ماجدولين
ماجدولين
ماجدولين
ماجدولين
تعريب
مصطفى لطفي المنفلوطي
ماجدولين
(1) من ماجدولين إلى سوزان
سواء لدي أقرأت كتابي هذا أم مزقته، خلو من كل شيء يهمك العلم به أو النظر إليه.
كل ما يمكنني أن أطرفك به من الأخبار أن أقول لك: إن أشجار الربيع قد بدأت تبتسم عن أزهارها، وإن النسيم العليل يجمع إلي في غرفتي في هذه الساعة التي أكتب إليك فيها شذى أول زهرة من زهرات البنفسج وأول عود من أعواد الزنبق.
نامعلوم صفحہ
ويمكنني أن أخبرك أيضا - وإن كنت لا أعرف لمثل هذه الأخبار معنى - أن الغرفة التي كانت خالية في الدور الأعلى من منزلنا قد سكنها اليوم فتى اسمه «استيفن»، غريب الأطوار في وحشته ونفوره وانقباضه عن الناس، حتى يكاد يظن الناظر إليه أنه بائس أو منكوب، فهو ينزل في صبيحة كل يوم إلى الحديقة وبيده كتاب واحد لا يغيره، فإذا جلس للقراءة فيه علق نظره بأول سطر يمر به ثم لا ينتقل عنه بعد ذلك، فهو في الحقيقة مطرق إلى الأرض من حيث يظن الرائي أنه يقرأ في كتاب، فإذا رآني مارة أمامه رفع رأسه إلي وحياني تحية وجيزة، ثم انتقل من مكانه وانساب بين الأشجار، أو صعد إلى غرفته؛ لذلك لم تصل بيني وبينه معرفة حتى اليوم، وربما لا يقع شيء من ذلك فيما بعد؛ لأني لا ألتمس السبيل إلى التعرف به ولا أحب أنه يلتمسه، فإن كنت لا بد سائلة عما يتساءل عنه النساء في مثل هذا الموقف فأقول لك: إن الفتى ليس بجميل ولا جذاب، بل إن في منظره من الخشونة والجمود ما ينفر نظر الناظر إليه، وأحسن ما فيه أني سمعته ليلة - وكانت نافذة غرفتي مفتوحة - يغني غناء شجيا مؤثرا، وإن كان لا يجري فيه على قاعدة من قواعد النغم، فهو يطرب البؤساء والمحزونين، ولا يعجب الموسيقيين المتفننين، ولقد تمكن أبي من مجالسته هنيهة فحدثني عنه أنه من المتعلمين الأذكياء، وبعد: فأحسب أني أمللتك يا سوزان بحديث يتعلق أكثره بإنسان لا شأن لي ولا لك معه، فلا تعتبي علي، فهذا كل ما تستطيع أن تملأ به صفحات كتابها فتاة تعيش في قريتها الصغيرة عيشا متشابه الصور والألوان، لا فرق بين ليله ونهاره، وصبحه ومسائه، لا تطلع الشمس فيه على مرأى جديد، ولا تغرب عن منظر غريب. (2) من ماجدولين إلى سوزان
الجو رائق، والسماء مصحية، وقرص الشمس يلتهب التهابا، والأرض تهتز فتنبت نباتا حسنا، والأشجار تنتفض عن أوراقها اللامعة الخضراء، والهواء الفاتر يترقرق فينبعث إلى الأجسام فيترك فيها أثرا هادئا لذيذا، وكل ذلك لا قيمة له عندي، ولا أثر له في نفسي، فإني أشعر أن الحياة مظلمة قاتمة، وأن هذا الفضاء على سعته وانفراج ما بين أطرافه أضيق في عيني من كفة الحابل، وأن منظر العالم قد استحال إلى شيء غريب لا أعرفه ولا عهد لي بمثله، فأظل أنتقل من مكان إلى مكان، وأفر من الحديقة إلى المنزل ومن المنزل إلى الحديقة، كأنني أفتش عن شيء، وما أفتش إلا عن نفسي التي فقدتها ولا أزال أنشدها، فإذا نال مني التعب أويت إلى أشجار الزيزفون في الحديقة لأستريح في ظلالها قليلا، فلا يكاد يعلق نظري بأول زهرة يروقني منظرها من بين أزهارها حتى أشعر كأني أنتقل من هذا العالم شيئا فشيئا إلى عالم جميل من عوالم الخيال، فأتغلغل فيه كما يتغلغل الطائر المحلق في غمار السحب وتمر بي على ذلك ساعات طوال لا أعود من بعدها إلى نفسي إلا إذا شعرت بسقوط الكتاب من يدي، فإذا استفقت وجدتني لا أزال في مكاني، ولا يزال نظري عالقا بتلك الزهرة الجميلة التي وقفت عليها.
يقولون إن فصل الربيع فصل الحب، وإن العواطف تضطرم فيه اضطراما فتأنس النفوس بالنفوس، وتقترب القلوب من القلوب، وتمتلئ الحدائق والبساتين بجماعات الطير صادحة فوق زواهر الأغصان وجماعات الناس، سانحة بين صفوف الأشجار، أما أنا فلا أصدق من كل هذا شيئا، فإن أجمل الساعات عندي تلك الساعة التي أخلو فيها بنفسي فأناجيها بهمومي وأحزاني، وأذرف من العبرات ما أبرد به تلك الغلة التي تعتلج في صدري.
وأعجب ما أعجب له من أمر نفسي أنني أبكي على غير شيء، وأحزن لغير سبب، وأجد بين جنبي من الهموم والأشجان ما لا أعرف سبيله ولا مأتاه، حتى يخيل إلي أن عارضا من عوارض الجنون قد خالط عقلي، فيشتد خوفي واضطرابي.
إن الذين يعرفون أسباب آلامهم وأحزانهم غير أشقياء؛ لأنهم يعيشون بالأمل ويحيون بالرجاء، أما أنا فشقية؛ لأني لا أعرف لي دواء فأعالجه، ولا يوم شفاء فأرجوه.
كل أسباب العيش حاضرة لدي، وأبي لا يعرف له سعادة في الحياة غير سعادتي، ولا هناء غير هنائي، ولا يعجبه منظر من مناظر الجمال في العالم سوى أن يراني باسمة، ويرى أزهار حديقته ضاحكة، بل ربما أغفل أمر حديقته أحيانا حتى تذبل أوراقها وتموت زهراتها في سبيل قضاء مرافقي وحاجاتي، فأنا إن شكوت فإنما أشكو بطرا وأشرا وكفرانا بأنعم الله التي يسبغها علي ويسديها إلي، فغفرانك اللهم ورحمتك، فإني ما اعترفت بجميلك، ولا أحسنت القيام بشكر أياديك.
إني لأذكر يا سوزان تلك الأيام التي قضيناها معا، وتلك السعادة التي كنا نهصر أغصانها، ونجني ثمارها، ونطير في سمائها بأجنحة من الآمال والأحلام؛ فأندبها وأبكي عليها، وأحن إليها حنين الليل إلى مطلع الفجر، والجدب إلى ديمة القطر. (3) من إدوار إلى استيفن
الآن عرفت أنك لا تثق بي ولا تعتمد علي، وأنك لا تزال تنظر إلي بالعين التي تنظر بها إلى أولئك الذين أثرت مغاضبتهم والتبرم بهم من أفراد أسرتك، فقد كتمت عني ما كنت أرجو أن تقضي به إلي من ذات نفسك فيما اعتزمت عليه من رحلتك لأعرف ماذا تريد وأين تريد، ولكني لم أوثر أن أنزل بك في الود إلى المنزلة التي نزلت بي إليها، فلم أر بدا من أن أكتب إليك.
إنا نبتنا معا يا استيفن في تربة واحدة، تحت سماء واحدة، يغدونا ماء واحد وجو واحد، وما زلنا كذلك حتى شببنا فاختلفنا كما تختلف الشجرتان المتجاورتان في منبتهما ثمرة وشكلا؛ لذلك أنت تفر مني الفرار كله وتنقبض عني، ولا تراني أسألك فجا من فجاج الأرض إلا سلكت فجا غيره؛ لأنك أصبحت تسعد بحياة غير التي أسعد بها، وتهنأ بعيش غير الذي أهنأ به، وتطرب لنغمة غير التي تسمعها مني، ولا تستطيع أن ترى في وجهي تلك المرآة التي تحب أن ترى فيها صورتك واضحة جليلة لا غموض فيها ولا إبهام.
إنك لا تبغضني يا استيفن، ولكنك لا تحب أن تراني؛ لأنك تعلم أن لي في الحياة رأيا غير رأيك، وطريقا غير طريقك، فأنت تخاف أن تسمع مني ما يفجعك في تصوراتك وأحلامك، ويكدر عليك لذائذك التي تجدها في العيش في ذلك العالم الخيالي المظلم، وتقنع بها فيه قناعة الشعراء المحزونين بالعيش بين أشباح خيالاتهم السوداء.
نامعلوم صفحہ
كن كما تشاء، وعش كما تريد، فستنقضي أيام شبابك وستنقضي بانقضائها أمانيك وأحلامك، وهنالك تنزل من سمائك التي تطير فيها إلى أرضي التي أسكنها، فنتعارف بعد التناكر، ونتواصل بعد التقاطع، ونلتقي كما كنا.
لا بد أن نفترق اليوم لأننا غير متفقين، ولا بد أن نجتمع بعد اليوم لأننا سنتفق، فلا بأس أن تكتب إلي وأكتب إليك، وأن نتواصل على البعد إبقاء على تلك الصلة التي بيننا، واحتفاظا بها، ورعاية لها، حتى يأتي ذلك اليوم الذي تجلو فيه عن نفسها، وتبرز من مكمنها.
إن أهلك يعجبون لأمرك كثيرا، ويرون أنك قد مكرت بهم، وأضللتهم عن مقاصدك وأغراضك، فسافرت خفية من حيث لا يعلمون بأمرك ولا بنيتك التي انتويتها، ويقولون: إنك ما سافرت على هذه الصورة إلا لأنك عدلت عن رأيك في الزواج من تلك الفتاة التي أعدوها لك، وعندي أنهم أصابوا فيما يقولون، وأنك مخطئ فيما فعلت؛ لأنك تعلم أن والدك فقير لا يملك من المال أكثر مما يتسع لأيام حياته؛ ولقد كان لك في هذا الزواج من تلك الفتاة التي اختارها لك حظك من سعادة العيش وهنائه لولا أنك شاعر، والشعراء يفهمون من معنى السعادة غير ما يفهمه الناس جميعا.
أخوك يحبك كثيرا، ولا يزال يحدثني عنك كما أحدثه، فاذكرنا كما نذكرك، واكتب إلينا بكل شيء. (4) خواطر استيفن
مضى الليل إلا أقله، ولم يبق إلا أن تنفرج لمة الظلام عن جبين الفجر، ولا أزال ساهرا قلق المضجع، أطلب الراحة فلا أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه.
إن إدوار يسخر مني في كتابه ويهزأ بي، وينذرني بيوم أرى فيه أوهاما كاذبة وأحلاما باطلة ما كنت أحسبه أماني وأمالا، ويرى أن جميع ما أقدره لنفسي من سعادة في الحياة وهناء أشبه شيء بالخيالات الشعرية التي يسعد الشعراء بتصورها، ولا يسعدون بوجودها؛ فلئن كان حقا ما يقول فما أمر طعم العيش، وما أظلم وجه الحياة.
لا لا، إن الذي غرس في قلبي هذه الآمال الحسان لا يعجز عن أن يتعهدها بلطفه وعنايته حتى تخرج ثمارها، وتتلألأ أزهارها، وإن الذي أنبت في جناحي هذه القوادم والخوافي لا يرضى أن يهيضني ويتركني في مكاني كسيرا لا أنهض ولا أطير، وإن الذي سلبني كل ما يأمل الآملون في هذه الحياة من سرور وغبطة، ولم يبق لي منها إلا حلاوة الأمل ولذته لأجل من أن يقسو علي القسوة كلها فيسلبني تلك الثمالة الباقية التي هي ملاك عيشي، وقوام حياتي.
على أنني ما ذهبت بعيدا، ولا طلبت مستحيلا، فكل ما أطمع فيه من جمال هذا العالم وزخرفه رفيق آنس بقربه وجواره، وأجد لذة العيش في الكون معه، والسكون إليه، وما الرجال كما يقولون إلا أنصاف ماثلة تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال الرجل يشعر في نفسه بذلك النقص الذي كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التي خلقت له فيقر قراره، ويلقي عصاه.
وبعد؛ فأي مقدور من المقدورات تضيق به قوة الله وحكمته؟ وأي عقل من العقول الإنسانية يستطيع أن يبدع في تصوراته وتخيلاته الذهنية فوق ما تبدع يد القدرة في مصنوعاتها وآثارها؟ وهل الصور والخيالات التي تمتلئ بها أذهاننا وتموج بها عقولنا إلا رسوم ضئيلة لحقائق هذا الكون وبدائعه، ولو أن سامعا سمع وصف منظر الشمس عند طلوعها، أو مهبط الليل عند نزوله، أو جمال غابة من الغابات، أو شموخ جبل من الأجبال، ثم رأى بعد ذلك عيانا ما كان يراه تصورا وخيالا، لعلم أن جمال الكائنات فوق جمال التصورات، وحقائق الموجودات فوق هواتف الخيالات؛ لذلك أعتقد أني ما تخيلت هذه السعادة التي أقدرها لنفسي إلا لأنها كائن من الكائنات الموجودة، وأنها آتية لا ريب فيها.
إن اليوم الذي أشعر فيه بخيبة آمالي، وانقطاع حبل رجائي، يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتي، فلا خير في حياة يحياها المرء بغير قلب، ولا خير في قلب يخفق بغير حب. (5) الحب
نامعلوم صفحہ
نزل استيفن صبيحة يوم من الأيام إلى حديقة المنزل فرأى «مولر» والد ماجدولين واقفا على رأس بعض الجداول متكئا على فأسه، فلم ير بدا من أن يحييه، فحياه بتحية حيي بأحسن منها، ثم أراد أن يستمر أدراجه فرآه ينظر إليه نظرة المستوقف، ورأى كأن كلاما يتحير في شدقيه فاستحى أن يمضي لسبيله، فوقف على كلمة يصل بها الحديث بينه وبينه، فلم ير شيئا أقرب إلى ذهنه من أن يسأله على ابنته، ثم بدا له أنه إن فعل أرابه وألقى في نفسه أمرا غير الذي يريد، وهي المرة الأولى التي خطر له فيها أن في سؤال الرجل الرجل عن حال ابنته شيئا غريبا، أو أمرا مريبا، ثم استمر «مولر» في حديثه يقول: إن منظر الطبيعة في هذه الساعة جميل جدا لا يكدره علي إلا تلك الرعدة التي أشعر أنها تتمشى في أعضائي، فما أمر مذاق الشيخوخة وما أثقل مئونتها، وسلام على الشباب وعهوده الزاهرة، أيام كنت لا أحفل بنكباء ولا رمضاء، ولا أبالي أن أبكر في صبيحة كل يوم تبكير الغراب إلى قمم الجبال وشواطئ الأنهار عاري الرأس حافي القدم، أمرح وألعب، وأتأثر طرائد الصيد في مسارحها وملاعبها، فأصبحت ولم يبق لي من تلك الذكريات إلا وقوفي في هذه الضاحية تحت هذه الشمس المشرقة أنسج من خيوطها البيضاء كساء أتقي به هذه الرعدة، وأمتع نظري برؤية الفتيات الصغيرات صواحب ماجدولين وهن يلعبن معها فوق تلك الهضبة الثلجية.
وهنا وجد «استيفن» مكان القول ذا سعة فقال: إن ماجدولين لم تنزل اليوم كعادتها فلعلها بخير، قال: نعم، هي بخير ولكن ضيفا من أقربائنا نزل بنا أمس فلم أر بدا من أن أكل إليها أمره والعناية به، فتركتهما وذهبت لشأني، وإن كنت أعلم أن ماجدولين ليس في استطاعتها الصبر على النزول إلى الحديقة، ولا يقنعها من الشمس تلك الخيوط البيضاء التي تنحدر إليها من نافذة غرفتها، ثم ذهبا في الحديث بعد ذلك مذاهب مختلفة، وإنهما لكذلك إذ فتح باب المنزل، وإذا ماجدولين وأرشميد مقبلان، يحدثها فتهلل، وتحدثه فيبتسم، وكأن منظرهما منظر عاشقين يتغازلان، لا قريبين يتسامران، فخيل لاستيفن أن هذا المشهد الذي يشهده غير مستحسن ولا مستعذب، ثم اقتربا منه، فصدف عنهما يتلهى بالنظر إلى بعض الزهرات، وود لو وجد السبيل إلى الهرب منهما لولا أنهما اعترضا طريقه، فسلما عليه، فرد ردا فاترا، ثم تركهما مكانهما وانحدر إلى خميلة من الخمائل، فما خطا فيها بعض خطوات حتى سمع الفتى يغرب في الضحك، فما شك أنهما في شأنه، وأنه قد أصبح موضع هزئهما وسخريتهما، وأنهما ما ضحكا إلا للعبث به والزراية عليه، فأحس في قلبه بدبيب البغض لذلك الفتى، وود بجدع الأنف لو وجد السبيل إلى منازلته في ميدان خصام يضربه فيه ضربة تهشم أنفه وتخضب الذي فيه عيناه ليقنعه أنه ليس سخرية الساخر، ولا أضحوكة الضاحك.
ثم عاد إلى نفسه يسائلها عن السبب في انقباضه ووحشته، وعن تلك الحال الغريبة التي ألمت بفؤاده منذ الساعة ويقول: ما لي ولهذا الفتى؟ وبأي حق أحمل له بين جنبي ما أحمل من الضغنة والموجدة؟ فما أنا بعاشق للفتاة فأغار منه عليها، ولا هو بمزاحم لي على هوى فأبغضه فيه!
ولم يزل يسائل نفسه أمثال هذه الأسئلة فلا تجيبه، ويراجع عقله فلا يهديه، حتى عرف أنه لا يسمع خارج الخميلة صوتا، فبرز من مكمنه فلم ير أمامه أحدا، فخرج من الحديقة هائما على وجهه بين الغابات والأحراش حتى أدبر النهار ، فعاد إلى المنزل وصعد إلى غرفته، وإنه ليمر أمام باب غرفة ماجدولين؛ إذ سمع صوت حديث، فذكر ما كان قد نسيه، وعلم أنها تسمر مع قريبها أرشميد، وأنه لا بد أن يكون سعيدا بهذا الحديث وهذه الخلوة، فنفس عليه ذلك، ولا ينفس الإنسان على صاحبه شيئا يكون في نظره حقيرا، فتريث في مشيته قليلا حتى علم أنه إن دنا من باب الغرفة لا يشعران بموقفه، فدنا منها وأنشأ يتسمع حديثهما، فلم يفهم كلمة مما يقولان، ثم انقطعا عن الحديث.
وأنشأت ماجدولين تغني غناء شجيا قد كان يكون عذبا لذيذا في نفس استيفن لولا أن أذنا أخرى غير أذنه تزاحمه على سماعه، ثم انقطع الغناء أيضا فسمع خفق نعال تتقدم نحو الباب، فابتعد عن مكانه حتى خرج الفتى وخرجت ماجدولين وراءه تشيعه في غلالة رقيقة بيضاء لا تلبسها الفتاة إلا بين يدي عشيقها أو من لا تحتشمه من ذوي قرباها، فرأى في وجهها صورة جديدة غير التي كان يراها من قبل، وأحس في نفسه بشيء غير الذي كان يحس به عند رؤيتها، ثم عادت إلى الغرفة وأغلقت الباب وراءها، فعاد إلى موقفه الأول، وما زال راكعا أمام بابها حتى مشت جذوة النهار في فحمة الليل، فصعد إلى غرفته وقد علم أن الذي قام بنفسه منذ اليوم ليس الهذيان ولا الجنون، ولا الوسواس ولا حرارة الحمى كما كان يظن، وإنما هو الحب! (6) الدعوة
دخل «مولر» على ابنته ذات يوم فقال: يا بنية، إني دعوت اليوم جارنا الذي يسكن في الغرفة العليا من منزلنا إلى العشاء عندنا في الساعة السابعة، فأعدي له الطعام، واعلمي أنك ستغنين في هذه الليلة، فقد وعدته بذلك، وقد لقيت من كرم هذا الفتى وعلو همته، وشدة عارضته، وكثرة ذكائه، وسعة علمه بالنبات، وطبائعه، ما حببه إلي، وأنزله من نفسي المنزلة العليا، ولا بد أن أتخذه صديقا، وأن تكون تلك الدعوة فاتحة تلك الصداقة، ثم تركها وخرج إلى الحديقة، وظل مشتغلا بشأنه فيها حتى مالت الشمس إلى مغربها، فعاد إلى المنزل وجلس إلى نافذة غرفته المطلة على الحديقة ينتظر ضيفه، وإنه لكذلك إذ رآه خارجا من باب الحديقة يعدو عدوا شديدا وفي يده رسالة مفضوضة، فهتف بابنته يقول: يا ماجدولين! ما أحسب إلا أن جارنا قد حيل بينه وبين الوفاء بوعده، فقد رأيته الساعة خارجا يعدو من باب الحديقة، ثم رأيته قد سلك تلك الطريق التي لا ينتهي فيها السائر إلى غرض إلا بعد سفر عشرة أميال، فقالت: لا بد أن يكون قد عرض له شأن ما كان يقدره في نفسه، فلا بد أن ننتظره حتى يعود، ثم جلسا صامتين، هذا يدخن لفافته، وتلك تخيط ثوبها، حتى علما أنه لن يعود، فقاما إلى العشاء ثم إلى المنام. (7) الزيارة
جلس «مولر» إلى ابنته، فنظر نظرة في النجوم وقال: ما أحسب إلا أن السماء ستمطرنا في هذه الليلة مطرا غزيرا يبلل هذه التربة الظامئة، ويملأ هذه البقاع الجرداء، فما أجمل الربيع وما أجمل غيوثه المنهلة، وما أجمل أرضه بعد أن يكسوها الغمام من نسج يده تلك الغلائل الخضراء! فقالت ماجدولين: لا تنس يا أبت أن كثيرا من ضعفاء السابلة وطرائد الليل يعانون في مثل هذه الليلة الماطرة من تدفق الغيوث فوق رءوسهم، واعتراض الوحول في طريقهم، وبعد الشقة عليهم ما لا طاقة لهم باحتماله، فوا رحمتاه لهم إن الشقاء كامن لهم في كل شيء حتى في الشئون التي يسعد بها غيرهم، فاكتأب «مولر» وقال: نعم يا ماجدولين، إنهم أشقياء بؤساء ولا بد أن يكون «استيفن» واحدا منهم، فقد مر الهزيع الأول من الليل ولم يعد إلى المنزل حتى الساعة بعد ما قضى ليلة أمس خارجه.
أخذت هذه الكلمة مكانها من نفس ماجدولين، فأطرقت برأسها تقلب صحائف كتابها ولا تقرأ منه شيئا، وإنهما لكذلك إذ طارق يخفق الباب خفقا ضعيفا، فاضطربت ماجدولين ودهش «مولر» وقامت «جنفياف» إلى الباب ففتحته، فإذا «استيفن» ماثل بعتبته، فاستأذن ودخل وهو يقول: عفوا يا سيدي إن كنت ترى أنني لم أف لك بوعدي، فقد أرسل إلي أخي كتابا يدعوني فيه إلى مقابلته على الحدود لتوديعه قبل سفره إلى الحرب، فأعجلني كتابه عن كل شيء حتى عن الاعتذار إليك، فمشيت إليه عشرة أميال لا أتريث ولا أتئد حتى بلغته، فودعته وداعا بين السرور له والحزن عليه، أما السرور فلأني رأيته فرحا مغتبطا برحلته يغني أنشودة الحرب مرة، ويلاعب جواده أخرى، ويمشي مشية الخيلاء بين ريش قبعته وحمائل سيفه، وأما الحزن فلأني أخاف أني يسبقني القدر إليه فيحول بيني وبينه، فأصبح في هذه الحياة غريبا منفردا، لا أجد بين هذه القلوب الخافقة حولي قلبا يحزن لحزني، ولا بين هذه العيون الناظرة إلي عينا تبكي لبكائي، وهنا ذرفت من عينه دمعة كادت تبكي لها ماجدولين، ولكنها لم تفعل ذلك حياء وخجلا، وألقت عليه نظرة عطف ورحمة من حيث لا يشعر، حتى إذا التفت إليها استردت نظرتها وألقتها على صفحة كتابها فقال له «مولر»: لا تجزع يا بني، فالله أرحم بك من أخيك وأرحم بأخيك من نفسك.
ثم أخذ بيده إلى مائدة الشاي وجلسا يشربان معا، وأنشأ «مولر» يحدث صاحبه عن الشاي ومغرسه ومنبته، وأعواده وأوراقه، وأنواعه وألوانه، وطريقة طبخه وأصل كلمته ومصدر اشتقاقها، وآراء علماء النبات في ذلك، وردود بعضهم على بعض، وردوده هو عليهم جميعا، وما زال يثر في ذلك ويسهب ظانا أن «استيفن» حاضر معه، و«استيفن» عنه في شغل بما يختلس من نظرات ماجدولين وما تختلس من نظراته، حتى فرغا من شأنهما، فاقترح «مولر» على ابنته أن تغني لهما صوتا، فأنشأت تغنيه بنغمة تخالطها رعدة الخائف أو رنة المحزون، فما أتت عليه حتى طرب له «استيفن» طربا ملك عليه قلبه، وأحاط بعواطفه ومشاعره، وشعر كأن الفضاء يدور به، وكأن قد بدلت الأرض غير الأرض والسموات، ثم خاف أن يمتد به شوطه إلى أبعد من ذلك، فتناهض للقيام، فمشى معه «مولر» إلى الباب يشيعه ويقول: زرنا يا «استيفن» كلما بدا لك أن تفعل، فما دون مزارك باب موصد، فانصرف بقلب غير قلبه، وعقل غير عقله، وحال بين جنبيه غريبة لا عهد له بمثلها من قبل. (8) المرأة
قضت ماجدولين ليلتها راكعة في معبدها، مستغرقة في صلاتها، تدعو الله، تعالى، أن يعينها على أمرها، وينير لها ظلمة هذه الحياة الجديدة التي بدأت تسير فيها، وقد ألمت بنفسها في تلك الساعة عاطفة غريبة متنوعة الألوان، مختلفة الأشكال، كأنما هي مزيج من الحب والخوف، والسرور والحزن، والأمل الواسع والرجاء الخائب، فكانت تبتسم مرة حتى تلمع ثناياها، وتبكي أخرى حتى يبتل رداؤها، ولا تعلم ما الذي أضحكها ولا ما الذي أبكاها! ولم تزل على حالها تلك حتى حلق طائر الكرى فوق أجفانها، فاضطجعت في مصلاها، وأسلمت نفسها إلى خالقها.
نامعلوم صفحہ
أما «استيفن» فقضى ليله جالسا إلى نافذة غرفته يقلب وجهه في السماء كأنما هو يساهر كواكبها ونجومها، ويفضي إليها بما ألم بنفسه في تلك الساعة من سرور وغبطة، وما كان سروره إلا لأنه أصبح يشعر في نفسه ببرد الراحة من البحث عن ضالة غرام ظل ينشدها ويتعلق بآثارها عهدا طويلا حتى وجدها، وأن نفسه التي كانت حبيسة بين جنبيه قد أشرقت عليها شمس الحب فانتعشت ورفرفت بجناحيها في الفضاء، فأنشأ يحدث نفسه ويقول: أحمدك اللهم، فقد ظفرت بالحياة التي كنت أقدرها لنفسي، ووجدت المرأة التي كنت أصورها في مخيلتي. وما المرأة إلا الأفق الذي تشرق منه شمس السعادة على هذا الكون فتنير ظلمته، والبريد الذي يحمل على يده نعمة الخالق إلى المخلوق، والهواء المتردد الذي يهب الإنسان حياته وقوته، والمعراج الذي تعرج عليه النفوس من الملأ الأدنى إلى الملأ الأعلى، والرسول الإلهي الذي يطالع المؤمن في وجهه جمال الله وجلاله، ففي وجه هذه الفتاة التي عثر بها اليوم قد عثرت بحياتي وسعادتي، ويقيني وإيماني.
وكان يخيل إليه وهو يحدث نفسه بهذا الحديث أن الحب الذي ملأ قلبه قد فاض عنه إلى جميع الكائنات التي يراها بين يديه، فكان يرى في صفحة السماء صورة الحب، ويسمع في حفيف الأشجار صوت الحب، ويستروح في النسيم المترقرق رائحة الحب، ويرى في كل ذرة ثغرا باسما، وفي كل نأمة عودا ناغما.
ولم يزل يهتف بهذه التصورات حتى انحدر برقع الليل عن وجه الصباح فهجع في مرقده قليلا، ثم قام فنزل إلى الحديقة يترقب نزول ماجدولين إلى متنزهها، فلم تنزل حتى أخذت الشمس مكانها من كبد السماء، فرابه من أمرها ما رابه، فلم ير بدا من زيارة «مولر»، فمشى إلى المنزل بقدم مضطربة وقلب خفاق حتى بلغ الباب، فقرعه، ثم شعر أن شعبة من شعب قلبه قد سقطت بين أضلاعه، وأن لسانه قد التوى عليه فأصبح لا ينطق ولا يبين، فندم على أن لم يكن قد سلك سبيلا غير تلك السبيل، وتمنى لو فترت الخادم قليلا في خطواتها إليه حتى يستجمع رويته وأناته، ويسترد إليه ما تفرق من شمله، فكان له ما تمناه، ولم تفتح «جنفياف» الباب إلا بعد فراغها من شأن كان لها، فسألها: أين «مولر»؟ فمشت أمامه إلى قاعة الأضياف ثم تركته وذهبت لتخبر سيدها بمكانه، وكان يقرأ في قاعة الكتب، فلما خلا «استيفن» بنفسه أخذ يدور بعينيه في جوانب الغرفة، فرأى على مقربة منه بابا مفتوحا يلوح من ورائه سرير قائم، فعلم أنه مخدع «ماجدولين»، فتسمع فلم ير أحدا، فهاجه الشوق إلى اقتحامه فاقتحمه، وهو يعلم أنها المخاطرة بعينها، ولكنه كان على حال لا ينتفع فيها بما يعلم، فدخل واقترب من السرير فوجد الفراش لا يزال مشعثا، ومكان رأس «ماجدولين» من الوسادة لا يزال منخفضا، ورأى بين يدي السرير حوضا مملوء ماء وإلى جانبه كرسي قد انتشر فوقه رداء مبتل، ثم نظر إلى الأرض فرأى بللا بمثل أقداما صغيرة، فعلم أن في هذا السرير كانت ماجدولين نائمة، وفي هذا الماء كانت تتبرد، وبهذا الرداء كانت تتمسح، وعلى هذه الأرض كانت تتنقل، فجمد في مكانه جمود الصنم في هيكله، وأخذ يقول في نفسه: لقد سعد السرير الذي لامسها، والرداء الذي ضمها، والأرض التي لثمت أقدامها، والماء الذي انحدر على جسمها.
ثم مشى إلى الرداء المنتشر فأخذ يلثمه كما يلثم العابد المتشدد ستائر معبده، وتهافت على الأرض يقبل آثار تلك الأقدام، ثم خيل إليه أنه يسمع من ورائه صوتا، فرجع إلى نفسه وعاد منفتلا إلى مكانه الأول، فما لبث إلا قليلا حتى دخل عليه «مولر» فحياه وقال له: عفوا يا «استيفن» فقد شغلني عنك أني كنت أفتش في قواميس اللغة عن أصول أعلام نباتية ما زلت معنيا بأمرها منذ اليوم، فهل لك أن تكون عونا لي عليها - على شرط ألا تفارق منزلي قبل الغداء، فابتسم «استيفن» ابتسامة الرضا والقبول؛ لأنه علم أنه سيقضي وقتا طويلا في منزل ماجدولين.
ثم ذهبا معا إلى قاعة الكتب فلما أخذا مكانهما منها أنشأ «مولر» يسرد على صاحبه تلك الأعلام التي يقول إنها تشغله، ويشرح له مدلولاتها، وما رآه علماء النبات في مصادر اشتقاقها، وما بدا له من المآخذ عليهم، فإذا ورد في كلامه اسم كتاب قام إلى خزانة الكتب واستخرجه وتصفح أوراقه حتى يجد الكلمة التي يريدها فيتلوها بنغمة الهازئ الساخر، ويقول: هكذا يرى الأستاذ فلان! أما أنا فأرى غير ما يراه، وماذا علي إن بدا لي غير ما بدا له؟ فالعلم ليس وقفا على المؤلفين والمدونين وإنما هو قرع الحجة، ودفع الرأي بالرأي.
وما زال يهدر في حديثه هدير الجمل المخشوش، و«استيفن» لاه يردد النظر إلى باب القاعة من حين إلى حين عله يرى ماجدولين داخلة، فقال له «مولر»: أراك تنظر إلى الباب كثيرا كأنك تخاف أن يلج علينا الغرفة والج فيكدر علينا خلوتنا، فاعلم أنه ما من أحد من هذا المنزل يستطيع أن يخالف أمري ويقتحم علي باب قاعتي من غير إذن، وهنا صاحت الخادم تدعوه إلى الغداء، فلم يقطع حديثه، فصاحت به مرة أخرى، فنهض متثاقلا ومشى متباطئا لا يقطع حديثه حتى وصلا إلى غرفة الطعام، فراع «استيفن» أنه لم ير حول المائدة غير مقعدين، فعلم أن أحدهما له، وأن الآخر لا يمكن أن يكون لأحد غير «مولر»، فوجم وجوم الحزين المكتئب، واستمر يأكل صامتا لا يتحدث ولا يصغي إلى حديث حتى فرغا، فقال له «مولر»: لقد أراد الله بي خيرا إذ أرسلك إلي في هذا اليوم، فقد كدت لا أجد لي في هذه الوحدة مؤنسا، ولا على هذه المائدة رفيقا، فإن ابنتي سافرت منذ الصباح لزيارة إحدى صواحبها، ولا أحسبها راجعة قبل المساء، فهل لك أن تنزل الحديقة لنرتاض فيها قليلا؟ فنزلا، فما أمعنا فيها إلا قليلا حتى سمع «مولر» صوت الخادم تصيح به من النافذة أن قد عادت سيدتها، فمد يده إلى «استيفن» مودعا، وتركه مكانه حائرا مشدوها، وليس وراء ما به من الهم غاية. (9) الحيرة
كان من أمر استيفن بعد ذلك أنه كلما رأى ماجدولين في الحديقة فر من وجهها وسلك طريقا غير طريقه، ليخلو بنفسه لحظة يصور فيها الموقف الذي يقفه بين يديها، والتحية التي يجمل به أن يحييها بها، فلا يصل إلى ما يريد من ذلك حتى يراها راجعة أدراجها إلى المنزل، فكان يحمل في سبيل ذلك من الهم ما يقلق مضجعه، ويطيل سهده ويحول بينه وبين قراره، فلا يرى بدا من الفرار بنفسه إلى الغابات والأجمات، والهيام على وجهه في قمم الجبال وعلى ضفاف الأنهار ليروح عن نفسه بعض ما ألم بها، واستمر على ذلك أياما طوالا لا يمشي في الحديقة، ولا يرى ماجدولين ولا يزور «مولر» حتى تلفت نفسه، وذهب به اليأس كل مذهب، فعاد يوما من بعض مذاهبه محموما لا يكاد يتماسك ضعفا واضطرابا، فلزم غرفته أياما يعالج من داء قلبه وداء جسمه ما لا طاقة له باحتماله، وكأن «جنفياف» قد ألمت بجملة حاله فكاشفت بها سيدها، فصعد إلى غرفته ليعوده فرآه مستفيقا بعض الاستفاقة، فسأله عما به فانتحل له عذرا، فجلس إليه يحادثه ساعة، فلما أراد القيام مد «استيفن» يده إلى طاقة بنفسج كانت في آنية إلى جانب وسادته وقال له: إني جمعت هذه الطاقة لماجدولين؛ لأني أعلم ولعها بالغريب المستطرف من الزهر، فلعلك تنوب عني في تقديمها إليها، فأخذها «مولر» شاكرا وانصرف.
ومرت بعد ذلك أيام كان فيها «استيفن» بين يأس الحياة ورجائها حتى أدركته رحمة الله فأبل من مرضه، فنزل إلى الحديقة وقد استقر في نفسه العزم على ألا يفر من وجه ماجدولين إذا رآها، وأن يتقدم نحوها فيحييها ويحادثها، وينفض لها جملة حاله، ولم ينشب أن رآها مقبلة عليه وجها لوجه، فلم ير سبيلا للفرار من بين يديها، فحياها فحيته، ثم أغضى فأغضت، فلم ير بدا من المخاطرة بكلمة يخرج بها من هذا الصمت المعيب، فاستنصر قوته وتجمع تجمع من يريد الوثوب فوق هوة عميقة، وأراد أن يقول شيئا فسمعها تتكلم، فاستفاق وحمد الله على أن كفاه تلك المئونة، فقالت: أراك يا سيدي شاحب اللون، خائر النفس، فلعلك عالجت من مرضك هذا عناء كبيرا، قال: نعم، قالت: أشكر لك يا سيدي هديتك الثمينة التي بعثت بها إلي، ولقد أعجبني منها أن تلك الزهرة هي أحب الزهور إلي، فكأنما ألهمت ما في نفسي، وإني أعجب لشعرائنا في إغفالهم ذكر هذه الزهرة في أشعارهم كما ذكروا غيرها مما لا يقوم مقامها، ولا يكافئها في حسنها وروائها، ولا أذكر أني قرأت لأحد منهم شعرا فيها إلا قطعة صغيرة لشاعرنا «جيتي»، وهنا وجد «استيفن» متسعا في الحديث عن الشعر والشعراء، والنبات والزهر، فاستمر يحادثها ساعة حتى حان وقت رجوعها، فودعته وانصرفت، فصعد إلى غرفته وقد عزم أن يراسلها فيما عجز عن مفاتحتها فيه. (10) من سوزان إلى ماجدولين
كنا على أن نزورك في قريتك يا ماجدولين أنا ووالدي فحدث حادث حال بيننا وبين ذلك: دعانا أحد الأصدقاء لزيارته في بلدته - وهي على بعد ثلاثة فراسخ من قريتنا ولا تبعد عن قريتك إلا قليلا - فذهبنا إليه صبيحة يوم وقضينا في منزله عدة ساعات حتى إذا زلفت الشمس عن كبد السماء خرج القوم إلى الخلاء للتنزه في غاباته وأجماته، وأنت تعلمين فيما تعلمين من أمري أنني لا أجد في نفسي تلك اللذة التي يجدها الشعراء المتخيلون في جمال الطبيعة وحسنها، وبهجتها وروائها، ولا أغتبط بما يغتبطون به من منظر الغابات والأحراش والجبال والآكام، ولا أطرب لخرير الماء، ودوي الريح، وهزيم الرعد، وحرارة الشمس ، ووعث الطريق، وخشونة الأرض، واقتحام الصخور، والتعثر بين أغوار الفلاة وأنجادها، كما يطربون، ولكنني لم أر بدا من مصانعتهم ومجاملتهم، فمشيت صامتة ومشوا يتحدثون بجمال الحياة القروية، ويتمدحون بعيش العزلة بين سكون الطبيعة وهدوئها، وجمال الكائنات وجلالها، والله يعلم أنه ما من أحد منهم يعلم من نفسه أنه صادق فيما يقول، أو أنه يتمنى لنفسه ذلك الشقاء الذي يحسد الأشقياء عليه، فكان مثلهم في ذلك كمثل أولئك الكتاب المرائين الذين يكتبون الفصول الطوال في مدح الفلاح والتنويه بذكره، والثناء على يده البيضاء في خدمة المجتمع الإنساني، حتى إذا مر ذلك المسكين بأحدهم وأراد أن يمد يده لمصافحته تراجع وكفكف يده ضنا بها أن تلوثها بأقذارها تلك اليد السوداء.
وما زلنا كذلك حتى بلغنا شاطئ النهر فراعنا أنا رأينا هناك جمعا عظيما من الناس يندفع فوق الشاطئ الآخر تدفع الموج المتراكب، ويشير إلى الماء بأصابعه وينادي: الغريق الغريق، والنجدة النجدة! فالتفتنا حيث أشاروا، فإذا رجل بين معترك الأمواج يصارع الموت والموت يصرعه، ويغالب القضاء والقضاء يغلبه، يطفو تارة فيمد يده إلى الناس فلا يجد يدا تمتد إليه، ويرسب أخرى حتى تنبسط فوقه صفحة النهر فتحسبه من الهالكين، وما زال يتخبط ويتشبث، ويظهر ثم يختفي، ويتحرك ثم يسكن، حتى كل ساعده، ووهت قوته، وابيضت عيناه، واستحال أديمه، ولم يبق أمام أعيننا منه إلا رأس يضطرب، ويد تختلج، فبكى الباكون، وأعول المعولون، ونظر الناس بعضهم إلى بعض كأنما يتساءلون عن رجل رحيم، أو شهم كريم، وإنهم لكذلك إذا رجل عار يدفع الجمع بمنكبيه، وينزلق بين الناس انزلاق السهم إلى الرمية، حتى ألقى بنفسه في النهر وسبح حيث هبط الغريق فهبط وراءه، وما هي إلا نظرة والتفاتة أن انفرج الماء عنهما فإذا هما صاعدان، وقد أمسك الرجل بذراع الغريق، فكبر الناس إعجابا بهمة المخلص، وفرحا بنجاة المسكين.
نامعلوم صفحہ
ولكن ما كدنا نستفيق من هذا المنظر المحزن حتى راعنا منظر آخر أجل منه وقعا وأعظم هولا، فقد رأينا الغريق كأنما جن جنونه فظن أن مخلصه يريد به شرا، وأنه ما أمسك بذراعه إلا وهو يريد أن يهوى به إلى قاع الماء فيعيده سيرته الأولى، فأفلت منه وضربه بجمع يده في صدره ضربة شديدة، ثم أنشب أظافره في عنقه ولفه بساقيه لفة خلنا أن عظامه تئن لها أنينا، فاستيأس الرجل وعلم أنه هالك ما من ذلك بد، فرفع يديه إلى السماء وهتف باسم أظنه اسمك يا ماجدولين، فلم أفهم ماذا يريد ولا من هي تلك التي يريد، ثم ما لبثنا أن هوى الماء بهما، وجرى مجراه فوقهما، فخفقت القلوب، ووجفت الصدور، وخفتت الأصوات، وامتدت الأعناق، وتواثبت الأحشاء، وتزايلت الأعضاء، ومشى اليأس في الرجاء مشي الظلال في الأضواء؛ ومرت على ذلك دقائق لا تضطرب فيها موجة، ولا تهب نسمة، ففزعت إلى أبي ذاهلة حائرة وقلت: أيتعذب الغرقى كثيرا في مصارعة الموت؟ فبكى لبكائي وقال: نعم يا بنية، ولقد يبلغ الأمر ببعضهم أن يدور بيده في قاع الماء يفتش عن حجر يضرب به رأسه ضربة قاضية يستريح من الآلام والأوجاع، فركعت على كثيب من الرمل ورفعت إلى السماء يدي وقلت: اللهم إنك أعدل من أن تجازي بالإحسان سوءا وبالخير شرا، فلقد أبلى هذا الرجل في إنقاد هذا الغريق بلاء حسنا، وبذل في سبيل ذلك من ذات نفسه ما ضن به الناس جميعا، فامدد يدك البيضاء التي طالما مددتها لإنقاذ البائسين، واكشف عنه كربته التي يعالجها، إنك أرحم الراحمين.
ثم استغرقت في دعائي، فلم أعد أشعر بشيء مما حولي، حتى سمعت ضجة على الشاطئ فاستفقت، فإذا النهر يتثاءب عن الرجل، وإذا الرجل صاعد وحده حتى بلغ سطح الماء، فهتف به الناس: أن انج بنفسك فقد أبليت! فأبى عليه كرمه ووفاؤه أن يكون قاسيا أو منتقما، فألقى بنفسه في الماء مرة أخرى، وعاد بالغريق يحمله على كتفه، وما زال يسبح به حتى بلغ الشاطئ، فسقطا جميعا، فتولى القوم أمرهما، وما زالوا بهما حتى أفاقا، فمشى الغريق إلى مخلصه بعد ما ألم بقصته معه يتوجع له ويمسحه، ويشكر له يده عنده، ويعتذر له عن ذنبه إليه، ثم انتفض الجمع وبقي الرجل وحده فلبس ثيابه ثم مشى يتحامل على نفسه إلى شجرات بنفسج كن على الشاطئ، فأخذ يقتطف من زهراتها ويضعها في منطقته كأنما يريد أن يتخذ منها طاقة يجعلها لتلك الحادثة تذكارا، فتركناه على حاله وعدنا إلى المنزل صامتين محزونين، وقد فاتنا ما كنا نؤمل من زيارتك في ذلك اليوم.
لا أستطيع أن أكتب إليك غير هذا، فقد أصبحت لا أذكر تلك الحادثة إلا وأجد لذكراها من الألم في نفسي ما يخيل إلي أنها حاضرة من يدي، وربما كتبت إليك فيما بعد، والسلام. (11) المكاشفة
مال ميزان النهار، وانحدرت الشمس إلى مغربها، ودب الظلام في الأضواء دبيب البغضاء في الأحشاء، وسكن كل صوت إلا صوت العصافير المزدحمة على أبواب أعشاشها، وجلس «استيفن» في الحديقة تحت أشجار الزيزفون يترقب نزول ماجدولين، وقد كتب لها كتابا نطق فيه قلمه بما عجز عنه لسانه، فنشره بين يديه وأنشأ يقلب نظره فيه؛ فخيل إليه أنه غير مستعذب ولا سائغ، وأن في كل جملة من جمله موضع ضعف، فاستقر رأيه على أن يطويه حتى يكتب لها خيرا منه، ثم رآها مقبلة نحوه تحمل في يدها كتابا، فلما دنت منه ابتسمت له وقالت: أتذكر يا سيدي مكان الشجرات التي اقتطفت منها زهرات البنفسج التي أهديتها إلي؟ فاضطرب لسؤالها، وقال: نعم، إنها على ضفة نهر صغير يبعد فرسخا أو فرسخين، قالت: اقرأ هذا الكتاب فإن لك فيه ذكرا، فأخذ منها كتاب سوزان في حادثة الغريق وأمر نظره عليه إمرارا فعرف كل شيء، فرده إليها صامتا وهو لا يدري ماذا يقول، فقالت: إنك تكتم عني نفسك يا «استيفن»، فقد عرفتك وعرفت يدك البيضاء في حادثة الغرق وبلاءك فيها، وما عالجت من آلام الحمى على أثرها، ثم مدت يدها إليه مصافحة، فلم يكن بين تلامس كفيهما وخفوق قلبيهما إلا كما يكون بين تلامس أسلاك الكهرباء واشتعال مصابيحها، ولبثا بعد ذلك ساعة صامتين لا ينطقان، إلا أن في الجبين لغة لا تقرؤها إلا العيون، فقرأ «استيفن» في وجه ماجدولين لوعة الحب وألم الحزن، واضطراب الجأش وحيرة النفس، وقرأت في وجهه الحب والسعادة والدهشة، والسرور المتلألئ والدمع المترقرق، فهاجها هذا المنظر، فأرسلت من محاجرها أول دمعة من دموع الحب، فبكى لبكائها، وحنا عليها حنو المرضعات على الفطيم، وشعر في نفسه وقد ضمها إليه بتلك العاطفة اللذيذة التي يجدها الغريب النائي عن أهله وجيرانه إذ لاقى في مطارح غربته غريبا مثله يأوي إليه، ويحنو عليه، ثم أخذ بيدها فألصقها بكبده كما يفعل المريض بيد عائده ليدله على موضع ألمه، وكأنما هو يقول لها: إن لغة اللسان لا تكشف لك عما اشتملت عليه أضالعي من الوجد بك، والحنين إليك، فالمسي قلبي بيدك لتعرفي مكنونه، وتكشفي غامض سريرته، ثم خر راكعا بين يديها وقال: أتحبينني يا ماجدولين؟ فلم تجب، فأعاد كلمته فاستمرت في صمتها، فمد يده إليها ضارعا وقال: رحماك يا ماجدولين، إنني أخاف أن أكون في حلم، وأن تكون هذه السعادة التي أراها بين يدي خيالا من الخيالات الكاذبة التي كانت تتراءى لي في أحلامي الماضية فأغتبط بها وأسكت إليها حتى إذا ما استفقت وجدت يدي صفرا منها، فأسمعيني كلمة الحب لأعلم أنك حاضرة لدي، وأنني لست واهما ولا حالما.
ومرت بهما على ذلك ساعة لا يعرف مكانها من نفسهما إلا من مرت به في يوم من أيام شبابه ساعة مثلها، فقد كانا يشعران أنهما في معزل عن العالم، وأن مكانهما من تلك الحديقة في انفرادهما وسكونهما وهنائهما وغبطتهما مكان آدم وحواء من جنتهما، قبل أن يأكلا من الشجرة ويهبطا إلى الأرض، وأن روحهما قد تجردت عن جسمهما فطارت ترفرف بأجنحتها في فضاء الملأ الأعلى، فرأت مدارات الشموس في أفلاكها، وحركات الكواكب في منازلها، ومرت بين صفوف الملائكة، وسمعت زجلها وتسبيحها تحت قوائم العرش، ودخلت جنة الخلد فرأت حورها وولدانها، ولؤلؤها ومرجانها، وروحها وريحانها.
فلم يستفيقا من غمرتهما حتى سمعت ماجدولين صوت «جنفياف» تناديها، فمدت إليه يدها مودعة، وهي تقول: غدا في مثل هذه الساعة في هذا المكان، فمد يده إليها ذاهلا لا يعلم ماذا يراد به، ثم مضت، ومضى بنظراته على آثارها حتى اختفت آخر طية من طيات ردائها الأبيض، فجمد في مكانه ساعة لا يتحرك ولا يلتفت، كأنما يتخيل أنها لا تزال جالسة بين يديه، فلما سمع خفق بابها دار بعينيه حول نفسه يمنة ويسرة، فعلم أنه جالس وحده. (12) النشوة
خرج «استيفن» بعد ذهاب ماجدولين هائما على وجهه يعدو في عرض الفضاء، ينحدر إلى يمينه وإلى يساره أخرى، كأنما يريد أن يشهد الأرض والسماء، والبحار والأنهار، والجبال الشماء، والسهول الفيحاء، والحيوان الناطق، والجماد الصامت، على سروره وغبطته، وكان يشعر في نفسه أن السعادة التي نالها هي فوق ما يحتمل طوقه، فكان كلما مر بأحد من الناس حدثته نفسه أن يفضي إليه بقصته ليحمل عنه جزءا من سعادته، ومر بأطفال يلعبون فجمعهم حوله وأخذ يقبلهم واحدا بعد واحد، ثم نثر عليهم كل ما معه من المال، وبوده لو ملك مفاتيح الأرزاق فأسبغ على الناس جميعا أنعمه وآلاءه فمحا بؤسهم وشقاءهم، وما زال يتغلغل في أحشاء الظلام متيامنا متياسرا، صاعدا منحدرا، حتى رأى باب الحديقة مفتوحا بين يديه، فاقتحمه ومشى إلى مكانه الأول، فجلس فيه وأخذ ينظر إلى شعاع النور المنبعث من بين ستائر غرفة ماجدولين، فخيل إليه أنه يرى قيامها وقعودها، وجيئتها وذهابها، ويسمع حفيف ثوبها، وخشخشة أوراق كتابها، حتى انطفأ المصباح، فصعد إلى غرفته وجلس إلى مكتبه يكتب إليها كتابا طويلا، ثم نال منه التعب فقام إلى سريره ونام نوما هادئا لذيذا حلم فيه أحلاما ما رأى مثلها بعد ليالي طفولته الجميلة. (13) من استيفن إلى ماجدولين
لا أزال أشعر حتى الساعة بجمال ذلك المقام الذي قمته بين يديك أمس، ولا أزال ألمس صدري بيدي لأعلم أين مكان قلبي من أضالعي مخافة أن يكون قد طار سرورا بتلك السعادة التي هي كل ما يتمنى المخير أن يكون، والتي لا أعتقد أن أبناء الخلود يقدرون لأنفسهم في دار نعيمهم خيرا منها، ولو أن لامرئ أن يعبد من يسدي إليه أفضل النعم وأسبغها، وأجمعها لكل خير وبر، لوجدتني يا ماجدولين ساجدا بين يديك في كل مطلع شمس سجود العبد الشاكر للإله المنعم.
إن الله لم يهب لي نعمة الجمال التي وهبها لك، ولم يجملني بمثل ما جملك به من رقة الحس، وعذوبة النفس، فإن أنت أحببتني فقد أحببت فتى مجردا من مزايا الفتيان لا يستطيع أن يمت إليك بمثل ما تمتين به إليه، ولا أن ينيلك من السعادة ما أنلته منها، فإن كنت ترين أن الإخلاص في الحب والوفاء بالعهد وهبة النفس هبة خالصة بلا ندم ولا أسف مزية أستحق لها محبتك فها أنا ذا أقدمها بين يديك، فتقبليها مني وقولي إنك سعيدة بي، كما أنا سعيد بك. (14) العهد
قدم «استيفن» كتابه إلى ماجدولين يدا بيد، فدهشت حينما رأته وألقت عليه نظرة الحائر المتردد، فنظر إليها «استيفن» نظرة المتوسل المستعطف، فتناولته منه وخبأته في ثنايا صدارها، وقالت: أصحيح يا «استيفن» ما حدثتني به «سوزان» في كتابها أن اسمي كان آخر كلمة هتفت بها في الساعة التي كنت تحسب أنها آخر ساعاتك في الحياة؟ قال: نعم، ولقد نلت ببركة هذا الاسم ما كنت أقدر لنفسي من النجاة عندما هتفت به، فقد علمت أن الله ما منحك هذه المنحة من الجمال، ولا جملك بما جملك به من محاسن الخلال، إلا وأنت آثر بنات حواء عنده، وأكرمهن عليه، فهو أضن بك من أن يجرح قلبا يخفق بحبك، أو يخرس لسانا يهتف بذكرك، فعذت باسمك في شدتي كما يعوذ المؤمن في شدته باسم الله، فكان لي خير معاذ وملاذ.
نامعلوم صفحہ
قالت: إنك قد لقيت في شدتك هذه عناء كثيرا ولقد كنت فيما فعلت من القوم المحسنين، قال: ما كنت محسنا قبل اليوم، ولكنه الحب يملأ القلب رحمة وحنانا، ويصغر في عينيه عظائم الأمور وجلائلها، ويوحي إليه أفضل الأعمال وأشرفها، أما ما لقيت في ذلك اليوم فقد كان فوق ما يحتمل المحتمل، فقد خيل إلي أنني أهوى في منحدر لا أعرف له قرارا ، وأن جسمي يتفتح عن روحي تفتحا فتملس منه إملاس الفرخ من بيضته، فلما ذكرتك استروحت من ذكراك ما استروح يعقوب من قميص يوسف، فلما نجوت علمت أنك سبب نجاتي، فما بلغت الشاطئ حتى جمعت تلك الزهرات فأرسلتها إليك تذكارا لتلك النعمة السابغة التي أسديتها إلي، فمدت يدها إلى صدرها، وأخرجت منه طاقة زنبق وقالت: إن أبي قد جمع لي هذه الأزهار صباح هذا اليوم فأنا أقدمها إليك ردا لتحيتك التي حييتني بها، فتناولها منها ونثرها بين يديه، وأخذ يؤلف بين أشتاتها وينظمها في سلك مستدير حتى صارت إكليلا جميلا، فوضعه على رأسها وقال: إن من يرى هذا الإكليل الزاهر فوق هذا الجبين الساطع لا يرى إلا أنه إكليل عرس على رأس عروس، فأخذت كلمته هذه مأخذها من نفسها، فأطرقت قليلا ثم رفعت رأسها فإذا دمعة رقراقة تترجح في محجريها، فقال: لا تبكي يا ماجدولين، فما في قوى هذا العالم كلها قوة تستطيع أن تحول بيني وبينك، قالت: إنما أبكي خوفا من الحب، وما أنا إلا فتاة مسكينة منقطعة، أشعر بالحيرة التي تشعر بها كل فتاة لا أم لها ترشدها، ولا ناصر لها يعينها، قال: ألا تعتقدين أن قلبك نقي طاهر؟ قالت: ذلك ما أعتقده وأشهد الله عليه، قال: إذن فالله هو الذي ينصرك ويعينك، وهو الذي يأخذ بيدك في حيرتك، وينير لك السبيل في ظلمات هذه الحياة.
لا تخافي من الحب يا ماجدولين، ولا تخافي من غضب الله فيه، واعلمي أن الله الذي خلق الشمس وأودعها النور، والزهرة وأودعها العطر، والجسم وأودعه الروح، والعين وأودعها النور، قد خلق القلب وأودعه الحب، وما يبارك الله شيئا كما يبارك القلبين الطاهرين المتحابين؛ لأنهما ما تحابا إلا إذعانا لإرادته، ولا تعاقدا إلا أخذا بسنته في عباده، فامددي إلي يدك، وأقسمي بما أقسم به أن نعيش معا، فإن قدر لنا أن نفترق كان ذلك الفراق آخر عهدنا بالحياة، فمدت إليه يدها فتقاسما وتعاهدا، وكانت الشمس قد انحدرت إلى مغربها فافترقا. (15) من استيفن إلى ماجدولين
كتبت إليك كثيرا، فلم تكتبي إلي كثيرا ولا قليلا؛ لأنك تعتقدين ما يعتقده كثير من النساء من أن المرأة التي تكتب إلى حبيبها كتاب حب آثمة أو غير شريفة، أما أنا فأعتقد أنها إن لم تفعل فهي مرائية مصانعة؛ لأن المرأة التي وهبت قلبها هبة خالصة لا يخالطها شك ولا ريبة لا ترى مانعا يمنعها من أن تكتب لحبيبها في غيبته بمثل ما تحدثه به في حضرته.
إن الحيطة في الحب رأي تراه لنفسها المرأة البغي التي تتخذ لها كل يوم حبيبا تقسم بين يديه بكل محرجة من الأيمان أنها ما فتحت قلبها لزائر قبله، فهي تخاف أن تسجل بيدها على نفسها في يومها ما يفسد عليها أمرها في غدها، أما المرأة الشريفة فما أغناها عن ذلك كله؛ لأنها تحب فتخلص، فتقول فتكتب ما تقول.
اكتبي إلي يا ماجدولين، فإن الذي يستطيع أن يكتم سر حديثك لا يعجز عن أن يكتم سر كتابك، واعلمي أن رجلا غيري ذلك الذي يتخذ من رسائلك سيفا يجرده فوق عنقك إن بدا لك في الفرار منه رأي، وإن فتاة غيرك تلك التي ترضى لنفسها أن تهب قلبها إلى رجل يتجر بأسرار النساء. (16) البحيرة
مضت على «استيفن» وماجدولين بعد ذلك أيام كانا يلتقيان فيها في المنزل أو الحديقة أو في الغابة أو على ضفة النهر، وكثيرا ما كانا يجلسان بجانب شجرات البنفسج، ويذكران حادثة النهر، وطاقة الزهر، وأحيانا كانا ينزلان في زورق صغير يسيران به في البحيرة ساعة أو ساعتين ثم يعودان.
فنزلا في الزورق يوما وكانت الشمس قد لبست ثوبها الثالث، ثم ما لبثت أن هوت إلى مستقرها على أن ترسل من خلفها سليلها القمر إلى هذا الوجود ليقوم عنها بحراسته حتى تعود إليه، فأمعنا في البحيرة، وكانت هادئة ساكنة كصفحة المرآة، وكان النسيم باردا رطبا يترقرق فيلامس الوجوه بخفة كما تلامس يد الحسناء وجه حبيبها، وقد سكن كل شيء إلا صوت قطرات الماء المنحدرة من المجاذيف إلى البحيرة، ونقيق الضفادع من حين إلى حين، ثم هتك القمر ستر الظلام وأرسل أشعته الزرقاء إلى الزورق والبحيرة والشاطئ وما وراء ذلك، فكانا يريان على ضوئه بعض الأشجار كأنها أشباح متحركة، ويتخيلان أن عيون الحشرات السارية بين لفائف الأعشاب شرر ينقدح، فلذ لهما هذا المنظر البديع، وذلك السكون العميق، وتلك الوحدة التي لا يكدرها عليهما مكدر، وتركا الزورق يمشي بهما حيث يشاء، وينحدر كما يريد.
وظلا يتحدثان، فقال «استيفن»: إني أوثر يا ماجدولين أن يكون البيت الذي نسكنه في المستقبل على شاطئ بحيرة كهذه البحيرة، وأن يكون لنا زورق أوسع من هذا الزورق وأجمل منه شكلا، نقضي فيه الليالي المقمرة بين الرياضة والصيد والاستحمام، ولا بد أن يكون للمنزل حديقة صغيرة ونغرس بها ما نشاء من الكروم والأعناب والأزهار والأنوار، وسأتولى بنفسي غرس شجرات البنفسج لك، وسأنشر على جدران الحديقة والمنزل غلائل رقيقة من الخضرة اليانعة، أما المنزل فأرى أن يكون مشتملا على طبقتين، طبقة عليا يكون فيها أربع غرف، غرفة للأضياف، وأخرى للمكتبة، وأخرى للملابس، وصمت لحظة، ثم قال: أما الرابعة فهي التي تكون لي ولك، فاحمرت ماجدولين خجلا ثم قالت: لقد فاتك أن تذكر غرفتين أخريين: إحداهما لأخيك، والثانية لأبي، قال: نعم، لقد فاتني ذلك، فلا بد إذن أن تكون الطبقة العليا مشتملة على ست غرف، أما الطبقة السفلى فتشتمل على قاعة الطعام، ومخزن المئونة، وبيت الخدم والحمام، إلى ما يلحق ذلك من مرافق البيت وحاجاته، قالت: لقد فاتك أيضا أن الحديقة لا يجمل منظرها إلا إذا كان في وسطها حوض صغير يتدفق ماء نميرا، قال: نعم وسنتخذه لتربية الأسماك الملونة، ولا يفوتنا أن نحوطه بسياج عال من الأغصان المشتبكة وقاية لأطفالنا الصغار.
فأخذت هذه الكلمة مأخذها من نفس ماجدولين، واصفر لها وجهها، ثم أطرقت برأسها طويلا، فحنا عليها «استيفن» وسألها عما بها، فرفعت رأسها فإذا هي تبكي، فقال: ما بك يا ماجدولين؟ قالت: إن الدهر يا «استيفن» أضن بالسعادة من أن يهبها كلها لشخص واحد، وأخاف أن نكون كاذبين في آمالنا، أو مخطئين في تصور مستقبلنا، فليت الدهر - إن كان يعلم أنه سيحول بيننا وبين سعادتنا في المستقبل ويكدر علينا صفو عيشنا بفاجعة من فواجعه أو نازلة من نوازله - أن يمد إلينا يده في هذه الساعة فيستل حياتنا من يدي أجلنا؛ لتخف في أفواهنا مرارة الموت! قال: لا تخافي يا ماجدولين، فإن سلطان الدهر لا يمتد إلى مواقف الحب إلا إذا أراد المحبون أنفسهم أن يكون له هذا السلطان عليهم، فكوني معي أتخذ من حبك عدة أنازل بها حوادث الدهر وأرزاءه، وأفسد عليه حوله وقوته، فصمتت واجمة، ثم ألقت نظرها على البحيرة ومجرى الزورق منها وقالت: لو أن لامرئ أن يتمنى لنفسه ما يشاء لتمنيت أن يكون هذا الطريق الذي نسير فيه طريق الأبدية، وأن يظل هذا الزورق مطردا بنا في مسيره، لا يقف في طريقه شيء حتى يلج بنا أبواب السماء.
ثم تنفست الصعداء وقالت: حسبنا يا «استيفن» فقد أوشك القمر أن يغيب، وأنا لا أحب أن أرى مغيبه؛ لأني أخاف أن تغرب سعادتنا بغروبه، فنظر إليها واجما مكتئبا، كأنما دار بنفسه ما دار بنفسها من المخاوف والأوهام، ثم قام إلى المجاذيف يحركها، واضطجعت تحت قدميه، وما زالا كذلك حتى بلغا الشاطئ، ثم مشيا حتى بلغا المنزل، فلما أرادا أن يفترقا أدنى يدها من فمه يحاول أن يقبلها فأبت، فقبلها في جبينها فارتعدت، وألقت عليه نظرة عتب أخذت من نفسه مأخذها وانصرفت. (17) من ماجدولين إلى استيفن
نامعلوم صفحہ
ماذا صنعت يا «استيفن»؟ إنك سلبتني الليلة الماضية راحتي وسكوني، فإني كلما تذكرت تلك القبلة التي وصمت بها جبيني شعرت كأن نارا مشتعلة تتأجج بين أضالعي، وأن صحيفتي التي لم تزل بيضاء حتى ليلة أمس قد أصبحت تضطرب في بياضها الناصع نقطة سوداء، فأحاول أن أطردها من أمامي فأكون كالأرمد الذي يحاول أن يطرد الغشاوة السوداء من عينيه فلا يستطيع، لقد سكبت عيناي كثيرا من العبرات، وتوسلت كثيرا إلى الله تعالى، أن يغفر لي ذنبي، ولا أدري ما هو صانع بي؟ ولا كيف أستطيع أن أقف بين يديه يوم الحساب بهذا الجبين المسود من الإثم، وهذا الوجه المحمر من الخجل؟ لا أكتمك يا سيدي أنني لولا أن عزيت نفسي عن هذه النكبة بأنك أخذت مني تلك القبلة أخذا ولم أمنحها لك منحة لقتلت نفسي بيدي، لا تعد إلى مثلها يا «استيفن» إلا إذا أردت أن تراني يوما من الأيام بين يديك جثة هامدة. (18) من استيفن إلى ماجدولين
ما كنت أعلم قبل اليوم أن الفتاة التي تحب وتعاهد من تحب، وتقسم بين يدي حبيبها يمين الإخلاص والوفاء على أن تكون له كما يكون لها، وألا تجعل ليد غير يد الموت سبيلا إلى التفريق بينهما، تستكثر عليه قبلة شريفة يأخذها من جبينها كما يأخذها الأخ من جبين أخته، والمتعبد من يد كاهنه.
ما أحسب إلا أنك قد خدعت نفسك بنفسك يا ماجدولين حين ظننت أنك عاشقة، وما أنت من الحب في شيء؛ لأن الفتاة التي تحب لا ترى بأسا في أن تمنح القبلة لحبيبها منحة، ولا تنتظر أن يأخذها منها أخذا.
الآن عرفت أن بكاءك بين يدي، واضطراب يدك في يدي، وخفوق قلبك عند رؤيتي، إنما كان أثرا من آثار الخوف لا مظهرا من مظاهر الحب، وأن عطفك علي وتحببك إلي ولصوقك بي لم يكن لأنك كنت تحبينني، بل لأن فتاة مسكينة ضعيفة مثلك لا بد لها أن تشعر بالميل إلى كل رجل قوي بجانبها.
تقولين لي إنك قضيت ليلك أمس معذبة، لا يهنأ لك مضجع، ولا يغتمض لك جفن، أما أنا فأقول لك: إني لم أقض في حياتي ليلة أهنأ من تلك الليلة؛ لأني بت أتخيل تلك القبلة التي تناولتها من جبينك كأنها ثغر منضد يبتسم إلي أرق ابتسام وأعذبه، فأشعر بروح الحب تدب في أعضائي دبيب الحميا في وجه شاربها؛ أما اليوم فإني أصبحت أتخيلها تمثالا جامدا من الحجر الصلد ماثلا بين يدي لا يتحرك ولا ينطق.
عفوا يا ماجدولين، فإني ما تناولت تلك القبلة من جبينك إلا وأنا أعتقد أني أقبل زوجتي؛ لأني لا أرى فرقا بين عهد الإخلاص الذي يؤخذ بين يدي الحب وعقد الزواج الذي يعقد بين يدي الكاهن، وأشكر لك تلك الساعات القليلة التي سعدت فيها على يدك، وإن كانت سعادة موهومة، ويمكنني أن أقول لك إني ما نقضت - حتى الساعة - ذلك العهد الذي عاهدتك عليه، وإني لا أزال أحبك كما كنت؛ لأني ما كنت أحببتك لأجازيك على حب بمثله، ولا لأنك جميلة أو عاقلة أو ذكية، ولا لشيء مما يحب الرجال له النساء، بل أحببتك للحب نفسه، والسلام. (19) من ماجدولين إلى استيفن
عفوا يا «استيفن»، فما كنت أحسب أن كلمتي بالغة منك ما بلغت، أو أنها ذاهبة بك هذه المذاهب كلها، فاغفر لي ذنبي، فوالله ما احتفظت بعرضي إلا لك، ولا منعتك نفسي اليوم إلا لأبذلها لك غدا، أنت اليوم حبيبي وغدا تكون زوجي، وكل ما صنعته أني توسلت إلى حبيبي أن يزفني طاهرة نقية إلى زوجي، أما الخداع الذي تذكره في كتابك فأنا أعتقد أنك تعلم من أمري غير ما تقول، ولكنك غضبت فقلت غير ما علمت. (20) من مولر إلى استيفن
أكتب إليك كتابي هذا ويدي ترتعد خجلا، ونفسي تسيل حزنا؛ لأني ما كنت أقدر في نفسي أن ستمر بي ساعة من ساعات حياتي أرى نفسي مضطرا أن أقول لصديقي الذي أجله وأعظمه وأنزله من نفسي خير منزلة: إني لا أستطيع أن أستقبلك في منزلي بعد اليوم، بل لا أستطيع أن أحتمل بقاءك في المنزل الذي أسكنه وتسكنه ابنتي؛ لأن لي شرفا أبقي عليه أكثر مما أبقي على صداقة الأصدقاء، على أنني أرجو ألا تزال تعدني صديقك المخلص إليك، كما أني لا أزال أعدك كذلك، وإن فرقت بيننا الأيام. (21) حديث
جلست ماجدولين في غرفتها تخيط ثوبا لها، ربما كانت تعده لليلة عرسها، فندرت إبرتها من يدها، فرفعت رأسها فإذا أبوها ماثل بباب الغرفة، فدهشت لمرآه، وراعها منظر سكونه وجموده، ثم مشى إليها بقدم مطمئنة حتى وضع يده على عاتقها وقال: أتعلمين يا ماجدولين أني أرسلت «جنفياف» الساعة بكتاب إلى «استيفن » أمنعه فيه من دخول بيتي، بل أمنعه من البقاء في منزلي؟ قالت: لا أعلم من ذلك شيئا، ولا أعرف لصنيعك هذا سببا، قال: لا سبب له إلا أنه يحبك، قالت: إنه لا يحبني، ولكنه يحب أن يتزوج بي، قال: ذلك ما لا أريد أن يكون، قالت: ولماذا؟ قال: لأنه لا يصلح أن يكون زوجا لك، قالت: أنا أعلم أنك اتخذته لنفسك صديقا، وأنك تعرف له مكانه من الفضل والنبل، فكيف ترضى أن تتخذ لنفسك صديقا من لا ترى أنه لا يصلح أن يكون لابنتك زوجا؟ قال: إني أصادقه لأنه شخص كريم، ولا أحب أن أصاهره؛ لأنه بائس فقير، فقد عثرت اليوم بكتاب سقط منه فقرأته فعرفت أنه لا يملك ما يقوت به نفسه، فأحرى ألا يملك ما يقوت به أهله، قالت: إنك حدثتني عنه أنه فتي ذكي متعلم، ومن كان هذا شأنه لا يكون بينه وبين الغنى إلا بضع جولات يجولها في ميدان هذا العالم، فيعود من بعدها رجلا غنيا، وزوجا صالحا، قال: إن في أخلاقه من الأنفة والترفع ما يحول بينه وبين النجاح، قالت: إن الحب يقوم ما اعوج من الأخلاق، ويحيي ميت الأمل في نفس المحب، فلا تطفئ جمرة الحب التي تشتعل في قلبه، فإنك إن فعلت قتلته وقتلت أمله وأتلفت عليه حياته، قال: يا بنية، إني أعلم من أخلاق الناس وشئونهم ما لا تعلمين، وقد رأيت أني أكون مخاطرا بك وبمستقبلك وبكل ما أرجو لك من سعادة في العيش وهناء إن أنا رضيت لك هذا الزواج الذي أعلم أن شره أكثر من خيره، بل أعلم أنه شر كله لا خير فيه، فانظري يا بنية في أمر نفسك بعين غير عين الحب، فإنها دائما حولاء، واذكري أن أباك الذي يحبك وينزلك من نفسه منزلة لا يغلبك عليها غالب لا يمكن أن يكون غاشا لك أو خادعا، فركعت بين يديه ومدت يدها إليه ضارعة، وأنشأت تسترحمه بالبكاء مرة والدعاء أخرى، فكانت كأنها تستنبط الماء من الصخر، أو تستنبت الربيع في المهمه القفر حتى وهت قوتها، فسقطت تحت قدميه، فتركها مكانها ومضى لسبيله وهو يقول: إنك اليوم تجهلين وغدا تعلمين. (22) الخبر
دخلت «جنفياف» على «استيفن» في غرفته وقد جلس إلى مصباح ضعيف يقرأ في كتاب، فأعطته كتاب سيدها ورجعت أدراجها، وكان أول كتاب جاءه من «مولر»، فمر بخاطره - وهو يفض غلافه - كل شأن إلا الشأن الذي كتب فيه، فما أمر نظره عليه حتى فهم كل شيء.
نامعلوم صفحہ
فلو أن راميا سدد إلى قلبه سهما حديدا فنفذ ما بلغ منه ما بلغ هذا الكتاب، ولو أن نازلة من نوازل القدر هوت عليه فاختطفت نفسه من بين جنبيه لكان له مصابها رأي غير رأيه في هذا المصاب، فقد سكن على أثر ذلك سكونا لا تطرف فيه عين، ولا ينبض فيه عرق، ولا يخفق قلب، ولا يتحرك خاطر، حتى ليكاد يعتقد الناظر إليه في تلك الساعة أن هناك منزلة وسطى بين الحياة والموت تنبعث فيها الحواس في سبلها، ولكنها لا تعود إلى الدماغ بشيء مما تحس به.
واستمر على ذلك ساعة، ثم انتفض انتفاض الطائر المذبوح، ودار بعينيه يمنة ويسرة كأنما يفتش عن شيء أضاعه، فوقع نظره على الكتاب وهو ملقى بجانبه، فقرأه مرة أخرى، ثم ضرب جبهته بيده وأنشأ يقول بصوت خافت: لا أمل لي بعد اليوم، ها أنا ذا، وها هو ذا الكتاب بين يدي، ما أنا بحالم، ولا الكتاب بكاذب، نعم إن «مولر» طردني من بيته، وقتل نفسي قتلا، وفجعني في جميع آمالي، وحال بيني وبين ماجدولين؛ أي إنه فرق بين روحي وجسدي، إنه فعل ذلك وهو لا يدري ماذا يفعل، إنه اجترم هذه الجرائم كلها ساكنا هادئا كأنما هو يعبث بفأسه في أرضه، أو يحول جدوله من طريق إلى طريق، لقد قسا علي قسوة لم يقسها أحد من قبله على أحد، إنه علم أني فقير لا أملك شيئا، ورأى أن الفقر جريمة لا عقاب لها إلا القتل، فقتلني.
ثم كأنما جن جنونه فثار من مكانه ثورة الأسد الهائج، وتمثل له كأن «مولر» ماثل بين يديه، فمشى إليه مهددا، وصار يهذي ويقول: مهلا، رويدا أيها الشيخ الأبله، أظننت أني بين يديك شاة خرقاء أو دجاجة بلهاء تقدم نفسها لسكين الذابح حينما يريد؟ لا لا! أنا إنسان عاقل، ورجل شجاع، لا بد أن يكون لي أمل أحيا به، وسعادة أنعم بها، ولا بد أن أقاتل عن أملي وسعادتي حتى أبلغهما أو أقتل دونهما.
كذبت أيها الرجل، إنك أضعف من أن تمد يدك إلى هذا الرباط المقدس فتقطعه، إنك أعجز من أن تنتزع شعرة من شعر رأسك الأبيض، فأحرى أن تعجز عن أن تنتزع روحا من جسدها.
إن الذي بيني وبين ماجدولين شيء لا تصل إليه يدك، ولا يمتد إليه سلطانك، ولا يتعلق به أمرك ونهيك، وعطاؤك ومنعك.
إنك تستطيع أن تطردني من بيتك؛ لأنك تملكه وأن تحبس ابنتك في غرفتها لأنك أبوها، ولكنك لا تستطيع أن تمنع قلبينا أن يتحابا، ونفسينا أن تتصلا.
إن الذي خلق الإنسان وأسدى إليه نعمة الحياة والرزق لم يسترقه بهذه النعم، ولم يملك عليه قلبه ثمنا لها، بل تركه حرا يحب من يشاء، ويبغض من يشاء، وأنت تريد أيها الشيخ الضعيف المسكين أن يكون لك على قلوب الناس سلطان فوق سلطان الله، وإرادة فوق إرادته.
أي شأن لك عندنا؟ وأي صلة لك بنا؟ لقد ذهب عصرك وذهبت بذهابه، وأصبحنا لا نعد وجودك وجودا، ولا حياتك حياة، فإن نظرنا إليك فكما ننظر في ساعة من ساعات فراغنا إلى صفحة من صفحات التاريخ الغابر.
إن عقلك الذي بلي ورث وانتشر فوقه طبقة سوداء من القدم، لا يصلح أن يكون مرآة صادقة نرى فيها وجوهنا، ونتاحكم إليها في سعادتنا وشقائنا.
إنك شره طماع، رأيت أن ماء حياتك قد نضب، وأن أغربة الفناء السود تحلق فوق رأسك المشتعل شيبا، فعز عليك أن تموت، فجئت إلينا تحاول أن تقاسمنا حياتنا الجديدة الغضة، فكان مثلك كمثل ذلك الملك الظالم الذي كان يمتص دماء الأطفال ظنا منه أن ما ينقص من حياتهم يزيد في حياته.
نامعلوم صفحہ
إنني لم أكن أريد بك أيها الشيخ المأفون ولا بابنتك شرا ولا ضيرا، بل كنت أعد لها عيشا هنيئا رغدا في مستقبل حياتها؛ فأنا خير لها منك؛ لأنك ما أردت بها فيما صنعت اليوم إلا عذابا دائما وشقاء طويلا.
وأعجب من ذلك كله أنك تذكر في كتابك الصداقة والإخاء والإخلاص، كأنك تظن أن البله قد بلغ مني مبلغه منك، وأني أجهل أنك شيخ مداج مصانع، تكتب الحكم بالإعدام وكأنك تكتب بطاقة دعوة إلى وليمة، وتقدم قطعة الحلوى وقد دسست في باطنها ناقع السم، وترفع قبعتك احتراما لمن يقطر خنجرك من قلبه دما.
وهنا بلغ منه التعب مبلغه، فسقط مكبا على وجهه، يبكي بكاء الطفل الصغير، وينشج نشيجا محزنا، ثم جثا على ركبتيه ورفع وجهه إلى السماء وأنشأ يقول: رحمتك اللهم وإحسانك، فأنت تعلم أني رجل ضعيف لا ناصر لي ولا معين، فكن أنت ناصري ومعيني، اللهم إني أعترف بأني أذنبت إليك في اغتراري بنفسي، واعتدادي بحولي وقوتي، وأني أغفلت قضاءك وقدرك، وما تجريه على عبادك من أحكام السعادة والشقاء، والسلب والعطاء، فقدرت لنفسي من سعادة المستقبل وهنائه ما لا أملكه ولا سبيل لي إليه إلا بمعونتك وقوتك، فاغفر لي ذنبي، وخذ بيدي في نكبتي، فقد أصبحت أعجز الناس عن الصبر والاحتمال.
ثم سكن بعد ذلك سكونا عميقا، ولم يزل باسطا يديه رافعا رأسه إلى السماء، كأنما كان ينتظر أن يسمع هاتفا يهتف به من الملأ الأعلى، فلم يلبث أن رأى من خلال دموعه الحائرة في عينيه شبحا من نور يتلألأ أمامه، وكان المصباح قد انطفأ وأضاءت الغرفة بأشعة القمر، فمسح دموعه بيمينه ونظر، فإذا هي ماجدولين. (23) الوداع
لبثت ماجدولين في غرفتها بعد أن فارقها أبوها ساعة تقلب النظر في أمرها، فلا ترى في ذلك الظلام الحالك نجما يتلألأ ولا ذبالة تضيء، فبكت ما شاء الله أن تفعل حتى مضى الليل إلا أقله، فحدثتها نفسها بأمر ما كانت تحدثها به لولا لوعة الحب، وفجعة البين، وقامت تختلس خطواتها اختلاسا وما على وجه الأرض قلب أضعف من قلبها، ولا لوعة أشد من لوعتها، حتى وصلت إلى السلم، فصعدت تسترق درجاته حتى انتهت إلى أعلاه، فوقفت قليلا تستغفر الله من ذنبها، وتسأله إحسانه ورحمته، ثم مشت إلى غرفة «استيفن» ودفعت الباب قليلا، فرأته جاثيا على ركبتيه يهتف بدعائه، فأثر منظره في نفسها، وأخذت تبكي لبكائه، وتدعو بدعائه، حتى التفت فرآها، فخفق قلبه خفقا متداركا، وتعلقت أنفاسه، وجمد نظره، وتزايلت أوصاله، حتى ما يكاد يتحرك من مكانه، فمد إليها يده كالمستغيث المتلهف، فدنت منه وقالت: إني جئتك لأودعك يا «استيفن» ولا أستطيع أن أبقى عندك طويلا، فهل تستطيع أن تعدني وعدا صادقا ألا تترك نفسك في يد الهموم تعبث بها كيف تشاء، وألا تجعل لليأس سبيلا إلى قلبك حتى يجمع الله بيني وبينك؟ قال: ذلك أمره إليك، فأنت التي تستطيعين أن تجعليني شجاعا صبورا محتملا، وأنت التي تملكين أن أحيا بالأمل، أو أموت باليأس، قالت: إني أقول لك اليوم يا «استيفن» كلمة كان يمنعني الحياء أن أقولها لك قبل اليوم، وهي أني أحببتك حبا ملأ فراغ قلبي، فما يسع غيره، ونزل منه منزلة الروح من الجسد، فما ينتقل عنه، وقد عاهدتك على الزواج بين يدي الله ويدي ضميري، وما أنا بخائنة ضميري، ولا بكاذبة ربي، فسافر يا «استيفن»، وفتش عن سعادتنا في كل مكان، وبكل سبيل، حتى تجدها، وعد إلي بعد ذلك، فإني سأكون لك ما حييت، سافر حيث شئت، وتقلب في البلاد كما أردت، وعد إلي بعد عام أو عامين أو عشرة أعوام أو أكثر من ذلك، فإنك ستجدني كما تركتني نقية طاهرة، ووفية مخلصة، واعلم أن الله ما ألهمني الصبر عنك وألهمك مثل ذلك في مثل هذا الموقف الذي تطيش فيه العقول وتطير رواجع الأحلام، إلا وقد أراد بنا خيرا في جميع شئوننا، وقدر لنا السعادة والهناء في مستقبل أيامنا، سافر يا «استيفن» غدا، واكتب إلي بكل ما تلاقي من خير أو شر لأقاسمك سراءك وضراءك، وسأكتب إليك كما تكتب إلي .
فسكت ثائره قليلا، وقال: إن سفري سيكون طويلا يا ماجدولين، فهل لك أن تزوديني بقليل من الزاد أستعين به على بعد الشقة وعناء المسير؟ فمدت يدها إلى شعرها وقصت منه خصلة، فأعطاها من شعره مثلها، ثم تراجعت قليلا قليلا وهي تنظر إليه بعين ملؤها الحب والجزع، والصبابة والدموع، فقام إليها ليدركها فاختفت. (24) السفر
استيقظ «استيفن» صباح يوم الرحيل وأطل من نافذة غرفته المشرفة على الحديقة فرأى الأفق يتفتح عن نفسه شيئا فشيئا، ورأى الشمس قد هبت من مرقدها، ولا تزال في جفنها سنة الغمض، ثم رآها وقد لبست ثوبها الأول وخطت بعض الخطوات إلى مطلعها، فمشت أمامها حاشية من الأضواء تتقدمها كما تتقدم الملك حاشيته في مطلعه من باب قصره، ثم نظر إلى السماء من ناحية المشرق وقد انتشرت في أنحائها تفاريق السحب، ومشت في جلدتها حمرة النور، فخيل إليه أنه يرى هنالك برجا عظيما تضطرم فيه النار اضطراما، وأن دخان تلك النار يتراكم فوقها مرة، ويفرج عنها أخرى، ثم رأى أشعة الشمس البيضاء تخالط حبات الطل في أوراق الزهر، والطل لم يجر ذائبه، فكان كأنه يرى أحجارا من الماس تضيء فتنعكس عنها ألوان مختلفة بديعة تملك القلوب والأبصار، ولم يكن يسمع في تلك الساعة من الأصوات غير طنين النحل وهو مكب على أزهاره يرشف كئوسها، ويتطاير من حولها كما تتطاير الأحلام اللذيذة حول أفواه الأطفال الصغار.
فألقى على تلك المناظر كلها نظرة عامة لم يسترجعها إلا مبللة بالدمع حينما ذكر أنه سيفارق عما قليل هذه الدار، ويفارق بفراقها سعادته وهناءه، ويفارق ظلال الزيزفون التي كان يجلس إليها مع ماجدولين، والجدول الذي كانا يمشيان بجانبه، والزورق الذي كانا يتنزهان فيه، والمقعد الذي كان يقتعده من الحديقة لينظر مجيئها، أو ليرى خيالها من نافذة غرفتها، والغرفة التي كان يشرف من نافذتها ليسمع نغمات صوتها العذب، وطاقات الزهر التي كانت تهديها إليه فيستروح منها نسيمها، فلم يزل يبكي بكاء الشيخ على عهود صباه حتى كادت تتلف نفسه، ولولا أنه ذكر حديثها معه ليلة أمس فعزى نفسه عن فراقها بإخلاصها ووفائها وما عقدت بينها وبينه من العهود لقضى في مكانه أسفا، ثم قام إلى حقيبته فوضع فيها ملابسه ومرافقه، ونزل إلى الحديقة فودع أزهارها وأشجارها، ومجالسها ومقاعدها، ولم يترك جذعا لم يقبله، ولا غصنا لم يلثمه، ولا مقعدا لم يمرغ خده فوقه ويبلله بدموعه، ونقش اسمه واسم ماجدولين على كثير من المقاعد والجذوع، واقتطف من كل شجرة زهرة، وجمع تلك الأزهار في طاقة واحدة، وتركها على بعض المقاعد لماجدولين، ثم ذهب إلى البستاني واتفق معه على أن يحمله على فرسه إلى «كوبلانس»، ثم فارق «ولفاخ» بين وجد يقتله، وأمل يحييه. (25) من ماجدولين إلى استيفن
سافرت يا «استيفن» وأصبحت بعيدا عني، وما أحسب أني أراك في عهد قريب، فما أعظم بؤسي وشقائي! وما أشد ظلمة الوحشة المحيطة بي!
لقد خدعت نفسي يوم أشرت عليك بالسفر، فقد ظننت أن بين جنبي ذخيرة من الصبر والاحتمال أقوى بها على تجرع كأس فراقك المريرة، فلما فقدت وجهك علمت أني فتاة ضعيفة بائسة، لا تقوى على احتمال أكثر مما تطيق من الآلام والأحزان، وأنني فيما أدليت به إليك من تلك النصيحة إنما كنت أحدث عن خواطر عقلي لا عن شعور نفسي.
نامعلوم صفحہ
لقد كنت أرجو أن يكون آخر عهدي بك يوم رحيلك وقفة أقفها في نافذة غرفتي أحييك فيها تحية الوداع، وألقي عليك فيها آخر نظرة من نظرات الحب، لولا أنني خفت عليك الجزع أن تراني باكية، وعلى نفسي التلف أن أراك جازعا، فافتديتك نفسي بهذه اللوعة التي تتأجج اليوم في صدري، فما أصعب الوداع! وما أصعب الفراق بلا وداع!
نزلت بعد سفرك إلى الحديقة فلم أجدك، ووجدت على بعض مقاعدها طاقة الزهر التي تركتها لي قبل سفرك، فلثمتها ولثمت شخصك فيها، ثم مشيت إلى ذلك المقعد الذي كنا نجلس عليه معا تحت شجرة الزيزفون فجلست فيه وحدي، ونشرت بين يدي رسائلك الماضية، وأنشأت أقرؤها وأصغي إلى حديثك فيها، فخيل إلي أنك جالس بجانبي تحدثني فما لفم، وأن ما يقع عليه نظري في صفحات رسائلك إنما هي نبرات تسمعها أذني، لا خطوط تبصرها عيني، فسكنت لذلك الخيال ساعة سكون الطفل الباكي لنشيد المهد، حتى سمعتك تدعوني في بعض أحاديثك: «يا خطيبتي»، وهي تلك الكلمة الحلوة العذبة التي تهبط حلاوتها إلى أعماق قلبي كلما سمعتها، فانتفضت وألقيت نظري على مكانك الذي تخيلته بجانبي فوجدته خاليا، فعلمت أن تلك الساعات الجميلة التي مرت بنا تحت هذه السماء الصافية، وفوق تلك المقاعد الجميلة، وبين مشتبك هذه الغصون والأوراق، قد ذهبت ولم يبق لي منها غير ذكراها، فبكيت ساعة طويلة لا علم لي بمداها، ثم استفقت فصعدت إلى غرفتي، وجلست إلى منضدتي أكتب إليك هذا الكتاب.
فمتى تعود يا «استيفن» ومتى تعود بعودتك تلك الأيام الحسان؟! (26) من ماجدولين إلى استيفن
لقد كابدت بالأمس ليلة ليلاء، فلم ينحدر كوكب الشمس إلى مغربه حتى سمعت صوت العاصفة يهدر في كل مكان، ورأيت آفاق السماء قد اربدت واقشعرت ثم ارفضت عن غيوثها المنهلة، فذكرت أنك لا تزال على الطريق، وأنك تقاسي في تلك الساعة من عثرات الطريق وعقباته وقفقفة البرد ورعشته عناء عظيما، فالتحفت ردائي وأويت إلى بعض زوايا غرفتي، وظللت أبكي على فراقك مرة وعلى شقائك أخرى، وأذود النوم عن عيني ذيادا؛ لأنني لا أستطيع أن أكون راضية عن نفسي ولا هانئة في مضجعي إن نمت في ساعة لا تجد فيها أنت إلى الراحة سبيلا، حتى مضى الليل إلا أقله، فشعرت أن النعاس الذي كان يغالب جفني قد غلبني عليهما، فنمت في مكاني نوما مشردا مذعورا، حتى استيقظت مع الصباح، فإذا الريح ساكنة، والشمس ساطعة، والجو باسم طلق، فحمدت الله على ذلك.
إني أعد الساعات واللحظات يا «استيفن» وأنتظر بشوق عظيم وصول أول كتاب منك يبشرني ببلوغك مستقرك سالما، فمتى يأتي كتابك إلي؟ (27) من ماجدولين إلى استيفن
لم تكف الأربعون ساعة التي مرت بي لتخفيف شيء من همومي وأحزاني، فلقد قضيتها حائرة الذهن، مشردة اللب، أقلب عيني في كل مكان فلا أجد في بارقة من بوارق الحقيقة ولا سانحة من سوانح الخيال عزاء ولا سلوى، فصعدت إلى غرفتك المهجورة علني أجد في مقامي بها ساعة علاج ما أكابده من هموم وأحزان، فلما بلغتها ووضعت يدي على مفتاحها شعرت برعشة شديدة ملأت ما بين قمة رأسي إلى أخمص قدمي، فلقد خيل إلي أنني إن فتحت هذا الباب وجدتك وراءه واقفا تبتسم إلي، وتفتح ذراعيك لاستقبالي، فلما فعلت لم أجد غير الوحشة السائدة، والسكون المخيم، وغير سريرك المشعث، وأوراقك المبعثرة في كل مكان، والغبار المنتشر في أرضها وسمائها، فمهدت ما تشعث، وجمعت ما تبعثر، ومسحت الغبار عن المقاعد والنوافذ، وأعدت الغرفة إلى عهدها الأول أيام كنت تسكنها وتزينها، كأنما أبيت إلا أن تكون هي غرفتك المعدة لك، المسماة باسمك، حاضرا كنت أم غائبا.
ووجدت على بعض المقاعد بضعة دراهم في كيس صغير، فعلمت أنها أجرة الغرفة التي يتقاضاها أبي قد تركتها له ليأخذها من حيث لا تراه، فأخذتها لأحملها إليه ثم أستوهبه إياها لأبتاع بها حلية أو ذخيرة أتقلدها كأنها هدية مرسلة منك إلي.
سأحمل نفسي يا «استيفن» على الصبر عنك، حتى يطوي القدر مسافة البعد بيني وبينك، وستكون تعلتي التي أتعلل بها منذ الساعة كلما هاج بي هائج الشوق إليك أنك ما بعدت عني إلا لتقترب مني، ولا فارقتني إلا لأنك آثرت اجتماعا آمنا طويلا على اجتماع مشرد غير مأمون، فامض في سبيلك أيها الصديق المحبوب، وذلل بهمتك جميع العقبات التي تعترض سبيل سعادتنا وهنائنا، حتى نلتقي بعد ذلك لقاء تنسينا حلاوته مرارة ذلك الماضي المحزن الوبيل. (28) من استيفن إلى ماجدولين
بالأمس كنا، وكان يجمعنا بيت واحد، لا يكدر صفاءنا فيه مكدر، واليوم نحن وبيني وبينك خمسون فرسخا، لا تمس يدي يدك، ولا تعبث أناملي بشعرك، ولا أستنشق عبير أنفاسك، ولا يرن صوتك العذب في جوانب قلبي، ولا تضيء ابتساماتك الجميلة ظلمات نفسي، ولا تلتقي أنظارنا في مكان واحد، ولا تمتزج أنفاسنا في جو واحد، فلا السماء صافية كعهدي بها، ولا الجو باسم طلق كما أعرفه ، ولا الماء صاف عذب، ولا الهواء رقراق عليه، ولا الروض متفتح عن أزهاره، ولا الزهر متنفس عن عبيره، كأنما كنت سر الجمال الكامن في الأشياء، فلما خلت منك أقفرت واقشعرت، ونبت عنها العيون والأنظار.
ولقد لقيت في «كوبلانس» أبي وأهلي وكثيرا من أبناء وطني فلم يغن لقاؤهم عن لقائك، ولم أجد في وجودهم ذلك الأنس الذي كنت أجده فيها قبل أن أعرفك، فأصبحت أشعر في مقامي بينهم بما يشعر به الغريب المنبت الذي يعيش في وطن غير وطنه ودار وأهل غير داره وأهله، فمتى تنقضي أيام غربتي؟ ومتى أعود إلى أهلي ووطني؟
نامعلوم صفحہ
قد أحزنني كثيرا ما تكابدينه من الآلام والأحزان من أجلي، ولو كشف لك من أمر نفسك ما كشف لي منها لعرفت أنك أسعد مني حظا، وأروح بالا؛ لأنك تعيشين في المواطن التي شهدت سعادتنا وهناءنا، والتي نبتت في تربتها آمالنا وأحلامنا، فكل ما حولك يذكرك بحبك، وأيام سعادتك، أما أنا فكل ما حولي غريب عني، أنكره ولا أكاد أعرفه، كأنما هو مؤتمر بي أن ينتزع مني ذكرى تلك الأيام الجميلة التي قضيتها بجانبك، وهي كل ما أصبحت أملكه من بعدك.
سأكون شجاعا كما أمرت يا ماجدولين، وسأبذل جهدي في تذليل كل عقبة تقف في طريق سعادتي بك، فاكتبي إلي كثيرا، وحدثيني عن كل ما يحيط بك من الأشياء، وما يعرض لك من الشئون صغيرها وكبيرها؛ لأجد على البعد عنك لذة القرب منك، واجعلي حبك عونا لي على مقاصدي وآمالي، فحبك هو الذي يحييني، وهو الذي من أجله أعيش وأبقى. (29) حفلة رقص
أقام والد «استيفن» في بيته حفلة راقصة، وأمر ولده أن يشهدها، ولم يكن قد شهد حفلة رقص قبل اليوم، فأذعن على كره منه، فلما اجتمع الجميع وماجت قاعة الرقص بالراقصين والراقصات وقف «استيفن» موقف الحيرة والخجل أمام هذه المناظر المدهشة الغريبة، لا يدري ماذا يفعل، وأي سبيل يأخذ؟ وخيل إليه أن هناك قانونا موضوعا للحركات والسكنات والجيئات والروحات، وأن من أغفل حرفا واحدا من حروف ذلك القانون أخذته العيون، ودارت به الأنظار، ورنت حوله ضحكات الهزء والسخرية، وكان لا بد له من أن يخرج من موقفه هذا إلى أية حالة من الحالات، كيفما كان شأنها، فلمح على البعد شمعة يتضاءل نورها بين الشموع المحيطة بها، فخطر له أن يتلهى بإصلاح ذبالتها، فمشى إليها يتخبل في ثيابه تخبلا؛ لأنها لم تكن ثيابه، بل ثياب بعض أقربائه أعاره إياها هذه الساعات من الليل وصاحبها أطول منه قامة، وأضخم جسما، فلما داناها رأى أن ذبالتها قد التوت على نفسها فطالت واسودت وغرقت في الدهن المحيط بها، فبدا له أن يقرض أعلاها ليصفو أسفلها ثم يمسح الدهن السائر حولها، فما هو إلا أن مد يده بالمقراض إليها حتى انطفأت وتطاير دهنها إلى ثوبه فانتشر في أنحائه، فجمد في مكانه جمود المقراض في يده، واستحال إلى تمثال مضحك ماثل بين أعمدة الشموع، لا يستطيع أن ينقل قدميه حياء وخجلا، فوقع ما كان يخافه، وعقدت حوله الأنظار نطاقا، ومشت البسمات والغمزات في الأفواه والعيون، ومر به في موقفه هذا أحد الظرفاء المتأنقين - وكان لا يعرفه - فأسر في أذنه: «أما تعلم يا سيدي أن إصلاح الشموع في الحفلات عمل غير لائق؟» وسمع فتاة تقول لصاحبتها وقد وقفتا به: «ما أجمل زركشة هذا الثوب»، فأجابتها الأخرى: «إنه آخر طرز في الكرنفال.»
فلم يجد بدا من النجاة بنفسه، ففر من مكانه هاربا لا يلوي على شيء حتى دخل بعض القاعات الخالية وجلس على مقعد فيها يمسح بشفرة المقراض ما تناثر على ثوبه من الشمع، فلحق به أبوه بعد قليل وقال له: ما بقاؤك هنا وحدك يا «استيفن»؟ إن أسرة البارون قد حضرت ولا بد لك من مقابلتها والبقاء معها حتى تنصرف، فامتعض «استيفن» في نفسه وتثاقل في مكانه؛ لأنه عرف ما يراد منه، فألح عليه أبوه فأذعن، ومشى إلى مكان هؤلاء القوم فحياهم وحيا تلك الفتاة التي يريدون خطبتها له تحية جامدة لا تشبه تحية الخطباء ولا المحبين، بل لا تنقص عن تحية المتنافرين المتناكرين إلا قليلا، ثم لم يلبث أن وجد السبيل إلى الخلاص منها فانفتل من مكانه وخرج إلى فضاء الحديقة، وجلس على بعض مقاعدها ينقم على المحافل والمراقص وما ضمت بين أطرافها من رذائل وشرور ويقول: ويل لهؤلاء القوم المرائين الكاذبين، يفسقون ويزعمون أنهم يرقصون، ويقترفون صنوف السيئات والآثام ويقولون إنهم يغنون أو يطربون، ووالله ما اجتمعوا إلا ليخطف العاشق معشوقته من يد زوجها أو أخيها أو أبيها حين أعيته الوسائل إليها، أو لتفتش الزوجة التي ملت زوجها وسئمته عن عشير جديد غير مملول، أو ليلقي الأب بابنته العانس الشوهاء بين ذراعي فتى من الفتيان الأغرار يرجو أن يعميه الشغف الحاضر بها عن النظر إلى عيوبها فيقع في حبالتها، ويصبح على الرغم منه زوجا لها.
إن كانوا يريدون الغناء فلم لا يغنون إلا راقصين؟ أو الرقص فلم لا يرقص الرجل إلا مع امرأة ولا ترقص المرأة إلا مع رجل؟ ثم لا يرقصون إلا متلاصقين متماسكين، كأنهم بين جدران مخادعهم، أو وراء أستار نوافذهم وأبوابهم.
من لهذا الزوج الغبي الذي يلقي بزوجته عارية الصدر والظهر والذراعين والكتفين بين ذراعي فتى جميل ساحر يلاصقها ويخاصرها ويقلبها بين يدي شهواته ما شاء، أن تعود إليه ساعة تعود بالعقل الذي ذهبت به، وبالقلب الذي كانت تحمله بين أضالعها؟ ومن لهذا الأب الأبله المأفون الذي يتبرم بابنته ويستثقل مكانها منه فيقذف بها بين مخالب هذه الوحوش المفترسة، ألا تعود إليه بعد قليل حاملة مع همها الأول همين آخرين: عارا على رأسها، وجنينا في أحشائها؟
إنهم يقودون على أنفسهم من حيث لا يشعرون، ويمزقون أعراضهم بأيديهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ولم يزل يهتف في نفسه بأمثال هذه التصورات الغريبة حتى انصرف الناس، فلم يحضر انصرافهم كما لم يحضر اجتماعهم، وكان أبوه قد أشار إلى جماعة من أهل بيته وخاصة أصدقائه أن يتخلفوا، ففعلوا، فلما خلا بهم المكان دعا «استيفن» أمامهم وقال له على مشهد منهم: قد كنت دعوتك إلى مصاهرة هذه الأسرة منذ عام ودللتك على مكان الخير لك في هذه الصفقة الرابحة، فأبيت واستعصيت وفررت مني راكبا رأسك إلى حيث لا أعلم لك مذهبا، فلما عدت في هذه المرة ظننت أنك قد أذعنت وأصحبت وفهمت معنى الحياة كما يفهمها الناس جميعا فجئت تطلبها من الطريق التي يطلبونها منه، فأقمت هذه الحفلة الراقصة، وأنفقت في سبيلها ما لا طاقة لي باحتماله، لا أريد بها إلا أن تكون موضع الصلة بينك وبين تلك الفتاة التي اخترتها لك، والخطوة الأولى إلى خطبتها، فأبيت إلا تمردا وعنادا، كأنما ظننت أنني باق لك بقاء الدهر، أكفلك وأقوتك، أو خيل إليك أن هذا العلم الذي تدل به وتعتز بمكانك منه منجم من مناجم الذهب يخرج لك ما يقوتك اليوم ويقوت من وراءك من بنيك وأهل بيتك غدا، فإن كان هذا ما ذهبت إليه فاعلم أن ثروتي لا تتسع لأكثر من أيام حياتي، ولا تتسع في حياتي لأكثر من الإنفاق عليك طفلا وغلاما وفتى، ثم أنت وشأنك بعد ذلك، وأن هذه الفنون الأدبية التي هي كل ما تملك يدك في هذه الحياة ما صلحت أن تكون في زمن من الأزمان وسيلة من وسائل الرزق، ولا سببا من أسباب العيش، ولن تكون كذلك أبد الدهر؛ لأن السعادة حقيقة من الحقائق لا يتوصل إليها من طريق الخيال، فإن أردت لنفسك الخير فدونك الرأي الذي رأيته لك - وأنت أعلم به، أو لا؛ فدونك الأرض الفضاء فامش في مناكبها ما شئت، واطلب لنفسك الرزق من الوجه الذي تعرفه، فقد أصبح وجودك في منزلي على حالتك هذه من البطالة والفراغ عارا علي وعلى أهلك بل عارا على نفسك إن كنت من الشاعرين!
ثم التفت إلى القوم وقال لهم: ها أنا ذا قد أشهدتكم عليه، وبرئت إليه وإليكم وإلى الله من ذنبه، فلا معتبة علي بعد اليوم.
فقال أحد أقربائه: «إني لم أر في حياتي جنونا مثل هذا الجنون.»
نامعلوم صفحہ
وقال آخر: «لعله سقط في هوة من هوى الغرام، فلا مناص له من الارتباط في قعرها حتى الموت.»
وقالت زوج أبيه : «لعله أحب عروس الشعر فغني بها عن كل عروس سواها.»
وقال عمه وهو يزمجر غضبا: «قبيح بالفتى أن يكون في سن كهذه السن حاملا فوق كاهله قوة كهذه القوة، ثم يرضى لنفسه أن يكون عالة على قومه وذويه.»
فطار طائر الحلم من رأس «استيفن» واختفى من وجهه ذلك الفتى الحيي الخجول، الذي كان يذوب منذ ساعة خجلا أمام النظرات واللفتات، وحل محله رجل هائل جبار لا يخشى أحدا ولا يبالي شيئا، فرفع رأسه ونظر إلى الجميع نظرة شزراء ذهلت لها أنظارهم، وخفقت لها قلوبهم، ثم التفت إلى أبيه وقال له: إني لا أعتب على واحد من هؤلاء؛ لأنهم سمعوك تغني فضربوا على نغمتك، أما أنت فإني أقول لك: نعم إنك قد أحسنت إلي فيما مضى كما تقول، ولكن لا يجمل بك أن تمن علي بإحسانك هذا، ولا يجمل بي أن أشكره لك، أو أثني عليك به؛ لأنك أب، وللأبوة ثمن لا بد لك من أدائه، واحتمال المئونة فيه، على أنك لم تمنحني في يوم من أيامك الماضية عطفك ولا رحمتك، ولو فعلت لكان ذلك خيرا لي من كل ما أسديت إلي من صنوف البر والمعروف، بل كان شأنك معي في كل آناء حياتك شأن رجل عابر سبيل وجد في طريقه طفلا ملففا في قماطة مطرحا تحت جدران بعض المنازل أو على باب إحدى الكنائس فالتقطه وكفله منة، وإحسانا لا رحمة وحنانا، فقد أبعدتني عنك أنا وأخي مذ ماتت أمي، وبنيت بزوجتك الحاضرة قبل أن أبلغ السابعة من عمري، ووضعتني في حجور قوم لا تجمعني بهم جامعة محبة، ولا تعطفهم علي آصرة رحم، ولم أجد فيهم من يذكرني بك، أو يحببك إلي، أو يحدثني عنك حديثا واحدا، وكنت كلما عدت إليك في أيام إجازتي من العام إلى العام استقبلتني بالوجه الذي تستقبل به أبعد الناس عنك، وأصغرهم شأنا عندك، فلا تختصني بكلمة طيبة، ولا تؤثرني بنظرة رحمة، ولا تسهر علي في مرض، ولا تتفقدني في شدة، ولا تبسم للقائي، ولا تحزن لفراقي، وكثيرا ما سهرت الليالي ذوات العدد أندب حظي عندك، وأضرع إلى الله - تعالى، أن يدني قلبك من قلبي، ويرزقني حبك وحنانك، فلم يستجب دعائي، فاستوحشت نفسي من نفسي، وغلبت على طبعي هذه النفرة التي لا تزال ملازمة لي حتى اليوم، ولولاك لما كنت نفورا ولا مستوحشا، وقسا قلبي القسوة كلها فأصبحت لا أعطف على أحد ولا أحب أحدا؛ لأني لم أتعلم العطف ولا الحب من أحد، ولما لم أجد في الناس من أحبه وأصطفيه أحببت نفسي وحريتي واصطفيتهما وآثرتهما على كل شيء في العالم، فلا أحتمل أن أرى من ينازعني فيهما، أو يغالبني عليهما.
إن حياتي لي، وأنا صاحبها الذي أتولى شأنها، فلا سلطان لأحد غيري عليها، ولا شأن لكائن من كان فيها سواي، فلا أسير في طريق غير الطريق التي ترسمها يدي، ولا أبني مستقبل حياتي على أساس غير الأساس الذي أضعه بنفسي، ولا أحب إلا الفتاة التي أحبها أنا، لا التي يحبها الناس لي، ولا أعاشر إلا المرأة التي أقيس سعادتي معها بمقياس عقلي، لا بمقياس عقول الآباء والأعمام.
فهاج القوم عليه هياجا عظيما، وصرخ أبوه في وجهه، وثاوره عمه يريد الفتك به، وتناولته بقية الألسن بالشتم والسب، فلم يأبه بذلك كله، ولم يتزلزل من موقفه، واستمر في حديثه يقول: بأي حق تريدون أن تسلبوني حريتي وتملكوها علي؟ أبحق العطف الذي بذلتموه لي فيما مضى، وما عرفت بينكم محبا لي ولا راحما؟ أم بحق الكرامة والبقيا، وقد كنتم جميعا تضربونني صغيرا، وها أنتم أولاء اليوم تشتمونني كبيرا؟
إني قائل لكم جميعا كلمة لا أقول لكم غيرها بعد اليوم: إني لا أحب إلا من يحبني، ولا أكرم إلا من يكرمني، ولا أذعن إلا لرأيي وإرادتي، ولا أبيع حياتي وحريتي بثمن من الأثمان مهما غلا.
إني لا أطلب منكم مالا ولا معونة، ولا أشكو إليكم فقرا ولا عدما، وسأرسم لنفسي بنفسي خطة حياتي، فإن قدر لي النجاح فيها فذاك، أو لا، فحسبي من السعادة أنني قضيت أيام حياتي حرا طليقا، لا سبيل لأحد علي، ولا شأن لكائن من الكائنات عندي حتى يوافيني أجلي، وهذا فراق ما بيني وبينكم.
ثم انفتل من بين أيديهم وهرع إلى غرفته، فبدل ثيابه، وتناول حقيبة ملابسه وخرج هائما على وجهه يخترق أحشاء الظلام، حتى خرج إلى ضاحية المدينة، فتبعه فتى من أبناء أخواله كان قد ألم ببعض قصته، فقال له: أين تريد يا «استيفن»؟ قال: إلى حيث أرسلني أهلي، فبكى قريبه مرثاة له مما هو فيه وقال له: وا رحمتاه لك أيها البائس المسكين! ثم دس له في جيبه بضع قطع من الذهب، لم ينتبه لها «استيفن» إلا بعد ذهابه، فشكرها له في نفسه ثم مضى لسبيله. (30) النفس العالية
لا تخضع النفس العالية للحوادث ولا تذل لها مهما كان شأنها، ولا تلين صعدتها أمام النكبات والأرزاء مهما عظم خطبها، وجل أمرها؛ بل يزيدها مر الحوادث وعض النوائب قوة ومراسا، وربما لذ لها هذا النضال الذي يقوم بينها وبين حوادث الدهر وأرزائه، كأنما يأبى لها كبرياؤها وترفعها أن يوافيها حظها من العيش سهلا سائغا لا مشقة فيه ولا عناء، فهي تحارب وتجالد في سبيله، وتغالب الأيام عليه مغالبة حتى تناله من يدها قوة واغتصابا، فمثلها بين النفوس كمثل الليث بين السباع، لا تمتد عينه إلى فريسة غيره، ولا يهنأ له طعام غير الذي تجمعه أنيابه ومخالبه.
نامعلوم صفحہ
كذلك كانت نفس «استيفن» بعد نزول تلك النكبات به، فإنه لم يجزع ولم يتألم، ولم يعبث اليأس بقلبه، بل فارق «كوبلانس» كما دخلها: ساكن النفس، مطمئن الضمير، مملوء القلب ثقة وأملا، فلم يزل سائرا بقية ليلته يطوي الأرض على قدميه طيا حتى مشت في جلدة الظلام أشعة الفجر، فالتفت فإذا بقية من شبح «كوبلانس» لا تزال ماثلة، فألقى عليها نظرة واجمة مكتئبة ثم قال: الوداع أيها القوم الذين طردوني من بينهم، ولم يزودوني لقمة واحدة أتبلغ بها في طريقي، ولا دابة أحمل عليها حقيبتي، ولا كلمة طيبة آنس بها في مطارح غربتي، لقد نبذت حبكم من قلبي نبذ الفم النواة، ونفضت يدي منكم نفض المودع يده من تراب الميت، فأصبح قلبي وضميري وحبي وحناني ونفسي وحياتي وكل ما تملك يدي ملكا خالصا لذلك الإنسان الذي أحبني وأحببته، ووفى لي من دون الناس جميعا ووفيت له، لا ينازعه في منازع، ولا ينزل معه في سويداء قلبي نازل، وسيكون حبه مناري الذي أهتدي به في ظلمات حياتي حتى أبلغ ذروة السعادة التي أطلبها لنفسي، وهنالك ترون أيها القوم الجفاة القساة أن ذلك الفتى الخامل المسكين الذي وقف بينكم بالأمس مهينا ذليلا لا يكاد يرفع طرفه إليكم حياء وخجلا قد أصبح رجلا نابها عظيما غنيا بماله وجاهه عن مالكم وجاهكم، وسعيدا بين أهله وأولاده سعادة لا يحفل من بعدها بنسبكم ولا برحمكم.
ثم مشى في طريقه يعلل نفسه بالآمال الحسان، ويرسم لمستقبل حياته ما شاء من الخطط والنظم، وكان كلما ألغبه المسير دفع إلى أصحاب العجلات المارة في طريقه تحمل الأثقال درهما أو درهمين؛ ليحملوه على عجلاتهم أو يأذنوا له بالجلوس في مؤخرتها ساعة أو ساعتين، ثم يعود إلى شأنه الأول، حتى وصل عند مجتنح الأصيل إلى «جوتنج»، وهي البلدة التي تعلم في مدرستها، وقضى فيها أكثر أيام صباه. (31) النفس الشعرية
ذهب «استيفن» ساعة هبط «جوتنج» إلى أستاذه القديم في الموسيقى «هومل» ليفضي إليه بشأنه، ويستعين به على قضاء حاجته، وكان له بمثابة الأب الرحيم، يحبه ويكرمه ويؤثره على تلاميذه جميعا، فلما وقف بين يديه عقل الحياء لسانه، فلم يستطع أن يقول له شيئا، وكذلك شأن أصحاب النفوس الشعرية، يملأ الشعر نفوسهم عزة وخيلاء، فتملأ العزة وجوههم حياء وخجلا، فلا يذلون ولا يضرعون، ولا يجرءون على شيء مما يجرؤ عليه الناس جميعا كأن تحليقهم الدائم في سماء الخيال وطيرانهم في تلك الأجواء العالية غادين رائحين قد مثل لنفوسهم أنهم يعيشون في ملأ أرفع من الملأ الذي يعيش فيه الناس، فإن عرضت بهم حاجة من الحاج أبوا وأنفوا أن يسألوها أحدا من سكان الأرض، ذهابا بأنفسهم من مواطن الضعة والمهانة، وضنا بأديم وجوههم أن يخلقه السؤال، وكذلك يعيشون فقراء، ويموتون بؤساء.
لذلك لم يستطع «استيفن» أن يفضي بحاجته إلى أستاذه في المقابلة الأولى، فزعم أنه إنما جاءه ليتلقى عنه دروسا في الموسيقى، وظل يختلف إليه أياما يسمع غناءه ويحفظه عنه، حتى جرى بينهما يوما من الأيام ذكر الحياة والمستقبل، فسأله أستاذه عما رسم لنفسه من الخطط في مستقبل حياته، فقال: لا أدري حتى الساعة، فقال: لا أعرف لك سبيلا غير هذا الفن الذي تحبه وتستهيم به، وأرى أن غرامك به سيجعلك غدا من أصحاب الشأن العظيم فيه، فنفض له «استيفن» إذ ذاك جملة حاله، وصارحه برغبته التي يريدها، فوعده بمساعدته والأخذ بيده، فانصرف مغتبطا مسرورا. (32) من ماجدولين إلى استيفن
لم أستطع أن أكتب إليك منذ شهرين؛ لأني كنت مريضة، وسأقص عليك قصة مرضي: خرجت ذات ليلة لألقي برسالة كنت كتبتها لك في صندوق البريد في قرية «هال»، فلما أبعدت عن «ولفاخ» وغاب عني شبحها وأصبحت في منتصف الطريق بينها وبين «هال» هبت علي ريح عاصفة شديدة دوت بها جوانب الأفق، وقعقعت لها قبة السماء حتى حسبتها توشك أن تنقض، وأخذت تجاذبني ثوبي مجاذبة شديدة، كأنما تأبى إلا أن تنتزعه مني أو تنتزعني معه، فحدثتني نفسي بالعودة من حيث أتيت، ثم ذكرتك وذكرت أنك تنتظر رسالتي، فاستمررت أدراجي، ومشيت في طريقي أتيامن من الريح مرة وأتياسر أخرى، وأندفع متقدمة وأكر راجعة، فمن رآني في تلك الساعة خيل إليه أنه يرى فتاة بائسة مرزأة، قد لعبت النار بأثوابها وعلقت بأطرافها وأوصالها، فهي تهيم على وجهها في كل مكان تطلب الخلاص مما هي فيه فلا تجد إليه سبيلا، فلم أصل إلى تلك القرية إلا بعد ساعتين، فألقيت الكتاب في الصندوق ثم رجعت، وكانت العاصفة قد هدأت قليلا، ولكنها ما هدأت إلا لتفتح الطريق إلى الغيث الهاطل، فلم تهدأ ثورتها حتى ثار ثائره وأخذ يتساقط سقوطا شديدا، فابتل ردائي، ومشت الرعدة في جميع أعضائي، واشتدت ظلمة الليل فما أكاد أهتدي إلى طريقي، ولقد حدثتني نفسي لشدة ما نالني من التعب والإعياء، وما ملأ قلبي من الخوف والوحشة، أن أسلم نفسي إلى كنف من أكناف الهضاب أو سفح من سفوح الجبال أنتظر فيه منيتي حتى توافيني، فحال بيني وبين ذلك أني أريد أن أحيا لك، وأتولى شأن سعادتك التي عاهدتك على أن أتولاها لك، وأني إن قتلت نفسي قتلتك معي، فبعث ذكرك في نفسي قوة غالبت بها الطبيعة وعواصفها وثلوجها، وبروقها ورعودها، حتى بلغت المنزل بعد لأي، فسقطت مريضة محمومة.
ولقد كابدت في مرضي شدة عظمى لم أر مثلها فيما مر بي من أيام حياتي، حتى دب اليأس في نفسي دبيب المنية في الأجل، وظننت أني لا بد هالكة، وأني لا أراك بعد اليوم، فلم يكن يحزنني في تلك الساعة شيء سوى أنك ستسمع بخبر موتي، ولا تسمع معه أنك كنت الإنسان الوحيد الذي كنت أفكر فيه في ساعتي الأخيرة، فحاولت أن أكتب إليك كتاب وداع أبثك فيه بعض شأني فلم أستطع، ثم شعرت في فترة من فترات السكون التي تتخلل سكرات الحمى أني أستطيع النهوض من فراشي، فكتبت إليك كتابا أوصيت لك فيه بجميع ما تملك يدي، وما تملك يدي إلا كتبي ومحفظة رسائلك، والخاتم الذي نسجته من شعرك، وذخيرة من الذهب ورثتها عن أمي، وهي أعز الأشياء عندي، وكيسا صغيرا يشتمل على بعض قطع فضية وذهبية مما كنت أستفضله من نفقاتي، ثم طويت الكتاب وأعطيته لجنفياف لتوصله إليك بعد موتي، ولكن الله كان أرحم بي وبك من أن يحرمني منك ويفجعك بي، فمد إلي يد معونته وإحسانه واستنقذني من مخالب الموت، فحمدت له منته ونعمته، ولقد بكيت كثيرا عندما أعدت النظر في تلك الوصية المكتوبة؛ لأني تمثلت حزنك وتفجعك وخيبة آمالك لو قدر لك أن تقرأها، فرثيت لك مما بك وبكيت لبكائك.
رجائي عندك يا «استيفن» أن تكتب إلي عنوان أخيك في الجيش؛ لأني أريد أن أبعث إليه بهدية أخطب بها وده إكراما لك، فقد أصبحت أحبه من أجلك حبا كثيرا، وأترقب بفرح وسرور ذلك اليوم الذي يضمنا وإياه بيت واحد، تحت سماء واحدة.
لا يحزنك يا «استيفن» ما قصصت عليك، فتلك حادثة ماضية قد ذهبت وانقضت، ولم يبق منها في نفسي حتى آثارها، فليذهب الماضي بخيره وشره، وليأت لنا المستقبل بما نريد. (33) من استيفن إلى ماجدولين
عفا الله عنك يا ماجدولين، أكنت تظنين أني أستطيع أن أحيا من بعدك ساعة واحدة أتمتع فيها بالحياة وطيبها، والدنيا ونسيمها، فأوصيت بما أوصيت به إلي؟
إنك لا تعلمين أنك روحي التي أحيا بها في هذا العالم، ودنياي التي أتنسم فيها رائحة السعادة والهناء، وأن اليوم الذي يخلو فيه مكانك من الدنيا هو آخر عهدي بالعالم وما فيه.
نامعلوم صفحہ
متى أهدي الميت، وأوصى القبر إلى القبر! ومتى عاش المحب بعد فقد حبيبه ساعة واحدة، أو هنئت له لحظة من لحظات عيشه إن قدر له أن يعيش من بعده؟
إن لي في الحياة - كما للناس - أماني كثيرة، وبودي لو استطعت أن أبيعها جميعها بأمنية واحدة، وهي أن أموت يوم أموت بين ذراعيك، ملقيا رأسي على صدرك، شاخصا بعيني إلى وجهك المشرق الجميل، وأن يكون صوتك آخر ما أسمع من الأصوات، وصورتك آخر ما أرى من الصور، عالما أن من يموت ميتة كهذه تفتحت له أبواب السماء، واتصلت سعادة دنياه بسعادة أخراه، فلا يشعر بشقاء الموت، ولا ما بعد الموت.
هنيئا لك إبلالك من مرضك، وشكرا لله على صنيعته عندك في شفائك، وصنيعته عندي في حفظ حياتك لي، وما أحسب أن الله أراد بي أو بك سوءا فيما كان، ولكنه يبتلينا اليوم لنعرف مقدار ما يستقبلنا به من السعادة غدا.
سأكتب لأخي «أوجين» بشأن الهدية التي أزمعت أن ترسليها إليه، وإني شاكر لك شكرا جزيلا عطفك عليه وحبك إياه، أما عنوانه، فهو: «الفصيلة الثالثة، من قسم الجياد الخفيفة في جيش الحدود.» (34) الحظ
مر الشتاء و«استيفن» يختلف إلى أستاذه «هومل» وأستاذه يسعى له سعي الملح فلا ينجح، حتى أوشك أن ينفد ما كان معه من المال، ولم يبق في يده منه إلا بقية غير صالحة لا يعلم ما هو صانع بعدها، فلم يجد له بدا من أن يأخذ نفسه بالتقتير، ويحمل عليها في العيش حملا شديدا، فأكل التافه من الطعام، ولبس الخلقان من الثياب، وغني بالأكلة عن الأكلتين، وبالخبز عن الأدم، وكان يقول في نفسه كلما برحت به الفاقة، واشتدت به ضائقة العيش: لقد قال لي عمي: إن من كان فتى قويا مثلك لا يجمل به أن يعيش عالة على أهله وذويه، وها أنا ذا على فتوتي وقوتي أكاد أموت جوعا، فما أقسى قلوب قومي، وما أبعد الرحمة عن أفئدتهم! لقد كان في استطاعتهم أن يقبلوني عندهم ضيفا عاما أو عامين، حتى يفتح الله لي بابا من أبواب الرزق فأرحل عنهم، أو أن يهيئوا لي - قبل أن يطردوني من بينهم - ملجأ أعتصم به في المكان الذي طردوني إليه حتى لا أموت ميتة الغرباء المشردين.
وكان أكبر ما يحزنه من أمر فاقته أنه وعد ماجدولين بالسعي إلى الثروة والنجاح فيها، وملأ قلبها ثقة وأملا في المستقبل، وأن فشله - إن قدر له الفشل - سيقتلها، ويلقي بها في مهواة اليأس والشقاء، فرثى لها وأشفق عليها إشفاقا عظيما، وود لو صلحت حياته لأن تكون ثمنا لسعادته فبذلها في سبيلها، ثم رحل عن الدنيا طيب النفس عنها وعن جميع آماله وأمانيه فيها.
ولقد مر به يوما - في بعض مواقفه بجانب بعض الجدران - فتى زري الهيئة، سيئ الحال، ومد إليه يده يسأله بعض المعونة، فزوى وجهه عنه حياء وخجلا، فقال له الفتى: أقسم لك بالله يا سيدي أني تركت زوجتي ورائي ما تطيق الوقوف من الطوى، ولقد مر بي وبها يومان ما نجد ما نتبلغ به إلا البكاء والدموع فانتفض «استيفن» انتفاضة شديدة والتفت إليه وقال له: أتحب زوجتك كثيرا أيها الفتى؟ قال: نعم يا سيدي كما أحب حياتي، فأطرق برأسه هنيهة وظل يقول في نفسه: إنه يستعدي عطف الناس ورحمتهم على جوع زوجته وطواها، والناس لا يعطفون، ولو عقل لعلم أنه يسألهم حقا من حقوقه المقدسة لا يعترضه من دونه معترضا إلا استحل دمه ومشى على جثته إليه، فلا جريمة في الدنيا أكبر من أن يرى الإنسان المرأة التي يحبها تموت بين يديه جوعا فلا يفعل شيئا أكثر من أن يغمض عينيها ويسجيها بثوبها، ثم يجلس بجانب سريرها يبكيها ويندبها، ومد يده إلى جيبه فأخرج كل ما كان معه من المال فأعطاه الفتى صامتا، ومشى في طريقه وهو يقول: لقد أنقذتهما من مخالب الجوع بضعة أيام، وأسأل الله أن يقيض لهما من يتولى شأنهما بعد ذلك.
وكذلك عاد «استيفن» إلى مأواه وهو لا يملك من متاع الدنيا حتى قوت يومه. (35) من ماجدولين إلى استيفن
مرت بي اليوم صديقتي «سوزان» وهي عائدة من مصيفها إلى «كوبلانس»، فاغتبطت اغتباطا عظيما، وتمنيت أن لو كنت حاضرا بيننا لتراها، فترى أجمل الفتيات وجها، وأرقهن شمائل، وأعذبهن حديثا، وأجمعهن لأفضل الصفات وأكرمها، فهي تنطق بلغات كثيرة، وتحسن الرسم والتصوير، وتوقع على جميع أنواع الأوتار، وتغني غناء ساحرا فتانا، ولها ثغر وضاء لا يفارقه الابتسام لحظة واحدة، ولا يطربها في الحياة شيء مثل مناظر اللهو واللعب، ولا يعجبها حديث مثل حديث المحافل والمراقص، وقد أصبحت مفتتنة بها لا أكاد أصبر عنها لحظة واحدة، ورجائي إليك يا «استيفن» أن تحبها كما أحبها، وأن تتودد إليها كثيرا يوم تراها.
لم يبق في الصحيفة موضع أكتب إليك فيه شيئا سوى أن أقول لك: «إني أحبك.» (36) من استيفن إلى ماجدولين
نامعلوم صفحہ
سأحب صديقتك يا ماجدولين كما أمرت، ولكن ليس لأنها جميلة فاتنة كما تقولين، فقد ملأ جمالك فضاء قلبي فلم تبق فيه بقية لسواك، ولا لأنها ترقص أو تغني، فإن نفسي الحزينة لا يشفيها من دائها إلا أحد الأمرين: إما لقاؤك، أو الموت، بل لأنها تؤنس وحشتك، وتخفف آلامك، وتعينك على احتمال أعباء الحياة وأثقالها، فاشكريها عني شكرا جزيلا، وبلغيها تحيتي وسلامي.
لا يزال الدهر عابسا في وجهي، ولكنني صابر محتمل، لا أيأس ولا أستسلم ولا تفتر لي همة حتى أنال بغيتي، والسلام. (37) من أوجين إلى استيفن
وصلت إلي هدية السيدة ماجدولين، فشكرت لها صنيعا شكرا جزيلا، ولقد أصبحت بفضل هديتها صاحب رداء جديد كنت في أشد الحاجة إليه وكانت يدي تقصر عنه، فابتعته وأصبحت فخورا مختالا به بين أترابي وعشرائي، فبلغ صاحبة الهدية شكري، وأرجو أن أراها في عهد قريب فأجزيها خيرا بما فعلت، فإن عجزت عن ذلك فلا أعجز عن أن أحدثها عن الوقائع الغريبة التي شاهدتها أحاديث جميلة عذبة تملأ قلبها غبطة وسرورا.
شاهدت بالأمس أول وقعة من وقائع الحرب فجزعت عند الصدمة الأولى، ولكنني ما لبثت أن سمعت صهيل الخيل وقروع الطبول وأزيز الرصاص، وأنغام الموسيقى الحربية حتى انتشيت واندفعت بجوادي اندفاع السيل المنهمر لا أشعر بشيء مما حولي، ولا أرى إلا بريق سيفي في يدي، ولقد امتلأت نفسي غبطة وسرورا عندما رأيت جيش العدو يتقهقر أمام جيشنا، حتى خيل إلي أنني أنا الذي زحزحته وحدي عن مكانه وألجأته إلى الفرار، وقد عرف قائدي فضل ما أبليت في هذه المعركة فرقاني إلى درجة «صف ضابط»، ولي أمل أن أعود إليكم في عهد قريب باسم «الضابط أوجين». (38) من استيفن إلى ماجدولين
قد ابتسم لي الدهر قليلا يا ماجدولين، فقد زارني أستاذي بالأمس في الخان الذي أنزله بعد ما انقطعت عن زيارته بضعة أسابيع لأمر ما، وبشرني أنه وجد لي عملا في بعض المدارس الصغيرة بوظيفة شهرية قليلة، وقال لي: إن مدير المدرسة وعده أن يضاعفها لي ضعفين بعد ثمانية أشهر، فحمدت الله على ذلك.
لا صعب في الحياة يا ماجدولين غير الخطوة الأولى، فإذا خطاها المرء هان عليه ما بعدها، فلنهنأ منذ اليوم باللقاء، ولنغتبط بالسعادة التي طالما تمنيناها حتى بلغناها. (39) من إدوار إلى استيفن
لا يزال النزاع قائما بيني وبين عمي، يأبى إلا أن أعيش عيش المقلين، وآبي إلا أن أتمتع بمالي الذي ورثته عن أبي كما أحب وأشتهي، ولا أدري ما الذي يعنيه من الحرص على مال يعلم أنه ليس له، وأن مصيره مهما طالت الأيام لصاحبه؟ ولكنها خلة البخلاء الأشحاء، لا يقع في أيديهم شيء من مالهم أو من مال غيرهم حتى تلتوي أصابعهم عليه التواء الحية على العصا، ثم لا يفلت منها بعد ذلك، فمثلهم كمثل الحبالة التي تنطبق حافتاها على كل ما يدنو منها، وإن لم تجن لنفسها من وراء ذلك شيئا.
على أنها أيام قلائل ستنقضي؛ وسأبلغ سن الرشد بعد بضعة أشهر، فلا يبقى له ولا لغيره علي من سبيل.
ألممت ببعض شأنك الحاضر، وعلمت أن أهلك قد نقموا منك مخالفتك إياهم، وعصيانك أمرهم، فوكلوك إلى نفسك، ونفضوا أيديهم منك، فتركت لهم «كوبلانس» وسافرت إلى «جوتنج» تطلب لنفسك فيها الرزق من طريق العمل، فلم يوافك حتى اليوم ما تريد، فليت الذي كان يا صديقي لم يكن، وليتك أخذت بذلك الرأي الذي رأيته لك من قبل، وسلكت إلى الحياة طريقا غير هذا الطريق الخيالي الذي تسلكه اليوم، فتزوجت من الفتاة التي اختاروها لك، وظفرت بنعمة العيش في ظلالها، فلا سعادة في الدنيا غير سعادة المال، وكل ما في أدمغة البشر من علم وعقل، وما في أجسامهم من قوة وأيد، وما في نفوسهم من فضائل ومزايا، إنما هي سبل للمال، وذرائع إليه.
أهديك تحيتي وسلامي، وربما زرتك في «جوتنج» في عهد قريب، فقد ضقت ذرعا بذلك الرجل، وأصبحت لا أطيق البقاء معه لحظة واحدة في بلد واحد. (40) من استيفن إلى إدوار
نامعلوم صفحہ
لا تعتب علي يا صديقي، إن قلت لك: إن لي في الحياة رأيا غير رأيك وغير ما يراه الناس جميعا.
إنني لا أعرف سعادة في الحياة غير سعادة النفس، ولا أفهم من المال إلا أنه وسيلة من وسائل تلك السعادة، فإن تمت بدونه فلا حاجة إليه، وإن جاءت بقليله فلا حاجة إلى كثيره.
ماذا ينفعني من المال وماذا يغني عني يوم أقلب طرفي حولي فلا أرى بجانبي ذلك الإنسان الذي أحبه وأوثره، وأرى في مكانه إنسانا آخر لا شأن لي معه، ولا صلة لقلبي بقلبه؟ فكأنني وأنا خال به خال بنفسي، منقطع عن العالم وما فيه.
إن الرجل الذي يتزوج المرأة لمالها إنما هو لص خائن؛ لأنه إنما يأخذ ما يأخذ من مالها باسم الحب وهو لا يحبها، وعاجز أخرق؛ لأنه قعد عن السعي بنفسه لنفسه، فوكل أمره إلى امرأة ضعيفة تقوته وتمونه، وساقط المروءة متبذل؛ لأنه يأجر جسمه للنساء، كما تأجر البغي نفسها للرجال، ليستفيد من وراء ذلك قوته.
نعم إنني بائس فقير، كما تقول، ولكنني أسعى لنفسي سعي المجد الدءوب، وقد بدأت أنجح في مسعاي منذ الأمس، فقد حصلت على وظيفة صغيرة ستكون كبيرة فيما بعد، واستأجرت لي غرفة بسيطة فأصبحت ذا مسكن خاص، وسينتهي بؤسي وشقائي، وأنال السعادة التي أرجوها، وسيكون أعظم ما أغتبط به في مستقبل حياتي أنني أنا الذي صغت إكليل سعادتي بيدي.
أحييك يا «إدوار»، وأرجو ألا تعتب علي فيما قلت لك، ولعلك تفي بوعدك لي، فأراك في «جوتنج» في عهد قريب. (41) غرفة استيفن
سكن استيفن بعد حصوله على وظيفته الجديدة في غرفة صغيرة طولها عشر أقدام وعرضها سبع، ووضع فيها سريرا من خشب ومنضدة عارية يكتب عليها ليلا ويأكل عليها نهارا، وكرسيين مختلفي الحجم والشكل، يجلس على أكبرهما وأصلحهما شأنا، ويضع حقيبة ملابسه على الآخر، ومنصبا للطبخ، وجرة للماء، وبعض آنية أخرى، وكان بغرفته كوة تشرف على سطوح منازل قديمة مهجورة لا يسكنها أحد، فلما أشرف منها ورأى ذلك المنظر الموحش اشمأزت نفسه قليلا، ثم قال: لا بأس، فذلك خير لي من أن يطلع على خلتي أحد، ثم لمح على البعد دوحة عظيمة مورقة في بعض المنازل القاصية فقال: تلك هي الروضة التي أفتح عليها نظري كل صباح، وهل يتمتع صاحبها الذي يملكها ويتعهدها منها بأكثر من ذلك؟ ثم رأى على مقربة منه كنيسة صغيرة فقال في نفسه: أرجو أن تساعدني دقات ساعتها على معرفة المواقيت، ثم ما لبث أن سمع رنينها فأخذ يعدها فرحا مبتهجا وهو يقول: لن أشتري ساعة بعد اليوم.
وكذلك اغتبط «استيفن» بمسكنه الجديد على صغره وحقارة شأنه اغتباطا عظيما؛ لأنه أول مسكن نزل فيه عند نفسه، وابتاع أثاثه وأدواته من ماله، وظل يقول في نفسه: في المسكن الخاص يستطيع المرء أن يكون حرا في قيامه وقعوده، وجلوسه واضطجاعه، ونومه على الهيئة التي يريدها، لا يتكلف ولا يتعمل، ولا يجامل الناس ولا يرائيهم، ولا يضع نفسه في القالب الذي يصنعونه له، فيرفع يده في الهواء بغتة دون أن يخاف وقوعها على وجه أحد، ويستعين بتقليب يديه وتحريك رأسه على النظر والتفكير دون أن يسميه أحد مجنونا أو مختبلا، ويمد قدميه في الناحية التي يريدها لا يخشى محاسبا يحاسبه على الأدب أو يلاحيه في قواعده وأصوله؛ أي إنه يكون فيه على الصورة التي خلقه الله عليها، لا يزيد على ذلك ولا ينتقص شيئا.
وكان لا بد له من أن يعيش عيش الإقلال والتقتير، فلم يلاق في ذلك عناء عظيما؛ لأنه كان قنوعا مجتزئا، فقسم دخله بين نفقات طعامه وشرابه وملبسه وأجرة مسكنه ووفاء ما عليه من دين الأثاث الذي ابتاعه، وعاش عيشة هادئة ساكنة لا يكدرها عليه مكدر؛ لأنها كانت مملوءة أملا ورجاء. (42) الطارق الجديد
جلس «استيفن» في غرفته غداة يوم من أيام الآحاد، وهي الأيام التي يشعر فيها بالراحة من عناء الدرس ونصبه، فسمع خفق نعل ثقيلة على السلم يختلف صوتها عن صوت نعل جارته العجوز التي كانت تختلف إليه من حين إلى حين لتملأ له جرة الماء من البئر، فدهش، وتسمع فإذا القادم يصيح باسمه صياحا عاليا، فخيل إليه أنه يعرف صاحب هذا الصوت، فابتدر الباب ففتحه فإذا صديقه «إدوار» فابتهج بمرآه وعانقه عناقا طويلا، وقال له: لقد وفيت بوعدك أيها الصديق، فلك الشكر على ذلك، ولقد كنت أترقب حضورك ترقب المقرور أشعة الشمس، والظامئ ديمة القطر.
نامعلوم صفحہ
فقال له: سأنزل عندك في غرفتك هذه الصغيرة ضيفا شهرين أو ثلاثة، وهي المدة الباقية لي على بلوغ سن الرشد، ولقد اشتد النزاع بيني وبين عمي حتى أصبحت لا أطيقه ولا يطيقني، ففارقت منزله وأقسمت ألا أرى وجهه حتى تنتهي قضية الوصاية التي بيني وبينه، ثم دخل وهو يقول، ما أجمل هذه الغرفة وأبدع شكلها! إنها أوسع مما كنت أظن، وأجمل مما كنت أقدر، وعمد إلى حقيبته ففتحها وأخرج منها زجاجة عطر ومشطا وبضعة مناديل من الحرير وقدمها هدية إلى «استيفن»، فقبلها منه شاكرا ثم قام «استيفن» إلى شريحة لحم كان يعدها لطعام الغد فاشتواها ووضعها على المائدة، ووضع بجانبها زجاجة من الخمر وقطعة من الجبن ثم أخذا يأكلان ويتحدثان ويتذاكران أيام طفولتهما الماضية، وكذلك قضيا بقية يومهما مسرورين مغتبطين حتى أتت ساعة النوم، ففرش «استيفن» لنفسه حشية في بعض جوانب الغرفة وترك السرير لضيفه وناما.
ولما أصبحا أعطى «استيفن» «إدوار» قبل ذهابه إلى المدرسة جميع ما كان معه من المال وقال له: إن أجرة وظيفتي في الشهر مائتا فرنك أنفق منها على الطعام والشراب ستينا، وأحفظ الباقي لأجرة الغرفة وسداد ثمن الأثاث الذي ابتعته، وقد أنفقت منها خمسين فرنكا في الأيام العشرة الماضية، وها هو ذا الباقي، فتول أنت إنفاقه، فأنت رب البيت منذ اليوم وصاحب الشأن فيه، ثم تركه ومضى، فلم يلبث «إدوار» أن نزل إلى السوق فاشترى لحما وخبزا وتوابل وفاكهة وخمرا، وأنفق في سبيل ذلك اثني عشر فرنكا وجلس يطبخ ويشتوي حتى انتصف النهار، وحضر «استيفن» فقال له: ما هذا يا إدوار؟ أوليمة هي؟ قال: نعم وليمة الاحتفال بقدومي! فابتسم «استيفن» وقال له: لقد أحسنت فيما فعلت، وذكرتني بما كنت عنه لاهيا، وجلس يؤاكله حتى فرغا من الطعام، فقال له «إدوار»: أرى أن الغرفة تنقصها بضعة أشياء لا بد منها، فأذن لي بمشتراها، وأعدك ألا أبتاع إلا ما لا بد لنا منه، وألا أنفق في سبيل ذلك إلا ثمنا قليلا، فقال له: لك ما تريد، فخرج ثم عاد بعد ساعة يقتاد كلبا أسود ضخما ووراءه حمال يحمل له مرآة كبيرة ومشجبا للثياب وهو يقول: ما أقبح الغرفة التي لا مرآة فيها، وما أشد وحشة البيت الذي لا ينبح فيه كلب، على أنني لم أنفق في جميع ما ابتعته أكثر من عشرين فرنكا، وأظنك ترى يا «استيفن» كما أرى أنها صفقة رابحة نادرة قلما يتفق مثلها لأحد فضحك «استيفن» وقال له: ما أعذب جنونك يا «إدوار»! قال: وهل تطيب الحياة بغير جنون؟
وكذلك لم يأت اليوم العشرون من الشهر حتى صفرت أيديهما من النقود، ولم يجد عليهما الكلب ولا المشجب ولا المرآة شيئا، فقال «استيفن»: ما العمل يا «إدوار»؟ قال الأمر أهون مما تظن، وسأرى لك الرأي الذي ينفعنا، ثم تركه وخرج وعاد بعد قليل يصحبه أحد الحمالين ورجل آخر من تجار الأثاث، فوقف على عتبة الغرفة وقال للرجل خذ هذا السرير فإنه يضايق الغرفة كثيرا، ولا ظهر أثبت تحت جسد النائم من ظهر الأرض، وخذ هاتين الوسادتين الزائدتين، فالوسادة الواحدة إذا ثنيت تكفي صاحبها، ثم نظر إلى «استيفن» وقال له: أليس كذلك يا صديقي؟ فانتبه «استيفن» وكان مكبا على منضدته يكتب كتابا إلى ماجدولين، ففهم كل شيء، وقال: بلى يا «إدوار»، قال: أتظن أن زجاجا رقيقا كزجاج هذه النافذة يبقى طويلا على هذه الرياح العاصفة في هذا الشتاء الشديد؟ قال: لا، قال: أليس من الحزم أن ننتفع بثمنه بدلا من أن نتركه لعبة في أيدي الرياح تعبث به ما تشاء؟ قال: ذلك هو الرأي، فمشى إلى النافذة فانتزع ألواحها واحدا بعد آخر وأعطاها الحمال، ثم قال له: وهل ترى أننا في حاجة إلى مثل هذا الغطاء الثقيل في مثل هذه الغرفة الضيقة؟ قال: لا، فأمر الحمال بحمله، ثم قال له: وهل تضع في هذه الخزانة شيئا تخاف عليه أن يسرق؟ فضحك «استيفن» وقال له: لو كان عندي ما أخاف عليه لم نصر إلى ما صرنا إليه، قال: إذن ما بقاء هذا القفل فيها؟ ثم مد يده إليه فانتزعه من مكانه، وظل يقلب نظره في الغرفة حتى وقع على المنضدة، فذعر «استيفن» وقال له: انتظر يا «إدوار» لا تمسسها حتى أتمم رسالتي، فضحك وقال: إني أتركها لك إكراما لماجدولين.
وأخذ يساوم الرجل في ذلك الأثاث حتى باعه منه بثلاثين فرنكا، ثم عاد إلى «استيفن» وقال له: ماذا ترى فيما تم؟ قال: أرى أن تعطيني هذا المال الذي معك لأتولى إنفاقه بدلا منك، فإنك لا تستطيع أن تكون حازما، قال: أظن أننا قد بدأنا نختلف يا صديقي؛ لأنك تحب التقتير وهو لا يعجبني، وأنا أحب السعة وهي لا ترضيك، فخير لي ولك أن نقتسم راتبك بيننا قسمين، وأن يعيش كل منا وحده بالقسم الذي يصيبه، وصمت هنيهة ثم قال: على أن افتراقنا في المعيشة لا يتم إلا إذا افترقنا في السكن، فليختص كل منا بجهة من الغرفة مستقلة عن جهة صاحبه، وها أنا أقسمها بيننا قسمة عادلة، ثم عمد إلى قطعة من الجص وخط بها وسط الغرفة خطا مستطيلا، وقال: هذا قسمي أنا وكلبي ومرآتي ومشجبي، وهذا قسمك وحدك وهو خير من قسمي وأكثر منه مرافق ومنافع؛ لأن فيه المنصب الذي تطبخ عليه طعامك، والمنضدة التي تكتب عليها رسائلك، والنافذة التي تمد في فضائها ذراعك كلما أردت أن تلبس قميصك أو معطفك، فأغرب «استيفن» في الضحك وخرج لشأنه وترك له الغرفة يفعل فيها ما يشاء.
وكذلك استمر «إدوار» ينغص على «استيفن» عيشه، و«استيفن» لا يغضب ولا يشكو، بل لا يشعر بألم ولا ضيق؛ لأنه كان صديقه وكفى. (43) التضحية
خرج «إدوار» ذات يوم يرتاض في بعض أطراف القرية، وبقي «استيفن» وحده يدون في دفرته بعض نغمات موسيقية لدروس الغد، وإنه لكذلك إذ سمع على السلم خفق نعال كثيرة وأصواتا مختلفة وصياحا عاليا، فدهش وقام إلى الباب ففتحه، فإذا رجل طويل القامة عريض الكتفين يلبس لباس عمال المناجم تشتعل عيناه نارا، ويتدفق الزبد من شفتيه وقد أمسك بيده سيفين عريضين، فلما وقع نظره على «استيفن» قال له: أأنت المسمى «إدوار»؟ فعلم «استيفن» أن الرجل يريد بصديقه شرا، ولأنه لا يعرف شخصه، فأشفق منه وأراد أن يعرف ما ترته عنده، فقال له: نعم أنا هو، فماذا تريد مني؟ فابتدره الرجل بلطمة على وجهه أظلمت لها عيناه وقال له: لعل شجاعتك التي دفعتك إلى مغازلة زوجتي وانتهاك حرمة بيتي والعبث بشرفي لا تفارقك في هذه الساعة حين أدعوك إلى مبارزتي على ضفاف النهر، وها هم أولاء شهود المبارزة، فليختر كل منا من يشاء منهم، فأخذ «استيفن» منه السيف صامتا وقد فهم كل شيء، وكان ملما بعض الإلمام بقصة «إدوار» مع زوج هذا الرجل، وأشفق عليه أن يصيبه من المبارزة شر؛ لأنه كان يعلم أنه لم يجرد في حياته سيفا قط، فمشى مع خصمه صامتا لا يقول له شيئا حتى بلغا ضفة النهر وجردا سيفيهما للقتال، وهنا ذكر «استيفن» ماجدولين وود لو استطاع أن يكتب إليها كلمة وداع، فنظر إلى الشهود وقال: هل أجد مع أحد منكم بطاقة صغيرة؟ فأعطاه أحدهم ما أراد، فكتب هذه الكلمة الموجزة «إني أموت في مبارزة شريفة وأنت آخر من أفكر فيه، فالوداع يا ماجدولين.» وكان أحد الملاحين واقفا على مقدمة سفينته بجانب الضفة، فرأى «استيفن» وهو يكتب كلمته، ثم رآه وهو يقلب نظره حوله يفتش عن رسول يبعث بها معه، فأثر منظره في نفسه وتقدم نحوه وقال له: ائذن لي يا سيدي أن أحمل رسالتك إلى من تريد، فشكر له «استيفن» صنيعه وأعطاه الرسالة بعد ما كتب عنوانها على ظهرها، ثم شرع في المبارزة، فكانت يده فيها أعجز من يد خصمه، فجرح بعد ضربات في ذراعه جرحا بليغا، فوقف الشهود المبارزة وتصافح الخصمان، والملاح لا يزال واقفا في مكانه، فقال له «استيفن» وهو ساقط على الأرض بصوت ضعيف: مزق الرسالة التي معك فلا حاجة إليها الآن، فمزقها الرجل ودنا منه فأخرج من جيبه منديلا فعصب به ذراعه، ثم أنهضه من مكانه، وأخذ بيده وظل سائرا معه حتى صعد به إلى غرفته، فأضجعه على فراشه وجلس بجانبه يضمد جرحه ويواسيه. (44) الصداقة
جلس «إدوار» إلى صديقه في الليلة التي عزم على السفر في غدها وكان جرحه قد أشرف على البرء، وقال له: لقد سجلت لنفسك بدمك يا «استيفن» في صفحة قلبي نعمة لا أنساها لك مدى الدهر، كما لا أنسى لك أنك وأنت في أشد حالات بؤسك وضيقك قد آويتني وواسيتني أياما طوالا، واحتملت لي ما لا يحتمله أخ لأخيه ولا حميم لحميمه، فلو أنني جمعت لك في يوم واحد جميع ما كافأ به الناس بعضهم بعضا على الخير والمعروف مذ خلقت الدنيا حتى اليوم لما جازيتك بعض الجزاء على الخير الذي صنعت، فقال له «استيفن»: إنني لم أسد إليك يدا تستحق مكافاة، ولكنك صديقي، وللصداقة آثار طبيعية تتبعها وتنبعث وراءها جريان الماء في منحدره، فإن كنت لا بد شاكرا فاشكر الصداقة التي ظللتنا بجناحيها مذ كنا طفلين صغيرين، والبؤس الذي لف شملي بشملك، وخلط نفسي بنفسك، وحول قلبينا القريحين الكسيرين إلى قلب واحد، وإن قدر لك يوما من الأيام أن تمد يدك لمعونتي فليكن ذلك منك إذعانا لرحمة قلبك وحنانه، لا مكافأة على خير، ولا مجازاة على معروف.
إنني شقي مذ ولدت يا «إدوار»، فأنا أحب الأشقياء وأعطف عليهم؛ لأنني واحد منهم، ولا صداقة في الدنيا أمتن ولا أوثق من صداقة الفقر والفاقة، ولا رابطة تجمع بين القلبين المختلفين مثل رابطة البؤس والشقاء، فلو أنني خيرت بين صحبة رجلين: أحدهما فقير يضم فاقته إلى فاقتي فيضاعفها، وثانيهما غني يمد يده لمعونتي فيرفه عني ما أنا فيه من شدة وبلاء، لآثرت أولهما على ثانيهما؛ لأن الفقير يتخذني صديقا، والغني يتخذني عبدا، وأنا إلى الحرية أحوج مني إلى المال.
يظن السعيد دائما أن السعادة التي يمرح في ظلها إنما هي منحة سماوية قد آثره الله بها من دون عباده جميعا لفضيلة كامنة في نفسه لا يشاركه فيها غيره، ولا يعرفها الله لشخص في العالم سواه، وليس في استطاعته أن يتصور بحال من الأحوال أن السعادة عارية من عواري الدهر، يأتي بها اليوم ويذهب بها غدا، ولعبة من ألاعيبه، يختلف بها بين الناس أخذا وردا، ويداولها بينهم عطاء وسلبا، فتراه واثقا بها مستنيما إليها، ينطق بذلك لسانه، وتهتف به حركاته وسكناته، وملامح وجهه، وابتسامات ثغره، ومن كان هذا شأنه نظر إلى غيره من البائسين المحدودين الذين لا يتمتعون في حياتهم بمثل متعته، ولا يهنئون فيها بمثل نعمته نظر الشمس الساطعة إلى ذرات التراب المبعثرة على سطح الأرض، فهو يمن عليهم باللفتة والنظرة، ويحاسبهم على القعدة والقومة، ويتقاضاهم إجلاله وإعظامه كأنما يتقاضاهم حقا من حقوقه المقدسة التي لا ريب فيها، فإن أذن لأحدهم يوما من الأيام أن يجلس في حضرته لا يعجبه منه إلا خضوعه له، واستخذاؤه بين يديه، وتضاؤله أمام نظراته المترفعة تضاؤل الحمامة الساقطة تحت أجنحة النسر المحلق، ثم لا يجازيه على ذلك بأكثر من دعائه إلى مائدته، أو الإنعام عليه بفضلة ماله، أو خلقان ثيابه، لا يبعثه إلى ذلك باعث رحمة أو حنان، بل ليريه فرق ما بينه وبينه في مظاهر الحياة وزخارفها، وحظوظ الأيام وجدودها، وليضيف إلى عنقه المثقل بأغلال الفقر غلا جديدا من الذلة والاستعباد، فإذا أراد المسكين أن يفضي إليه بهم من هموم قلبه - ترويحا عن نفسه، وترفيها لآلامه - أعرض عنه وبرم به، وخيل إليه أنه ما ذهب معه هذا المذهب في حديثه إلا وقد أضمر في نفسه أن يقاسمه ماله، أو يساكنه في قصره، أو يشاطره نعمته وسعادته، فلا يعزيه عن بأساته بأكثر من أن يلومه على تبذيره وإسرافه، أو على بلادته وغفلته، ثم يختم حديثه معه بقوله: إن جميع ما يصيب المرء في حياته من بؤس وشقاء ليس الذنب فيه على القدر، بل على قصور الإنسان وجهله، وعد اضطلاعه بشئون الحياة وتجاريبها، وإن الله - تعالى، أعدل من أن يمنح نعمة جاهلها أو يسلبها مستحقها؛ أي إنه يجمع عليه بين بليتين: بلية الهم، وبلية اليأس من انفراجه وانقشاعه.
لا يستطيع الغني أن يكون صديقا للفقير؛ لأنه يحتقره ويزدريه، فلا يرى فيه فضيلة يصادقه عليها، أو يصطنعه من أجلها، ولأنه يشعر من نفسه باقتداره على احتمال أعباء الحياة وحده دون أن يعينه عليها معين من الفقراء أو الأغنياء، أما صديق الفقير فهو الفقير الذي يصغي لشكاته إذا بثها إليه، ويفهم معناها إذا سمعها منه، ويعزيه عنها إذا فهمها عنه، ويجعل له من صدره متكأ لينا يلقي رأسه عليه، وهو تعب مكدود، فيجد فيه برد الراحة والسكون.
نامعلوم صفحہ
لذلك أحببتك يا «إدوار» واتخذتك صديقا، وكان الشقاء هو الوثيقة التي تعاقدنا فيها أن يكون كل منا عونا لصاحبه على دهره، وجنة له من دون نكبات الأيام وأرزائها، مهما تقلبت بهما الأحوال، أو فرقت بينهما الأيام.
فأخذ «إدوار» بيد «استيفن» وأقسم له بكل محرجة من الأيمان ألا يهدأ له في حياته روع ولا يثلج له صدر حتى يراه ظافرا من دهره بالسعادة التي يرجوها، ثم عرض عليه أن يضع بين يديه جزءا من ثروته التي صارت إليه فأبى، وقال: أما هذه فلا؛ لأني لا أريد أن أشتري سعادتي في دنياي إلا بأشرف أثمانها.
وفي الصباح مشى «استيفن» مع «إدوار» ليودعه حتى بلغا مكان الافتراق، فتعانقا طويلا وبكى «استيفن» على صديقه ثم افترقا. (45) من استيفن إلى ماجدولين
خرجت ليلة أمس أرتاض على شاطئ النهر، فلما استقبلت الفضاء شعرت أن أوراق الأشجار تضطرب اضطرابا سريعا في خفوت وهمس، وأن الهواء يمشي متثاقلا مترجحا يتحامل بعضه على بعض، ورأيت قطع السحاب الضخمة السوداء تنتقل في صحراء السماء تنقل قطعان الفيلة في غاباتها، وخيل إلي أني أسمع في أعماقها قعقعة مبهمة تدنو حينا وتنأى أحيانا، وكأنما قد راع هذا الصوت الأجش طيور الماء، وحشرات الأرض، فرأيت الطيور مرفرفة على سطح النهر تستبق إلى أوكارها، والحشرات متعادية بين الصخور تتسرب إلى أحجارها، ورأيت السواد قد صبغ كل شيء حتى لون الماء، فقبة السماء ورقعة الأرض والأفق الذي يصل بينهما منجم أجوف عميق من مناجم الفحم يحاول البرق أن يجد له في جدرانه العاتية الصماء منفذا ينحدر منه إلى جوفه فلا يستطيع، إلا الومضة بعد الومضة تعتلج بين طبقاتها ولا تنفذه.
ثم ما لبثت هذه الطبيعة الصامتة الخرساء أن هدرت وزمجرت فهبت الزوبعة من كل مكان تخبط بيديها أوراق الأشجار فتطير بها كل مطار، وتهز السقوف والجدران هزا وتضرب بعضها ببعض، ثم أقبل المطر يمزق قطع السحاب ويفتح لنفسه والبرق طريقا في خلالها، ثم همى فسالت به الأودية والأرجاء، وامتلأت الأخاديد والأغوار، وكنت على مقربة من كوخ صديقي «فرتز»، وهو ملاح فقير أسدى إلي فيما مضى من الأيام صنيعة لا أزال أحفظها له حتى اليوم، فلجأت إليه، فخيل إلي حين دخلته أنه مقفر موحش ليس به أنيس، ثم أضاء البرق فرأيت في داخله منظرا من أجمل المناظر وأبدعها، رأيت زوج الرجل وأولاده جاثين على أقدامهم خاشعين باسطي أيديهم إلى السماء يدعون الله، تعالى، بدعوات جميلة يرددونها بصوت شجي محزن، فخيل إلي - ولا مصباح هنا ولا ضياء - أني أرى إشراق وجوههم وتلألؤها في هذه الدجنة الحالكة، وأحست لي المرأة فالتفتت إلي وقالت: لم يعد «فرتز» حتى الساعة، ونحن نخشى أن يكون قد أصابه مكروه من أهوال تلك الليلة، فنحن ندعو الله، تعالى، أن يرده إلينا سالما، فأثر في نفسي هذا المنظر تأثيرا شديدا، وقلت في نفسي: «ويل للذين يحاولون أن يسلبوا أمثال هؤلاء المساكين إيمانهم ويقينهم، إنهم يسلبونهم حياتهم التي يحيون بها في هذا العالم وكل ما تملك أيديهم من سعادة وهناء.»
وشعرت بحزن شديد في أعماق قلبي لحرماني من مثل هذه السعادة النفيسة التي ينعم بها هؤلاء القوم، فجثوت بجانبهم أهتف بهتافهم، وأدعو بدعائهم، وأضرع إلى الله أن يمنحني يقينا مثل يقينهم، ولم أدر أن ما أنا فيه إنما هو اليقين الذين أنشده وأضرع إلى الله فيه، ثم رفعت رأسي فإذا «فرتز» واقف على عتبة الباب، فهرعت زوجته إليه تقبله وتنضو عنه رداءه المبتل، ودار أولاده به يلثمونه ويستقبلون لثماته الأبوية الرحيمة، ويستطيرون فرحا به وسرورا، ثم احتملوه جميعا إلى المائدة وجلسوا حوله يحادثونه ويسائلونه عما كابد من أهوال هذه الليلة وشدائدها، وجلست على مقربة منه أسمع حديثهم، وأستشف سريرة نفوسهم، فأخذ منظرهم هذا من نفسي مأخذا شديدا، وكدت - وما حسدت أحدا في حياتي على نعمة قط - أن أحسدهم على نعمتهم هذه وقلت في نفسي: زوجة تحب زوجها وتبكي رحمة به وإشفاقا عليه، وأولاده يجثون على أقدامهم ويمدون أيديهم إلى الله، تعالى، ضارعين أن يحفظ لهم حياة أبيهم، وأب يبكي فرحا برؤية أولاده بين يديه سالمين مغتبطين ... إنها السعادة النفسية العالية التي لا تستمد بهجتها ورواءها من القصور والرياض، والأثاث والرياش، والفضة والذهب، بل من الحب الخالص، والود المتين.
وكذلك سيكون شأننا في مستقبلنا يا ماجدولين، فربما كتب لنا أن نعيش عيش الفقراء المقلين، ولكننا سنكون على فقرنا وإقلالنا سعداء مغتبطين.
لم يبق بيني وبين الحصول على تلك الزيادة التي وعدوني بها إلا ثلاثة أشهر، سأسافر من بعدها إليها في «ولفاخ» لأخطبك إلى أبيك، وأضع يدي في يدك، فلا يبقى للشقاء بعد اليوم إلينا من سبيل. (46) من ماجدولين إلى استيفن
سافرت «سوزان» إلى «كوبلانس» وتركتني حزينة آسفة على فراقها، ولكني سألحق بها عما قليل، فقد وعدها أبي أن نسافر إليها بعد شهر واحد لنقضي عندها بقية أيام الشتاء، وسأكتب إليك عند وصولي لتكون على بينة من ذلك، فلعلك تجد السبيل إلى موافاتي هناك، فأراك - ولو على البعد - والسلام. (47) من ماجدولين إلى استيفن
وصلنا منذ ثلاثة أيام أنا وأبي إلى «كوبلانس» ونزلنا ضيفين في منزل سوزان وأنا مغتبطة بلقائها والسعادة التي أجدها في منزلها اغتباطا عظيما، وقد أخبرتني اليوم أنها ابتاعت لنا مقصورة في ملعب «الأوبرا» نذهب إليها مساء كل أحد، فها نحن أولاء قد وجدنا المكان الذي يمكننا أن نتراءى فيه أو نتلاقي إن استطعنا.
نامعلوم صفحہ
فتعال إلي يا «استيفن»، ولا يحل بينك وبين ذلك أنك سترى مرة ثانية وجه ذلك البلد الذي أبغضته واجتويته وخرجت منه ناقما عليه، واغتفر كل شيء من أجلي. (48) الحياة الجديدة
سافرت ماجدولين مع أبيها إلى «كوبلانس»، ونزلت في ضيافة صديقتها «سوزان»، فأدهشها منظر القصر وأبهاؤه وحجراته، وما يشتمل عليه من أثاث ورياش، وما يتلألأ في جوانبه من زخرف وآنية، وأعجبها منظر الوصائف في إقبالهن وإدبارهن، وما يتراءين فيه من ألوان الثياب وأنواع الأزياء، حتى خيل إليها وهي واقفة أمام المرآة تنظر إلى نفسها وإلى موقفهن بجانبها أنهن فوق أن يخدمنها أو يسعين بين يديها، بل تمثل لها أنهن يسخرن في أعماق نفوسهن بمنظرها ومنظر ثيابها القروية القصيرة المخططة التي خاطتها بيدها، وكثيرا ما كانت تحدثها نفسها كلما بدت لها حاجة من الحاج أن تقوم إلى قضائها بنفسها خجلا منهن وحياء، والله يعلم كم نالها في مبدأ أمرها من حيرة وارتباك كلما جلست إلى طعام أو شراب، أو شهدت مجمعا، أو حضرت ملعبا، وكم كابدت من عناء في صياغة نفسها على أوضاع تلك الحياة الجديدة التي انتقلت إليها حتى أسلست واستقادت.
وكانت «سوزان» قد أعدت لها أنواع الأقمشة من حرير ومخمل وخز وصوف وفرو، فخاطت لها خياطة ماهرة ثوبا للرقص، وآخر للملعب، وآخر للمائدة، وقمصا للبيت، وغلائل للنوم، فرقصت وغنت وأنست بمنظر الراقصات والمغنيات، وتحدثت بأحاديث فتيات «كوبلانس»، وذهبت مذاهبهن في آرائهن وتصوراتهن، ولذت لها هذه الحياة الجديدة لذة عظيمة، وملأت ما بين جوانحها حتى غلبتها على أمرها، فتضاءل في نظرها كل شيء في ماضيها إلا حبها لاستيفن. (49) الفتنة
دخلت ماجدولين على «سوزان» ذات ليلة في غرفتها الخاصة في القصر، وهي غرفة بديعة فاخرة، قد كسيت أرضها وجدرانها بالقطيفة الحمراء المطرزة، وأسبلت على نوافذها وأبوابها ستائر حريرية بيضاء تتراءى في خلالها أسلاك الفضة اللامعة، وتدور في أطرافها ألوان الفصوص المتلألئة، وانتثرت في جوانبها وأركانها المقاعد الثمينة، والمناضد الجميلة، وآنية الفضة، فقالت لها «سوزان» حين رأتها: لقد أرسل إلي خطيبي اليوم هدية الزواج، فهل تحبين أن تريها؟ قالت: لا أحب إلي من ذلك، ففتحت «سوزان» الصناديق أمامها واحدا بعد آخر فإذا عقود ودمالج وأساور وأقراط مصوغة أجمل صياغة وأبدعها، مرصعة بأنفس اللآلئ وأثمن الجواهر، فدهشت ماجدولين لمنظرها، وظلت تقلبها بين يديها ساعة، ثم تناولت قرطا من الماس فوضعته في أذنيها، فاقترحت عليها «سوزان» أن تتقلد الحلية بأجمعها لترى منظرها عليها، ففعلت، ووقفت بها أمام المرآة، وأقبلت بها وأدبرت، فقالت لها «سوزان»: ما أحوج جمالك يا ماجدولين إلى مثل الحلية! وما أحوج هذه الحلية إلى مثل هذا الجمال! وإني لا أتمنى على الله شيئا سوى أن أراك خطيبة رجل من ذوي النعمة والثراء يحبك ويستهيم بك، ويكلأ فضاء حياتك هناء ورغدا.
ثم أنشأت تصف لها قصرا بديعا ابتناه لها خطيبها في إحدى ضواحي «كوبلانس» وأعد لها فيه من أسباب النعمة والرفاهية ما لا يعد مثله أصحاب التيجان لنسائهم وحظياتهم، وختمت حديثها بقولها: و«فردريك» فوق ذلك فتى جميل ساحر، لا تقع العين على أبدع ولا أظرف منه، وهو يحبني حبا شديدا، ولا أحسب أن الذي أضمر له من الحب أقل مما يضمر لي، فأطرقت ماجدولين هنيهة ولم تكن قد أفضت إلى صديقتها حتى الساعة بسر حبها لاستيفن، ثم رفعت رأسها وقالت: هل تكتمين سري يا «سوزان» إن أفضيت به إليك؟ قالت: نعم، ومن يكتمه إن لم أكتمه؟
فقصت عليها قصتها مع «استيفن»، وذكرت لها ذلك العهد الذي أخذه كل منهما على صاحبه أن يعيش له، وألا يفرق بينهما إلا الموت، فقالت «سوزان»: إني أذكر أنك كتبت لي عنه وكان حديث عهد بالنزول بداركم، إنه غير جميل ولا جذاب، قالت: نعم هو كذلك، ولكنني أحببت فيه أخلاقه أكثر من كل شيء، وإن رجلا يخاطر بنفسه من دون الناس جميعا في سبيل إنقاذ غريق لا يعرف من هو حتى أنقذه وكاد يهلك دون ذلك لهو أشرف الرجال، وأنبلهم قصدا، وأعلاهم همة، ولقد شهدت أنت بنفسك ذلك المنظر، وكتبت لي عنه، وعلمت منه أكثر مما أعلم، قالت: أهو الرجل؟ قالت: نعم، قالت: إني أذكر ذلك، ولقد أعجبت به في ذلك اليوم إعجابا عظيما، وهل هو غني؟ قالت: لا، ولكنه يسعى إلى الكفاف من العيش وسيناله، وحسبي منه أن يحبني حبا لا يحبه أحد أحدا، قالت: ما أقبح المهر يا ماجدولين إذا كان كله حبا، إنك تريدين أن تتبتلي وتستوحشي وتهجري العالم كله بجماله ورونقه إلى غرفة خاملة في أحد المنازل المهجورة المنفردة تقتلين فيها نفسك هما وكمدا.
فصمتت ماجدولين ولم تستطع أن تقول شيئا، لا اقتناعا برأي صديقتها، بل حياء منها وخجلا، ثم افترقتا. (50) الملعب
جلست ماجدولين و«سوزان» في مقصورة الأوبرا، وجلس بجانبهما «ألبرت» ابن عمة ماجدولين، و«اشميد» ابن عم «سوزان»، وهما فتيان جميلان متأنقان في ملبسهما وحليتهما، شأنهما في حياتهما شأن أمثالهما من الفتيان الأثرياء المستهترين الذين تنقسم حياتهم كلها إلى ساعتين اثنتين: واحدة للضحك والسرور، والأخرى لتصبي النساء واستغوائهم، فينفقون على الأولى عقولهم، وعلى الثانية أموالهم، حتى لا يبقى لهم من هذا ولا ذاك شيء.
جلسا يقلبان النظر في وجوه الجالسين في المقاصير المقابلة لهما، فإن وجدا وجها جميلا تغامزا وتهامسا، أو قبيحا ضحكا وسخرا، ثم علا صوتهما بالضحك والسخرية، فلم تلبث «سوزان» أن اشتركت معهما، ثم تبعتها بعد قليل ماجدولين، ولم يكن ذلك من شأنها أو مما يلتئم مع مزاجها، ولكنها فعلته مجاملة لهما، ثم لم تلبث أن طربت لهذا الأسلوب من المجون وأنست به، فأخذت فيه أخذهما، وبينا هي تقلب نظرها في المقاصير المجاورة لمقصورتها إذ رأت امرأة في سن الشيخوخة تلبس زينة الفتيات وحليتهن، فلفتت نظر أصدقائها إلى ذلك، فضحكوا لفطنتها ضحكا عاليا رنانا، لا لأن هناك فطنة تستحق الإعجاب والإطراء، بل لأنهم أرادوا أن يجازوها مجاملة بمجاملة، ومصانعة بمصانعة، فخدعها هذا الإطراء، فاسترسلت في نكاتها ومجونها حتى كادت تستأثر بالحديث وحدها من دونهم جميعا.
وإنهم لكذلك إذ هتف «ألبرت» وأشار إلى رجل جالس على كرسي في مؤخرة الصفوف وقال: هل رأيتم أعجب من هذا القرد اللابس ثوب الإنسان؟ فقال «اشميد»: أذكر أني رأيت هذا الوحش المستأنس مرة قبل اليوم ولا أدري أين رأيته؟ وقالت «سوزان»: أظنه قدم الملعب الساعة، فإني لم أره قبل هذه اللحظة، وما أحسبه إلا الشيطان الذي كانوا يخيفوننا به صغارا ولا نراه، فقال «اشميد»: إن حلته وإن كانت ثمينة فاخرة فهي من الحلل التاريخية التي لا يلبسها إلا الممثلون، فأجاب «ألبرت»: لعله سرقها من قبور الفراعنة أو دور الآثار، فإن من يملك مثل هذه الحلة الثمينة لا يعجز أن يشتري مشطا يمشط به شعره المشعث، فقالت «سوزان»: لا عار على الرجل أن يكون قبيحا، ولكن القبيح أن يلبس ثيابا جميلة تختلف صورتها عن صورته فتلفت الأنظار إلى قبحه ودمامته، ثم التفتوا جميعا فرأوا ماجدولين قد تراجعت إلى الوراء وهي ترتعد وتضطرب وقد استحالت حمرة وجهها إلى صفرة كصفرة الموت، فسألوها ما بالها؟ فزعمت أنها مقرورة وأنها تشعر برعدة في جسمها، ودوار في رأسها، ولم تكن صادقة فيما تقول، ولا يمكن أن تصدقهم فيما تقول؛ لأن الرجل الذي يسخرون منه ويتناولونه منذ حين بألسنتهم ويذهبون كل مذهب في تحميقه وتجهيله والسخرية به؛ إنما هو خطيبها الذي تحبه وتستهيم به، فأمسكوا عن الضحك هنيهة وأقبلوا عليها يعللونها حتى هدأ ما بها، فانصرفوا إلى الرواية يشاهدون فصولها، وعادت هي إلى مجلسها الأول، وظلت تخالس «استيفن» النظرة بعد الأخرى حتى انتبه لها فحياها بابتسامة خفيفة لم يشعر بها أحد غيرها، ثم ما لبثت الرواية أن انتهت فنهضوا للانصراف، وألقت ماجدولين على «استيفن» نظرة ضمنتها معنى شكرها إياه على اهتمامه بها، وحضوره لرؤيتها، ثم انصرفوا. (51) الرجل والمرأة
نامعلوم صفحہ