وبالتأكيد كانت هذه هي المرة الأولى التي يزعق له فيها الريس عبد اللطيف؛ فلا بد أن سبب الزعيق مثير للغاية. ولهذا سرعان ما اكتشف بعض الموظفين أن هناك أوراقا مستعجلة يجب إمضاؤها من الريس في الحال. وما أسرع ما كان باب الريس يفتح للداخل والخارج، الداخل يكاد يكون حب الاستطلاع يقفز من عينيه، والخارج يضع يده في فمه يكاد يموت من الضحك؛ ذلك لأن سبب الزعيق كان أغرب سبب ممكن أن يخطر على البال، بل كان لا يمكن أبدا أن يخطر على البال.
الداخل كان يجد أحمد واقفا مزررا جاكتته، أنفه معقوف صارم جدا، ورأسه منخفض في أدب وابتسامة لا معنى لها لا تبرح وجهه، والريس عبد اللطيف خلف مكتبه الكبير ذي السطح الزجاجي يداه تدفعان المكتب، وكأنما تريدان قلبه على أحمد رشوان، وزعيق كثير يخرج من فمه ووجهه وعينيه، وحتى من صلعته الخفيفة ... يوزع قليلا منه إلى اليسار، وقليلا آخر إلى اليمين، والأغلبية العظمى يصبها على أحمد: قلنا ميت مرة الصورة لازم تنكتب زي الأصل تمام بالحرف الواحد بلا زيادة أو نقصان، قلنا ميت مرة كده.
قالها الريس فعلا أكثر من مائة مرة، وفي كل مرة يسكت منتظرا إجابة أحمد، حتى إذا ما هم أحمد بأن يجيب، قاطعه الريس ومضى يلقنه المحاضرة التي يجيدها تماما عن العمل في الشركة وأصوله وقواعده.
وأنهى الريس محاضرته قائلا: اتفضل. خد الجواب، واكتبه بالضبط زي الأصل يا حضرة ... اتفضل يلا.
وخرجت كلمة من فم أحمد؛ ربما تكون قد خرجت قبل هذا، ولكنها كانت المرة الأولى التي يسمعها فيها الريس.
قال أحمد رشوان: اسمح لي ... لأ ... مش حاكتبه إلا كده.
وتحجرت عينا الريس، وقال: أسمح لك إيه؟!
فقال أحمد: اسمح لي سيادتك مش حاكتبه.
فقال الريس بصوت منخفض كصوت الزناد حين يجذب استعدادا لإطلاق النار: ليه بقى يا حضرة؟
والواقع أن أحمد تململ للسؤال ... فهو بالتأكيد كان قد جهز نفسه له، ولكنه وجد حرجا كثيرا، وكأنه متأكد تماما مما ينطقه وهو يقول: لأني إنسان يا أستاذ عبد اللطيف. أنا مش آلة كاتبة. - إيه؟ أنت إنسان مش آلة كاتبة؟! يعني إيه ده يا حضرة؟!
Bilinmeyen sayfa