أشعر يا «سوزان» مذ مات أبي أنني ضيقة الصدر، خائرة النفس، ولا أدري ما الذي طرأ على «إدوار»، فقد تغير لي بعض التغير عما كان عليه، وأصبح لا ينظر إلي بالعين التي كان ينظر بها إلي من قبل، ولا أريد أن أقول إنه أبغضني أو تبرم بي أو فتر عن خدمتي والقيام بشأني، بل أريد أن أقول إنني أصبحت أرى في عينيه تقصيرا نحوي وازورارا لا عهد لي بهما من قبل، وصارت ابتسامته مزيجا من المجاملة والحب، وكانت خالصة للحب قبل ذلك، وأصبحت تتخلل أحاديثنا فترات طويلة موحشة ما كانت تتخللها قبل اليوم، وكنت لا أذهب معه في الحديث مذهبا أستحسن فيه أمرا أو أستهجنه إلا ذهب معي فيه، فأصبح يستهجن أكثر ما أستحسن، ويستحسن أكثر ما أستهجن، كأنما يتعمد مغايظتي ومحادتي، وصار يأنس بالزائرين والوافدين ويطيل جلوسه معهم، وقلما كان يأنس بهم أو يهش إلى لقائهم أو يستخفه شيء غير الجلوس معي والحديث إلي، وكنت لا أبتسم إلى رجل من الرجال ابتسامة ود أو مجاملة أو أتبسط معه في حديث إلا وجم لذلك وجوما يظهر في عينيه وفلتات لسانه، فأصبح لا يأبه لشيء من ذلك ولا يحفل به، والغيرة دخان الحب، فإذا انطفأت ناره انقطع دخانه.
لا يحزنك من ذلك شيء يا «سوزان» فربما كنت واهمة أو متخيلة، وربما كتبت إليك بعد قليل أنني سعيدة هانئة، وأن هذا الوهم لا أثر له في نفسي. (77) من سوزان إلى ماجدولين
لا شك أنك واهمة يا ماجدولين، فإن «إدوار» يحبك حبا شديدا، ولا يؤثر على رضاك غرضا من أغراض الحياة ومآربها، وأرى لك ألا تتغلغلي بنفسك هذا التغلغل كله في بواطن الأشياء وأعماقها، فعفو الحياة خير من مجهودها، والسعادة كالزهرة لا تزال ناضرة ما قنع رائيها منها بمنظرها وأريجها، فإذا جاوز ذلك إلى لمسها والعبث بها ذبلت وذوت وذهب جمالها ورواؤها، وأهديك تحيتي وسلامي. (78) من ماجدولين إلى سوزان
لقد وقع لي منذ أيام أمر غريب لا أجد لي بدا من الإفضاء به إليك: دعيت أنا و«إدوار» منذ أيام قلائل إلى حفلة أنس قال صاحبها حين دعانا إليها: إن الذي سيقوم بأدوار الغناء والتوقيع فيها صديق له من مهرة الموسيقيين وحذاقهم، فسألناه عن اسمه فأبى إلا أن يباغتنا به مباغتة، وقال: إنه حديث عهد بذلك الفن، وإن هذا أول عهده بالغناء في المجامع العامة، وظل يثني عليه ثناء عظيما، ويذهب في تقريظه والإشادة له كل مذهب، فلم يكن لي هم عندما ذهبت إلى تلك الحفلة إلا رؤية ذلك الموسيقي الماهر واستماع أغانيه وألحانه، فظللت شاخصة إلى كرسي البيانو أنتظر ذلك الذي سيتقدم من بين الحاضرين فيجلس عليه حتى رأيت فتى نحيلا ساهم الوجه، تتراءى بين أعطافه مخايل العزة والشرف، قد مشى إلى ذلك الكرسي حتى جلس عليه بلباقة وظرف، فتأملته فإذا هو «استيفن»، وما كدت أعرفه فقد اختفى من وجهه ذلك الإنسان الأشعث الأغبر، الخشن الأعضاء والملامح، وحل محله إنسان آخر ظريف متأنق هادئ الحركات حلو الشمائل، يكاد يحسبه الناظر إليه للمرة الأولى جميلا، وما هو بجميل ولا مستملح، ولكنه جمال نفسه قد فاض على جسمه فكساه رونقه وبهاءه.
ثم بدأ التوقيع فأنشأت أنامله تلعب بأوتار البيانو، فكأنما كانت تلعب بأفئدتنا وقلوبنا، وأخذ يغني في أثناء توقيعه غناء مشجيا مخزنا، خيل إلينا ونحن نسمعه أننا قد انتقلنا من هذا العالم إلى عالم آخر من عوالم الأرواح، وأن ما نسمعه ليس صوتا صاعدا من عالم الأرض بل هابطا من آفاق السماء، حتى أتى على النغمة الأخيرة، فلم يملك السامعون أنفسهم أن هرعوا إليه جميعا وداروا به يهنئونه ويقرظونه، ويرددون في أحاديثهم أنهم ما سمعوا في حياتهم توقيعا أفضل من توقيعه، ولا ألحانا أبدع من ألحانه، وهو يشكر لهم ثناءهم عليه واحتفاءهم به، ويبتسم لهم فيما بين ذلك ابتسامة هادئة غريبة، لا يعلم الناظر إليه أمتكلفة هي أم هي ابتسامته التي لا تنفرج عن غيرها شفتاه؟ وكيفما كان الأمر فقد خيل إلي أني رأيت فيها معنى دقيقا لا أحسب أن أحدا من الناس أدركه سواي، وهو أنها مصبوغة بصبغة رقيقة من الحزن العميق.
ولقد كادت تحدثني نفسي لكثرة ما نالني من الطرب وخالط قلبي من الجذل والسرور أن أذهب إليه أهنئه كما يفعل سائر الناس، فلم أستطع حتى أرى رأي «إدوار»، فلم ألبث أن رأيته يمشي إليه فتبعته حتى هنأه فهنأته مثله، وكنت أتوقع أن أرى على وجهه عند رؤيتنا حالة من حالات الغضب أو الارتباك، فلم أر إلا رجفة خفيفة مرت بشفته عندما نظر إلينا ثم عاد إلى ابتسامه وتطلقه، وأنشأ يحدثنا بسكون وهدوء كأنما هو يتمم حديثا كان بيننا وبينه من قبل، فعلمت أن الرجل قد محا من سجل حياته تلك الأعوام التي شقي فيها، ومحا معها ذكرى علاقتنا ببؤسه وشقائه، وأصبح لا يرى بين يديه إلا امرأة قد منحته في عهد من عهود حياتها الماضية ودها وإخلاصها، وإلا رجلا قد صادقه وآخاه وقاسمه بؤسه وشقاءه في أيام طفولته وصباه، ثم لا يزيد على ذلك شيئا، فلم ينقض الليل حتى ذهب ما كان بينه وبيننا من الوحشة والجفاء، وذهبنا معه في الحديث مذاهب مختلفة، ووعد «إدوار» أن يزوره في منزله في عهد قريب، ثم افترقا. (79) من ماجدولين إلى سوزان
لا أزال يا «سوزان» ضيقة الصدر، كثيرة الهم، ولا يزال «إدوار» قريبا مني بعنايته واهتمامه، بعيدا عني بقلبه وعواطفه، فقد ملأ فراغ قلبه بشئون مختلفة لا أعرفها ولا آبه لشيء منها، ولم يترك فيه للحب إلا زاوية صغيرة محددة لا تتسع ولا تنقبض، ولا تجد العواطف لنفسها فيها مجالا؛ فهو يحبني حبا هادئا فاترا، ربما لا يزيد عن محبته لخيوله وعجلاته، وقصوره وبساتينه، وأحسب لو أنه أراد أن يزيد على ذلك شيئا لما استطاع؛ لأن نفسه ليست تلك النفس الشعرية المتلألئة التي تذهب في الحب كل مذهب، وتطير في سمائه كل مطار، ولأنه لا يفهم من الحب أكثر من ذلك المعنى المادي البسيط الذي يفهمه الحيوان الأعجم، بل لا يدرك من شئون الحياة جميعها غير ما يقع تحت حواسه ومشاعره.
والآن أستطيع أن أعترف لك يا صديقتي بأنني ما شعرت في يوم من أيام حياتي معه - على حبي إياه وإعجابي به - بأن نفسي خالطت نفسه، أو لامستها، أو امتزجت بها ذلك الامتزاج الذي يحيل النفسين المختلفين إلى نفس واحدة، بل كنت أرى دائما أنه وإن كان يحبني ويستهيم بي ويبذل لي من ذات نفسه وذات يده كل ما يستطيع أن يبذله زوج لزوجته؛ فهو عاجز عن أن يشعل في قلبي نار الحب الشعري الجميل الذي لا تقنع المرأة من الرجل بدونه، ولا تأنس منه بشيء سواه، ونار الحب إن لم يتعهدها متعهدها بالتأريث والتأجيج فترت وانفثأت واستحالت جمرتها إلى رماد، والحب كالطائر لا حياة له إلا في الغدو والرواح، والتغريد والتنقير، فإذا طال سجنه في قفص القلب تضعضع وتهالك، وأحنى رأسه يائسا، ثم قضى.
وأعظم ما أشكو من الهموم في حياتي معه أنني أصبحت أشعر منذ أيام طوال أنني أعيش في عزلة منقطعة عن العالم كله، لا أنيس لي فيها ولا سمير، فإذا مر بخاطري فكر من الأفكار أو اختلج في نفسي غرض من الأغراض، أو خفق قلبي خفقة سرور أو حزن أو ارتياح أو انقباض، لا أستطيع أن أفضي إليه بشيء من ذلك مخافة ألا يفهمه، أو يفهم منه غير ما أريد فيزدريه ويزدريني من أجله، ويوسعني هزءا وسخرية، فلا أجد لي بدا، من أن أتكتمه في نفسي، وأطويه بين أضالعي.
ألا ترين بعد هذا يا «سوزان» أنني في أشد الحاجة إليك، وإلى بقائك بجانبي، لتأخذي بيدي في ظلمات حياتي، وتحملي عني بعض همومي وأشجاني، فهل يقدر لي الله أن أراك بين يدي في عهد قريب؟ (80) الوحدة النفسية
نامعلوم صفحہ