Tarikh Masuniyya
الحقائق الأصلية في تاريخ الماسونية العملية
Genres
«إدريس بك راغب»، وقبل الكلام عن ترجمته نتكلم عن والده. هو المرحوم «إسماعيل باشا راغب»، وكان قد هاجر مع والده من موره إلى مصر في حروب اليونان مع الدولة، وترك في بلده «بتراس» أموالا وافرة وأملاكا واسعة؛ لأنه كان من ذوي البيوتات فيها وأهل الشأن بين أهلها، ولما وصل إلى مصر تحت أعباء الهجرة والغربة رآه رجل من أهل الفراسة ومعه ابنه «إسماعيل راغب» صبيا تلوح عليه مخايل النجابة، فأشار عليه أن يدخله في المدرسة الأميرية بأبي زعبل ففعل، فما لبث أن فاق أقرانه ودخل في معية «محمد علي باشا» كاتبا، فقربه «محمد علي» لما رآه فيه من الذكاء والأمانة، وقد دخل عليه يوما ليختم منه أوراقا، فدخل على عقبه المرحوم «سامي باشا» رئيس الديوان الخديوي في ذلك الوقت، ووقف فسأله «محمد علي» عما عنده فمجمج في كلامه كأنه ينتظر خروج ذلك الكاتب ليعرض ما لديه، فقال له «محمد علي»:
أويكتم عن هذا سر؟ اعرض ما عندك، فهذا كابني.
نقل هذه الحكاية المرحوم «راغب باشا» في وصف حكمة «محمد علي» في تربية حاشيته، ومما يذكر له من الشجاعة وقوة القلب أنه كان كاتبا لمجلس رئيسه «إبراهيم باشا» ذاك الأسد الأغلب، فتقدمت في المجلس دعوى أقر المجلس فيها على قتل رجل، فعارض المرحوم «راغب باشا» فيها معارضة أغضبت المرحوم «إبراهيم باشا»، فقال له: أوافقك على نظر الدعوى مرة ثانية، فإن كانت معارضتك على غير حق قتلتك مع الرجل، فقال: يا أفندينا إن الأعضاء رأوا رأيك فهم لا يتحولون عنه، وإنما أرجو من أفندينا أن ينظرها وحده وله الحكم بعد ذلك. ولما قرأ «إبراهيم باشا» أوراق الدعوى ظهر له صحة ما قال «راغب باشا»، فاعترف بخطأ ما رآه المجلس، وصواب ما رآه «راغب باشا»، وهذا مقام لا تتقدم فيه قدم في ذلك الزمان، والموت بين الشفة والسيف. ولما تولى «عباس باشا» الأول غضب على المورلية جميعا فانزوى «راغب باشا» في أبعاديته مدة حكومة المشار إليه. وقد قصده مرارا بالسوء وأحاطه بالجواسيس، ولكن الله سلمه. وفي ولاية المرحوم «سعيد باشا» كان هو القائم بإدارة الأمور فصار ناظرا على الجهادية والخارجية، وناظرا على الخزينة التي هي المالية، وكان لا يعيش له أولاد، ولما رزق بإدريس بك نصح الأطباء لوالده أن يخففوا من الإفراط في التحرز والوقاية التي كانت سببا لمرض الماضين، وكان المرحوم «سعيد باشا» يبعث بالتلغراف إلى مصر وهو في الإسكندرية يسأل كل يوم عن صحة المولود ويبشر بنفسه وزيره بصحة ولده.
ولما تولى «إسماعيل باشا» الخديوي الأسبق قلده وظيفة باشمعاون، وكانت تلك الوظيفة بمكان رئاسة الوزارة، فكان بيده الحل والعقد في جميع الأمور، وقد زاره الخديوي مرارا في بيته ولم يسبق هذا لغيره. ومن مآثره أنه لما كان ناظرا على المالية أحسن عليه الخديوي «إسماعيل» بثلاثين ألف جنيه فاعتذر عن أخذها لحالة المالية، ويقول الخبيرون إنه لو كان «إسماعيل باشا» تبع نصائحه لم يحصل ما حصل من ارتكاب الديون وغيرها.
وقد أصيب بالشلل في شقه؛ وسبب ذلك أن رجلا فرنسويا من أقارب «موسيو دلونكل» الشهير جاء إلى مصر وعرض عليه قرضا، فأخذ يخابره في شروط القرض و«إسماعيل» باشا يحذره أن لا يعتمد على كلام الرجل وهو يعارضه في ذلك، وفي آخر الأمر لما تبين المرحوم «راغب باشا» صدق فراسة «إسماعيل باشا» الخديوي في الرجل المذكور وغلطه في الاعتماد عليه لم يقدر أن يتحمل ذلك على مهارته فأصيب بالشلل فتداركه الأطباء، وقد بقي في جسمه أثر المرض ظاهرا إلى أن توفي، ولم يمنعه هذا من مباشرة الوظائف المهمة في الحكومة.
وقد صار رئيس الوزارة في مدة «عرابي» في عهد الخديوي «توفيق» أيضا، وكان له عناية عظيمة في تربية ابنه ووحيده «إدريس بك» فكان يدخله في أشغال الحكومة وهو في العاشرة من عمره ويشاوره مشاورة امتحان وتدريب في كثير من المعضلات، وما زال معه على ذلك حتى توفي، وقد صرف جميع ما في طاقته في تعليمه وتهذيبه وتثقيفه، وكان له بمنزلة المعلم في أوقات فراغه من الدرس، وإنك لتجد ذلك ظاهرا في أخلاق «إدريس بك»، فإنه جمع من محاسن الأخلاق ومكارم الشيم ما يدلك على أنه تخرج على فيلسوف حكيم، وقد جاء له بأفاضل المعلمين والأساتذة فهو يعرف اللغة الفرنسوية والإنكليزية والتركية والعربية والعلوم الرياضية، وله فيها تآليف ومقالات شتى كما سنذكره فيما يلي.
ومع أنه تربى في مهد النعيم، ونشأ في الحلية، فهو قوي الحجة، مبين البرهان، متخوشن في نفسه وسط تلك النعم. ومع أنه مالك لهذه الثروة الواسعة فهو محتقر للغنى، لا يمكن لمن ينتقد أحواله وأطواره أن يجد في طياته شائبة افتخار بما لديه من وافر المال، ومع أنه واسع المعارف، طويل الباع في العلوم الرياضية ، فلا يجد خليطه أدنى دعوى للعلم . أما الأخلاق ومحاسنها فهو من الأفراد المعدودين في التاريخ في باب الحلم، ولا يغلط واصفه إن قال إنه لم ير غضبانا أو قائلا هجرا، أو شاتما خادما، وله في الحزم في أشغاله والكرم في عطاياه آيات للسائلين.
ولد «إدريس بك» يوم الأربعاء في 21 أغسطس سنة 1862م فتربى في مهد العز كما تقدم، ورأى أساتذته منه تلميذا نجيبا يميل طبعا إلى العلوم، ولا تكاد تخفى عليه من دروسه خفية؛ فارتفعت منزلته عندهم ولم تطل المدة حتى ظهرت ثمار اجتهاده يانعة، فأحرز ثقة أساتذته به، ونال درجة عالية في العلوم الرياضية، وكان على صغر سنه سمير الكتب، وجليس التآليف، ولم يخل منزله يوما من العلماء الأعلام الذين كانوا يفدون عليه.
وكان يراسل جريدة المقتطف في أثناء طبعها في مدينة بيروت، وله بها الرسائل الرياضية والمقالات العلمية التي تدل على طول باعه وتضلعه من العلوم، وقد اختاره المجمع العلمي الشرقي عضو شرف فيه.
وفي شهر ذي القعدة سنة 1297ه الموافق شهر أكتوبر سنة 1879م اقترن بذات العصمة والعفاف السيدة «نظله» كريمة خاله المرحوم «عبد الله باشا عزت الأرنئوطي».
Unknown page