لعبة البيت
الشيخ شيخة «أ» الأحرار
أحمد المجلس البلدي
شيء يجنن!
آخر الدنيا
الستارة
الغريب
لعبة البيت
الشيخ شيخة «أ» الأحرار
أحمد المجلس البلدي
Bilinmeyen sayfa
شيء يجنن!
آخر الدنيا
الستارة
الغريب
آخر الدنيا
آخر الدنيا
تأليف
يوسف إدريس
لعبة البيت
شب سامح على أطراف أصابعه ونط ودق الجرس، وسمع صوتا طويلا ممدودا يقول: مين؟ فاحتار وخاف وسكت.
Bilinmeyen sayfa
وفتح الباب، ووقفت على عتبته سيدة ضخمة مهيبة، ترتدي قميص نوم خفيفا جدا، لونه أصفر باهت كقشر الليمون. ووجم سامح وكاد يجري، ولكنه تماسك، وعرف أن التي فتحت هي أم فاتن، رغم وجهها الخالي من المساحيق.
وقبل أن يحدث أي شيء، ابتسمت له السيدة ابتسامة كبيرة وانحنت ناحيته، وقالت: يوه ... هو انت يا حبيبي؟! ... أنا رخرة قلت مين اللي بيضرب الجرس ده ومالوش خيال ... عايز إيه يا حبيبي؟ عايز الهون؟ ... ماما بتعمل كفتة؟
ولم يجب سامح في الحال ... مد بصره من خلال وقفة الأم العريضة وقميصها الشفاف، وما بقي من الباب في فراغ، محاولا أن يرى فاتن ... ولكنه لم يجد لها أثرا؛ لا في الصالة، ولا في الحجرة القريبة المواربة للباب، ولا بجوار الراديو تعبث بمفاتيحه.
وقال بجرأة منقطعة: عايز ... عايز فاتن تلعب معايا.
وضحكت الأم، وانحنت وقبلته وقالت: كده؟ طيب حاضر يا حبيبي.
وانبسط سامح، وانبسط أكثر حين التفتت إلى الخلف، ونادت: فاتن. سيبي الغسيل أحسن تبلي هدومك ... وتعالي ... تعالي علشان تلعبي مع ابن أم سامح.
ثم التفتت إلى سامح قائلة: بس اوع تزعلها يا حبيبي ... لحسن مخليهاش تلعب معاك بعد كده أبدا.
وقال سامح بحماس وعيون صغيرة ذكية تبرق: إن زعلتها يا تانت، ما تخليهاش تلعب معايا تاني.
فقالت أم فاتن وهي تتركه وتستدير: وما تنساش تسلم لي على مامتك، وتقول لها ما بتزرناش ليه؟
ثم دخلت السيدة إلى الحمام، وهي تهتز وتتدحرج.
Bilinmeyen sayfa
ووقف سامح يترقب ظهور فاتن ويتأمل الصالة، كان فيها ترابيزة سفرة مثل صالتهم، غير أن كراسيها قديمة موضوعة فوق الترابيزة. وكان هناك كرسي غريب الشكل مسنده عال جدا، يحتاج إلى سلم للصعود عليه، والكرسي ترقد فوقه قطة ذات ألوان جميلة، ملفوفة على نفسها ونعسانة. وظهرت فاتن فجأة، وكأنما خرجت من تحت الأرض، ترتدي فستانها الأبيض القصير الذي يرتفع ذيله عن الركبة، وتوجهت إلى التسريحة الموضوعة في الصالة، وانحشرت بينها وبين الحائط، ثم أخرجت سبتا صغيرا مثل الأسبتة التي يباع فيها حب العزيز، غير أنه مصنوع من البوص، وعلقت السبت في يدها، واتجهت إلى الباب حيث يقف سامح، وابتسم لها سامح وسار في اتجاه السلم، وتبعته فاتن.
وفي منتصف السلم قال لها فجأة: إن كنت جدعة امسكيني قبل ما اوصل باب شقتنا.
وجرى أمامها فوق الدرجات، ولكنه حين لم يسمعها تجري خلفه توقف، وقال: إخيه عليكي ... مش قادرة تجري ورايا يا خايبة؟
فقالت وفي ملامحها ثبات وتأفف ورزانة: أنا محبش الجري ده.
وتضايق سامح قليلا من تأففها، ووقف ينتظرها وهو معلق بدرابزين السلم، ونصفه خارج عنه.
ودخلا الشقة من بابها المفتوح، وتأكد سامح أن أمه مشغولة في المطبخ؛ إذ كانت لا ترحب أبدا بإحضاره فاتن ليلعب معها ... وعبر سامح الصالة وفاتن وراءه، وعيناها لا تغادران السبت المعلق في يدها.
وأصبحا في الحجرة الداخلية ذات السرير الحديدي القديم والدولاب والكنبة.
وقال سامح وهو يهلل ويشير إلى ما تحت السرير: أهو ده بيتنا ... أهو ده بيتنا ... يلا بقى نعمل بيت.
ورفع داير السرير الأبيض الذي يحيط به من كل الجهات، ودخل تحت السرير، ودخلت فاتن وراءه ... وبينما بقيت هي على رزانتها، بدأ سامح يصنع زيطة كبيرة، ويصرخ ويدور ويهلل، ثم أخذها إلى ركن السرير الداخلي؛ حيث صندوق الشاي القديم الذي يحتوي على كل ممتلكاته وألعابه الخاصة ... مجموعة كبيرة من علب السجائر الفارغة، وأغطية الكازوزة، وأرجل كراسي مصنوعة بالمخرطة، وعلب تونة وسالمون بمفاتيحها، وقطع صغيرة كثيرة من أقمشة جديدة متعددة الألوان سرقها من درج ماكينة الخياطة. وجر الصندوق وأخذ يستخرج محتوياته ويفرج فاتن عليها ... وبدأت الرزانة تغادر فاتن، فجلست على الأرض وتربعت، وأخذت تخرج من «سبتها» لعبها هي الأخرى وممتلكاتها وتفرجه عليها.
وفي هذه المرة أيضا أعجب سامح بالحلة الألومنيوم الصغيرة، والوابور البريموس الصغير، وترابيزة المطبخ التي في حجم علبة الكبريت. واستكثر على فاتن أن تكون هي مالكة هذه اللعب الجميلة كلها ... ثم انتابته الخفة والحماسة، فقام وأخذ ثلاثة ألواح خشبية كانت ساقطة من «الملة» القديمة، ومضى يضعها على حدها، ويقسم بها ما تحت السرير إلى أقسام، وهو يقول: دي أوضة السفرة ... ودي أوضة النوم ... وده المطبخ. وبدأت فاتن تنقل أشياءها إلى المطبخ، ووضعت الترابيزة في ركن ووضعت فوقها الوابور، ثم وضعت الحلة فوقه، وقالت: احنا اتأخرنا قوي ... نطبخ إيه النهارده؟!
Bilinmeyen sayfa
فقال سامح في حماس: نطبخ رز ... يلا نطبخ رز!
وما لبث أن غادر تحت السرير في الحال وجرى إلى المطبخ، حيث ادعى لأمه أنه يبحث عن كرته المفقودة في الدولاب، وعاد وقبضته الصغيرة مضمومة وموضوعة في جيب بنطلونه، وحين أصبح تحت السرير فتحها، ووضع محتوياتها من حبات الأرز القليلة في الحلة.
وقالت فاتن وهي تتنهد: إنت تروح الشغل وأنا أطبخ.
فقال سامح: أروح الشغل إزاي؟
فقالت: مش انت تروح الشغل ... وأنا أطبخ؟
فقال: إييه؟ ... إنتي عايزة تلعبي لوحدك؟ ... يا نطبخ سوا سوا يا بلاش.
فقالت فاتن: لا يا سيدي ... هي الرجالة تطبخ؟ ... إنت تروح الشغل وأنا أطبخ ... يا كده يا بلاش.
فقال سامح: دي بواخة منك دي ... عايزة تطبخي لوحدك، وتقوليلي روح الشغل؟ والله مانا رايح.
واحتقن وجه فاتن غضبا وقالت: طب هه.
وأنزلت الحلة من فوق الوابور، ووضعتها في السبت.
Bilinmeyen sayfa
فقال سامح بغضب: هاتي الرز بتاعي ... هو بتاعك؟
فأخرجت فاتن الحلة ... وقلبتها على الأرض ... وقالت: رزك أهه. جك قرف.
ونشبت خناقة حادة ... وكل يحاول أن يجمع حوائجه، هذه لي وليست لك ... وشتمته ولعنت أباه، وغضب سامح ودفعها، فسقطت منها العروسة ... وأخيرا جمعت فاتن أشياءها، ووضعتها كلها في السبت الصغير، وعلقت السبت في يدها، ورفعت داير السرير واختفت.
واغتاظ سامح كثيرا وهو يراقبها، وتمنى لو يلحقها قبل أن تغادر شقتهم ويضربها ... بنت مثلها صغيرة ومفعوصة تريد أن تمشي عليه كلمتها. دائما تغيظه هكذا كلما لعب معها، وكل مرة يلعب معها فيها يصمم ألا يعود للعب معها ... في المرة القادمة سيضربها بالقلم لو فتحت فمها ... ولكن لا ... لن تكون هناك مرة قادمة ... لن يلعب معها أبدا حتى لو أحضرتها أمها ورجته أن يلعب معها ... بنت مفعوصة ذات سن أمامية مكسورة تغضب لأتفه سبب، وما أسرع ما تعلق سبتها في يدها وتتركه! ... هي حرة، وحتى هو ليس في حاجة إليها ليلعب ... يستطيع أن يلعب وحده ولا الحوجة إليها.
وهكذا بدأ سامح يحاول أن يلعب لعبة البيت وحده، فراح يقيم الحواجز الخشبية التي هدمتها الخناقة، ويكلم نفسه بصوت عال، وكأنه يريد أن يقسم نفسه إلى قسمين أو شخصين يلعبان معا، أحدهما يتكلم والآخر يسمع. ومضى يقول: ودي أوضة السفرة، وده المطبخ ... نطبخ إيه النهارده؟
وأجاب على نفسه: رز.
ولكنه غير رأيه بسرعة وقال: لأ ... فاصوليا.
وفكر أن يذهب ويسرق فاصوليا من المطبخ، ولكنه لم يجد لديه حماسا كافيا لتنفيذ الفكرة ... كان قد بدأ يدرك أنه يضحك على نفسه حين يقسم نفسه قسمين يلعبان مع بعضهما ... وبدأ يتبين أنه يلعب وحده فعلا، وبدا حينئذ كل شيء ماسخا وقبيحا إلى درجة أنه لم يعد يصدق أن ما تحت السرير بيت كما كان منذ دقائق مضت ... بدأ يرى الألواح الخشبية مجرد ألواح، والدواية التي كان ينوي استعمالها حلة مجرد علبة ورنيش فارغة. لم يعد ما تحت السرير بيتا، ولا عادت الألواح الخشبية حجر نوم وجلوس وسفرة.
واغتاظ سامح ... فمن دقائق قليلة، وحين كانت فاتن تلعب معه، كان يعتقد فعلا أن المطبخ مطبخ، والصالة صالة، وحجرة السفرة حجرة سفرة. لماذا حين ذهبت وأصبح وحده بدأ يرى كل شيء سخيفا مختلفا، وكأن لعبة البيت لا تنفع إلا إذا لعبها مع الست فاتن؟!
وفي غمرة غيظه غادر ما تحت السرير، بل غادر الحجرة كلها، ومضى يلف في الصالة يبحث لنفسه عن لعبة أخرى يتسلى بها ... وفي درج مكتب أبيه الأخير عثر على حنفية قديمة، استغرب كيف كانت موجودة طوال هذه المدة في ذلك المكان، ولم يعثر عليها سوى اليوم. أخرج الحنفية ومضى يفتحها ويغلقها وينفخ فيها، ومضت في ذهنه فكرة: لماذا لا يستعملانها هو وفاتن في لعبتهما، فيركبها في رجل السرير، ويصنع لها حجرة صغيرة، وتكون هي الحمام؟ ألا يصبح حينئذ كالبيوت الحقيقية؟ ولكن ... لا ... إنه لن يلعب أبدا معها، حتى ولو جاءت من تلقاء نفسها، وحاولت تلعب معه ... سوف يقول لها بكل احتقار: جاية هنا ليه يا باردة؟ روحي يلا على بيتكم.
Bilinmeyen sayfa
وطبعا هي لا بد قادمة عما قليل، فهي الأخرى لن تجد أحدا تلعب معه.
وانتظر سامح أن تأتي، ولكنها لم تأت، وتذكر حينئذ كيف كانت غلبانة، وهي تنحني وترفع داير السرير والسبت معلق في يدها ... كانت غلبانة صحيح. لماذا لا يذهب ويصالحها؟ وذهب إلى الباب وفتحه، وتلفت هنا وهناك، ولكن الطرقة كانت خالية وليس فيها أحد.
وعاد مغموما إلى الحجرة الداخلية، واتجه إلى السرير ونظر من الفرجة الكائنة بين الداير الأبيض والمرتبة ... بدا ما تحت السرير واسعا جدا وخرابا، والألواح الخشبية ولعبه وأشياؤه المبعثرة شكلها كئيب، وليس هناك أبدا أي أثر لذلك العالم الصغير الذي كان أحب إليه من كل عوالم الكبار وسيماته ومباهجه.
وترك الحجرة متضايقا وظل يدور في الصالة. وفجأة أحس أنه ضاق ببيتهم كله، وأنه يريد الخروج منه والذهاب إلى أي مكان ... وهكذا وجد نفسه واقفا في الطرقة خارج باب الشقة وحده. أمه تناديه وهو يكذب ويقول إنه ذاهب ليلعب مع الأولاد في الحارة.
وفي الطرقة بدأ يفكر ... لا بد أن فاتن ذهبت إلى أمها باكية، ولا بد أن أمها أخذتها وأغلقت عليها الباب، ولن تسمح لها أبدا باللعب معه مرة أخرى. إن أخوف ما يخافه لا بد قد حدث. يا له من غبي سخيف! لماذا أغضبها؟ لماذا لم يقل لها: أنا رايح الشغل أهه، ويصل إلى باب الحجرة مثلا ثم يعود ويقول لها: أنا رجعت م الشغل أهه. لماذا عاندها؟ وماذا يصنع الآن؟
وهبط درجات السلم تائها، محتارا، مترددا بين أن يهبط، ويحاول أن يجد طفلا من أولاد الحارة يلعب معه أسخف لعب؛ فهو لا يريد إلا أن يلعب مع فاتن لعبة البيت بالذات، وفاتن ذهبت إلى أمها ولن تعود أبدا، أو أن يصعد ويدعي لأمه أنه سخن ومريض. وحتى لم يجد في نفسه أي رغبة أو حماس لكي يهبط أو يصعد أو يتحرك من مكانه أو أي شيء. كل ما أصبح يتمناه من قلبه وهو يهبط درجة ويتوقف درجات؛ أن تزل قدمه رغما عنه فيسقط ويتدحرج على السلم، ويظل رأسه يتخبط بين الدرجات، وكل خبطة تجرحه وتسيل دماءه.
وحين وصل في هبوطه إلى باب شقة أم فاتن، كان الباب مغلقا ومسدودا، وكأن أصحابه سافروا أو عزلوا ... ألقى نظرة واحدة على الباب، ولكنها جعلته يحس بالرغبة في البكاء، ويسرع بالهبوط.
وقبل أن ينتهي السلم عند آخر بسطة، توقف حزينا حائرا، وكأن شيئا ثمينا جدا قد ضاع منه، وأخرج رأسه من درابزين السلم، وتركه يتدلى في يأس من حديد الدرابزين ... ومضى يجلس على الأرض، ويفرد ساقيه بلا أي اهتمام بملابسه أو بما يلحقها، ثم يقف فجأة وقد قرر أن يكمل الهبوط، ولكنه يجد نفسه قد عاد للجلوس وإدلاء رأسه من حديد الدرابزين. وكلما تذكر أنه لولا عناده لكانت فاتن لا تزال تلعب معه، وكلما تصور أنه قد حرم اللعب معها إلى الأبد، تمنى لو مرض فعلا أو مات، أو أصبح يتيما من غير أب أو أم.
ولم يصدق عينيه أول الأمر، ولكنه كان حقيقة هناك. على آخر درجة في السلم سبت فاتن الصغير نائما على جنبه، والحلة الألومنيوم ساقطة منه. وهبط السلالم الباقية قفزا، وتدحرج وعاد يقفز، وعلى آخر درجة وجد فاتن هناك ... هي بعينها جالسة ورأسها بين يديها، وكانت تبكي ودموعها تسيل، وسبتها الصغير راقد بجوارها، والحلة قد تبعثرت منه.
وأحاطها سامح بذراعيه واحتضنها، وراح يطبطب عليها بيديه الصغيرتين، ويقبلها في وجهها وشعرها، ويقول لها، وكأنه يخاطب طفلة أصغر منه بكثير ويصالحها، وهو فرحان؛ لأنها لم تذهب لأمها ولا اشتكت: معلش، معلش، معلش.
Bilinmeyen sayfa
وجذبها برفق لينهضها، ونهضت معه بغير حماس، ودموعها لا تزال تتساقط ... دموع حقيقية. وأعاد الحلة إلى السبت وعلقه في يدها، ومضى يصعد بها السلم وذراعه حولها، وهي مستكينة إليه لا تزال تدمع وجسدها ينتفض، ولكنها لا تقاومه ولا تتوقف عن الصعود.
الشيخ شيخة
بلاد الله واسعة وكثيرة، وكل بلدة فيها ما يكفيها ... كبار وصغار، وصبيان وإناث، أناس وعائلات، ومسلمون وأقباط، وملك واسع تنظمه قوانين وتقض مضاجعه قوانين. وأحيانا يخرج للقاعدة شاذ، كالحال في بلدنا الذي ينفرد دون بلاد الله بهذا الكائن الحي الذي يحيا فيه، والذي لا يمكن وضعه مع أناس بلدنا وخلقها، ولا يمكن وضعه كذلك مع حيواناتها. وأيضا ليس هو الحلقة المفقودة بينهما ... كائن قائم بذاته لا اسم له، أحيانا ينادونه بالشيخ محمد وأحيانا بالشيخة فاطمة، ولكنها أحيان وللسهولة ليس إلا. فالحقيقة أنه ظل بلا اسم ولا أب ولا أم، ولا أحد يعرف من أين جاء ولا من الورثة ذلك الجسد المتين البنيان ... أما أن له ملامح بشرية فقد كانت له ملامح، كانت له عينان وأذنان وأنف ويمشي على ساقين ... ولكن المشكلة أن ملامحه تلك كانت تتخذ أوضاعا غير بشرية بالمرة، فرقبته مثلا تميل على أحد كتفيه في وضع أفقي كالنبات حين تدوسه القدم في صغره، فينمو زاحفا على الأرض يحاذيها، وعيناه دائما عين منهما نصف مغلقة، وعين مطبقة. ولم يحدث مرة أن ضيق هذه أو وسع تلك ... وذراعاه تسقطان من كتفيه بطريقة تحس معها أنهما لا علاقة لهما ببقية جسده، كأنهما ذراعا جلباب مغسول ومعلق ليجف.
وبشعر رأسه القصير الكثيف الخشن كالفرشاة تبدأ مشكلة تسترعي الانتباه ... فليس فيه علامات أنوثة، وهو أيضا يخلو من علامات الرجولة. وجسده ضخم ربع في سمك الحائط ومتانته، ولكن وجهه لا يحمل أثرا للحية أو شارب. وكان من الممكن أن يفصل صوته في نوعه ويضمه إلى دنيا النساء أو الرجال، لولا أنه كان لا يتكلم ولا يتحرك إلا إذا أوذي أو تألم. وحينئذ يخرج منه فحيح رفيع لا تستطيع أن تعرف إن كان فحيح أنثى أم ذكر، أو حتى فحيح آدمي أصلا.
وكان نادر المشي، وإذا مشى سار في خطوات ضيقة جدا، وكأنه مقيد. وهوايته الكبرى أن يقف ... يظل واقفا بجوارك أو أمام دكانك أو في حوش بيتك كالمذنب بلا ذنب، ساعات وساعات دون أن يخطر بباله أن يتحرك. ولا أحد يعرف كيف يأكل أو من أين، فالطعام إذا قدم إليه رفضه ... والبعض يؤكد أنه يقتات بالحشائش من الغيطان، وأن طعامه المفضل هو البرسيم، وأنه إذا شرب يشرب كالمواشي من الترعة. ولكنها أقوال، مجرد أقوال، ولم تبلغ الجرأة بأحد أن يزعم أنها رؤية عين.
وكائن كهذا لو وجد في أي مكان آخر؛ لرأى الناس فيه ظاهرة جديرة بالدراسة والأبحاث، أو على الأقل ينشر صورته في الجرائد والقيام معه بتحقيقات ... ولكن أهل بلدنا لم يكونوا يرون فيه كائنا شاذا أبدا، كل ما في الأمر أنه كائن مختلف. وما دام يحيا بينهم لا يؤذي أحدا ولا يجلب شرا لأحد، فلا اعتراض لأحد على حياته، وحرام أن يعترضه أحد، أو يحملق فيه إنسان، أو يسخر من وقوفه أو اعوجاج رقبته ساخر، فهكذا أراد الخالق. وإذا أراد الخالق فلا مناص من إرادته ... وليس على العبد أن يعترض على نظامه حتى إذا شذ النظام ... وكم شذ النظام حتى ليبدو الكون بلا نظام. وكم من مجذوب مهفوف ومشوه ومجنون ... والكل يحيا ولا بد أن يحيا الكل، ويضمهم ذلك الموكب الرهيب البطيء السائر بهم نحو النهاية حيث لا نهاية، كل ما في الأمر أن أهل البلد كانوا يعاملون الشيخ شيخة بنوع خاص من الرهبة ليست فيها تلك القدسية الممزوجة بالسخرية التي ينظرون بها إلى المجاذيب والأولياء، وليست فيها تلك الشفقة الممزوجة بالاشمئزاز التي ينظرون بها إلى المشوهين والمرضى. ربما رهبة النظر إلى شيء مخالف شاذ، يكشف بشذوذه عن كنه النظام الهائل الذي يلف الكون والناس، رهبة من النظام أكثر منها رهبة من مخالفة النظام. كان إذا جاء على قوم جالسين تحاشوا النظر إليه، وتعمدوا ألا يجعلوه يحس أنهم شعروا بوجوده . وقد يلقي عليه واحد أو اثنان نظرات عجلى مستطلعة، ولكن العيون لا تلبث أن ترتد، والألسنة لا تلبث أن تستمر فيما كانت فيه من حديث، بصرف النظر عن وقفته غير بعيد عنهم، وثبوته في مكانه ثبوت جذع نبت من الأرض فجأة ... وإذا جذب وقوفه الذي يطول انتباه الأطفال، والتفوا حوله يتأملونه بلا رهبة أو خشية من معصية الاعتراض، نهرهم الكبار، وتطوع واحد بالجري وراءهم حتى يغيبهم في شقوق البلدة وحواريها ... والويل لهم إذا فكر أحدهم في معاكسته، أو نغزه بعود قطن ليجعله يصدر ذلك الفحيح الغامض الرفيع.
وسنين طويلة قضاها الشيخ شيخة في بلدنا على هذه الحال، والناس قد أحلوه من كل واجبات الإنسان والحيوان والنبات، وتركوا له كل حقوقها. إذا شاء وقف كالنبات وتسمر، وإذا شاء فح كالحيوان، وإذا شاء تحرك من تلقاء نفسه كإنسان وإلى أي مكان يريد، لا يزجره أحد، ولا يعترض طريقه أحد. ويدخل أي بيت ويظل قابعا في أي ركن فيه ما شاء من الوقت، دون أن يضايق وجوده أهل البيت أو حتى يحسوا له وجودا. وكأنه يصبح إذا حل جزءا من المكان أو الزمان أو الأثير. تتعرى النساء أمامه، وكذلك يفعل الرجال، وتتحدث العائلات عن أخص شئونها في حضرته، وينام الرجل مع زوجته أو غير زوجته، وتدبر أمامه المكائد وتكتب البلاغات، ويقول الهامس للآخر حين يريد أن يطمئنه كي يفتح له صدره: قول يا أخي قول ... ما تخافش ... هو فيه إلا أنا وأنت والشيخ شيخة ... قول. •••
كل ما في الأمر أنه هناك بين كل بضع سنين وأخرى تنطلق إشاعة، خافتة واهنة لا تكاد تصل إلى الألسنة حتى تذوب فوقها وتتبدد ... مرة يقولون: إن ثمة علاقة مريبة تربطه بنعسة العرجة، فهي كثيرا ما تشاهد، وهي تبحث بعينيها في الليل عنه، وأحيانا تسأل عنه. وكثيرا ما رؤيت خارجة من الخرابة القريبة من الجامع، حيث كان يقضي معظم لياليه. وهي لا بد تعاشره ... في إشاعة، وفي إشاعة أخرى يقولون: إنه ابنها، وإنه جاء هكذا؛ لأنها حملت به سفاحا من أب فاسد الدم من رجال البندر، حيث كانت تذهب نعسة لتبيع الجبنة واللبن وأحمال الحطب في الفجر ... ويتردد الناس ألف مرة في تصديق أيهما؛ فنعسة تكاد بطلوع الروح تحسب على جنس النساء، فهي صلبة العود كالرجال، جافة الأخذ والرد متينة البنيان، تدخل العركة وتعور الرجال، وتخرج سليمة لم يصب جلبابها تقطيع. مات عنها زوجها وهي صغيرة فتحزمت بحزام الكادحين واشتغلت، وتقلبت في الكثير من الأعمال التي يزاولها النساء، ولكن طبعها كان إلى الرجال أقرب. وهو الذي حال بينها وبين الزواج، وهو الذي جعلها تستقر آخر الأمر في عملها الذي رشحتها له عضلاتها القوية وعظامها العريضة ... حمالة أحطاب وتبن وطحين وكل ما لا يستطيع وما لا يليق بالرجال أن يحملوه. وكل عدة شغلها «حواية» صنعتها من أثواب بالية، وخاطتها حتى أصبحت كالكعكة. وإذا وضعتها فوق رأسها تستطيع أن تحمل بها حمل جمل ولا تكل. وتمضي بحملها ثابتة الخطوة مختالة ترج الأرض، وتحدف عياقة بساقها، فيرن خلخالها الذي لم تفرط فيه ... ربما ليظل العلامة الوحيدة على أنوثتها، تلك التي تلتهم الأحمال الوعرة والعمل الشاق علاماتها واحدة وراء الأخرى ... وعيبها الوحيد أنها كانت إذا مشت فاضية بغير أحمال لا تعرف كيف تمشي، وتنط كالجرادة، وتتذبذب خطواتها بين هزات الأنثى ودغرية الذكر. ومن هنا سموها بالعرجة، سماها الرجل غيرة، وسمتها النساء استنكارا، وسماها الكل ظلما. أمن في مثل خشونتها يعاشر الشيخ شيخة؟ أو حتى يتصور أحد أنها كانت أما لابن ذات يوم، حتى لو كان الابن هو هذا المخلوق؟
ولكنهم يؤكدون ويقولون إنها بعد ولادته أخفته في نفس الخرابة التي يأوي إليها في كبره، وظلت ترضعه خفية وترعاه بعيدا عن الأنظار، ولم يخرج منها إلا وهو كبير بأسنان!
وفي عام يكثر الحديث عن ميوعة النساء وفسادهن، ويبلغ الأمر بالبعض أن يدعي أن بعض الجائعات والقاطنات في أطراف البلدة لا يجدن ما يشبعهن، فيلجأن إلى الشيخ شيخة وهن ضامنات صمته المطبق ولسانه الذي لن ينطلق.
Bilinmeyen sayfa
ومرة سرت قصة تقول إن الشيخ شيخة ليس ابن رجل كبقية الآدميين ولكنه ابن قرد، وإن إحدى نساء بلدنا اللاتي أعياهن البحث عن الخلف، لجأت إلى غجرية، فوصفت لها «صوفة» تستعملها. واستعملتها ولحظها السيئ كان فيها نطفة قرد، جعلتها تحمل وتلد الشيخ شيخة، وتفزع منه ساعة ولادته، فتعطيه للغجرية، وتعطيها نقودا ثمنا لسكوتها ولكفالتها له. وتأخذ الغجرية المولود وتلف به في بلاد الله، ثم تعود به وقد كبر، فتتركه عند حافة البلدة وتمضي.
وفي العام التالي تسري قصة أخرى ضاحكة لتؤكد العكس، ولتهمس أن الشيخ شيخة ما هو إلا ابن عبده البيطار الذي يقص شعر الحمير ويقلم حوافرها ويركب لها «الحدوات» الحديد. والذي يشاع - والعهدة على الرواة - أنه من عشاق إناثها، وبالذات حمارة الشيخ البليدي المأذون، وأن الشيخ البليدي هو الذي تخلص من المولود؛ مخافة أن تلصق التهمة به، أو على الأقل بابنه الذي كانوا يشيعون أنه مصاب بنفس الداء.
أقاويل وقصص وإشاعات هشة وخافتة ومتباعدة، ولكنها لا تنقطع. وكأنما يؤكد بها الناس إصرارهم على محاولة تفسير هذا اللغز الحي؛ فلا بد لوجوده بينهم من تفسير وسبب؛ إذ لا بد لكل شيء من سبب، حتى الشيء غير المعقول لا بد لوجوده من سبب معقول، ولكنها إشاعات وحكايات لا تفسر ولا توضح ... وبعضها يقال للترويح عن النفس لا غير.
وكان من الممكن أن يظل الشيخ شيخة يحيا في بلدنا يمثل شخصية الحاضر الغائب والراكب الماشي والكائن غير الكائن، لولا أنه ذات ليلة من عام مضى جاء ولد من أولاد العبايدة يجري من ناحية الجامع ويلهث. وما كاد يجد الجمع الذي يسهر عند زقاق الطاحونة، حتى انهار يجلس بينهم ويرتجف ويغمى عليه. - ما لك يا ولد جرى إيه؟
قال بتهتهة العبايدة وحشرجتهم: إنتم بالكم إيه!
قالوا: إيه؟
قال: دا أتبن الشيخ شيخة بيسمع وبيتكلم زي البربند. - إزاي يا ولد؟ مش معقول ... دا من رابع المستحيل ... عرفت إزاي؟
والولد يقسم برحمة أبيه إنه كان فائتا من ناحية الخرابة، فسمع اثنين يتكلمان بصوت منخفض ما لبث أن ارتفع، فاقترب وإذا به يجد الشيخ شيخة يكلم العرجة، كلام مضبوط مثل كلام الناس، ولم يصدق نفسه، فاقترب أكثر، ولكن نعسة كشت فيه، فجرى وجاء يلهث ويرتجف ويروي الحكاية. •••
وطبعا لم يصدقه واحد من الجالسين ولا حتى من الذين سرى لهم الخبر، كلهم أجمعوا على أن كلام الولد تخريف في تخريف، وأنه لا بد قد أرعبته الخرابة فتصور ما تصور. أو من الجائز جدا أن المتحدثين كانا من الجان ... فهو احتمال أقرب كثيرا من أن يكون الشيخ شيخة يتحدث أو يتكلم أو يعقل الكلام. وهل من المعقول أن يخدعوا فيه كل هذه السنين الطوال؟ ثم ما فائدة أن يخدعهم وماذا يستفيد؟ ولأي شيء يعذب نفسه ويقف بالساعات وينام كالحيوانات ويحيا كالديدان؟
ولكن رغم قوة الحجج واستنكار الناس لصحة أي حرف مما قاله الولد، فرغما عنهم وبدون قصد راحت نظرتهم إلى الشيخ شيخة كلما رأوه أو تسمر قريبا من أحد مجالسهم ... راحت نظرتهم تختلط بتساؤل شاك بمجرد احتمال، ولو كان احتمالا غير معقول: ماذا لو كان كلام الولد صحيحا، وكان الشيخ طول عمره يرى ويسمع ويعقل كل ما دار ويدور أمامه؟
Bilinmeyen sayfa
ما إن يطرق التساؤل الرءوس حتى تنتفض رافضة مستبشعة؛ فمصيبة كبرى بل فاجعة الفواجع لو صح القول ... هذه السنين التي قضاها يعامل معاملة الكائن المكاني الذي لا يرى ولا يسمع ولا يعقل، جعلته يرى من كل قاطن في القرية أحوالا وأسرارا لم تطلع عليها عين بشر. كل إنسان في البلدة يحيا كالسفينة، جزء منه فوق الماء ظاهر للعيان، وجزء تحت الماء لا يراه أحد. وحتى لو شاهد أقوياء الأبصار ما قرب منه إلى السطح، فمن المحال أن يروا الأجزاء الخافية العميقة التي لا يمكن أن تصلها يد أو عين أو أذن ... لا تصلها إلا إذا أخرجها صاحبها، فهو وحده العليم بها ... وإذا كان الإنسان كائنا له أسرار، ومن خواصه كإنسان أن يخفي في نفسه أجزاء ويحكم إخفاءها؛ فكذلك من خواصه الأزلية أنه يخفيها رغما عن نفسه وتحت مقاومته، ويضطر بين كل حين وحين للإذعان فيخرجها ويظهرها ويتفحصها، ربما بعد فوات سنين، ولكن لا بد أن يخرجها لنفسه مثلا إذا كتبها، أو لأقرب الناس إليه أو أحيانا أبعدهم منه ... ولكن لا بد أن يتوسم فيه القدرة على حفظ سره ... والشيخ شيخة كان يمثل هذا الدور في أحيان لبعض الناس. وفي أغلب الأحيان رأى ما لم يره أحد، وسمع ما لم يسمعه أحد بحكم أنه لم يكن أحدا. كان كالحيوان المستأنس ... كقطط البيوت مثلا وكلابها. وما أمنع ما رأت قطط البيوت وكلابها! وآه لو تكلمت قطط البيوت وكلابها! ربما لما استطاع أحد العيش؛ فهو لكي يعيش كفرد يضطر لإحاطة نفسه بجلباب وملابس تحفظ جسده وأسراره، ولكي يعيش كفرد في مجموعة يضطر لإحاطة بعض نفسه بأسوار ... ويسمي هذا البعض أسراره، ففيها كيانه وفيها مفاتيحه ونواياه الداخلية التي تفرقه عن الآخرين وتحفظ استقلاله ... والعائلة المكونة من أفراد تضطر لإحاطة نفسها ببيت ذي جدران بالغة السمك، فيكون لها هي الأخرى كيانها وذاتها واستقلالها ... والبلدة تضطر هي الأخرى لإحاطة نفسها بسور مفترض وحدود وجنسية، وكلمة «بلدي» و«بلدياتي» لتحفظ كيانها من الضياع والذوبان.
كارثة كبرى لو صح الخبر، أو حتى لو كانت هناك شبهة في صحته، فقد لا يعد هذا هدما لكل الجدران الداخلية التي تحيطهم وتقسمهم، ولكنه على الأقل فرجة صنعت في كل جدار، فرجة من الممكن أن ينتقل منها للغير كل ما يحويه الداخل، فيقوم حينئذ يوم الفوضى الذي هو أفظع وأبشع من يوم القيامة.
بدءوا يرمقون الشيخ شيخة إذن بنظرات مرعوبة حيرى، تطوف حوله وحمى الشك تعشيها، والشيخ شيخة على ما هو عليه ... رقبته مثنية وجلبابه الأزرق ممزق متسخ، إذا وقف ظل واقفا، وإذا جلس لا يتحرك، وعينه على ربع إغماضها لم تتغير، والأخرى على إغلاقها، وملامحه مثلما رأوها دائما صلبة متجمدة لا تنفك، وواضح جدا أنها ما انفكت طول عمرها. حتى والشك يدفعهم للدوار حوله واستيقافه ومخاطبته، وتوجيه الأسئلة إليه لا تصدر عنه حركة، ولا بارقة انفعال لمحها أحد تطفو على سطح هذه الكتلة المدكوكة من اللحم والعظم والشحم.
وكان أن بدأت الزوابع التي هاجت للخبر تهدأ وتئوب إلى رضا واقتناع، والرعب الذي اكتسح كلا منهم حين أدرك أنه من الممكن جدا أن تكون فرجة صغيرة قد صنعت في حائطه، وامتدت منها عين واعية، وعرفت كل ما بداخله. هذا الرعب بدأ يتحول إلى اطمئنان وما صاحبه من شك يتجمد على هيئة يقين. •••
وكاد يصبح لما حدث نفس المصير الذي كانت تلقاه الشائعات لولا حادث آخر وقع. وهذه المرة لم يردده خائف أو ولد، ولكن رجالا كبارا شهدوه بأعينهم، وسمعوه بآذانهم، وكانوا يقسمون على ما يقولون ... ففي ظليلة السعدني التي تحتل بطن الجسر، ويصنع للوافدين عليها القهوة والشاي ويرص المعسل. كان الحديث يدور يوم السوق عن الحادثة التي رواها ابن العبايدة، وكان الشيخ شيخة واقفا في الشمس فوق الجسر لا يتزحزح من مكانه، وعرق كثير يكسوه، حين جاءت بالطبع سيرة نعسة العرجة، وانبرى أكثر من واحد يغمزها ويلمزها، ويروي الهواجس على أنها وقائع وأخبار، حتى دفعت المزايدة الدائرة أحدهم لأن يقسم أنها راودته ذات يوم عن نفسه. وهنا فوجئ الجميع بصرخة، أو على الأصح شيء كالصرخة، فلم تكن صرخة تلك التي سمعوها، ولا استغاثة، ولا عويلا، وإنما انفجار كالهدير أو كالجمل حين يضرب بالقلة، ثم آهة. ثم الأهم من هذا كله كلمة سمعها البعض «أعوذ بالله»، وبعض آخر «منك لله». وأقسم هؤلاء وهؤلاء، ولكن الشيء المؤكد أنهم جميعا سمعوا كلاما بشريا يتصاعد قربهم، وحين تلفتوا، رأوا الشيخ شيخة يترك مكانه تحت الشمس ويتحرك بأسرع مما اعتاد، ولا يلبث أن يختفي في حقل الأذرة القريب ولا يظهر.
ورغم كل ما دار، وكل ما أجمع عليه الحاضرون واتفقوا، فبعد يوم أو يومين كانت تلح على بعضهم كفرادى، وتضيق الخناق وتستحلفه، فيقول: الحقيقة ما اقدرش أحلف ... الله أعلم ... إنما إن ما كانش هو حيكون مين؟ الجسر؟
وياما أقسمت أيمان، ورميت طلاقات، وهاجت البلدة بالجدل! وقسم كبير يؤكد أنهم خدعوا في الشيخ شيخة أكبر خديعة، وأنه ظل سنين يمثل عليهم دور الأصم الأبكم؛ ليعرف أحوالهم وأسرارهم ويسرق مخبآتهم، وقسم كبير آخر أهون عنده أن يصدق أن الجسر قد نطق وتكلم من أن يصدق أن الشيخ شيخة هو الذي فعل ... ولكن هذا الجدل والخلاف كان يجري على أسطح الألسنة فقط، ففي أعماق الكل كان خوف حاد قد بدأ يتراكم. وكلما راجع أحدهم نفسه ليتذكر ما قاله في حضرة الشيخ شيخة وما فعله، ووجد أن ما قاله كثير وما فعله أكثر، انقلب خوفه إلى هوس ورعب، وازداد قلبا للبلدة رأسا على عقب، باحثا عنه محاولا أن يراه؛ إذ ربما تعيد رؤيته، مجرد رؤيته الطمأنينة إلى نفسه، ويصبح كل ما قيل ويقال كذبا في كذب وكابوسا رهيبا مزعجا غمر البلدة ومن فيها.
غير أن الشيخ شيخة رغم كثرة الباحثين عنه لم يعثر له أحد على أثر؛ مما كان له أسوأ الوقع ... إذ تراه أين ذهب؟ وإلى من يحكي الآن ويعدد؟
ولكن اختفاءه على أية حال لم يطل، فبعد أيام قليلة وجدوه عائدا من البندر. وأغرب شيء أن نعسة كانت تسحبه من يده! وما كاد الخبر ينتشر حتى كانت البلدة كلها بكبارها وصغارها، وبالأخص نساؤها اللاتي كن يبدون هالعات يرتجفن من الغضب والذعر، ويكون بقعة كبيرة سوداء في الدائرة الآدمية المحكمة التي ضربت حول نعسة والشيخ شيخة. ومضت أعينها تمتد إليهما وتتفحصهما بحدة وشراهة ... ولم يكن شيء قد تغير في الشيخ شيخة ... شواله الأزرق على حاله، وشعره على قصره. كل ما في الأمر أن رقبته المثنية كانت قد بدأت تعتدل. والأمر المحير كانت هذه الضحكات التي تصدر عنه كلما سأله أحدهم سؤالا، أو وجه إليه كلمة. ضحكة غريبة تبدو كما لو كان يتكلمها ولا يضحكها.
أما نعسة فقد ظلت ساكتة لفترة، ثم وكأنها ضاقت فجأة، انفجرت تسألهم عن سر تجمعهم وتشتمهم، وتلعن آباءهم جميعا من أكبر كبير لأصغر صغير، يا غجر يا لمامة عايزين إيه؟ ابني ولا مش ابني ما لكم وما لنا؟ ... أخرس ولا بيتكلم عايزين منه إيه؟ كان عيان وداويته يا ناس إيه الجناية في كده؟ وحتى لو ما كانش عيان، لو كان سليم وسمع وشاف ... يعني حيكون شاف إيه وسمع إيه؟ ما الحال من بعضه ... واللي بيقول في حق الناس كلام بطال بيتقال عليه كلام بطال ... واللي بيخبي العيب عن جاره حيلاقي جاره بيخبي عنه نفس العيب ... حيكون شاف إيه وسمع إيه؟ ... اوع كده أنت وهو لحسن وحياة مقصوصي ده اللي حاطوله منكم، حاطبق زمارة رقبته، ماني سيباها إلا بطلوع الروح. •••
Bilinmeyen sayfa
استمع الناس لكلام نعسة مذهولين حيارى، لا يعرفون بماذا يردون ... يرون حماستها التي انبثقت فجأة، وأسقطت عنها كل خجل وحجاب، واستعدت معها لأن تعترف مثلا أن الشيخ شيخة ابنها، وتذكر لو لزم الأمر اسم أبيه، وتصك آذانهم الحمم الخارجة من فمها، ولا يملكون إزاء ما تقول تصرفا أو حلا.
وكان لا بد أن ينفض الجمع، ويجيء الغد وبعد الغد ... ويبدأ الشيخ شيخة يخرج وحده ويجوب البلدة، ويقف موقفته المشهورة لدى جماعاتها الجالسة أو المنتحية ركنا. ولكن الحديث كان يكف نوعا ما لمقدمه. وإذا استؤنف وبدأ متحدث ما يتكلم، وتطلع أثناء كلامه ناحية الشيخ شيخة، وفاجأه الشيخ بالضحكة الجديدة التي عاد بها، ولدت الضحكة في عقل الرجل كل الظنون وتلعثم وأجبر مرغما على السكوت ... إذن من يدري؟ ربما يضحك الشيخ شيخة منه؛ لكيلة القمح التي لطشها أمامه من الجرن يوم التخزين، بينما هو جالس الآن يتحدث عن السرقة واللصوص. وربما يضحك؛ لعلمه بسر نقطة الدم التي لا تزال عالقة بذيل جلبابه، وقد كان يومها واقفا في نفس المكان. وربما هو يضحك منه؛ لأنه بالأمس فقط كان في مجلس آخر وكان الشيخ شيخة هناك، وكان يتحدث بكلام غير الكلام.
حين جاء الغد وبعد الغد ... بدأ الناس يدركون أكثر وأكثر أن المحظور قد وقع، وأن ضحكة الشيخ شيخة هي الكوة التي فتحت في كل جدار، وأن محتويات مخازنهم الخفية السرية في خطر، وأنهم أمام الشيخ شيخة عرايا من كل ما يسترهم ويحفظ لهم الشخصية والكرامة والكيان ... وأنهم أبدا لا يستطيعون أن يحيوا في بلدة واحدة معه، مع إنسان يعرف عنهم كل شيء ... ويواجههم بضحكته الغريبة البشعة أنى يكونون! •••
وكان لا بد أن يصحو الناس مذعورين ذات صباح على صراخ مدو، صادر عن قلب يعوي ويتمزق، ويقول: يا بني يا حبيبي.
وتسرع الأرجل هالعة إلى مصدر الصوت، فيجدونه ينبعث من الخرابة، ويجدون نعسة صاحبته، ويفاجئون بها تقذفهم بوابل من الطوب والأحجار، وتبكي بحرقة وتلعنهم، وتقول إنه كان طول عمره أصم أبكم، وإن الويل لهم منها. بينما الشيخ شيخة ممدد أمامها غارقا في دمه، ورأسه محطم بحجر.
«أ» الأحرار
وقعت هذه الحادثة في مكتب إحدى الشركات الكائنة في شارع سليمان، واحدة من الشركات ذات الأبواب الزجاجية المصنفرة والمكاتب الصاج الإيديال، والسعاة الذين يرتدون بدلا رمادية، ويضعون على جوانب صدورهم لافتات نحاسية دقيقة الحجم.
في الصباح، وفي الساعة الثامنة تماما، الموظفون جميعا على مكاتبهم، والسعاة على الأبواب، والسكون مستتب مطبق رغم حفيف الأوراق، وتكتكة الآلات الكاتبة والحاسبة. بعد قليل كانت دوامة العمل قد بدأت تدور، والأبواب الموصدة كثر فتحها وإغلاقها، وبدأ الموظفون يتجرءون على الصمت وينطقون. والجو بدأ يحفل بدخان السجائر ورائحتها، غير أن هذا كله كان يدور أيضا خارج حدود لا يتعداها.
وفجأة، وفي حوالي التاسعة، بدأت تصل إلى الآذان ضجة غير عادية صادرة من حجرة السيد عبد اللطيف سالم، رئيس قسم السكرتارية. وأن تسمع ضجة في حجرة السيد عبد اللطيف أمر عادي جدا، ولكن غير العادي أن تحدث هذه الضجة قبل الحادية عشرة صباحا ... فالريس عبد اللطيف كان مريضا بنوع غريب من الربو، وكانت أنفاسه - وبالتالي خلقه - لا تبدأ تضيق قبل الحادية عشرة بأي حال من الأحوال. لهذا كان لا بد أن في الأمر سرا، وليس خلف أبواب الشركة أسرار؛ فالسر الذي وراء الباب يعرفه الساعي الواقف أمام الباب. ومن ساع إلى ساع ينتقل السر حتى يصبح بعد ثوان قليلة خبرا. ولهذا سرعان ما عرف الجميع أن الريس عبد اللطيف يزعق لأحمد رشوان، وعلى هذا أصبح العجب مضاعفا ... زعيق الريس قبل الحادية عشرة، والزعيق لأحمد رشوان الذي لم يسبق لأحد، وخاصة الريس عبد اللطيف، أن زعق له أو احتك به؛ فقد كان أحمد هذا شابا مؤدبا جدا، بل ممكن أن يعد أكثر موظفي العالم أدبا ... وأدبه مقرون بمراعاة تامة للأصول، وما يصح وما لا يصح. وكلمات مثل «من فضل سيادتك»، و«تسمح لي» و«لا مؤاخذة»، و«أشكرك شكرا جزيلا» (باللغة العربية الفصحى)؛ كلمات مثل تلك يستعملها أحمد آلاف المرات في اليوم الواحد. ثم إنه لم يكن جميلا ولا وسيما لتكون لديه مركبات الوسيمين الجميلين، مثل افتعال الحركات للفت نظر السيدات والآنسات من موظفات الشركة، أو المحافظة الزائدة على هندامه والعناية به. كان كما يقال «دوغري وجد»، ولكنك لأمر ما لا تستطيع، كلما رأيته جادا وقورا، أن تمنع نفسك من أن تسخر من جده ووقاره! ربما لأن له أنفا طويلا بارزا مقوسا، ومدببا من أسفل وكأنه رأس خطاف. ربما لملابسه التي يحرص على اختيارها كلاسيكية جدا، فيفصل الجاكتة طويلة وحشمة، والبنطلونات يجعلها واسعة وقورة. وليس معنى هذا أن أحمد جاد طوال الوقت، فهو أحيانا يهزر معك ويضحك، ويستمع إلى النكات الخارجة التي يلقيها زملاؤه. وقد يقرص الواحد منهم في جنبه، ولكنه يفعل هذا خلسة، وكأنما يفعله من وراء نفسه الجادة الوقورة. ثم إنه شهم إذا كان معه نقود سلفك، واطمئن؛ فإنه لن يقترض منك أبدا، فهو في مسائل النقود حريص على أن يحيا في حدود دخله، لا يتعداه بأي حال من الأحوال. وفوق هذا فهو لا يدخن، ولا تعرف إن كان يرتاد السينمات أو لا يرتادها، ولكنه على أي حال فخور جدا بكونه خريج كلية التجارة جامعة القاهرة. صحيح هو يعمل «تايبست» في الشركة، ولكن هذا لا يمنعه من الوعي الدائم بأنه أحسن من زملائه كتاب الآلات الكاتبة الذين لا تتعدى مؤهلات الواحد منهم حدود التجارة المتوسطة أو التوجيهية.
والشغل عند أحمد شغل، والرئيس رئيس، والزميل زميل. أما الزميلات فليس له بهن علاقة؛ إذ هو ضد أن تعمل المرأة إلا مدرسة أو ممرضة. ولا يزال إلى الآن يعتز برأيه هذا، وبأنه أبداه من عشر سنوات، حين كان لا يزال طالبا لمندوب إحدى المجلات الجامعية، حين جاءه يسأل عن رأيه في التعليم المشترك ... يومها ظل قرابة الساعتين يمليه رأيه باللغة الفصحى، وهو يتابع ما يكتبه الطالب المحرر، ويصحح له أخطاءه الإملائية والهجائية والنحوية، ويؤكد له أن المرأة مملكتها البيت، إذا خرجت منه فلا بد أن تضل الطريق. لهذا لا بد أن أحمد قد وجد نفسه في محنة حين عين بالشركة، وعينت معه زميلات له يؤدين نفس عمله. اكتفى حينذاك بأن أزاحهم من خاطره تماما، وكأنهن غير موجودات.
Bilinmeyen sayfa
وبالتأكيد كانت هذه هي المرة الأولى التي يزعق له فيها الريس عبد اللطيف؛ فلا بد أن سبب الزعيق مثير للغاية. ولهذا سرعان ما اكتشف بعض الموظفين أن هناك أوراقا مستعجلة يجب إمضاؤها من الريس في الحال. وما أسرع ما كان باب الريس يفتح للداخل والخارج، الداخل يكاد يكون حب الاستطلاع يقفز من عينيه، والخارج يضع يده في فمه يكاد يموت من الضحك؛ ذلك لأن سبب الزعيق كان أغرب سبب ممكن أن يخطر على البال، بل كان لا يمكن أبدا أن يخطر على البال.
الداخل كان يجد أحمد واقفا مزررا جاكتته، أنفه معقوف صارم جدا، ورأسه منخفض في أدب وابتسامة لا معنى لها لا تبرح وجهه، والريس عبد اللطيف خلف مكتبه الكبير ذي السطح الزجاجي يداه تدفعان المكتب، وكأنما تريدان قلبه على أحمد رشوان، وزعيق كثير يخرج من فمه ووجهه وعينيه، وحتى من صلعته الخفيفة ... يوزع قليلا منه إلى اليسار، وقليلا آخر إلى اليمين، والأغلبية العظمى يصبها على أحمد: قلنا ميت مرة الصورة لازم تنكتب زي الأصل تمام بالحرف الواحد بلا زيادة أو نقصان، قلنا ميت مرة كده.
قالها الريس فعلا أكثر من مائة مرة، وفي كل مرة يسكت منتظرا إجابة أحمد، حتى إذا ما هم أحمد بأن يجيب، قاطعه الريس ومضى يلقنه المحاضرة التي يجيدها تماما عن العمل في الشركة وأصوله وقواعده.
وأنهى الريس محاضرته قائلا: اتفضل. خد الجواب، واكتبه بالضبط زي الأصل يا حضرة ... اتفضل يلا.
وخرجت كلمة من فم أحمد؛ ربما تكون قد خرجت قبل هذا، ولكنها كانت المرة الأولى التي يسمعها فيها الريس.
قال أحمد رشوان: اسمح لي ... لأ ... مش حاكتبه إلا كده.
وتحجرت عينا الريس، وقال: أسمح لك إيه؟!
فقال أحمد: اسمح لي سيادتك مش حاكتبه.
فقال الريس بصوت منخفض كصوت الزناد حين يجذب استعدادا لإطلاق النار: ليه بقى يا حضرة؟
والواقع أن أحمد تململ للسؤال ... فهو بالتأكيد كان قد جهز نفسه له، ولكنه وجد حرجا كثيرا، وكأنه متأكد تماما مما ينطقه وهو يقول: لأني إنسان يا أستاذ عبد اللطيف. أنا مش آلة كاتبة. - إيه؟ أنت إنسان مش آلة كاتبة؟! يعني إيه ده يا حضرة؟!
Bilinmeyen sayfa
قالها الريس وملامحه تتسع فجأة كما ضاقت فجأة، وهو يمسك شفته السفلى بأصبعين، ويجذبهما إلى أمام ويحدق في أحمد.
وأول ما خيل للريس أن الجدع قد جن، ولم يكن هذا في رأيه شيئا مستغربا، فقد كان لا يطمئن أبدا إلى أدب أحمد هذا الزائد عن الحد، ومحافظته المبالغ فيها على الأصول، والجنون يمكن أن يكون نهاية طبيعية لإنسان كهذا.
وكأنما قرأ أحمد أفكار رئيسه؛ فقد ابتسم ابتسامة اعتذار كبيرة، وكأن الذي سيقوله عيب ما بعده عيب وقال: ما تبصليش سيادتك على أني مجنون. أنا مش مجنون ... أنا إنسان، ولازم يكون فيه فرق بيني وبين الآلة الكاتبة ... أنا ... أنا.
وإلى هنا انتهت حصيلة أحمد من الكلمات؛ فقد كانت مهمته شاقة ومزدوجة. كان عليه أن يصوغ ما يدور في فكره إلى كلمات، ثم كان عليه أن يعيد صياغة هذه، فيجعلها مؤدبة أصولية، تصلح لكي يخاطب بها رئيسه. وإذا كانت المهمة الثانية سهلة؛ فالمهمة الأولى أكثر صعوبة؛ إذ كيف يصوغ أحمد رشوان ما عن له بالأمس من أفكار، وكيف يشرح للريس عبد اللطيف العصبي الضيق الخلق كل ما حدث بالضبط، خاصة إذا كان لم يحدث شيء يذكر. كل ما حدث أن نوبة أرق حادة انتابته في الليلة الماضية ... كان راقدا في فراشه غير المريح ، وكاد ينام لولا أن أطار النوم من عينيه برغوث خبيث، صمم أحمد على أن يعثر عليه حيا، وصمم البرغوث على أن يحاوره ولا يجعله يظفر به. كلما كاد يطبق عليه، أصبح وكأنه فص ملح وذاب. وأخيرا غطس البرغوث ولم يظهر، ولكنه ترك أحمد يعاني من ذلك الإحساس المقلق، الإحساس بنهشات خفية وزحف أقدام دقيقة غير مرئية، ذلك الإحساس الذي يدفع الإنسان إلى التأرجح بين الشك واليقين في وجود تلك الكائنات. وفجأة، وبدون سابق إنذار، خطر لأحمد رشوان ذلك الخاطر الذي كاد يجعله يقفز من الفراش؛ فقد اكتشف أنه ليس كاتبا على الآلة الكاتبة كما يظن نفسه ويظنه الناس، ولكنه هو نفسه آلة كاتبة ... كيف جاء الخاطر في ذهنه؟ لا أحد يدري. وكيف استطاع ذهن أحمد رشوان الأصولجي أن يجمع تلك المفارقة أو المتشابهة التي بدت غريبة كل الغرابة؟ لا أحد يدري أيضا ... المهم أن الفكرة استحوذت عليه تماما، حتى أنسته النوم والفراش وزحف الكائنات غير المرئية. ودون أن يستطيع أن يكبح جماح خياله وجد نفسه يوغل في التفكير ويوغل ... ما الفرق بينه وبين الآلة الكاتبة؟ هو صحيح خريج جامعة ومحترم، ولكنه في عمله لا فرق بينه وبين الآلة الكاتبة التي يكتب عليها ... هو له أصابع وهي أيضا لها أصابع. وهو يقرأ الأصل، وتستحيل الكلمات خلاله إلى ضغطات، والمكنة تستحيل الضغطات خلالها إلى كلمات. وإذا كان هو يأمر المكنة بأصابعه أن تكتب، فالشركة تأمره بأصبع واحدة منها أن يكتب. وإذا كانت المكنة لا تستطيع أن تغير ما يأمرها به إذا ضغط على حرف الميم، فلا بد أن تكتب ميما؛ فهو أيضا لا يستطيع أن يغير إذا قالوا له اكتب كذا، فلا بد أن يكتب كذا. أجل، ما الفرق بينه وبين الآلة الكاتبة؟ الواقع لا شيء، بل الحقيقة لا شيء مطلقا.
وأول الأمر ضحك أحمد كثيرا، ضحك بلا وعي، ولم يكف عن الضحك إلا بعد أن فطن لنفسه، فوجد أنه يضحك ضحكا غريبا ماسخا في الشقة المظلمة الخاوية؛ «فأحمد رشوان كان قد تعدى الثلاثين ومع هذا كان لا يزال أعزب» ... وآلاف الخواطر كهذه تعن لآلاف الناس آلاف المرات في اليوم الواحد، ولكنها لا تعلق بأذهانهم كثيرا. إنها كآلاف الأشياء التي تبرق في أرض الشارع المشمس، يعبر بها الناس ولا يحفل ببريقها أي منهم، ولكن بريق أحدها قد يجذب أنظار عابر سبيل ليتوقف عنده مثلا ويحدق فيه، بل ممكن أن ينحني ويتناوله ويتفحصه. وفي أغلب الأحيان يعود ليلقي به وهو يضحك من نفسه ومن البريق الزائف الذي شغله.
وكان ممكنا أن يحدث هذا لأحمد رشوان، فيلقي بالخاطر من وراء ظهره، ويعود إلى متابعة أفكاره أو محاولة النوم، ولكن ربما لفراشه غير المريح، وربما لأنه كان في حاجة ماسة إلى ما يشغله عن إحساسه بالكائنات غير المرئية التي تقاسمه فراشه؛ ربما لهذا تلكأ عن الخاطر قليلا ... وويل لأي منا إذا تلكأ عند خاطر؛ فقد يغير التلكؤ مجرى حياته. ربما تتلكأ عند كلمة قالتها فتاة، وأعجبتك طريقة نطقها لها، فإذا بك بعد شهور زوج لهذه الفتاة. والتلكؤ عند واجهة مكتبة قد يوقع في يدك كتابا يغير شخصيتك تماما. ونيوتن المشهور لم يفعل أكثر من أنه تلكأ ذات يوم أمام تفاحة سقطت من تلقاء نفسها على الشجرة.
أحمد رشوان هو الآخر تلكأ عند الخاطر، ومضى يقلبه على وجوهه. أحيانا يحسب الأمر هزلا في هزل؛ إذ أمن المعقول تنعدم الفروق تماما بينه وبين الآلة الكاتبة؟ ولكنه حين يحاول أن يجد فارقا أساسيا، ولا يستطيع أن يدخل الأمر في طور الجد، ويبدأ يخاف أن يكون التشابه حقيقة. بل بلغ به الوضع حد أنه كان أحيانا يحدق في أصابع يديه، ويلعبها معا في الظلام، ثم يوقفها جميعا، ويلعب كلا منها على حدة. وأحيانا يشيح بيده، وكأنما يقول: غير معقول هذا ... غير معقول.
بل عنت له خواطر مضحكة للغاية: لم لا يكون الأمر عكس ما يتصور، وتكون الماكينة الكونتيننتال التي يكتب عليها أفضل منه؟ فهي على الأقل ضامنة بقاءها في الشركة مدى الحياة، وهو غير ضامن بقاءه ولو ليوم واحد . وحتى المنضدة التي تستقر عليها منضدة أنيقة صنعت خصيصا من أجلها، وكلفت الشركة ما لا يقل عن العشرة جنيهات، بينما مقره هو عبارة عن كرسي ملقلق الساق، اشترته الشركة في مزاد، ووقف عليها ببضعة قروش.
وعشرات الأفكار المضحكة للغاية.
وكأنما كان طوال المدة التي قضاها يفكر ويسرح، كان يدخر لنفسه خط رجعة مؤكدا. وكان ضامنا مائة في المائة أنه يملك الدليل القاطع على أن ثمة فرقا كبيرا بينه وبين الآلة الكاتبة. فقط كان يحتفظ بالدليل؛ ليفاجئ به أفكاره في الوقت المناسب ... وأخيرا لم يجد بدا، وأخرج الدليل وقال لنفسه: الفرق بيننا أنها آلة جامدة صماء بكماء، لا تستطيع التصرف وحدها أبدا، أما أنا فأنا ملك ... أنا إنسان أستطيع أن أفكر وأتصرف بمطلق إرادتي.
Bilinmeyen sayfa
قال هذا لنفسه وهو يسحب الغطاء فوقه، وكأنما يكيل الضربة القاضية وينهي المعركة التي دارت وطالت في خياله.
ولكنه ما كاد يسحب الغطاء حتى دق شيء ... ومن كثرة تفكيره في المكنة خيل إليه أنها بالتأكيد هي التي تدق، بل ذراع واحدة فقط من عشرات أذرعها هي التي تدق باستمرار، وكأنما علقت وتكتب: لا لا لا لا.
وبسرعة ثمانين كلمة في الدقيقة - وهي السرعة التي طالما حلم أحمد أن يكتب بها - مضت أذرع الآلة ترتفع وتنخفض وتتداخل في الظلام، وتكتب وترد عليه في تكتكة منتظمة: أنت واهم ... من قال إنك تملك حق التصرف؟ أنت مثلي تماما، وحريتك في التصرف كحريتي والدليل موجود. الخطاب المشهود الذي كنت تكتبه لشركة الأسمنت، ووجدت أن كلمة «شؤون» مكتوبة خطأ والهمزة موضوعة فوق الواو، وذهبت إلى الريس عبد اللطيف فرحا تريه الخطأ، وظننت أنه سيكافئك لفطنتك ونباهتك. أتذكر نظراته التي التهمك بها وهو يقول: اسمع يا حضرة، أنت هنا مش على كيفك يا حضرة. اللي مكتوب قدامك، انقله زي ما هو يا حضرة. غلط مش غلط ملكش دعوة يا حضرة. إيه حتعدل ع الشركة. الشركة عايزة الهمزة على الواو تبقى الواو يا حضرة. عايزاها طايرة في الهوا تبقى طايرة في الهوا. فاهم يا حضرة؟ اتفضل على شغلك واعرف مركزك كويس. إنت هنا كاتب يعني تكتب، يعني تفعل ما تؤمر به. إنت عارف المكنة؟ إنت زي المكنة ... فاهم يا حضرة؟
الريس عبد اللطيف ذو الصدر المقفع إذن هو الذي أوحى إليه بالخاطر، وظل الخاطر كالقنبلة الزمنية في عقله، حتى فجره الأرق اللعين في تلك الليلة الليلاء.
في نفس الوقت، الذي اكتشف فيه أحمد رشوان السبب، كانت أشياء كثيرة أخرى قد حدثت داخل عقله، وحدثت كلها معا وبسرعة مذهلة. فأولا كان قد آمن إيمانا لا شك فيه أنه في نظر الشركة مكنة لا أكثر ولا أقل، وأن الريس عبد اللطيف على حق، والمكنة على حق، وهو وحده المخطئ الواهم الذي كان يظن نفسه شيئا آخر غير هذا، شيئا اسمه الإنسان. وفي لحظة خاطفة تصور أحمد نفسه بأنفه الذي يعتد به كثيرا، بالكتب التي كان يقرؤها أثناء دراسته، ويتيه على زملائه بقراءتها وإدراك حقائق عن الكون والحياة لا يدركونها، بكفاحه الرهيب من أجل الشهادة، بالشهادة، بحياته وكل أحلامه، بكل هذا مجرد مكنة، آلة، حتى أقل من الآلة التي يكتب عليها!
للحظة خاطفة تصور أحمد هذا، ولكنها كانت كافية لأن تملأه بالغضب. وغضب أحمد رشوان لأمثال هذه الأشياء ... غضب يعرفه عنه كل أصدقائه وزملائه. إذن كانت المسألة مسألة مبدأ وحق. ركبه الغضب، وأبى أن يتزحزح عن موقفه قيد أنملة. حدث مرة في أثناء امتحان المحاسبة أن وقف أستاذ المادة في وسط خيمة الامتحان، ولبخ في حق الطلبة، واتهمهم بأنهم سفلة وأوغاد (إذ كان الطلبة قد أحدثوا ضجة بعد توزيع الأسئلة لصعوبتها). فما كان من رشوان إلا أن ترك الإجابة، وانتصب واقفا يحتج على الأستاذ. وغضب الأستاذ وأصر على طرد رشوان من اللجنة، وتقديمه لمجلس تأديب. ولكنه تحت إلحاح المدرسين زملائه، اكتفى بأن قال إنه على استعداد للصفح عنه لو اعتذر عن تصرفه علنا أمام الطلبة. ورفض رشوان رفضا باتا أن يعتذر، وفضل أن يغادر اللجنة ويرسب في المحاسبة على أن يهين كرامته.
كان لا يمكن أن يمر خاطر كهذا على أحمد رشوان مرور الكرام إذن، فالأصول أنه إنسان، وخلافا لكل الأصول أن يكون مجرد مكنة. وعليه أن يثبت لنفسه وللناس أنه إنسان، وأن ثمة فرقا كبيرا بينه وبين المكنة، عليه أن يثبت هذا أو يهلك دونه. •••
وفي صباح اليوم التالي، كان أحمد رشوان يأخذ طريقه إلى مقر الشركة في شارع سليمان، وكأنه في طريقه إلى ساحة معركة أو لجنة امتحان. كان قد سهر كثيرا، وكان عصبيا وعلى وجهه تصميم خطير. لم يكن لديه أية فكرة عما يمكن أن يفعله، ولكنه كان مصمما على أن يثبت لنفسه على الأقل أنه إنسان، إنسان حقيقي، وليس مجرد آلة كاتبة.
دخل المبنى وألقى تحيات الصباح وتلقى التحيات، وبوجه غير صبوح صبح على الريس عبد اللطيف، وتناول منه «الشغل» بلا ذيول شكر طويلة كما تعود أن يفعل.
وذهب إلى الحجرة التي يعمل فيها هو وزملاؤه. كان أكثرهم قد سبقوه، وبين حفيف التحيات ونكات الصباح الخفيفة الطائرة جلس. وبينما كان يرفع الغطاء عن المكنة، لم يستطع أن يمنع نفسه من إلقاء نظرة متشككة عليها، ومط شفتيه حتى التصقت شفته العليا بأرنبة أنفه المدببة، وذلك أنه وجدها فعلا كتلة من حديد ... حديد في حديد يلمع ... وحديد مطفأ، وبرودة وسكون ولا حياة. مكنة صماء بكماء، ذلك أمر لا شك فيه.
Bilinmeyen sayfa
وقبل أن يبدأ في كتابة الخطاب الأول قرأ الأصل بإمعان ... وحين قارب على الانتهاء تهلل وجهه وابتسم، ذلك لأنه عثر على الشيء الذي كان يريد العثور عليه، فقرب نهاية الخطاب وجد في الأصل تعبيرا يقول: «وحينئذ نكون أحرارا في التصرف بمقتضى ما تخوله لنا كافة حقوقنا كشركة مساهمة.»
عند كلمة «أحرار» توقف أحمد رشوان. وهو نفسه لا يدري لماذا اختارها بالذات، وجعلها ضالته المنشودة، وصمم على أن يحذف منها الألف، ويكتبها «أحرار» فقط. ربما لأنه وجد موسيقاها هكذا تنسجم أكثر مع بقية الجملة؛ وربما لأسباب أخرى لا يعلمها إلا الله.
مضى يكتب الخطاب بحماس، وهو يحس بنشوة لأنه يكتب شيئا أراده هو، ويملك التصرف فيه . يكتب وهو يرمق في شماتة أذرع المكنة وحروفها، وهي ترتفع وتنخفض في طاعة بكماء عمياء، وهو الذي حين جاءت كلمة «الأحرار» راح يكتبها على مهل، وكأنه يتلذذ بطعم كتابتها، ورمق الألف في الأصل، ثم ازور عنها شامخا بأنفه، وتابع الكتابة وكأنه يعزف على مفاتيح بيانو أو ثقوب ناي.
وكان أسرع خطاب كتبه بعد أن التحق بالشركة، بل وقبل أن يبدأ في غيره، ذهب به إلى مكتب الريس ومعه الأصل والصورة، وفي صدره حماس مستبشر دافق.
والذي حدث أن الريس عبد اللطيف ما كاد يلقي نظرة سريعة على الخطاب، حتى أدركت عينه الخبيرة على الفور أن الأحرار مكتوبة بلا ألف، فنظر إلى أحمد رشوان طويلا، وكأنه يريد تجميده وقال: هي في الأصل «أحرارا» ولا «أحرار» يا حضرة؟ - أحرارا. - يعني بألف؟ - أيوة بألف. - يعني شفتها؟ - شفتها يا ريس. - طيب أمال يا حضرة ما كتبتهاش ليه؟ ... روح يا حضرة اكتبها، وهات الجواب تاني.
فقال أحمد رشوان بكل ثبات واطمئنان: مش حاكتبها يا سيد.
والواقع أنه قال هذا، وكادت تنتابه نوبة خوف. فالدهشة الشديدة المذهلة التي ارتسمت على وجه الريس عبد اللطيف كانت شيئا يخيف؛ إذ كيف يعصي مرءوس رئيسه هكذا في وضح النهار وعيني عينك، وفي مسألة لا تحتمل النقاش؟!
دهش الريس عبد اللطيف وذهل، ولم ينطق في الحال! وخلال ذلك الصمت كان أحمد رشوان في حالة «أخد ورد» مع نفسه، ذلك أنه في قرارة نفسه لم يكن شديد الإيمان بما هو مقدم عليه. إن هي إلا نوبة حماس عنت له إثر خاطر حاد في الليل، وكان لا بد لها أن تثمر عملا ما. وقام أحمد بهذا العمل، وكان على استعداد للتراجع، بل لم يكن يعتقد أن المسألة ممكن أن تأخذ كثيرا من الشد والجذب.
وأخيرا تكلم الريس، وقال: بتقول إيه يا حضرة؟
وفي أدب جم عاد أحمد يقول: أنا رأيي يا أستاذ عبد اللطيف أنها تنكتب من غير ألف تكون أحسن. - رأيك؟!
Bilinmeyen sayfa
خرجت الكلمة كالرصاصة من فم الرجل، أعقبها بسرب دافق من القذائف. - رأيك ده تلفه في ورقة، وتبلعه على ريق النوم. رأيك ده تقوله لصاحبك وانتو ع القهوة. رأيك هناك عند بابا وماما، إنما هنا مفيش رأيك. هنا شركة ليها أوامر وقوانين. هنا تمشي تروح تكتب الألف ورجلك فوق رقبتك، ولولا عارف إنك طيب كنت بهدلتك صحيح ... اتفضل يا حضرة.
وانتاب أحمد غضب، وقال: أنا أحتج يا سيد عبد اللطيف على الإهانات دي. - إنت مش تحتج، وديني لاخصم لك يوم كمان ... اتفضل روح اكتبها.
وهكذا وجد أحمد نفسه في قلب المعركة ... معركة للدفاع عن كرامته كإنسان ... لم يكن يعتقد أن الأمر ممكن أن يتطور إلى هذا الحد، وطبعا كان واثقا أن مسألة الخصم هذه تهديد ليس إلا، والمشكلة ممكن أن تحل بإضافة ألف إلى الأحرار واعتذار لبق، وينتهي كل شيء. ولكن كان أسهل عليه أن يقطعوا رقبته قبل أن يفعل شيئا كهذا؛ فأهم شيء في نظره كان هو الثبات، فالمسألة لم تعد «أحرارا» بألف أو بغير ألف. المسألة كرامته وشرفه، فلم يكن يعتقد أنه سيهان على تلك الصورة، ويعامل كما لو كان آلة كاتبة لا تحس ولا تغضب.
كل هذا وصوت الريس يعلو أكثر وأكثر، وعناد أحمد يزداد ... الريس يقسم أنه لن يتركه إلا إذا كتبها ورجله فوق رقبته، وأحمد يقسم أنه لن يكتبها ولو خرج له أبوه من التربة وأمره بكتابتها. والصراع قد وصل قمته، والمسألة التي بدأها أحمد وهو غير مؤمن تماما بها. كانت قد تبلورت إلى درجة أنه لو قبل إضافة ألف للأحرار؛ فمعنى هذا أنه تنازل طائعا مختارا عن كرامته ورجولته وشرفه، وإذا كان الناس في الصعيد وفي كل مكان يقتلون دفاعا عن كرامتهم ورجولتهم؛ أفلا يستطيع هو الصمود مهما كانت النتائج؟
وطبعا لم يقف الزملاء مكتوفي الأيدي ... حاولوا تهدئة الريس بلا فائدة، وحاولوا حمل أحمد على الإذعان بلا فائدة، بل كان يقابل هدهداتهم ورجواتهم باشمئزاز؛ إذ هم في نظره أكلة عيش منافقون مداهنون لا يقدرون قيمة هذه الأشياء والمواقف، يلتقطون الخبز من بين أقدام الرؤساء بعد أن يلعقوا تلك الأقدام. فليمت قتيلا، ولكنه أبدا لن يكتب ألفا للأحرار.
والعجيب أن قليلا من زملائه الموظفين والكتبة هم الذين كانوا يضحكون بينهم وبين أنفسهم على المشكلة القائمة. أما الغالبية العظمي فقد أخذت الأمر على أنه مشكلة من واجبهم حلها برجاء هذا وممالأة ذاك، أو حتى باقتراح حل وسط؛ إذ اقترح أحدهم أن يقوم هو بكتابة ألف الأحرار حسما للنزاع، وقوبل اقتراحه برفض هائل من الريس وباستنكار حاسم من أحمد رشوان.
وسرعان ما ضاق صدر الريس عبد اللطيف، فهدر في جميع من بمكتبه يأمرهم بالخروج مقسما بالله العظيم ثلاثا أن سيكون جزاؤه على تلك الفعلة هو الرفت العاجل ... اليوم بلا أي تأخير. قال هذا وهو يعتصر قبضتيه، ويصر على أسنانه، ويجهز نفسه لكتابة مذكرة مستعجلة جدا لمدير عام الشركة، يطلب فيها فصل أحمد رشوان فورا؛ إذ الجريمة في نظره أخطر جريمة ... عصيان واغتصاب، وإذا لم تعالج الأمور بحزم؛ وبتر فممكن أن تسري عدواها إلى بقية الموظفين.
أما أحمد فقد أخذه الزملاء إلى حجرتهم، وأحضروا له فنجان قهوة رفض أن يشربه، وظلوا يتحايلون عليه يحذرونه من العقاب، ويقسمون له أن المشكلة الآن حلها بسيط، وأن الريس عبد اللطيف عصبي صحيح، ولكنه ابن حلال، فأقل اعتذار يرضيه.
ولكن أحمد ظل يهز لهم رأسه باستمرار، بل كان حريصا على أن تظل الابتسامة طوال الوقت فوق ملامحه؛ حتى لا يعتقد زملاؤه أنه مهزوز، مع أنه كان مهزوزا ... كان قد صمم تصميما نهائيا خطيرا على عدم التراجع؛ فقد كان يدرك أنه لو تراجع فلن يحترم نفسه بعدها. هو الذي يعتبر أن ميزته الوحيدة أنه يحترم نفسه ... بل سر حرصه على الأدب الجم في معاملة الناس أنه يريدهم أن يعاملوه بأدب، فإذا فقد احترامه لنفسه؛ فأي قيمة تبقى له كإنسان؟
وسرى الخبر طبعا في أنحاء المكتب ... وتلقفته الأفواه ضاحكة وساخرة ومعقبة، حتى أصبح الخبر نكتة تروى، وصار الموظفون الكائنون في الأجنحة البعيدة يتسابقون إلى حجرة أحمد رشوان؛ ليتفرجوا على زميلهم العجيب الغريب الذي رفض أن يكتب ألف الأحرار، معتقدين أنه لا بد قد أصيب بلوثة. يحدقون في ملامحه ويشاهدون كيف يتكلم وبأي ردود يجيب ليعرفوا مدى إصابته ... وكانوا يعودون إلى مكاتبهم، وقد انقسموا على أنفسهم، بعضهم يؤكد أنه مجنون، وبعضهم يؤكد أنه لا بد تعبان شوية، وآخرون يصرون على أن المسألة كلها لا تعدو أنه ابتلع ليلة الأمس قطعة حشيش، لا يزال مفعولها ساريا في جسده، ويؤكدون قائلين: دا من شكله باين عليه حشاش. •••
Bilinmeyen sayfa
وعن طريق الريس عبد اللطيف وصل الأمر إلى المدير العام. والظاهر أنه لم يكن لديه ما يشغله، أو أنه وجد المشكلة غريبة ومضحكة في الوقت نفسه، وأراد أن يتفرج على الموظف الأعجوبة هذا الذي رفض أن يكتب ألف الأحرار. الظاهر هذا لأنه بناء على المذكرة التي قدمها السيد عبد اللطيف كان باستطاعته أن يمضي قرار الفصل في الحال، أو يخفض العقاب إلى خصم وإنذار مثلا.
وأن يطلب المدير العام موظفا صغيرا معناه في العادة كارثة سوف تحل بالموظف، أقلها أن يوقف أو يفصل أو يتهم في تبديد. وهكذا مضى أحمد يتلقى كلمات التعزية والتشجيع، وهو يخطو إلى مكتب المدير العام بخطوات راعى أن تكون منتظمة ومتماسكة ووقورة.
وكانت أول مرة يدخل فيها أحمد مكتب المدير العام، وخيل إليه حين أصبح في الداخل أنه لم ير في حياته مكانا فيه كل تلك الفخامة والأناقة والروعة، حتى النتيجة المعلقة على الحائط مطلية بماء الذهب. وكل شيء في الحجرة مدير عام؛ المقاعد والستائر والهواء المكيف اللذيذ الذي يكاد يصيب الداخل بقشعريرة جنسية، والسكون التام المطبق الذي تحس فيه بدقات ساعة يدك عالية قبيحة بلدية.
وما كاد أحمد يستجمع شعاعات نفسه الطائرة، ويلتقط أنفاسه، ويبدأ يبحث عن المدير العام في تلك الصالة الفخمة الواسعة، حتى فوجئ بصوت نحيف يقول له: قرب يا شاطر.
وتقدم أحمد بضع خطوات أخرى حتى بدأ يتبين ذلك الرجل النحيف جدا القابع وراء المكتب، لا يظهر منه غير رأس دقيق كرأس الفأر. وبينما أحمد حائر ماذا يفعل أو يقول، جاءه الصوت مرة أخرى: إيه الحكاية؟ فيه إيه؟ مش عايز تكتب ألف الأحرار ليه يا شاطر؟
ووجد أحمد نفسه باندفاع ولا إرادة: عشان أنا إنسان يا سيادة المدير.
وضحك المدير وقهقه ... ضحك كثيرا جدا، وظل كرسيه يدور به وهو يضحك ويعلو، حتى كاد يصبح فوق المكتب. وعرق أحمد وتلجلج وأحس أنه قال كلمة سخيفة لا معنى لها؛ إذ ما أدرى المدير العام بكل ما دار في عقله من خواطر؟ وبدأ يبتلع ريقه وأفكاره بسرعة؛ ليبلل حلقه الجاف وعقله ويستطيع أن يتكلم، وتكلم ... وشرح للمدير كل ما عن له من خواطر. وكلما رأى الرجل يستمع كان يحس أنه رجل طيب جدا، على عكس ما يتصوره الناس عن مديري العموم.
وحين انتهى فوجئ بالمدير العام يقهقه ويدور في كرسيه، والكرسي يهبط به حتى كاد يصبح تحت المكتب ... واعتمد المدير رأسه على كفيه وقال: أمال انت فاكر ايه ياسمك إيه؟ دا مش انت بس اللي مكنة ... انت مكنة وعبد اللطيف رئيسك مكنة، وأنا مكنة، وكلنا مكن. مش أنا المدير العام أهه؟ رئيسي عضو مجلس الإدارة المنتدب افرض قال لي اشتري ألف سهم من أسهم الشركة، أقدر أشتري 999؟ لازم أشتري ألف، وإذا عملت كده أترفد ولا لأ؟ طبعا أترفد. يبقى أنا في الحالة دي إيه؟ انطق. أبقى إيه؟
وقال أحمد بصوت لم يصل أبدا إلى أذن المدير: تبقى سيادتك مكنة.
فقال المدير وهو يستدير في كرسيه، ويولي أحمد رشوان ظهره، والمشكلة بالنسبة إليه قد انتهت: روح أحسن اعتذر لرئيسك. وأنا حاكتفي بخصم يوم واحد من مرتبك. اتفضل! كلنا مكن يا مغفل ... كلنا مكن.
Bilinmeyen sayfa
وانتظر المدير قليلا ليترك لأحمد فرصة الانسحاب، وبعد لحظة استدار مرة أخرى، وإذا به يفاجأ بأحمد رشوان لا يزال واقفا، بل فوجئ أكثر حين وجد أنه قد انتظر اللحظة التي يواجهه فيها ليقول: بس أنا إنسان يا سيادة المدير ... أنا إنسان. - إنسان في عينك قليل الأدب ما تختشيش. ده جزا اللي يعاملكم بشفقة؟ غور من وشي يلا غور. - يا سيادة المدير أنا بكالوريوس تجارة، أنا مش ... - غور من وشي.
وقبل أن يفتح أحمد فاه مرة أخرى كان الباب قد فتح، ودخل الساعي وجذبه من يده برفق وأخرجه وأغلق الباب.
ولكنه ما كاد يصبح في الطرقة حتى كان جرس المدير يدق، وحتى كان قد استدعي مرة أخرى للمثول في مكتبه.
ودخل أحمد بوجه شاحب كوجوه المنومين مغناطيسيا، وكأنما هو مدفوع للمضي في الطريق الذي صمم عليه بقوى خفية أكبر منه. والمدير العام أيضا كان متجهما صارما، وكأنما قد نبتت له فجأة أنياب أظافر.
وخير أحمد بين الموافقة على كتابة الألف فورا وخصم ثلاثة أيام من مرتبه، أو فصله نهائيا من الشركة.
وما كاد أحمد يفتح فاه ويقول: أنا ... حتى كانت يد المدير على الزر، وحتى كان السيد عبد اللطيف داخل الحجرة، وكأنما انشقت عنه الأرض. وكلمة واحدة قالها المدير لعبد اللطيف: ارفدوه.
ثم لم يلبث أن أردف: دلوقت حالا. •••
ورفدوه.
سلمه عبد اللطيف الأمر الإداري بفصله، وطالبه بتسليم العهدة، ونصحه مدير المستخدمين بأن يرفع قضية على الشركة؛ لعل وعسى ...
والتف الزملاء حول أحمد حين عاد إلى الحجرة ليسلم ماكينته الكونتننتال، وهي كل عهدته. كان في وجوههم أسى كثير ورثاء، ولكنه كان في قرارة نفسه يرثي لهم هم. كان يحس أنه وحده الإنسان، وأنهم هم من فراشهم إلى مديرهم العام مجرد ماكينات كاتبة وحاسبة وكانسة ومفتشة.
Bilinmeyen sayfa
وبينما كان أحمد يعبث بأحرف المكنة ليتأكد من سلامتها، دق صدفة على حرف الألف، ولكنه فوجئ بأن ذراعها لا ترتفع، ودق مرة أخرى ولم ترتفع الذراع.
واعتقد زملاؤه أنه لا بد قد جن حقيقة حين انطلق إلى حجرة الريس عبد اللطيف، وهو يصرخ بطريقة مختلفة تماما عن طريقته المؤدبة وبانفجار: الحق يا ريس ... اتفضل آهي الماكنة رافضة تكتب الألف. هيه! ارفدوها بقى هيه رخرة يا ريس ... ارفدوها.
فقال الريس عبد اللطيف وهو يكح: المكن يا بني لما بيرفض الكتابة ما بيترفدش، بيصلح ... ابقوا ودوها الورشة وصلحوها. •••
وغادر أحمد مبنى الشركة وأصبح في الشارع، ولكنه بعد قليل لم يعد يعرف في أي الشوارع يمشي؛ فقد ظل يسير كالمفيق من حادث، كالحالم؛ كالمصدوم، يسير بلا وعي وبلا هدف أو وجهة. وأخيرا وجد نفسه مرة أخرى في شارع سليمان قريبا من لافتة الشركة ومبناها. ولم يستطع أن يمنع خاطرا صبيانيا خطر له، وجعله يقرأ اللافتة، وكأنه يراها ويتأملها لأول مرة. وفقط حين كاد ينتهي من قراءتها، أدرك أنه قد رفد اليوم، وأنه فقد عمله، وأن عليه أن يستعد لأيام وربما سنوات عجاف، وأن سبب رفده أغرب سبب؛ إصراره على أنه إنسان.
ومرة أخرى نظر حوله ... الشارع يموج بالناس والعربات والدراجات، والناس تسابق العربات، والدراجات تسابق الناس وهو ماش، لا يسابق دراجة ولا تسبقه عربة، بلا هدف ولا وجهة. وفجأة أحس بشيء حار يندلع في حلقه، شيء جعله يقف في وسط الشارع، ولا يشعر بنفسه إلا وهو يصرخ ويقول: أنا إنسان.
والتفتت رءوس المارة مندهشة ناحيته، وأطلت من العربات وجوه، وألقيت عليه نظرات كثيرة مستغربة. وقال واحد: الناس باين عليها اجننت!
وضحك طفل، وزأر كلاكس يأمر أحمد بإخلاء الطريق.
ولم يستغرق هذا كله إلا لحظة خاطفة، ثم لم تلبث الحركة أن عادت في الشارع إلى سابق عهدها، وكأن شيئا لم يحدث.
أحمد المجلس البلدي
أنى تذهب كنت تجد أحمد العقلة ... نجارا تلقاه، حلاقا تلقاه، تاجرا في مخلفات الجيش تلقاه. ثم هو بعد هذا يجيد شغل الآلاتية، وكي الناس للشفاء من الأمراض، وجس البهائم العشر، والقيام بأعمال الأبونيه وتعهدات فرق المزيكا والرقص، وإصلاح الكلوبات والبوابير في الأفراح، وحتى في «تلتيم الموتى» تلقاه.
Bilinmeyen sayfa
ومع هذا كله فقد كان بساق واحدة.
أو على وجه الدقة بساقين؛ ساق خلقها الله، وساق صنعها بنفسه على هيئة عكاز عظيم الشأن، تفنن في مسحه وتنعيمه وتزويقه، وحفر الحمام والعصافير والنساء الممسكات بسيوف عليه.
وإذا كانت ساقه التي خلقها الله وسواها تمشي في أمان الله وبصوت غير مسموع، فساقه التي خلقها هو لها دبيب معروف، وفي أي مكان من البلد يمكن أن تسمعه ... على الترعة، وعند المحطة، وفي القهوة، وفوق أسطح البيوت، وأحيانا في كل الأماكن مجتمعة. ساق يستطيع أن يعدي بها المصارف، ويقفز بها من فوق أكياس القطن، وينزل بها في «الباط» لشباب البلد ويغلبهم، ويدخل معهم في مسابقات جري على السكة الزراعية ... والغريب أنه يفوز.
وأحمد العقلة لا تستطيع أن تحدد له سنا أو هيئة أو حرفة حتى ولا قامة ... إذا أردته قصيرا وجدته، طويلا وجدته، أحيانا تبدو لك عينه اليسرى عوراء عن بعد وسليمة عن قرب، وتبدو اليمنى أحيانا كذلك، وله كتف أعلى من كتف، ووجه لا يريك إياه. وإنما إذا حادثته ظل كالحمار الذي تحاوره ذبابة يخفضه ويعليه، وينظر إلى جانب أو آخر، كأنما يلهيك عن رؤية وجهه؛ ربما لعلمه أنه لا يخضع خضوعا حرفيا لمقاييس الجمال المتعارف عليها.
إذا ضحك لا يضحك، وإذا حزن لا يحزن، وإذا تكلم تهته. وهو كثير الأسفار كثير الغياب، كثير المشاريع والتقاليع، يبدأ عملا من الأعمال أو حرفة من الحرف وينجح فيها، حتى إذا ما بلغ قمة النجاح تركها فجأة وبلا مقدمات إلى غيرها. قيل مرة إنه لو حافظ على ما كسبه؛ لأصبح من ذوي الأطيان، ويطير هو دائما وراء القائل مهددا إياه بعكازه، لاعنا أباه وأبا الأطيان.
تجده يوما في البلد ويوما في القاهرة ويوما في العريش، ويوما جالسا على قهوة بلدي في السلوم يروي لعربي بعقال حادثا غريبا وقع له في عنيبة على الحدود بين مصر والسودان، ومقسما بالله العظيم وبرحمة أبيه أنه حدث.
وإذا سافر سافر بالإكسبريس؛ فهو لا يطيق بطء القشاش، وإذا ركبه، ركبه في الدرجة الأولى العليا أي فوق سطح القطار، وإذا أراد أن يهبط لا يهبط كبقية خلق الله في المحطات، بل يهبط بين محطتين، والإكسبريس مارق بأقصى سرعة.
وكل شيء فيه يتحرك، ودائم التحرك ... يده تتحرك لتقص شعر واحد بطريقة مدهشة للغاية، أو تمتد إلى كيس خفي، وتخرج منه ولاعة غريبة الشكل صنعها بنفسه لتفرجك عليها، أو تقبض على يد أخرى، وتضغط عليها وتكاد تكسرها للهزل ليس إلا.
ولسانه دائم التحرك، يعدل حكاية رواها أحدهم ويكذبه فيها، أو يلقي إليك بخبر يذهلك، أو يخرجه لبنت حلوة يتصادف مرورها أمام الدكان.
وإذا حلق أحيانا لا يطلب من بعض زبائنه أجرا، وأحيانا يطير وراء الزبون من هؤلاء مطالبا بأجره، مهددا بضربة عظمى من عكازه ... وممكن أن تدخل دكانه فتجد نفسك وكأنك في متحف، فالدكان عشة من البوص أقامها بنفسه وطلاها بنفسه وبيضها بنفسه، ونقش أسفلها وأعلاها بنفسه أيضا. واللمبة الغاز من صنع يده، بل هو أيضا صانع البرنيطة التي تحجب ضوءها عن السقف ... وهو الذي دندشها بالرسوم والنقوش والآيات القرآنية ... ولا بد أن يفتح لك صندوقا من داخل الصناديق، ويخرج لك ماكينة حلاقة جديدة تلمع، ويقسم بالأيمان المغلظة أنه أرسل في طلبها من ألمانيا، وأنها جاءت باسمه رأسا. ولا تدهش إذا عثرت في ركن من أركان الدكان على تلسكوب، أو ميكروسكوب «يستعمل عدساته لإشعال السجاير من ضوء الشمس»، أو مدفع مترليوز من مخلفات الجيش.
Bilinmeyen sayfa