لقد صدقت ماجدولين فيما قالت، فقد ملها «إدوار» بعد عامين اثنين من زواجه منها وبرم بها وانتهى أمره معها بما ينتهي به كل زواج تعقده يد الشهوة، ولقد مل منها أكثر من كل شيء تلك الوحشة التي كانت سائدة على نفسها، وذلك السكون المخيم على عواطفها ومشاعرها، وذهابها في تصوراتها وآرائها مذهب الخيال الشعري الذي لا يألفه ولا يأنس به، ولا يلتئم مع طبيعة نفسه ومزاجها، فلقد كانت نفسه نفسا مادية ضاحكة ونفسها نفسا روحية مكتئبة، وقد تكلف كل منهما الخروج عن طبعه برهة من الزمان لغرض طارئ من أغراض الحياة، فأخرجها عن طبعها ذلك اللألاء الساطع الذي بهر عينيها عند انتقالها من القرية إلى المدينة، وتلك الضوضاء العظيمة التي أحاطت بأذنيها وحالت بينها وبين سماع صوت قلبها، وأخرجه عن طبعه أنه أحبها وافتتن بها، وكان لا بد له من أن يقع من نفسها، وينزل عند رغبتها، فتجمل لها في أحاديثه ومنازعه، وتصوراته وآرائه، بما يتجمل به كل رجل لكل امرأة عند خطبتها، حتى اتصلا بصلة الزواج، فأخذا يتراجعان شيئا فشيئا إلى طبعهما وسجيتهما، ويذهبان في الحياة مذهبهما الذي فطرا عليه، فتنافرا وتناكرا، واستوحش كل منهما من صاحبه، ولقد كان يكون «إدوار» خير الأزواج لو أنه تزوج امرأة مثل «سوزان» مادية النفس، وكانت تكون ماجدولين أسعد الزوجات لو أنها تزوجت رجلا مثل «استيفن» شعري الطبيعة، وما خدعت «سوزان» ماجدولين في تزيين هذا الزواج لها وإغراضها به، ولا أرادت بها في ذلك سوءا؛ لأنها لم تر لها إلا ما ترى مثله لنفسها، ولا سلكت بها إلا الطريق التي سلكت مثلها في حياتها.
والهفوة التي يهفوها الرجال والنساء جميعا في مسألة الزواج أنهم يتساءلون عن كل شيء من جمال أو مال، أو خلق أو ذكاء، أو علم أو عقل، أو عفة أو أدب، ويغفلون النظر في ملاك هذه الأشياء جميعها وزمامها، وهو الوحدة النفسية بين الزوجين، فالنفس نفسان: مادية تقف عند مظاهر الحياة ومرائيها، وروحية تتغلغل في أعماقها وأطوائها، وأصحاب النفس الأولى هم أولئك الجامدون المتبلدون الذي يدورون في الحياة حول محور أنفسهم ولا يحفلون بشيء فيها إلا بما يتصل بمطامعهم أو بشهواتهم، والذين إذا شغفوا بالجمال شغفوا به باعتبار علاقته بأجسامهم لا بنفوسهم، وإذا أعجبوا بمنظر من المناظر أعجبوا به من حيث قيمته ومنفعته لا من حيث بهائه ورونقه، وإذا وقفوا أمام قصر باذخ جميل شغلهم النظر في غلته وثمرته عن الشعور بجماله وعظمته، وإذا أشرفوا على الطبيعة ضاقت صدورهم بمناظر غياضها ورياضها، وآجامها وأحراشها، واستوحشوا منها وحشة السائر في فلاة جرداء، أو الهائم في مغارة جوفاء، وإذا صادقوا الناس صادقوهم على المنفعة أو الشهوة، أو عادوهم فيهما، يضحكون والعالم باك، ويعرسون والدنيا في مأتم، ولا يبالون أهلك الناس أم بقوا ما داموا باقين، وسعدوا أم شقوا ما داموا سعداء مغتبطين.
وأصحاب النفس الثانية: هم أصحاب الملكات الشعرية الذين صفت قلوبهم، فأصحبت كالمرائي المجلوة، فيتراءى فيها العالم بما فيه من خير وشر، ففرحوا بخيره وحزنوا لشره، ورقت أفئدتهم، فشعروا بألم المتألمين فتألموا معهم، وببكاء الباكين فبكوا عليهم، وخفت أرواحهم، فطاروا بأجنحتهم في آفاق السماء، وحلقوا في أجوائها فأشرفوا على الطبيعة، ورأوها في جميع مظاهرها ومرائيها، فوجدوا في رؤيتها من اللذة والغبطة ما زاحم في قلوبهم حب المال والشهوات، فاعتدلوا في مطامعهم وترفقوا في مساعيهم، وازدروا كل لذة في الحياة غير لذة الحب، وكل جمال غير جمال الخيال.
ولا تلتئم النفس المادية بالنفس الروحية بحال من الأحوال ولا تأنس بها، ولا تجد لذة العيش معها، وليس الذي يفرق بين الصاحبين أو الزوجين او العشيرين تفاوت ما بينهما في الذكاء أو العلم أو الخلق أو الجمال أو المال، فكثيرا ما تصادق المختلفون في هذه الصفات وتخادنوا وصفت كأس المودة بينهم، وإنما الذي يفرق بينهما اختلاف شأن نفسيهما، وذهاب كل منهما في منازعه ومشاربه ورغباته وآماله وتصوراته وآرائه غير مذهب صاحبه، وأن يكون أحدهما ماديا ضاحكا للحياة سعيدا بضحكه، والآخر روحيا باكيا عليها سعيدا ببكائه، وهذا هو الذي كان بين «إدوار» وماجدولين.
ولم يكن الجمال وحده هو كل مزايا ماجدولين، بل كان أقلها شأنا وأدناها قيمة، ولكن «إدوار» لم يستطع أن يفهم شيئا غيره أو يعنى بأمر سواه، فما هو إلا أن حصل في يده واستنفد متعته به حتى بدأ الملل يدب في نفسه دبيبا خفيا، فلم تشعر به ماجدولين في مبدأ الأمر؛ ثم أخذت تحسه شيئا فشيئا، فذعرت وارتاعت، وملأ الريب ما بين جوانحها، وما هي إلا أيام قلائل حتى أخذت تنقشع عن عينيها تلك الغيابة السوداء التي كانت تظللهما ، فاستطاعت أن تهبط إلى أعماق قلبها، وتفتش فيه عن صورة الرجل الذي تعاشره وتزعم أنها تحبه، فرأت صورة لا تعجبها ولا تروقها، ولا تخالط نفسها ولا تمازجها، وعادت إلى ماضيها معه، فأخذت تقرأ صفحاته صفحة صفحة حتى أتت على آخرها، فتبين لها أنها لم تكن تحبه، أو أنها كانت تحب فيه شيئا غير نفسه، وأن الصلة التي بينها وبينه إنما هي صلة الزوجة بالزوج، لا صلة القلب بالقلب، فعرفت أنها لم تحسن الاختيار لنفسها، وأن شقاء طويلا ينتظرها فيما بقي لها من أيام حياتها. (81) من سوزان إلى ماجدولين
أراك تحدثينني في كتبك كثيرا عن «استيفن» كأنك قد نسيت أنه أصبح رجلا غريبا عنك لا شأن لك به، وأن ما كان بينكما قد انقضى وذهب لسبيله، وأغرب من ذلك أنك تكتبين عنه بلهجة أفضل من اللهجة التي تكتبين بها عن زوجك، وأخاف أن يكون لالتقائه بك في تلك الحفلة التي قصصت علي قصتها صلة بهذا الألم الجديد الذي أصبحت تشعرين به اليوم، فما عهدتك قبل الآن باكية ولا شاكية، ولا ناقمة من زوجك شأنا من شئونه، ولا متبرمة بعشرته، ولا ضيقة الصدر بأطواره وأخلاقه، ولا طائرة في سماء الخيال ليلك ونهارك تفتشين عن الحب الشعري وتتلمسينه تلمس من لا يرى لنفسه غناء عنه، ولا يعرف معنى للحياة بدونه، فخذي حذرك من نفسك يا ماجدولين، واعلمي أن ما كان يعد بالأمس هفوة من الهفوات الصغيرة يصبح اليوم جنونا مطبقا لا يماثله جنون، ولا يوحشنك مني ما أقول لك، فأنا لا أتهمك ولا أرتاب فيك، وأنت أعلم بذلك، ولكنني أخشى عليك أن يتلاقى في مكان واحد من قبلك ذكرى ماضيك، وهناء حاضرك، فيصطرعا، فينغص عليك أولهما ثانيهما، فلا الماضي تذكرين، ولا بالحاضر تسعدين.
هذا ما أريد أن أقوله لك، وهذا ما أطلب إليك أن تتعهديه من نفسك وتتولي حراسته من قلبك، قبل أن يأتي يوم لا ينفعك فيه تعهد ولا افتقاد. (82) من ماجدولين إلى سوزان
لا علاقة لاستيفن بهذا الهم الذي أشعر به ، وليس بيني وبينه أكثر مما يكون بين صديقين احتمل أحدهما في سبيل الآخر في عهد من عهوده الماضية أقصى ما يستطاع احتماله من المشقة والمئونة، فعرف له الآخر يده، وشكرها له، وجازاه ودا بود، ومعروفا بمعروف.
أما هذا الذي تريدين أن تذهبي إليه في كتابك فأقسم لك أني لا أعرف له أثرا في نفسي، ولا أحسب أن له أثرا في نفسه، فقد رأيته في تلك الليلة التي قصصت عليك قصتها ثم رأيته بعد ذلك مرتين فلم أر في نظرات عينيه ولا في ملامح وجهه ولا في نغمة حديثه أثرا من ذلك الحب القديم الذي تعرفينه، وكل ما يستطيع الناظر إليه أن يلمحه في وجهه تلك المسحة الرقيقة من الحزن التي تتراءى في عينيه حين ينظر، وفي ابتسامته حين يبتسم، وما هو بحزين ولا مكتئب، ولكنها صورة الألم القديم قد رسمها الماضي على وجهه ثم ذهب، فبقيت هي من بعده دليلا عليه كما تبقى صورة الجرح بعد التئامه، فاطمئني يا «سوزان»، وليكن رأيك في اليوم رأيك بالأمس، ولا يقم هذا البعد الذي بيني وبينك حجابا بين نفسي ونفسك. (83) قلب استيفن
نبه ذكر «استيفن» وعظم شأنه، وأصبح نابغة من نوابغ الموسيقى، وانتشر له صيت بعيد في «جوتنج» وما وليها من البلدان، ثم امتد صيته إلى «كوبلانس»، فزاره في قريته كثير من المغنين والممثلين، واقترحوا عليه تلحين القطع التمثيلية، وأجزلوا له الأجر عليها، فلحنها أفضل تلحين وأبرعه، ودرت عليه أخلاف الرزق، وسال واديه بالذهب سيلا، وكان أبوه قد مات وورثه تلك الصبابة من المال التي كانت في يده، فكان إذا ذهب إلى «كوبلانس» ليقضي فيها ليلة أو ليلتين لبعض شئونه الخاصة نزل في بيته، وزاره فيه أصدقاؤه وخلانه والمعجبون بفضله، والمعترفون بصنائعه وأياديه.
نامعلوم صفحہ