ولم تضعف استقالته من الوزارة من إيمانه بإمكان الاتفاق بين مصر وإنجلترا، بل كان يرجو في ظروف سياسية جديدة ما يمكنه من العود لمعالجة المفاوضات من جديد مع عظيم الرجاء في نجاحها، لكن المجهود العظيم الذي أنفقه والمقابلة السيئة المنطوية على إنكار الجميل التي قوبل بها، ومحاولته نسيان ذلك بالإكباب على العمل في مجلس الشيوخ كعضو من أعضائه، كل ذلك هز أعصابه وأضعف قوته؛ فسافر مستشفيا في صيف سنة 1928 وذهب إلى سان مورتز ثم عاد منها إلى باريس في 18 سبتمبر، ولم يكن يدري أن أجله يتربص به فيها ليختم كتاب حياته في الساعة الثانية من بعد ظهر 22 سبتمبر، أي بعد وصوله إليها بخمسة أيام.
وبكت مصر ثروت، وتقدمت دول العالم كلها تعزيها فيه، وتناولت الصحافة في مختلف الأمم أعماله فشادت بها ورفعتها إلى المكان الجديرة به، بكته مصر مقدرة جميل صنيعه، وعظيم نزاهته، وعلو همته، آسفة على ما فرط منها أيام حياته في حقه، مؤمنة بأن سيبقى اسم ثروت علما في تاريخ مصر على الاقتدار السياسي المنقطع النظير.
القسم الثاني
تراجم غربية
بتهوفن
اليوم - 26 مارس سنة 1927 - يحتفل العالم بمرور مائة عام على وفاة بتهوفن، إجلالا لتلك الألحان القدسية التي أورثها إياه هذا النابغة الشقي، والتي ما تزال برغم ما أحدث كبار رجال الموسيقى آيات خالدة في عالم النغم، فما يزال لحن الريف وألحان بتهوفن التسعة الأخرى وسائر أناشيده الغنائية تموج في جو الوجود فتزيده بالحياة نعمة، وتشدو في أغوار نفوس عارفيها والمعجبين بها كلما أعوزهم اللحن العذب ليرفع من هممهم وليقوي عزائمهم، وما يزال اسم بتهوفن ولن يزال مقترنا بكل لحن من هذه الألحان، بل بكل نغمة من نغماتها، وذكر العالم اليوم له لمرور مائة عام على وفاته ليس إلا أداء لدين الشكر الواجب على العالم لكل من زاد حياته جمالا وفضلا وقوة.
يذكر العالم كله اليوم بتهوفن فيذكر ذلك الألماني المولد، الفلمنكي الأصل، المتقارب أجزاء الجسم في قصر يكاد يجعله قزما، الحاد النظرة، العبوس، المتجهم للحياة بعدما تجهمت الحياة له، فأورثته المرض وانتهت به إلى الصمم، الجاعل مع ذلك من الألم سبيل المسرة، المفني نفسه في سبيل فنه، المؤمن برسالته وبقوته، يذكر العالم هذا الرجل الذي لم يجد في غير العمل سبيلا للسعادة، أو بالأحرى لحسن احتمال الشقاء، والذي توافر على عمله في الموسيقى توافرا جعله ينتج هذه الثروة الفنية، والذي لم يعرف غير الموسيقى ولم يؤمن بشيء إيمانه بها أن كانت أعصابه أوتارا تهتز بالنغم لكل ما في الحياة.
فقد كان كل ما في الحياة عنده نغما، كان الجمال نغما والعواطف نغما والأفكار نغما والنور والظلمة والحزن والمسرة والزهر والشجر والسحاب والجبل وكل ما في الطبيعة وما في الحياة أنغاما تشدو بها أوتار هذه النفس العصبية الحساسة الشديدة التأثر بكل ما يلامسها.
بهذه الأنغام وبما تعبر عنه من جليل المعاني وبذكرى واضعها يحتفل العالم إذا اليوم.
وعجيب أن كانت حياة واضع هذه الأنغام السماوية نشازا كلها؛ فلم ينشأ بتهوفن نشأة غيره ولم تتسق حياته مع نبوغه، ولم يذق من الهناء ما يذوقه أمثاله، بل كان - وهو على حد قوله: «باكوس الذي يستصفي للإنسانية الرحيق العذب ويجلي على الناس أقدس ما في الروح من جلال» - معذبا في نشأته، معذبا جل حياته، معذبا كذلك في موته، ولعل ما متعت به ذكراه بعدما استراح من عناء الحياة ونشازها الدائم معه قد أفاء على روحه من الطمأنينة ما لم يسترح إليه يوما طوال عيشه. •••
نامعلوم صفحہ