الفداء المؤرخ الجغرافي المشهور صاحب تقويم البلدان، والذهبي، والنويري صاحب نهاية الأرب في فنون الأدب، وابن فضل الله العمري صاحب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، وابن عقيل، وابن تغري بردي صاحب النجوم الزاهرة، وجلال الدين السيوطي صاحب التآليف الشهيرة في التفسير والعلوم الشرعية والتاريخ والأدب واللغة وهو آخر من ظهر في ذلك العصر من كبار العلماء بمصر، والدميري صاحب حياة الحيوان، وابن إياس المؤرخ الذي أدرك الفتح العثماني، وقد استضافت مصر في ذلك العصر جماعة من أئمة العلوم والفلسفة في الشرق، كالإمام ابن تيمية وابن القيم الجوزية، وفيلسوف المؤرخين ابن خلدون.
ونضع كذلك تحت نظر القارئ هذه العبارة من كتاب «صفحات في تاريخ مصر» للأستاذ توفيق حامد المرعشلي، ليرى منها مبلغ ما وصلت إليه مصر أيام المماليك من عظمة في نواحي حياتها الاقتصادية والسياسية، قال: «إن عصر المماليك يعد من عصور الرخاء والنشاط التجاري والاقتصادي بمصر، فكانت الصلة بين مصر ودول أوربا موطدة الدعائم، عقدت المعاهدات مع فرنسا وجمهوريات إيطاليا لحماية التجار الأجانب وترغيبهم في الإقامة بمصر، فراجت الأسواق التجارية وصارت مصر الملتقى التجاري بين الشرق والغرب سواء أكان بمرور التجارة من مصر فالبحر الأحمر إلى الهند، أم من الشام إلى العراق فالخليج الفارسي إلى بلاد العجم والهند وبالعكس من الطريقين، بما عاد على المماليك وخزانتهم وعلى المصريين ضمنا بالأموال الطائلة التي كانت تجبى من المكوس والحركة التجارية.» فأما رقي الفنون، وفن العمارة منها بنوع خاص، فتشهد به الآثار الكثيرة الموجودة بمصر ومنها المساجد والمنازل الأثرية بمشربياتها وأبهائها البديعة التنسيق الرائعة الجمال.
وليس إنسان يقرأ هذا الذي بلغت إليه مصر في عصر المماليك من سؤدد وعلم وحضارة إلا يقف ذاهلا: ألم يكن الأثر الباقي في نفوسنا لما تعلمنا عن تاريخ مصر في هذه الفترة أنها تعتبر عصرا مظلما في تاريخ مصر؟ فكيف يذر العصر المظلم كل هذه الآثار المضيئة؟! قد نفهم القول بأن حكومات مصر في ذلك الزمن كانت حكومات استبدادية وأن الفكرة الديمقراطية كانت معدومة يومئذ، وإنما كان يقوم نظام الطوائف مقامها، لكن هذا لا يعني شيئا ولا يخفى ما لتاريخ مصر في أثناء عصر المماليك من سناء ساطع، هو لا يعني شيئا لأن أمم العالم كله كانت يومئذ محكومة على نظام استبدادي تؤيده الطوائف المعزوة رياستها إلى مقام الحاكم بما يجعلها ذات مشورة، إن لم تكن ذات رأي في تصريف الشئون العامة، وما دام هذا النظام قد أنبت كل تلك الثمرات اليانعة التي تفخر بها مصر وتضعها في الغرة من تاريخها، فذلك الدليل على أنه كان النظام الصالح في العصر الذي قام فيه، فليس نظام للحكم يحمد لذاته أو يذم لذاته، ولكنه يحمد أو يذم بقدر ما يؤتي من صالح الثمرات أو من سيئها، وبقي هذا العصر الزاهر في تاريخ مصر من سنة 1250 إلى سنة 1517.
وكما اكتسح الإسكندر الأكبر العالم فعنت له أممه ثم فتحت مصر له آخر الأمر أبوابها، وكما أتاحت الأقدار ليوليوس قيصر أن يصنع بالعالم صنيع الإسكندر من قبل، مما جعل مصر تذعن لسلطان روما مع مداومتها الثورة عليه، كذلك اكتسح الأتراك العالم في القرن الخامس عشر وقضوا على الدولة البيزنطية باستيلائهم على القسطنطينية في سنة 1453 وأوغلوا بعد ذلك في أوربا حتى وصلوا إلى أسوار فيينا، وقد بقيت مصر مرهوبة مهوبة الجناب عندهم برغم ما كان من كل تلك القوة لهم حتى سنة 1517 حين نزلها السلطان العثماني سليم بعد حرب تم له فيها النصر على السلطان الغوري في موقعة بالشام على مقربة من حلب وعلى طومان باي الذي كان قائما مقامه بالقاهرة.
وحكم الأتراك مصر على الطريقة التي حكمتها بها روما، وكان أول ما صنعوا أن أخذوا الخليفة العباسي إلى الأستانة حيث جعله السلطان سليم يتنازل عن الخلافة التي أصبحت من يومئذ في آل عثمان حتى قضى مصطفى كمال عليها في سنة 1923، ثم جعلوا يوفدون إلى مصر واليا حرصوا على ألا تطول مدته بمصر من خشية أن ينظم جيشها ثم يقهر الأتراك به ويعيد إلى مصر استقلالها على نحو ما حدث في عهد البطالسة، وأوقفوا ما كان بمصر من مظاهر الحضارة بأن أخذوا إلى عاصمتهم كل رجال العلم والفن والصناعة في مصر، ولم يعوضوها شيئا، وظل الحال على ذلك إلى أواخر القرن السابع عشر حين بدأت نذر الانحلال يدب دبيبها إلى تركيا، حينذاك بدأ المماليك، الذين ظلوا طوال مدة ولاية تركيا حكام الأقاليم، يفكرون في استعادة السلطة والاستقلال بمصر، وكان هؤلاء المماليك قد أصبحوا - كما أصبح اليونان والعرب من قبل - مصريين، فكانوا يقفون متكاتفين مع شعب مصر في وجه الوالي الذي تبعثه الأستانة كما كان أسلافهم من قبل يقفون في وجه الحاكم العسكري الذي تبعثه روما، وكان هذا الوالي التركي الذي لم يندمج في مصر ولم يتمثل روحها يظل سجينا في قلعة القاهرة لا سلطان له على أحد ولا على شيء فيها، وكان المماليك والشيوخ الذين يمثلون الطبقة المتعلمة إذا رأوه على غير ما يريدون بعثوا إليه رسولا يطلق عليه اسم (الأوده باشي) يدخل عليه ويطأطئ الرأس احتراما له ثم يلمس طرف السجادة ويطويها ويقول مناديا للوالي: «انزل يا باشا»، ويكون هذا أمرا للوالي صادرا له من المصريين لا يستطيع له مقاومة ولا تستطيع تركيا له نقضا، وبلغ الضعف بالوالي التركي أن كان طوال القرن الثامن عشر واليا بالاسم لا سلطة له ولا عمل أكثر من إرسال الخراج إلى تركيا، ودفع هذا الضعف علي بك الكبير إلى التفكير في الاستقلال بمصر وتم له من ذلك ما أراد، وظل ثلاث سنوات تلقب فيها بسلطان مصر وخاقان البحرين ، على أن سوء سياسة الحكم في تركيا وما كان من تدميرها كل أسباب الحضارة في مصر في أثناء القرن الأول من استبدادها بها، نضح على هؤلاء المماليك فجعلهم يسيرون مع الشعب أسوأ ما يسير مستبد جائر، مما شوه اسم أسلافهم المماليك الذين ارتفع اسم مصر في عهدهم على مكان من العزة لا ينال.
وجاءت الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798 فقاومها المصريون أشد المقاومة حتى انتهت بالجلاء عن البلاد بعد ما نقلت إليها أفكار الثورة الفرنسية وأسباب الحضارة الغربية، وبعد أن فتحت عيون المصريين على حياة جديدة هي التي يدأبون اليوم لتوطيدها واتخاذها وسيلة لعود مصر إلى مجدها وقوتها.
وجاء محمد علي باشا واليا من قبل تركيا على مصر فقضى على المماليك، ثم استمال إليه علماء مصر وأعيانها ووجهاءها، وفكر طوعا لإرادتهم في الاستقلال بها، وأعلن ذلك بالفعل وغزا الدولة العثمانية في الشام وفي الأناضول ووصل حتى صار على ثلاث ساعات من الأستانة، وكان مخضعا سلطان تركيا لولا أن تحالفت معها عليه دول أوربا جمعاء، ووقفت في وجهه برا وبحرا، وقضت على الأسطول المصري في معركة نافارين، وهذا الوقوف من جانب الدول الأوربية في وجه الجيوش المصرية الظافرة لم يكن القصد منه المحافظة على تركيا الضعيفة مخافة أن يهدد وجود حاكم قوي في الأستانة التوازن الدولي كما اعتاد المؤرخون أن يقولوا، فلو أن ذلك وحده كان السبب لكان أقل ما تجزى به مصر على انتصاراتها بقيادة محمد علي أن تقوم بنفسها دولة مستقلة غير خاضعة لأحد، لكن الدول أبت على مصر هذا الاستقلال وأصرت على أن تظل ولاية تابعة لتركيا، وإن كانت ولاية ممتازة مستقلة استقلالا داخليا كاملا، إنما كان السبب الصحيح تخوف أوربا من أن تستعيد مصر قوتها التاريخية المعروفة، وأن تنضم إليها فلسطين وسوريا كما كانتا منضمتين لها في أكثر حقب التاريخ، وأن تتحكم لذلك في حوض البحرين: الأبيض والأحمر، وأن يصبح سلطانها بالفعل خاقان البحرين كما كان علي بك الكبير يدعو نفسه في الفترة القصيرة التي استقل فيها بأمر مصر، ومهما يكن من أثر ذلك في تقوية الحضارة ورفع منار السلام فإن الفكرة الاستعمارية كانت قوية يومئذ في نفوس الساسة الأوربيين إلى حد جعلهم يضعون أساسا لسياستهم القضاء على قيام دولة في مصر لها هاته القوة والسلطان، وهذا وحده هو السر في إبائهم على مصر أن تستقل بإزاء تركيا التي ضعفت كل الضعف عن مقاومة جيوشها، والتي كانت معرضة لأن تقع هي وعاصمتها تحت سلطانها.
نامعلوم صفحہ
على أن هذا العسف من جانب أوربا لم يوهن عزيمة مصر، وقد ظل شعبها طوال القرن التاسع عشر كله متوثبا يريد تحقيق استقلاله على النحو الذي يستشفه القارئ من تراجم من ترجمنا لهم في هذا الكتاب، وهو هو ذا اليوم قد بلغ من مجهوداته في هذه السبيل مقاما محمودا، وهو لا ريب سيكون في المستقبل كما كان في الماضي عاملا من أقوى عوامل العرفان والحضارة والسلام.
القسم الأول
تراجم مصرية
كليوباترة
صورة تمثال لها في متحف الفن الحديث بروما.
كليوباترة اسم ساحر خلع عليه التاريخ وخلعت عليه الأساطير من ألوان الفتنة بهاء باهرا تضاءلت إلى جانبه أسماء الزهرة وأفروديت وسميراميس وسائر آلهة الجمال، وهاتاسو ونيفرت وسائر الملكات، بل تضاءلت إلى جانبه أسماء الملوك، والشعراء، والكتاب؛ فهي ليست جميلة وكفى، وليست مليكة وكفى، وليست ساحرة الحديث وكفى، وليست ذكية وكفى، وليست أديبة وكفى، بل هي ذلك كله وهي أكثر من ذلك كله، هي الفتنة والسحر والذكاء والأدب والنشاط وقوة الإرادة في أسمى ما تصوره معاني هذه العبارات، وهي مع ذلك آخر البطالسة الذين حكموا مصر عصورا طويلة كانت مصر فيها مهبط وحي الحكمة والشعر والجمال؛ لذلك لم يفت مؤرخ ولا قصاص ولا شاعر أن يتحدث عن كليوباترة وأن يتغنى بحياتها، وأن يصور هذه الحياة على النحو الذي يجب أن تكون؛ ولذلك كان ما أريق من مداد وما سود من صحف في الكلام عن هذه الملكة أكثر من مثله مما يمكن لأية إلهة أو ملكة أخرى أن تفخر به.
وكان حظ كليوباترة أن ولدت بالإسكندرية في عصر بلغ فيه نجم روما غاية سموه، وبدأت مصر فيه دور الترف الذي يسبق الانحلال، وكانت الإسكندرية في ذلك الحين عاصمة الدنيا ومستقر كل ما في الحياة من متاع ونعمة، فكان الناس يتكلمون فيها كل اللغات المعروفة، كما كانت الفلسفة فيها ناضرة مستقرة بكل نظرياتها المتضاربة استقرار جوار حسن ليس فيه شيء من الكفاح أو القسوة، فإلى جانب الأبيقورية الناظرة للحياة نظرة سرور بها وحرص عليها واستمتاع بكل ما فيها، المبتسمة سخرا منها وازدراء لها وإشفاقا على أهلها، كان الرواقيون ينادون بالزهد في الحياة والأخذ بأسباب التقشف واحتقار عرض الدنيا الزائل، وبلغ بعضهم من ذلك حد الدعوة إلى تعذيب الجسد لطهارة الروح، وإلى جانب مكتبة الإسكندرية العامرة الحاوية ثمانمائة ألف مجلد فيها ما شئت من ألوان الحكمة والعلم والتفكير والفن، كانت تقوم المراقص والملاهي، يهرع الناس إليها لينسوا أنفسهم في لهوها ولينهمكوا في ملذاتها وليمتعوا أبصارهم بجمال ساحراتها الراقصات والمغنيات.
وكانت هذه الحياة المتفجرة بينابيع الحكمة واللهو جميعا تموج في محيط بلغ كمال العمارة التي قامت خلال ثلاثمائة سنة كانت منذ أنشأ الإسكندر الأكبر المدينة عام ثلاثين وثلاثمائة قبل الميلاد سني نشاط وعظمة لمصر وفلسفتها وعمارتها، فقد اتصل ما بين هذا الثغر البديع الموقع في امتداده على شاطئ بحر الروم وجزيرة فاروس القائمة وسط البحر ترقب غدواته وروحاته بجسر هفتا البالغ غاية العظمة والجمال، والذي انتهى بالجزيرة إلى أن أصبحت جزءا من المدينة، واتصل بالنيل بقناة كانوب (ترعة المحمودية الحاضرة) التي لم تكن مجرد مجرى للماء والتجارة، بل كانت كذلك مجرى للمسرة والنعيم بما أحاط بها على مدى طولها من حدائق وأعناب ونخيل قامت في أثنائها منازل اللهو ودور المتاع تحيط بها جنات فيحاء جمعت كل أسباب النعمة من زهر عطر وفاكهة نضرة، فأما أهل هذه المدينة فكانوا أهل ذكاء وظرف، وكانوا حريصين على المتاع بكل ما في حياة مدينتهم الزاهرة متاعا عريضا، يتهالكون في ذلك على اللهو وعلى المسرة في مختلف صورهما وألوانهما، فكما كانت فراعنتها تفتن في الترف بما يعجز خيال كل مترف في عصرنا الحاضر، كان الشعب - رجالا ونساء - منغمسا في حمأة اللذائذ الدنيا مسلما نفسه إليها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لكنهم كانوا مع ذلك أميل للاستخفاف بالحياة وما فيها ولو بلغوا من الحياة أعظم مكان، وأي استخفاف أشد من استخفافهم بالفراعنة الآلهة حتى لقد دعوا جد كليوباترة البطين ودعوا أباها بطليموس أوليتا أي العازف بالناي.
وكانت كليوباترة شديدة الولع منذ صباها بالتجول في أنحاء الإسكندرية والوقوف على كل ما في هذا العالم العامر بكل ما في العالم من حياة وحضارة، وفي تجوالها هذا عرفت وتعلمت كثيرا، عرفت كل ما وقعت عليه عيناها الواسعتان الجذاب دعجهما الساحر، وكل ما أحاط به ذهنها الحاد، وتعلمت اللغات والآداب وطرائق التعبير العزيزة على مدرسة الإسكندرية يومئذ، والتي تمتاز بالتورية والرقة والقوة، وكان لها بالكتب ولع وغرام ليس مثلهما ولع ولا غرام، وكانت أميل للشعر وأشد لذلك تفضيلا للأوديسي على التوراة وعلى كثير من كتب الحكمة.
وفي هذا الصبا الناعم عرفت وارثة عرش بطليموس الثاني عشر من ألوان الترف وتذوقت من صوره ما لم يعرفه ولم يتذوقه غيرها ممن لم يؤت ذكاءها ولا علمها باللغات والآداب، فقد كان أبوها الفرعون العازف بالناي المستغرق في ملاذ الحياة بما استحق معه لقب إله الخمر ديونيزوس يدللها بكل ما يلهمه ملك مترف معجب بابنة ليس لها في بنات حواء مثيل، فكان يطوف وإياها مدائن مصر ويركب وإياها النيل من الإسكندرية إلى طيبة ذات الأبواب المائة، يقفان عند ما يحلو لهما الوقوف عنده من المدائن العامرة بآثار مصر القديمة، فإذا تركا طيبة إلى أنس الوجود أقاما فيه من الحفلات ما يجل عن الوصف، وما ليس له مثال إلا فيما أقامته كليوباترة من المآدب لأنطونيو حين غرامه بها ودلها عليه.
نامعلوم صفحہ
على أن الصبية لم تبق في هذا النعيم الملكي طويلا، وإن كانت لم تحرم منه إلا لتعود إليه فتكون به أكثر متاعا، ذلك أن أباها طرد من مصر فالتجأ إلى سوريا حتى عاد مع جند الرومان الذين أوفدهم بومبي، وكان أنطونيو على رأس فرقة من هذا الجند تحت قيادة جاليوس، فذهب مع بطليموس الطريد حتى دخل وإياه الإسكندرية دخول الظافر.
وكانت كليوباترة يومئذ في الرابعة عشرة من عمرها، فلما أيقنت بانتصار أبيها وبعودته إلى مدينة النعيم اجترأت على اختلاس شارة الملك من برنيس زوج أركايلوس خصم أبيها، وجلست مع خديناتها في شرفة القصر وقد ارتدت ثوبا رقيقا أبيض بدا فيه جمالها الساحر أشد سحرا برغم أنه كان في بدء ترعرعه، ولما أقبل أبوها بعد دخول أنطونيو على رأس الجند إلى القصر أمامه شقت هي وسط الجمع طريقا واندفعت تعانق أباها باكية من شدة التأثر، وكانت هذه أول مرة رأت فيها عين الروماني الفاتح الطويل القامة العريض الأكتاف الشره إلى كل لهو ومسرة، تلك الفتاة الطفلة ما تزال، والتي برعت برغم ذلك كل قريناتها من فتيات القصر ونسائه، ولم تنس كليوباترة في دلها وتيهها أن توجه إليه نظرة حلوة فيها أكثر من معنى الاعتراف بالجميل لرده أباها إليها وإلى ملكه.
وعاد أنطونيو إلى روما وعاد بطليموس إلى الحكم وإلى اللهو يستمرئ مرعاه ويمعن فيه بعدما حرم زمنا منه، وكانت ابنته تطوف وإياه أنحاء البلاد ينزلان في المدائن العامرة ويقيمان فيها من أسباب اللذة ما لا يباح لفتاة أن تعرفه، وظلا على ذلك ثلاث سنوات تباعا انتهت بموت الأب بعدما أوصى بالملك لكليوباترة ولأخيها بطليموس الطفل الذي لم يكن يزيد يومئذ على اثنتي عشرة سنة على شريطة أن يتزوج من أخته، وكان زواج الأخ من أخته متعارفا في الأسرات الملكية يومئذ لحرصها على ألا يختلط دمها الفرعوني المستمد من الشمس كبيرة الآلهة بدم الرعايا، وإذ كان هذا الأخ قاصرا عين له قوام ثلاثة اشتركت الملكة معهم في الحكم وإن استأثرت به دونهم إلى حد عظيم.
وقد ملكت قلب المصريين في الفترة الأولى من فترات حكمها بما كانت تغدقه عليهم من صنوف المتاع وبسحرها إياهم بفتنة جمالها، حتى دعيت إذ ذاك حبيبة الشعب وملكة كل نعيم ، لكن عهدها بذلك لم يطل، فقد بعث منيلوس يطلب إليها إرجاع الجند الرومانيين الذين ظلوا عندها، وإذ كان هؤلاء الجند قد استوطنوا الإسكندرية وتزوجوا فيها ومتعوا بنعيمها فقد أبوا مغادرة مصر واستغاثوا بالشعب، ثم جاء من بعد ذلك ابن بومبي لنفس القصد، وكان لأبيه على أبيها فضل إعادته إلى ملكه مما أجلسها هي على العرش بعده؛ لذلك رأت واجبا عليها أن تحسن وفادته، وقابلته فرأت فيه غير أخيها الطفل الذي فرضه الملك زوجا لها، فقبلته ضيفا في قصرها وأجابته إلى ما طلب أن كان أبوه يومئذ في حرب مع قيصر، وقد غاظ ذلك أخاها منها فانضم إلى المؤتمرين بها وعاون على انتقاض الشعب عليها ومحاولته قتلها، وإذ كانت لا تملك الفرار من طريق البحر فرت في ذهبية إلى الصعيد كسيرة القلب أن لم يفعل جمالها في أولئك السكندريين فعله، ونزلت طيبة على صورة لم تعهدها أيام زيارتها المدينة الخالدة مع أبيها المترف المتلاف، وبدلا من أن تجعل مقامها في طيبة الأحياء جعلت مقابر الملوك موضع نجواها كأنما كانت تريد أن ترقد بينهم تنتظر البعث وإياهم آملة في الآخرة ملكا أكثر من ملك مصر ثباتا، لكن أصواتا انبعثت إليها من جوف مقابر هؤلاء الفراعنة العظام تناجيها: أن لا ملك بغير إقدام ولا جلالة من غير كبرياء ولا حكم لمن لم تملك نفسه شهوة الفتح، وأيأستها دعة المصريين من أن تجد منهم أي عون أو مدد، ففرت إلى سوريا وهي في مقدرتها على سحر أهلها أكبر أملا وفي فتنتهم بجمالها أشد ثقة ولم يخنها حدسها، فما كادت تستقر في ربوع الشام حتى سحرت أهلها بجمالها وبلاغتها وإقدامها فالتفوا حولها واجتمع منهم جيش سارت هي على رأسه ممتطية جوادها، لكن المصريين بعثوا هم الآخرين بجيوشهم ورابطوا على حدود ما بين مصر والشام، ووقف الجيشان وجها لوجه لا يلتقيان.
وفي هذه الأثناء هزم قيصر بومبي في موقعة فرسالا وفر المنهزم إلى مصر عله يجد موئلا في بلد له عليه وعلى القائم على عرشه فضل سابق ، لكن أوصياء بطليموس الطفل علموا أن قيصر يطارد غريمه، وخشوا إن هم حموا هذا الغريم أو ألجأوه أن يصب عليهم قيصر جام غضبه، فقتلوا اللائذ بهم، فلما نزل قيصر عليهم وعلم ما فعلوا ركبه الهم وحزن غاية الحزن وأمر أن تقام لبومبي أفخر طقوس الجنازة.
وعرفت كليوباترة أمر ذلك كله، وعرفت أكثر منه أن قيصر لما علم بما بينها وبين أخيها من حرب نصب نفسه حكما بينهما عملا بوصية أبيها أن تحمي روما ملك أبنائه من الشتات والدمار، هنالك فكرت في أن تلجأ إلى هذا الحكم ترفع إليه ظلامتها غير جاهلة ما قد يحمله لها من ضغن أن حمت ابن خصمه وأن مدت بومبي بالرجال والذخيرة، لكنها كانت واثقة من سحرها مطمئنة إلى مقدرتها وفتنتها مؤمنة بأن لا نجاح من غير إقدام، وزادها طمأنينة ما كان من بكاء قيصر حين علم بقتل بومبي، فتركت الجند واستصحبت مؤدبها الأمين أبولو دور، واجتازا طريق البحر حتى وصلا أمام الإسكندرية، بقي أن تدبر الوسيلة للمثول في حضرة قيصر، وكليوباترة نحيفة القوام بضة لينة الملمس، فليس يعجز أبولو دور أن يحملها وأن يزعم أنها بعض المتاع وأنه من رجال روما يريد إيصال ما يحمله لقيصر، فالتفت الصبية الفاتنة في بعض أسمال وأردية من غير أن تبدل شيئا من زينتها الملكية وعطرها، وحملها مؤدبها على كتفه، وزعم حين سأله الحراس عن غايته أنه موصل ما يحمل إلى بعض ضباط قيصر، واجتاز معسكر الرومان حتى أنزل حمله في رفق أمام الظافر على عاهل روما، الباكي عليه حين وفاته.
وكانت هذه هي الساعة التاريخية التي اتجه فيها الزمن غير وجهته، الساعة التي وقف إزاءها القصاص والمؤرخون، أذهلهم البهر وسحرتهم الفتنة كما أذهلا قيصر وسحراه، نضت الملكة الصبية ما التفت به من أطمار وأسمال وبدت في زينة الملكة وعطرها وجلالها، أكانت طويلة أم قصيرة؟ أكان أنفها كبيرا أم صغيرا؟ لم يعرف قيصر في هذه اللحظة من ذلك شيئا، واختلف المؤرخون فيه خلافا كبيرا، وكأنما كان لجمال هذه الفاتنة من الروعة ما لأشعة الشمس من قوة تحول دون التحديق بها، وكأنما بقي هذا الجمال في قوة سحره بعدما مر على صاحبته من عصور وقرون، فكل يختلف في صورته وفي قسماته، على أن كليوباترة لم تحاول فتنة قيصر بجمالها، بل ارتمت عند قدميه ضارعة مستغفرة، وجعلت تتكلم وتشكو وتستعطف، وكان صوتها أفعل سحرا من جمالها، وكانت عبارتها أنفذ إلى القلب من صوتها إلى شغاف الفؤاد، ومن جمالها الذاهب باللب.
جعلت تتكلم وتشكو وجعل قيصر ينصت ويصغي، ثم صار لا يسمع دفاعا ولا شكوى بل أنغاما دونها صوت البلبل وعزف الناي وانتهى بكليوباترة وبه الأمر أن وقفت وجثا هو على قدميها ضارعا مستغفرا، ثم حملها على كتفه كما حملها إليه أبولو دور وذهب بها إلى مضجعه.
وكان قيصر برغم تجاوزه الخامسة والخمسين محبا للنساء، كما كان مثار إعجابهن بقوامه ونظرته وبروحه المذهب الرقيق وعزمته الصادقة القوية؛ لذلك اتصل بينه وبين كليوباترة منذ هذه المقابلة الأولى بما سحره عن كثير مما كان اعتزم لمجده ومجد روما، وجلست هي إلى جانبه في قصرها المنيف تعجب به وتثير إعجابه، وملكته حتى لم تبق في شك من حكومته بينها وبين أخيها، ودعا هو أخاها الطفل ليصلح بينهما، فلما دخل عليهما قرأ في عيونهما ما هاج الدم في عروقه الضعيفة، وما دعاه ليلقي التاج عن رأسه، وليخرج صائحا في الشعب وفي جند روما داعيا إلى الثورة على أخته وعلى قيصر لعهر كليوباترة ولخيانة صاحبها، ولم يرد قيصر أن يقاتل لقلة جنده ولحرصه على استبقاء هذا الطفل مغمضا عينه على ما يفعل الحبيبان، فاسترضاه وصالحه على تنفيذ وصية أبيه بإشراف روما، ورضي الغلام آملا أن يطمئن له الأمر فيصير ملكا وفرعونا وإلها، وظل هو وكليوباترة يرتشفان من كأس الحب وينهلان أعذب موارد الهوى بما يتفق وروحيهما المهذبين، ولقد كانا بذلك سعيدين كل السعادة، ولم يكن ورد سعادتهما مقصورا على اتصال الغرام بين ابنة الملك العازف اللدنة القوام، الموسيقية الصوت والنفس، الرطبة الخلق، الندية النظرة الرشيقة رشاقة الراقصة ، وبين قيصر الساحر الحلو الحديث، بل كان ورد سعادتهما الحق هو الحب، كبل كل واحد منهما صاحبه بأغلال هذه العاطفة القاسية السامية في قسوتها فسعد كل بأغلاله، وكانت كليوباترة أكثر سعادة لأنها استردت مع هذا الحب ملك مصر، ووضعت يدها على تاج روما وصرفت قاهر السكسون والجرمان وسائر دول أوربا عن حروبه في سبيل الجمهورية ليحارب في سبيلها وليقهر أوصياء أخيها، وليثبت لها أركان عرشها بعدما ثبتت في قلبه، وظل كذلك ستة أشهر لا يعرف من أمر روما شيئا ولا يبعث إلى روما بخبر، وإن عرفت روما من أمره مع ملكة مصر كثيرا، وزادت به ارتباطا وازداد لها عبادة حين حملت منه، إذ ذاك لجا في أسباب المسرة يلتمسانها في كل مكان ويرتجيان النعمة من كل الآلهة، فأقاما أعيادا عند الأهرام وأبي الهول، وفي أبيدوس عند قبر إيزيس وأوزوريس، وفي دندرة حيث معبد هاتور إلهة النسل الخصب وفي طيبة ذات الأبواب المائة، وفي أنس الوجود، وفي كل معبد وعند كل إله.
ووضعت كليوباترة غلاما دعته قيصرون وخلعت عليه كل ألقاب الفراعنة آلهة مصر وعواهل روما وحكامها، ثم أبحر قيصر إلى روما ولحقت هي به في أبهة الملك وجلاله، وفي حاشية ليس للرومان بها عهد، وقيصر ظافر والشعوب عباد من ظفر، وقد أقام لمناسبة عودته أعيادا أسرف خلالها فيما خلعه على الشعب من أعطيات ونعم زادت الشعب له عبادة وأنسته ما كان من انصراف قيصر عنه إلى كليوباترة عاما كاملا، لكن هذا الشعب لم يعجب من كليوباترة بجمالها الرائع المترفع، لأن زعماءه وقادته جعلوا يستعطفونه على كالبورينا زوجة قيصر.
نامعلوم صفحہ
ولم يعن قيصر من ذلك بشيء، بل أقام لابنة بطليموس قصرا على نهر التبر جمع فيه من ألوان النعيم ما أبدعه خيال الملكة، وجعل يزورها فيه فتقيم له من المراقص وصنوف اللهو ما ينسيه كل هموم الحكم ومتاعبه، ثم جعل يستقبل أصحابه في قصر التبر ولا يخفي عليهم من صلته بكليوباترة شيئا، وبالغ في الحفاوة بها حتى أقام لها هيكلا نصب فيه تمثالها على صورة الزهرة إلهة الجمال والحب، ودار في خاطره أن يتزوج منها برغم وجود كالبورينا زوجته وبطليموس الطفل زوجها، ومع أن مجلس الشيوخ لم يكن ينظر إلى هذا الزواج بعين الرضا فقد فكر في أن يعدل قوانين روما بما يبيح للرجل أن يعدد زوجاته ما دام لا عقب له، ولقد كان فاعلا وكان قيصرون يصبح يومئذ وارثه على عرش روما ويتغير وجه التاريخ وتبقى مصر مقرا للحضارة كما كانت لولا أن دبرت المؤامرة لقيصر وأن قتله أصحابه يوم أعياد المريخ في العام الرابع والأربعين قبل الميلاد.
بكته كليوباترة ثم عادت إلى مصر مع حاشيتها وأبنائها، وتركت أخاها الملك زوجها فنسيه التاريخ ولم يعرف أحد عنه بعد ذلك خبرا، وأقامت بالإسكندرية متوجسة خيفة أن يوقع بها خصوم قيصر وقتلته، لكن الحروب التي قامت بين أصدقائه وقتلته انتهت بانتصار أنطونيو وأصحابه في موقعة فيليب، ولم يزل ذلك وجلها وظلت في خشية من أن ينزل أكتاف ابن أخت قيصر مصر وهو لابنها من قيصر ألد عدو، لكن نجمها كان ما يزال نجم سعادة، فتقاسم المنتصرون ملك روما ووقع الشرق لأنطونيو، وأنطونيو صديق قيصر ومحبه، وأنطونيو رجل شهوة لا صبر له أمام امرأة، وأنطونيو معجب بجمال كليوباترة منذ سنين، عابد إياها مذ كان يزور قيصر في قصر التبر، مع ذلك لم تر كليوباترة أن تبعث إليه وفودا تهنئه بالملك كما بعثت سائر ممالك الشرق التي وقعت في حكمه، وهي لم تمده في حروبه مع قتلة قيصر بمدد من مال أو رجال، فغاظ ذلك أنطونيو وبعث إليها رسولا أن تحضر بنفسها لتدافع عن ذنوبها، وظل الرسول في قصرها أياما عاد بعدها مسحورا بها آخذا نفسه بالدفاع عنها حتى تحضر إجابة لطلب سيده، وبقيت هي زمنا تعتذر عن عدم مسارعتها لاجتياز البحر بشتى الأعذار، وبقي رسول أنطونيو خلال ذلك يحدثه عن فتنتها بما أذهب صبره، ثم بعثت هي أنها آتية إليه في تارسيس وذكرت موعد وصولها فخف الحاكم إلى المدينة ينتظرها، وأقبل أسطولها يشق عباب البحر حول سفينها السابح تدفعه أشرعة من خز، ويحمل مقدمه الرفيع تمثال آلهة البحر، وتبدو في وسطه مقاصير زينت بأفخر الرياش، وقد ذهب بالشعب لما رأى كل هذا الجمال والجلال فصاح: «هذه أفروديت بل هذه الزهرة أتت تزور إله لهونا المحبوب.»
وبعث أنطونيو برسوله يدعوها للعشاء عنده، فاعتذرت بأنها متعبة ودعته إلى سفينها، فلم يغضب ولم يتردد بل طار إليها وقضى شطرا من الليل في حضرتها نسي فيه الذنوب ونسي العقاب ونسي كل شيء غيرها، ثم دعته في الليلة التالية إلى وليمة عشاء في قصرها ودعت معه جمعا من الأمراء وأرباب الدولة، وما كان أشد بهرهم حينما رأوا الليل ينقلب في ذلك القصر نهارا ورأوا فيه من التماثيل والآنية والطنافس والخدم وألوان الطعام يتناولونها وتطربهم أنغام الموسيقى تطير في الجو مع ريح العطر والزهر، وتمتزج مع أنغام أجسام الراقصات اللدنة بما لم يحط به خيال أحد منهم من قبل، وكليوباترة وسط هذا الجمال الساحر أروع فتنة وأشد سحرا، وأبدى أنطونيو دهشته متى نظمت الملكة هذا القصر وما فيه، فابتسمت قائلة: إنه رسولها الذي بعثت به من أسابيع ثلاثة هو الذي صنع هذا بأمرها.
ودعاها أنطونيو إلى قصره ودعا معها الأمراء وحاول أن يجاريها في البذخ والنعمة ثم ابتسم آخر الوليمة أن رأى محاولته عبثا، ودعته وأمراءه إلى وليمة ثانية قالت إنها تكلفها ثلاثة ملايين درهم فأنكر أنطونيو ذلك عليها، وراهنته إنها فاعلة، وكلف هو أحد الأمراء أن يحصي التكاليف، ولما رأى أن لم تزد الملكة شيئا على ما فعلت في الوليمة الأولى أبدا لها أنه قمرها، فاستمهلته وخلعت من أذنها قرطا فيه جوهرة منقطعة النظير كان الإسكندر أهداها لبعض أسلافها وألقت بها في كوب به خل، فذابت وشربت هي الكوب وما فيه وقمرت أنطونيو، وظلت فعلتها هذه يقصها المؤرخون على أنها بعض العجائب.
وأسرع أنطونيو بالنظر فيما لديه من شئون الملك وعاد وكليوباترة إلى مصر واندفعا في سبيل الغرام تهيج سماء مصر في نفسيهما ما انطوتا عليه من حب اللذات واستباحة كل ألوانها والافتنان فيها، على أن أنطونيو لم يكن مهذبا كقيصر، بل كان جنديا خشنا فج الذهن لا يعرف الرقة ولا يحيط من الأدب أو اللغات بشيء، وإنما حببه إلى الجند ورفعه إلى مقام قيصر سهولة في العبارة التي كان يخطبهم بها ونزول منه إلى مشاركتهم في تذوق اللذات الدنيئة السافلة التي كانوا يتذوقونها، فلم يكن حي من أحياء الدعارة في روما أو بغي من بغاياها لا يعرفه، وكان من أسباب فخره أن أعقب من الأولاد حيثما ذهب ما لا عدد له، فألفت فيه حياة بهيمية قوية لم تكن في قيصر، ولكنها لم تجد فيه حياة العاطفة الإنسانية التي تغذي القلب، وإن قصرت عن إلهاب الدماء، على أن هذا الخلاف بينهما اضطر أنطونيو إلى أن يتعلم ويحضر من الدروس ما يخفف من شعوره بأنه دون كليوباترة، ودفعها هي لتنزل عن التفنن في رقة المتاع إلى هذه البهيمية الثائرة، وقد أنفت ذلك في بادئ الأمر حين كان حرصها على أنطونيو راجعا إلى حاجتها السياسية له، لكنها تذوقته بعد ذلك وبلغت من تذوقه أن لم تكن تطيق مفارقة صاحبها حين جولاته في أحياء الدعارة واللهو، ولم تأنف أن تدفع بكتفيها أيا من رجال تلك الأحياء ونسائها على طريقتهم، وبقيا غارقين في نعمتهما حتى حملت، وخيل إليها أن سيربط الحمل بينها وبين صاحبها كما ربط بينها وبين يوليوس من قبل، لكنه رآها ثقلت حركتها وخمد شعاع روحها، فعاد يفكر فيما كان غافلا عنه من شئون الدولة، ورأى أن لا مفر له من العودة إلى روما ليصالح أكتاف بعدما حزبت عليه فلفيا زوج أنطونيو وهبت لمحاربته، وليستعديه على أهل فينيقيا والشام الذين انتقضوا على روما وخلعوا نيرها، ولم تجد توسلات كليوباترة إليه كي يبقى ولو إلى حين وضعها، فلما قابل فلفيا في اليونان أنزل عليها من سخطه ما كسر قلبها، وغادرها إلى روما فماتت قبل وصوله إليها، وأصلح موتها بينه وبين أكتاف وتزوج من أخته أكتافيا برضا مجلس الشيوخ، وكانت أكتافيا عدل كليوباترة في سنها وجمالها، وكانت أم طفلين من زوجها الأول، محبة لحياة العائلة ونظامها بما يسر لها أن تسير زوجها وفق رأيها، فأنطونيو ككل رجل له مثل هذه الطبيعة الحيوانية يهون على كل امرأة أن تقوده، ولقد ذهبت معه إلى اليونان وظلت معه زهاء ثلاثة أعوام أعقبت له في أثنائها ابنين شغلت بهما وبأولادها الآخرين وبأولاد أنطونيو من فلفيا، فأحرج ذلك صدر أنطونيو منها وجعل يراها أما لا يعنيها منه إلا أبوته لأبنائها، من غير أن تعير مجده ولا عظمته اهتماما كالذي كانت تبديه كليوباترة، إذ كانت تدعوه أنطونيو الأكبر، وبلغ من حرج صدره أن اتهمها بأنها أحن على أخوتها لأكتاف منها على زوجيتها له، ثم بعث بها إلى روما وانطلق هو إلى سوريا يجني ثمار النصر الذي أحرزه بعض قواده.
في هذه السنوات الثلاث كانت كليوباترة تعاني من الهم والألم أشدهما تبرما ولذعا، علمت بما كان من زواج أنطونيو وأكتافيا على أثر وضعها توءمين دعت أحدهما الشمس والأخرى القمر، فاضطربت للخبر وما كانت من قبل تضطرب من خشية امرأة، وزاد في مخاوفها ما قد يؤدي هذا الزواج إليه من القضاء على آمالها في قيام قيصرون مقام أبيه، هنالك غادرت الإسكندرية إلى دندرة وشغلت نفسها بأن أقامت لهاتور معبدا ثم انقبضت نفسها لهذه الوحدة التي أحاطت بها فعادت إلى عاصمتها وشغلت نفسها من جديد ببناء قبرها، وكان أكبر جهادها أن تنسى أنطونيو باستدامة العود إلى تذكر قيصر، ونجحت في ذلك نجاحا سرها، لكن هذه الذكرى وذلك الاشتغال بما بعد الموت لم يكونا ليتفقا مع ما يتحرك به الشباب في جسد اعتاد ملذات النعيم ثم قسر على عفة قاسية، فعادت إلى مثل ما عودها أنطونيو من المرح في الأنحاء التي يلهو الشعب فيها، لكن ذلك لم يطفئ من رغباتها ما كان كامنا.
ولما عاد أنطونيو إلى الشام بعث إليها رسولا يستقدمها إليه بأنطاكية، ويل له من جريء! أيظن أن ملكة الملوك تطير إليه بعد أن نسيته، بل بعد أن أبغضته وبعد أن هجرها إلى أحضان امرأة غيرها قضى معها أكثر مما قضى مع كليوباترة؟ لكن لا! تضاءل ذلك كله أمام دعوته إياها فطارت تعد عدتها للسفر واجتازت البحر إليه لائمة عاتبة، وكفاها أن أقسم لها أن قلبه لم يعرف غيرها ولم يتعلق بسواها لتعود وإياه سيرتها الأولى، وأنطاكية كانت ثالثة مدائن بحر الروم بعد روما والإسكندرية، فكان لهما فيها من مسارح اللهو ما يسد كل شهواتهما، ولكي تؤمن بحبه إياها عقد عليها زواجه منها وخلع عليها ثلاث ولايات بدل ثلاث السنوات التي غابها عنها.
وبعد زمن نهلا فيه ما طاب لهما من ورد النعيم جهز لمحاربة خصوم روما فيما وراء الفرات، ورفض مشيئتها أن تصحبه لما في ذلك عليها من مشقة، لكنه عاد إلى سوريا محطما جيشه، فجاءت إليه من خير مصر مالا ورجالا بما أنساه هزيمته، وأقامت معه فأنسته فتنتها كل متاعبه، ثم تلقى رسالة من زوجه أكتافيا أنها آتية من روما في عدة وعديد، فتأثر حين رآها تقابل صده لها وجفوته إياها بهذا الكرم والإخلاص والحب، لكن كليوباترة وقفت في سبيل ما أتت أكتافيا فيه، ورفض أنطونيو أن يرى أخت عاهل روما أو أن يقبل منها مددا، فعادت إلى المدينة الخالدة ذات التلال السبعة مقهورة آسفة.
وعد الرومانيون هذه الفعلة على أنطونيو، فلما استرد قواه عاد فحارب خصوم روما وانتصر عليهم، لكنه بدلا من أن يحتفل بانتصاره في روما ذهب يحتفل به في الإسكندرية ويعتبرها عاصمة تعادل روما، وذلك ما لا طاقة للرومانيين باحتماله، فأثار أكتاف الرومان عليه، وابتهجت كليوباترة لذلك وجهزت أسطول مصر الضخم، وسارت وأنطونيو إلى أثينا في انتظار ما ستتمخض عنه الحوادث راجية الانتصار على أكتاف حتى تجلس قيصرون على عرش أبيه، لكن نجمها كان قد بدأ ينحدر نحو المغيب، فقد التقى الأسطولان في (أكسيم) وكانت الملكة في سفينتها «الأنطونياد» في مؤخرة الأسطول المصري ترقبه، وبدأت المعركة يحمى وطيسها وشعرت الملكة بأن حلمها أن تحكم روما وأن تقيم ابن قيصر مقام أبيه على عرش الغاصب أكتاف يتلاشى ، عند ذلك طار صوابها وتولاها الذهول، فلما أفاقت ألفت الريح تهب نحو مصر فأمرت رجالها بالعودة، وما يزال الأمل في النصر مضطربا بين العسكريين، والتقطت أنطونيو من سفينته وأخذته معها في «الأنطونياد» وعادا إلى مصر وقد تولاه الأسى أن رأى نجمه يأفل وعظمته تذوي وتذبل.
فأما كليوباترة فلم تفل الهزيمة من غرب عزمتها، بل نقلت أسطولها برا من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر راجية أن تغزو الهند على نحو ما كانت تفكر مع قيصر، لكن هيرود عدوها في سوريا لم يمهلها أن قتل رجالها وأحرق سفنها، هنالك تحطمت كل آمالها الإمبراطورية واضطرت أن تقف كل حياتها ونشاطها على الدفاع عن مصر.
نامعلوم صفحہ
أسلم أنطونيو نفسه للشراب ليله ونهاره آملا أن ينسيه الشراب هم انكساره، وظل في شرابه حتى علم أن أكتاف آت من طريق سوريا لغزو مصر وأكبر همه أن يطفئ حياة ابن قيصر وكانت مشابهته لأبيه أكبر شهيد على اغتصاب ابن عمه عرش روما، وأخذ أنطونيو قيادة جيوش مصر لكن الحظ إذا عثر لج به العثار، فانهزم أنطونيو فعاد إلى قصر كليوباترة وأمر أحد عبيده أن يقتله، فأمسك العبد الخنجر وتظاهر بطعن سيده ثم طعن نفسه فهوى فأصغر ذلك أنطونيو في عين نفسه فقضى عليها بأن ألقى بنفسه على النصل وذهب يعالج آلام الاحتضار يسلكها سبيلا لراحة الموت، وقضى بين ذراعي محبوبته الفاتنة، فبكته أحر بكاء ثم دفنته في القبر الذي شادته حين هجرها، وبالغت في الحزن عليه لما أحست من سوء ما أعد لها القدر من مصير بعده.
ودخل أكتاف الإسكندرية ظافرا وكل همه أن يقضي على ابن عمه الذي فر من وجهه وحاولت كليوباترة أن تلعب به كما لعبت من قبله بقيصر وبأنطونيو، وفي سبيل أبنائها وفي سبيل ملك قيصرون لم تكن لتعنى بشيء أو تتورع عن شيء، وبرغم حزنها على أنطونيو وجزعها على مصيرها ومصير أبنائها ولزومها القبر تقضي فيه وقتها باكية مكتئبة فقد ظفر أكتاف منها بساعات حديث شهي، وكان كل همه أن يأخذها إلى روما وأن تسير في حفلات نصره ليرضي بذلك شهوة انتقامه وانتقام أخته منها، وليقدم للشعب الروماني منظرا تبتهج له قلوب الشعوب، منظر ذل العزيز، وعرفت هي هذا فثارت في عروقها كل دماء البطالسة فراعنة مصر الأعظمين، لكنها لم تكن قادرة إلا على نفسها، وكانت قدرت هذا المصير ووطنت عليه نفسها وأوصت خادما من أتباعها أن يحضر لها ثعبانا في فاكهة طعامها يوم تشير له إلى جبينها، وأشارت على هذا الجبين المصقول يوم أيقنت أن أكتاف غريمها يريد أن يذلها، ونزعت التين واحدة بعد واحدة ثم أمسكت الثعبان فوضعت فمه في ثديها ليبعث إليها الموت من خلاله، وكم بعث هذا الثدي الحياة إلى أبنائها وإلى الذين أنعمت عليهم الآلهة بالمتاع بها.
وكان معها خادمتاها إيراس وشارميون فشاركتاها مصيرها بعدما حلتاها بكل حلي ملكها الذي تحطم، والذي حاربت حتى المقادير في سبيل عزه ورفعته منذ مولدها إلى مماتها (من سنة 69 إلى سنة 30 قبل الميلاد).
ويومئذ ذهبت إلى بارئها أرواح كثيرين من عشاق فاتنة التاريخ، ويومئذ انطفأ نجم كان منيرا في سماء الجمال والذكاء والقوة والنشاط، وانطفأ معه سراج أسرة البطالسة كما انطفأ من مجد مصر حظ عظيم.
الخديو الأول إسماعيل باشا
لئن صح أن كان لولاية محمد علي حكم مصر أثر مباشر في تاريخها الحديث، وصح أن كان لشق قناة السويس أثر مباشر كذلك في توجيه هذا التاريخ وجهة خاصة، فالذي لا ريب فيه أن أكبر الأثر الذي خضعت وما تزال تخضع له مصر حتى الآن إنما ترتب على حكم إسماعيل باشا، فأكبر مظاهر الحضارة التي تراها اليوم في مصر يرجع إليه: إليه يرجع فضل إنشاء السكك الحديدية وتنظيم البريد، وله الفضل الأول في النظام القضائي القائم في مصر حتى اليوم، وله أكثر من ذلك كله الفضل الأكبر في شعور الأمة المصرية بقوميتها وبكيانها، ثم إن عليه تبعة الارتباك السياسي الذي لا تزال مصر تجاهد بكل قواها للخروج منه، وتبعة الاضطراب المالي الذي شل حركة البلاد سنوات طويلة وهو ما يزال إلى اليوم باقي الأثر، وعليه أكثر من ذلك كله تبعة تسليم البلاد ماليا واقتصاديا وسياسيا إلى أيدي الأجانب.
فهذه الستة عشر عاما التي رأته على عرش مصر (من سنة 1863 إلى سنة 1879) والتي شهدت من مظاهر النشاط المعمر، ومن فضائح الظلم المخرب، ومن البذخ والإسراف اللذين لا يعرف التاريخ ولا تعرف الأقاصيص لهما نظيرا، والتي انتهت بسقوط عاهل مصر العظيم بعد أن جاهد أمته فأجهدها، وبعد أن جاهد أوربا فأخضعته لها، وبعد أن جاهد القدر فهوى به عن عرشه وأخرجه من مصر حسيرا ينظر إلى شواطئها تبتعد عنه بعين دامعة وقلب كسير، هذه الستة عشر عاما هي التي جرت إلى مصر مظاهر الحضارة الأوربية، وهي التي جرت على مصر الخراب، وهي التي أيقظت في شعب مصر الروح الاستقلالية التي لم ينسها يوما من الأيام، وهي التي أججت في نفوس المصريين نيران كراهية الاستعباد والظلم والحرص على الحرية والعدل.
ولم يكن عجيبا أن تترك هذه الأعوام الستة عشر في مصر كل هذا الأثر وإسماعيل باشا كان حاكم مصر المطلق، فقد كان بشخصه بطلا من أبطال الأقاصيص، وكانت أيام حكمه أسطورة لا يسلم العقل بها لو رواها التاريخ عن عصر قديم، كان إسماعيل ساحرا أعظم السحر، ذكيا أشد الذكاء، وسيم الطلعة حاد النظرة ماضي العزيمة جذابا لكل من اتصل به، وكان مع ذلك قصير النظر شرها في كل مطامعه وشهواته مغامرا في سبيلها مجازفا لا يهون منها أي حذر، وكان فيه من دم محمد علي إقدام لا يعرف التردد، وبطش لا هوادة فيه، وقسوة لا يتسرب إليها أمل في رحمة، وكانت هذه الصفات كلها بالغة منه فوق ما تبلغه من أذكياء الناس والباطشين منهم، ثم إنه كان مولعا أشد ولع بالمظاهر الاجتماعية للحضارة الأوربية، وإن غاب عنه الجانب المعنوي منها، وهو الجانب الذي يحركها ويمدها بكل ما فيها من قوة؛ لذلك سخر ذكاءه وإقدامه ليجعل لعرش مصر مظاهر العروش الأوربية، وليكون قصره كقصر لويس الرابع عشر إن لم يكن أبهى منه وأزهر، وليقول عن مصر إنها أصبحت قطعة من أوربا، وفي سبيل ذلك أنشأ كثيرا وخرب كثيرا وأثقل كاهل مصر بدين ما تزال تنوء إلى اليوم به، وما تزال تحتمل بسببه نقصا في سيادتها وذبولا في استقلالها وعزتها.
ولد إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي بمصر في 31 ديسمبر سنة 1830 وتربى في المدرسة التي أنشأها جده محمد علي باشا بالقصر العالي، ثم أوفده جده لما بلغ السادسة عشرة من عمره مع طائفة من الشبان إلى باريس حيث التحق فيها بمدرسة أركان حرب
L’ecole de l’etat major
نامعلوم صفحہ
ثم عاد إلى مصر بعد أن أتم بها دراسته.
وكان عباس الأول والي مصر يومئذ، وقد حدث خلاف بينه وبين أفراد العائلة ومن بينهم سعيد باشا على اقتسام التركة، فذهبوا إلى الأستانة يحتكمون إلى جلالة السلطان، وفض السلطان النزاع بأن أوفد اثنين من رجاله إلى مصر سويا الخلاف، وعاد أفراد العائلة العلوية خلا إسماعيل الذي ظل بالأستانة وعين فيها عضوا بمجلس أحكام الدولة العلية.
وفي سنة 1854 تولى سعيد باشا أريكة مصر خلفا لعباس الأول، فاستقدم إسماعيل وجعله على رئاسة مجلس أحكام مصر في مثل وظيفته التي كان يشغلها بالأستانة، ولم يكن إسماعيل يومئذ وليا للعهد، بل كان أخوه أحمد أكبر رجال العائلة، وكان بذلك صاحب عرشها بعد سعيد، لكن أحمد توفي وآلت ولاية العهد لإسماعيل، من يومئذ جعل سعيد يخشى وجوده على مقربة منه فجعل يوفده في مهمات خاصة إلى البابا وإلى نابليون الثالث وإلى الباب العالي بالأستانة، وفي سنة 1861 نشبت فتنة بالسودان فبعث به على رأس أربعة عشر ألف مقاتل لقمعها، ونجح إسماعيل في ذلك وعاد وله في أعين الشعب مقام كريم، ولما توفي أخوه أحمد وآلت إليه ولاية العهد ساءت العلاقة بينه وبين عمه الوالي إلى حد أنه لما توفي سعيد باشا في 18 يناير سنة 1863 ونودي به واليا مكانه حدد للتشريفات بالقاهرة نفس الساعة التي كانت محددة لسير جنازة سعيد بالإسكندرية، فلم يحتفل بالدفن احتفالا رسميا ولم يحفل بالمشهد أحد.
وقد انتعشت النفوس بأكبر الآمال لأول ولاية إسماعيل باشا الحكم، أن كان الناس في سعة بسبب انتظام جباية الضرائب أيام سعيد وارتفاع أسعار القطن ارتفاعا عظيما ترتب على حروب الانفصال بين شمال الولايات المتحدة وجنوبها، وأن أبدى إسماعيل من الحرص على حضارة مصر وإصلاحها ما جعل الرجاء في المستقبل عظيما، وكان أول ما صنعه إسماعيل مما استراحت له النفوس أن نشر في الناس على أثر ارتقائه العرش برنامجا خلابا كله المبادئ الحرة والوعود المغرية بخير الأمل والإصلاحات الواسعة على أحدث النظم الأوربية، وفي هذا البرنامج وعد بإلغاء السخرة والرقيق والاتجار به، وبإصدار قوانين خاصة بالتعليم وبتحديد مخصصات والي مصر، وتوقع الناس أن ينفذ هذا البرنامج وأن تخطو مصر الخطى الواسعة التي تترتب حتما على تنفيذه لما بدا على إسماعيل بعد عودته من دراسته بأوربا ومن سياحاته الكثيرة فيها من الحرص على تنمية ثروته الخاصة، وزاد الناس رجاء في ذلك ما كانت عليه حال البلاد إجمالا من الانتظام والطمأنينة.
لكن إسماعيل حرص - إلى جانب نشر هذا البرنامج - على نشر حالة الخزانة المالية وبخاصة فيما يتعلق بالديون التي خلفها سلفه سعيد باشا، ومع أن هذه الديون لم تكن تزيد في التقديرات الرسمية التي عرفت إلى حين موت سعيد على أربعة ملايين من الجنيهات، فقد ظهرت في البيان الذي نشرته حكومة إسماعيل باشا أحد عشر مليونا ومائة وستين ألفا من الجنيهات، والسبب في نشر هذا البيان ليس مجرد الحرص على تحديد ما للدولة وما عليها، فمثل هذا الحرص لم يكن معروفا في ذلك الوقت، وإنما السبب أن إسماعيل باشا كان يرى ما يقتضيه تنفيذ برنامجه العظيم من طائل النفقات مما لا سبيل إلى الحصول عليه من غير طريق الاقتراض؛ لذلك أراد أن يبين للناس وللأوربيين خاصة أن سلفه الذي لم يصنع شيئا لحضارة مصر أكثر من هذا الجيش الذي اختاره من طوال القامات، والذي كان يصحبه أنى ذهب، هو الذي بدأ سنة الاقتراض وهو الذي اقترض هذا المبلغ العظيم من غير فائدة للبلاد.
والواقع أن مطامع إسماعيل كانت عظيمة تنوء بها موارد مصر، فقد أراد أن يصل إلى ما رمى إليه جده محمد علي من استقلال البلاد، لكنه كان يعلم أن تحقيق ذلك بالسيف غير ميسور، وأنه على كل حال عرضة لأن يصطدم من معارضة أوربا بما اصطدمت به انتصارات مصر أيام جده، وكان يعلم كذلك ما للرشوة من أثر في وزراء الباب العالي، فإذا هو سخا بيده استطاع أن يحصل على هذا الاستقلال شيئا فشيئا، ثم إنه رأى من جهة ثالثة أن لا سبيل للحصول على المال اللازم لهذه الغاية ولسداد أطماعه وشهواته إلا أن يظهر أمام أوربا حاكما غربيا يريد الإصلاح بالفعل، فنشر البرنامج المشار إليه ونشر قائمة بديون سعيد، وأبدى من مظاهر العطف الإنساني على رعاياه ما جلب إليه أنظار أوربا، من ذلك أنه لم يوافق على الاستمرار في تنفيذ اتفاقية قناة السويس التي عقدت في عهد سلفه سعيد باشا بينه وبين المسيو فردينان دلسبس، لأنه رأى شروطها قاسية بالنسبة لمصر وبالنسبة للعمال المصريين الذين كانوا يرهقون في حفر القناة أشد إرهاق، يسامون الخسف ويضربون بالكرابيج ويطعمون الزقوم، ويكادون لا يقتضون عن عملهم أجرا، ولما استحر الخلاف بين إسماعيل وشركة القنال ارتضى الطرفان تحكيم نابليون الثالث.
ولسنا نستطيع أن نفهم هذا التحكيم إلا على أنه نوع من الكبرياء والغرور، فنابليون الثالث إمبراطور فرنسا، وشركة القنال على صفتها الدولية كانت ما تزال في كل مظاهرها شركة فرنسية تعني إمبراطور فرنسا حمايتها، فتحكيمه مع ذلك نوع من الكبرياء والغرور معناه أنه لا يجوز لغير رأس من أكبر الرءوس المتوجة أن تنظر في خلاف بين إسماعيل والشركة الدولية العالمية، وانتهى التحكيم بإلزام مصر بأن تدفع للشركة تعويضا عن عدم تنفيذ شروط الاتفاق أربعة وثمانين مليونا من الفرنكات، أي ثلاثة ملايين وثلاثمائة وستين ألفا من الجنيهات، فإذا أضيفت نفقات الدعوى وما قامت به الحكومة المصرية من أعمال النشر والإذاعة وما كان يتقاضاه القائمون بهذه الأعمال من باهظ النفقات لم يكن غلوا تقدير ما خسرته مصر في هذه الحركة بأربعة ملايين من الجنيهات.
وبعد زمن وجيز من ولايته الحكم جاء جلالة السلطان عبد العزيز إلى مصر ومعه الصدر الأعظم فؤاد باشا، فكانت هذه أول فرصة عرضت لإسماعيل كي ينفذ ما جال بخاطره كوسيلة لبلوغ الغاية التي صبا إليها من قبل جده محمد علي، ولم يكفه ما أقامه لجلالة السلطان من أعياد فاقت في الفخامة كل ما يتصوره خيال السلطان الشرقي، بل نفح الصدر الأعظم بمبلغ زهيد مقابل الخدم التي أداها أو يمكن أن يؤديها لبقاء علاقات المودة والصفاء بين والي مصر وجلالة السلطان، هذا المبلغ الزهيد هو ستون ألفا من الجنيهات.
على أن تباشير الخير التي جعلت المصريين يستقبلون ارتقاء إسماعيل العرش بالبشر والتهليل لم تدم طويلا، فقد انتهت حرب الانفصال بين شمال الولايات المتحدة وجنوبها وعادت أسعار القطن فانحدرت من ستة عشر جنيها للقنطار إلى ثلاثة جنيهات أو ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه، وفتكت بالزراعة المصرية آفات أنقصت من دخل الضريبة العقارية واضطرت الحكومة معها لشراء الماشية والغلال لتموين الأهالي، مما خسرت معه ما يزيد على مائة وعشرين ألفا من الجنيهات، ثم إن إسماعيل كان مغرما أشد الغرام بتملك الأطيان حتى لقد بلغت مساحة «دوائر» العائلة المالكة في سنة 1865 ما يزيد على خمس الأطيان المنزرعة في مصر الوسطى وفي الوجه البحري.
ذلك كله مضافا إلى حاجات الميزانية العادية، وما احتاجت إليه الإصلاحات العامة التي بدأ إسماعيل بالقيام بها تنفيذا لبرنامجه، جعل الالتجاء إلى الاقتراض أمرا لا مفر منه، وقد بدأ إسماعيل فعلا بالاقتراض منذ ولي الحكم، فلما انقضت على ولايته سنة وبعض السنة كان الالتجاء إلى المرابين في مصر غير كاف لحاجاته، وكان لا بد من الاقتراض من بيوتات مالية كبيرة في أوربا، ولم يجد إسماعيل عنتا في استصدار تصريح بالاقتراض من الأستانة، وبذلك استطاع في 8 سبتمبر سنة 1864 عقد أول قروضه وقدره 5704000 جنيه.
نامعلوم صفحہ
كيف صور إسماعيل لنفسه برنامج الإصلاحات العامة؟ وما هي الطريقة التي أراد أن ينقل بها مصر من بلد شرقي بعيد عن مظاهر الحضارة الأوربية إلا القليل الذي جاء مع نابليون والبعثة الفرنسية، والذي دخل إلى مصر سدا لحاجات محمد علي الحربية؟ هي صورة غاية في البساطة، يجب أن نقيم مدنا أوربية النظام في طرقها وفي عمارتها وفي بساتينها، فما يلبث المقيمون بها أن يصطبغوا بالحضارة الأوربية.
ويجب أن ندخل أحدث المخترعات والنظم كالسكك الحديدية والبريد والتلغراف، فما يلبث الناس أن يفهموا هذه الاختراعات والنظم وأن يصيروا كأصحابها، ويجب أن نعلم جماعة من النشء ليكونوا واسطة احتفاظ بمظاهر الحضارة هذه، أما الشعب فلم يكن إسماعيل يأبه له كثيرا لأنه كان كغيره من الحكام الشرقيين إلى يومئذ، وككثير من الحكام الغربيين إلى زمن غير بعيد قبله، يعتبر مصر كما اعتبرها جده من قبل مزرعة له، مركز الشعب فيها مركز العبد أو الخادم، وقد أراد إسماعيل أن يصل لتحقيق فكرته من الحضارة والإصلاح في سنوات مما لم تصل أوربا لتحقيقه إلا في قرون، فبدأ تنظيم القاهرة على نظام باريس وغير باريس من مدائن أوربا الكبرى يخطط فيها الشوارع ويقيم القصور وينشئ الدواوين ودور الحكومة ويغرس البساتين، وجعل من جانبه يعيش عيشة بذخ لم يتهيأ لخيال شاعر ولا قصاص من قبل، وطبيعي أن اقتضى القيام بذلك كله من النفقات ما تلاشى معه قرض سنة 1864 أسرع التلاشي وما كثرت معه الديون السائرة التي كان يقترضها من المرابين الأجانب المقيمين بمصر كثرة اضطرته للتفكير من جديد في الالتجاء إلى أوربا كي يعقد قرضا آخر.
ولم يكفه قرض واحد، بل كان وزيره نوبار باشا يتفاوض له مع كل البيوتات المالية وعقد له في ثلاث سنوات ثلاثة قروض: قرض سنة 1865 وقدره 3387000 جنيه، وقرض سنة 1866 وقدره ثلاثة ملايين من الجنيهات، وقرض سنة 1867 وقدره 2080000 جنيه، لكن هذه الملايين كلها لم تكن شيئا مذكورا إلى جانب النفقات الباهظة التي كان يقوم بها إسماعيل باشا.
وماذا تريد من رجل أقل أطماعه أن يصل ليكون ملكا على بلاد مستقلة استقلالا داخليا على الأقل؟! وكم كلفه ذلك من باهظ الرشوة يدفعها للكثيرين من رجال الباب العالي بالأستانة! ولقد كانت أول خطوة خطاها في هذا السبيل أن حصل في سنة 1866 على فرمان من جلالة السلطان بجعل الوراثة في أبنائه بدلا من جعلها في أكبر العائلة كما كانت من قبل، ثم حصل كذلك على ضم سواكن ومصوع لمصر بعدما سلخا عنها من بعد حكم محمد علي.
ثم إنه من بعد أن حكم نابليون الثالث إمبراطور فرنسا في الخلاف بينه وبين شركة قناة السويس أصبح صديقا حميما للشركة، وأصبح ينتظر اليوم الذي يعلن فيه افتتاح القناة، ليدعو العالم كله كي يشهد هذا التحوير البديع لنظام الطبيعة تحويرا من شأنه أن يغير سير الوجود الاقتصادي والتجاري تغييرا خطيرا، وكانت سنة 1869 هي السنة التي حددت لهذا الافتتاح، وكانت قروض السنوات الثلاث السالفة الذكر قد نفدت كلها، وتزايد الدين السائر مع ذلك تزايدا جعل إسماعيل يفكر في الحصول على المال للظهور بالمظهر اللازم في حفلة الافتتاح تفكيرا جديا استغرق كل مواهبه وكل ذكائه.
وفي هذا السبيل سافر في سنة 1867 إلى أوربا وزار باريس ولندره واستضافه نابليون الثالث والملكة فكتوريا، وكان معه في هذه السياحة وزيره نوبار باشا المطلع على دخائل مفاوضات البيوتات المالية والقدير بدهائه وخبثه على القيام بأعمال في السياسة جسام، وفي هذه الزيارة بدئ الحديث في مسألة تعديل نظام الامتيازات الأجنبية، فقد كان إلى يومئذ كما كان إلى يوم إلغائه في تركيا قائما على القاعدة القانونية التي تقرر أن المدعي يقاضي المدعى عليه أمام قضاته، وكان من أثر ذلك أن شعر الأجانب أنفسهم بالارتباك في مقاضاة بعضهم بعضا، فاستقر رأي إسماعيل ووزيره على إقامة نظام المحاكم المختلطة في مصر، على أن يشمل اختصاص هذه المحاكم الشئون الجنائية كذلك، ومنذ هذه الزيارة التي قام بها إسماعيل لأوربا في سنة 1867 فتحت مسألة تعديل النظام القضائي في شأن الأجانب، وظلت المفاوضات فيها مستمرة بعد ذلك ثماني سنوات حتى كللت بالنجاح في سنة 1875، لكن هذه المسألة لم تكن الجوهرية يومئذ، إنما المسألة الجوهرية كانت الحصول على المال لسداد الديون السائرة فيما أعلنه إسماعيل باشا المفتش وزير مالية إسماعيل، ولتحضير حفلة افتتاح القناة في رأي المستر كيف الذي حقق أسباب ديون إسماعيل في سنة 1870 كما سنرى، وقد نجح إسماعيل في عقد قرض تم توقيعه سنة 1868 قيمته الاسمية مبلغ 11890000 جنيه والمتحصل الحقيقي منه مبلغ 7193334 جنيه، وقد قبل إسماعيل ضمن شروط هذا القرض أن يمتنع عن الاستدانة لمدة خمس سنوات مقبلة، مما يدل على أنه كان في أشد الحاجة إلى المال، وكان افتتاح القناة في ذلك الظرف هو شاغل إسماعيل الأكبر.
فلقد حرص على أن يدعو إلى هذه الحفلة كل الرءوس المتوجة في أوربا وأكبر عدد من ذوي المقام والمكانة في العالم، وكان أكبر همه من هذا أن يشهد هؤلاء جميعا كيف نقل مصر من بلاد شرقية أفريقية فجعل منها بلادا غربية متحضرة، وفي الحق أنه أعد لهذا المظهر خير عدته، فقد بنى في القاهرة قصورا تضارع أفخم قصور المدائن الأوربية العظمى: بنى قصر الجيزة الذي انقلب في العهد الأخير حديقة للحيوانات، ووصل بينه وبين القاهرة بكوبري قصر النيل، وبنى قصر الجزيرة الذي آل أخيرا إلى الأمراء آل لطف الله، وبنى غير هذين من القصور الشاهقة ومن دواوين الحكومة ما تعتز بمثله مدائن أوربا، ثم أعد مسرح الأوبرا وكلف الموسيقي الإيطالي الكبير فردي فوضع أوبرا عايدة لتمثل في أثناء حفلات الافتتاح، وأنشأ حديقة الأزبكية في وسط القاهرة أسوة بالحدائق العامة في العواصم الكبرى.
وليتيسر للزائرين وبخاصة الإمبراطورة أوجيني زوج نابليون الثالث زيارة آثار الفراعنة اختط طريق الأهرام في أشهر معدودة، هذا إلى ما مد من خطوط السكة الحديدية، وإلى ما شيد من مدينة الإسماعيلية على ضفة القناة، كما أنه كان قد أنشأ في مختلف أنحاء القاهرة كثيرا من المدارس الجديدة، كما أعاد المدارس التي كانت قد أنشئت في عهد جده محمد علي باشا واضمحلت من بعده: فأنشأ مدارس المبتديان والتجهيزية والمهندسخانة والمساحة والألسن والعمليات والإدارة واللسان القديم والتجارة ومدرسة للبنات ومدارس كثيرة أخرى في القاهرة والإسكندرية والأرياف، وكذلك كان من حقه أن يفخر بهذه المنشآت العظيمة وأن يريها لملوك أوربا ليعلموا أنه أكثر حضارة من متبوعه الأعظم سلطان تركيا ، وأنه إذا طلب يوما أن يستقل بحكم مصر فطلبه لا شيء من المبالغة فيه.
وسافر من جديد إلى أوربا سنة 1869 وعاد بعد ما دعا كل الرءوس المتوجة إلى حضور الاحتفال بافتتاح القناة، وقد أجاب الدعوة منهم عدد غير قليل، ثم تم افتتاح القناة في خمسة أيام، ففي 16 نوفمبر سنة 1869 ركب المدعوون بواخرهم وعددها ثمان وستون ترفرف فوقها أعلام مختلفة ويتقدمها (النسر) سفين الإمبراطورة أوجيني زوج نابليون الثالث التي جاءت بالنيابة عن زوجها، وقطعوا المسافة من بورسعيد إلى الإسماعيلية في ذلك اليوم، وبعد أن أقيمت في الإسماعيلية أعياد استمرت يومي 17 و18 نوفمبر ركب المدعوون من جديد بواخرهم يوم 19 وبلغوا السويس يوم 20 نوفمبر، ولم يكتف إسماعيل بهذا بل طاف بضيوفه العظام أنحاء مصر يظهرهم على ما جدد فيها من حضارة تضارع حضارة أوربا، وقد كلفته هذه الأعياد الباهرة - حسب التقديرات الرسمية - أربعة ملايين من الجنيهات.
وانتهت الأعياد وأضواؤها الباهرة وابتساماتها الخلابة وأجال إسماعيل بصره يريد متابعة أعماله فإذا خزانة الدولة قفر، وإذا هو في أشد الحاجة إلى المال، ولم يكن يستطيع أن يقترض وهو مقيد في عقد سنة 1868 بألا يعقد قرضا جديدا قبل مضي سنوات خمس، فلجأ إلى المرابين من جديد ولجأ إلى وسيلة تشبه ما يسميه الفلاحون اليوم (البيع على الوجه)، فكان يبيع آلاف الأرادب من الغلال قبل زرعها ويقبض ثمنها، فإذا جاء موعد التسليم أعطى ما يجبى من الضرائب غلالا ثم اشترى الباقي بأسعار أعلى بكثير من الأسعار التي باع بها، ولجأ إلى غير ذلك من الوسائل المخربة حتى اضطر جلالة سلطان تركيا برغم ما أصاب وزراؤه من أموال إسماعيل أن يبعث له يحظر عليه الاقتراض بغير تصريح سابق منه.
نامعلوم صفحہ
لكن ذلك كله لم يوهن من عزيمة إسماعيل الصلب ولم يثن من إرادته، يجب أن يوجد المال للقيام بمشروعاته ولمضاعفة هذا البذخ الذي كان يعيش فيه، والذي اضطره لنثر الذهب من الأبواب والنوافذ نثرا، وهل تراه يرضى أن يقول لرجل من أتباعه الذين يتولون تسليته أو لجارية من مئات الجواري اللاتي كانت تترنم بأصواتهن قصوره: إن سيدكم قد عرف أخيرا كلمة المستحيل، كلا، ليس هذا من خلق إسماعيل، فليعقد إذا قرضا ترهن أملاكه الخاصة لسداده، وعقد بالفعل قرضا خاصا في سنة 1870 قيمته الاسمية 7142860 جنيه والمبلغ المتحصل منه بالفعل خمسة ملايين جنيه.
من سنة 1870 بدأ يرمي بنظره إلى التوسع الاستعماري، ولقد أصاب من ذلك حظا من النجاح غير قليل، ففيما بين هذه السنة وسنة 1875 استصفى لمصر كل الشواطئ الشرقية من السويس إلى رأس غردفوي وحاصر بربر وزيلع، وفي سنة 1874 ضم دارفور إلى مصر واحتل هرر، وقد أدى احتلال هرر إلى حروب مع الحبشة قتل فيها ابنه، ولم يكن النصر فيها حليف جيوشه، على أن ذلك لم يصدها عن التوغل جنوبا إلى حدود الأوغندة، وكان من أكبر رجال إسماعيل المسئولين في السودان صمويل بيكر والكولونيل جوردون، ولعل ذلك كان أول ما دعا إنجلترا لتفكر في هذا القطر النائي، وكان السبب في السياسة التي رسمتها لنفسها فيه والتي أدت إلى مركز السودان الحاضر.
1
وكانت هذه الأعمال، وكان إسراف الحكومة في مصر، وكانت نفقات إسماعيل ومن حوله، تجعل كل مبلغ ضئيلا لا يقوى على سدادها، لكن إسماعيل باشا بدأ يرى هول الديون التي استدانها وبدأ يشعر بأن من الواجب التفكير في السعي للتخلص منها، ولعله كان مخلصا في سعيه، وإن كانت كل الوسائل التي ابتدعت لجلب المال لم تنجح في أكثر من أن زادت الخديو مطامع وسرفا، وأول ما أبدع من الوسائل قانون المقابلة، وخلاصته: أن ديون مصر إلى يومئذ كانت تبلغ ستة أمثال الضريبة العقارية، فإذا دفع الملاك ضعف الضريبة المضاعفة يعفى الملاك أبدا من نصف الضريبة التي عليهم، وقد دفع كثير من كبار الملاك والباشوات الضريبة المضاعفة بطلب ولي الأمر، وبدأت الحكومة فعلا تسدد الدين السائر، لكنها لم تمض عليها سنة واحدة حتى كانت قد استدانت من جديد بسندات أصدرتها مكفولة بضريبة المقابلة ما قيمته اثنا عشر مليونا من الجنيهات.
ولما كان موعد الخمس السنوات المحدد في عقد قرض سنة 1868 قارب الانتهاء رأى إسماعيل أن يستأذن الباب العالي في قرض جديد يوحد به ديونه، واتفق فعلا مع بيت أوبنهيم الذي أصدر قرض سنة 1868 على أن يصدر قرضا جديدا قيمته اثنان وثلاثون مليونا من الجنيهات لهذا التوحيد، على أن كل ما حصلته الحكومة المصرية من هذا المبلغ كان 20840077 جنيه، وكان الدين السائر وحده قد بلغ يومئذ ثمانية وعشرين مليونا.
ثم إن الخديو كان قد اضطر إلى إنفاق مبلغ ضخم في الأستانة للحصول على فرمان سنة 1873 الذي وطد الوراثة في بكر الأبناء على نحو ما صدر به فرمان سنة 1866، والذي أتم لمصر استقلالها الداخلي حتى لم يبق لتركيا إلا أن تسك العملة باسم سلطانها وتتقاضى الجزية آخر كل سنة، وزاد هذا المبلغ في مقدار الديون السائرة زيادة جعلتها تجاوز مقدار القرض الجديد بما يوازي نصفه؛ لذلك لم يفلح القرض في سداد الدين السائر، واستمر إسماعيل على طريقته يصدر سندات جديدة أسماها في هذه المرة سندات الرزنامة، وقد حصلت الحكومة من هذه السندات 3337210 جنيه فلم تكف هي الأخرى مضافة إلى الدين الجديد لسداد الديون السائرة، ولم يبق أمام إسماعيل إلا بيع أسهم الحكومة في قنال السويس، ولقد عرضها للبيع في السوق العالمي، لكن إنجلترا جعلت المسألة ماسة بسياستها ووقفت في وجه فرنسا واشترت الأسهم من إسماعيل بمبلغ أربعة ملايين من الجنيهات وتمت الصفقة في عام 1875.
وفي هذا العام الذي أطل فيه الخراب محدقا بعينيه البشعتين في وجه إسماعيل تم تنظيم المحاكم المختلطة بعد معارضة غير قليلة من جانب فرنسا، وافتتحها إسماعيل وهو ما يزال يأمل في أن أعمال الحضارة التي قام ويقوم بها في مصر تسمح له أبدا بأن يجد من الدائنين من يثق به، ناسيا أنه كان قد رهن كل إيرادات الدولة وكل أملاكه الخاصة، وأن الثقة به تزعزعت في كل مكان؛ لذلك ما بزغت شمس سنة 1876 حتى كان وقت الحساب قد آن، وحتى أطفئت أنوار هذه الأعياد الدائمة وهذا النشاط العجيب الذي نشره إسماعيل لا في مصر وحدها بل في أرجاء كثيرة قريبة من مصر ونائية عنها: في السودان وفي تركيا وفي فرنسا وفي إنجلترا وفي كل بلد حلت به رحاله أو كان له دائنون فيه.
سنة 1876، نعم هي السنة العصيبة في حياة إسماعيل لأنها السنة التي بدأ فيها الصراع العنيف بينه وبين أوربا مجتمعة، والعجيب أنه واصل هذا الصراع وما يزال واثقا من نفسه ومن حيلته؛ لذلك كان إذا اضطر إلى الإذعان يوما لم يكن ذلك منه حرصا على الوفاء ولكن انتظارا لفرصة النكث والأخذ بالثأر، لكن خصومه كانوا أقوى منه أضعافا برغم أنه كان في داره، وعلى الرغم من كل الوسائل التي لجأ إليها فقد انتهى آخر الأمر فأسلم نفسه للمقادير التي قضت بخلعه وإبعاده عن بلاده بقية حياته.
ومن عجيب سخر القدر من الناس أن إسماعيل هو الذي ألقى لأوربا بأول فكرة للتدخل في شئونه وشئون مصر تدخلا ينتهي في أمره هو إلى الخلع، وفي أمر مصر إلى الخضوع لنير أوربا أولا وإنجلترا أخيرا، ذلك بأنه لما ثقل حمله وأيقن أن لا وسيلة إلى الاقتراض من جديد إلا أن تثق به أوربا أجال نظره صوب صديقته الصدوق فرنسا فألفاها ما تزال مهيضة الجناح من أثر هزيمتها سنة 1870، عند ذلك فكر في مصادقة إنجلترا وانتهز فرصة مرور ولي عهدها بمصر فطلب إليه أن يعين إنجليزيا مستشارا للمالية المصرية، وكان جواب ولي العهد أن ذلك من شأن القنصل الإنجليزي، فبعث القنصل بخطاب إلى حكومته كطلب إسماعيل، وأهملت إنجلترا الخطاب حتى اشترت أسهم القناة، يومئذ ذكرت الخطاب من جديد فأرسلت إلى مصر ببعثة لفحص شئونها المالية وعلى رأسها المستر ستيفن كيف.
ولم يترك إسماعيل باشا وسيلة لاسترضاء المستر كيف ولجنته إلا بذلها، وقدمت اللجنة تقريرها إلى الحكومة الإنجليزية فامتنعت عن نشره بحجة أن النشر يزيد مركز الخديو حرجا، ولقد نشر التقرير من بعد فتبين أنه لا يزيد المركز سوءا، وأنه على العكس من ذلك يبين للناس أن ما اقترضته مصر إنما أنفق أكثره في أعمال مثمرة إن لم تظهر نتائجها بعد، فهي على كل حال ضمان يمكن أن يعتمد الدائنون عليه، على أن التقرير استظهر دقة حال مصر وأشار بأن لا بد من توحيد ديونها على قاعدة جعل الفائدة لها جميعا 7 في المائة، ولم يعجب إسماعيل هذا الرأي وأراد المقاومة بتأجيل الدفع ولو كان من نتيجة ذلك إشهار إفلاسه أسوة بمتبوعه الأعظم سلطان تركيا، لكن سرعان ما أدرك خطر ما اندفع إليه فتلافاه بأن أصدر قانونا في 2 و7 مايو سنة 1876 بتوحيد الدين وبإنشاء صندوق خاص بعملياته، وصندوق الدين تعين الحكومة المصرية أعضاءه من الأجانب بالاتفاق مع دولهم، وهذه أول خطوة من خطى التسليم والخضوع لأوربا ولتدخلها في شئون مصر الداخلية.
نامعلوم صفحہ
على أن الدائنين لم يرتضوا القواعد التي بني عليها توحيد الديون فضجوا بالشكوى وطلبوا تعيين لجنة جديدة لفحص حالة مصر المالية، فذهب المستر جوشن والمسيو جوبير مندوبين عن الدائنين لإجراء هذا الفحص، وكان من أثر فحصهم أن صدر دكريتو 18 نوفمبر سنة 1876 يفرق بين ديون الحكومة المصرية وديون إسماعيل الخاصة، ويزيد في اختصاص صندوق الدين، وينشئ منصبي المراقبين العامين: أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي، يراقب أحدهما كل إيرادات الدولة، ويراقب الآخر كل مصروفاتها، وينشئ كذلك إدارة للسكة الحديدية مكونة من إنجليزيين ومصريين وفرنسي واحد، على أن يكون الرئيس إنجليزيا، وبهذا الدكريتو أصبحت الحكومة المصرية في يد صندوق الدين والمراقبين الأجانب، وأصبح إسماعيل صورة لا يطلب منها إلا أن تكف عن الأذى، وبدأت هذه النظم الجديدة بالعمل وبدأ إسماعيل يشعر بتلاشيه وانحدار سلطانه المطلق إلى هاوية الفناء.
أين كان الشعب المصري في أثناء ذلك كله؟ لم يكن في نظر إسماعيل شيئا إلا أنه العبد المطيع الذي يفعل ما يؤمر به والبقرة الحلوب التي تدر الضرائب لإقامة الميزانية، ولم تكن للحكومة ميزانية معروفة، وإنما كانت ميزانيتها ما تتطلبه شهوات عاهلها الذكي القاسي، ولتحصيل هذه الميزانية غير المحدودة كان يكفي أن يقول إسماعيل: «أريد» لتتحرك كل الحكومة كي تنفذ إرادته، والناس على دين ملوكهم، فكان كل موظف في الحكومة كإسماعيل شهوة وقسوة، وكان ما يطلبه إسماعيل يجبى من الناس أضعافا مضاعفة سدا لشهواته وشهوات هؤلاء الجباة الجناة، والناس يجب أن يدفعوا أو يكوي الكرباج والسوط جلودهم ويدمغ جباههم، ويجب أن يدفعوا أو يلقى بهم في غيابات السجن يذوقون فيها أشد العذاب، ولم لا؟! أليس عزيز مصر وولي أمرها يريد، و
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فمن عصى فعليه اللعنة وله العذاب، وأي عذاب وأية لعنة! كان رجال الحكم يومئذ من غير المصريين إلا قليلا، فلم تكن بينهم وبين مصر وشيجة رحم أو عاطفة مودة أو قربى تحرك في نفوسهم بإزاء المصريين المساكين معنى من الرحمة أو الإنسانية، بل كانوا من الأكراد والجركس والأرمن والألبانيين، وكانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، على عقولهم أقفالها، لا يعصون إسماعيل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
لذلك كان طبيعيا ألا يتحرك الشعب لتدخل الأجنبي في شئونه، ولماذا يتحرك؟ أليس حكامه هؤلاء أجانب عنه كالذين تدخلوا في شأن الحكم سواء بسواء؟ واختلاف العقيدة لا يكفي ليقوم شعب هده الظلم وأضعف نفسه لينصر ظالمه على مخالفه في العقيدة، وبخاصة إذا انتظر من هذا المخالف رفع الحيف ووقف الظلم والأذى.
وبدأ إسماعيل يشعر بهذا ويحسه في أعماق نفسه، جلس حسيرا في قصره مغلولة يده يشهد بعيني رأسه ما جر إليه بذخه وإسرافه من خراب، وسمح لأذنه أن تسمع لأول مرة ما يضج به الناس من ألم وشكوى، وماذا يعني الناس من قصور تشاد وحدائق تغرس وجسور تمد فوق النهر وألحان تعزفها الحسان، إذا كان ذلك كله يشاد من دمائهم ويمد على أكتافهم؟! وزاد إسماعيل شعورا بالكارثة أن استنفدت أقساط الدين كل الضرائب التي جمعت على النحو الذي كانت تجمع به من قبل من وسائل الإرهاق، ولم يبق منها شيء يدفع للموظفين ولا للجيش.
ورأى الدائنون بأعينهم هذه الحال البشعة فاتفق الرأي على تعيين لجنة جديدة لفحص جديد، وفي سنة 1878 تعينت لجنة الفحص العليا أنشأها دكريتو 27 يناير من تلك السنة، وفي 30 مارس صدر دكريتو آخر يجعل للجنة أوسع السلطة، وتشكلت من مسيو دلسبس رئيسا ومن مستر ريفرس ولسن نائب رئيس، ومن أعضاء صندوق الدين الأربعة، وبدأت اللجنة فحصها تحركها فكرة أساسية هي وضع قرار اتهام إسماعيل، وبعد انتهائها من الفحص قدمت تقريرا مبدئيا كانت الفكرة السائدة فيه وجوب تحديد سلطة الخديو واعتباره مسئولا عن حرج مركز مصر، واقترحت لذلك إجراء إصلاحات في التشريع المالي بالنسبة للضرائب، وأن تخصص إيرادات أملاك الخديو كلها ومساحتها 917000 فدان لسداد ما يكون من عجز في الميزانية.
تردد إسماعيل بادئ الرأي في قبول هذه المطالبة، لكنه رأى تردده لا يفيد شيئا بعد أن أصبح الأمر كله للمراقبين ولصندوق الدين، وأنه إذا قبل ما اقترح عليه فقد يفتح ذلك أمامه بابا جديدا للاقتراض من جهة، ويترك له الوقت من الجهة الأخرى في تدبير وسيلة للخلاص من هذه المراقبة التي غلت يده، وتحت ضغط نوبار باشا أعلن إلى المستر ريفرس ولسن في يوم 23 أغسطس سنة 1878 قبوله اقتراحات اللجنة، وفي 28 أغسطس أصدر الأمر العالي المشهور بإنشاء وزارة (يحكم هو معها وبواسطتها وتكون متضامنة في مسئوليتها) وشكل نوبار باشا هذه الوزارة واستعان فيها بالمستر ريفرس ولسن.
ومنذ طلب نوبار باشا إلى المستر ريفرس ولسن معاونته في الوزارة قام الأخير بالمفاوضة لعقد قرض جديد تسد منه الديون السائرة ويسد عجز الميزانية، وقبل أن يوقع عقد القرض أصدر إسماعيل دكريتو 26 أكتوبر سنة 1878 ينزل أعضاء العائلة الخديوية للحكومة بموجبه عن أملاكهم العقارية وقدرها 425729 فدانا خلا العقارات، واعتبرت هذه الأملاك ضامنة للقرض الجديد الذي دعي باسم قرض الدومين أو قرض روتشيلد.
وفي شهر أكتوبر أصبح المستر ولسن وزيرا للمالية والمسيو دبلنيير وزيرا للأشغال العمومية، وألغيت بذلك المراقبة الثنائية على إيرادات الدولة ومصروفاتها على أن تعود إذا عزل هذان الوزيران الأوربيان من منصبيهما من غير موافقة إنجلترا وفرنسا، وجعلت هذه الوزارة المختلطة جل همها أن تسدد الديون وأن تتلافى عجز الميزانية، والواقع أن الديون السائرة بلغت مبلغا ضاق دونه القرض الجديد على الرغم من أنه بلغ ثمانية ملايين، وكذلك وقفت الوزارة المختلطة بعد ثلاث سنوات من المراقبة المالية موقف الحكومات التي سبقتها، وعجزت أن تواجه حرج المركز بخير مما واجهته غيرها من قبل، ولجأت إلى الضغط والاضطهاد اللذين لجأت إليهما أشد الحكومات عسفا واستبدادا، وزاد الموقف حرجا أن رأى وزير المالية الإنجليزي الاستغناء عن ألفين وخمسمائة ضابط من غير أن يدفع لهم متأخرات رواتبهم لأكثر من سنة كاملة، هنالك هاجوا وقاموا ومن بينهم أحمد عرابي في 18 فبراير سنة 1879 بمظاهرة خطيرة وأحاطوا بنوبار وولسن وأهانوهما وأوسعوهما ضربا، ولما نمى الخبر إلى إسماعيل جاء بنفسه، فلما رآه الضباط وأمرهم بالانصراف لم يعص أمره منهم أحد، مما دل على أن له في تدبير هذه الفتنة يدا، وقد ثبت بعد ذلك أنه كان المدبر لها بالفعل بأن أوعز إلى أكثر الضباط إقداما وجرأة بالقيام بها.
وكان من الضباط الذين قاموا بهذه المظاهرة ومن الذين استغنى عنهم ريفرس ولسون عدد غير قليل من المصريين الصميمين، ولعل ذلك هو الذي أدى إلى استمرار الحركة في المستقبل والذي كان نواة الثورة العرابية، فإن الموظفين والضباط من الشركس والأتراك والأرمن وغيرهم - ممن كان بيدهم الأمر فكانوا يسومون المصريين الخسف وسوء العذاب - شعروا بفشلهم وبعجزهم إذا بقيت الخصومة بينهم وبين المصريين قائمة، ثم إن ريفرس ولسن تقدم بسبب آخر أدى إلى تحرك العناصر القومية الصميمة في البلاد، فقد طلب إلى الحكومة أن تعلن أن مصر مفلسة كي تعامل معاملة المفلس في شأن ديونها، هنالك اجتمع نواب البلاد وأعيانها وكبراؤها وموظفوها الدينيون والمدنيون والحربيون وقدموا للخديو برنامجا ماليا يخالف برنامج ولسن محتجين على القول بإفلاس مصر، ولم تكن يد إسماعيل بعيدة عن وضع هذا البرنامج، ثم لم يكتف النواب ببرنامجهم الذي تقدموا به، بل تقدموا كذلك بعرض للخديو يبينون فيه استياءهم من الوزارة لعدم اكتراثها بآرائهم، وانضم الخديو لهذه الحركة وعضدها؛ لأنه رأى فيها الوسيلة الوحيدة لعود بعض سلطته إليه بعد أن تقلص ظلها وانتقلت إلى أيدي الأجانب، وبلغ من تعضيده إياها أن رفض النواب الارفضاض لما جاء رياض باشا وزير الداخلية يعلن إليهم انتهاء الدورة، وكذلك أصبح هذا المجلس الذي خلقه إسماعيل في سنة 1886 صورة يوهم بها الدول الأوربية أن مصر أصبحت بالفعل جزءا من أوربا وقد شعر بوجوده وقدر مكانته، فقد احتج في 29 مارس سنة 1875 على الوزارة المختلطة لأنها لم تكن تعترف بوجوده وبمسئوليتها أمامه، وفي 5 أبريل طلب إلى الخديو تعديل قانون الانتخاب وإعلان مسئولية الحكومة أمام مجلس النواب، ولم يقف عند ذلك بل احتج على بقاء الوزارة المختلطة وبالتالي على وجود ولسن ودبلنيير فيها، ولم يلبث إسماعيل أن أبلغ هذا الاحتجاج حتى عزل الوزارة وعهد إلى شريف باشا بتأليف الوزارة الجديدة، وفي الشهور الثلاثة التي انقضت بين توليها وخلع إسماعيل بدأت بوضع قانون للانتخاب، كما نشرت في 4 يونية لائحة مجلس شورى النواب الأساسية، وفيها تقرر الحصانة البرلمانية وتحدد عدد النواب وتنص على المسئولية الوزارية، ومع أن هذه الوزارة كانت جادة في عملها، ومع أنها سبقت هذا التشريع النيابي بتشريع مالي صدر به دكريتو بتاريخ 22 أبريل سنة 1879 يكفل للأجانب حقوقهم ويقر المراقبة الثنائية وصندوق الدين في اختصاصهما الواسع، فإن أوربا بدأت تشعر بأن مصر على وشك انتقال خطير ليس من العسير تقدير مدى نتائجه، وإن خيرا للمصالح الأوربية الوقوف في سبيله، فبدأت ألمانيا والنمسا بالاحتجاج في 18 مايو على دكريتو 22 أبريل بدعوى أنه مخالف لتعهدات مصر الدولية، وألقتا مسئولية هذه المخالفة على الخديو، وفي 18 يونيو احتذت وزارتا باريس ولندرة مثال ألمانيا والنمسا، وقد حاول إسماعيل القضاء على هذه الحركة الدولية فطلب موافقة الدول على الدكريتو، لكن حركته هذه لم تنجح.
نامعلوم صفحہ
وكانت الدول قد سئمت هذا الصراع الطويل مع إسماعيل، ولعلها كذلك خشيت بعد انضمامه للأمة وإظهاره العطف كل العطف على مطالبها أن تقوى الحركة القومية المصرية وأن يصبح إسماعيل مثلما كان جده محمد علي مكانة وقوة سلطان؛ لذلك رأت أفضل السياسات أن ينزل عن العرش، لكن إسماعيل لم ينظر إلى المسألة هذه النظرة، وأراد أن يلجأ إلى جلالة سلطان تركيا آملا أن يكون لما قدمه له من طائل الأموال وعظيم التضحيات بعض الأثر، وهنا خاب فأله، فقد بعث الباب العالي في 26 يونيو تلغرافا بعزل إسماعيل عن العرش وبرفع ولده توفيق مكانه، وعلى أثر ذلك أقلع إسماعيل من الإسكندرية قاصدا إيطاليا وقلبه خافق وعيونه هامية بالدمع، وأقام في إيطاليا زمنا ثم انتقل إلى الأستانة إذ أقام بها في قصر «أمر جيان» على شواطئ البوسفور حتى جاء أجله في 2 مارس سنة 1895. •••
وكم دار بخاطره في هذه السنوات الأربع عشرة التي انقضت بين عزله وأجله أن يعود إلى نضال يسترد به عرشه، وكان أول ما صنع من ذلك أن بعث إلى السلطان بالأستانة على أثر وصوله إلى نابولي رسالة حارة يذكر له فيها ما أجرى من عظيم الإصلاح في وادي النيل، وما قام به من فتح السودان إلى خط الاستواء حيث خفقت الراية العثمانية من تلك الأنحاء في ربوع لم تخفق من قبل قط عليها، لكن السلطان لم يعبأ بخطابه ولا أجابه عنه، بل نسي كل ماضي إسماعيل وما أغدقه على الأستانة ورجالها من مال وأنعم، وما باله يعبأ به وقد أصبح لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا يملك لمتبوعه العظيم رشوة ولا هدية، وأصحاب العروش لا يعنون إلا بصاحب القوة ما داموا يهابون قوته ويطمعون في خيره ومعونته، ونال ذلك من نفس إسماعيل، ولكنه حملها على الصبر حتى كانت الثورة العرابية في مصر، هنالك حز الألم في نفسه واذكر أنه لم يفكر في مقاومة كالتي قاومها اليوم هؤلاء المصريون الأبطال، ولو أنه قاوم فربما كان له من الأقدار عون يستبقي نجمه عاليا، أما ولم يفعل فليس له أن يرجو من الأقدار مددا وهي لا تمد الضعيف أو الخائف، وإنما تحارب في صف الشجاع المقدام.
ومنذ دخل الإنجليز مصر محتلين خيم اليأس على كل آماله في استعادة ملكه، فظل في إيطاليا حتى انتقل إلى الأستانة ليلقى فيها منيته، وليكون فيها أسير عطف الأتراك الذين طالما تمتعوا بما أغدقه عليهم من مدد ومال أيام ولايته.
هوامش
الخديو توفيق باشا
ثلاثة عشر عاما تولى فيها توفيق أمر مصر كان خلالها في زهرة شبابه بين السابعة والعشرين والأربعين، لكنه كان فيها كذلك بين عوامل لا يستطيع مدافعتها والتغلب عليها إلا نابغة محنك، كان فيها بين تركيا الناقمة لضعف سلطانها في مصر، وإنجلترا الطامحة إلى بسط نفوذها نهائيا على وادي النيل، وفرنسا المكتئبة لتقلص مكانتها رويدا رويدا من أرض الفراعنة، والأمة المصرية المثقلة بديون إسماعيل باشا وظلم حكامها والمتأججة نفوس أهلها بالثورة طمعا في الاستقلال والدستور، وهو بين هذه العوامل رجل يشعر بضعة أمومته وبحقد أهله عليه، ويود لو أنه كان في مكانة أبيه بطشا وسلطانا، ويخضع للأقدار التي لم تهبه من سعة الذكاء ما وهبت غيره، ولتربيته الشرقية البحتة التي اقتضت ألا يغادر مصر وألا يتصل بالمدينة الأوربية اتصال إخوته، وللظروف التي جعلت تتقاذفه منذ ارتقى عرش أبيه فتصدمه بكل واحد من العوامل المحيطة به، لينتهي به الأمر إلى أن يكون في تاريخ مصر صورة غير محبوبة، ولا ممقوتة، صورة مرت في هذا التاريخ فكان أثرها فيه سلبيا هو أثر العاجز عن أن يقوم لبلاده أو لنفسه بخير، وليودع العالم في الأربعين من عمره فيلقي بمصائر مصر بين يدي ولي عهده الفتى عباس وما يزال في الثامنة عشرة من عمره. •••
ولد توفيق باشا في 15 نوفمبر سنة 1852 ثمرة لبرهة هوى من إسماعيل مع إحدى جواريه التي لم تنل منه إلا حظوة قصيرة ولم تكن له زوجا، ولم يكن إسماعيل يومئذ وارثا لعرش سعيد أن كان أحمد أكبر العائلة ما يزال حيا؛ لذلك لم يلفت مولد توفيق نظر أحد إلا ما كان من زراية أميرات العائلة المالكة لأمه، فلما حصل إسماعيل على فرمان وراثة العرش للولد الأكبر انقلبت الزراية للأم حقدا على الابن، وشارك إسماعيل أهله في عدم عطفهم على توفيق وإن لم يبلغ ذلك من نفسه مبلغ حقده على حليم باشا وارث عرشه على النظام القديم، وثبت عدم عطفه على توفيق وعدم رعايته إياه في عزمه على أن يكون عرشه لحسين من بعده، وقد كان يستطيع ذلك اعتمادا على أمومة توفيق أو بالتخلص منه كما كان يفعل ملوك ذلك العصر في تركيا، لكنه لم يكن يتعجل النظر في أمر لم يكن في حسبانه وقوعه قبل زمان طويل، وكفاه وجود توفيق بمعزل عنه في قصر له مقتصرا على إدارة أراضيه.
على أن عزلة توفيق وعدم إغداق أبيه أسباب الرضا عليه جعله ينظر إلى ما صنع أبوه من استدانة ومن إرهاق للمزارعين والفلاحين ومن بطش بالناس جميعا نظرة مصري لا نظرة ولي عهد؛ لذلك اتصل بطائفة من الناقمين على الحال التي آلت مصر إليها، أمثال السيد جمال الدين الأفغاني واللقاني والشيخ محمد عبده ومن كان يلوذ بهم من أمثال عرابي، وانخرط في سلك الماسونية الذي انخرطوا فيه، فلما اضطر إسماعيل تحت ضغط الدائنين إلى أن يعين نوبار باشا رئيسا للوزارة المسئولة الأولى وأن يضم إليه مستر ريفرس ولسن ومسيو دبلنيير، الأول وزيرا للمالية والثاني وزيرا للأشغال، ثم لما رأى أن الحال المالية في البلاد تزداد كل يوم سوءا برغم ما تنزل عنه من سلطته ومن أملاكه، ورأى الشعور العام ضد التدخل الأجنبي يزداد في البلاد كلها، خلع نوبار من الوزارة واتفق مع فرنسا وإنجلترا على تعيين ولي عهده توفيق باشا رئيسا للحكومة، على أن ولي العهد كان يعلم دقة الموقف كما يعلم بنوع خاص تهيج الشعور العام بإزاء ما كان يعتزمه السير ريفرس ولسن كعضو في لجنة التحقيق الدولية من إعلان إفلاس مصر؛ لذلك لم يجد الوزيران الأوربيان من رئيس الوزارة الجديدة مؤيدا قويا لهما، وعلى أثر إعلان وزير المالية تأجيل دفع الفوائد المستحقة للدائنين في شهر أبريل تقدمت عريضة من العلماء والوجهاء والنواب ورجال الجيش يحتج فيها مقدموها على هذا التصرف ويطلبون إلى الخديو أن يلجأ إلى نوابه للخروج من المأزق، وعلى ذلك استقالت وزارة توفيق من غير أن تفعل شيئا، وكلف إسماعيل شريف باشا بتأليف وزارة تكون مسئولة حقيقة أمام برلمان تنظم حقوقه وطرق الانتخاب له بحيث يستطيع أن يقوم بما تقتضيه الأحوال وأن يحقق الأماني القومية.
وكان ذلك هو الانقلاب الحكومي الذي أريد به القضاء على سلطة المراقبين وعلى تدخل الأجانب في الإدارة المصرية، والذي انتهى بتركيا إلى عزل إسماعيل باشا في 26 يونيو سنة 1879 وإلى إرسال برقية في اليوم نفسه إلى توفيق باشا تعلن فيها إسناد منصب الخديوية المصرية إلى جنابه ويختتمها وزير تركيا بقوله: «والأمر والفرمان في كل حال لمن له الأمر أفندم.»
كانت هذه الضربة الحاسمة غير المنتظرة من جانب تركيا منبهة لكل من يعنيهم أمر مصر وكل من لهم مصالح فيها لكي يقفوا على حذر، ومع أن توفيق باشا فوجئ بالخبر وفزع له حتى لقد قابل موظف قصره الذي أبلغه إليه أسوأ مقابلة بأن صفعه، فإنه شعر من ذلك الحين بأن التركة التي آلت إليه أعباؤها تركة مبهظة مخوفة، ترى ماذا عساه يصنع بإزاء أبيه، وبإزاء تركيا، وبإزاء الدول وتدخلها في شئون مصر، وبإزاء الأمة المصرية المتوثبة للحركة بل للثورة؟
نامعلوم صفحہ
أما إسماعيل فأيقن أن لا مفر له من الانحناء لعاصفة لم يكن يستطيع مواجهتها، وإن لم ينقطع رجاؤه في العود يوما ما إلى هذا العرش الذي انتزع منه اغتصابا؛ لذلك قابل الصدمة بكل ما يستطيع رجل في عظمته وفي قوته أن يواجهها به، وأظهر من العطف على ولي عهده ما لم يكن له من قبل به عهد، وفي الأيام التي انقضت ما بين تبوؤ توفيق عرش أبيه وسفر إسماعيل من بلاد عزيزة عليه كانت عواطف الأبوة والبنوة بينهما كخير ما يمكن أن تكون في مثل هذا الظرف العصيب.
اطمأن توفيق إذا من هذه الناحية، ولقد أظهر من عواطف البنوة ما دفعه للتنازل عن عشرين ألف جنيه من مرتباته السنوية لأبيه كي تبلغ مرتباته خمسين ألف جنيه، ولمناسبة رفع مرتبات البيت الخديو إليه أراد في نفس الوقت أن يظهر للأمة حرصه على مصلحتها ومشاركته إياها في متاعبها المالية، فأمر بإلغاء الراتب المعين لوالدته وحرمه وقدرهما خمسة وخمسون ألف جنيه.
بعد ارتقاء توفيق العرش جعلت تركيا تفكر في الاستفادة من الانقلاب بأن تسترد ما كسبته مصر بفرمان سنة 1873 الذي جعلها مستقلة استقلالا داخليا تاما فيما عدا سك العملة ودفع الجزية، وقد أثار هذا الخبر في مصر قلقا غير قليل، على أن فرنسا وإنجلترا عارضتا الباب العالي فيما أظهره من عزمه وأنبأتا ممثليهما في مصر بأنهما معتزمتان فيما إذا لم يكرر السلطان أحكام فرمان سنة 1873 في الفرمان الذي يوجهه إلى الخديو توفيق أن تطلبا الاستقلال التام لمصر، وقد اختلف في الأسباب التي دعت تركيا إلى هذا التصرف: أهي كانت تريد بالفعل إلغاء الحقوق والامتيازات التي حصلت عليها مصر في أثناء ولاية إسماعيل باشا؟ أم هي كانت تتذرع بالمطل والتسويف للحصول على مبلغ من المال بدليل أنها قطعت في ذلك الوقت حوالة على مصر أبت الحكومة المصرية قبولها بسبب ارتباكها المالي، على أن هذا التسويف طوع لفرنسا ولإنجلترا أن تتدخلا وأن تطالبا الباب العالي بإبلاغهما فرمان تولية الخديو كوثيقة دولية، وأن تثبتا بذلك حقوقهما في التدخل في شئون مصر للمحافظة على حقوقها بإزاء تركيا استنادا على ما كان من تدخلهما للمحافظة على مصالح رعاياهما الدائنين للحكومة المصرية، وكان من أثر ذلك أن شعر توفيق بما للدولتين من فضل عليه بسبب محافظتهما على حقوقه وحقوق البلاد التي ولي عرشها.
ولم يصل الفرمان بتولية الخديو الجديد إلا بعد شهرين من ارتقائه عرش أبيه، أي في 14 أغسطس سنة 1879.
خلال هذين الشهرين كانت خطة توفيق غامضة ما تزال، فهو حين ارتقى العرش كان في زمرة الماسون الذين يناصرون الحرية والعدالة؛ لذلك وجه خطابه إلى شريف باشا لتشكيل الوزارة الأولى في عهده مقدرا للأمة معتمدا عليها ذاكرا «إني عظيم الميل لبلادي، شديد الرغبة في تحقيق آمال الأمة التي أظهرت السرور بولايتي، عازم عزما أكيدا على التماس أحسن الوسائل لإزالة الاختلال المفسد لكثير من المصالح، إلا أن إدراكي لهذه الغاية التي هي موضوع آمالي يتوقف على مساعدة الأمة بجملتها.»
وتحقيقا لهذه السياسة تألفت لجان من الأوربيين غايتها تقديم العرائض إلى قناصلهم يلتمسون بها من دولهم منع تدخل الأجانب في أحوال مصر وقصر النظر فيها على الوطنيين، ثم إن توفيق باشا تحدث في ذلك الظرف إلى مكاتب التيمس، فأشار بادئ ذي بدء إلى أنه لا يبرح مقيد اليد في العمل حتى يرد الفرمان بتعيينه، لكنه مع ذلك صرح للمكاتب بأنه لا يريد الرجوع إلى تعيين وزراء أوربيين، بل ينبغي أن تكون الوزارة مصرية وطنية يصح أن يعاونها رجال من الأوربيين في الإدارات على أن يكونوا موظفين مصريين لا أكثر، أما سير ريفرس ولسن ومسيو دبلنيير شخصيا فقد صرح توفيق بأنه يعارض أشد المعارضة في رجوعهما أيا كانت صفتهما؛ لأن رجوعهما يكون مخالفا لمصلحة مصر على خط مستقيم، وطلب الخديو إلى الدول في حديثه هذا أن تمهله بضعة أعوام «فنحن في مقام الامتحان فلا يحسن بأوربا أن تمسك علي وعلى مصر طريق النجاح».
وكان من أثر هذه الخطة وتلك التصريحات أن هدأت أعصاب المصريين التي كانت متوترة في الأيام الأخيرة من عهد إسماعيل، فعلى الرغم من عزل الحكومة عشرة آلاف من الجند المجتمعين تحت السلاح وإنقاص الجيش العامل إلى اثني عشر ألفا وتأخير صرف مرتبات الكثيرين، أمسك الرجاء بالناس عن أن يلجأوا للهياج، لكن نيات توفيق باشا الديموقراطية لم تلبث إلى أكثر من وصول الفرمان بتثبيته على عرشه، ففي مساء اليوم الذي عاد فيه مندوب السلطان الذي كان يحمل هذا الفرمان قافلا إلى تركيا بعد حفلة تلاوته أقيلت وزارة شريف باشا وألف توفيق باشا وزارة تحت رئاسته مباشرة، والحجة التي روجت تبريرا لهذا التصرف إنما هي إرادة الخديو تعجيل الإصلاح، أما الحقيقة فعدم رضا توفيق عن ميول شريف باشا الدستورية، ففي الخطاب الذي أرسل به الخديو إلى كل من وزرائه الجدد معنى قصده العودة إلى حكومة الفرد، فيه تكليف لكل من النظار أن يحضر أوراق شئون وزارته ومعلوماتها عند حضوره إلى المجلس لعرضها، على أن توفيق كان يشعر بأن الأمة لا يمكن أن ترضى عن هذه الحال؛ لذلك بعث بتلغراف إلى رياض باشا الذي كان متغيبا هو ونوبار باشا، أو قل منفيين في أوربا، يستقدمه إليه لعلمه بعدم ميل هذا الوزير إلى حياة الشورى، فلما حضر في أوائل سبتمبر عهد إليه بتشكيل الوزارة وقطع على نفسه العهد باحترام إرادة 28 أغسطس سنة 1879 التي قررت مبدأ مسئولية الوزارة وتضامنها، وبعد ثلاثة أشهر من استقرار هذه الوزارة في مناصبها زار توفيق - جريا على سنة أسلافه - أنحاء ملكه في الوجهين القبلي والبحري وقضى فيهما أشهرا وعاد منهما في أوائل مايو سنة 1880.
وكان الهدوء شاملا أنحاء مصر في هذه الفترة، لكنه كان هدوء تربص وانتظار، ذلك بأن المسألة الشائكة التي انتهت بعزل إسماعيل كانت تحت البحث منذ أول ولاية توفيق، وكانت لا تؤذن بخير كثير، فعلى الرغم مما أعلنه الخديو لمكاتب التيمس من المعارضة في عودة ولسن ودبلنيير بعد فشل سياستهما المالية في مصر لم تر الحكومة الفرنسية بعد اتفاقها مع حكومة مصر على إعادة المراقبين أن يعين أحد غير مسيو دبلنيير، أما الحكومة البريطانية فأشارت بتعيين السير بارنج (لورد كرومر) وتم تعيين المراقبين في 4 سبتمبر سنة 1879 وباشرا عمليهما، وانتهيا بتقديم تقرير إلى الخديو في أواخر عام تعيينهما يقترحان فيه تعيين لجنة تصفية للدين المصري كله، وبعد محادثات بين الدول صاحبات الشأن تعينت اللجنة في 31 مارس برئاسة السير ريفرس ولسن وتعهدت الدول بقبول قراراتها، وإذا فقد رأى توفيق نفسه بإزاء حالة كان يراها أول جلوسه على العرش مخالفة لمصلحة مصر على خط مستقيم من غير أن يستطيع لها نقضا.
وقدمت لجنة التصفية تقريرها في 17 يوليو سنة 1880 فأصدره الخديو فورا وأطلق عليه اسم قانون التصفية، وعلى موجب هذا القانون بلغ دين مصر 98748930 جنيها، وقد روعيت في هذا القانون، كما روعيت في كل تصرفات ممثلي الدول الأجنبية، مصالح الدائنين الأجانب على حساب نظام الحكم في مصر، وبالرغم مما كان يعلمه المراقبون وغير المراقبين من أن أكثر من نصف هذا الدين لم يدفع إلى مصر لم يفكر أحد في إلزام الدائنين بالتنزل عن شيء من الديون الاسمية التي كانوا يقتضونها من مال المصريين ومن دمائهم، ولما كان تدخل الأجانب مثيرا لعواطف المصريين في عهد إسماعيل فقد بدأت هذه العواطف تثور من جديد بعد هدأة التربص، وبدأت العاصفة تتكور في الجو لتؤذن بالانفجار عما قريب.
وبدأت نذر الانفجار بما كان من تبرم رجال الجيش تبرما سببه امتهان العنصر المصري فيه لمصلحة الأجانب من الأتراك والجراكسة، فلما سرح إسماعيل باشا في أواخر أيامه ألفين وخمسمائة من الضباط أكثرهم مصريون كان إخوانهم يشعرون بالألم من أجلهم ويخشون أن يصيبهم مثل نصيبهم، على أن ارتقاء توفيق إلى العرش واستيزاره شريف باشا هدأ الحالة زمنا، فقد ظن الناس أنهم حاصلون على هيئة نيابية خير من شورى النواب القديم تراقب الحكومة وتمنع تدخل الأجانب وتعيد العدل إلى نصابه، فلما عين رياض باشا وعين معه في وزارة الحربية شركسي قح هو عثمان رفقي، يمقت المصريين ويمتهنهم، ولما تكشفت نيات الخديو ووزارته عن العدول عن الحكم النيابي بل عن شورى النواب نفسه، ثم لما بدئ بتنفيذ قانون التصفية وتبين أن حال مصر المالية لم تفد منه خيرا - لما حدث ذلك كله كان المدنيون وكان رجال الجيش تغلي في صدورهم مراجل الحقد وتأجج نفوسهم بنيران الثورة.
نامعلوم صفحہ
وعجيب أن يحدث ذلك كله بأعين توفيق فلا يراه ولا يقدر مداه، بل يندفع في التيار العجيب الذي اندفع فيه مخالفا بذلك كل ما أظهره من الميول أول جلوسه على عرش أبيه، فهذا الميل الشديد لتحقيق آمال الأمة وهذا الاعتماد على معاونتها قد انقلب فجأة عقب وصول الفرمان إلى إعادة حكومة الفرد، ثم إلى إسناد الوزارة لنصير قوي من أنصار النظام المطلق، وهذا الحرص على معارضة عودة ولسن ودبلنيير وعلى أن تكون الوزارة مصرية وطنية، وهذه الدعوة لانتظار أوربا نجاح السياسة الوطنية الجديدة قد انقلب فجأة إلى قبول هذين الشخصين وغيرهما من الأشخاص، وإلى ترك التدخل الأجنبي يتوغل في إدارة البلاد، وهذه السياسة المالية التي فشلت على يد ولسن قد انقلبت فجأة سياسة الحكومة المصرية ليصدر على موجبها قانون التصفية، وهذه الانقلابات كلها قبلها توفيق راضي النفس مطمئنا.
على أن لهذا العجيب في نظرنا تفسيره الواضح: فتوفيق الضعيف قد رأى ما حل بأبيه حين عارض إنجلترا وفرنسا فيجب ألا يعارضهما، وإنجلترا وفرنسا تريدان هذا النظام فيجب أن يريده ليتمخض ذلك كله عن انفجار أو عن ثورة أو عما يمكن أن يتمخض عنه، فليس توفيق الضعيف هو الذي يطالب بالتفكير في هذا، ويكفيه أن يعتمد في بقائه في عرشه على سند الدولتين اللتين استخلصتا له من تركيا فرمان توليته.
وكان يسيرا أن يرى توفيق نذر الانفجار آتية من ناحية رجال الجيش، ذلك بأنه فضلا عن تسريح ألوف من الجند ومئات من الضباط في آخر عهد إسماعيل وبالرغم من تسريح عشرة آلاف جندي أول ولايته، فإن تنفيذ قانون التصفية أسفر عن عجز الميزانية اللازمة لنفقات الدولة في سنة 1881 عجزا بلغ مقداره 1610000 جنيه، بينما كان متوافرا في صندوق الدين بعد دفع الفوائد مبلغ 813000 جنيه أنفقت في استهلاك السندات بدلا من أن يسدد منها ذلك العجز، وقد ترتب على هذا أن بقي كثيرون من الموظفين - ومن بينهم رجال الجيش - لا يتقاضون مرتباتهم، أضف إلى هذا أن رفقي باشا ناظر الحربية أصدر لائحة مقتضاها عدم ترقية المصريين إلى الدرجات التي يستحقونها، بيمنا يرقى الجراكسة إلى أكثر مما يستحقون، ولما كان للضباط المصريين جماعة سرية بين أعضائها أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي وكانوا قد قدموا لرياض باشا طلبات بالإصلاح منذ شهر مايو سنة 1881 لم تنظر الحكومة فيها، فقد قرر هؤلاء دفع ألايات الجيش للاحتجاج على تصرفات رفقي باشا وعلى المطالبة بعزله، ورفعت بالفعل عريضة للخديو متضمنة هذا الاحتجاج.
وكان محمود باشا سامي البارودي وزير الأوقاف في وزارة رياض على اتصال بهؤلاء الضباط؛ لذلك تيسر لهم أن علموا بعد احتجاج الجيش أن الحكومة تريد محاكمة الثلاثة الذين ذكرنا أسماءهم، وأنها أمرتهم بالذهاب إلى قشلاقات قصر النيل في أول فبراير سنة 1881 لتقبض بعد ذلك عليهم، فما كادوا يذهبون وما كاد يقبض عليهم ويجردون من رتبهم ويسجنون حتى كانت ألاياتهم قد حضرت وأنقذتهم من سجنهم بقوة السلاح.
وسار الضباط الثلاثة على رأس ألاياتهم من قصر النيل إلى عابدين وهناك وقف عرابي بين الجند خطيبا فشكرهم على إخلاصهم له وإنقاذهم إياه، ثم تقدم إلى الخديو يطلب العفو عنه وعن زملائه، وخلع عثمان رفقي من نظارة الحربية، وأردف عبارته هذه بقوله: «إنهم لا يبرحون إلا بنيل بغيتهم.» ولما كان توفيق قد رأى كل الأوامر التي أصدرها إلى ضباط الجند لا تنفذ، ورأى نفسه في مأزق لا يعرف سبيلا إلى النجاة منه سارع إلى إجابة طلب العصاة وأقال عثمان رفقي من الحربية وعين مكانه صديق الضباط المنتقضين محمود سامي البارودي.
لو أن توفيقا كانت له سياسة معينة يومئذ لما وقع حادث قصر النيل، لكنه كان مضطرب الرأي والسياسة جميعا لأنه كان يشعر - كما قدمنا - بأن سنده الأخير ليس تركيا وليس الأمة المصرية ما دام حليم باشا وارث العرش على النظام القديم مقيما في الأستانة يدس لإلغاء وراثة الابن ويعاونه أنصار من الساسة والأميرات، وما دام هو لا يريد أن يعتمد على الأمة أو ينيلها شيئا من الحقوق التي تشعرها بكيانها، على أن حادث قصر النيل لم يكف توفيقا درسا في وجوب تحديد سياسة يسير عليها لكيلا يكون دائما معرضا للتصادم مع القوى المختلفة المحيطة به، فمع شعوره بأن أباه اضطر للاستعانة بالأمة ولو استعانة صورية ممثلة في مجلس شورى النواب، فقد ظل حفيظا على مبدأ الحكومة المطلقة ثم إنه إلى جانب هذا كان قد بدأ يتخوف رياضا لقوته وشدة سلطانه على الرغم من مشاركة رياض إياه في تأييد النظام المطلق؛ لذلك بدأت الوزارة تضعف شيئا فشيئا على حين بدأ المتمردون من رجال الجيش يزدادون قوة على أثر انتصار يوم قصر النيل، وينضم إليهم كثيرون من غير العسكريين ويجاهرون جميعا بضرورة تشكيل مجلس النواب، وكان سامي البارودي من أصحاب هذا الرأي ومن أقوى المحركين لعرابي ومن معه، بل كان هو روح الحركة ومحورها.
وبرغم ضعف الوزارة وشعور الخديو بمعارضة عنصر قوي في البلاد لها فإنه أراد أن يقاوم هذه المعارضة بالشدة؛ لذلك عمد إلى عزل سامي البارودي من وزارة الحربية وإلى تعيين صهره داود باشا يكن مكانه، وأراد داود باشا قمع الحركة، فأمر بمنع اجتماع الضباط وبث عليهم الأرصاد والعيون، ولما عاد الخديو من الإسكندرية أمر الوزير الجديد بإجراء تنقلات بين الألايات شعر معها عرابي وأصحابه بأن المراد تشتيتهم للتنكيل بهم بعد ذلك، فرفضوا تنفيذ الأمر وأبلغوا الخديو بأن الجيش سيحضر بتمامه إلى عابدين لإبداء اقتراحات تتعلق بنظام الحكم في البلاد وبشئون الجيش وتحسين حاله.
ترى ماذا يفعل توفيق بإزاء هذه الحركة وهي حركة تمرد عسكري صريح؟! أتراه يترك الأمر لوزارته فيصرح أن عليها حفظ النظام والأمن؟ أتراه يدعو إليه كبار رجال الدولة وأعيانها في مجلس عام لينظر في الأمر؟ أتراه يأمر بتجريد المتمردين من رتبهم وألقابهم لكيلا يكون لوزارته ولا لغيرها من رجال البلاد عليه فضل ويقف صلبا ينتظر النتائج كائنة ما تكون؟ كلا، فهذه كلها حلول تحتاج إلى عزيمة وإلى قوة جنان وإلى شعور بالمسئولية واستعداد لمجابهة الخطر وجها لوجه، وتوفيق الضعيف لا يملك شيئا من هذا؛ لذلك عمد إلى وسيلة عجيبة لا يعمد إليها سياسي، أخذ وزراءه وتوجه بهم إلى حيث تعسكر الألايات المتمردة يحقق معهم ويستعطفهم، ثم ذهب بنفسه إلى القلعة حيث ألاي عرابي ليرجوه ألا يفعل ما اعتزم فعله، لكنه وجد عرابي قد سبقه إلى عابدين فعاد هو الآخر أدراجه إليها.
وهناك في 9 سبتمبر سنة 1881 قام عرابي على رأس الجيش ممتطيا جواده مستلا سيفه ووقف توفيق في شرفة عابدين يحيط به وزراؤه وقناصل الدول.
وبأمر توفيق أغمد عرابي سيفه وتقدم بمطالبه، وهي إسقاط الوزارة وتشكيل مجلس النواب وزيادة عدد الجيش والتصديق على قانون العسكرية الجديد وعزل شيخ الإسلام، وربما كان التصديق على قانون العسكرية أهم مطالب الجند، وربما اكتفوا به لو أن الخديو أجابهم فورا إليه وأمرهم بالانصراف لكي تنظر حكومته فيما عدا ذلك من المطالب، لكن الخديو اضطرب لساعته ورفض الطلبات جميعا مواجها خطر النداء بعزله وإعلان الجمهورية في مصر على نحو ما كان يدور برأس عرابي وأصحابه، لكن وزراءه وقناصل الدول أشاروا على الخديو بالعود إلى داخل السراي خشية أن تعجل مواجهة ما بين الرجلين الحوادث، وصار مستر كولفن القائم بعمل المراقب الإنجليزي وقنصلا إنجلترا والنمسا رسلا بين الخديو وعرابي، وتصلب عرابي التصلب كله وأشار بعض الحاضرين على الخديو - ومن بينهم مستر كلفن - أن يتشبث بالرفض مؤكدين أن لن يصل رجال الجيش إلى أكثر من المظاهرة التي قاموا بها، لكن الخديو أوصله ضعفه وعدم احتياطه إلى التسليم فسقطت وزارة رياض لساعتها ووعد الخديو بتنفيذ باقي المطالب بالتدريج، ودعا إليه شريف باشا كي يشكل الوزارة الجديدة، ورفض شريف بسبب ما أمامه من المصاعب وأخصها تمرد الجيش وعدم طاعته الأوامر، فلما أظهر عرابي استعداده ورجاله للامتثال وللطاعة، ولما جاء عمد البلاد فكفلوا عرابي فيما قاله، ثم لما استشار شريف حكومة تركيا وحكومات إنجلترا وفرنسا وكفل معاونتهم جميعا، بعد كل هذا شكل الوزارة وأمر الضباط الثلاثة بأن يتفرقوا في أنحاء مختلفة من القطر، وبعث بعرابي إلى رأس الوادي وباشر الحكم في حزم وأناة كانت البلاد يومئذ بحاجة أشد الحاجة إليهما.
نامعلوم صفحہ
وآنس توفيق نفسه في عزلة بعدما أذعن إلى الاستعانة بشريف الذي كان قد أقصاه عن الحكم يوم طمع في الحكم المطلق على أثر وصول الفرمان بتثبيته في عرشه، وأحسبه هذه المرة كان يود أن تطول عزلته وأن تظل الحكومة عاملة والأمن مستتبا وأن تجري الأشياء في نصابها، فلا تزعجه العسكرية ولا غير العسكرية مرة أخرى، لكنه لم يلبث إلا قليلا حتى علم أن الباب العالي أرسل وفدا برياسة علي نظامي باشا، ترى ما هي مهمة الوفد؟ الخديو لا يعلم، وفرنسا وإنجلترا لا تعلمان، والوزارة العثمانية نفسها لا تعلم، لقد أرسله أمير المؤمنين بإرادة شاهانية، فماذا عسى أن تكون هذه الإرادة؟ ونزل الوفد مصر في 10 أكتوبر سنة 1881 بعدما احتجت إنجلترا وفرنسا على تركيا لإرسالها إياه من غير اتفاق معهما ولا مجرد إخطار لهما، وجاء الوفد واحتفل الخديو به وأقام بمصر سبعة عشر يوما وعاد أدراجه، وكان كل ما فعل أن أكد للخديو ثقة المتبوع الأعظم به، وإن أكد للجيش المصري في حديث دار بين نظامي باشا وطلبة عصمت بمسمع من الجند أن حكومة الباب العالي لا تلوم الجند على ما فعلوا وأنها ترى مصر في طمأنينة وسكينة.
بإزاء تصرف الوفد شعر توفيق كأن الدسائس التي كانت تحاك له خيوطها على ضفاف البسفور بمعرفة حليم باشا تعاونه الأميرات قد آتت ثمراتها، وأنه لولا تأييد إنجلترا وفرنسا إياه لكان معرضا لمثل ما تعرض له أبوه من قبل، ومن يدري؟ فقد يكون حليم باشا قبل أن تسترد تركيا في فرمان توليته ما شاءت أن تسترده من الحقوق المكسوبة لمصر، فليزدد توفيق إذا اعتمادا على فرنسا وعلى إنجلترا، وليخش في نفس الوقت تدخلهما، وليضطرب لذلك بين مختلف العوامل، وليترك وزارته تجاهد وحدها للخلاص من حرج الموقف.
ودعت الوزارة لانتخاب مجلس شورى النواب كي تعرض عليه القانون النظامي لمجلس النواب، وافتتحه توفيق بخطاب عرش ألقي في 26 ديسمبر سنة 1881 ورد عليه سلطان باشا رئيس المجلس، وعرضت الوزارة القانون النظامي، فاختلف المجلس معها في أمر نظر الميزانية، ذلك أن الحكومة كانت ترى احتراما للاتفاقات التي تمت بين الحكومة المصرية والدول الأجنبية أن يكون الأمر الأخير في الميزانية للوزارة مع مراعاة إرادة النواب قدر المستطاع في حدود هذه الاتفاقات، أما النواب فكانوا يريدون أن يكون رأيهم الأخير أو يسار على القاعدة الدستورية من حل المجلس أو سقوط الوزارة، ولم يمكن التوفيق بين الرأيين، فكان ذلك سببا في استقالة وزارة شريف باشا بتاريخ 4 فبراير سنة 1882 وحلول وزارة محمود باشا سامي البارودي محلها مع تعيين عرابي باشا وزيرا للحربية فيها.
وفي أثناء قيام الخلاف بين وزارة شريف باشا ومجلس شورى النواب أرسلت الحكومتان الفرنسية والإنجليزية مذكرة مشتركة إلى الخديو توفيق باشا تؤيدانه فيها في الخديوية وفقا للفرمانات، وتعدان سكينة مصر مما يعنيهما لمصلحة رعاياهما، وتعلنان استعدادهما لدفع ما يطرأ على الحكومة الخديوية من الأخطار، وكان منتظرا أن تحدث هذه المذكرة من الأثر ما يضعف تمرد المتمردين، على أن تركيا احتجت على الدولتين لتخطيهما إياها ومخاطبتهما الخديو مباشرة، كما علم العرابيون أن إنجلترا أبلغت فرنسا أنها برغم هذه المذكرة تعتبر نفسها حرة في الخطة التي تتخذها تنفيذا لمقاصدها، وقوى ذلك من ساعدهم وجعلهم أقل اكتراثا للحوادث وتقديرا لنتائجها، والواقع أن فكرة الثورة التي بدأها الجيش كانت قد انتشرت في أنحاء البلاد جميعا وأن قمع تيار هذه الروح كان قد أصبح متعذرا، وبخاصة مع وجود رئيس للدولة ضعيف ضعف توفيق.
واستمر مجلس النواب ينعقد إلى 26 مارس سنة 1882 حين صدر الأمر بانفضاض دوره العادي.
وفي أعقاب انفضاض المجلس نظر عرابي إلى ما حوله موجسا خيفة مما يدبر خصومه له، ولم تك إلا أيام حتى صدرت أوامر الحكومة بالقبض على عشرات الجراكسة ومن بينهم عثمان باشا رفقي بتهمة ائتمارهم به وبزملائه وبالنظام الذي أقاموه، ومحاكمتهم أمام مجلس حربي والحكم عليهم بالنفي إلى أقاصي السودان، وكان عرابي ومن معه مقتنعين بأن الخديو هو المحرض على هذه المؤامرة، وزادهم اقتناعا رفض الخديو التصديق على حكم المجلس الحربي، وعلى ذلك استعر الخلاف بين الخديو والوزارة، يصر الوزراء على تنفيذ حكم المجلس ويعترضه رئيس الدولة، وأدى ذلك إلى تخوف فرنسا وإنجلترا على الرعايا الأجانب في مصر، فقرروا إرسال بوارج إلى المياه المصرية للمحافظة على حياتهم ومصالحهم، وأعلنت فرنسا وإنجلترا جميعا حرصهما على تأييد الخديو في مركزه، وفي ذلك إشارة إلى ما كانتا تتوقعانه من وصول عرابي وأصحابه إلى استصدار قرار من النواب بعزله.
ولما اشتد الخلاف بين الوزارة والخديو دعت الوزارة الهيئة النيابية للاجتماع وتوسط سلطان باشا رئيس المجلس وجماعة من كبار النواب معه يريدون الوصول إلى حل لهذا الخلاف، وكان من الحلول التي قبلها الخديو أن يقال سامي البارودي من رياسة الوزارة وأن يحل محله مصطفى باشا فهمي، لكن مصطفى باشا أبى، وبينما المحادثات دائرة بين النواب والخديو والوزارة كانت البوارج الإنجليزية والفرنسية قد وصلت إلى المياه المصرية، وأعقبتها الدولتان ببلاغ وجهه قنصلاهما في 25 مايو إلى الخديو يطلبان فيه سقوط الوزارة بتمامها، وخروج عرابي من القطر المصري مع ضمان الدولتين رتبه ومرتباته ونياشينه، وإقامة علي فهمي وعبد العال حلمي في الأرياف وإصدار الخديو بعد ذلك عفوا عاما عن جميع من كانت لهم يد في المسألة.
وأبلغ الخديو وزراءه هذا الإنذار، فرفضوه بحجة أن ليس للدول شأن في مخابرة مصر إلا عن طريق الأستانة، على أن الخديو أظهر رضاه عن الإنذار، فاستقالت الوزارة محتجة وقبل الخديو استقالتها، ودعا شريف باشا لتشكيل وزارة جديدة، لكن شريف باشا رأى الموقف لا يطاق فاعتذر كما اعتذر عمر باشا لطفي، وفي هذه الأثناء أوفد الباب العالي درويش باشا معتمدا سلطانيا لينظر في الخلاف بين الخديو ووزرائه بل العرابيين جميعا، فإن هؤلاء كانوا قد انتهوا إلى ضرورة خلع الخديو وتولية البرنس حليم مكانه، وكانوا يطمعون في نجاح هذه السياسة لعلمهم أن تركيا تؤيدها.
وفي انتظار حل المشاكل وتعيين وزارة جديدة وطنية تفاقم الخطب واضطرب حبل الأمن، فاضطر الخديو إلى أن يعين عرابي وحده ناظرا للحربية ليتولى أمر الأمن في البلاد.
ولم يشر الخديو من جانب المعتمد السلطاني بما يدل على استعداد تركيا إذا اقتضت الحال للتدخل المسلح ولتأييده في مركزه برغم العرابيين؛ لذلك قبل الموقف كما هو وعين وزارة إسماعيل راغب باشا على أن يظل عرابي وزيرا للحربية، وظل توفيق ووزراؤه في العاصمة، وظلت أساطيل الدول في مياه الإسكندرية، وظل الناس يتحدثون فيما يمكن أن تؤول إليه الأمور في زمن قريب، وكان أعجب المواقف يومئذ موقف تركيا، فقد اقترحت إنجلترا وفرنسا أن ينعقد بالأستانة مؤتمر دولي للنظر في حالة مصر وإقرارها على صورة من الصور، لكن تركيا رفضت رفضا باتا بدعوى أن الحالة في مصر عادية وأن النظام القائم لا خوف عليه، وفيما الحديث بين الدول في أمر المؤتمر وانعقاده دائر وقعت فتنة الإسكندرية في 11 يونيو سنة 1882.
نامعلوم صفحہ