تراجم مصرية وغربية

محمد حسین ہیکل d. 1375 AH
52

تراجم مصرية وغربية

تراجم مصرية وغربية

اصناف

ولما كانت الشروط الأربعة عشر التي وضعها الرئيس ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة معتبرا إياها أسسا للهدنة والصلح قد أعلنت قبل الهدنة بأشهر مشتملة على شرط يجعل للشعوب حق تقرير مصيرها، فقد انتهز جماعة من أعضاء حزب الأمة - نذكر من بينهم علي باشا شعراوي، ولطفي بك السيد، ومحمد باشا محمود، وعبد العزيز باشا فهمي - هذه الفرصة، ففكروا في تكوين هيئة تطالب لمصر بحقها في تقرير مصيرها، وأفضى هؤلاء بفكرتهم إلى حكومة رشدي باشا فوجدوا منها ارتياحا لها، ففاتحوا سعد زغلول باشا على أن يكون رئيسا لهيئتهم باعتباره وكيل الجمعية التشريعية المنتخب كما فاتحوا عبد اللطيف المكباتي بك ومحمد علي باشا من أعضاء الحزب الوطني، وعلى ذلك تألفت هيئة أطلقت على نفسها اسم الوفد المصري، ووضعت صيغة توكيل من الأمة لها بالسعي لاستقلال مصر أينما وجدت إليه سبيلا، ووزعت هذه التوكيلات في طول مصر وعرضها بعلم حكومة رشدي باشا، وكان من رأي السير رجنالد ونجت مندوب إنجلترا السامي في مصر يومئذ أن يترك لهذا الوفد حرية السفر إلى إنجلترا أو إلى حيث شاء من ممالك أوربا، وأن يسافر حسين رشدي باشا وعدلي يكن باشا ليعبرا في لندن عن مطالب المصريين، ولو أن نصيحة السير ونجت نجحت يومئذ لتغير على الأغلب وجه المسألة المصرية ولسارت في طريق غير التي سارت فيها بسبب رفض إنجلترا للوفد وللوزيرين المصريين بالسفر.

ورفضت حكومة لندن سفر أحد من الوزراء المصريين وسفر رجال الوفد إلى إنجلترا أو إلى مؤتمر السلام، ولم تنجح محاولات الحكومة المصرية والمندوب السامي البريطاني في تحويل الحكومة الإنجليزية عن رأيها، هنالك استقال رشدي باشا وعدلي باشا واستقالت وزارتهما في 6 فبراير سنة 1919، ولقد خيل إلى المراجع العليا يومئذ أنهم واجدون في ثروت باشا - وله من الكفاية والمقدرة ما له - الرجل الذي يستطيع التغلب على الموقف بإقناع رجال الوفد كي يعدلوا عن خطتهم، كما خيل إليهم أن ثروت باشا لن يرفض رياسة الوزارة حين تعرض عليه، وما يزال يومئذ في الخامسة والأربعين من عمره، لكن تقديرهم أخطأ، فقد كان ثروت باشا مشتركا بقلبه وبعقله مع الحركة الوطنية ومع زميليه عدلي ورشدي، ثم هو كان يقدر التبعة الكبرى التي احتملها مع زميليه بقبول البقاء في الوزارة بعد إعلان إنجلترا حمايتها على مصر، فإذا كانت المقادير قد أتاحت النصر لإنجلترا، وكانت مصر - والحكومة المصرية بنوع خاص - عاملا من عوامل هذا النصر اعترف به الفيكونت مارشال اللنبي قائد جيوش الحلفاء في الشرق، فإن من خطل الرأي وسوء التدبير الذي لا يليق بسياسي حنكته تجارب الحرب ما حنكت ثروت باشا أن يرضى العاجلة من رياسة الوزارة بديلا لما كان يرى حقا لأمته أن تبلغه من نظام يتفق مع مكانتها ويعادل بعض الجهود التي بذلتها أثناء الحرب الكبرى، وإذا كانت بعض دول أوربا التي خاضت غمار الحرب إلى جانب الحلفاء قد حصلت على وعود بالتوسع وضمان الاستقلال، وإذا كانت بلاد العرب قد اعتبر لها استقلالها، فلن يكون ثروت هو الذي يقبل وزارة يعتبر قبولها حيلولة دون مصر وما تطمع فيه من استقلال وعزة مكان بين دول العالم.

ورفض أن يشكل الوزارة في هذا الظرف الدقيق مقدرا أن سيحسب عليه رفضه عند ذوي الكلمة والمراجع العليا في مصر، بل لقد أبلغ يومئذ أن رفضه هذا يحول بينه وبين الوزارة بقية حياته، فلم يعبأ بما أبلغ إليه وأصر على الوقوف إلى جانب أمته إصرارا دعا الوفد - وعلى رأسه سعد زغلول باشا - كي يسعى بكامل هيئته إلى دار ثروت باشا مقدما إليه التهنئة على إبائه الوطني وآيات الشكر على تضامنه مع الوفد في حركته القومية، وكانت كلمات سعد باشا له أن تضامنه مع الحركة القومية العامة يكسب الوفد قوة والبلاد أملا في النجاح، وترتب على هذه الزيارة لبيت ثروت باشا أن أنذرت السلطة العسكرية الوفد بأنهم بحركاتهم يعرقلون سير الحكومة، على أن هذا الإنذار لم يزد على أن ثبت ثروت باشا في إصراره على رفض تشكيل الوزارة وعلى وضع حجر الأساس برفضه هذا لنجاح القضية القومية.

من ذلك التاريخ بدأ ثروت باشا نشاطه السياسي في السعي لاستقلال بلاده بالطرق المشروعة التي أشار إليها في مرافعته في قضية قاتل بطرس باشا غالي، ومن ذلك التاريخ أخلص لغايته كل نفسه وكل جهده وازدرى إلى جانبها كل ما يطمع فيه غيره، على أن ثقته المطلقة بنفسه كانت تدعوه إلى أن يتبع في سياسته خطة غير التي يتبعها كثيرون من الساسة غيره، فهو لم يكن يبدأ بأن يعلن للناس مطالبه مستعينا في تحقيقها بالقوة أو بالواقعية أو بالمساومة، بل كان يحدد في نفسه غاياته ويعتمد قبل كل شيء على البحث المقترن بالحكمة والمنطق وحكم العقل، وقوته ومهارته وصبره كانت تكفل له النجاح دائما في بلوغ ما يريده، وكان يكفل له هذا النجاح كذلك ما تعوده من الاضطلاع بالتبعات وحمل المسئوليات منذ أول شبابه وحين كان سكرتيرا لمستشار الحقانية الذي ألقى بين يديه بواسع سلطته، بهذه القوى عنده استعان حين جاءت لجنة ملنر سنة 1920 لتنظر في وضع نظام لمصر تحت الحماية البريطانية فاشترك مع أصدقائه السياسيين - رشدي باشا وعدلي باشا وإسماعيل صدقي باشا - في إقناع اللجنة بضرورة التفاهم مع هيئة الوفد المصري في أمر القضية المصرية، وكان ثروت باشا من بين زملائه هو الذي ينقل آراء اللجنة ووجهات نظرها إلى رجال الوفد بباريس كي يمهد لهم الوقوف على آرائها وخططها، حتى إذا اتصلوا بها كان اتصالهم مثمرا، فلما انتهت اللجنة من محادثاتها مع الوفد وأعلن مشروع ملنر في صيف 1920 ثم قدمت اللجنة تقريرها وأعلنت الحكومة البريطانية اعترافها بأن الحماية علاقة غير مرضية بين مصر وإنجلترا وطلبت إلى عظمة سلطان مصر إيفاد هيئة تتفاوض مع الحكومة البريطانية في استبدالها بعلاقة أوجب للرضا، شكل عدلي باشا وزارته الأولى في مارس سنة 1920 وكان ثروت باشا وزير الداخلية فيها.

وعاد سعد زغلول باشا من باريس في أوائل أبريل ودارت محادثات بينه وبين الوزارة انتهت إلى اختلافه وإياها في طريقة تشكيل الوفد الذي يقوم بالمفاوضة وإعلانه الحرب عليها في خطبة ألقاها في 28 أبريل بحي شبرا، ثم سافر عدلي باشا على رأس الوفد الرسمي الذي تألف بأمر عظمة السلطان ليقوم بالمفاوضة، واستصحب معه من أعضاء وزارته حسين رشدي باشا وإسماعيل صدقي باشا ومحمد شفيق باشا، كما استصحب غيرهم مفاوضين ومستشارين، وقام ثروت باشا في مصر رئيسا للوزارة بالنيابة، وكوزير للداخلية مسئول عن حفظ الأمن والنظام اللذين كانا مهددين بحركات أنصار سعد باشا زغلول لم يتردد في احتمال التبعات التي رآها واجبة في هذا الظرف، دالا بذلك على جرأة وحزم لا يعرفان ترددا ولا هوادة، وبرغم الجهود التي بذلها عدلي باشا والوفد الذي كان معه في سبيل إقناع الإنجليز بوجهة نظر مصر، وبرغم تناولهم كل مسألة من المسائل الخلافية بين الدولتين ابتغاء الوصول إلى حلها حلا يقنعهما، فقد جنى الخلاف بين سعد باشا والحكومة على هذه المفاوضات فلم تؤت الثمرة التي كانت مرجوة منها؛ ولذلك قطع عدلي باشا المفاوضة بعد أن أعلن إليه لورد كرزون وزير الخارجية البريطانية مشروع حكومته، واستقال عدلي باشا على أثر وصوله، ونشرت السلطات البريطانية المشروع المذكور مرفقا بمذكرة مهينة لمصر أشد الإهانة.

تحرج الموقف السياسي بين مصر وإنجلترا على أثر هذه الاستقالة، ثم زاده حرجا أن قبضت السلطة العسكرية البريطانية على سعد زغلول باشا وخمسة من أنصاره وقررت نفيهم عن مصر، هنالك عادت البلاد كلها كلمة واحدة تنادي بعدم التعاون مع إنجلترا وتدعو كل مصري ألا يقبل تأليف وزارة تضطلع بمسئولية الأمر في مصر حتى تظل إنجلترا وأحكامها العرفية مسئولة مباشرة عن كل ما يقع فيها.

في هذا الظرف ظهرت مهارة ثروت باشا السياسية وظهر اقتداره، إن المشروع الذي أعلنته إنجلترا ولم تقبله مصر يقضي باعتراف إنجلترا باستقلال مصر استقلالا مقيدا في مسائل معينة، وهذه القيود هي التي لا ترضاها مصر، فإذا أرجأنا النظر في هذه القيود إلى ظرف مقبل أكثر ملاءمة من ظرف المفاوضات وما كان يشوبه من خلاف بين سعد باشا زغلول والحكومة المصرية وأعلنت إنجلترا من جانبها التخلي لمصر عما ارتضت أن تتخلى عنه في أثناء مفاوضات عدلي باشا ووفده، كانت هذه خطوة جديدة من جانب إنجلترا تدل بها على حسن نيتها بإزاء مصر وتزيل الحرج الذي أدى إليه كتابها المرفق به المشروع، ثم لا تكون قد خسرت شيئا لأنها إنما تتنزل عما كانت معتزمة من قبل التنزل عنه، على أنه حين بدأ محادثاته مع معتمد إنجلترا للوصول إلى هذه الغاية لم يبدأها بطلب إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر؛ لما كان يعلمه من أن هذا الطلب يلاقى من جانب حكومة لندن بالرفض، بل تقدم بطلبات لا يبدو أول الأمر أن لها بوجود الحماية البريطانية لمصر أو برفعها اتصالا، ولم يكن بد أمام العقل من قبول إنجلترا هذه الطلبات، وبعد قبولها وتحديد المسائل التي تعلق لمفاوضات حرة مستقبلة بين مصر وإنجلترا؛ وصل ثروت باشا من بحثه إلى نقطة تبين معها لممثل إنجلترا نفسه أن بقاء الحماية الإنجليزية مفروضة على مصر لم يبق له أية فائدة لإنجلترا نفسها، وحكم العقل يقضي بأن التشبث بأمر لا فائدة من ورائه سخف لا يليق بذوي الفطنة السياسية، وقد بلغ من اقتناع لورد اللنبي معتمد إنجلترا واقتناع المستشارين الإنجليز في الوزارات المصرية برأي ثروت باشا أن هددوا جميعا بالاستقالة إذا وقفت لندن فلم تجب مطالبهم، وعجبت حكومة لندن لهذا الموقف فاستدعت معتمدها ومستشاريه فذهبوا إليها، ولم يكن إلا أيام حتى أقنعت حجج ثروت الحكومة الإنجليزية أيضا، وعاد لورد اللنبي في يوم 28 فبراير سنة 1922 فأعلن في مصر تصريحا من جانب إنجلترا بأنها تعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وتنهي لذلك حمايتها عليها محتفظة لمفاوضات مستقبلة بمسائل أربع: الدفاع عن مصر، وحماية مواصلات الإمبراطورية، وحماية الأجانب والأقليات، ومسألة السودان، وعلى أثر ذلك أجاب ثروت باشا دعوة جلالة الملك فشكل وزارته الأول في أول مارس سنة 1922.

على أن هذا العمل العظيم الذي قام به ثروت باشا من حمل إنجلترا على الاعتراف باستقلال مصر كان سببا لأن تدبر ضده في الخفاء مؤامرة لاغتيال حياته، وقد دبر هذا الاغتيال قبل إعلان التصريح بيومين، على أن إدارة الأمن العام علمت بالمؤامرة وأحبطتها بأن أبلغت ثروت باشا الخبر وتفاصيله، وأن المؤتمرين يكمنون له عند كوبري الأعمى حتى إذا مر في (أوتموبيله) ذاهبا إلى نادي محمد علي فتكوا به، وقد طلب ذلك اليوم إلى مقابلة عظمة السلطان في عابدين في الوقت الذي كانت المؤامرة فيه تريد إتمام جريمتها، فدعا إليه صديقه وزميله في محادثات الإنجليز بشأن الاعتراف باستقلال مصر حضرة صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا وطلب إليه أن ينوب عنه في مقابلة جلالة الملك على أن يركب سيارة بالأجرة، وكذلك نجا ثروت وقبض على المتآمرين، ومن يدري ماذا كان يصيب مصر لو أن الجناية تمت على ما يشتهي المدبرون؟!

وإعلان إنجلترا اعترافها بمصر دولة ذات سيادة بفضل مجهودات ثروت باشا السلمية ومقدرته على الاستفادة من الظروف بتقديره قوة بلاده ومطالب إنجلترا - هذا الإعلان رفع مقامه فجعله سياسيا فذا في نظر العالم بأسره، وجعل أبناء أمته يتطلعون إليه معجبين به وبمهارته، على أنهم انقسموا مرة أخرى، لا في تقديرهم المجهود لذاته، ولكن في الخطة السياسية، أو بالأحرى في الخطة الحزبية التي يسلكونها بإزاء التصريح بالاستقلال وبإزاء الرجل الذي فاز به، أما الطوائف الحكيمة التي تقدر الأشياء بقيمتها الحقيقية فاعتبرت التصريح خطوة جدية في سبيل استكمال الاستقلال وعاهدت ثروت باشا على مؤازرته في خطته، ووقفت طوائف أخرى حريصة من ناحية على ألا يمس التصريح أذى، عاملة في نفس الوقت على مناوأة ثروت باشا وحكومته مناوأة دفعتهم للطعن على التصريح والانتقاص من قيمته، وقد كان من مظاهر هذا الموقف أن أمسك هؤلاء عن إبداء رأيهم في التصريح حين أعلن البرلمان الإنجليزي أنه يريد بحثه في جلسة حدد لها يوم 14 مارس سنة 1922، وظلوا في وجل أي وجل ألا تنال حكومة لويد جورج ثقة البرلمان بسبب إعلانها إياه، فلما فازت هذه الحكومة البريطانية بالثقة وأعلن جلالة ملك مصر استقلالها في 15 مارس واطمأن هؤلاء المتحفزون إلى أنه أصبح حقا لمصر لا ينازعها فيه أحد؛ بدءوا حملتهم عليه حملة منظمة غايتها الحملة على حكومة ثروت باشا، على أن ثروت لم يتردد في هذا الظرف لحظة، بل ظهر بكل ما يجب من قوة وحزم وبدأ ينفذ ما ينطوي عليه التصريح من حقوق مصر بإنشاء وزارة الخارجية التي كانت ألغيت منذ أعلنت الحماية البريطانية على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914، وبإقالة المستشارين البريطانيين من مختلف الوزارات عدا وزارتي الحقانية والمالية، وبتشكيل لجنة من خيرة رجال مصر لتضع للبلاد نظاما دستوريا على أحدث المبادئ العصرية، وبالضرب على يد الفوضى في كل صورها ومظاهرها، وإظهار الحكومة المصرية الأهلية بمظهر الاحترام الواجب لها.

وليوطد في النفوس الإيمان بحق مصر دعا في 26 مارس سنة 1922 - لمناسبة عيد ميلاد جلالة الملك - إلى حفلة كبيرة بفندق الكونتننتال حيث ألقى خطابا يبين فيه مزايا العمل الجليل الذي قام به ويرسم فيه الخطة الواجب اتباعها لاستكمال الاستقلال، وقد يبدو عجيبا أن تكون الفكرة السائدة في هذا الخطاب هي بعينها الفكرة التي وردت في مرافعة عبد الخالق ثروت النائب العام في قضية الورداني، والتي أوردت نصها من قبل، فقد جاء في هذا الخطاب السياسي ما نصه:

نامعلوم صفحہ