ولقد وجد في تلك الخطة التي انتهجها لنفسه في حياته بعض العزاء عما لقي في ماضيه، إلا أنه كثيرا ما كان يخلو بنفسه في هدوء الليل وسكونه فتمر أمام نظره على الرغم منه جميع آلامه وهمومه الماضية، فيذكر الليلة التي خرج فيها من «كوبلانس» شريدا طريدا لا يجد مواسيا ولا معينا، والليلة التي ذهب فيها إلى عرس «سوزان» لرؤية ماجدولين فضربه أحد الزائرين على وجهه سوطا فأدماه، والليلة التي كابد فيها الأهوال العظام في غرفة قريبه ليلة وفاته حتى أشرف على الجنون، والليلة التي قضاها طريحا تحت سلم دار ماجدولين حتى الصباح وهي خالية بزوجها في غرفة عرسها تعانقه وتقبله وتقول له: «أنت حياتي التي لا حياة لي بدونها.» ويتراءى له مرة شبح أخيه «أوجين» وهو ساقط في حومة الوغى تحت سنابك الخيل تدوسه وتخوض في أحشائه، وأخرى منظر ماجدولين وهي جالسة مع «إدوار» على مقعد حديقتها تناجيه بالحب ويناجيها، إلى ما بقي من أيام بؤسه، وليالي شقائه، ثم تتمثل أمام عينيه روضة آماله وهي مورقة خضراء يتسلسل ماؤها ويترقرق هواؤها، ثم يراها وقد عصفت بها ريح الحوادث فصوح نبتها، وذبل زهرها، واستحالت إلى قفرة جرداء لا يترنح فيها غصن، ولا يهتف بها طير، فيخيل إليه أنه يعيش وحده منقطعا عن العالم كله وما فيه؛ لأن ماجدولين ليست بجانبه، وأن ما يتمتع به من مجد ومال لا قيمة له عنده؛ لأنها لا تقاسمه إياه، وأن هذه الألحان التي يضعها والأصوات التي يغنيها دائما إنما هي مأتم يقيمه بنفسه على نفسه وعلى آماله الذاهبة، وأمانيه الضائعة، فتمتلئ نفسه غما وحسرة، فلا يجد له سبيلا سوى أن يتناول قيثارته فيضمها إلى صدره ويبثها هموم قلبه وآلام فؤاده، ويبكي ما شاء الله أن يفعل حتى يجد بعض الراحة في نفسه فيأوي إلى فراشه وينام نوما طويلا، ثم يستيقظ بارئا مستفيقا.
ولم يزل هذا شأنه حتى التقى بماجدولين في تلك الليلة التي قصت هي قصتها على «سوزان»، فاغتبط بمرآها اغتباطا ممزوجا ببعض الألم لذكراها وذكرى ماضيه معها، إلا أنه تجلد واستمسك وكاتم نفسه غصتها، فلم تشعر بشيء مما دار في نفسه حتى انصرفت.
وما هي إلا أيام قلائل حتى زاره «إدوار» في بيته كما وعده واعتذر إليه عن فعلته التي فعلها معه، فقبل عذره قبول من لا يرى من قبوله بدا، بل زعم له حين جرى بينهما ذكر ذلك الماضي وشئونه أن حبه لماجدولين لم يكن إلا خدعة من خدع النفس ونزعة طائشة من نزعات الشباب، وأنه قد أصبح الآن لا يشعر في نفسه بأثر واحد من حبها، وكان «إدوار» قد بدأ يمل ماجدولين ويأجمها فلم يحفل بأمرها، ولا يفكر في ماضيها ولا حاضرها، وأصبح لا هم له إلا أن يجدد صداقته مع رجل قد أصبح من أصحاب الشأن العظيم والمظهر الفخم، والثروة الطائلة، فصدقه في زعمه، وسكن إليه، وذهب في مجاملته والتودد له كل مذهب، ثم رد له «استيفن» الزيارة في بيته في اليوم الثاني ورأى ماجدولين وحادثها وتبسط معها تبسط من لا يحفل بحاضرها، ولا يعنى بماضيها، ثم لم يزل يراها بعد ذلك في منازل بعض أصدقائه، أو في المحتفلات العامة وحدها، أو مع «إدوار» فيحسن ملتقاه، ويؤثرها بعطفه ورعايته، إلا أنه كان يتجنب جهده أن يجلس معها مجلسا منفردا، أو يتحدث إليها حديثا خاصا؛ لأنه كان قد أخذ نفسه بنسيانها ونسيان ماضيها، فلا يجب أن يستثيره في نفسه مستثير، ولأنه كان لا يزال يمسك في نفسه بعض العتب عليها في غدرتها التي غدرتها به فلا يجب أن ترى ذلك في نغمة حديثه، أو لحظات عينيه، بل يجب أن ترى فيه أنفة وكبرياء بعد أن ذهب بنفسه مذهب من لا يبالي بمن لم تبال به، ولم ترع له ذماما ولا عهدا.
وجملة حاله معها أنه كان يجمع لها في قلبه في آن واحد بين عاطفتين مختلفتين: عاطفة الرضا، وعاطفة السخط، فهو يحبها فلا يستطيع مقاطعتها، ويجد عليها فلا يريد أن تشعر بحبه إياها. (84) قلب ماجدولين
ما زال الملل يأخذ من نفس «إدوار» حتى مل بيته واجتواه، وأنشأ يطلب لنفسه السعادة خارجه بعدما فقدها داخله، فأخذ يتلهى بتلك الشئون التي يعالج بها فقراء القلوب أمراض مللهم وسآمتهم، فقامر، ثم ضارب، ثم ولع بالشراب، ثم قضى بعض لياليه خارج منزله، فاشتد ذلك على ماجدولين ، ونال منها منالا عظيما، وساء ظنها بالحياة وما فيها، فقبح في نظرها كل مظهر من المظاهر المادية التي أحبتها هنيهة من الزمان واستهامت بها، فعافت المراقص والمحافل، وزهدت المظاهر والمفاخر، وملت كل شيء حتى ثيابها وزينتها، وأصبحت لا تفكر ليلها ونهارها إلا في تلك الكلمة التي قالها لها «استيفن» في بعض كتبه الماضية: «لا تصدقي يا ماجدولين أن في الدنيا سعادة غير سعادة الحب، فإن صدقت فويل لك منك، فإنك قد حكمت على قلبك بالموت!»
غير أنها راضت نفسها مع الأيام على مكروهها، واصطبرت للحالة التي طرأت عليها صبرا جميلا لا يتخلله تذمر ولا شكوى، فقد علمت أن القدر قد جرى في أمرها بما هو كائن، وأنها قد أصبحت زوجة لرجل قد أقسمت له بين يدي الله يمين المحبة والولاء، فلا بد لها من الوفاء له، والإخلاص إليه، واحتمال كل مكروه في عشرته حتى يقضي الله في أمرهما بقضائه.
وكان يعزيها عن شقائها بعض العزاء أنها كانت ترى «استيفن» من حين إلى حين، وتحضر بعض مجالسه ومجتمعاته، فتسمع في حديثه ذلك الأسلوب الشعري البديع، وتلك التصورات السماوية العالية التي طالما سحرتها وملكت عليها قلبها وأهواءها، وترى تلك الشهرة العظيمة التي تنتشر له شيئا فشيئا في أقطار البلاد، فتمتلئ نفسها إكبارا له، وإعظاما، ولا يملك قلب المرأة من الرجل مثل الشهرة وامتداد الصيت، وكان يداخلها شيء من الإعجاب بنفسها كلما ذكرت أنها قد نزلت في عهد من عهود حياتها الماضية منزلة الحب من ذلك القلب الطاهر الشريف، فتجد في سعادة الماضي وذكراه بعض العزاء عن شقاء الحاضر، إلا أن أمرا واحدا لم يخطر ببالها، ولم يدخل في أحاديث نفسها، وهو أن تعود إلى حبه بعدما نفضت يدها منه، أو أن تكون الصلة التي بينها وبينه صلة حب وغرام. (85) من ماجدولين إلى سوزان
قد اطلعت منذ أيام قلائل على سر هائل ليتني لم أطلع عليه، وليتني مت قبل أن أعرف منه حرفا واحدا.
قد أفلس «إدوار» وباع جميع ما يمتلك، ولا تزال عليه بقية من الدين لا سبيل له إلى أدائها، وها أنا ذا أعد عدتي لبيع جواهري وحلاي علني أستطيع أن أستنقذ البيت الذي نسكنه، ولا أدري ما يكون شأننا بعد ذلك، ولقد فاتحته ليلة أمس في هذا الشأن فراوغني قليلا ثم اعترف لي بكل بشيء، وقال: إنه إنما أتي من قبل المقامرة أولا، والمضاربة آخرا، وأن طمعه في الثروة واستهتاره فيها هو الذي أفقده إياها، فعاتبته في ذلك عتابا لا أظن أني أثقلت عليه فيه، ولكن أتدرين يا «سوزان» ماذا قال لي؟ قال: إنه لم يخطئ في حياته إلا في أمر واحد، وهو أنه تزوج من زوجة فقيرة لا تستطيع أن تمد له يد المعونة في ساعات شدته، ولقد صدق فيما قال، فليس للرجل الغني أن يتزوج إلا امرأة غنية تلائم نفسه نفسها، وليس للمرأة الفقيرة أن تتزوج إلا رجلا فقيرا يشابه عيشه عيشها.
إنني لا أبكي يا «سوزان» على نفسي، فقد قضيت أكثر أيام حياتي فقيرة معدمة لا أملك من متاع الدنيا شيئا، بل على ذلك الجنين المسكين الذي يختلج في أحشائي، والذي سألده غدا للفقر والمتربة، والذل والشقاء.
نامعلوم صفحہ