13

Dünyanın Sonu

آخر الدنيا

Türler

قالها الريس وملامحه تتسع فجأة كما ضاقت فجأة، وهو يمسك شفته السفلى بأصبعين، ويجذبهما إلى أمام ويحدق في أحمد.

وأول ما خيل للريس أن الجدع قد جن، ولم يكن هذا في رأيه شيئا مستغربا، فقد كان لا يطمئن أبدا إلى أدب أحمد هذا الزائد عن الحد، ومحافظته المبالغ فيها على الأصول، والجنون يمكن أن يكون نهاية طبيعية لإنسان كهذا.

وكأنما قرأ أحمد أفكار رئيسه؛ فقد ابتسم ابتسامة اعتذار كبيرة، وكأن الذي سيقوله عيب ما بعده عيب وقال: ما تبصليش سيادتك على أني مجنون. أنا مش مجنون ... أنا إنسان، ولازم يكون فيه فرق بيني وبين الآلة الكاتبة ... أنا ... أنا.

وإلى هنا انتهت حصيلة أحمد من الكلمات؛ فقد كانت مهمته شاقة ومزدوجة. كان عليه أن يصوغ ما يدور في فكره إلى كلمات، ثم كان عليه أن يعيد صياغة هذه، فيجعلها مؤدبة أصولية، تصلح لكي يخاطب بها رئيسه. وإذا كانت المهمة الثانية سهلة؛ فالمهمة الأولى أكثر صعوبة؛ إذ كيف يصوغ أحمد رشوان ما عن له بالأمس من أفكار، وكيف يشرح للريس عبد اللطيف العصبي الضيق الخلق كل ما حدث بالضبط، خاصة إذا كان لم يحدث شيء يذكر. كل ما حدث أن نوبة أرق حادة انتابته في الليلة الماضية ... كان راقدا في فراشه غير المريح ، وكاد ينام لولا أن أطار النوم من عينيه برغوث خبيث، صمم أحمد على أن يعثر عليه حيا، وصمم البرغوث على أن يحاوره ولا يجعله يظفر به. كلما كاد يطبق عليه، أصبح وكأنه فص ملح وذاب. وأخيرا غطس البرغوث ولم يظهر، ولكنه ترك أحمد يعاني من ذلك الإحساس المقلق، الإحساس بنهشات خفية وزحف أقدام دقيقة غير مرئية، ذلك الإحساس الذي يدفع الإنسان إلى التأرجح بين الشك واليقين في وجود تلك الكائنات. وفجأة، وبدون سابق إنذار، خطر لأحمد رشوان ذلك الخاطر الذي كاد يجعله يقفز من الفراش؛ فقد اكتشف أنه ليس كاتبا على الآلة الكاتبة كما يظن نفسه ويظنه الناس، ولكنه هو نفسه آلة كاتبة ... كيف جاء الخاطر في ذهنه؟ لا أحد يدري. وكيف استطاع ذهن أحمد رشوان الأصولجي أن يجمع تلك المفارقة أو المتشابهة التي بدت غريبة كل الغرابة؟ لا أحد يدري أيضا ... المهم أن الفكرة استحوذت عليه تماما، حتى أنسته النوم والفراش وزحف الكائنات غير المرئية. ودون أن يستطيع أن يكبح جماح خياله وجد نفسه يوغل في التفكير ويوغل ... ما الفرق بينه وبين الآلة الكاتبة؟ هو صحيح خريج جامعة ومحترم، ولكنه في عمله لا فرق بينه وبين الآلة الكاتبة التي يكتب عليها ... هو له أصابع وهي أيضا لها أصابع. وهو يقرأ الأصل، وتستحيل الكلمات خلاله إلى ضغطات، والمكنة تستحيل الضغطات خلالها إلى كلمات. وإذا كان هو يأمر المكنة بأصابعه أن تكتب، فالشركة تأمره بأصبع واحدة منها أن يكتب. وإذا كانت المكنة لا تستطيع أن تغير ما يأمرها به إذا ضغط على حرف الميم، فلا بد أن تكتب ميما؛ فهو أيضا لا يستطيع أن يغير إذا قالوا له اكتب كذا، فلا بد أن يكتب كذا. أجل، ما الفرق بينه وبين الآلة الكاتبة؟ الواقع لا شيء، بل الحقيقة لا شيء مطلقا.

وأول الأمر ضحك أحمد كثيرا، ضحك بلا وعي، ولم يكف عن الضحك إلا بعد أن فطن لنفسه، فوجد أنه يضحك ضحكا غريبا ماسخا في الشقة المظلمة الخاوية؛ «فأحمد رشوان كان قد تعدى الثلاثين ومع هذا كان لا يزال أعزب» ... وآلاف الخواطر كهذه تعن لآلاف الناس آلاف المرات في اليوم الواحد، ولكنها لا تعلق بأذهانهم كثيرا. إنها كآلاف الأشياء التي تبرق في أرض الشارع المشمس، يعبر بها الناس ولا يحفل ببريقها أي منهم، ولكن بريق أحدها قد يجذب أنظار عابر سبيل ليتوقف عنده مثلا ويحدق فيه، بل ممكن أن ينحني ويتناوله ويتفحصه. وفي أغلب الأحيان يعود ليلقي به وهو يضحك من نفسه ومن البريق الزائف الذي شغله.

وكان ممكنا أن يحدث هذا لأحمد رشوان، فيلقي بالخاطر من وراء ظهره، ويعود إلى متابعة أفكاره أو محاولة النوم، ولكن ربما لفراشه غير المريح، وربما لأنه كان في حاجة ماسة إلى ما يشغله عن إحساسه بالكائنات غير المرئية التي تقاسمه فراشه؛ ربما لهذا تلكأ عن الخاطر قليلا ... وويل لأي منا إذا تلكأ عند خاطر؛ فقد يغير التلكؤ مجرى حياته. ربما تتلكأ عند كلمة قالتها فتاة، وأعجبتك طريقة نطقها لها، فإذا بك بعد شهور زوج لهذه الفتاة. والتلكؤ عند واجهة مكتبة قد يوقع في يدك كتابا يغير شخصيتك تماما. ونيوتن المشهور لم يفعل أكثر من أنه تلكأ ذات يوم أمام تفاحة سقطت من تلقاء نفسها على الشجرة.

أحمد رشوان هو الآخر تلكأ عند الخاطر، ومضى يقلبه على وجوهه. أحيانا يحسب الأمر هزلا في هزل؛ إذ أمن المعقول تنعدم الفروق تماما بينه وبين الآلة الكاتبة؟ ولكنه حين يحاول أن يجد فارقا أساسيا، ولا يستطيع أن يدخل الأمر في طور الجد، ويبدأ يخاف أن يكون التشابه حقيقة. بل بلغ به الوضع حد أنه كان أحيانا يحدق في أصابع يديه، ويلعبها معا في الظلام، ثم يوقفها جميعا، ويلعب كلا منها على حدة. وأحيانا يشيح بيده، وكأنما يقول: غير معقول هذا ... غير معقول.

بل عنت له خواطر مضحكة للغاية: لم لا يكون الأمر عكس ما يتصور، وتكون الماكينة الكونتيننتال التي يكتب عليها أفضل منه؟ فهي على الأقل ضامنة بقاءها في الشركة مدى الحياة، وهو غير ضامن بقاءه ولو ليوم واحد . وحتى المنضدة التي تستقر عليها منضدة أنيقة صنعت خصيصا من أجلها، وكلفت الشركة ما لا يقل عن العشرة جنيهات، بينما مقره هو عبارة عن كرسي ملقلق الساق، اشترته الشركة في مزاد، ووقف عليها ببضعة قروش.

وعشرات الأفكار المضحكة للغاية.

وكأنما كان طوال المدة التي قضاها يفكر ويسرح، كان يدخر لنفسه خط رجعة مؤكدا. وكان ضامنا مائة في المائة أنه يملك الدليل القاطع على أن ثمة فرقا كبيرا بينه وبين الآلة الكاتبة. فقط كان يحتفظ بالدليل؛ ليفاجئ به أفكاره في الوقت المناسب ... وأخيرا لم يجد بدا، وأخرج الدليل وقال لنفسه: الفرق بيننا أنها آلة جامدة صماء بكماء، لا تستطيع التصرف وحدها أبدا، أما أنا فأنا ملك ... أنا إنسان أستطيع أن أفكر وأتصرف بمطلق إرادتي.

Bilinmeyen sayfa