تراجم مصرية وغربية

محمد حسین ہیکل d. 1375 AH
53

تراجم مصرية وغربية

تراجم مصرية وغربية

اصناف

لم يبق علينا إلا أن نقنع إنجلترا أن ليس بها حاجة إلى التمسك بالضمانات التي تريد الاحتفاظ بها فتخطو بريطانيا العظمى خطوة أخرى بالاكتفاء بما لا يتنافى منها مع استقلالنا الشرعي، وليس لدينا وسيلة لتأييد ما نذهب إليه أكثر من تعلقنا بأهداب السكينة والتزامنا الهدوء وأخذنا بأسباب النظام، فإن حجتهم الكبرى فيما يبدونه من رغبة في الضمانات هي شدة حذرهم على مصالحهم وخوفهم عليها وعدم اطمئنانهم إلى تركها لعهدتنا، فإذا قضينا على عوامل الفتنة والاضطراب وجعلنا التزام السكينة رائدنا فإننا نثلم هذا السلاح بأيديهم وندفع حججهم علينا، ولا مشاحة في أن كل من يعمل على تعكير السلام أو إثارة الاضطراب مجرم في حق وطنه عامل على هدم كيانه.

ثم جاء فيه أيضا:

إنني لا أكره المعارضة، بل إذا انعدمت هذه المعارضة فإنني أعمل على خلقها لما لها من نفع وفائدة في الوصول إلى الحقيقة وتمحيص كل أمر على أكمل وجه، ولكني أريد المعارضة الشريفة التي تترفع عن الاعتبارات الشخصية ولا تنزل إلى اختلاق الأكاذيب، إنني أريد الخصومة الشريفة التي لا تنظر إلا لمصلحة الوطن وخير البلد وتدرس كل أمر لذاته مجردا عن كل اعتبار شخصي.

وهذه الخطة التي رسمها ثروت باشا في خطاب يوم عيد ميلاد جلالة الملك هي التي كررها من بعد في خطب ألقاها في افتتاح لجنة الدستور ولوفود ذهبت إليه في شئون سياسية مختلفة، ولقد كان لهذه الخطة الحكيمة أن تؤتي ثمرها كاملا بفضل مهارة ثروت وحنكته وقوة منطقه لو أن مناوأته لم تنتقل من الميدان الوطني الصحيح إلى ميادين أخرى، فبينا هو يعمل جادا في تطبيق مزايا الاستقلال التي حصلت عليه مصر مقيدا بالتحفظات التي أشرنا إليها؛ وقعت على جماعة من البريطانيين - ضباطا وجنودا ومدنيين - سلسلة اعتداءات شنيعة أودت بحياة ثمانية عشر منهم على التعاقب، على أن هذه الاعتداءات وحدها ما كانت لتجني على خطته لو لم يقترن بها ما جعل مركز وزارته حرجا غاية الحرج بعد زمن وجيز من بدء لجنة الدستور عملها، فقد عمدت هذه اللجنة إلى وضع مبادئ تتفق مع المبادئ العصرية التي كلفت بوضع الدستور المصري على أساسها، وشاركها ثروت باشا الرأي في مبادئها، وفي رأي البعض أن مصر بلاد شرقية يجب أن تسود فيها وسائل السياسة الشرقية وخططها؛ لذلك ألفى ثروت باشا نفسه في موقف لا يستطيع معه القيام بأعباء الحكم على الوجه الذي يرضاه ضميره. وبرغم المحاولات الكثيرة التي بذلها لتهدئة العواصف الكمينة في ثورتها حوله، فإنه شعر بدقة المركز فجعل يستعجل لجنة الدستور حتى وضعت مشروعه وتعجلت بعد ذلك في وضع مشروع لقانون الانتخاب، ورفعت اللجنة مشروعها إليه في جلسة تاريخية ألقى فيها كلمة ذكر في أثنائها أنه سيعمل على صدور الدستور كما وضع مشروعه، وكان ذلك في 18 أكتوبر سنة 1922، ولما كان جماعة أصدقائه السياسيين يؤلفون في هذا الوقت حزب الأحرار الدستوريين؛ انتظر من معونتهم ما يكفل اقتداره على السير بسياسته خطوة أو خطوات أخرى، لكن الحزب ما كاد يتألف في 30 أكتوبر ثم ما كاد يمضي أسبوعان على تأليفه حتى أطلق جماعة من الشبان الرصاص على باب داره دار جريدة «السياسة» فأصابوا حسن باشا عبد الرازق وإسماعيل بك زهدي من أعضاء مجلس إدارته، وأبدت الصحف المناوئة لهذا الحزب أن الرجلين ذهبا ضحية خطأ يؤسف عليه لأنهما لم يكونا مقصودين بالذات.

وكثرت الأقاويل حول المصادر الحقيقية التي تشجع هذه الجرائم، ورأت وزارة ثروت باشا بعد أن رفعت الدستور إلى جلالة الملك أنها خطت بالبلاد خطوات يمكن الوقوف عندها فترة ريثما تطمئن النفوس وتهدأ أسباب الجريمة، وعلى ذلك رفع ثروت باشا استقالته في يوم 30 نوفمبر منوها فيها بما أتمت وزارته وبما مهدت له من صدور الدستور وغير الدستور مما نص في تصريح 28 فبراير على وجوب صدوره.

واعتكف ثروت منتظرا ظرفا خيرا من الظرف الذي كان فيه في الحكم ليعود إلى الميدان فيعمل لإتمام ما بدأه بتصريح الاستقلال، على أنه في اعتكافه لم يتوان يوما عن بذل كل ما لديه من نفوذ كي يصدر الدستور، فلما صدر في 19 أبريل سنة 1923 أيام قيام وزارة يحيى باشا إبراهيم وانتظرت البلاد الانتخابات؛ أخذ يتوقع في ظروفها ما يطوع له العود لتنفيذ سياسته، وسياسته - كما رأيت - تقوم على الإخلاص الصحيح والعزم الوطيد على إتمام اتفاق بين إنجلترا ومصر تحل به المسائل المعلقة في التصريح، وعسير الوصول إلى هذا وفي البلد من آثار الانقسام ما يخشى أن يجني على أية مفاوضات جديدة جناية الانقسام على المفاوضات التي تولاها عدلي باشا يكن سنة 1921.

فلما عاد سعد زغلول باشا من منفاه فكر ثروت في إمكان التفاهم معه اجتنابا لكل انقسام مستقبل، لكن علاقات الرجلين كانت متوترة منذ سنة 1921 أشد التوتر، وقد ألقى المحيطون بسعد في روعه أن ثروت هو الذي نصح بنفيه، ثم إن سعدا كان قد طعن على ثروت أشد المطاعن وأقساها، بل لقد ذهب في الطعن عليه إلى اتهامه في إخلاصه لوطنه، فكيف يستطيع ثروت أن ينسى هذا كله وأن يتقدم إلى ناحية سعد خطوة من الخطى؟! على أنه رأى كرامة الوطن فوق كرامة أي فرد من أبنائه، فبعث إلى سعد بخطاب يذكر له فيه أنه في حرصه على مصلحة الوطن يريد أن يحتكم وإياه في أسباب الخلاف بينهما إلى الأمراء وذوي الرأي والمكانة في البلاد.

وكان يرجو من احتكامه أن تزول أسباب الانقسام وأن تعود وحدة الأمة ليعود هو - معتمدا على هذه الوحدة - إلى استكمال استقلال بلاده بإتمام الاتفاق بين مصر وإنجلترا، لكن مسعاه هذا لم ينجح أن رفض سعد باشا التحكيم، وبقي ثروت باشا بعد ذلك بين كتبه ومكتبته وفي عمله المتصل بالجمعية الخيرية الإسلامية وبالجامعة المصرية وبغيرهما من الهيئات التي كانت أبدا في حاجة إلى ثاقب رأيه.

فلما كانت سنة 1925 أدت الظروف السياسية إلى التفاهم والائتلاف بين سعد زغلول باشا وخصومه السياسيين، ذلك أن سعد باشا حصل حزبه على الأغلبية الكبرى في انتخابات سنة 1924 فتولى الوزارة وظل فيها حتى اعتدت جماعة ينسب بعضهم إلى حزبه على حياة السيرلي ستاك باشا حاكم السودان العام، فأبلغت إنجلترا حكومته إنذارا قاسيا اضطرت بعده إلى التخلي عن المناصب، وخلفه أحمد زيور باشا في رياسة الحكومة، فاستعان بالأحرار الدستوريين بعد أن حل مجلس النواب وأجرى انتخابات أسفرت عن أغلبية لحزب سعد باشا كذلك، فحل المجلس الجديد أيضا وأجلت الانتخابات إلى أجل غير مسمى.

على أن الحل الأول وهذا التأجيل الثاني خلق في البلاد حزبا جديدا كان أعضاؤه كثيري التردد على القصر الملكي، وكانت رغبتهم عن الدستور والحياة النيابية أكثر من رغبتهم فيهما، وخيل لأعضاء هذا الحزب يوما أنهم يستطيعون القيام وحدهم فأقيل رئيس حزب الأحرار الدستوريين من الوزارة واستقال زميلاه الوزيران اللذان كانا من أعضاء حزبه تضامنا وإياه، وسنحت بذلك فرصة التفاهم والائتلاف مع حزب سعد زغلول باشا ضد الخصم المشترك والعمل معا لعود الحياة النيابية، وكذلك قربت الظروف بين ثروت باشا وسعد باشا، وكان يخيل للكثيرين أنهما لن يلتقيا.

نامعلوم صفحہ